مفهوم السياسة في الإسلام
السياسة مشتقة من ساس الأمر أي دبَّره وحكم فيه ، بعد أن يكون المرء قد خبره ووعاه وتعني بالنسبة للأمة ، رعاية شؤونها في مختلف الميادين وعلى جميع المستويات ، فإن كانت ذات علاقة بالمال فهي سياسة المال أو الاقتصاد ، وإن كانت مرتبطة بعلاقة الدولة بغيرها من الدول فهي السياسة الخارجية ، وإن كانت مرتبطة بتدبير شؤون الناس في الداخل فهي السياسة الداخلية وإن تناولت مناهج التعليم وشؤونه فهي سياسة التعليم وهكذا …وكل ذلك خاضع للدين مستمدٌ من العقيدة قائم على حكم الشرع ورحم الله إبن تيمية الذي وضع كتاباً ربط فيه بحثاً وعنواناً بين السياسة والشريعة " سماه السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية " . بخلاف مفهومها الملوث والشائن عند الغرب فهي ألاعيب اتخذوها حرفةً بلا تقوى ، وارتقوها سلّماً بلا خلق ، وجعلوها وسيلة وصولٍ إلى منفعة أو بلوغ غرضٍ دنيوي هزيل ، وإن أدى ذلك إلى الكذب والدجل والنفاق.
من المسلمين من يحسنون النصح ويحترفون الكتابة أو الخطابة لكنهم يحصرون نشاطهم الديني في التركيز على الوعد والوعيد ، وبعض العبادات وفضائل الأخلاق والتحدث عن الدار الآخرة وما دروا أن الاقتصار على ذلك يعني تغليب جرءٍ من الرسالة على الجزء الآخر ، الأمر الذي يتنافى مع طبيعة الرسالة التي تقترن فيها العقائد بالعبادات وسياسة المال والحكم ، ويشتبك فيها الكلام عن حقوق الله بالإرشاد إلى حقوق عباد الله جميعا ، والكلام عن الدار الآخرة بالكلام عن الدنيا ، فكان لا يمكن بحال من الأحوال شطر هذا الدين بالعمل ببعض تعاليمه وإهمال الآخر فكما أن الإنسان يتكون من لحم ودمٍ وعظم وعروق ، ولا يمكن أن تكون له حياة بأي واحد من هذه المكونات على حده ، فكذلك الإسلام كلُّ بالعقيدة والقانون والخلق والاقتصاد والنصح والمعاملة لا يقبل التجزئة .
من الناس إذا ما طلبت منه أن ينكر على ولاة الأمر مخالفتهم لكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم بقول : هذه سياسة لا نتدخل فيها ، ينشدون الراحة في ظل الحكم مهما ظلم وبغي ، في الوقت الذي نسمع فيه عن أناس ما زالت بقاياهم في ظلمات السجون ، ومن أفرج عنهم مطاردين في رزقهم ومن شق طريقه في الحياة ، فإن قوانين الحكم الصارمة تقف عائقاً أمام مسيرته الدعوية .
إن حامل الدعوة لا يداهن ولا يداجي من بيدهم الأمر ولا يجاملهم ، وعلية أن يوضِّح المواقف المخالفة للإسلام ، وأن يُبَيِّن زيفها وعلاج الإسلام لها باعتبارها أحكاماً شرعية ، وأن لا يخاف من الجهر بكلمة الحق .
وقف بلال الحبشي يوماً موقفاً عنيفاً يخالف فيه رأياً لأمير المؤمنين عمر حول مصير أرض سواد العراق المفتوحة … بلال يرى أن تُقَسَّم الأرض على الجيش الفاتح صاحب الحق في اقتسام الغنائم وعمر لا يرى ذلك خشية انصراف المجاهدين إلى زراعة الأرض والتمتع بخيراتها والتخلي عن حمل الدعوة إلى الناس ، ثم يتوارثها الأبناء بعد الآباء فلا يبقى للجيش ولا للخزينة موردٍ من مال … فلم يوقع عمر الأذى ببلال … وعمر معه القوة والنفوذ والسلطان ، ولكنه ظل يقول في أعقاب كلِّ صلاة : اللهم اكفني بلالاً إلى أن اهتدى إلى قوله تعالى: ﴿ كي لا يكون دولَةَ بين الأغنياء منكم ﴾ 7 الحشر . فدعَّم بها رأيه وقوَّى بها حجَّته .. وانتصر على بلال بالآية لا بالنفوذ .
إن المسلمين لم يتخلَّفوا عن ركب العالم لتمسكهم بدينهم ، وإنما بدا تخلفهم يوم تسرب الخوف إلى قلوبهم فتركوا هذا التمسك وتساهلوا فيه وأساءوا تطبيق أحكامه .
ومن أستعرض التاريخ يجد أن رجال الفكر وتقاعُسِ العلماء عن أداء مهمتهم ، ساهم بنصب وافر في التفريط بالأندلس بعد تمانيه قرون من الحكم الإسلامي فأين كان الساسة ؟ وأين كان العلماء ؟ وأين كان المصلحون والمجاهدون ؟ بل أين كان الشعب المسلم كله ؟ لم رضوا بالتفرق والتطاحن ؟ .. ولم سكتوا على موالاة أهل الكفر؟ .. ولم لم يستنفروا الأمة للجهاد ؟
ثم نعود ونسأل نفس الأسئلة عندما نقرأ عن سقوط بغداد على أيدي التتار وإلى أي حدٍ ذلَّ المسلمون رغم وجود العلماء والمصلحين . وعند سقوط الدولة العثمانية أين كان دورهم عندما سقط اللواء وانتقلوا من مركز القيادة إلى مركز التبعية ، وأين هم يومئذٍ من مقاومة الإنجليز والألمان والهولنديين والإيطاليين وهم يستولون على أرض المسلمين ، أنا لا أنكر أن آلافاً ممن عاصروا تلك الأزمات كانوا منكرين في صمت وكارهين في سكوت ، ورغم ذلك فقد أخذت المأساة طريقها وأصاب الأمة ما أصابها ، واليوم تجتمع مآسي الأمة وتزداد وتتنوع .
فهل يا ترى نرضى بما رضي به الأولون ؟
هذا ما يريده أعداء الدين الذين يبذلون كل جهد لأن يحال بين الإسلام والحكم ، يساعدهم في تنفيذ ذلك أعوانهم في بلاد الإسلام الذين يعملون على ترسيخ مفهوم جديد في عقول المسلمين ، لإسلام لا يهتم بالسياسة ، ولا يعنى بشؤون المسلمين في أكثر من ميدان المسجد وأروقة المحاكم الشرعية ، ومن قال بغير ذلك كان موضع سخط الحاكم وغضب المتآمرين
إن العدو ماهر في إرسال مفاهيمه عندما لم يحمل الناس حملاً على هجر الإسلام ، لئلا يقوم بين الناس مزيد من التمسك بدينهم والحرص عليه ، وخشية أن تقع ردة فعل عنيفة تدعوهم لرفض فكرتهم فأرسلوا أفكارهم الهدامة وفي ركابها الذين أعدّوهم لتسلم القيادة من أبناء المسلمين ، ليبطشوا بحملة الإسلام والدعاة إلى الله ، الذين يصرّون على تطبيق الإسلام في واقع الحياة ، عقيدةً ونظاماً ومنهاج حياة ، حتى ينطلقوا من منطلق عقيدة لم تعرف البشرية أروع منها ، مؤمنين بأن نظام الحكم والعمل السياسي ، جزءاً من الإسلام ، معتمدين في ذلك على مصادر التشريع الإسلامي .
إن الدعوة إلى الابتعاد بالدين عن السياسة غباء ليس بعده غباء ، وإلا كيف يعقل أن يفهم الإسلام بلا سياسة والقرآن بلا حكم ، إلا إذا طمسنا من القرآن آيات ، وحذفنا من الإسلام تشاريع عرفها المسلمون ووعوها ، وطبقوها عبر قرون من الزمان ، كانوا فيها أعزةً بالإيمان والعلم والعمل ، وكان أعداؤهم أذلةً بالجهاد .
إن الحيلولة بين الإسلام والحكم والدعوة في ديار الإسلام هدف يلتقي عليه كل أعداء الإسلام ، على ما بينهم من تنافر ونزاع ، والذي يحزُّ في النفس أن يزعم من يحسبون أنفسهم على درجة من الفطنة والذكاء ، أنهم بهذا الفصل يسيرون في الطريق الذي رسمه الله وارتضاه ، تعسون بائسون أولئك ، لأن الفصل بين الإسلام والحكم معناه الفصل بين الدين والحياة ، فلا يستمد منه خلق أو مثل أو عادات أو قيم ، بمعنى فصل الدين عن الحياة في كل مرافقها وعندها هيهات أن يبقى معنى من معاني الفضيلة أو حقيقة من حقائق الخلق أو قيمة من قيم الإنسانية ، لأن القوانين التي تطبق والحكم الذي يسيطر ، لا يسأل الدين راية في عقيدة أو معاملات أو سلوك أو عادات ، وتلك خطيئة كبرى يخالف صاحبها أمر الله ويتنكر لتعاليم الرسالة المحمدية ، لأن الأمر بتحكيم كتاب الله ورد في أكثر من موقع في القرآن الكريم قال تعالى :﴿ فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم ﴾ المائدة 48 . كما حذَّر الله من الإصغاء لأصحاب الهوى في الآية التي بعدها فقال: ﴿ وأحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله اليك ﴾ المائدة 49 .
وقد ورد النهي عن ترك بعض ما أنزل الله فكيف بمن ترك الكل ؟ ثم إن المناداة ببعض الإسلام وترك البعض الآخر ، يضع المسلمين أمام تساؤل رهيب يدفع القلوب بالزيغ والهوان فقال تعالى : ﴿ أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردّون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون ﴾ البقرة 85 .
إن المتتبع لتفاصيل السيرة النبوية ووقائعها يرى أن رسول الله صلىالله عليه وسلم كان ينبع من معنى نبوته معانٍ لا سبيل إلى إنكارها ، جعلته إماماً في المحراب ،، وقاضياً يحكم بين الناس ، وقائداً عسكرياً يخوض المعارك ، وكان صلى الله عليه وسلم سياسياً يدير شؤون الأمة الداخلية والخارجية على أحسن وجه وأروع صورة .
لقد فهم المسلمون الأوائل الإسلام حق الفهم ، وأدركوا أن السياسة والقيادة جزء من الإسلام ، لأن الإسلام في نظرهم ليس مجرد ركعات أو أدعية ، إنما هو نظام شامل ، يعالج شؤون الحياة جميعاً ، يركِّز على التجمع على العقيدة واحترام العمل الصالح ، سواء كان ذا صبغةٍ دينية كالعبادات ، أو دنيويةٍ كطلب الرزق أو الدعوة إلى الخير كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أو الجهاد في سبيل الله ، أو تثبيت الفضائل الخلقية ، كالعدل والإحسان واحترام النظام ، وقد كان العلماء العاملين الجريئين في الحق المحبين للخير الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر ، المحاسبين للحكام الناصحين لهم ، والمتحملين كلَّ أذىً ومشقة في هذا السبيل ، لا يخشون إلا الله ولا يخافون لومة لائم ، روي أن أبا جعفر المنصور استدعى ابن طاووس أحد علماء عصره فلما دخل عليه قال له : حدثني عن أبيك فقال له طاووس حدَّثني أبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة رجلٌ أشركه الله في حكمه فأدخل عليه الجور في عدله ) . ثم قال له عظني يا ابن طاووس : قال نعم يا أمير المؤمنين إن الله تعالى يقول : ﴿ ألم تر كيف فعل ربك بعاد .. حتى انتهى الى قوله تعالى :: ﴿ إن ربك لبالمرصاد ﴾ . ثم قال له ناولني هذه الدواة ، فأمسك عنه ، فقال : ما يمنعك أن تناولنيها ؟ قال ابن طاووس : أخشى أن تكتب بها معصيةً لله فأكون شريكك فيها " .
بمثل هذه النصائح القيمة التي خرجت من قلوب مؤمنة متفقهة ، ونطقتها ألسنٌ عالمة جريئة صريحة لم تعرف النفاق والمداراة وسمعتها أذنٌ واعية عاهدت الله تعالى على رعاية الأمة على أساس شرع الله ، وإقامة حكم القرآن ، فكانوا نعم العلماء ونعم الحكام . كانوا يعرفون الرجال بالحق ، أما الذين يعرفون الحق بالرجال ويثقون في أي كلام لأنه صادر من فلان ، فهم أبعد الناس من فهم الإسلام ، بل هم آخر من يقدم للإسلام خيرا أو يحرز له نصرا ، لقد كانت أعمالهم ترجماناً لتعاليم الإسلام والسنة ، وهل الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف ، إلا نصيحةً وموعظةً حسنة ، وكانوا لا يكتمون حكماً شرعيا في قضيةٍ تتعلق بشؤون الأمة لأنه آمنوا بقول الله تعالى:﴿ وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه ﴾ آل عمران 187 .
حاجاتنا إلى السياسة الشرعية
السياسة الشرعية باب من أبواب العلم والفقه في الدين، وفي قيادة الأمة وتحقيق مصالحها الدينية الدنيوية، جليل القدر عظيم النفع، أفرده جماعة من العلماء بالتصنيف في القديم والحديث، وانتشرت كثير من مباحثه أو مسائلة في بطون كتب التفسير والفقه والتاريخ وشروح الحديث، وهذا الباب خطره عظيم ينتج عن الغلط فيه وعدم الفهم له شر مستطير، والخطأ في التفريط فيه كالخطأ في الإفراط؛ إذ كلاهما يقود إلى نتائج غير مقبولة، وقد وضح ذلك شيخ الإسلام ابن القيم فقال: وهذا موضع مزلة أقدام، ومضلة أفهام، وهو مقام ضنك، ومعترك صعب، فرط فيه طائفة فعطلوا الحدود، وضيعوا الحقوق، وجرءوا أهل الفجور على الفساد، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد محتاجة إلى غيرها، وسدوا على نفوسهم طرقًا صحيحة من طرق معرفة الحق والتنفيذ له وعطلوها .. وأفرطت فيه طائفة أخرى قابلت هذه الطائفة، فسوغت من ذلك ما ينافي حكم الله ورسوله، وكلتا الطائفتين أتيت من تقصيرها في معرفة ما بعث الله به رسوله وأنزل به كتابه
الاشتغال بالسياسة فرض على المسلمين
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن عرف فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع، قالوا: أفلا نقاتلهم يا رسول الله؟ قال: لا ما صلوا» وقال: «أفضل الجهاد كلمة حق تقال عند ذي سلطان جائر، أو أمير جائر» وقال: «سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله» وعن عبادة بن الصامت قال: «دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه، فكان فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، قال: إلاّ أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان» . وقال تعالى: ﴿ألم . غلبت الروم . في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون . في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون﴾ .
فهذه الأحاديث والآية الكريمة دليل على أن الاشتغال بالسياسة فرض. وذلك أن السياسية في اللغة هي (رعاية الشؤون) . والاهتمام بالمسلمين إنما هو الاهتمام بشؤونهم، والاهتمام بشؤونهم يعني رعايتها، ومعرفة ما يسوس به الحاكم الناس. والإنكار على الحاكم هو اشتغال بالسياسة، واهتمام بأمر المسلمين، وأمر الإمام الجائز ونهيه هو اهتمام بأمر المسلمين ورعاية شؤونهم، ومنازعة وليّ الأمر إنما هو اهتمام بأمر المسلمين ورعاية شؤونهم.
فالأحاديث كلها تدل على الطلب الجازم، أي على أن الله طلب من المسلمين طلباً جازماً بأن يهتموا بالمسلمين، أي أن يشتغلوا بالسياسة. ومن هنا كان الاشتغال بالسياسة فرضاً على المسلمين.
والاشتغال بالسياسة، أي الاهتمام بأمر المسلمين إنما هو دفع الأذى عنهم من الحاكم، ودفع الأذى عنهم من العدو. لذلك لم تقتصر الأحاديث على دفع الأذى عنهم من الحاكم، بل شملت الاثنين. والحديث المروي عن جرير بن عبد الله أنه قال: «أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: أبايعك على الإسلام، فشرط عليّ النصح لكل مسلم» جاء فيه لفظ النصح عاماً فيدخل فيه النصح له بدفع أذى الحاكم عنه، والنصح له بدفع أذى العدو عنه.
وهذا يعني الاشتغال بالسياسة الداخلية في معرفة ما عليه الحكام من سياسة الرعية من أجل محاسبتهم على أعمالهم، ويعني أيضاً الاشتغال بالسياسة الخارجية في معرفة ما تبيته الدول الكافرة من مكائد للمسلمين لكشفها لهم، والعمل على اتقائها، ودفع أذاها. فيكون الفرض ليس الاشتغال بالسياسة الداخلية فحسب، بل هو أيضاً الاشتغال بالسياسة الخارجية، إذ الفرض هو الاشتغال بالسياسة مطلقاً، سواء أكانت سياسة داخلية أم خارجية. على أن آية ﴿ألم . غلبت الروم . في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون﴾ تدل دلالة واضحة على مدى اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام بالسياسة الخارجية، وتتبعهم للأخبار العالمية. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن شهاب فقال: بلغنا أن المشركين كانوا يجادلون المسلمين وهم بمكة قبل أن يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فيقولون: الروم يشهدون أنهم أهل كتاب، وقد غلبهم المجوس، وأنتم تزعمون أنكم ستغلبوننا بالكتاب الذي أنزل على نبيكم فيكف غلب المجوس الروم؟ وهم أهل كتاب، فسنغلبكم كما غلبت فارس الروم: فأنزل الله ﴿ألم . غلبت الروم﴾ وهذا يدل على أن المسلمين في مكة حتى قبل إقامة الدولة الإسلامية كانوا يجادلون الكفار في أخبار الدول، وأنباء العلاقات الدولية. ويروى أن أبا بكر راهن المشركين على أن الروم سيغلبون، وأخبر الرسول بذلك فأقره الرسول على هذا، وطلب منه أن يمدد الأجل، وهو شريكه في الرهان. مما يدل على أن العلم بحال دول العصر، وما بينها من علاقات أمر قد فعله المسلمون، وأقره الرسول صلى الله عليه وسلم .
وإذا أضيف إلى ذلك أن الأمة تحمل الدعوة الإسلامية إلى العالم، ولا يتيسر لها حمل الدعوة إلى العالم إلاّ إذا كانت عارفة لسياسية حكومات الدول الأخرى، وهذا معناه أن معرفة سياسة العالم بشكل عام، وسياسة كل دولة تريد حمل الدعوة إلى شعبها، أو رد كيدها عنا، فرض كفاية على المسلمين، لأن حمل الدعوة فرض، ودفع كيد الأعداء عن الأمة فرض، وهذا لا يمكن الوصول إليه إلاّ بمعرفة سياسة العالم، وسياسة الدول التي نعنى بعلاقاتها لدعوة شعبها، أو رد كيدها. والقاعدة الشرعية تقول: (ما لا يتم الواجب إلاّ به فهو واجب) لذلك كان الاشتغال بالسياسة الدولية فرض كفاية على المسلمين.
ولما كانت الأمة الإسلامية مكلفة شرعاً بحمل الدعوة الإسلامية إلى الناس كافة كان فرضاً على المسلمين أن يتصلوا بالعالم اتصالاً واعياً لأحواله، مدركاً لمشاكله، عالماً بدوافع دوله وشعوبه، متتبعاً الأعمال السياسية التي تجري في العالم، ملاحظاً الخطط السياسية للدول في أساليب تنفيذها، وفي كيفية علاقة بعضها ببعض، وفي المناورات السياسية التي تقوم بها هذه الدول
السياسة هي رعاية شؤون الأمة داخلياً وخارجياً، وتكون من قبل الدولة والأمة، فالدولة هي التي تباشر هذه الرعاية عملياً، والأمة هي التي تحاسب بها الدولة.
هذا هو تعريف السياسة، وهو وصف لواقع السياسة من حيث هي، وهو معناها اللغوي في مادة ساس يسوس سياسة بمعنى رعى شؤونه، قال في المحيط “وسست الرعية سياسة أمرتها ونهيتها” وهذا هو رعاية شؤونها بالأوامر والنواهي، وأيضا فإن الأحاديث الواردة في عمل الحاكم، والواردة في محاسبة الحكام، والواردة في الاهتمام بمصالح المسلمين يستنبط من مجموعها هذا التعريف، فقد روى مسلم عن أبي حازم قال : قاعدت أبا هريرة خمس سنين فسمعته يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء ، كلما هلك نبي خلفه نبي ، وأنه لا نبي بعدي ، وستكون خلفاء فتكثر ، قالوا : فما تأمرنا ؟ قال : اوفوا ببيعة الأول فالأول ، وأعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم» رواه مسلم ، وقوله صلى الله عليه وسلم : «ما من عبد يسترعيه الله رعية لم يحطها بنصيحة إلا لم يجد رائحة الجنة» رواه مسلم، وقوله عليه السلام : «ما من والٍ يلي رعية من المسلمين فيموت وهو غاش لهم إلا حرم الله عليه الجنة» رواه البخاري ، وقوله صلى الله عليه وسلم : «ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن عرف فقد برئ ومن أنكر فقد سلم إلا من رضي وتابع» رواه مسلم والترمذي، وقوله صلى الله عليه وسلم : «من أصبح وهمه غير الله فليس من الله، ومن أصبح لا يهتم بالمسلمين فليس منهم» رواه الحاكم، وعن جرير بن عبد الله قال: «بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم» متفق عليه، فهذه الأحاديث كلها سواء ما يتعلق بالحاكم في تولية الحكم، أو ما يتعلق بالأمة التي تحاسب الحاكم، أو ما يتعلق بالمسلمين بعضهم مع بعض من الاهتمام بمصالحهم والنصح لهم، كلها يستنبط منها تعريف السياسة بأنها رعاية شؤون الأمة فيكون تعريف السياسة المتقدم تعريفاً شرعيا مستنبطاً من الأدلة الشرعية.
ومنذ أن هدمت الخلافة وطبقت أنظمة الكفر السياسية في البلاد الإسلامية، انتهى الإسلام من كونه سياسياً، وحل محله الفكر السياسي الغربي المنبثق عن عقيدة المبدأ الرأسمالي، عقيدة فصل الدين عن الحياة. ومما يجب أن تدركه الأمة الإسلامية، أن رعاية شؤونها بالإسلام لا تكون إلاّ بدولة على منهاج النبوة ، وأن فصل الإسلام السياسي عن الحياة وعن الدين، هو وأد للإسلام وأنظمته وأحكامه، وسحق للأمة وقيمها وحضارتها ورسالتها.
والدول الرأسمالية تتبنى عقيدة فصل الدين عن الحياة وعن السياسية، وتعمل على نشرها وتطبيق أحكامها على الأمة الإسلامية، وتعمل على تضليل الأمة وتصور لها بأن السياسة والدين لا يجتمعان، وأن السياسة إنما تعني الواقعية والرضى بالأمر الواقع مع استحالة تغييره، حتى تبقى الأمة رازحة تحت نير دول الكفر، دول الظلم والطغيان، وحتى لا تترسم الأمة بحال سبيلاً للنهضة. بالإضافة إلى تنفير المسلمين من الحركات الإسلامية السياسية، ومن الاشتغال بالسياسة. لأن دول الكفر تعلم أنه لا يمكن ضرب أفكارها وأحكامها السياسية إلاّ بعمل سياسي، والاشتغال بالسياسة على أساس الإسلام. ويصل تنفير الأمة الإسلامية من السياسة والسياسيين إلى حد تصوير السياسة أنها تتناقض مع سمو الإسلام وروحانيته. ولذلك كان لا بد من أن تدرك الأمة السر وراء محاربة الدول الكافرة، والحكام العملاء للحركات الإسلامية وهي تعمل لإنهاض المسلمين بإقامة دولة الخلافة وتضرب أفكار الكفر، وتعيد مجد الإسلام.
وعليه لا بد من أن تعي الأمة الإسلامية معنى السياسة لغة وشرعاً، وأن الإسلام السياسي لا يوجد إلاّ بدولة الخلافة، والتي بدونها يغيض الإسلام من كونه سياسياً، ولا يعتبر حياً إلاّ بهذه الدولة، باعتبارها كياناً سياسياً تنفيذياً لتطبيق أحكام الإسلام وتنفيذها، وهي الطريقة الشرعية التي تنفذ بها أحكام الإسلام وأنظمته في الحياة العامة، وأن الله قد أوجب على الأمة تطبيق هذه الأحكام، وحرم الاحتكام لأنظمة الكفر، لمخالفتها للإسلام ولأنها من وضع البشر.
ولذلك كان لا بد من أن تثقف الأمة الثقافة الإسلامية، ودوام سقيها بالأفكار والأحكام السياسية، وبيان انبثاق هذه الأفكار وهذه الأحكام عن العقيدة الإسلامية باعتبارها فكرة سياسية، والتركيز على ذلك من الناحية الروحية التي فيها، باعتبار أنها أوامر ونواه من الله لا بأي وصف آخر. وهذا الوصف هو الذي يكفل تمكن أفكار وأحكام الإسلام في النفوس، ويكشف للأمة معنى السياسة والفكر السياسي، ويجعلها تدرك المسؤولية الملقاة على عاتقها لإيجاد أفكار الإسلام وأحكامه في حياتها العملية، وأهمية الرسالة العالمية التي أوجب الله حملها للناس كافة، خاصة وهي ترى مدى ما وصل إليه حالها في هذا العصر لغياب دولة الإسلام وأفكار وأحكام الإسلام من حياتها، ومدى ما وصل إليه العالم من شرٍ وشقاء واستعباد للناس. وهذا التثقيف السياسي، سواء أكان تثقيفاً بأفكار الإسلام وأحكامه، أم كان تتبعاً للأحداث السياسية فإنه يوجد الوعي السياسي، ويجعل الأمة تضطلع بمهمتها الأساسية، ووظيفتها الأصلية ألا وهي حمل الدعوة الإسلامية إلى الشعوب والأمم الأخرى.
اهتمام علماء المسلمين بالسياسة
تأتي السياسة في مقدمة الأمور التي اهتم بها العلماء المسلمون حتى جعلوا باب الإمامة من أبواب العقيدة.
إن الغزو الفكري الذي ابتليت به الأمة في القرون الأخيرة قد أدخل في فكر المسلمين الانفصال بين الدين والسياسة حتى أصبحت السياسة حكراً على طبقة من السياسيين المحترفين، وفهمت السياسة على أنها فن الخداع والمكر، وأن العلماء لا يصلحون للحديث في السياسة بله العمل فيها. وللتأكد من أن الإسلام لم يفرق بين السياسة والدين فليرجع إلى سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ليرى كيف أنه عليه الصلاة والسلام قد مارس جميع الأعمال السياسية، وكذلك فعل الخلفاء الراشدون.
وأما الفصل بين العلماء والعمل السياسي فقد كان الخلفاء الراشدون رضوان الله عليهم أجمعين علماء بالإسلام -بل أعلم الناس به- وعرف التاريخ الإسلامي كثيراً من الحكام الذين كانوا على درجة عالية من العلم بالإسلام.
وإن كانت الإدارة جزء من السياسة، لكن بينهما فصل مهم حيث إن الإدارة أخص من السياسة، وتأتي أهمية الإدارة في أن الأمم تتسابق في تعداد منجزاتها الإدارية حتى أصبحت اليابان تفخر على الغرب بتفوقها الإداري، وعلينا لكي نستعيد مكانتها في العالم أن ندرك أن الأمة الإسلامية عرفت الإدارة في أرقى صورها وأكثرها تطوراً، ويجب أن نعرف أن الإدارة جزء من معرفة الإسلام أو النظام الإسلامي. ولو لم يكن النظام الإداري الإسلامي فعّالا لما استطاع المسلمون حكم البلاد الواسعة التي أصبحت جزءاً من دولتهم.
ولما استطاعوا أن ينشئوا المصانع والمعامل ويبنوا حضارة جعلت الأمة الإسلامية هي العالم الأول لعدة قرون. وبالنسبة لاتساع دولة الإسلام فقد بلغت رقعتها في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه الجزيرة العربية والشام والعراق ومصر، وازدادت رقعتها حتى ضمت شمال أفريقيا كله وبلاد فارس والهند وغيرها في عهود لاحقة.
السياسة جزء من الدين
نتكلم عن ضرورة ارتباط السياسة بالمبادئ والأخلاق لأن السياسة جزء من الدين، ونبه إلى ضرورة تجنب المبالغة في الاهتمام بها على حساب الدين.
"السياسة والاستبداد وسؤال الأخلاق"، إن السياسة جزء من الدين، وخطًّأ مقولة "لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين".
إن الإصلاح السياسي يبدأ من أسفل، بتعليم الشعب وتطهيره من الرذائل، فإن شر ما يبتلى به الناس هو الحكم الاستبدادي، فهو يفسد الدين والاقتصاد والاجتماع، وكل شيء.
إن الإسلام في جوهره رسالة أخلاقية، يريد من الإنسان أن يكون أخلاقيا، بمعنى أن يتحلى بالفضائل ويتخلص من الرذائل، لافتا إلى قوله صلى الله عليه وسلم "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، ومشددا على فضيلة "الصدق" كمطلب أساسي لكل سياسي.
حيث وقف الإمام محمد عبده ضد الاستبداد، وطلب السياسة العادلة التي جاء بها
والسنة، والتي تقوم على الكتاب الميزان "لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ..." (الحديد:25)
ماذا نعنى بالوعى السياسى؟
نعنى بالوعى السياسى هو النظرة إلى العالم من زاوية خاصة، قائمة على عقيدة ومبادئ واضحة، وأن يعرف المسلم ما يدور حوله من أحداث ومجريات، ويَنْظر لها من منظار التاريخ، والسُّنن الكونية، ويُخْضِعها للعقيدة التى يؤمن بها، ويستنتج مدى تأثيرها على كيان أمته، ويتفاعل معها بحيث يصل الوعى إلى مساحة الشعور.
ويمكن إجمال هذا المعنى بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: "من لم يَهْتَم بِأَمْرِ المسلمين فَلَيْسَ مِنْهُم"، والاهتمام هو التدبُّر لرعاية شئونهم، ورعاية الشئون هى السياسة، والاهتمام هو الوعى والإدراك المركَّز الذى يصل إلى الشعور.
أهمية الوعى السياسى وحاجة الأمة الإسلامية إليه:
أصبحت السياسة تشكِّل فى هذا العصر عاملا كبيرا فى مصائر الدول والشعوب، وأصبح تأثيرها على الإعلام والاقتصاد والحروب، حتى أصبحت الدول والأحزاب والشركات الكبرى تحرص على أن يكون لها أجهزة سياسية تجمع الأخبار وتُحلِّلها وتُقدِّمها إلى المسئولين؛ للاستعانة بها فى رسم السياسات وبناء العلاقات وتحديد المواقف.
والحركة الإسلامية مطالبة بأن تُوجِد الوعى السياسى لدى أبنائها ودعاتها للأسباب التالية:
1- الضرورة الشرعية التى تُحتِّم على المسلم أن يجاهد نفسه ويجاهد غيره؛ لإقامة شرع الله على هذه الأرض، وطالما أن الأهداف التى يسعى لها العاملون للإسلام هى تطبيق شرع الله عز وجل، وطالما أن شرع الله له الأحكام المقرَّرة على جميع الأصعدة والقضايا السياسية، فإن العمل لإعادة شرع الله هو صميم العمل السياسى، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فى دعوته يقوم ببناء العقيدة إلى جانب بناء الدولة، ويقول حسن البنَّا -رحمه الله- فى رسائله "وأيّما جماعة أو جمعية لا تجعل ضمن عملها الاهتمام بالسياسة، فإنها بحاجة لأن تُعِيد فهمها للإسلام".
2- اهتمام الحركة الإسلامية بالتوعية السياسية لا يعنى المساومة على أخلاقيات الإسلام، أو إهمال العمل التربوى، وإنما الالتزام بالعمل التربوى الصحيح هو المبرر لهذا الاهتمام، والسياسة هى المؤشر العملى لاستئناف الحياة الإسلامية فى أبعادها المتكاملة.
3- التوعية السياسية مطلوبة حتى نَفْقَه مخطَّطات الخصوم، ولا نُؤْتَى على حين غرَّة، فإن عالم السياسة هو كعالم التجارة، فهى بحاجة إلى الوعى بالبضاعة والمشترى وبالقانون التجارى وبحركة السوق، كما أنها كالغابة فيها الأُسُود والنُّمُور، كما فيها القرود، وفيها أُسُود حقيقية وأُسُود من ورق، كما أنها كالمسرح فيها البطل وفيها الكومبارس وفيها المؤلف وفيها المخرج، ولا بد لنا أن نفقه كل هذه الأدوار.
4- طالما أن الدولة أصبح مجالها كل القضايا، وما تفعله إما أن يكون مخالفا أو موافقا للإسلام، فينبغى للمسلم أن يتخذ موقفًا إما سلبيًّا أو إيجابيًّا، وهذا لا يتأتَّى إلا إذا كان على وعى عظيم، فهو إذن غير مُخيَّر فى أن يتخذ موقفًا سياسيًّا أو لا يتخذ، بل الشريعة تفرض عليه ذلك؛ ولذلك فإن العمل السياسى ضرورة فى كل الأحوال فى حالة وجود الحكم الإسلامى أو عدمه.
5- فى الأمة أحزاب أرضية تسعى للوصول إلى الحكم، ولديها الوعى والتخطيط السياسى، فلا بد من مواجهتها بوعى أوسع وتخطيط أدقّ؛ كى لا تُبْتَلى الأمة بوصول هؤلاء إلى الحكم أو تَحُول دون استمرارهم فى حالة وصولهم.
6- الجماهير اليوم لن تكتفى منا بنداءات الإغاثة إنما هى تريد من يأخذ بزمامها ويمضى بها نحو الغايات العظام، فالجماهير لن تُسْتَثار لمن يدعوها إلى الصلاة وهى قد اعتادت التَّهجُّد وقيام الليل.
7- كلما ارتفع وعى الإنسان سياسيًّا دفعه ذلك إلى المزيد من العمل والتحرك.
8- يواجه المسلم المعاصر فى حال عزمه على التمسك بدينه عدة مشاكل تؤثر على اندماجه السياسى فى المجتمع الذى يعيش فيه.
والمسلم المعاصر فى مساره الاجتماعى ينبغى أن يتزوَّد بالوعى السياسى، فعن طريقه يستطيع أن يفهم أنه إضافة إيجابية لمجتمعه، وأن بإمكانه أن يُقدِّم إسهامًا كبيرًا لمحيطه الاجتماعى، وأن أمامه طريقًا طويلا يحتاج إلى نفسٍ طويل.. وعن طريق الوعى السياسى يفهم ما يدور حوله من قضايا، ومن ثم يطرح لها البديل الإسلامى، ويبدأ يُفكِّر ويخطط فى المجال الذى يبرع فيه، فهناك الجانب الاقتصادى والاجتماعى والسياسى.
إن العمل العسكرى لا يتطلَّب من البعض إلا أشهرًا من التدريب والمران، لكن إعداد شخصٍ مُتمرِّس بالسياسة والفكر فهنا يحتاج إلى إعداد طويل وسنوات طويلة، وهذه النوعية هى التى تلزم لقطف ثمار الجهاد العسكرى وحمايته، وهى التى تنفع فى بناء أسس الدولة والحفاظ عليها "مثال: أفغانستان".
قواعد الوعى السياسى:
1- الوعى السياسى إنما ينشأ ويتعزَّز فى خضمِّ الصراعات لا فى المجتمعات الراكدة والجامدة، فكل مجتمع يعيش صراعًا مع أعدائه ومناوئيه هو أقرب إلى الوعى السياسى من غيره لحاجته الماسة إليه.
2- المعرفة السياسية بنظرة عمومية هى معرفة ناقصة تحتاج إلى معرفة التفاصيل التى تدور فى الساحة.
3- عندما ننظر إلى المواقف والأحداث السياسية يجب أن نُبْعِدها عن التجريد والشمول، وأن نربط كل موقف بالظروف المحيطة به والملابسات التى تكتنفه، فلا يوجد أخطر على العمل السياسى من المنطق والقياس.
4- الحذر من تسلُّط الميول والرغبات على الآراء والأنباء، فرغبات النفس قد تؤثر فى تفسير الرأى والنبأ، وتُضْفِى عليه صفة الصدق وهو كذب أو وصف الكذب وهو صدق.
5- الحذر دائمًا من أن يكون الذِّهْن فريسة للدعايات والإعلانات الزائفة التى تبعده عن الغاية التى يعمل لها أو ينشغل بالأمور الثانوية عن الرئيسة.
6 - الواعى سياسيًّا لا يكفى أن يدرك ما حوله، إنما يجب أن يدرك الأشياء ويعلنها للناس حتى يعمل على إيجاد الوعى عند الأمة فى مجموعها.
طريق تكوين الوعى السياسى:
يمكن أن نضع برنامجًا مختصرًا يساعد الفرد على تكوين الوعى السياسى الذى يساعده على أن يكون عنصرًا إيجابيًّا فى دعوته وفى مجتمعه، غير انعزالى ولا هو بالمُتَهوِّر الثائر على غير هدى، وكذلك يساعده على التحصُّن من إيحاءات أجهزة الإعلام وتضليلها.
1 - دراسة الدين والتاريخ الإسلامى والتاريخ الحديث:
إن المسلم الواعى سياسيًّا هو الشخص الذى يلتزم فى ثقافته ومواقفه السياسية مع وجهة نظر الإسلام، والإسلام له نظرية كاملة وفريدة من نوعها حول الشئون السياسية والأحداث ينبغى للمسلم أن يتخذها قاعدة فى معالجته الأمور والقضايا السياسية وتحليله الأخبار وفى عمله السياسى؛ فالعمل السياسى ينقسم إلى ثلاث مراحل:
- الوعى السياسى.
- التحليل السياسى.
- ممارسة العمل السياسى.
فالقرآن والأحاديث النبويَّة والسيرة المطهَّرة تبرز ملامح الأمة القويَّة والمنهارة وعوامل انهيارها، وصفات التجمعات المعادية للإسلام، ورسمت صورة واضحة عن الحاكم المُسْتَبِد والقائد العادل، وحذَّرت من اليهود والنصارى وبيَّنت حدود التعامل معهم، أما دراسة التاريخ الإسلامى فهى تقدِّم قاعدة فى معرفة الواقع السياسى للأمة الإسلامية، كيف نشأت، وما مقوماتها وكيف انتكست، ومن هم أعداؤها، وكيف ظهرت نهضة التحرُّر من الاستعمار، وأين وصلت، وكيف كان الوضع بعد الاستعمار.
كما أن دراسة التاريخ المعاصر أمر مهم فى معرفة التيارات السياسية المعاصرة، والأطروحات التى تطرحها على الساحة السياسية حتى تتمكن من الرد عليها.
2- المتابعة السياسية والتحليل:
كما أن البعد عن الأحداث ومسبِّباتها وظروفها التى لا تتحقق إلا بالمتابعة يؤدِّى بالفرد إلى اتخاذ مواقف خطأ، قد تجرُّه تلك المواقف إلى الهاوية "مثال: أزمة الخليج".
وهناك ثلاثة أنواع فى التفكير السياسى:
- التفكير السياسى فى الأنظمة السياسية: كالنظام السياسى الإسلامى، والنظام السياسى الديمقراطى.
- التفكير السياسى فى الدولة وأجهزتها التى تتناول أساليب رفع كفاءة إدارة الدولة والجماهير.
- التفكير السياسى فى نصوص أخبار الوقائع والأحداث.
وكل هذه الأنواع تُنمِّى الوعى السياسى، إلا أن أكثرها تنميةً واستحداثًا للوعى السياسى هو التفكير السياسى فى نصوص الأخبار والوقائع والأحداث وربطها.
ولمعرفة كيفية انتزاع الحقيقة لنصوص الأخبار يمكن أن نتبع الخطوات التالية:
- ينبغى التعرف على اتجاهات الصحف والإذاعات والكتاب والمحررين؛ إذ لِكُلٍّ منهم اتجاهات وأفكار، يمزجون هذه الأفكار وميولهم واتجاهاتهم فى النص الخبرى.
- إن متابعة الأحداث والتطورات وقراءة الدراسات السياسية تعطى للإنسان خلفية سياسية، ولكنها لا تجعله بالضرورة واعيًا سياسيًّا وإنما مثقفًا سياسيًّا، وللحصول على الفائدة من المتابعة والقراءة ينبغى إعمال الفكر والربط بين الأحداث وتحليلها واكتشاف أسرارها.
- معرفة المعادلة السياسية الراهنة للحدث السياسى وللخبر المنقول.
- معرفة وفهم المصطلحات التى يبثُّها أعداء الإسلام والكارهون له من خلال وسائلهم المسموعة والمقروءة.
كما يمكن تنمية القدرة على المتابعة السياسية والتحليل السياسى بالطرق التالية:
- الأرشيف السياسى أو الصحفى، ويُقسَّم على حسب القضايا أو المناطق الجغرافية.
- محاولة التدريب على كتابة التحليلات السياسية لقضايا ساخنة.
- عقد حلقات النقاش والندوات التى يُطرح فيها موضوع أو قضية اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية، ويفتح الباب للنقاش بحيث يتم التحضير مسبقًا للموضوع محلّ النقاش.
3- ممارسة العمل السياسى:
إن النقاط السابقة التى ذكرناها تُعْطِى بعدًا واحدًا فى الوعى السياسى وهو البُعْد النظرى، وهو وحده يعنى نقصا فى الوعى يتطلب من صاحبه أن يدعمه بالبُعْد الآخر وهو البعد التجريبى والعملى، وهذا لا يتم بطبيعة الحال إلا إذا انخرط الإنسان فى ممارسة العمل السياسى؛ ليصل إلى درجة النضوج فى الوعى السياسى.. إن من ينخرط فى العمل السياسى يتمكن أكثر من غيره فى الحصول على المعلومات والأخبار الصحيحة.
إن من ينخرط فى العمل السياسى، وهو جزء من الإسلام، يجب عليه أن يراعى هذه المساحة، فلا تتسع على حساب جوانب الشريعة الإسلامية المختلفة، فالتوازن مطلوب، والمساحة لكل جانب محدَّدة لا يبغِى بعضها على بعض، وهذا أمر مهم يجب الانتباه إليه.
الزعم أن الإسلام دين لا علاقة له بالسياسة (*)
مضمون الشبهة:
يدعي بعض المغالطين أن الإسلام شريعة روحية تعبدية، ولا يعدو أن يكون دعوة دينية مقصورة على مجرد الاعتقاد وإقامة الصلات الروحية بين العبد وربه؛ فلا تعلق لهذا الدين بالشئون المادية في الحياة، كالسياسة والحرب والمال... إلخ.
وتفصيل مزاعمهم: أنه لا علاقة لهذا الدين بشئون الدنيا وسياسة أمور العباد، أو ما يعبر عنه بقولهم: "لا سياسة في الدين، ولا دين في السياسة"، وأن الدين يجب أن ينزوى[1] بين جدران المساجد - بوصفها مجالا للتعبد - وأن يدع شئون الدنيا وساحة السياسة لمذاهب البشر الوضعية وفلسفاتهم الإنسانية، طبقا لمبدأ "دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله". وقد ارتبطت بهذه الفرية الرئيسة شبهات فرعية، مثل:
· القول بأن ما أنزل الله تكليف فردي.
· عدم وجود دولة موحدة بالمدينة، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن حاكما ورجل دولة؛ بل كان رجل دين فقط، ولا علاقة لدينه بالدولة ونظامها.
· الخلافة دنيوية لا دينية، والشورى لا تفترق عن الديمقراطية[2].
· الخلافة قد قامت بمبادرة انقلابية بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ونالها الأقوى لا الأحق بها.
· الدعوة للخلافة عبثية وضد أي دستور حضاري، وليست في الإسلام نصوص توضح كيفية تأسيسها، وهي في تطبيقاتها التاريخية كانت متخلفة.
وينتهي هؤلاء المفترون إلى القول بأن المطالبة بتطبيق الشريعة لا معنى لها، وأن الزمن قد تجاوزها، ويدعون إلى حصار الدين في المساجد والموالد. وهم يخلصون من هذا كله إلى أن النظام الإلهي لا يمكن تطبيقه، وأن العمل بالشريعة يؤدي إلى اختلال النظام وسفك الدماء في زعمهم.
وجوه إبطال الشبهة:
1) أصل مقولة "الفصل بين الإسلام والدولة" يرجع إلى ثورة كمال أتاتورك وما تبعها من حركات وكتابات مشبوهة، كان من ثمراتها كتاب "الإسلام وأصول الحكم".
2) معطيات القرآن والسنة في شئون الحكم والسياسة تكفل إقامة نظام قوي ناجح.
3) التاريخ الواقعي للدولة الإسلامية يتضح فيه الاهتمام بشئون الدين والدولة معا.
4) ثمة شهادات تاريخية لغير المسلمين تؤكد أن الإسلام دين ودولة.
التفصيل:
أولا. أصل مقولة الفصل بين الدين الإسلامي والدولة:
ظل المسلمون منذ وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - واستخلاف الصديق - رضي الله عنه - يفهمون الإسلام فهما شموليا، معتقدين توفيقه بين أمور الدين والدنيا، أو الدنيا والآخرة، أو الدين والدولة، أو السياسة والدين، وأن الله لم يفرط في كتابه - القرآن - من شيء. ظلوا على هذا الفهم حتى جاء النظام التركي القومي الجديد بقيادة " مصطفى كمال أتاتورك"، فألغى نهائيا نظام الخلافة الإسلامية - الذي بدأ منذ استخلاف الصديق في السقيفة[3] - بإنهائه الخلافة العثمانية، فخلا العالم الإسلامي - للمرة الأولى في تاريخه - ممن يحمل لقب خليفة، ومحا بالفعل من الأرض الخلافة محوا.
وقد تطلعت لاستئناف نظام الخلافة في مختلف أنحاء العالم الإسلامي دوائر عديدة بدوافع متعددة؛ فثمة فريق رأى أن الخلافة واجهة يقف خلفها المسلمون في تصديهم لزحف الغرب الاستعماري على بلادهم، وفريق ثان اعتبرها تراثا، وفريق ثالث اعتقد أن إقامتها واجب ديني وأصل من أصول الإسلام. كما تطلعت لملء هذا الفراغ في هذا المنصب المهيب عروش وملوك كان في مقدمتهم الملك أحمد فؤاد، ومن هنا لم يكن كتاب "الإسلام وأصول الحكم" بحثا أكاديميا في مجال الفكر السياسي بقدر ما كان إسهاما فكريا في معركة سياسية حامية، وتحديا لملك رغب في نيل منصب الخلافة، فجاء الكتاب ليهدم فكرة الخلافة من أساسها، ويبرز عدم الحاجة إليها شرعيا وواقعيا.
جوهر مضمون كتاب "الإسلام وأصول الحكم":
تدور فكرة الكتاب الرئيسة حول القول بأن الخلافة دخيلة على الإسلام، وهي مصدر قهر واستبداد، وقد كانت نكبة على الإسلام والمسلمين عبر تاريخها، وأن الإسلام دين خالص وعلاقة بين العبد وربه، ولا صلة له بشئون السياسة وأمور الدولة، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - رسول دعوة دينية خالصة للدين لا تشوبها نزعة ملك ولا دعوة لدولة، وولايته ولاية دينية روحية وليس في القرآن والسنة ما يعطي طابعا سياسيا دنيويا لهذا الدين، وإقامة الشعائر الدينية وصلاح الرعية يمكن أن يتم في ظل أي نوع من الحكومات، مطلقة أو مقيدة، فردية أو جمهورية،[4] استبدادية أو دستورية،[5] شورية ديمقراطية أو اشتراكية[6] وبلشفية[7] [8]! وما يزال الناس بعد "على عبد الرازق" بين مؤيد لآرائه متعصب لها ومعارض لمزاعمه مفند لشبهاته[9].
السياسة جزء من النظام الإسلامي الشامل:
والحق أن من ينكرون صلة الإسلام بالسياسة ينطلقون من مقولة باطلة أساسا، وهي أن الإسلام مجموعة من العبادات بالمفهوم الضيق لهذه الكلمة، أي مجموعة من الطقوس والشعائر التعبدية تؤدى وكفى.
وهذا قول يجانب الحقيقة تماما؛ فمن بدهيات الفكر الإسلامي - أن الإسلام نظام شامل للحياة، والسياسة من أهم شئونها ومجالاتها، فلا يتصور أن يدع الإسلام هذا الجانب المهم - السياسة - ويهمله دون أن يرسم له الإطار العريض وينص على المبادئ التوجيهية العامة فيه، ثم يترك التفاصيل والجزئيات للناس يتصرفون فيها بما يناسب ظروف زمانهم ومكانهم دون أن ينفلتوا من توجيهات هذا الإطار العام وتلك الأصول الكلية، أي دون أن ينصرفوا عن جوهر هذا الدين وروحه وهديه.
ولا شك أن علاقة الإسلام بالسياسة ثابتة في المرجعية الإسلامية - القرآن والسنة - نظريا، وفي واقع تاريخ المسلمين عمليا، فمن الإشارات التي تضمنتها آيات القرآن الكريم قوله تعالى: )وأمرهم شورى بينهم( (الشورى:38)، وقوله تعالى: )يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا (59)( (النساء)، فأولى الأمر هنا - وإن انصرفت إلى كل من يحمل مسئولية - تنصرف إلى الولاية العظمى في الإسلام، وهي ولاية أمر المسلمين أو رئاسة الدولة الإسلامية، فلولي أمر المسلمين حق الطاعة على رعيته، شريطة أن يكون ملتزما بمبادئ الإسلام وتوجيهاته، أي مطيعا لله ولرسوله كما يكلف بذلك صدر الآية.
بالإضافة إلى هذا فإن القرآن حافل بالنصوص التي تعلي من شأن العدل باعتباره أساس الحكم الصالح والإدارة السليمة، ومن ذلك قوله عز وجل: )إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل( (النساء:58)، وقوله عز وجل: )ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى( (المائدة:8)[10].
ومن المعاني الأخرى التي حرص القرآن على ترسيخها بين المسلمين وفي نفوسهم الإخاء والمساواة - وجعل معيار التفاضل هو التقوى لا الدم والعنصر والحسب والنسب - مما يعني أن أفراد الأمة وجماعاتها كأعضاء الأسرة متآخون متحابون، أو هذا ما يجب أن يكونوا عليه في واقعهم العملي.
ومما يشير إلى هذه المعاني من الآيات قوله تعالى: )يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم( (الحجرات:13)، ويطول الحديث بمن يقصد استقصاء الآيات التي تعالج شئون المجتمع الإسلامي وتبلور نظمه، وأسلوب حياته - من بيع وشراء، وحرب وسلم، وتوارث، وحدود وقصاص... إلخ. وكلها نظم وقواعد وضعها الإسلام ليلتزمها المسلمون، ويشرف على تنفيذها ولي أمرهم، ولأجل هذا ورد قوله تعالى: )ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون (47)( (المائدة).
ثانيا. معطيات القرآن والسنة تكفل إقامة نظام سياسي قوي:
لقد حفلت السنة النبوية بالنصوص التي تتعلق بالسياسة وشئونها، وهي تؤكد ما ورد في القرآن بهذا الشأن وتبينه، ومن ذلك ما ثبت من قوله صلى الله عليه وسلم: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، الإمام راع ومسئول عن رعيته...». [11] فإذا كانت هذه واجبات الحاكم؛ فمن حقه على الرعية الطاعة في غير معصية، وإلى هذا المعنى يشير قوله صلى الله عليه وسلم: «من بايع إماما فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر».[12] وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا طاعة في معصية، إنما الطاعة في المعروف»[13].
وقد رفع - صلى الله عليه وسلم - من شأن العدل والإنصاف في الحكم، وأخبر بأن الإمام العادل أول السبعة الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله[14].
وقد حرض النبي - صلى الله عليه وسلم - على جمع الكلمة ووحدة الصف بقوله: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا». [15] فلا شك إذن أن القرآن والسنة قد قوما - ولم يغفلا كما زعم المغرضون - جانب السياسة في حياة المجتمع الإسلامي، ووضعا المبادئ الهادية الموجهة وتركا التفصيلات يحددها أهل كل عصر حسب ظروف زمانهم ومكانهم، مسترشدين بهذه الأصول العامة[16].
وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - العملية تؤكد سنته القولية في هذا الشأن، فلئن كانت المرحلة المكية من سيرته قد انصرفت لتثبيت العقيدة؛ فقد تفرغ في الفترة المدنية لتكوين الأمة، وبناء صرح الدولة، وتشييد نظامها، وتوطيد أركانها، وكإرهاصات للفترة الثانية هذه ولطبيعتها المشار إليها مثلت بيعة العقبة الثانية اللبنة الأولى في بناء الأمة ككيان سياسي، فلم تكن اتفاقا على الالتزام بخط أخلاقي فحسب كالبيعة الأولى؛ بل كانت ميثاقا ذا طابع سياسي، ففيها خاطب أبو الهيثم بن التيهان - أحد الأنصار - رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائلا:
«إن بيننا وبين الرجال - أي الناس - حبالا، أي - عهودا واتفاقات ومواثيق - وإنا قاطعوها، - أي بالتزامنا معك الذي يجب[17]غيره من الالتزامات التي لا تتفق وطبيعته - فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟
فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: بل الدم الدم والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم»[18].
والذي أراد ابن التـيهان - رضي الله عنه - قوله في هذا المقام هو أنهم بدخولهم - أي جماعة الأنصار - في الإسلام، وبعقدهم الميثاق مع الله ورسوله، سوف يقطعون المواثيق والعهود مع اليهود وغيرهم، ولذا فهم يودون أن يطمئنوا إن فعلوا ذلك وتم لنبي الله النصر ألا يتركهم ويعود إلى قومه؛ فأكد لهم الرسول التزامه بالعهد والميثاق.
يقول المولى عز وجل: )واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون (103)( (آل عمران)، وهو تأكيد لمعنى كلام ابن التيهان ورد الرسول - صلى الله عليه وسلم - عليه، فقد قطع القوم حبالهم مع الناس واعتصموا بحبل الله جميعا،أي دخلوا في عهده وميثاقه، واجتمعوا على الإيمان به، وتحابوا في سبيله وأصبحوا إخوانا متآلفي القلوب بنعمة الله، وتلك هي الرابطة الأساسية بين أفراد أمة الإسلام، قال تعالى: )إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون (10)( (الحجرات).
ثالثا. التاريخ الواقعي للدولة الإسلامية يبرز فيه الاهتمام بشئون الدين والدولة معا:
عندما أذن للنبي - صلى الله عليه وسلم - في الهجرة، تصرف منذ وطئت قدماه قباء بضواحي يثرب كأنه يسير على خطة محكمة وضعها من قبل، وحانت فرصة تنفيذها الآن، فسار في هذا المضمار قدما كل خطوة تعقبها أخرى، والخطوات تتلاحق وتتكامل، وبناء الأمة يشاد بترتيب وإحكام وتوقيت دقيق.
ابتدأ ببناء المسجد الذي أصبح رمزا لوجود الأمة المادي، بالإضافة إلى وجودها المعنوي، فلم يكن المسجد موضعا للصلاة فحسب؛ بل كان موضع اجتماع المسلمين للاستماع إلى خطب الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتلاوة القرآن و الائتناس ببعضهم وسماع الأخبار، وبجواره يقيم قائد الأمة، ومن هنا تدبر شئونها.
ثم آخى النبي - صلى الله عليه وسلم - بين المهاجرين والأنصار لتتشكل جماعة المؤمنين على أسس متينة، لكن مجتمع المدينة لم يقتصر على المسلمين؛ بل ضم من بقوا على حالهم ولم يدخلوا في الإسلام من العرب واليهود، فوضع الرسول الدستور المنظم للعلاقات بين هذه الجماعات، وحدد لكل حقوقه وواجباته فيما عرف بالصحيفة.
ويحق لنا أن نصف هذه الصحيفة النبوية بأنها نص دستوري توافرت له أبعاد ثورية قانونية نظرية، ورؤية منهجية بعيدة المدى، فضلا عن تفرده التاريخي في باب العلاقات بين طوائف الدولة وفئاتها[19].
إذن بهذه المعطيات قامت الدولة التي اشتملت على الأمة التي سكنت أرضا ذات معالم، وقادها الرسول - صلى الله عليه وسلم - واهتدت بمعالم الدستور النبوي، وقد مارس النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإضافة إلى التوجيه الديني مسئوليات القيادة النبوية، مستندا إلى قواعد الدين؛ فنظم شئون الحرب والسلم، وعقد المعاهدات، وجبي[20] الأموال وأنفقها في وجوهها، وعين الولاة والقضاة، وبالجملة فقد أدار شئون هذا المجتمع الجديد الذي أخذ شكل دولة ناشئة. وما الدولة في المفهوم المعاصر إلا أرض وشعب وقيادة وحكومة؟!
وقد توافرت كل هذه المقومات لدولة المسلمين في المدينة، وما انضاف إليها في حياة النبي صلى الله عليه وسلم. ثم إن الواقع التاريخي المبني على هذه الأصول الشرعية - خصوصا في العصر الراشدي - يشهد بإجماع الصحابة ومعهم الأمة على إقامة الإمامة (الخلافة أو الدولة الإسلامية)، وهذا الإجماع يعد البرهان الأول لدى القائلين بوجوب الخلافة وهم الأغلبية من أهل الفرق وعلماء المسلمين، ويستشهدون على ذلك بأن الصحابة بمجرد أن بلغهم نبأ وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بادروا إلى عقد اجتماع في سقيفة بني ساعدة وتركوا أمر تجهيز النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل بيته، وتداولوا أمر خلافته لإدراكهم مدى أهمية هذا الأمر، وهم وإن اختلفوا في شخص الخليفة المختار والصفات الواجب توافرها فيه؛ فإنهم أجمعوا على وجوب نصب إمام وتعيين خليفة، ولم يقل أحد أبدا بأنه لا حاجة بهم إلى ذلك، وقد وافق بقية الصحابة - ممن لم يحضروا اجتماع السقيفة - على ما أقره هذا الاجتماع من اختيار أبي بكر - رضي الله عنه - في البيعة العامة في المسجد في اليوم التالي.
وكان الصديق قد خطب في اجتماع السقيفة فقال: «أيها الناس، من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم تلا: )وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين (144)( (آل عمران)، واستمر إلى أن قال: إن محمدا قد مضى بسبيله، ولا بد لهذا الأمر من قائم يقوم به فانظروا، وهاتوا آراءكم، فناداه الناس من كل جانب: صدقت يا أبا بكر». [21]وهكذا أمن الناس على كلامه بضرورة إقامة رأس للأمر قائم ولم يستنكروه[22].
وكان ضروريا أن يجتهدوا في هذا الأمر؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن وضع في هذا الشأن الأصول والقواعد العامة كما سبق أن أوضحنا؛ فإنه لم يبين تفاصيل كيفية إقامة الخلافة أو الإمامة، وهو لم يعين ولم يعهد ولم يوص لأحد - إلا عند الشيعة الذين قالوا: إنه أوصى بالإمامة بعده لعلي ونسله من فاطمة - بل ترك الأمر شورى؛ لتختار الأمة لنفسها حسب ظروفها مسترشدة بالهدي النبوي، أو على حد تعبير د. حسين مؤنس: "وترك الأمة لتختار لنفسها الطريق لكي تسير نفسها في طريق النصر والإيمان والعزة والكرامة والخير، والأمة بعد ذلك حرة في أن تصنع لنفسها الشكل الذي تحكم نفسها به؛ فهي أساسا أمة حرة أو اتحاد شعوب حرة، وكل فرد من أفراد هذه الشعوب إنسان حر كريم له مثله الأعلى النابع من القرآن والحديث، فكما أن أمة الإسلام تضمن لمواطنيها الحرية والكرامة والعزة وسلامة الضمير؛ فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رسم لأمته الطريق وتركها تسير فيه على النحو الذي تريد، فهي إسلامية أولا، وشورية ثانيا، وحرة وضميرها حي أولا وأخيرا... تختار من يسيرون أمورها بحرية وبوحي من ضميرها، يستوي أن يكون خليفة أو ملكا أو سلطانا أو أميرا أو رئيسا أو هيئة تحكم معا.
فكل هذا سواء ما دامت تسير في هدي الإسلام وتسعى لتحقيق مثله العليا في ضوء السراج المنير: )يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا (45) وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا (46) وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا (47)( (الأحزاب) [23].
وفي مرض الصديق الأخير تشاور الصحابة في الأمر حتى استقر الأمر على عمر رضي الله عنه، وطمأن الصديق بعض من خافوا شدة عمر بأنها شدة في الحق، وأنه يشتد حين يرى الصديق يلين، فتم الأمر، وكانت هذه صورة ثانية للشورى غير الصورة التي اختير عليها الصديق من قبل.
وحين طعن الفاروق جعل الخلافة في ستة الباقين من العشرة المبشرين بالجنة، ومعهم ابنه عبد الله مستشارا يستأنسون برأيه، وليس له من الأمر شيء، فكانت صورة ثالثة توافق جوهر القضية، وهي مبدأ الشورى والاختيار الحر.
ثم لما استشهد عثمان - رضي الله عنه - اختارت بقية أهل الحل والعقد الموجودة بالمدينة عليا فكانت رابعة، وحين استشهد علي - رضي الله عنه - صرفت بقية هذه الجماعة الأمر لابنه الحسن الذي آثر حقن الدماء وصالح معاوية الذي عهد بها قبل وفاته لابنه يزيد بعد استشارة أهل الأمصار.
وطيلة هذه الفترة وفي أثناء هذا كله لم يدر بخلد أحد من الصحابة جواز خلو الأرض من إمام، فدل هذا الإجماع على قطعية وجوب الإمامة[24].
على أن فترة الانسجام بين المبادئ الشرعية السامية في شأن الولاية والحكم والإمارة من شورى وحرية اختيار، وبين التطبيق العملي على الأرض لم تدم طويلا، بل سرعان ما تنكر بعض الناس لهذه المبادئ مع بداية العصر الأموي.
ولا غرابة في هذا، فالعهود المثالية عادة قصيرة الأمد يعرف ذلك كل من درس تواريخ الأمم ولا سيما حركات الإصلاح والثورات في مختلف العصور، ينطبق هذا على المجتمع المسلم خلال العهدين النبوي والراشدي إلى منتصف خلافة عثمان - رضي الله عنه - قبل أن تشب الفتنة الكبرى.
ويعلل قصر آماد هذه العهود المثالية في إيجاز بليغ دقيق د. محمد ضياء الدين الريس بقوله: " ومن أسباب ذلك أن الجيل الأول الذي ينهض حاملا أعباء دعوة جديدة مستمسكا بالمثل العليا مجاهدا في سبيل تحقيقها، لا يلبث بعد مضي مدة من الوقت تكفي لأن ينشأ امرؤ من دور الطفولة إلى دور الكهولة أن يخلفه جيل جديد، لا تتوافر له نفس العناصر التي توافرت للجيل السابق، فلا يكون له - في مجموعه - مثل قوة إيمانه ولا عمق فهمه للمبادئ، ولا درجة حماسه لها؛ إذ إن الأفكار والمشاعر قلما يورثها جيل لآخر بنفس القوة سليمة كما هي، دون أن يعتورها نقص أو تبديل.
ثم إن المستوى العالي الذي ترتفع إليه النفس الإنسانية في أثناء تلك العهود الاستثنائية يصعب على الطبيعة البشرية أن تحتفظ ببقائها فيه، وقد ركبت فيها غرائز وميول وأهواء تنزع بها إلى الهبوط إلى مستويات أدنى، كما أودعت فيها العواطف التي تدفع بها إلى السمو.
وفوق ذلك فإن الظروف والأحوال تختلف، فإن أمثال هذه الحركات الإصلاحية والدعوات والثورات إنما تظهر نتيجة لتجمع أسباب معينة: اقتصادية واجتماعية وسياسية وفكرية، ثم بعد أن تنتهي الدعوات أو الحركات إلى نجاح وتتمكن من تحقيق أهدافها كلها أو بعضها، لا تكون تلك الأسباب قد بقيت كما هي، بل يكون قد زال بعضها، وتحولت طبيعة بعضها الآخر.
كما أنه يترتب على الوضع الناشئ الذي يكون قد أدى إليه النجاح أن تتغير البيئة، وتوجد عوامل وتبدو ظواهر لم تكن معروفة من قبل، وما دامت الأسباب والمقدمات تتغير فلا بد أن تتغير النتائج تبعا لها.
أضف إلى ذلك أن بقاء مجتمع ما في مستوى رفيع - إذا قيست حاله بمقاييس الأخلاق أو السياسة - إنما يرجع إلى جانب الأسباب الأخرى من استعداد المجتمع نفسه وطبيعة الظروف المحيطة به إلى نوع من القيادة.
القيادة الممتازة التي توجهه وتلهمه، وهي متمتعة بصفات فائقة غير شائعة الوجود، من حكمة وكياسة وسعة أفق وبعد نظر ونزاهة مقصد، والطبيعة لا تجود بالعبقريات كثيرا، فإذا خلا مكان القيادة لم يجد المجتمع من يملؤه ممن يضارع[25] الموجه الأول في كفاءته أو تكتمل له كل هذه الصفات، وتكون النتيجة التي لا مفر منها أن ينزل المجتمع من مكانته، وتتعثر خطاه، وتتزاحم عليه المشاكل، وتظهر لذلك كله آثار غير مستحبة، يكون مغزاها أن عهدا قد انقضى وبدأ عهد آخر" [26].
وهكذا وضح لنا من خلال استقراء المرجعية الإسلامية - نظرية وتطبيقا - أن شئون السياسة ليست غريبة على الإسلام، بل هي جزء من إطاره العام؛ فقد قدم القرآن والسنة المبادئ الأساسية والأصول الكلية في هذا المجال ثم استرشد التطبيق العملي بهذه الأصول عند التجريب على أرض الواقع؛ فتعددت الصور وبقي الجوهر واحدا زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم - والراشدين رضي الله عنهم؛ ليبرهن هذا على أن السياسة لم تنفك عن الإسلام نظرا وتطبيقا.
رابعا. شهادات تاريخية لغير المسلمين تؤكد أن الإسلام دين ودولة:
لقد أدرك هذه الطبيعة الشمولية في الإسلام، واهتمامه بأمر الدنيا ومن ثم بشأن السياسة وعدم اقتصاره على الجانب الروحاني التعبدي كثيرون حتى من المستشرقين، وهذه طائفة من شهاداتهم بهذا الشأن:
· يقول د. فتزجرالد: " ليس الإسلام دينا فحسب، ولكنه نظام سياسي أيضا. وعلى الرغم من أنه قد ظهر في العهد الأخير بعض أفراد من المسلمين ممن يصفون أنفسهم بأنهم عصريون، يحاولون أن يفصلوا بين الناحيتين؛ فإن صرح التفكير الإسلامي كله قد بني على أساس أن الجانبين متلازمان، لا يمكن أن يفصل أحدهما عن الآخر".
· ويقول نللينو: " لقد أسس محمد في وقت واحد دينا ودولة، وكانت حدودهما متطابقة طوال حياته".
· ويؤكد د. شاخت أن الإسلام يعني أكثر من دين؛ إنه يمثل أيضا نظريات قانونية وسياسية، وجملة القول: إنه نظام كامل من الثقافة، يشمل الدين والدولة معا".
· ويقول ستروثمان: " الإسلام ظاهرة دينية سياسية؛ إذ إن مؤسسه كان نبيا، وكان حاكما مثاليا خبيرا بأساليب الحكم".
· ويقول أرنولد: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في نفس الوقت رئيسا للدين ورئيسا للدولة".
· ويقول جب: " الإسلام لم يكن مجرد عقائد دينية فردية؛ وإنما استوجب إقامة مجتمع مستقل، له أسلوبه المعين في الحكم، وله قوانينه وأنظمته الخاصة به".[27]
أفبعد كل هذا الدفع وهذه البراهين من الأصول الشرعية والتطبيقات التاريخية والأقوال المنصفة حتى من قبل المستشرقين، يسوغ القول بأن هذا الدين لا علاقة له بالدنيا ولا شأن له بالسياسة؟!
وإذا كان ذلك كذلك وأنه حقا لا يعنى بشئون الدنيا، فلم كانت كل هذه التشريعات التي نظم بها جانب المعاملات في حياة البشر، والتي تغطي مساحة هائلة من كتب الفقه الإسلامي؟! أليست الدنيا مزرعة الآخرة؟! حقا:
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد
وينكر الفم طعم الماء من سقم
ولعل هذا الرمد الذي حجب عن عين الشيخ علي عبد الرازق، وأمثاله ممن يرون رأيه رؤية الحقيقة يرجع إلى سبب معقول واضح، عبر عنه د. عبد الله جمال الدين بقوله: " والحقيقة أن الشيخ علي عبد الرازق كتب مؤلفه لأغراض سياسية بحتة، فقد ألغيت الخلافة التي تعد رمزا للوحدة الإسلامية - برغم ما شابها من معايب - وخشيت أوربا والصهيونية والاستعمار من أن يعود هذا الرمز من جديد فيقف عقبة كئودا [28] في سبيل تحقيق أغراضهم، ووجدوا من المصلحة أن يضللوا المسلمين، وأن يظهروا أن الخلافة ليست من الضرورات الدينية، فالإسلام لا شأن له بالحكم ومسائله، خاصة وقد سمعت أصوات قوية تنادي بعودة الخلافة في مصر أو في الجزيرة العربية، فلنقم بوأد هذه الدعوة في مهدها، ولا بأس أن يقوم بإصدار هذه الفتوى أحد رجال القضاء الشرعيين ممن ينسبون إلى الشريعة وإلى العلم بها؛ لأن هذا سيكون له أثر فعال في القضاء على الفكرة التي تطالب بتجديد الخلافة"[29].
ومن علل صدود المنكرين لوجود صلة بين الدين وبين الدنيا والسياسة أنهم خلطوا بين الخلافة كرمز للنظام السياسي في الإسلام على المستوى الفكري وبين تطبيقاتها التاريخية في العصور المختلفة راشدها وزائغها.
يعبر عن هذا قول د. محمد عمارة عن كتاب" الإسلام وأصول الحكم" لعلي عبد الرازق: " والصورة التي تناثرت في أغلب صفحات الكتاب عن الخليفة والإمام في الإسلام والتي تحدثت عن سلطاته المطلقة المستمدة من الله، وصلاحياته التي لا تعد ولا ترد، هي صورة غريبة عن روح الإسلام، جاءت إلى الحياة السياسية الإسلامية التطبيقية، إما عن طريق الفكر الشيعي عن الإمامة، وهو فكر يعد امتدادا لنظريات الفرس الإقطاعية في هذا المجال أو عن طريق الحكم الأموي - وما تلاه في الواقع - الذي طبع بطابع الوراثة"[30].
وهذا الخلط هو ما أدى إلى أن تجيء الصورة لدى هؤلاء منفرة سوداوية صادة للنفس عن مثل هذا النموذج الذي صورته وعبرت عنه.
والحق أن هذه العلاقة ثابتة بالنصوص القرآنية؛ فقد تضمنت آيات كثيرة ألفاظا مثل: الشورى والحكم والعدل..... إلخ، وكلها من مفردات السياسة، كما تحدثت الآثار النبوية الشريفة عن الحاكم العادل والجائر، وعن الجهاد والولاية والقضاء.
ثم إن الواقع التطبيقي في العهد النبوي وعهد الراشدين ومن بعدهم قد أيد هذا الفهم؛ فقد ولوا الولاة، وعينوا القضاة، وبعثوا الجيوش، ودونوا الدواوين، وعقدوا المعاهدات، وأبرموا الاتفاقيات.... ومارسوا شئون الحكم والسلطة والسياسة.
الخلاصة:
· عناية الإسلام منذ بداياته الأولى بشئون الحكم والسياسة ثابتة مستقرة لا يمكن تجاهلها، أو إنكارها أو التشكيك فيها.
· الدعوة إلى "الفصل بين الدين والدولة" ترويج للفكر العلماني في العالم الإسلامي، ومحاولة للقضاء على فكرة الأمة في أذهان المسلمين، كما أن كتاب" الإسلام وأصول الحكم" جاء ليهدم فكرة الأمة من أساسها، ويبرز عدم الحاجة إليها شرعيا وواقعيا.
· اشتمال القرآن والسنة على كثير من الآيات والأحاديث التي تؤكد اهتمام الإسلام بشئون الحكم والسياسة وإيراده طائفة كبيرة من مفرداتها يدحض دعوى عدم وجود علاقة بين الدين والسياسة.
· التطبيق العملي لمبادئ الدولة الإسلامية يؤكد عناية الإسلام بشئون الحكم والسياسة، وإن قل هذا التطبيق الصحيح لمبادئ الإسلام على مدار التاريخ، بل لقد أساء بعض الحكام المسلمين التطبيق العملي لهذه المبادئ.
· سجل التاريخ شهادات لغير المسلمين (مستشرقين وعلماء غربيين) تؤكد حقيقة أن الإسلام دين ودولة، وأنه لم يقتصر على الجانب الروحاني التعبدي فقط.
(*) المفترون: خطاب التطرف العلماني في الميزان، د. فهمي هويدي، دار الشروق، القاهرة، 1416هـ/1996م. الرد على شبهات أحمد الكاتب حول إمامة أهل البيت ووجود المهدي المنتظر، سامي البدري ، مطبعة قسم شريعت، إيران، ط2، 1417هـ. تهافت العلمانية في الصحافة العربية، سالم البهنساوي، دار الوفاء، القاهرة، ط2، 1413هـ/ 1992م. المستشرقون والإسلام، محمد قطب، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1420هـ/ 1999م. الإسلام وأوربا: تعايش أم مجابهة، إنجي كارلسون، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، 2003م. الهجمات المغرضة على التاريخ الإسلامي، محمد ياسين مظهر صديقي ، ترجمة: سمير عبد الحميد إبراهيم، هجر للطباعة، القاهرة، ط1، 1408هـ/ 1988م. أوهام العلمانية حول الرسالة والمنهج، توفيق يوسف الواعي ، دار الوفاء، القاهرة، 1992م. القدس مدينة واحدة وعقائد ثلاث، كارين أرمسترونج، ترجمة: فاطمة نصر، محمد عناني ، دار الكتب المصرية، القاهرة، 1998م. الإسلام والغرب، روم لاندور، ترجمة: منير البعلبكي ، دار العلم للملايين، بيروت، 1962م. بلاد العرب، ديفيد جورج هوجارت، ترجمة: صبري محمد حسن، دار الأهرام، القاهرة. الإسلام والغزو الفكري، محمد عبد المنعم خفاجي ، عبد العزيز شرف، دار الجيل، بيروت، ط1، 1411هـ/ 1991م. صورة الإسلام في الإعلام الغربي ، محمد بشارى، دار الفكر، 2004م. موجز دائرة المعارف الإسلامية، فريق من المستشرقين، مركز الشارقة للإبداع الفكري، 1418هـ/ 1998م. حضارة الإسلام، جوستاف لوبون، ترجمة: عبد العزيز جاويش، عبد الحميد العبادي ، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1994م. التبشير العالمي ضد الإسلام، عبد العظيم المطعني ، مكتبة النور، القاهرة، 1992م. مائة سؤال عن الإسلام، محمد الغزالي، نهضة مصر، القاهرة، ط2، 2004م.
[1]. زوى الشيء يزويه فانزوى: نحاه فتنحى، وانزوى القوم بعضهم إلى بعض: إذا تدانوا وتضاموا.
[2]. الديمقراطية: إحدى صور الحكم تكون السيادة فيها للشعب، وتمارس إما مباشرة أو عن طريق نواب عن الشعب. أو هي إسلوب في الحياة يقوم على المساواة وحرية الرأي والتفكير وسيادة الشعب. والديمقراطية الاجتماعية: هي نظرية سياسية تؤيد استخدام الرسائل الديمقراطية لتتحرك تدريجيا من الرأسمالية إلى الاشتراكية.
[3]. السقيفة: جمع سقائف، وهي المكان المسقوف أو العريش الذي يستظل به، والمقصود هنا سقيفة بني ساعدة ـ قوم من الخزرج ـ التي اجتمع فيها الصحابة لبحث أمر الخلافة بعد وفاة رسول الله.
[4]. الجمهورية: دولة يرأسها حاكم منتخب من الشعب أو من ممثليه، وتكون رياسته لمدة محددة ينص عليها دستور البلاد.
[5]. الدستورية: شرعية القوانيين والأحكام وتوافقها مع دستور الدولة أو قانونها الدستوري .
واليمن الدستورية: هي القسم الذي يتعهد فيه رئيس الجمهورية قبيل تسلمه الحكم بالمحافظة على الدستور.
[6]. الاشتراكية: مذهب سياسي واقتصادي يقوم على سيطرة الدولة على وسائل الإنتاج وعدالة التوزيع والتخطيط الشامل.
[7]. البلشفية: مذهب يدعو إلى تطبيق الشيوعية على المجتعات الرأسمالية بعد المرور بمرحلة الجماعية.
[8]. انظر: دراسات في النظام السياسي والمالي في الإسلام، د. عبد الرحمن سالم، دار الثقافة العربية، القاهرة، 2000م، ص17: 28. نظام الدولة في الإسلام، د. عبد الله جمال الدين، طبعة خاصة، 1998م، ص21 وما بعدها.
[9]. الإسلام كبديل، د. مراد هوفمان، مؤسسة بافاريا، الترجمة العربية، مجلة النور الكويتية، ط1، 1993م، ص137 وما بعدها.
[10]. لا يجرمنكم شنآن قوم: لا يحملنكم ولا يكسبنكم بغض قوم على ألا تعدلوا بينهم.
[11]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجمعة، باب الجمعة في القرى والمدن (853)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر والحث على الرفق بالرعية (4828) بنحوه.
[12]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب الوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالأول (4882).
[13]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التمني ، باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق في الأذان والصلاة والصوم (6830)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية (4871) واللفظ له.
[14]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الزكاة، باب الصدقة باليمين (1357)، وفي موضع آخر، ومسلم في صحيحه، كتاب الزكاة، باب فضل إخفاء الصدقة (2427).
[15]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المظالم، باب نصر المظلوم (2314)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة والأدب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم (6750).
[16]. دراسات في النظام السياسي والمالي في الإسلام، د. عبد الرحمن سالم، دار الثقافة العربية، القاهرة، 2000م، ص11 وما بعدها.
[17]. يجب:أي يقطع ويمحو، ومنه الحديث: "إن الإسلام يجب ما قبله، والتوبة تجب ما قبلها"،أي يقطعان ويمحوان ما كان قبلهما من الكفر والمعاصي والذنوب.
[18]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكيين، حديث كعب بن مالك الأنصاري رضي الله عنه (15836)، والطبراني في المعجم الكبير، باب الكاف، كعب بن مالك الأنصاري عقبي يكنى أبا عبد الله، ويقال أبو عبد الرحمن (174)، وصححه الألباني في فقه السيرة (1/ 146).
[19]. الإسلام كبديل، د. مراد هوفمان، مؤسسة بافاريا، الترجمة العربية، مجلة النور الكويتية، ط1، 1993م، ص143.
[20]. جبى الخراج جباية: جمعه.
[21]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لو كنت متخذا خليلا" (3467) بنحوه، وفي مواضع أخرى.
[22]. النظريات السياسية الإسلامية، د. محمد ضياء الدين الريس، مكتبة دار التراث، القاهرة، ط7، 1976م، ص180.
[23]. دستور أمة الإسلام، د. حسين مؤنس، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1998م، ص159، 160.
[24]. النظريات السياسية الإسلامية، د. محمد ضياء الدين الريس، مكتبة دار التراث، القاهرة، ط7، 1976م، ص110، 111 بتصرف.
[25]. يضارع: يشابه ويماثل.
[26]. النظريات السياسية الإسلامية، د. محمد ضياء الدين الريس، مكتبة دار التراث، القاهرة، ط7، 1976م، ص47، 48.
[27]. نظام الدولة في الإسلام، د. عبد الله جمال الدين، طبعة خاصة، 1998م، ص34 وما بعدها.
[28]. كئود: عقبة كئودأي شاقة المصعد.
[29]. نظام الدولة في الإسلام، د. عبد الله جمال الدين، طبعة خاصة، 1998م، ص39.
[30]. الإسلام وأصول الحكم، د. علي عبد الرازق، تحقيق ودراسة: د. محمد عمارة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ص49، 50.