خطب الجمعة

خطب الجمعة

خطب الجمعة

آثار الذنوب والمعاصي

  إن ارتكاب المعاصيَ له آثار سيئة  على حياة الفرد والجماعة ، لأنّ قوام الحياة وصلاحها إنما هو في الطاعة والاستقامة على أمر الله والتقيد بمنهجه ، وإن الانحراف عن منهجه وعدم طاعته له آثار سيئة منها : نسيان العلم وذهاب الحفظ ، ويا لها من عقوبة ما أقساها على أهل العلم وطلبته ، وذلك أن العلم نور يقذفه الله في القلوب العامرة بطاعته ، والمعصية ظلمة قد علاها حب الشهوات ، ولذلك لما جلس  الإمام الشافعي بين يدي الإمام مالك ورأى بوادر الذكاء والنجابة بادية عليه ، وأعجبه وفورُ عقله وكمال حفظه قال له ناصحا :"إني أرى الله قد ألقى على قلبك نوراً فلا تطفئه بظلمة المعصية " . والشافعي رحمه الله هو القائل :

شكوت إلى وكيع سوء حفظي     فأرشدني إلى تـرك المعاصي

وقـال اعلم بـأن العلـم نورٌ     ونور الله لا يهدى لعاصـي

وقد يتساءل إنسان فيقول: إن فلاناً من الناس قد أُعطيَ حفظا واستحضاراً على فجوره الذي عُرف به في الناس فكيف ذلك؟! إننا نجد الجواب واضحاً في قوله تعالى : ] وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱلَّذِي ءاتَيْنَـٰهُ ءايَـٰتِنَا فَٱنْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ ٱلشَّيْطَـٰنُ فَكَانَ مِنَ ٱلْغَاوِينَ  وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَـٰهُ بِهَا وَلَـٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى ٱلأرْضِ وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ ٱلْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث [ الأعراف 175 .  

يقول الإمام ابن القيم معلقاً: "ففي الآية دليل على أنه ليس كل من آتاه الله العلم قد رفعه به ، إنما الرفعة بالعلم درجة فوق مجرد إتيانه " فكم من فاجر كان حظه من العلم قيل وقالوا  ليكون ذلك حجةً عليه عند الله، دون حقيقة العلم التي تورث الخشية والإنابة .

ومن أعظم آثار المعاصي وأخطرها على العبد الوحشةُ التي تحدثها المعاصي بين العبد وربه ، واستثقال الطاعات ، واستمراء الفواحش ، والاعتيادٍ عليها ، كما تضعف في القلب تعظيم الله وكبرياءه قال ابن القيم رحمه الله : " فإن عظمة الله تعالى وجلاله في قلب العبد تقتضي تعظيم حرماته ، وتعظيم حرماته تحول بينه وبين الذنوب ، والمتجرئون على معاصيه ما قدروا الله حقّ قدره ، وكيف يقدره حق قدره أو يعظمه ويكبره ؛ ويرجو وقاره ، ويجلّه من يهون عليه أمره ونهيه ؟ هذا من أمحل المحال  وأبين الباطل ، وكفى بالمعاصي عقوبة أن يضمحل من قلبه تعظيم الله جل جلاله ، وتعظيم حرماته ، ويهون عليه حقه "  فحياة المرء الحقيقية إنما هي حياة الطاعة ، والشعور بأنه خلع عنه ربقة العبودية للخلق ، وآوى إلى ظلال العبودية الحقة وقد وجد برد الطاعة والإنابة ، وقد أعجبني قول أحد الصالحين: "إنه لتمرّ بالقلب لحظات أقول فيها : إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي خير عظيم ". إنّ في الدنيا جنة لا يدخل جنة الآخرة من لم يدخلها ، إنها جنة الطاعة والعبودية التي يُحرم منها العصاة الفجرة .

ومن آثار المعاصي الحيرة والشقاء وتمزّق القلب في شعاب الدنيا ، وإتباع الشياطين المتربصة على أفواه السبل المنحرفة عن سبيل الحق روى البخاري من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم  خطا مستقيما في الأرض ثم خطَّ خطوطا عن يمينه وشماله ثم قال: ( هذا سبيل الله ، وهذه السبل ، وعلى كل سبيل منها شيطان يدعو إليها) ثم قرأ : ] وَأَنَّ هَـٰذَا صِرٰطِي مُسْتَقِيمًا فَٱتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ [ الأنعام 153 .  ومنها تسليط الأعداء وذهاب القوة ونزع الهيبة من قلوب الأعداء ، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم  قال : ( بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له  وجعل رزقي تحت ظل رمحي ، وجعل الذلة من الصغار على من خالف أمري , من تشبه بقوم فهو منهم ) .

والتاريخ خير شاهد على عجيب تأثير المعاصي في الأمم ، لقد كانت الأمة الإسلامية   أمة موفورة الكرامة ، عزيزة الجانب  مرهوبة القوة ، لكنها أضاعت أمر الله وأقْصت شريعته من حياتها ، فصار أمرها إلى إدبار وعزها إلى ذل ، ولولا أنها الأمة الخاتمة لأصبحت تاريخاً دابراً تحكيه الأجيال . وليس الذي حل بنا ويحل ظلماً من الله كلا وحاشا ، فهو القائل في الحديث القدسي الصحيح: ( يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا ) وإنما هي السنن الربانية النافذة التي لا تحابي أحداً ] إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ [ الرعد11 وقال تعالى : ] ذَٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ [ الأنفال 53 . روى الإمام أحمد في مسنده من حديث ثوبان مرفوعاً: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة على قصعتها ، قلنا: يا رسول الله، أمن قلة منا يومئذٍ؟ قال: أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل  تنـزع المهابة من قلوب عدوكم ، ويجعل في قلوبكم الوهن ، قالوا: وما الوهن؟ قال : حب الدنيا وكراهة الموت ) .

إننا اليوم نئن تحت وطأة الذلّ المسلّط علينا ، وكثير من المسلمين لا يزالون غافلين عن سبب البلاء الذي بيّنه رسولنا  في غير ما حديث صحيح ، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إذا ضنَّ الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعينة ، وتبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله، سلط الله عليهم ذلاً لا يرفعه حتى يراجعوا دينهم) رواه أبو داود وأحمد .

ويقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه : " إننا كنا قوماً أذلة فأعزنا الله بهذا الدين، فإن ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله " . من هنا كانت البداية ، ومن هنا يكون البدء ، ومن تركِنا لديننا كانت بدايةُ رحلة الذلِّ والضياع في تاريخ الأمة الإسلامية ، ومن الرجوع إلى ديننا وتوبتنا إلى ربنا يكون البدء إذا أردنا العودة إلى العزة والشرف المفقود .

 ومن الآثار ظهور الأوجاع الفتاكة وارتفاع البركة من الأقوات والأرزاق.

عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يا معشر المهاجرين، خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن : ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى أعلنوا بها إلا ابتلوا بالطواعين والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولا نقص قوم المكيال والميزان إلا ابتلوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان ، وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ، ولولا البهائم لم يمطروا ، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوا فأخذوا بعض ما في أيديهم ، وما لم تعمل أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم ) رواه ابن ماجه وهو صحيح السلسلة الصحيحة 106 . هذه بعض آثار المعاصي ، وهذه بعض ثمارها ، فهل من تائب منيب ] قُلْ يٰعِبَادِىَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ  [ الزمر 53 .

 

 

 

 

الإنصاف في إصدار الأحكام

قال تعالى : } فاعرض عن من تولّى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم ، إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى {  

وقال r : ( لا يرمي رجل رجلاً بالفسق أو الكفر إلا ارتدعليه ، إن لم يكن صاحبه كذلك ) رواه البخاري .   
 إن اتهام المسلم بأمر منكر بدون دليل من الكبائر ، والتحدث به بين الناس من الغيبة التي حرمها الله ، وشبهها بمن يأكل لحم أخيه ميتاً قال تعالى : } ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكمأن يأكل لحم أخيه ميتا { .

والله سبحانه لم يجعل العصمة إلا للكتاب والسنة وما أجمعت عليه الأمة ، فلا ينبغي أن نتعامل مع أي جماعة على اعتبار أن كل ما يصدر عنهم حق لا يجوز مخالفته ، ولا التخلي عنه ، بل يجب أن يكون شعارنا كل يؤخذ من قوله ويردّ إلا رسول الله r  ومع الأسف فإن هذا الداء فتك بالساحة الإسلامية  وشتت شمل الدعاة ، ومزق صفوفهم ، وكم من رويبضة نال من الأخيار الأبرار ، وملأ الآفاق ضجيجاً وعويلاً ، وكم من خبر قُلبت حقيقته ، أواختلق اختلاقاً ، وما آفة الأخبار إلا رواتها ،  ولا يغرّنك بعض من دخل في صفوف الملتزمين وطلبة العلم من دعاة الفرقة وأهل الفتنة ، فإنما هم مطايا الشيطان وركائبه ، وكم من إنسان يسمع الأمر فيفهمه على غير وجهه  ثم يشيعه على وجه آخر ، وعند البحث والاستقصاء تجده هراء وتفاهات ، فالذين يثيرون الخلاف ، ويسعرون ناره في غيهم سادرون ، وفي تيههم ماضون ، وما علموا أن الأصل في المسلم الخير ، واجتناب اتهام النيات ، والحكم على ما خفي من المقاصد والغايات ، وأن الغلو في الدين سيمة الجهلة    وأصحاب الأهواء، وأهل النفاق كجماعة التكفير والهجرة .  الذين تجاهلوا أن نزعة التشدد ليست من الإسلام في شيء  بل إن الإسلام بريء من الغلو والعنف والتكفير، وما يثيره بعض الجاهلين ، وأهل الأهواء من أن العنف والغلو والتشدد صادر عن منهج الدعوة ، فهو باطل قطعا ، والمتأمل لواقع أكثر  أصحاب التوجهات التي يميل أصحابها إلى الغلو والعنف يجد أنهم يتميزون بالجهل وضعف الفقه في الدين، وضحالة الحصيلة في العلوم الشرعية ، والحكم في الأمور بلا فقه ، ومواجهة الأحداث بلا تجربة ولا رأي ، مما يعود على المسلمين بالضرر البالغ في دينهم ودنياهم ، وهذا يتنافى مع مقاصد الشريعة، وما أمر الله به وأمر به رسول الله r من تحقيق العدل ونفي الظلم والابتعاد عن مظاهر السخط والتذمر ، والحقد والتشفي في النفوس ، وغرس الغل على العلماء والحط من قدرهم .

 ولهذا لا يجوز للمسلم أن يتكلم في غيره إن احتاج إلى ذلك إلا بالعلم والعدل والإنصاف ، وإقامة العدل والإنصاف خلق تواصى به الأنبياء عليهم السلام , وبه وصف الله عز وجل نبيه r وجعله من أصول رسالته فكان عليه السلام يدعو الله بهذه الكلمات: ( وأسألك كلمة الحق في الرضا والغضب ) .

 ووصى الله تبارك وتعالى المؤمنين بالعدل وإنصاف الآخرين  وإن كانوا ألد أعدائهم فقال } يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على إلا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى { المائدة 8 .

ومنهج أهل السنة والجماعة هو الأصل في كل ما يلزم المسلم لصلته بالله أوصلته مع الناس , وهذا المنهج الذي يستمد شرعيته في الفهم والاستدلال من الكتاب والسنة ؛ فكل من كان أقرب إلى هذا المنهج فهو الأقرب إلى الحق . ومن تطبيقات هذا المنهج الإنصاف في الحكم على الآخرين , ولو كان مخالفاً في الدين والاعتقاد , أو المذهب والانتماء , وقبول الحق إذا جاء به أحد منهم , فليس من العدل رد الحق لكون صاحبه على خطأ أو باطل , فهما أمران غير متلازمين . قال معاذ بن جبل رضي الله عنه : " اقبلوا الحق من كل من جاء به   وإن كان كافرا ً أو فاجرا ً , واحذروا زيغة الحكيم , قالوا : كيف نعلم أن الكافر يقول الحق ؟ قال : على الحق نور " .

 علينا أن نلزم أنفسنا بما ألزمنا الله به من العدل والإنصاف   فالعدل منهج شرعي في كل شيء , لذا ينبغي للمسلم إذا وصف غيره ألا يُغفل المحاسن لوجود بعض المساوئ , كما لا ينبغي أن يدفن المحاسن ويذكر المساوئ لوجود عداوة أو شحناء بينه وبين من يصفه , فالله تعالى أدبنا بأحسن الأدب وأكمله بقوله } ولا تبخسوا الناس أشياءهم { وحين نجد من يذم غيره ويذكر مساوئه فقط ، ويغض الطرف عن محاسنه , فإن ذلك يرجع إلى الحسد والبغضاء , أو إلى الظنون والخلفيات والآراء المسبقة , أو إلى التنافس المذموم بين المتقاربين في الفضائل ، وقد ذكر ابن تيمية رحمه الله قاعدة ذهبية , استخلصها من مجمل نصوص الكتاب والسنة فقال : " إذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر , وبر وفجور ، وطاعة ومعصية , وسنة وبدعة , استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير , واستحق من المعاداة والعقوبة بحسب ما فيه من الشر "  

 فما أحوجنا إلى استصحاب هذه القاعدة في تقويمنا للأشخاص والأفكار ، لكل من ينتسب إلى هذا الدين , فكل من تصدى للعمل والدعوة والجهاد في هذا الدين نزنه بميزان هذا الدين الذي لا يعرف الشطط ولا التطفيف ولا الميل , ومن هنا ندرك أننا لسنا أمام مواقف مطلقة ولا أحكام مسبقة , فطالما أجهزت المواقف المرتجلة على روح الحقيقة , وأصابت من مبدأ الولاء والبراء مقتلاً .

ولذلك اعتُبر الإنصاف علامة من علامات الإيمان , قال عمار بن ياسر رضي الله عنه : " ثلاث من جمعهن فقد جمع  الخير الإنصاف من نفسك , وبذل السلام للعالم , والإنفاق من الإقتار " يقول ابن القيم : " وقد تضمنت هذه الكلمات أصول الخير وفروعه , فإن الإنصاف يوجب عليه أداء حقوق الله كاملة , وأداء حقوق الناس كذلك , وأن لا يطالبهم بما ليس له  ويعاملهم بما يحب أن يعاملوه به , ويحكم لهم وعليهم بما يحكم لنفسه وعليها , ويدخل في هذا إنصافه نفسه من نفسه , فلا يدعي لها ما ليس بها , ويُنميها ويرقيها بطاعة الله تعالى وتوحيده وحبه وخوفه " ،  والإنصاف يستجلب مودة الآخرين   ويثبت ما كان منها بين الإخوة , يقول الأحنف بن قيس : " الإنصاف يثبت المودة " . أما الظلم والجهل وسوء القصد فهو الطريق إلى التنازع والفرقة والقطيعة بين أهل المنهج الواحد   بل بين ذوي الرحم الواحد

ولم تزل قلة الإنصاف قاطعة    بين الرجال وإن كانوا ذوي رحم

وفي سير ة النبي r وصحابته وسلف الأمة وعلمائها الشواهد الكثيرة ، الدالة على قيامهم لله بالشهادة أحسن قيام  وإعطاءهم كل ذي حق حقه , فلم يكن انتماء أحد أو مكانته لتحول دون أن ينزل منزلته , ويذكر ما فيه من محاسن وميزات . فقد قال النبي r كلمته في لبيد بن ربيعة الشاعر وكان وقتئذِ كافراً : أصدق كلمة قالها شاعر " ألا كل شيء ما خلا الله باطل "   وكان بإمكان النبي r أن يثني على شعر بعض أصحابه المملوء حكمة وإيماناً ونصرة لدين الله , غير أن الإنصاف والالتزام بالحق وإعطاء كل ذي حق حقه ، أبى إلا أن يقول كلمته تلك في شاعر كافر لم يسلم بعد , بل نرى في القصة نفسها أن أصحاب النبي r سلكوا المسلك نفسه في إنصاف الآخرين  فعندما أنشد لبيد شطر البيت الأول ( ألا كل شيء ما خلا الله باطل ) قال عثمان بن مظعون رضي الله عنه  : صدقت   وعندما ذكر شطر البيت الثاني ( وكل نعيم لا محالة زائل ) قال : كذبت , نعيم الجنة لا يزول .

 وعلى منهج النبي r في إنصاف الآخرين وإقامة العدل سار الصحابة رضي الله عنهم في خصومهم وأعدائهم , فضلاً عن إخوانهم , فعندما قاتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه الخوارج وقاتلوه ثم قتلوه , قال له بعض أصحابه : أمشركون هم ؟ , قال : من الشرك فروا , فقالوا : أمنافقون ؟ قال : إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً , فقيل : فما هم يا أمير المؤمنين , قال : إخواننا بغوا علينا , فقاتلناهم ببغيهم علينا " فهل بعد إنصاف أمير المؤمنين من إنصاف ؟  

فمن يتكلم بغير علم فهو مخالف للكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح مخالف لقوله تعالى } : ولا تقف ما ليس لك به علم { الإسراء 36 . ومن يتكلم عن غيره بظلم وجور فقد خالف قوله تعالى : }  ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا { المائدة 8 .  والكلام في الآخرين بدون علم أو بظلم وهوى ، سبب لكثير من تفرق القلوب وحدوث الشحناء والتباغض والحسد , وكل هذا سبب في الفشل وذهاب الريح وتسلط الأعداء .

إن السبب في ذلك كله راجعٌ إلى الخلل في التربية وأسلوب التلقي , وغياب المنهج النبوي في تقييم الأشخاص والأعمال   فما غاب هذا المنهج إلا كان البديل ، الاتهام وسوء الظن وغمط الحقوق والتثبيط ، وجروح نفسية يستعصي علاجها  ونوع مذموم من السلوك فتكون النتيجة كما قال الله تعالى :  } كلما دخلت أمة لعنت أختها { الأعراف 38.

 

 

 

 

الانتخابات النيابية

إن ديننا الإسلامي دين نظام وجماعة منظمة في كل أمورها ، وكما قال الفاروق عمر : " لا إسلام بلا جماعة  ولا جماعة بلا إمارة ، ولا إمارة بلا طاعة " والرسول صلى الله عليه وسلم يقول في شأن أقل جماعة تختط لها طريقاً: ( إذا كنتم ثلاثة فأمّروا أحدكم ) أميركم الذي يقودكم ، ويقضي شأنكم ويجمع أمركم إذا اختلفتم ، أما كيف يؤمّرونه إنه باختيار أحدهم ، والاختيار هو انتخاب ، أمّا كيف ينتخبون فلم يُبيّن لنا آليّة ذلك ، بل تركه لهم بتداول الأمر وممارسة التشاور ، ثم اختيار الأمير سراً أو جهراً ، وهذا دليل على مشروعيّة آليّة الترشيح والانتخاب بالتصويت : سواء بالانتخاب السري أو العلني أو ترشيح أحدهم نفسه  وموافقتهم له أو ترشيح أحدهم لأحدهم وموافقتهم عليه   والمشاركة في المجالس المنتخبة مثار خلاف وجدل فيما يتعلق  بمشروعيتها  لأن هذه المجالس تعني في النظام الديمقراطي حكم الشعب للشعب ، فكان الأصل عدم جواز الدخول فيها ، لأن التشريع من أهم أعمالها ، ومن التشريع ، سن القوانين التي تُلزَم بها السلطتان التنفيذية والقضائية . وبما أن مصداقية التشريع ومرجعيته يجب أن يستند إلى دليل شرعي منبثق من العقيدة الإسلامية ، فقد اختلفت الآراء في الحكم الشرعي للانتخابات ، فمنهم من أجاز ومنهم من قال بعدم الجواز . 

يقول فضيلة الشيخ فيصل مولوي نائب رئيس المجلس الأوربي للبحوث والإفتاء : الانتخابات وسيلة معاصرة لمعرفة رأي الناس في اختيار ممثليهم الذين ينوبون عنهم في المسائل التشريعية ، وفي اختيار الحكومة وإعطاء الثقة لها أو نزعها منها ، ووجهة النظر الشرعية فيها تنبثق من أن المسلم الذي يعيش في أي مجتمع كان سواء كان هذا المجتمع إسلاميا خالصا أو غير إسلامي وفيه أقليات إسلامية ، فالمسلم إذا تخلف عن مثل هذه المشاركة فقد قصّر في القيام بواجبه الشرعي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه ) والتغيير باللسان لا يعني تغييرا فعليًا ، إنما يعني إنكار المنكر .

 وبما أن هذه الأنظمة موجودة ونحتكم إليها بالفعل ، فهل يجوز للمسلم أن يشارك ويدخل في هذه المجالس التشريعية 

أفتى الشيخ الألباني بعدم جواز الترشيح للدخول في المجالس النيابية ، معللاً ذلك بأنها مجالس تحكم بغير ما أنزل الله ، وبأن النائب قد يفتتن في دينه ويتنازل عن الحق   يقول ذلك من باب أنه خلاف الأولى ، بدليل أنه يرى أن الشعب المسلم ، عليه أن ينتخب المرشحين (الإسلاميين) فقط إذا تقدَّم إلى الترشيح مَن يُعادي الإسلام ، ويتضح ذلك في جوابه على الأسئلة المقدمة إليه من جبهة الإنقاذ الجزائرية : عندما قال: "ولكن لا أرى ما يمنع الشعب المسلم إذا كان في المرشحين مَن يُعادي الإسلام ، وفيهم مرشحون إسلاميون فننصح- والحالة هذه- كل مسلم أن ينتخب من الإسلاميين فقط ، مَن هو أقرب إلى المنهج الصحيح ، وإن كنت أعتقد أنَّ هذا الترشيح والانتخاب لا يحقق الهدف المنشود ، ولكن من باب خلاف الأولى  باب تقليلِ الشر ، أو من باب دفع المفسدة الكبرى بالمفسدة الصغرى كما يقول الفقهاء".

والقول بمشروعية الدخول إلى المجالس التشريعية والوصول إلى الولايات العامة عن طريق الانتخاب ، هو قول كثير من علماء السلفية المعاصرين والسابقين ، وفيما يلي بعض آراء أهل العلم الذين أيدوا المشاركة ورأوا فيها صالح العباد والبلاد :  فهذا العلامة الشيخ السعدي يقول في تفسيره (تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان) عند قوله تعالى: ﴿قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ﴾ هود91. إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أصول ديننا الإسلامي، ووسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تتنوع وتختلف باختلاف الزمان والمكان   وإن إعانة المرشح الصالح في الانتخابات ، وإقصاء الفاسد عن ذلك من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر  فعلى المترشح أن يتقي الله في المسئولية المناطة به ، وفي الأمانة التي يحملها ، وعلى الناخبين أن يراعوا توافر الشروط الشرعية في المرشح وعلى ضوئها يكون التأييد أو الإقصاء   وإن تقديم المرشح نفسه من خلال برنامجه الانتخابي خلاف الأولى وليس محرماً ، كما أن الانتخاب أو التصويت هو أمر بمعروف ونهي عن المنكر، وشهادة ينبغي أن تقوم بالحق ، وأن يكون فيها تقوى الله سبحانه وتعالى  أما وقد جاء في هذه الوسائل ما يقدم فيها المرء نفسه ويذكر للناس ما يعرف ببرنامجه أو ما يريد أن يفعله لهم  وقد تكون هناك صور أخرى أنسب أو أوجه منه ، فإنا نقول : هذه الصورة في ذاتها ليست محرمة ، وإن كانت النصوص قد يكون فيها ما يدل على أن هناك ما هو أولى   إلا أن قول الله سبحانه وتعالى في قصة يوسف عليه السلام : ) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ( يوسف 55.   فيه إشارة إلى أن من وجد في نفسه كفاءة لأمر يرى أنه يحقق فيه للمسلمين مصلحة فلا بأس أن يتقدم له ، وأن يذكر ما عنده فيه ، فإن يوسف عليه السلام لما علم ما علم من شأن الرؤيا التي أراه الله إياها ورأى أن للناس مصالح وهو قادر عليها قال: ) اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ ( فطلب الولاية وكذلك بين ما لديه من قدرات فقال: ) إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ( ومن هنا فإن الجمع بين هذا وهذا يرجى أن يكون واضحاً ، وأنَّ ذكر ما يعمله الإنسان أو ما عنده من علم ، إنما هو باب من الأبواب التي فيها اجتهاد بين الجواز أو المنع عند بعضهم  أو رؤية غير ذلك أولى ، لكن الأمر المهم في وجوب ذلك أو جوازه ، هو أن لا يكون مظنةً أو مدخلاً إلى الغرور والاغترار ، والإعجاب بالنفس والاستكبار ، أو طلب الشهرة بين الناس ونسيان المقصد الأعظم ، وهو أنه يريد أن يقوم بواجب وأن يؤدي أمانة وأن يتحمل مسئولية ، وأن يكون وكيلاً عن الناس في تحقيق مصالحهم . فلا يلتفت المرء عن مثل هذا لمثل ذاك  فإن من فعل فإنه أساء   وأخطأ ، ولذلك ينبغي أن ندرك أن من يتصدى لذلك  فإن عليه أن ينتبه إلى الأمانة ، فإن كل مسئولية صغرت أو كبرت فهي أمانة وينبغي أن نتذكر قول الله تعالى : ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( الأنفال 27. وأن يعلم أن الأمانة العظمى ومثلها الأمانات الأخرى مسئول عنها قال تعالى: ) إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (الأحزاب 72 . وأن ندرك أيضاً أنه يؤدي واجبه ، وأنه بعد ذلك مسئول بين يدي الله سبحانه وتعالى عما استأمنه الله عليه وعما ولاه الله إياه كما قال صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)   وكذلك أن يدرك المسئولية وأنها عظيمة ، وأن الله سبحانه وتعالى قال : ) كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ( المدثر 38 . أي : مرتهنة بعملها إن أحسنت أعتقت نفسها وإن أساءت أوبقت نفسها ، كما قال صلى الله عليه وسلم: (كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها) إما أن يعتقها من النار ومن العذاب بأن يؤدي الواجب ويحفظ الأمانة ، ويقوم بقدر استطاعته بما ينبغي عليه القيام به، وإما أن يفرط فيوبقها ويلجمها بالإثم ويستحق بذلك العقاب .

فنظام الانتخاب أو التصويت في نظر الإسلام شهادة للمرشح بالصلاحية ، ويجب أن يتوفر في صاحب الصوت ما يتوفر في الشاهد من العدالة والثقة والمسؤولية فالصوت الانتخابي أمانة والله سيسأله أحفظ الأمانة وقام بحقها أم ضيع وفرط وخان ؟ سيسأله إذا أعطى صوته لهذا ومنعه عن هذا ، لِمَ منح ولِمَ منع ؟ لأن صوته ربما يحدّد مصير قضيّته، ومستقبل أمته .

 أما بالنسبة للناخب أن يكون الاختيار ، مبنياً على أساس إسلامي ومنهج قرآني وهدي نبوي ، لأن انتخاب من لا يصلح مع العلم بذلك تُعَد من شهادة الزور وهي من أكبر الكبائر كما جاء في الحديث الشريف قال عليه السلام: (أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ثَلَاثًا قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الْإِشْرَاكُ بِاللَّه وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا فجلس فَقَال: أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ قَالَ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ) . وأن يكون الأرضى لله تعالى لأن انتخاب من لا يصلح خيانة : لما جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من وَلَّى على عصابة رجلاً وهو يجد من هو أرضى لله منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين ) ثم تأتي بعد ذلك الكفاءة من العلم والخبرة بالمنصب الذي سيتولاه ، وقد استنتج العلماء هذين الشرطين من قوله تعالى : ) إن خير من استأجرت القوي الأمين ( قال السعدي في تفسيره : أي : القوة والقدرة على ما استؤجر عليه ، والأمانة فيه بعدم الخيانة . وهذان الوصفان ينبني عليهما الإنجاز في كل من يتولى أمراً من الأمور في إدارة أو غيرها ، فإن الخلل يكون بفقدهما أو فقد أحدهما  وأما باجتماعهما فإن العمل يتم ويكمل ، فلابد من أن ننظر إلى من يقدر وإلى من يظن أنه يستطيع أن يقوم بالمهمة على وجه حسن ، وأن ننظر إلى ديانته وأمانته وصدقه وإخلاصه فيما نرى وفيما نجتهد ؛ لأن من لا يقصد وجه الله عز وجل ويخلص له قد يُفتن وقد يَفتن   وقد ينصرف إلى حظ نفسه  وقد يغلب مصالحه   وقد يضيع أمانته ويفرط في مسئوليته .  وهذا الاستنباط من الآية الكريمة على القاعدة الفقهية "ارتكاب أخف الضررين " فلئن يسعى المسلمون ليكون لهم شركة في الحكم مع الكفار يصونون بذلك أعراضهم وأموالهم ويحمون دينهم ، خيرًا ولا شكَّ مما أن يعيشوا تحت وطأة الكفار بلا حقوقٍ تصون شيئًا من دينهم وأموالهم ، وهذا النظر والفهم هو ما ارتضاه وأفتى به شيخ الإسلام ابن تيمية ولا شكَّ أنَّ هذا هو الفهم والفقه الذي لا يجوز خلافه ، فالمسلم إذا خير بين مفسدتين عليه أن يختار أدناهما إلى أن يأذن الله سبحانه وتعالى برفع المفسدة كلها ويكون للمسلمين حكمهم الخالص الذي لا يُشركهم فيه غيرهم ، ولا يخالطهم فيه سواه .

 وهـذا ما أفتى به الشيخ عبد العزيز بن باز ، بأنه يشرع الدخول إلى المجالس الانتخابية من أجل إحقاقِ الحق   والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى  وقد نقلت فتواه مجلة لواء الإسلام العدد الثالث سنة 1989م  ونقلها عن المجلة الشيخ مناع القطان في كتاب (معوقات تطبيق الشريعة الإسلامية) وقد جاءت جوابًا لسائل يسأل عن شرعية الترشيح لمجلس الشعب ، وحكم الإسلام في استخراج بطاقة انتخابات بنية انتخاب الدعاة والإخوة المتدينين لدخول المجلس فأجاب سماحة شيخنا قائلاً : "إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى )  لذا فلا حرجَ في الالتحاقِ بمجلسِ الشعبِ إذا كان المقصود من ذلك تأييد الحق ، وعدم الموافقة على الباطل لما في ذلك من نصر الحق ، والانضمام إلى الدُعاة إلى الله . كما أنه لا حَرَجَ كذلك في استخراج البطاقة التي يُستعان بها على انتخابِ الدُعاة الصالحين ، وتأييد الحق وأهله ، والله الموفق" .  وبهذا أيضًا أفتى الشيخ محمد صالح العثيميين شفاهةً لعددٍ كبيرٍ من الإخوة طلاب العلم الذين سألوه عن حكم الترشيح للمجالس النيابية ، فأجابهم بجواز الدخول وقد كرر عليه بعضهم السؤال مع شرح ملابسات الدخول إلى هذه المجالس ، وحقيقة الدساتير التي تحكم وكيفية اتخاذ القرار فكان قوله في ذلك"ادخلوها أتتركوها للعلمانيين والفسقة ؟   وهذه إشارة منه إلى أن المفسـدة التي تتأتى بعدم الدخول أعظم كثيرًا من المفسدة التي تتأتى بالدخول إن وجدت .

وقال الشيخ يوسف القرضاوي : بأن الإسلاميين من قديم شاركوا في الانتخابات ورشحوا أنفسهم ولم يفوِّتوا فرصة إلا وانتهزوها وفي الجزء الثالث من كتابه «فتاوى معاصرة» (ص 425) أجاب على سؤال وجه إليه حول جواز المشاركة في حكم غير إسلامي ، والمقصود هنا نظام في بلد إسلامي لا يلتزم بالتطبيق الكامل للشريعة الإسلامية ، فقال إن الأصل ألا يشارك المسلم إلا في حكم يستطيع فيه أن ينفذ شرع الله ، فيما يوكل إليه من مهام الولاية وألا يخالف أمر الله تعالى ورسوله  الذي يجب أن يخضع لهما بمقتضى إيمانه . وإذا كان الأصل تحريم التعاون مع الذين ظلموا ، إلا أن هناك حالات يخرج فيها عن الأصل لاعتبارات يقدرها الشرع قدرها ، ومن الاعتبارات التي وجدها الشيخ القرضاوي مسوغة للخروج على ذلك الأصل ، بأن تقليل الشر والظلم مطلوب بقدر الاستطاعة   وان العلماء أقروا بارتكاب أخف الضررين أو أهون الشرّين دفعاً لأعلاهما ، إلى جانب أن الضرورات تبيح المحظورات، ثم إن سنة التدرج التي هي من سنن الله في خلقه ، تقتضي أن يبدأ الشيء صغيراً ثم يكبر . واشترط توفر عدة شروط في مثل تلك المشاركة ، أولها أن تكون حقيقية وليست وهمية ، حتى لا يصبح الطرف المسلم مطية لغيره ، وألا يكون النظام موسوماً بالطغيان والعدوان على حقوق الإنسان ، إذ المفترض في هذه الحالة أن يقاوم المسلمون ذلك الوضع لا أن يكونوا عوناً له ، وأن يكون للمسلم حق معارضة ما يخالف الإسلام أو التحفظ عليه . وأخيراً اشترط الشيخ أن يقدم المسلمون تجربتهم في هذا الصدد بين الحين والآخر، لكي يتحققوا من أن المشاركة حققت مصلحة للمسلمين أو قللت ضرراً، ولم تتسبب في مفسدة من أي نوع .

أما موضوع شراء الأصوات وهل يجوز للمرشح نفسه للمجلس النيابي أن يشتري أصوات الناخبين بقصد الفوز في الانتخابات على منافسيه في المنطقة الانتخابية  وهل يجوز بيع هذه الأصوات من قبل الناخبين إلى المرشحين بمبلغ معين لأجل الإدلاء بأصواتهم إلى المرشحين ؟

فقد أجابت الهيئة العامة للفتوى بوزارة الأوقاف الكويتية : بأنه لا يجوز للناخب أخذ مبلغ من المال أو هدية مقابل إدلاءه بصوته لأي مرشح لأن التصويت أمانة بمقتضاها يختار الأكفأ ، ليقوم بما أسند إليه خير قيام وقد ورد في الحديث الصحيح أن النبيصلى الله عليه وسلم قال ( إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة ، فقيل وما تضييعها ؟ قال : إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة ) ولذلك فعلى الناخب أن يختار من يعتقد أنه أقوى من غيره وأكثر أمانة ولا يجوز له شرعًا أن يختار الأضعف أو الأقل أمانة لمجرد قرابة أو مصلحة خاصة يحصل عليها منه  وأن المرشح الذي يقدم هدايا هو راشٍ وغير أمين ويعتبر هذا كافيا لعدم انتخابه... والله أعلم . والرشوة قتل لكرامة الإنسان وعزته ، فهي استرقاقٌ بعد حرية  وذل بعد عزة  ومهانة بعد رفعة ، وبعد هذا كله فالراشي ملعون والمرتشي ملعون متوعد بالنار والعياذ بالله لقول الرسول صلى الله عليه وسلم ( لعن الله الراشى والمرتشى والرائش الذى يمشى بينهما )  فهذه المعصية وهذا المنكر أصبح وللأسف يروج له عبر مبررات باطلة وحجج واهية ، حتى أخذ البعض يسوغ كل هذا الأمر فتارة يسمونها هدية وتارة مساعدة وتارة مكافأة ، ونحن نعلم أن المنكر يبقى منكرًا ولو غيرت أسماؤه قال صلى الله عليه وسلم : ( ليشربن أناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها ) رواه احمد وابو داود فتغيير اسم الخمر لا يغير من حرمة هذا المنكر شيئا وهكذا الرشوة فتغيير اسمها لا يغير من حقيقتها شيئا  ، فقد أصدرت الأوقاف الكويتية فتوى أكدت فيها حرمة قيام أي من المرشحين "بإغراء الناخبين لانتخابه بالمال أو أية منفعة أخرى"  مؤكدة أن ذلك يعد "رشوة منهيا عنها وملعونا من اقترفها". كما أكدت الفتوى على عدم جواز قيام المرشح بأخذ عهد أو ميثاق أو قسم علي الناخب بأن يعطيه صوته .

ومن المنكرات القبيحة التي تحصل أيام الانتخابات ، ما يقوم به بعض الناس من الحلف والقسم على إعطاء الصوت لرجل معين أو جعل المصحف أداة لتأكيد القسم   وهذا من اتخاذ آيات الله هزواً وجعل الرب جل وعلا عرضة لأمور دنيوية تافهة ، فالله عز وجل شأنه عظيم  والحلف به في كل صغيرة وكبيرة ليس من تعظيم الله  ولا هو من حفظ اليمين التي أمر الله بها في قوله: ) واحفظوا أيمانكم ( المائدة 89 . 

 

 

 

 

 

الثقة بالله وكيف نبني الثقة فيمن حولنا

 الثقة  أعظم باعث لاستقرار النفس وثباتها وهدوئها ، فالإنسان لا يختار صديقاً يماشيه ويؤاخيه ويسليه ويواسيه ، إلا إذا وثق به واطمأن إليه ، ولا يختار زوجة يبث إليها شكواه وآماله وآلامه   إلا إذا وثق بها واطمأن إليها ، ولا يخبرك أحدٌ بهمومه وأحاسيسه ، إلا إذا وثق بك واطمأن إليك .

إن كل إنسان يستطيع أن يميز بين من يثق به ومن لا يثق به  ويستطيع أن يقارن بين من يقدر الأمور ، ويزنها بميزان صحيح   وبين من لا يستطيع ذلك  .

فالثقة مطلب أساسي من مطالب الحياة ، فلولاها ، لما صحت أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولما قبلت الشهادات وحررت العقوبات ، ولضاعت الحقوق وسلبت الممتلكات ، ولحصلت الخصومات ، وتفرقت الجماعات .

 ولولا الثقة لما أخبر الولد والده بما يتعرض له من مشكلات أو مضايقات ، ومن كان من أهل الثقة بالله ، تراه دائماً هادئ البال ، ساكن النفس إذا ما تعرّض لابتلاء ، لأنه يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه ، ولسان حاله ] قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [ التوبة51 . والثقة بالله هي خلاصة التوكل على الله ، وهي قمة التفويض إلى الله قـال تعـالى : ] وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [ غافر44 .

إنها الاطمئنان القلبي الذي لا يخالطه شك ، والتسليم والاستسلام المطلق لله عز وجل ، إنها كما قال شقيق البلخي : " أن لا تسعى في طمع ، ولا تتكلم في طمع  ولا ترجو ولا تخاف دون الله سواه ، ولا تخشى من شيء سواه ، ولا يحرك من جوارحك شيئاً دون الله " يعني في طاعته واجتناب معصيته   وقال بعض السلف : " صفة الأولياء ثلاثة : الثقة بالله في كل شيء ، والفقر إليه في كل شيء ، والرجوع إليه من كل شيء"  

وها هو إبراهيم عليه السلام يضع زوجته وابنه في واد غير ذي زرع ، في صحراء خالية لا ماء ولا طعام ولا جيران ، واثقاً بأن الله لن يضيعهم ، فتقول زوجته يا إبراهيم لمن تتركنا ؟ لمن تدعنا يا إبراهيم ؟ فلم يجب فقالت : يا إبراهيم! ءآلله أمرك بهذا ؟ فأشار : نعم ، قالت : إذا لن يٌضيعنا ، إنها الثقة .     

وها هي أم موسى التي لقنها الله تعالى بقوله : ]وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [ القصص 7 . فلولا ثقتها بربها ، لما ألقت ولدها وفلذة كبدها في تيار الماء  .

 وتتجلى هذه الثقة عند موسى عليه السلام  ، لما انطلق ومن معه من بني إسرائيل ، هارباً من كيد فرعون ، وقد تبعهم فرعون وجنوده بغياً وعدوناً ، فقال قوم موسى وهم خائفون    إنا لمدركون ، فرعون وجنوده من خلفنا ، والبحر من أمامنا  لكن موسى عليه السلام الواثق بالله وبمعية الله ، أراد أن يبعد الخوف عن قومه ، لتحل مكانه السكينة والطمأنينة ، فأجاب بلسان الواثق : ] كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء62 . إن معي ربي يساعدني ويرعاني ويحفظني ولن يسلمني ، فما كان جزاء هذا الثقة العظيمة ؟ كان الفرج من الله تعالى : ] فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [ الشعراء  63.

ونجى الله موسى وبني إسرائيل من كيد فرعون  . 

وقد تجلت هذه الثقة بالله في سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فقد كان سيد الواثقين بالله وهو في الغار ، والكفار بباب الغار ، عندما قال أبو بكر : يا رسول الله ! والله لو نظر أحدهم تحت قدمه لرآنا   فقال صلى الله عليه وسلم  بلسان الواثق بالله : يا ابا بكر ! ما ظنك باثنين الله ثالثهما ، لا تحزن إن الله معنا ، وعندئذ تنجلي قدره الله ، فيرد قوي الشر والطغيان ، بأوهى الأسباب ، بخيوط العنكبوت . وها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقن الأُمة درساً في الثقة بالله ، وهو يقول لابن عباس : ( احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله  واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله تعالى لك . وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء ، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك   رفعت الأقلام وجفت الصحف )  رواه الترمذي .

 وفي رواية غير الترمذي: ( احفظ الله تجده أمامك ، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك ، وما أصابك لم يكن ليخطئك  )  فالمسلم الواثق بالله يُوقن بأنّ الله لن َيتركه ولن يُضيعه ، ولو تخلى عنه كل من في الأرض ، فثقته بما عند الله أكبر من ثقته بما عند الناس  .

قيل لإبراهيم بن أدهم : ما ِسرّ زهدك في هذه الدنيا فقال أربــع : علمت أن رزقي لا يأخذه أحد غيري ، فاطمأن قلبي ، وعلمت أن عملي لا يقوم به أحد سواي فانشغلت به  .

وعلمت أن الموت لا شك قادم ، فاستعديت له  ، وعلمت أني لا محالة واقف بين يدي ربي ، فأعددت للسؤال جواباً .

وقال عامر بن قيس : ثلاث آيات من كتاب الله استغنيت بهن على ما أنافيه  ، قرأت قول الله تعالى : ] وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ [ الأنعام17. فعلمت وأيقنت أن الله إذا أراد بي ضر ، لم يقدر أحد على وجه الأرض أن يدفعه عني ، وإن أراد أن يعطيني شيئاً ، لم يقدر أحد أن يأخذه مني ، وقرأت قوله تعالى : ] فاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ [البقرة 152. فاشتغلت بذكره جل وعلا عمّا سواه ، وقرأت قوله تعالى : ]وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ [ هود6 . فعلمت وأيقنت وازددت ثقة ، بأن رزقي عند الله ، لن يأخذه أحد غيري  .  

ومن أنواع الثقة الثقة بثواب الله ، فالمسلم يعتقد أن أي خطوة يخطوها في سبيل الله ، وأي تسبيحه أو تحميده أو صدقه أو أي حركة يتحركها لعز الإسلام ، فسيكتب الله له الأجر على ذلك  : ] ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ  [ التوبة120.

وإذا كنا واثقين كل الثقة فيما عند الله من جزاء وجنة ونعيم   فلماذا لا نعمل لننال ذلك الجزاء . قال الربيع بن خيثم: " إن الله تعالى قضى على نفسه ، أن من توكل عليه كفاه ، ومن آمن به هداه ، ومن أقرضه جازاه ، ومن وثق به نجّاه ، ومن دعاه أجاب له دعاه " وتصديق ذلك في كتاب الله : ] وَمَن يُؤْمِن بِٱللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [ التغابن 11 . وقوله تعالى : ] وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [ الطلاق 3 . وقوله : ] إِن تُقْرِضُواْ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَـٰعِفْهُ لَكُمْ [ التغابن 17 وقوله : ] وَمَن يَعْتَصِم بِٱللَّهِ فَقَدْ هُدِىَ إِلَىٰ صِرٰطٍ مّسْتَقِيمٍ [ آل عمران:101 وقوله : ] وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [ البقرة 186.

ذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم قصة أوردها البخاري في صحيحه ،  تؤكد ضرورة الثقة المطلقة بالله ، والاعتماد عليه وحده ، والاعتصام به في كل ما يصيبه ، إنها قصة رجل يُقرض أخًا له مالا ً,  وهذا المقرض يقدم ماله في ظرف صعب ، حيث لا شاهدَ ولا كفيل من الناس , ولكنه مع ذلك يقدم ماله راضيًا ،  ثقةً بالله  شاهدًا وكفيلا . روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : ( ذكر رسول  صلى الله عليه وسلم رجلاً من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يُسلِفَه ألفَ دينا ر فقال: ائتني بالشهداء أشهدهم قال : كفى بالله شهيدًا قال : فأتني بالكفيل قال : كفى بالله كفيلا قال : صدقت ، فدفعها إليه إلى أجل مسمى ، فخرج في البحر فقضى حاجته , ثم التمس مركبا يقدم عليه في الأجل الذي أجّله ، فلم يجد , فاتخذ خشبة فنقرها , فأدخل فيها ألف دينار وصحيفة منه إلى صاحبه , ثم زجج موضعها ، ثم أتى بها إلى البحر ، ثم قال : اللهم إنك تعلم أني تسلّفت من فلان ألف دينار ، فسألني شهيدا  فقلت : كفى بالله شهيدا   فرضي بك شهيدا , وسألني كفيلا فقلت : كفى بالله كفيلا  فرضي بك كفيلا , وأني جَهِدت أن أجد مركبا فلم أجد  وإني استودعتكها ، فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه , ثم انصرف ، وهو في ذلك يلتمس مركبا يخرج إلى بلده   فخرج الرجل الذي كان أسلفه ، ينظر لعل مركبا قد جاء بماله , فإذا بالخشبة التي بها المال , فأخذها لأهله حطبا , فلما نشرها وجد المال والصحيفة , ثم قدِم الذي كان أسلفه   فأتى بألف دينار وقال : مازلت جاهدا في طلب مركب لآتيك بمالك ، فما وجدت مركبا قبل الذي أتيت فيه قال : هل كنت بعثت إليّ بشئ ؟ قال : أخبرك أني لم أجد مركبا قبل الذي جئت فيه قال : فإن الله تعالى قد أدى عنك الذي بعثت في الخشبة فانصرَف بالألف دينار راشدًا  ) .

 أما كيف تبني الثقة فيمن حولك ، زوجتك ، أبناؤك   إخوانك  ، أخواتك ، أنت بحاجة أن تجعل منهم أفرادا نافعين لدينهم وأمتهم ، فلا بد من خطوات لبناء الثقة بينك وبينهم    الأولى : علّقهم بالله ، فمن تعلق بشيء وُكل إليه ، وما أعظم أن يوكل الإنسان إلى ربه ، وعلّمهم كيف يحسنون التعلق بالله  وذلك بالفزع إليه  ، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما ، وكان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة ، وكان إذا همّ بالأمر صلى لذلك الاستخارة .

 الثانية : اشحذ همّتهم ، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ك يا عمر ! ما رآك الشيطان سالكاً فجّاً إلا سلك فجّاً آخر  ، وهكذا صار عمر الأمير والخليفة الملهم ، وفي يوم بدر ، فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ، وعندما قال صلى الله عليه وسلم : من يقاتلهم وله الجنة فقال عمير : بخ .. بخ إنها لحياة طويلة حتى آكل هذه التمرات .

 الثالثة : عزز جانب النقص فيهم ، روي أن عبد الله بن مسعود الفتى النحيل والصحابي الجليل وهو يصعد على شجرة  فتتلاعب الريح بساقيه ، فيضحك بعض الصحابة من دقّة ساقيه   فيقول صلى الله عليه وسلم : أتضحكون من دقة ساقيه ؟ والله إنها عند الله أثقل من جبل أحد ، يريد أن يعلمنا كيف نعزز جانب النقص فيمن حولنا ، خصوصاً إذا كان النقص نقصاً فطريّاً جبليّاً ، عزّزه بما يكمله ، فرسول الله  صلى الله عليه وسلم لا يريد أن يخبرنا أن وزن ساقي ابن مسعود أثقل من جبل أحد ، لمجرد أنها هي ساقا ابن مسعود   إنما يريد أن هذه الساقين تغبرت في سبيل الله ، فثقلت في ميزان الله ، وقد اخبرنا الرسول  صلى الله عليه وسلم أن النساء ناقصات عقل ودين   لكنه صلى الله عليه وسلم يعزّز هذا النقص الفطري بقوله : ( إذا صلت المرأة خمسها ، وصامت شهرها ، وحصنت فرجها ، وأطاعت زوجها ، قيل لها : ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئت ) إنه تكميل وتعزيز ، لتكون أكثر ثقة بنفسها ، حين تتعامل مع معطيات الحياة .

 الرابعة : احترم جهدهم ، فلا تتجاهل أو تحقّر ولكن احترم وقدّر ، فقد روي أن شابين فتيين وهما يختصمان عند رسول الله  صلى الله عليه وسلم أيّهم قتل أبا جهل فيطلب صلى الله عليه وسلم سيوفهما فيرى عليها آثار الدماء فيقول : كلاكما قتله ، ويوصي عائشة رضي الله عنها   يا عائشة ! لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة ، إنه احترام جهود الآخرين مهما قلّت ، فهي تبعث في قلوب الآخرين الثقة فيما يقدمون ويعطون .

 الخامسة : كلّف بالمستطاع ، حتى لا يصاب من حولك بالإحباط أو الفتور ، فاعرف قدراتهم وإمكاناتهم ، ثم اختر المناسب في المكان المناسب ، وفي الوقت المناسب لتجد من حولك أكثر ثقة في إبداعهم .

سئل نابليون : كيف استطعت أن تولد الثقة في نفوس أفراد جيشك ؟ فأجاب : كنت أرد على ثلاث بثلاث ،  من قال لا أقدر قلت له : حاول ، ومن قال لا أعرف قلت له : تعلم   ومن قال مستحيل قلت له : جرّب .  
السادسة : ثق بهم ليكونوا أوثق بأنفسهم ، امنحهم ثقتك وحسن ظنك بهم ، فلا تعاملهم بالشك والريبة وتأويل الأفعال وصارحهم ولا تزين لهم ، واستر عيبهم ولا تفضحهم   وانصحهم وصارحهم بأخطائهم مصارحة الحريص المشفق  من غير تشهير أو تحقير أو إذلال ، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ما بال أقوام ، وصارحهم بحبك فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إذا أحب أحدكم صاحبه فليأته في منـزله ، فليخبره بأنه يحبه لله عز وجل ) .

السابعة : علّمهم كيف يبدعون كيف ينجزون ، كيف يتخلصون من مشاكلهم ، وجّه وانصح وساعد  .

وينشأ ناشئ الفتيان منّا    على ما كان عوّده أبوه

لنتعلم من أصحاب الخبرة والتجارب ، نأخذ منهم الصواب ونترك الخطأ ، ولنحذر ممن يثق الناس بهم لزخرفة كلامهم ونفاقهم ، وهم في الحقيقة ليسوا موضع ثقة ، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم  قال : ( كيف أنت يا عبد الله ابن عمر ! إذا بقيت في حثالة من الناس قد مرجت عهودهم وأماناتهم ، واختلفوا وصاروا هكذا ؟  وشبك بين أصابعه قال: فكيف يا رسول الله ؟ قال : تأخذ ما تعرف ، وتدع ما تنكر ، وتقبل على خاصتك ، وتدع عوامهم ) رواه احمد .   

 

 

 

 

 

الثعالب من البشر

زعموا أن الثعلب أراد مرّة أن يختطف عنقوداً من العنب  فأحس بالعجز عنه فارتد وهو يقول : إنه حامض ،  ومن أمثال العرب التي يوردها الجاحظ في (الحيوان) إشارة إلى الثعلب في قولهم "أدهى من الثعلب"  .

 إن تحقير الشيء الذي لا يستطاع إدراكه ، شيمة الطبائع الخسيسة في البشر ، وهو الذي أوحى إلى المشركين قديماً أن يطعنوا في المؤمنين ، وأن يستهينوا بقيمة الدين الذي اعتنقوه قائلين : ) لو كان خيراً ما سبقونا إليه ، وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم ( الأحقاف 11 . أي أنه عنب حامض .

هذه الثعلبية متفشية بيننا تفشياً واسعا ، ما إن يحدث أمر ما حتى تجد نظرات البرود تحوم حوله ، فهذا يهز كتفيه استخفافا  وذاك يغمز ويلمز ، ولولا أن عظائم الأمور تندفع بقوتها الذاتية لماتت في هذه الأجواء الخانقة .

ليت شعري ، لماذا المكابرة ؟ وماذا يخسر الناس إذا أعطوا كل ذي فضلٍ فضله ؟ لا شيء ، لكن اضطراب مقاييس الكفاية عندنا ، أدى إلى فوضى في التقدير تركت طابعها في أعمالنا وأخلاقنا ، فالذين يحترمون الثوب القصير لا يفتحون عيونهم على غيره ، وبهذا تتوارى الحقائق في أكفان المظاهر المادية الصغيرة ، ونتيجة ذلك فإن كفايات كثيرة تموت في هذه البيئات الحاقدة ، ونتيجة أخرى لا تقل شرّاً هي : أن القاصرين والمقصّرين يفسح لهم المجال الذي خلا من أصحابه الجديرين به   والويل لأمةٍ يتقدم فيها أغبياؤها ، ويتأخر فيها أذكياؤها ، ما أسوأ الغض من ذوي المواهب وقلة الاكتراث بهم ، من قديم الزمان شعر المتنبي بأولئك المزاحمين المهازيل فقال ساخطاً عليهم :

أفي كل يومٍ تحت ضبني شويعرٌ   ضعيفٌ يقاويني قصيرٌ يطاولُ ؟

لساني بنطقي صامت عنه عادل وقلبي بصمتي ضاحكٌ منه هازل

وما الكبر دأبي فيهم غير أنني     بغيضٌ إلى الجاهل المتعـاقل

 وإذا كان لغمط الحقوق مجال بين الطامعين في الدنيا   والمتكالبين عليها ، فإنه ينبغي أن يكون المتدينون أبعد الناس عن سؤ التقدير وقلة الإنصاف ، لأن أول معالم المجتمع المتدين ، أن لا يجحد فضلاً ولا ينقص حقا ، ومن هنا يُخْرج الرسول صلى الله عليه وسلم من نطاق المؤمنين من مردوا على النكران فقال : ( ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه ) .

إننا لو حللنا البواعث التي تدفع على الاستهانة بالفضلاء  والتطاول على الأكفاء ، لما وجدنا إلا المشاعر نفسها التي دفعت ابن آدم إلى قتل أخيه ، والتي دفعت إبليس على احتقار آدم ، والتي لا تزال تدفع كل مهووس في عقله أو دينه على أن يرفع خسيسته على حساب ذوي العقل والدين ، وهي مشاعر لا قرار معها لإيمان في قلب ، ولا قرار معها لتدين في مجتمع . 

وإن هؤلاء يذكرونني بالحطيئة شاعر الهجاء ، الذي بسط لسانه بالأذى في أعراض المسلمين حتى عوقب بالسجن ، وقد كان الشتم عنده غريزة كامنة فيه ، تدفعه إلى التهجم الدائم ، فإذا هاجت فيه هذه الطبيعة ولم يجد من يسبه ، غدا على امرأته يقول لها :

أطوف ما أطوف ثم آوى   إلى بيت قعيدته لكاع

فإذا فرّت امرأته ولم يجد من يسبه عاد إلى نفسه ، ينظر إلى المرآة ويقول :

أرى لي وجهاً قبح الله خلقه    فقبح من وجه وقبح صاحبه

إن أصحاب هذه الطباع مرضى ، وربما كانت طينتهم من النوع الكلبي ، الذي إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث  وإذا وقع الإنسان لسوء الحظ بينهم ، فكما يقع الطارق الغريب أمام بيتٍ لا أنيس فيه ، ما إن يقرع الباب حتى يقضم رجله كلبٌ عقور ، يزعمون أنهم من الدعاة إلى الله ) ولو نشاء لأريناكَهم فلعرفْتَهُم بسيماهُم ، ولتعرفنَّهم في لَحْنِ القول ( محمد 30 . قومٌ يتمنون وقوع الخطأ من الناس ، ظاهر أمرهم الغضب لحدود الله   أما باطنه فالتنفيس عن الحقد البغيض ، يضخمون التوافه ويتاجرون بالخلافات ، ويتلمسوا العيوب ، مع أن الخلافات عند ذوي الأمزجة السليمة لا تثير حقدا ، كما كان أئمة المذاهب ، فهذا أبو حنيفة يرى أن القراءة وراء الإمام حرام  ويرى الشافعي أن القراءة وراءه واجبة ، ومع أن الأمر يتعلق بأهم أركان الدين ، فما فسّق أحدهما الآخر ، ولا أهاج عليه الدنيا ، لأن كلاهما نظيف الطبع عالي الإيمان .

أما أصحاب الطبيعة الحطيئية فقد شغلوا الناس بالخلاف في فروع العبادات ، عن سياسة الحكم والمال ، وعن علاقة الأمة بغيرها ، وكيف تقدر على أداء رسالتها العالمية ، كل ما يربطهم بالإسلام قراءة لا فقه فيها ، وعبادةٌ لا عمل معها ، وما علموا أن الانشغال بهذا الخلاف ، ليس إلا لتضليل المسلمين عن رسالتهم الكبرى ، وتجاهلوا أن الأحكام الشرعية أعز وأسمى من أي قضية تحتمل القيل والقال ، والأخذ والرد ، ولم يتورعوا عن كثرة اللغط في قضايا العقيدة والشريعة ، فضلوا وأضلوا ، وإلا ما معنى الاحتجاج على الكيفية التي أباحها الشرع في أداء العبادات ، ولماذا الاحتجاج على ابتلاء الله ، إذا علم أن ابتلاء الله رحمة ، وما يحتج على ذلك إلا صاحب طفولة جريئة ، أو تطفل قبيح على ابتلاء الله ، وإن هؤلاء الذين امرض قلوبهم الجدلُ والتطاول ، آبى كل الإباء أن اكترث بهم .

إن الله أصلح الأرض بما وضع لها من سنن ، وأنزل فيها من وحي ، فلماذا يحاول بعض الناس إفسادها بالفوضى والتسيب ) والله لا يحب الفساد ( ولماذا يمضي الكثيرون من المفسدين في طريق الغواية ، يستحسنونها ويستريحون إليها ، ويعتقدون أن لهم وجهة نظر جديرةٌ بالتسليم ، أرى الواحد منهم يكفر بخصومه ويغالي بفكرته ، ويحقر ما عداها ، يعمل ليزحزح غيره ولا يتزحزح البتة ، وما علم أن من يشتغل بالغير لا يكون إلا واحداً من اثنين : إما منافق لا إيمان له ، وإما مغفلٌ لا عقل له  أضف إلى ذلك بأنه اتصف بصفة الخصوم الحاقدين ، الذين إن وجدوا خيراً دفنوه أو لحظوا شرّاً أذاعوه ، وإن استطاعوا إدارة خصومتهم على غير قانون من خلق أو شرّ فعلوه . يزعمون أنهم أهل الدين ، وفي قلوبهم غلٌ على العباد ورغبةٌ في إشاعة السوء عنهم ، فقههم معدوم ، وتعلقهم بالقشور والسطحيات   غالباً ما يكون على حساب الأركان والأساسيات في الدين   وهذا يدل على عدم الرسوخ في فقه الدين ، والميل إلى التضييق والتشديد ، والإسراف في القول بالتحريم ، مع تحذير القرآن والسنة والسلف من ذلك ، وحسبنا قول الله تعالى : ) ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام   لتفتروا على الله الكذب ( النحل 116 . كان السلف لا يطلقون الحرام إلا على ما علم تحريمه جزما ، فإذا لم يجزم بتحريمه قالوا : نكره كذا أو لا نراه ولا يصرّحون بالتحريم ، أما المبالون في الغلو ، فهم يسارعون إلى التحريم دون مبالاة ، ولا عجب إذا رأينا منهم من يتمسك بحرفية النصوص ، دون تغلغل إلى فهم فحواها ومعرفة مقاصدها ، خذ مثلاً الحديث الذي رواه أبو داود عن عبدالله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ثلاثة لا يقبل الله منهم صلاة : من تقدم قوماً وهم له كارهون ... ) جاء في عون المعبود شرح أبو داود ج2-ص303 ، قيد ذلك جماعة من أهل العلم بالكراهة الدينية لسبب شرعي ، أما الكراهة لغير الدين فلا عبرة بها وقال الخطابي : يشبه أن يكون الوعيد في الرجل ليس من أهل الإمامة .

وروى الترمذي عن الحسن قال : سمعت أنسَ بن مالكِ قال : ( لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثةً : رجلٌ أم قوماً وهم له كارهون ... ) جاء في تحفة الأحوذي شرح الترمذي ج2 – ص344 ، وهم كارهون لأمرٍ مذمومٍ في الشرع ، وإن كرهوا لخلاف ذلك فلا كراهة ، وقال ابن مالك : كارهون لبدعته أو فسقه أو جهله  أما إذا كان بينه وبينهم كراهة عداوة بسبب أمر دنيوي فلا بكون له هذا الحكم ، جاء قومٌ وأخذوا بظاهر الحديث دون الالتفات إلى المقاصد والمصالح ، ويا ليتهم فهموا بأننا إذا لم نرد الأحكام إلى عللها ، فإننا سنقع في تناقضات خطيرة ، نفرّق بها بين المتساويات ونسوي بها بين المختلفات ، وليس هذا هو العدل الذي قام عليه شرع الله . إن ضعف البصيرة عند هؤلاء راجع إلى أنهم لا يسمعون لمن يخالفهم في الرأي ، ولا يقبلون الحوار معه ، وكثيرٌ منهم لم يتلق العلم من أهله والمختصين بمعرفته ، وإنما تلقاه من الكتب مباشرة ، دون أن تتاح له فرصة المراجعة والمناقشة ، والأخذ والرد واختبار فهمه ، ولكنه قرأ وفهم واستنبط ، وربما أساء القراءة والفهم والاستنباط وهو لا يدري . إن الإسلام منهج متكامل للحياة ، يضع لها الإطار والمعالم والحدود التي تضبط سيرها ، وتقيها من الانحراف أو السقوط أو الضياع ، فلا بد من الالتزام بالإسلام كله وقد ذم الله الإلتزام ببعضه فقال : ) أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من فعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب ( البقرة 85 . ولا بد لكي يكون المجتمع مسلما من الرضى بحكم الله ورسوله في كل شؤون الحياة ، وهذا هو مقتضى عقد الإيمان قال تعالى : ) فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ... ( النساء 65  .

 

 

 

 

 

 

 

                التدافع بين الحق والباطل                                                            قال تعالى: ] ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثير[40 الحج .                                        اإن كل الأماكن التي يعبد فيها الله ، معرضة للهدم رغم قدسيتها ، لا يشفع لها في نظر الباطل أن يذكر فيها اسم الله  ولا يحميها إلا دفع الله الناس بعضهم ببعض أي دفع حماة العقيدة لأعدائها   الذين ينتهكون حرماتها ويعتدون على أهلها   فالباطل قبيح لا يكف ولا يقف عن العدوان ، إلا أن يُدفع بمثل القوة التي يصول بها ويجول ولا يكفي الحق أنه الحق  ليوقف عدوان الباطل ، بل لابد من قوة تحميه وتدفع عنه وهي قاعدة كلية لا تتبدل ، مادام الإنسان هو الإنسان ، والإسلام مع هذا لا يعد القتال غاية لذاته ، ولا يأذن به إلا لغاية أكبر  بل إن السلام هو غاية الإسلام كما تقرر آيات كثيرة في القرآن   ولكنه السلام الذي لا اعتداء فيه ، فلا ظلم ولا بغي ولا عدوان   وإن الوقوف في وجه الباطل ومقاومته ، سواءً كان عدواناً خارجياً أو تسلطاً داخلياً ، هو أمر مطلوب شرعاً لا جدال فيه   إلا أنّ هذه المقاومة تأخذ أشكالاً متعددة ، طبقا للواقع المبطل من ناحية ، وتبعا لقدرات الواقع الإسلاميّ على المقاومة من ناحية أخرى . وتأتي هذه المقاومة في الشريعة تحت أبواب عدة  كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والدعوة إلى الجهاد لدفع المعتدي ، فكلها طرق تؤدى إلى إصلاح الواقع وتقويمه   والجهاد فرض إذا احتلت ديار الإسلام ، وعلى كلّ مسلم المشاركة فيها بأي شكل كان ، لأن الجهاد واجب محتوم   وقدر مرسوم لا فكاك منه ، فخيار الجهاد ضرورة عند القدرة عليه قال تعالى: ] انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم [ التوبة                                                                     فجهاد المعتدي مشروع في الإسلام ، وإن جرّت الحرب ما تجرّ على أبنائها من أهوال وخسائر وقد قال شوقي:                                                                الحرب في حقّ لديك شريعة   ومن السموم الناقعات دواءُ                                                    والشّر لا يندفع إلا بالقوة ، وأهله لا يرتدعون إلا بها ، كما قال شوقي:                                                              والشرّ إن تلقَه بالخير ضقت به  ذرعا وإن تلقه بالشرّ ينحسمِ                      فلابد من خوض خيار المقاومة المسلحة ضد المحتلّ ، وهو ديدن البشر منذ بدء الخليقة ، يبغي القوى على الضعيف ، فيثور الضعيف على القوى ،  ولا يزال الصراع قائما حتى ينتصر أحد الفريقين ، إما أن يستسلم الضعيف فيهلك ، وتتبدل ثقافته ووجوده كله بثقافة المعتدى ووجوده ، ويصبح خبرا بعد عين  وتتحاكى به الأمم التالية في أخبار التاريخ ، وإما أن يستسلم القوى لإصرار المقاومة وثباتها ، وتكون حربه عليه حسرة وندامة ، ويصبح الضعيف قوياً بعد ضعفه ، وتبقى ثقافته وحضارته تكافح على وجه الأرض ، وهكذا حديث الدنيا وتداول الأيام .                                                        وفي التاريخ عبرة وعظة ،  والدهر والزمان متقلبان لا يثبتان  والأيام دول ، يوم لك ويوم عليك ، والدعوات الصادقة لا تهزم أبداً .                                                           ا تالله ما الدعوات تهزم بالأذى  كلا وفي التاريخ بَرُّ يميني                            لقد عرف التاريخ فرعون الذي سام المؤمنين من بني إسرائيل سوء العذاب ، فقتل أبنائهم واستحيى نسائهم ، وجعلهم شيعاً وتهددهم بأن يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ،  ولكنه ذهب إلى غير رجعة ، وصار في خبر كان ، ونجاه الله ببدنه ليكون لمن خلفه آية ، وكذلك يفعل الله بالمجرمين على مر الزمن ، والظالمون على مر الأيام يمرون ولا يثبتون ، يَعْلُونَ ولكنهم في الأرض لا يدومون ، وإن شئت فاسأل التاريخ   ينبئك عن هامانَ وقارونَ وعادٍ وثمودَ وأصحابِ الرَّسِّ وقرونٍ بعد ذلك كثيراً ، ذكر الله خبرهم فقال : ] فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [ .                                                                                أين الظالمون بل أين التابعون لهم  في الغي ثم أين فرعون وهامان                    أين من دوخوا الدنيا بسطوتهم وذكرهم في الورى ظلم وطغيان                  هل أبقى الموت ذا عز لعـزته   أو هل نجا منه بالسلطان إنسان                 لا والذي خلق الأكوان من عدم الكل يفنى فـلا إنس ولا جان          وقد تعلمنا من الشريعة المطهرة أن الله يستطيع أن ينصر أوليائه   ويهلك أعدائهم دون حرب ، لكن الله يريدهم أن يأخذوا بأسباب النصر ، وأنه سبحانه جعل لكل ظالم موعداً لهلاكه  فقد روى مسلم عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ] إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُمْلِي لِلظَّالِمِ فَإِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ [  ثُمَّ قَـرَأَ    ]  وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [ . ونحن على يقين منذ أن المستقبل لهذا الدين  وأن الأيام القادمة لن تكون إلا لأتباع دين محمد صلى الله عليه وسلم ، وعلينا ألا نيأس   ولا نخشى من الغيب ، ولا نخاف من الغد ، لأنَّ الدنيا وأيامها كلها بيد الله تعالى الذي وعد المؤمنين فقـال : ] وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا[ .                                            سنعيش على هذا الأمل وسنحيى على هذا اليقين ، وأن لا نقرّ للمحتلين بملكية أرضنا ، وللغاصبين بمشروعية الغصب والقتل والتدمير ، وألا نوقعَ على ذُلِّنَا أبداً ولو وصلنا إلى حدٍ نعيشُ فيه نقبضُ على الجمرِ ونحفرُ في الصخرِ ، ونعاكسُ التيارَ  لنُعلِّم   الأمةَ أنَّنَا أبناء الأمة التي وعدها الله بالنصر ، أما الداعون لليأس، المنادون للإحباط والقنوط ، فهؤلاء لن يصنعوا بإحباطهم الحياة ، ولن يعمروا بيأسهم الدنيا ، وسيعيشون في الزوايا والقباب والبيع ، يشابهون الذين جعلوا من دينهم قال تعالى : ]  رَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِم [ .                                                      لقد قضت إرادة الله بوجود الطائفة التي تتصدى للباطل وأهله في الدنيا كلها ، وهي التي توقظ الأمة ، كلما أخلدت على النوم ، وتعلِّم الأمة بأن لا تيأس وتستسلم للواقع المر ، الذي يعاني منه المسلمون .                                                  لا يأسَ مهما غرقنا في مآسينا    وأمعنَ الكفرُ ذبحاً في ذرارينا                        لا يأسَ فاليأسُ كفرٌ في عقيدتنا  وما ارتضينا سوى الإسلام ديناً                 سنظلُّ أسداً وإنْ قُصَّتْ مخالبُنَا    ولو جرى بدمِ الثوارِ وادينا                     إنَّ ما يحدث الآن يجب أن يزيدنا إيماناً بأن الله أَذِنَ للمسلمين  أن يستعيدوا قوتَهُم لكي يواصلوا رسالتَهُم بإخراج العالم كله   من عبادة العباد إلى عبادة الله تعالى ، وأن الله سيجعل لنا مما نحن فيه فرجاً ومخرجاً ، وليبلغنَّ هذا الدينُ ما بلغَ الليلُ والنهارُ بإذن الله تعالى ، فقد روى الإمام أحمد في المسند بإسنادً صحيح عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ( لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَلَا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ وَذُلًّا يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ ) .                                  فهذا الدين دين الله تعالى، والله ناصر دينَه ومعزٌّ نبيَه ، وقد قضى الله تعالى أنْ يكونَ دينُه هو الغالب ، وأنَّ تكون شريعتَهُ هي الظاهرة ، فقال سبحانه : ] هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ [  إن ما يجري في غزة من عدوان إسرائيلي سافر كان موضع متابعة من الإعلام الإسرائيلي ، فمراسل «هآرتس» للشؤون العربية، تسفي برئيل، كتب تحت عنوان «السكوت علامة الرضا» فاضحاً هذا الموقف، فبرئيل يرى أن الردود التي قالت :  إن حماس أعطت إسرائيل الذريعة للشروع في حرب غزة ، وأن الهجوم على غزة هو أكثر من رد على نار الصواريخ   فقد فُسر ذلك في إسرائيل كإسناد لمواصلة الهجوم على غزة . كما أن الردود الفاتره وعدم الرد المدين حتى الآن ، يدل على أن الهجوم على غزة ، رغم دمويته وقسوة الصور التي عرضتها وسائل الإعلام العالمية- يتم التعامل معه عربياً على أنه حرب على حماس الإرهابيه كما يقولون ليس إلا ، هكذا فهم الإعلام الإسرائيلي المواقف الرسمية ، في حين أن المسئول الإسرائيلي لا يحتاج لقراءة «هآرتس» ومراسلها برئيل، ليفهم جوهر المواقف الرسمية ، لأنه بكل بساطة مطلع بصورة مباشرة ، على حقيقة تلك المواقف  .                                                 إلا أن غزة على محدودية مساحتها وإمكاناتها ، ورغم جراحها أثبتت أن هذه الأمة عظيمة وقادرة على التحدي ، فـإسرائيل رغم فداحة الجريمة التي ارتكبتها في غزة، ومع كل إمكاناتها العسكرية ، ازدادت قناعة بعد عدوانها بأنها بإزاء معضلة لا تملك لها حلاً ، أو بحسب تعبير كبير محللي «يديعوت حرونوت» ناحوم برنياع.. بأن إسرائيل أمام الاختيار بين الطاعون أو الكوليرا ، بعدما برهنت حماس قدرتها على الصمود   وعلى إطلاق الصواريخ رغم احتلال الطائرات الإسرائيلية لسماء غزة بصورة كاملة ، والأخطر قدرتها على القتال ، وقد اعترفت إسرائيل  ببسالة غزة وشراسة مقاتليها .                                                                   لقد أصبح كل مواطن عربي يعيش وقائع حصار غزة وكأنه داخله ، وينفطر حزناً وغضباً وهو يتابع أخبار ضحايا الحصار من المرضى ، خاصة الأطفال والشيوخ والنساء وكأنه أقرب الناس إليهم . لذلك لم يكن ممكناً أن تمر جريمة الحصار كما مرت جريمة الاحتلال في 1948 وغيرها من الجرائم ، ولم يكن ممكناً كذلك أن تكون ردود الأفعال إزاءها نمطية ، لأن هناك احتلالاً تجب مقاومته ، وأنه حتى وإن أطلقت صواريخ المقاومة على إسرائيل ، فإن المسؤول عنه هو الاحتلال الذي يرفض تقديم أدنى تنازل للشعب الفلسطيني . وقد تمخض عن هذا الحصار دلالات لا يمكن أن يخطئها العقل ، وأولى هذه الدلالات هي أن مواقف معظم القوى الدولية المؤثرة  ما زالت كما كانت إزاء جرائم إسرائيل الأولى ، إما التواطؤ أو الصمت أو على أحسن الفروض الاستنكار والإدانة اللفظيان ، دون أدنى عمل مؤثر ، يردع المجرم عن الاستمرار في جريمته . وهكذا تثابر هذه القوى بدأب على سياسة المعايير المزدوجة  وتواطؤها يشكل غطاء ممتازاً يمنع الإعلام حتى من مجرد التغطية الإعلامية التي يستحقها حدث ضخم بهذا الحجم . ولا نسمع من هذا الإعلام  غير كلمة واحدة هي : نتفهم حاجة إسرائيل الأمنية التي تدفعهم إلى مثل هذا الرد . أو هذا هو الرد الطبيعي على إطلاق الصواريخ . أو يقولون: العالم كله متفق على مكافحة الإرهاب ، أو هذا دفاع عن النفس مشروع ، في الوقت الذي يقرّون بأن مقاومة المحتل في كل شرائع العالم  أمراً مدعوماً ومشروعاً من أمريكا في كثير من البلدان ، فلماذا أمريكا قلقة من معاناة الشعب في دارفور ، وليست قلقة من المذابح اليومية في غزة ؟ أليست هذه الازدواجية في التعامل  ثم لماذا لا تتوحد الأمة ، أمام الرضى والدعم الدولي غير المحدود لإسرائيل   وهم يرون في اجتياح غزة تخليصا لإسرائيل من الصداع الغزاوي المزمن ، المتمثل بحماس وقوى المقاومة الأخرى!!  ويا ويح أمة يعصف بها الموت اليومي.. فمن لم يمت منها بصاروخ يموت كمداً وصمتاً وغبنا!! ويا ويح أمة عجبت من صبرها الأمم ، على ما يجري من استنـزافٍ لطاقتها البشرية واستنـزافٍ لمعنوياتها وتحملها ، إنه مخطط لئيم شرير ينبغي أن تقف له الأمة بحزم كبير ، وإلا فإنه الشر المستطير  الذي لا ندري إلى أين سينتهي شره وشرره ، ويخطئ من يظن أن الصمت الشعبي العربي على ما يجري في غزة يعبر عن عدم اكتراث أو عدم رغبة باقتلاع كل المجتمع الاستيطاني الإحتلالي في فلسطين ، ويخطئ من يقلل من تلك الرغبة المتأججة ، بعدم القبول بالوجود اليهودي الذي يظن أنه يستطيع بالإرهاب ، أن يخيف من اهتدوا إلى طريق المقاومة ،  ولذلك يحاول أن يعاقب عامة الناس ، لا المقاومين فحسب ، بطريقة إجرامية لدرجة يظن أنها سوف تدفعهم للضغط على المقاومة وإيقافها  والدارس لتاريخ الشعوب والأمم التي يرد فيها المحتل على المقاومة الناجحة ، بحملات العقاب الجماعي . يجد أنه لو كان هذا الأسلوب ناجحاً ، لما تحرر شعبٌ ولما انتصرت مقاومة  ولبقيت الشعوب ترزح في أغلال العبودية منذ آلاف السنين . وإن تصاعد العقاب الجماعي كان وما يزال حجة على من يمارسه  لا على من تمسك بخيار المقاومة . لذلك يخطئ من يتوقع أن الإرهاب الصهيوني ، سيقف دون وجود قوة توقفه  وفي التاريخ الحديث ما يدل على صدق ذلك ، فهتلر لم يكف عن حروبه بالكلام الحسن ، ولا بمزيد من الأراضي للترضية  وهذه نتائج هتلر ونازيته المصدّرة لنا ، وهي أشر من كل نازية في التاريخ ، فكان  من العار على الذين حاربوا النازية قديما  أن سلحوا وأيدوا نازية اليوم ، التي تمارس هجماتها البشعة  بكافة الأسلحة على سكان غزه ، وكل يوم تخرج لنا صور الضحايا والشهداء والجرحى ، ومشاهد التدمير والتخريب! حتى أن المرء ليقف أمام هذه الصور والمشاهد والأحوال   مذهولا يتساءل من يطيق ما يطيقون ؟ ففي كل زاوية من زوايا غزة ، وفي كل بيت شهيد أو جريح أو أسير ، وفي كل بيت يتيم أو أرملة أو مسكين ، قصة وحكاية ، فربما فقدوا الكثير من مظاهر الحياة التي نحرص عليها ، ولا يمكننا العيش بدونها ، إلا أنهم ملكوا الدنيا كلها ، فقد أسروا هواهم وأصروا على البقاء في أرضهم   ورغم القتل والتدمير والحصار ، ملكوا العزة والكرامة والبطولة والشجاعة ، والثبات والإقدام والتضحية في سبيل الله   وإن من أسرار ثباتهم وما يرونه من أحداث يومية ، لا تنقل لنا ولا نسمع عنها ، أكتفي بذكر إحداها ، فمبنى الشرطة الذي كان مقراً للسلطة السابقة    يقابله مبنى منهار ، وبالسؤال عنه أجاب الجميع ، بأنه كان مقراً للقوة التنفيذية  الذي قصفته طائرات الاحتلال ، بينما لم تطلق رصاصة واحدة على مبنى الشرطة الذي يقابله ، والذي  يفصل بينهما خمسة أمتار فقط  فكانت نتيجة القصف شهيدان فقط ، أتدرون لماذا ؟ لأن الصاروخ الأول لم ينفجر ، فكان رسالة إنذار للمجاهدين ، أما الصاروخ الثاني فقد فجر السور الخلفي للمبنى   ففتح مخرجاً للمجاهدين هربوا من خلاله للمزرعة الواقعة خلف المبنى ، أما الصاروخ الثالث والرابع فقضى على كل ما تبقى من المبنى   لتكون الحصيلة نجاة أكثر من 60 من رجال التنفيذية وقادتها .                                                             إن السكوت عن الظلم , والتخلف عن نصرة المظلوم , أو مساواة الجلاد بالضحية جريمة قد يعجل الله تعالى العقوبة عليها   لذا فإن كلّ مسلم ملزم بقدر من هذه المقاومة لما ورد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم  الذي رواه البخاري : ( رجلٌ جاهد بنفسه وماله ) أو باللسان توجيها وتصحيحاً وإرشاداً ، ببيان الحق وفضح الباطل ، فكلاهما مطلوب شرعاً ، ومقاومة التبديل المتعمد لمنهج الله وسنة رسوله الله صلى الله عليه وسلم  ثم الصبر على هذا الدرب  لازم لبلوغ المراد ، مهما بُذل فيها من أرواح ، فهي أرواح شهداء أحياء عند ربهم يرزقون ، ومهما تلف فيها الغالي والثمين ، فالضائع هو ما لم يبذل في هذا الطريق ، والباقيات الصالحات هي خير عند الله ثوابا وخير عُقباُ ، لك الله يا فلسطين.اللهم وحد المسلمين وانصرهم على أعداء الدين واجعلهم أهلا للنصر والتمكين اللهم آمين .

 

الخلل في التعامل مع القضايا الإسلامية

 كيف نستطيع خدمة قضايانا الإسلامية ؟ وكيف نستطيع أن نخدمها بالطريقة الصحيحة التي تجعلنا نكسب ثقة الناس الذين نتحدث معهم ونخاطبهم ، وتجعلنا نستطيع أن نربط الناس بها ربطاً صحيحاً ؟ إن ذلك يكون بحمل أفكار الإسلام ، وما استطاع الغرب أن يغلبنا ، إلا لانحطاط تفكيرنا وجهلنا ، وعدم فهمنا لأفكار الإسلام . وقد استطاع أن يضللنا ويغزونا بفكره ومن ثم بجيوشه . ولن يعود لنا عزنا ومجدنا ، وتحررنا من ظلم المستعمر إلا بعودتنا إلى الإسلام وأفكار الإسلام  .

إن هناك ناساً أرجو الله تعالى أن لا نكون منهم ، هم على الآرائك متكئون ، وللشاي والقهوة يشربون ، ولأخطاء إخوانهم المسلمين يتسقطون ، وعن زلاتهم يبحثون ، ولعيوبهم يتصيدون ، فإذا وقعوا عليها فإنهم يسرون بها ويفرحون  ويغدون بها ويروحون ، ويشيرون بها ويلوحون ، وكأنما عثروا على كنـزٍ ثمين ، أو على نصرٍ مبين!! فهذه مصيبة كبرى    لأنه ليس من الاحترام ، أن تتعامل مع من نخالفه بالتهم التي نلصقها به ، كما نجد الكثيرين ممن يقولون : هذا تابع لهذه الجهة أو لتلك الجهة ، فليس من المصلحة أن نتعامل بأساليب الاتهامات المتبادلة ، ولا أن يتم التعامل عن طريق الغمز واللمز في حل المشكلات ، لأن هناك ما هو أهم ، فأمام المسلمين آفاق واسعة للحوار والأخذ المسلمين محاصرون في كل بلادٍ يرفعون فيها راية القتال والجهاد والعطاء ، والاتفاق على القضايا المختلف فيها ، ويكفي أن  وأن عدوهم أقوى منهم وأكثر عدداً وعدة ، وأنه مدعومٌ من الدول القوية ، مما يدعو المسلمين أن يتناسوا كل ما يمكن تناسيه من الخلافات ، وعلى أقل تقدير -إن لم يكن بينهم تناصرٌ وتعاملٌ- فلا أقل من أن يكون بينهم تنسيقٌ يحقن الدماء   وأن توجه أفواه البنادق والمدافع إلى صدور الأعداء.  ولهذا جاء التحذير من التهاون بدماء المسلمين في قوله تعالى : ] وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً [ النساء:93.  هذا وعيدٌ شديد يدل على أن دم المسلم غالي عند الله عز وجل ، وإنها لكارثة كبرى أن يتهاون الناس فيه ، ونحن نعلم أن دماء المسلمين استحلت في أماكن كثيرة ، وفي بلادٍ كثيرة ، وعبر قرون من التاريخ . استحلت عن طريق التأويل ، أي أن الذي يقتل  يعتقد أنه بذلك يخدم الإسلام  وأنه يزيل عقبة من طريق الدعوة إلى الله ، ومن طريق انتصار المسلمين وتغلبهم على عدوهم ، مع أنه ينبغي للإنسان أن يضبط نفسه برادع الخوف والوجل من الله عز وجل ، وأن يتذكر يوم يقف بين يدي الله تعالى موقفاً صعباً ، فيسأل فيه عن دم أُريق بغير حق ، فلا يكون عنده جواب.

 ومن الناس من يُعِّظم شخصاً حتى يعتبره مجدد القرن، وحجة الزمان ، وفريد العصر ، وحجة الله على عباده ، وأنه الذي لا يأتي الزمان بمثله أبداً ، ويبدأ يضفي على هذا ما لا يحق له أن يقوله فيه ، وقد يأتي إنسان آخر لنفس الشخص ، فيضع من قدره ، حتى تشك هل بقي أصل التوحيد عنده ؟ وهل هو من أهل القبلة والملة؟! لشدّة الإفراط في ذمه والقدح فيه وتقبيحه والوقيعة فيه . فلماذا لا يكون عندنا أنصاف حلول ، ولماذا لا نقول : فلان رجل فاضل ، وفيه خير وصلاح ، واستقامة   وهو مجتهد ، ولكن أخطأ في ما اجتهد وما حالفه الصواب  ولماذا نرفع الشخص فوق قدره ، أو أن ننـزله دون قدره ومنـزلته .  فتجد أن كثيراً من الناس إما أن يغلو أو يُفرط  ويضع من صفات المدح ما لا يليق ، أو يُفرط ويسرف ، فيضع من النقائص والعيوب ما لا يليق أيضاً ، وما علموا أن كلمة واحدة يقولها الإنسان لو مزجت بماء البحر لمزجته ، يهوي بها في النار سبعين خريفا ، وهو لا يلقي لها بالا ، من سخط الله تعالى عليه ، ومن هنا كان من أصناف عباد الرحمن ] وإذا مروا باللغو مرّوا كراما  [ الفرقان 72 . وإن من أخص أوصاف المؤمنين المفلحين ]والذين هم عن اللغو معرضون [ المؤمنون 3 . وإن كلمة من كلمات الخير تملأ صحائف حسنات الإنسان   وكلمة في مقابلها تسوّد صفحاته بالسيئات والعياذ بالله ، قال الإمام الغزالي " إنك تستطيع أن تبني بكلمة قصراَ في الجنة  ومن ضيع قصراِ أو كنـزاَ من الكنوز ليأخذ مكانه حصاة ، فقد خسر خسراناَ مبينا " .

إن المؤمنين الفالحين لا يقيمون معارك جانبية تافهة ، من أجل أمورٍ لا تسمن ولا تغني من جوع ، لأنهم مشغولون بآخرتهم  ومشغولون بهموم أمتهم ومآسيها ( ومن لا يهتم بأمر المسلمين فليس منهم ) رواه الطبراني . فما أحوج المسلمين إلى النظرة المعتدلة  التي يأمر الله تعالى بها! فالله عز وجل يأمر بالعدل والإحسان   قال تعالى] : وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا [المائدة:8   فهذه هي السنة الشرعية الواجبة ، أن تعدل في حق الشخص  أو القريب والبعيد ، وتحرص قدر المستطاع ، ألا تأخذك العزة بالإثم ، وألا تحب فتسرف في المدح ، أو تبغض فتسرف في القبح والذم ، بل أن تكون وسطاً معتدلاً قال تعالى:  ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ [ النساء:135. فلم لا تجعل قلبك متألهاً للحق  تعشق الحق حيثما كان ، ولا تتعصب لغيره ، فأحب الناس إليك لا مانع أن تقول: فيه عيب وهو كذلك ، وأبغض الناس إليك لا مانع أن تقول: عنده حسنة وهو كذلك . ولكننا للأسف نرى من الناس أناساَ إذا أقبلوا على شيء أقبلوا عليه بكليتهم ، وإذا أعرضوا عنه أعرضوا عنه بكليتهم ، فتعاملهم مع الأشياء نستطيع أن نصفه بأنه تعامل عاطفي ، ليس تعاملاً بالشرع وبالعقل ، وبالحكمة ، بل هو تعامل بالعاطفة ، وحتى من الناحية العاطفية هو تعامل غير سليم ، فتجد الواحد منهم الذي يبالغ في الحب ، غالباً ما ينقلب الأمر إلى أن يبالغ في البغض ، وفي حديث علي رضي الله عنه، الذي جاء مرفوعاً وموقوفاً  عند الترمذي أنه رضي الله عنه كان يقول: ( أحبب حبيبك هوناً ما ، عسى أن يكون بغيضك يوماً ما ، وأبغض بغيضك هوناً ما، عسى أن يكون حبيبك يوماً ما ) وهذه حكمة فالحب إذا كان باعتدال   وبدون إسراف ، فإنه يستمر ويدوم ويثمر   لكن إذا كان حباً جارفاً مسرفاً فإنه يتحول إلى بغضاء ، وهذا معروف فإنك تجد العاطفة -كما يقال- متقلبة   فإذا كان الإنسان ممن إذا أحب أسرف ، تجد أنه ممن إذا أبغض أسرف  وتجد أن هذا الحب قد يتحول في كثير من الأحيان إلى بغضاء.

ومن الناس من يتنصل من المسئولية بإلقاء التبعة على الآخرين  فتجده لا شعورياً ، عندما يرى منكراً في الشارع ، ما يخاطب نفسه ويقول : كيف أزيل هذا المنكر؟ مجرد أن يرى المنكر ينطلق بصورة عفوية ويقول: أين فلان ؟ أين جهاز الهيئات ؟ أين المشايخ ؟ أين العلماء والدعاة ؟ وينسي دوره ؟ وهل الإسلام نـزل لغيره !! أليس هو واحد من المسلمين ، أما كان عليه أن يشعر أنه مسئول مثلما غيره مسئول ، وبدلاً من أن يقول : أين فلان وعلان؟ وما دور الجهة الفلانية ؟ وما دور العالم الفلاني؟ ينبغي أن يوجه السؤال إلى نفسه: ما دوري أنا ؟ وماذا فعلت أنا ؟ لا بد أن يكون تفكيره تفكيراً علمياً عملياً  تفكيراً إيجابياً ، وليس سلبياً همه التنصل من المسئولية ، ويلقي بالتبعة على غيره .

إن الدين ليس لفئة معينة ، إنه للجميع ، وإن القرآن نـزل للجميع ، وخاطب الناس كلهم فقال تعال : ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [ البقرة:104 وقال:  ] يَا أَيُّهَا النَّاسُ [ البقرة:21.  فأنت من الناس وأنت -إن شاء الله- من الذين آمنوا ، ويجب أن تقوم بدورك ، لأن التهرب من القيام ببعض الأعمال ، هو من صور التنصل والتهرب من المسئولية  وعندما نتكلم عن هذا الخلل في التفكير الذي نجده في كل فرد ، سواءً كان فرداً ذا مسئولية خاصة ، علمية أو رسمية ، أو مسئولية دعوية ، وقد تجد الأخطاء نفسها موجودة حتى قي البيت ، فنحن نتربى على هذه الأخطاء ، ونتعامل معها بصورة عفوية ،  فهذه العفوية والبساطة  ، وأخذ الأمور -كما يقال- بالبركة ، والتي كثيرا ما يصاب بها المسلمون ، فيكون نتيجة لذلك أخطاء في مواقفهم وفي تصرفاتهم ، وفي أعمالهم ، أياً كانت هذه الأعمال   بسبب عدم قدرتهم على إدراك حساسية المواقف ودراستها بشكلٍ جيد ، فمثلاَ الساحة الإسلامية اليوم تكاد أن تخلو من الإمكانيات العلمية والعملية والدعوية ، والمسلمون بحاجة إلى هذه الإمكانيات ؛ حتى يصلوا إلى المستوى الذي يكونون جديرين فيه بنصر الله عز وجل لهم ، وبحاجة إلى وقت وإلى جهود جبارة في كافة المجالات ، وبحاجة إلى التربية الإيمانية الصادقة ، وإلى تصحيح العقيدة وتصفيتها وترسيخها في النفوس   وبحاجة إلى بناء العقليات الناضجة المتعقلة ، البعيدة عن الاندفاع والهيجان والتقلب ، وإلى الاندفاع في كل مجال للبناء والإصلاح والتعمير ، وإلى كل مجال من مجالات الحياة المحتاجة إلى أعداد كبيرة تجند لخدمة الإسلام والمسلمين . وبحاجة إلى الدعوة إلى الالتزام بالكتاب والسنة ، وتصحيح المفاهيم بحيث يكون  الإطار العام ، الذي ينطلق منه المسلمون إلى كل مكان   والأمة بحاجة وهي تمد يدها إلى ربها لينصرها أن تقيم أحكامه  لبلوغ الأمل الذي نصِحُّ به من علة ، ونكثُر به من قلة ، ونعتز به من ذلة ، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم لعملية التجديد هذه في المفاهيم والعودة بالناس إلى الفهم السليم للإسلام كلما اعتراه الفهم الخاطيء أو القاصر بقوله : ( إنّ الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها أمر دينها)  .

 

 

 

الطـريق إلى القلوب

 إلى كل من يحبُ أن تشيع الألفة والمحبة ، والخير والبر والمعروف والإحسان بين المسلمين ، وإلى من يسعى إلى تعميق روابط الأخوة الإسلامية ومعانيها ، وإلى تحقيق ما نص عليه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) متفق عليه . إلى هؤلاء اخترت هذا الموضوع لأننا بحاجة إلى التعامل المهذب والاحترام المتبادل ، بحاجة إلى أن نظهر محاسن  عقيدتنا لنصبح قدوات لبعضنا، ومفاتيح خير لغيرنا ، بحاجة إلى أن نكسب قلوب بعضنا بصدق التوحيد وحسن المعاملة وجميل الأخلاق ، لنذوق طعم الإيمان ، ولنعرف حقيقة الإسلام  بحاجة إلى أن نكسب القلوب ليس بالمجاملة ولا بالمداهنة ولا بتمييع ديننا ولا بتمزيقه ولا بالتنازل عن المبادئ والأهداف ، وإنما بمكارم الأخلاق ، بحاجة إلى كسب القلوب لا من أجل الدنيا ومتاعها ، ولا من أجل أنفسنا وإظهار محاسنها وتواضعها ، ولا من أجل تملق الناس وطلب محامدهم وثنائهم ، إنما من أجل ربنا تعبدا وتقربا إلى الله واتباعا لحبيبنا وقدوتنا صلى الله عليه وسلم فقد كان أحسن الناس خلقا  ولكسب حب وقرب نبينا يوم القيامة كما قال صلى الله عليه وسلم : (إن من أحبكم إلى وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة   أحاسنكم أخلاقا) حسنّه الترمذي ، وتطبيقا لتعاليم شرعنا وآداب ديننا قولا وعملا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وخالق الناس بخلق حسن) ، وشوقا للجنان وتثقيلا للميزان يوم أن نلقى الله كما أخبر صلى الله عليه وسلم : ( فأكثر ما يُدْخل الناس الجنة تقوى الله وحسن الخلق ) صححه الترمذي وقال غريب. وتخلقا وتأدبا وإيمانا ، فأكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا ، ونحن بحاجة إلى تطبيع نفوسنا على محاسن الأخلاق ، إخلاصا لوجه الله وطلبا لرضاه ، فهي عبادة عظيمة ، وإن العبد ليبلغ بحسن خلقه أعظم الدرجات عند الله . وهنا لا بد من التنبيه إلى أن الأخلاق ليست من مقومات المجتمع بل هي من مقومات الأفراد   لذلك لا بد أن يراعى في تقويم الفرد ، وجود العقيدة والعبادات والمعاملات والأخلاق ، بل إن الأمر الأساسي في الأخلاق ، أن تكون مبنية على العقيدة الإسلامية ، وأن يتصف المؤمن بها على أنها أوامر ونواه من الله تعالى . ولذلك لا قيمة لمن أخلاقه حسنة وعقيدته غير إسلامية ، أو من كانت أخلاقه حسنة ولكنه غير قائم بالعبادات .

وقد اخترت هذا الموضوع لكثرة شكاية الناس بعضهم من بعض . وليكون رسالة إلى كل مسلم ومسلمة ، وإلى من يحب أن يرى الألفة والمحبة بصحبة الصالحين ، وإلى من يتمثل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء) الترمذي وهو صحيح  ويردد قوله صلى الله عليه وسلم : ( اللهم أهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت وأصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت) صحيح مسلم.

فهذا أحسن الناس خلقا والذي أثنى الله عليه بقوله: )وإنك لعلى خلقٍ عظيم (    كان يدعو الله ويتضرع إليه أن يعينه على تهذيب نفسه ويتحلي بأحسن الأخلاق   لأهميتها وصلتها الوثيقة بالإيمان والعقيدة .

 وقد جاء في النصوص ما يدل على حرص هذا الدين على نشر المحبة والمودة . ومن يتتبع سيرة النبي صلى الله عليه وسلم يجد أنه كان يلازم الخلق الحسن في سائر أحواله   وخاصة في دعوته إلى الله تعالى، فأقبل الناس عليه ودخلوا في دين الله أفواجا ولقد أحسن القاثل  

 كلُ الأمور تزول عنك وتنقضي     إلا الثنـاءُ فإنـه لك باقـي

ولو أنني خـيرتُ كلَ فضيلةٍ        ما اخترت غير محاسن الأخلاقِ

أوصى رجلاً بنيه فقال : " يا بني عاشروا الناس معاشرة إن عشتم حنوا إليكم  وإن متم بكوا عليكم " . ويا أخي إنما الدنيا حديث فإن استطعت أن تكون منها حديثا حسنا فأفعل، لإننا بحاجة إلى من يجسدون مبادئ الإسلام في سلوكهم  ويترجمون فضائله وآدابه في حركاتهم وسكناتهم ، وكم نخطئ عندما نحكم على الآخرين بمجرد النظر للظاهر ، وإننا نظلم أنفسنا ونظلم الآخرين عندما نحقد عليهم ونتخوف منهم ، ألم نقرأ قول الله تعالى : ) وقولوا للناس حسنا (. وقوله صلى الله عليه وسلم : ( خير الناس أنفعهم للناس ) . وإن فضائل ومكارم الأخلاق كثيرة ، يمكن أن تملك بها القلوب ، كالابتسامة وهي أسرع سهم تملك به القلوب وهي مع ذلك عبادة وصدقة: ( فتبسمك في وجه أخيك صدقة ) كما في الترمذي. والبدء بالسلام فإنه سهم يصيب سويداء القلب ليقع فريسة بين يديك ، وهو أجر وغنيمة فخيرهم الذي يبدأ بالسلام   والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق) . وعند مالك بالموطئ أنه صلى الله عليه وسلم قال: (تصافحوا يذهب الغل ، وتهادوا تحابوا وتذهب الشحناء) . وبذل المعروف وقضاء الحوائج له تأثير عجيب في استمالة القلوب صوره القائل :

أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم     فطالما أستعبد الإنسانَ إحسانُ

وبه تملك محبة الله عز وجل كما قال صلى الله عليه وسلم : ( أحبُ الناس إلى الله أنفعهم للناس) كما أن إحسان الظن بالآخرين والاعتذار لهم ، من أيسر الطرق وأفضلها للوصول إلى القلوب ، وإياك وسوء الظن بهم ، لأنه من لوازم الحقد الذي أهاب الإسلام بالناس أن يبتعدوا عنه ، وقد اعتبر الإسلام إعلان المحبة والاعتذار من علامات الإيمان ، ومن أعظم الطرق للتأثير على القلوب ، وهو ما أكده صلى الله عليه وسلم : (لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا ، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم ؟ أفشوا السلام بينكم) رواه مسلم . وقال ابن المبارك:" المؤمن يطلب معاذير إخوانه والمنافق يطلب عثراتهم  ".

 وهنا أتسائل هل الاستقامة مظهر فقط؟ أم هي حسن تعامل مع فئة من الناس فقط؟ أم أنها سلوك وحسن تعامل مع الناس في كل شيء وفي جميع الأحوال قال صلى الله عليه وسلم : ( أعظم ما يُدْخِل الناس الجنة تقوى الناس وحسن الخلق) أخرجه الترمذي وابن ماجة. قال ابن القيم في الفوائد : (جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين تقوى الله وحسن الخلق في هذا الحديث لأن تقوى الله يُصلح ما بين العبد وبين ربه وحسن الخلق يُصلح ما بينه وبين خلقه ، فتقوى الله توجب له محبة الله ، وحسن الخلق يدعو الناس إلى محبته) .

فلماذا ننظر بعين واحدة ونقع على الجروح فقط ؟ ولربما شكا منك الناس  فأنت تشكو وفي الوقت نفسه تُشكى. وما أجمل أن يعذر بعضنا بعضا ، وأن نعفوا عن الزلات ونستر السيئات ونشهر الحسنات ، فإن التناصح  والتغافر يطفئ نار الفرقة والاختلاف ، وعامل الناس جميعا على أنهم بشر يصيبون ويخطئون ، فغُض الطرف وتغافل وأصبر .

    فليس الغبي بسيد في قومه    لكن سيد قومه المتغابي

  إن العقل والحكمة والمعرفة بطبائع الأمور تقتضي تقبل الميسور من أخلاق الناس، والرضا بالظاهر من أحوالهم ، وعدم التقصي على سرائرهم ، أو تتبع دخائلهم ، كما تقتضي قبول أعذارهم   والغض عن هفواتهم ، وحملهم على السلامة وحسن النية . وإذا وقعت هفوة أو حصلت زلة فليس من الأدب وليس من الخلق الحسن ، المسارعة إلى هتكها ، والتعجل في كشفها ، فضلا عن التحدث بها وإفشائها . لقد قيل : اجتهدوا في ستر العصاة فإن ظهور معاصيهم عيب في أهل الإسلام . فكيف يسمح المسلم لنفسه أن يتشاغل بالبحث عن العيوب ورجم الناس بها ؟ بل لعله قد يخفي ما يعلم من صالح القول والعمل .

وهل وظيفة المسلم أن يلوك أخطاء الناس ويتتبع عثراتهم  ويتعامى عن  حسناتهم   وكأنه لا يعرف ولا يرى إلا كفة السيئات ؟ أليس في عيوبه ما يشغله  عن عيوب الناس ؟ ألا يعلم المسلم أن الافتراء على الأبرياء جريمة ، يدفع إليها الكره الشديد ، ولما لها من أثرٍ شديدٍ في تشويه الحقائق ، عدها الإسلام من أقبح الزور   روت عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه ( أتدرون أربى الربا عند الله ؟ قالوا الله ورسوله أعلم ، قال فإن أربى الربا عند الله استحلال عرض أمريء مسلم ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم) والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبينا ( أبو يعلى .

ولا شك أن تلمس العيوب للناس وإلصاقها بهم عن تعمد يدل على خبث ودناءة وقد وتب الإسلام عقوباتٍ عاجلة لبعض جرائم الافتراء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من ذكر امرأ بشيء ليس فيه ليعيبه به حبسه الله في نار جهنم حتى يأتى بنفاد ما قال فيه) وما دام الذي قاله بهتاناً ، فكيف يستطيع أن يثبت عند الله باطلا ؟ وكيف يتنصل من تبعته ، إن الذي لا يجد بالناس شرّاً فينتحله لهم انتحالا ويزور عليهم تزويرا إنه لأفاّك صفيق قال تعالى : ) إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذابٌ أليمٌ في الدنيا والآخرة ( النور 19 .     

  إنه لا يمكننا التأثير على نفوس الناس أبدا وكسب قلوبهم إلا بتلمس الخير فيهم والحرص على مكارم الأخلاق معهم يقول صلى الله عليه وسلم : ( إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم ، ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخُلق ) أخرجه البزار بسند حسن . وانظر للناس فما كرهته فيهم من أخلاق فأبتعد عنه ، فإنهم يكرهون منك ما تكرهه منهم ، لأن المسلم الناصح شفوق بإخوانه ، رفيق بهم ، يحب لهم الخير كما يحبه لنفسه ، ويجتهد لهم في النصح كما يجتهد لنفسه . أما الفظ القاسي صاحب القلب الغليظ ، فقد قضت سنة الله أن ينفر الناس منه فلا تقبل منه دعوة، ولا يسمع منه توجيه، ولا يرتاح له جليس ) فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم ( آل عمران 159. وعلى قدر ما يمسك الإنسان نفسه، ويكظم غيظه، ويملك لسانه تعظم منـزلته عند الله وعند الناس.

وعلى قدر ما يتجاوز عن الهفوات، ويقيل من العثرات.. تدوم مودته ويأنس الناس به. ( إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم ولكن تسعوهم بأخلاقكم ). يسعهم منكم بسط المحيا وطلاقة الوجه.

 

 

 

                    عداء الكفار لدين الله        

قال تعالى : ] ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا [ البقرة 217. إن عداوة الكفار للمؤمنين قائمة إلى أن تقوم الساعة ، وصراع الحق والباطل باق إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها  لأنهم لا يريدون للإسلام أن يحكم المؤمنين بالعدل ويعطي كل ذي حق حقه ، فاجتهدوا في محاربة الدين ورد الحق بالباطل   وما علموا أن الدين باق والله متم نوره ولو كره الكافرون   قال تعالى : ] يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولوكره الكافرون ، هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون [ الصف 7-9 . إنهم يريدون أن تقف أمم الأرض في الكفر صفاً واحداً :] ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء [ النساء 89 .  وقد أخبر الله عن شدة عداوتهم للمسلمين بقوله :] ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم [ البقرة 105 . وهم وإن نطقت ألسنتهم بالموادعة ، فإن قلوبهم تأبى إلا الغدر والكيد للإسلام وأهله :]  كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلاً ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون [ التوبة 8 .

وقد بين الله بالنص الصريح أن طاعة الكفار مهما كانت فهي سببٌ للهلاك والخسارة وأن طاعته سبحانه هي سبيل العز والنصر والتمكين كما قال سبحانه : ] يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين بل الله مولاكم وهو خير الناصرين [ آل عمران 149. ولا يجوز الاعتماد عليهم ، أو الركون إليهم لأنهم أعداء للمسلمين  كما قال سبحانه : ] ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون [ هود 113 .  وقد حذرنا الله من اتخاذهم أولياء من دون المؤمنين ، فإن خاف المسلمون شرهم جاز اتقاء شرهم بالظاهر ، مع بغضهم بالباطن كما قال سبحانه : ] لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير [ آل عمران 28 .

لقد حذرنا منهم لأنهم  وراء كل عمليات العدوان على هذه الأمة ؟ بل لقد أصبح الغرب الكافر يرصد واقع المسلمين بشكل دؤوب ويعد الدراسات والأبحاث لمواجهة ما يسمى بالتطرف ، وما يفعل ذلك إلا لغرض خبيث ، هو محاربة الإسلام وحملة دعوته للحيلولة دون عودته إلى واقع الحياة .

وإن الناظر في منطقة العالم الإسلامي اليوم يراها تعيش واقعا غير عادي من السوء ، ويرى أهلها يعيشون في سجن كبير ، وتحت وطأة محاربةٍ شرسة للإسلام كنظام للحياة والدولة والمجتمع   ومحاربة الدعاة الذين يعملون لإيصاله إلى موقع الحكم والتطبيق ، مما اثر على إرادة الناس   وعلى مقدرتهم على الحركة ، وعلى التعبير عن آرائهم وأفكارهم . وقد أعلنوا العداء الصريح للإسلام كنظام للحياة ، واخذوا يحاربونه ويحاربون حملته والعاملين لإعادته إلى الحياة .

وقد اشتدت محاربتهم هذه  بعد أن برز الإسلام على الساحة كعامل سياسي يتطلع إليه المسلمون ليتخلصوا به من واقعهم السيئ ، فوصموه بأنه دين إرهاب وقتل ، ووصموا حملته بأنهم قتلة وإرهابيون ومتطرفون ، ليثيروا عداء الشعوب له ولحملته ، بل تعدى الأمر إلى محاربة مجرد اسم الإسلام ، ومجرد اسم المسلمين ، لأنهم يؤمنون بالعمل بالإسلام والتمسك بأحكامه ،  فكانت ألفاظ التطرف والمتطرفين والإرهاب والإرهابيين، والاعتدال والمعتدلين ، التي شهروها في وجوه المسلمين العاملين بالإسلام وللإسلام  وقد صرفوا هذه الألفاظ عن دلالتها والمعاني التي وضعت لها ، عن خبث وسوء نية ، فجعلوا من ينكر على الطواغيت ظلمهم وحكمهم متطرفا ، مع أن الرسول اعتبره مجاهدا روى أبو امامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله : ( أعظم الجهاد كلمة حق تقال في وجه سلطان جائر) وفي رواية لعبد الله بن مسعود : ( لتأخذن على يد الظالم ، ولتأطرنه على الحق أطرا ) وتمام الرواية عن حذيفة ( أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه فتدعونه فلا يستجاب لكم ) . ومن جهة أخرى فإن التطرف ليس له دلالة شرعية ، لان هذه اللفظة لم ترد في النصوص الشرعية ، ولم يستعملها فقهاء الإسلام ، وقد اعتبر الفقهاء من يزيد في عدد ركعات الفرائض  أو يطوف طواف العمرة عشر أشواط ، أو يوجب على نفسه لبس الخشن من اللباس تقربا إلى الله  او يحرم العمل السياسي ويقصر الإسلام على العقائد والعبادات والأخلاق وبعض المعاملات أو يمتنع عن الزواج لأنه يلهي عن العبادة وقيام الليل   كل هؤلاء يعتبرون متطرفين ومتنطعين لأنهم جاوزوا حدود الأحكام الشرعية .

والذي يلتزم أحكام الله تعالى ويبتعد عن نواهيه ويجاهد الكفار ولا يشرع الأحكام من دون الله تعالى ، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر  ويقول الحق أينما كان ولمن كان ، إن من يفعل كل ذلك لا يكون متطرفا أو متزمتا ، وإنما هو معتدل وملتزم بأحكام الله تعالى ، لأن المسلمين ملزمين بالتقيد بأحكام الإسلام ، والإتيان بها كاملة وفق ما شرعه الله لعباده ، دون زيادة فيها أو نقصان ، والوقوف عند حدود الله فيها وعدم تجاوزها ، حتى لو ناقضت مصالحهم وأهواءهم وعاداتهم ، وقوانينهم ودساتيرهم ، فدين الله أحق أن يتبع ، وحدود الله يجب أن تصان ، وأحكام الإسلام يجب أن يدعى لها ، وكل من يقوم بذلك فهو ملتزم ومتمسك ومعتدل ، أما من يخالف هذا فهو المتطرف والمخالف والآثم  : ﴿ تلك حدود الله فلا تعتدوها ، ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون ﴾. والحدود التي أمر الله بالتزامها ونهى عن التعدي عليها ومجاوزتها ، هي أحكام شرعية بينتها الشريعة الإسلامية ، وهي خطاب الشارع المتعلق بأفعال العباد جاءت في القرآن والحديث   وكان فيها الكثير مما يحتمل عدة معان حسب اللغة العربية وحسب الشرع ، لذلك كان طبيعيا وحتميا أن يختلف الناس في فهمها ، وأن يصل هذا الاختلاف في الفهم إلى حد التباين والتغاير في المعنى المراد ، لذلك قد يكون هناك في المسألة الواحدة آراء مختلفة ومتباينة . ولكن العبرة في أخذ الأحكام الشرعية هو صحة استنباطها من الأدلة التفصيلية ، ويكون حينئذ الالتزام بهذه الأحكام اعتدالا واستقامة ، ويكون عدم الالتزام بها تطرفا وتجاوزا لحدود الدين . هذا هو ديننا وهذا هو فهمنا له ، وما عدا ذلك خروج عليه .

 

 

 

طريق الإصلاح

قال تعالى : )  أفمن يمشي مكباً على وجهه أهدى أمن يمشي سوياً على صراط مستقيم ( الملك2    .      

 تصور لنا الآية القرآنية حال الشقي التائه في الضلال الغارق في الكفر ، وقد انتكس قلبه ، فصار الحق عنده باطلا ، والباطل حقا ، الضال عن طريق الله ، المحروم من هداه من أصحاب العقليات الفاسدة ، والنفسيات المريضة  التي لها أهداف التدمير والتخريب والإفساد وغايات الاستعلاء والاستكبار ، والاحتكار وحب السيادة والسلطان ، بخلاف من كان عالماً بالحق ، مؤثراً له ، عاملاً به ، يمشي على الصراط المستقيم ، في أقواله وأعماله وجميع أحواله ، من أصحاب النفسيات الطيبة التي تسلك طريق الإيمان والحمد ، وتسعى وراء تحصيل رضوان الله ، وتعمل من أجل الإصلاح والبناء والتعمير ، والتخلص من العبودية   وبسبب هذا الاختلاف في الطبائع ينشأ الاختلاف على المصالح مما يؤدي إلى المشاحنات والصراع ، الذي يصل أحياناً إلى سفك الدماء  

وما نريده ليس التأكيد على وجود هذا الصراع إنما النظر لبعض المواقف داخل حلبة هذا الصراع ، مثل المروءة والرجولة والشجاعة والجرأة أو عكس ذلك ، مثل الجبن والخوف والتخاذل ، ثم ما هي حقيقة وزن الرجال ؟ حتى نعرف مواقفهم في هذا الواقع المرّ  الذي يحتاج إلى علاج و إصلاح ، ولهذا اتجه الإسلام في جميع محاولاته الإصلاحية إلى النفس ، مستهدفاً تقويمها وتهذيبها ، وإن قول الله تعالى : ) قد أفلح من زكاها (  مصدراً هاماً من مصادر العطاء في هذا المجال ، لأن الآية تشير إلى من طهر نفسه من الذنوب ، ونقاها من العيوب ، ورقّاها بطاعة الله   وعلاّها بالعلم النافع والعمل الصالح ، ولذلك خاطب الله فرعون فقال : ) هل لك إلى أن تزكى ( هل لك في خصلة حميدة ، ومحمدة جميلة ، يتنافس فيها أولو الألباب بأن تزكي نفسك وتطهرها من دنس الكفر والطغيان إلى الإيمان والعمل الصالح ، فبصلاح النفس يصلح الإنسان  وللنفس مسميات جاء ذكرها في النصوص ، فتسمى أحيانا النفس  وأحيانا القلب ، وهي جوهر الإنسان قال صلى الله عليه وسلم ( ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب ) .

وقد تعهد النبي صلى الله عليه وسلم بناء نفوس أصحابه لحمل الرسالة الخالدة ، لتبليغها ، ولأنه صلى الله عليه وسلم يعلم جيدا أن فاقد الشيء لا يعطيه ، فقد أخذ في بناء هذه النفوس ، وإصلاحها  وتزكيتها ، وترسيخ أصول العقيدة وقواعد الفضيلة ومكارم الأخلاق فيها ، حتى إذا ما بنيت الدولة ، انطلقت هذه النفوس المطمئنة ، التي امتلأت بخشية الله ، والتي انتصرت على أهوائها ، في عمارة الكون ، وإصلاح الدنيا   وقيادة أهلها وشئونها ، إلى كل خير وفضيلة ونجاح لقد واجهوا ظلم الجاهلية وطغيانها ، وقسوة الحياة وشظفها  بعزائم من حديد ، وأعلنوا الجهاد على المادية وأدواتها وأنصارها ، ورفعوا راية الإسلام ، ونشروا هدي هذا الدين في أغلب أنحاء العالم ، وجعلوا كلمة الذين كفروا السفلي وكلمة الله هي العليا ، وقد تعهدوا أنفسهم بالإصلاح الدائم ، والرعاية المتتابعة على نفس المنهج الذي رباهم عليه محمد صلى الله عليه وسلم  وترك لهم أصوله ، فكانوا صالحين في أنفسهم ، كما كانوا قدوة صالحة لتابعيهم ، ولمن جاء بعدهم ، بل لكل من اهتدى بكتاب الله تعالى ، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وسيرة صحابته رضوان الله عليهم ، أما اليوم فقد صار هذا الإصلاح لهذه الأمة غاية عزيزة المنال ، غالية الثمن  تحتاج إلى صدق العزم ، وشد الرحال ، وبذل الجهود .

بل صار أمام هذا الإصلاح عقبات وعقبات . يصور لنا الإمام الغزالي بعضاً منها حيث يقول : خلق الله الخلق على أقسام ثلاثة .. قسم ركب فيه العقل فقط ، وهم الملائكة    فهم : ) لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ( التحريم . وقسم ثان : ركب فيه الشهوة فقط ، وهم الحيوانات ، وقسم ثالث : ركب فيه العقل والشهوة معا وهو الإنسان ، ولذا فهو يعيش في صراع بين ما يمليه عليه عقله ، وما تجره إليه شهواته ، فمن غلب عقله على شهواته .. فهو إلى الملائكة أقرب . ومن غلبت شهواته على عقله .. فهو إلى الحيوانات أقرب .

ولهذا : فالإنسان في صراع دائم بين النفس الأمارة بالسوء   وإصلاح حالها ، بين الخطأ والنقصان المركب في طبيعته والصواب الذي يحبه ، والكمال الذي ينشده ، بين ما يمليه عليه عقله ، وما تجره إليه شهواته  .

 إن هذا التردي الذي تعانيه الأمة اليوم راجع إلى التقصير في إصلاح النفس وتعهدها بالرعاية والتزكية ، فتبعت هواها ، وضلت السبيل ، وفقدت صلاح حالها   ومقومات نجاحها ، وضاعت منها مؤهلات الخيرية  وعوملت من الأعداء بلا اكتراث ، وتعرضت حقوقها للافتراس ، إلى غير ذلك من ألوان الخسف والانتقاص.  ولعلاج النفس وتعهدها بالرعاية ، كان الربيع بن خثيم   قد حفر قبرا لنفسه بداره ، وكان يدخله كلما شغلته الدنيا   ويجلس فيه فترة ، حتى إذا ما خشع قلبه ، ورق فؤاده  خرج ، ثم يقول لنفسه يا ربيع ..! لقد خرجت هذه المرة   فاحذر مرة لا تخرج بعدها أبدا ، وإذا كان ذلك عهده مع نفسه ومشارطته إياها إجمالا : فعليه أن يزيد في العهد معها تفصيلا ، بأن يعاهد العين والأذن واللسان والبطن والفرج واليد والرجل ، فهي التي  تقود النفس إلى الخير أو إلى الشر ، إذ هي رعايا خادمة لها  وبها يتم أعمالها وتحقيق مأربها . ثم يستأنف معاهدة نفسه فيما يخص العقيدة وصفاءها ومداخل الشيطان إليها  فيكون على ذكر دائم لله  وتوحيد صادق له سبحانه   في أسمائه وصفاته وأفعاله  يقظا لإبعاد الشيطان ووساوسه وهواجسه ، والانقياد له عن نفسه . وفيما يخص الأخلاق والسلوكيات : يعاهد نفسه على دوام التحلي بفضائل الصفات وكريم العادات ومحاسن الآداب ، والاهتمام بأمور المسلمين جلبا للخير لهم  ودفعا للشر عنهم فيفرح لفرحهم ، ويبذل قصارى جهده في دفع أحزانهم وآلامهم   والانشغال بأمور الدعوة إلى الله  والحرص الدائم على رفع شأن الإسلام وإعلاء كلمته .  ويعاهدها كذلك على التخلي عن مساوئ الصفات ودنيء الفعال ، طاعة لله  وامتثالا لهدي رسوله صلى الله عليه وسلم . وكذلك فيما يخص العبادات والمعاملات .

وهذه المعاهدة مع النفس حقيقة : يحتاج إليها الإنسان  ليحاسب نفسه قبل أن يحاسب ، لأن من طال حسابه لنفسه في الدنيا نجا من أهوال الحساب يوم الحساب  وكلما كثرت محاسبة الإنسان لنفسه : قلت عيوبه  وكثرت ميزاته ، ونجحت خطته في إصلاح نفسه  ولذلك كان عمر رضي الله عنه يقول : " حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوها قبل أن توزنوا ، وتهيؤا للعرض الأكبر )يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية (  

والقرآن الكريم نبه إلى ضرورة هذه المحاسبة للنفس في الدنيا من باب نشدان الكمال ، وإصلاح النفس  وللتدريب على مواجهة مشقات الحساب قبل يوم الحساب ، حيث يقول سبحانه : ) يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد ( .

  فمجاهدة النفس وبذل غاية الاستطاعة في الوصول إلى إصلاح حالها ، تخلصا من العيوب ، واكتسابا للفضائل  وبلوغ أقصى الدرجات في تحقيق ذلك عبر عنه الشاعر بقوله  

يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته       أتطلب الربح مما فيه خسران  

أقبِل على النفس واستكمل فضائلها    فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان

 وهذا أبو الطيب المتنبي يقول :

وإذا كانت النفوس كبارا    تعبت في مرادها الأجسام

ففي النفوس نفوس كبيرة ، ونفوس صغيرة ، نفوس منحطة ونفوس عالية ، نفوس كريمة ونفوس لئيمة ، وهي 

 نفوس أهل الباطل والظلم وهم في استعلاء ظاهرين فوق العباد بظلمهم وجبروتهم ، وتخاذل أهل الاستقامة والصلاح نتيجة الوهن الذي حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : ( الوهن هو حب الدنيا وكراهية الموت ) والخوف والجبن الذي يسيطر عليهم ويأخذ مأخذه فيهم فيتراجعوا عن القيام بالواجب لصالح أصحاب الباطل ، لأن الجبن ما اتصفت به أمة إلا وأفقدها النخوة والرجولة والعزة والكرامة ، وفتح لعدوها سبل الظلم والفساد والعبث بحياة الناس ومصالحهم   فيتلاعبون بها كيفما أرادوا دون معارضة ، بسبب الجبن الذي أفقد الأمة العزة والشهامة وقتل فيها الإحساس بالكرامة ، فوجد الأعداء حظهم فيها ولم نجد من يأخذ على أيدي الظالمين نتيجة الجبن والوهن الذي أمات القلوب   وهو ما حذر الله منه بقوله ) ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون ( هود 113 .

فنحن بحاجة إذن إلى قدر من الحماس نصبه على البرود القاتل الذي ابتلينا به ، في مواجهة القضايا والمصائب التي تحيق بالأمة وتهدد مصيرها ، والأوبئة التي تفتك بها والانحرافات السياسية والاقتصادية التي تهزّ كيانها   والتيارات الثقافية التي غزتها في عقر دارها ، إننا بحاجة إلى صرخات المخلصين لتوقظ النائمين وتحذر الغافلين وترهب المتلاعبين ، نعم نحن بحاجة إلى هؤلاء وأولئك ما دام المعروف ضائعاً والمنكر شائعاً ، وما دام الإسلام يعيش غريباً في أوطانه مضطهداً بين أهله ، وما دامت شريعته معطلة ، وقرآنه مهجوراً ودعاته معزولون عن مواطن التأثير والتوجيه . إننا بحاجة إلى عمل بالإسلام وعمل للإسلام  وذلك بتحمل عبء الدعوة إليه عقيدة وشريعة   ودنيا ودولة ، وحضارة وأمة ، وثقافة وسياسة ، والجهاد في سبيل تمكينه في حياة المسلمين ، حتى يتفق واقع المسلم مع عقيدته ، ويلتقي سلوكه مع ضميره ، وألا نكتفي بالتدين التقليدي : وهو التدين الجزئي الفردي المعزول عن قضايا الأمة الكبرى ، وعن رسالتها في الحياة ومكانتها في  

الوجود ، وإن الذين يقتصرون على ذلك ويحسبون الإيمان والتقوى والاستقامة والصلاح مجرد أداء للشعائر  والإكثار من التسبيح والتهليل والتكبير ، والامتناع عن المحرمات المعروفة من الزنا والسكر ونحو ذلك ، مع تغييب العقل وإهمال العلم وإغفال العمل ، ومجافاة السنن ، وانتظار البركة من السماء ، وقد علموا كما قال عمر بن الخطاب : أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة ، ولو رجعوا إلى ما كان عليه المسلمون الأوائل ، الذين أورثهم الله الأرض ، ومكن لهم فيها وجعلهم أئمة وبدّلهم من بعد خوفهم أمنا ، لعرفوا أنهم لم يحققوا ذلك إلا بالجهد والعلم ، والفكر الدءوب والجهاد الصبور ، هكذا فهموا الإيمان والتقى والاستقامة والصلاح ، فقد وازنوا بين العمل للدنيا والعمل للآخرة ، وجمعوا بين حظ النفس من الحياة   وحق الرب في العبادة  فخدموا الدين بالدنيا ، وأصلحوا الدنيا بالدين) فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة (آل عمران 148 .

إن من السطحية أن نحسب  أننا بمجرد  أن ننادي بالإسلام شعاراً أو نغيِّر بعض المواد القانونية بمواد إسلامية يطلع علينا الصباح وقد حلّت مشكلاتنا ، وشفينا من كل أدوائنا غافلين أن لله في خلقه سننا لا تحابي ، فالله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ، وإن التغيير يحتاج إلى عمل طويل النفس ، وتوجيه متعدد الجوانب متنوع الوسائل ، وإن الإصلاح يحتاج إلى تخطيط مدروس   ورجال يجمعون بين القوة والأمانة ، ويقودون سفينة التغيير إلى بر الأمان  وذلك ليس بالمستحيل إذا صدقت النيات وصحت العزائم   وفي ذلك يكون طريق النجاة والخلاص قال تعالى : ) ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم ( .            

 

      

 

            

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

عوامل هلاك الأمم واندثارها

في كتاب الله بيان للسنن الكونية والقوانين الربانية التي تبين عوامل ولادة الأمم أو الدول ، وسيرها في طريق القوة والنضوج ، وعوامل هلاكها واندثارها بعد القوة وبعد النضوج   وفي كتاب الله من السنن الربانية ما يبين مصير الأمم التي قد خلت من قبل ، وفيه ما يبين مصير الناس والأمم التي ستأتي من بعد ، ولكن قليلون هم الذين يتدبرون كتاب الله ليقفوا منه على هذه السنن وعلى هذه القوانين الربانية التي يأخذ الله عز وجل بها عباده أشخاصاً ودولاً وأمماً ، وجولة في ضمير الزمان وأبعاد التاريخ ، يرينا القرآن طرفاً من سنة الله الجارية التي لا تتخلف ولا تحيد قال تعالى : ) أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة   وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ( الروم 9 .

في الآية دعوة إلى التأمل في مصائر الغابرين الذين مضت فيهم سنة الله ، ولم تنفعهم قوتهم ولم يغن عنهم علمهم ولا حضارتهم  ولقوا ما يستحقون من جزاء . وقد جسد الله لنا سننه هذه في قصة رجل جعل منه وسيلة إيضاح وبيان لذلك ألا وهو : قارون فقد قص الله علينا قصته لنعلم كيف يسوس الأشخاص ويتعامل معهم ، وكيف أن هذا القانون ذاته هو القانون الذي يسوس على أساسه الدول والأمم والجماعات قال تعالى : ) إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ ( لما طلب موسى من قارون زكاة ماله  رفض قارون ودبر له فضيحة ليصرف الناس عنه ، فقد أغرى امرأة بغيا فأعطاها طستاً مليئاً بالذهب على أن تدّعي على موسى وتتهمه  وعندما جاء موسى عليه السلام ليخطب بالناس ويبين لهم الأحكام فقال : من يسرق نقطع يده ، ومن يزني نجلده إن كان غير محصن ، ونرجمه إن كان محصنا ، فقام له قارون وقال : فإن كنت أنت يا موسى ؟ فقال وإن كنت أنا ، وهنا قامت المرأة البغي وقالت : هو راودني عن نفسي ، فقال لها والذي فلق البحر لتقولِن الصدق ، فارتعدت واعترفت بما دبره قارون  فانفضح أمره وبدأت العداوة بينه وبين موسى عليه السلام  وبدأ قارون في البغي والطغيان حتى أخذه الله ، تلك هي هويته : البغي   والبغي : هو أشد أنواع الظلم ، وإذا اجتمع الظلم مع الاستكبار فذلك هو البغي فبغى عليهم ، ومع ذلك يقول الله : ) وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ( . قارون بغى وطغى فلماذا أعطاه الله كل هذه الكنوز ؟ ولماذا مده بمزيد من القوة وبمزيد من العطاء ؟ سؤال يطرحه الإنسان ، والجواب كما هي السنن الإلهية في كتاب الله : ) فذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ   وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ( القلم 44 . هذه الآية هي التي تتضمن الجواب عن هذا السؤال ) فَبَغَى عَلَيْهِمْ (  ثم يقول: ) وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ (  ينبغي أن نقف أمام هذه السنة الربانية ، إن العبد إذا طغى وبغى فإن الشأن في معاملة رب العالمين له أن يمده بالعطاء ، وأن يزيده رفعة   وأن يزيده علواً ، وأن يبسط أمامه الطريق لمزيد من الاستكبار ولمزيد من العتو  وليس من عادة رب العالمين أن يهلك هذا الإنسان الطاغية الباغي إلا بعد أن يصل إلى القمة من تعاليه واستكباره ، هكذا تقول السنن الربانية ، لماذا ؟ ذلك لأن أحداً من الناس ، إذا وقع لايقع على الإنسان الذي يعيش حياة الفقر والمهانة   وحتى يتحقق معنى الوقوع فإن الله يرفعه ثم يرفعه ثم يرفعه حتى إذا وصل إلى القمة عندئذ يدفعه إلى الهاوية ، وصدق الله القائل: ) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ( . من أجل هذا بسط الله لقارون وأمده بمزيد من القوة  وبمزيد من العطاء ، وهذه السنة التي تصدق على قارون تصدق على الجماعات وتصدق على الدول وعلى الأمم أيضاً ، ثم ماذا كان من عاقبة ذلك أرسل الله عز وجل إليه الناصحين ، أرسل إليه المذكرين المنذرين ، قال له قومه : لا تفرح ) إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ، وَابْتَغِ فِي ما آتاكَ اللَّهُ الدّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا ( القصص 76 . لا تنسَ إذ تخرج من هذه الدنيا ما الذي تحمله معك ، اذكر ذلك ) وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ( القصص77 .

فالفساد سبب من أسباب انهيار الأمم ، فإذا تكبرت وطغت وانتشر فيها الفساد عاجلها الله بالعقوبة قال تعالى : ) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (الفجر 6 . ماذا عملوا وما صنعوا ؟ ) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (الفجر 11.  فكانت النتيجة ) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ( الفجر 14. فما هو الفساد والطغيان؟ إنه المصنع الذي يصنع فيه الإرهاب ، فكلما وُجد الفساد أًثمرالإرهاب ، وكلما غاب الفساد لابد أن يغيب الإرهاب الذي يتحدث عنه البغاة والطغاة اليوم قال الله لقارون : ) وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الأَرْضِ ( لم ينهه عن الإرهاب إنما نهاه عن ينبوع الإرهاب ، عن المعمل الذي يُصَنَّع فيه الإرهاب ، وكلمة الفساد : هي الكلمة الربانية الدقيقة المتكررة في كتاب الله ، إنها كلمة تعني : الظلم والطغيان والبغي والاستكبار والاغتصاب ، بل إن كل ما يتعارض ويتناقض مع العدالة فهو جزء لايتجزأ من معنى الفساد ، وإذا استشرى الفساد فانتظروا أن تظهر مظاهر الإرهاب هنا وهناك ، وإذا شعر الناس أنهم ضحايا للفساد والاغتصاب ، وأن حقوقهم بدأت تنتقص أو تستلب ، وأنهم أصبحوا من المستضعفين في الأرض  عندها تتفجر عوامل المقاومة لهذا الفساد ، ومن أجل هذا أرسل الله عز وجل إلى قارون من يقول له : ) وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ( القصص 77. ولم يؤثر هذا النصح في قارون الطاغية ،  وقارون نموذج لطغاة كثيرين مروا في هذه الدنيا ولا يزالون يمرون ) قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي (. لسان حاله لا ينصحني ناصح ولا يذكرني مذكر  إنما نلت هذا الذي نلته بعرق جبينـي وبالعلم  وبالقدرات الحضارية ، وقد جاء هذا البيان الإلهي وكأنه ثوب فصل على قدر واقع الطغاة في كل عصر ، وفي كل زمان ومكان؟ التباهي بالعلم، التباهي بالتقدم التقني . ويأتي الجواب الرباني ليقول له ولأمثاله إلى قيام الساعة :  ) أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً ( القصص 78.  ففي التاريخ الماضي كم وكم من أمم طاغية باغية متعها الله من القوة بما لم يمتع به كثيراً من الناس الذين يعيشون فوق الأرض اليوم   فماذا كانت عاقبة طغيانهم ؟ كانت عاقبة ذلك الهلاك كما قال تعالى : ) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ( هود 102.  

فقد استكبر قارون فكانت العاقبة ) فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (القصص 81 .  فلم لا يعتبر المتجبرون من مصارع الغابرين الذين ذكرهم القرآن الكريم قال تعالى : ) أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات أفلا يسمعون ( إن البشرية تخضع لقوانين ثابتة في نشوئها وضعفها وقوتها ، والقرآن ينبه إلى ثبات هذه القوانين ، ويتخذ من مصارع القرون وآثار الماضين الدارسة الخربة ، يتخذ منها معارض للعبرة والخوف من بطش الله وأخذه للجبارين ، ونظره في عالم اليوم نرى نشوة التحكم الأمريكي وتربعها على صدر عالم اليوم قد بلغ أوجه ، مما يبشر بحتمية انحسار هذا التحكم وزوال سلطانه ، الذي تحول إلى سوط يسوم الشعوب الضعيفة سؤ العذاب والقتل والهوان  وقد بلغ التحدي مداه عندما نصَّبت أمريكا نفسها الحاكم المتفرد بإدارة الكون ، والمتحكم في شؤون الدول والشعوب والأفراد ، إضافةً إلى امتلاكها زمام المبادرة والقرار في شؤون العالم الاقتصادية والمالية ، بعد أن أوجدت المؤسسات الدولية التي استطاعت أن تجعل الدول تقع في فخ المديونية  والعمل على تكريس الظلم والقهر والعدوان . صحيح أن أمريكا تتربع على عرش العالم ، ولكن قواعد هذا العرش قائمة على الجماجم والأشلاء والظلم والقهر ، فاستحقت أن تحمل وسام الكراهية والعار . و في غمرة التبعية المذلة للدول والشعوب لها أصبحت ترى نفسها في موضع السيد المعبود ، إذ لا مجال للاعتراض على القرارات التي تحكم فيها بالإعدام على الشعوب ، فلا تسمح لأن تسأل عما تفعل وهم يسألون ، ونست هذه الإدارة أن الله خص نفسه ولا أحد يعرف ما في نفسه ، إلا أننا نذكر في هذا المقام قوم نوح بالطوفان ، وكذلك فرعون وجنوده بالغرق   وقوم لوط بالزلزال ، وقوم هود بالريح إلى آخر ما ذكره الله في القرآن من ألوان العذاب الذي أنزله بالأمم الكافرة قال تعالى : ) أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلهم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ؟ (.  إنها سنة الله فلا بد من الشدائد ولا بد من الكروب ، حتى لا تبقى بقية من جهد ولا بقية من طاقة ، ثم يجيء النصر بعد اليأس من كل أسبابه الظاهرة ، التي يتعلق بها الناس ، يجيء النصر من عند الله  فينجو الناس من البطش والتعسف الذي يلاقوه من المتجبرين ويحل بأسُ الله بالمجرمين مدمراً ماحقاً ، لا يصده عنهم وليٌ ولا نصير   وإذا كان هذا كائناً بدليل النص القرآني ، فلماذا  تضلل الشعوب ، باتخاذ الأنداد من دون الله ، ولماذا تسلم القيادة لمن يتلقون شرائعهم من أهواء البشر لا من وحي الله ؟ ولماذا هذا الخضوع والخنوع والخوف منهم ومن قوتهم ومكرهم ، الذي سيأخذهم الله به مهما يكن من العنف والتدبير ؟ .

 قال تعالى : ) وقد مكروا مكرهم وعند الله مكْرُهُمْ وإن كان مكْرُهُم لِتَزولَ منه الجبال ( إبراهيم 45 . إن الله محيط بهم وبمكرهم وإن كان مكرهم من القوة والتأثير حتى ليؤدي إلى زوال الجبال ، أثقل شيء وأصلب شيء وأبعد شيء عن تصور التحرك والزوال ، فمكرهم هذا ليس مجهولاً وليس خافياً وليس بعيداً عن متناول القدرة ، فهو حاضر عند الله يفعل به كيف يشاء وصدق الله : ) فلا تحسبن الله مخلف وعدِه رُسُلَه إن الله عزيز ذوانتقام( إبراهيم 46. ومن يشعروا بالفشل والخيبة إذا رأوا قدر الله يبطئ بهم عن الغلب الظاهر والتمكين في الأرض ، ندعوهم لدراسة تاريخ الأمم القوية الغنية ، كيف انتقص الله من قوتها وقدرتها ، فهزمت أمام الحق وأنصاره ، والأمم اليوم ليسوا بأشد مكراً ولا تدبيراً ولا كيدا ممن كان قبلهم ، فأخذهم الله وهو أحكم تدبيراً وأعظم كيداً قال تعالى: ) وقد مكر الذين من قبلهم فلله المكر جميعاً ( الرعد 43.

ما أحوج المسلمين اليوم أن يدركون طبيعة المعركة ، وان يدركوا أن قوى الكفر لا يحاربون المسلمين إلا على العقيدة   مهما تنوعت العلل والأسباب ، وما أحوجهم إلى أن يدركوا أن كل شيء بيد الله ، ينصر من يشاء ولا مقيد لمشيئته   والمشيئة التي تريد النتيجة ، هي ذاتها التي تيسر الأسباب  والعقيدة الإسلامية واضحة في هذه المجال ، فهي ترد الأمر كله إلى الله ، ولكنها لا تعفي البشر من الأخذ بالأسباب التي من شأنها أن تظهر النتائج ، أما تحقيق هذه الأشياء أو عدم تحقيقها فليس داخلاً في التكليف ، لأن مرد ذلك في النهاية إلى تدبير الله . وعندما ترك الأعرابي ناقته طليقة على باب مسجد رسول الله r ودخل يصلي قائلاً : توكلت على الله . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إعقلها وتوكل )أخرجه الترمذي . فالتوكل في العقيدة مقيد بالأخذ بالأسباب ، ورد الأمر بعد ذلك إلى الله الذي ينصر من يشاء  وإن كل مسلم منا يستطيع أن يعرف سبب ما يحل بنا ، إذا ما عرف لمن المقام الأعلى في حياتنا ولمن الطاعة والإتباع والامتثال ؟ فإن كان لغير الله فهم في غير دينه ، وحتى يأتيهم النصر عليهم تفادي ذلك  حتى يأذن الله للأمة الضائعة بمن يرفع راية الجهاد ويعيدها إلى الإيمان ، هذا بلاغ للناس ولينذروا به   وليس لما يفعلونه من أثر ، ولا يمكن بحال من الأحوال أن يعوق بحقيقة وعد الله لعباده المؤمنين بالنصر ، وأخذهم أخذ عزيز مقتدر . لأن الله لا ولن يدع الظالم يفلت ، ولا يدع الماكر ينجو ، ولن يخلف الله وعده ، وسيكون ذلك لا محالة ولو إلى حين ، ولا ندري كيف يتم هذا . ولكن الله أعلمنا بأنه لا  يغيِّر نعمة أو بؤس ، ولا عزاءً أو ذلة إلا أن يغير الناس من مشاعرهم وأعمالهم ، لأن ما يحل بالمسلمين هو نتيجة مترتبة على ما يكون منهم قال تعالى : ) إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم  (الرعد 11.

 

 

 

 

موضوع يشغل أبناء الإسلام وأعداء الإسلام ، ويشغل الخائفين على الإسلام والخائفين من الإسلام،  وبما أن المستقبل غيب فلا يستطيع أحد أن يحكم عليه وعلى ما سيأتي به ، إلا بضروب من التخمين والتكهن وفي أحسن الحالات بضروب من التقدير والترجيح والتقريب ، ومما يساعد على التقدير والتقريب لمجريات المستقبل ومساراته ما نعلمه من سنن الله تعالى التي لا تتبدل ولا تتخلف     { سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا  }  ومن سنن الله أن ما نزرعه اليوم نحصده غدا وما نزرعه غدا نحصده بعد غد ، فكيف نتفاءل اليوم بأن المستقبل للإسلام، وعلى يد من ؟  إن مستقبل الإسلام يتم من خلال الدعاة الذين نذروا أنفسهم خالصةً لله ومن خلال الأيدي المتوضئة ، ومن خلال الجبهات التي تعفرت بطول السجود، ومن خلال القلوب التي اعتصرت بهمّ الإسلام وألمه ، هؤلاء هم الذين يقوم عليهم مستقبل الإسلام . والمسلمون اليوم يعايشون أزمات متلاحقة تضرب في جوانب حياتهم ودولهم بلا استثناء ، ولعل الأزمة التي يعاني منها العالم الإسلامي في حالة مخاض متواصلة يجد متاعبها وآلامها، ويدفع ثمنها، ولكنه لايشهد لها أثراً ولا يبصر لها نهاية .

وفي مثل هذه الحال يغدو التفريط والتساهل في دراسة المستقبل واحتمالاته ، ورسم الخطط المكافئة تفريطاً في الضروريات ، وغفلة عما أوجب الله على العباد من التدبر والنظر والتخطيط، ولعل من أثر ذلك الانشغالات الجزئية بالهموم الخاصة عن هموم الأمة ، ولعل من طريف ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في أوقات الحرج يسائل أصحابه : ( هل رأى أحد منكم رؤيا ؟) والرؤيا الصالحة هي أحد النوافذ إلى قراءة المستقبل إذا كانت على حد الاعتدال والتوسط ، فمن المدهش أن تجد في ظل غياب التفكير الجاد في أمر المستقبل، سواءً كان المستقبل الشخصي للفرد في حياته العملية والاقتصادية والاجتماعية، أو المستقبل العام للأمة ، أن تجد حضوراً مذهلاً للعرافين والمنجمين الذين يفيضون على الناس خليطاً من التجربة العادية، ومن وحي الشياطين، ومن الحدس والبراعة، ومن الخداع والاستغفال  ويتفننون في توظيف المشتركات البشرية التي لا يخلو عنها أحد فيستهوون بذلك السذج والبسطاء، ويخدرون عقول العامة، ويقتحمون حرمة الغيب المصون { قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون } النمل 65 .  وهذا ما تجده في برامج الحظ والأبراج في القنوات الفضائية أو الإذاعات أو الصحف، وهو ما تجده أيضاً في الزوايا المظلمة التي يقبع فيها السحرة ومستخدمو الجن والمشعوذون حيث تذبح الأديان والعقول، وتهدر الأموال بلا حساب .

وللمرء أن يطول عجبه من أمر هذه الأمة في غفلتها عما أوجب الله عليها، وهجومها على ما حرم ، وانتهاك بعض منتسبيها لأستار الشريعة وادعاؤهم ما ليس لهم به علم  غافلين عما تمر به المنطقة  من تحولات ، والتي قد تشهد   أحداثاً جادة، وأزمة مفتوحة لا يعلم إلا الله وحده نهايتها  وإذا كان هذا من الغيب فهو من الغيب الذي جعل الله له مفاتيح تلتمس بدراسة المقدمات والأسباب، وقراءة الواقع في المنطقة ذاتها ، وتحري أهداف السياسة الغربية  والأمريكية خاصة، في مرحلتها المقبلة والعوامل المؤثرة فيها، واستحضار التجارب المشابهة ، فهل يصحو المخلصون من سباتهم ويفطنون لهذا ؟ وهل يستمع المعنيون إلى أصوات الرشد التي تدعو إلى مواكبة الأحداث وتطوير الذات، والامتثال لمخاطبات التغيير الناصحة المشفقة ، في مرحلة من اسوأ المراحل التاريخية التي يمر بها العالم الإسلامي ؟ فالأزمات الماضية لم تكن تصيب الأمة كلها في وقت واحد ، كما هو الحال في هذه المرة، ولم يكن الذل والهوان والضياع يشمل الأمة الإسلامية كلها  كما يشملها في هذه الأيام ، وإذا اعتبرنا نكبة الأندلس مثلاً أسوأ ما مرّ بالمسلمين في القرون الماضية فنكبة فلسطين أسوأ، فعندما تقلص ظلُّ المسلمين في الأندلس كانت الدولة العثمانية قد فتحت القسطنطينية وأصبحت عاصمة الخلافة الإسلامية  وتوغلت بجيوشها في أوربا حتى وصلت إلى فيينا ، بينما حدثت نكبة فلسطين وقد انحسر ظلُّ المسلمين في كل أرض ،  والمذابح تحل بهم في كل مكان ،في العراق , في الفلبين، في الحبشة، في أرتيريا في تشاد في الصومال، في نيجريا، في الصين في الهند  في أفغانستان في الشيشان ، والمؤامرات تُحاك ضد الإسلام والمسلمين من كافة دول الشرك والكفر كلها ، تلك الدول التي تحتل في كل مرة جزءاً من أرض الإسلام  وتستعبد من يبقى فيها من المسلمين ، فهل يفيق المسلمون من غفوتهم ؟ لقد الله تكفّل بإخراج الصحوة الإسلامية إلى الوجود {وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } يوسف22 ، فهي قدر الله الغالب  الذي ستخرج به هذه الأمة – بإذن الله - من حالة الضياع التي تكتنفها  إلى الاستقامة على الطريق وتطبيق منهج الله ، والقيام بدور جديد في حياتها، لتنقذ نفسها مما هي فيه من الذل والهوان ، وتطلق في الوقت ذاته بصيصاً من النور للبشرية الحائرة لعلها تهتدي إلى الطريق ، واسرائيل ودول الكفر يعلمون أن سر قوة المسلمين وانتصارهم يكمن في تمسكهم بإسلامهم ، واعتزازهم بدينهم واعتصامهم بكتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم ، ولذا يعملوا جاهدين في تغييب الإسلام عن المعركة  فقد جاء في صحيفة من صحف اليهود مقالا جاء فيه : "إنّ على وسائل إعلامنا أن لا تنسى حقيقة مهمة، هي جزء من إستراتيجية إسرائيل في حربها مع العرب، وهي أننا قد نجحنا بجهودنا وجهود أصدقائنا ، في إبعاد الإسلام عن معركتنا مع العرب طوال الثلاثين عاماً، ويجب أن يبقى الإسلام بعيداً عن المعركة إلى الأبد، ولذا يجب ألا نغفل لحظة واحدة عن تنفيذ خطتنا في منع استيقاظ الروح الإسلامية بأيّ شكل وبأي أسلوب".

ولم يدخر الأعداء جهداً في إثارة الشعارات القومية والوطنية، فعندما كان هتافنا (أمجاد يا عرب أمجاد) لم تنصرنا أمجاد العرب، لأن مجد العرب ولد يوم ولد محمد صلى الله عليه وسلم، فلولا مبعث محمد عليه الصلاة والسلام لم يكن للعرب إلا المعلقات، والمعارك بين القبائل، وتلك أمورٌ لم تبنِ مجداً، ولم تخلد ذكراً، فلم تسمع بها روما ولا مدائن كسرى، ولكنها سمعت بمحمد وأصحاب محمد لما جاء بالإسلام، الذي جعلهم سادةالدنيا.

لقد انتصر الإسلام، بحسب السنن الجارية لا بسنة خارقة    فمن سنن الله الجارية أن ينتفش الباطل في غيبة الحق، فإذا جاء الحق زهق الباطل: {وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً } الإسراء 81 ، ومن سنن الله الجارية أن يتدافع الحق والباطل ليتم إنقاذ الأرض من الفساد       { وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ } البقرة 251  والناس إن لم يجمعهم الحق شعّبهم الباطل، وإن لم توحّدهم عبادة الرحمن مزّقتهم عبادة الشيطان ، وإن لم يستهويهم نعيم الآخرة ، تخاصموا على متاع الدنيا ، ولذلك كان هذا التطاحن من خصائص الجاهلية الجهلاء ، وديدن مَن لا إيمان له ، فجاء الإسلام  والعرب في الجزيرة آنذاك فرق وطوائف لا تربطهم رابطة ، ولا تجمعهم جامعة ، إلا ما كان من دواعي العيش ومطالب الحياة ، في صورة لا تعدو وحدة قبلية، وعصبية جاهلية، وكانت على التفرق والخصام أقرب منها إلى الوحدة والوئام ، فألّف الإسلام بين قلوب المسلمين على حقيقة واحدة وهي الإيمان بإله واحد ، وجاءت تعاليم الإسلام ومناهجه تقوّي تلك الرابطة، وتدعم تلك الوحدة بما افترض الله عليهم من صلاة وصوم وحج وزكاة، وبما دعاهم إليه من الاعتصام بحبل الله المتين ، ودينه القويم ، والتحلّي بكلّ خلق كريم والتخلّي عن كلّ خلق ذميم فقال تعالى: { وَاعتَصِمُوا بِحَبلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا }آل عمران  103 . فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم – يتحدَّثُ عن المستقبل بصورة إيجابية ، فعندما رأى صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي وهو طفل صغيرٌ، أخذه ، واحتضنه وقبّله ووضعه في حجره ثم قال :( ابني هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) وقال : ( مَثَلُ أُمَّتِى مَثَلُ الْمَطَرِ لاَ يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخِرُهُ ) وهنا الإيمان الرباني  الإيمان النبوي الذي يُعْطِينا إيمانًا بالمستقبل، وأنّ علينا أن نقرأ المستقبل قراءةً جيدةً ، وقد قال كثيرٌ من العلماء : " إن علوم المستقبل من فروض الكفايات"، ففي القرآن الكريم مثلًا آيات كثيرة تدعو إلى المسارعة والمسابقة في الخير، وتتحدَّثُ عن بعض الأمور الغيبية، التي تُؤَكِّدُ أهمية قراءة المستقبل والتَّأَمُّلِ فيه ، فقد نزل القرآن الكريم من عند علاّم الغيوب تعالى، فلا عجب إن مزّق حاجز المكان، وحاجز الزمان بماضيه ومستقبله؛ فأخبر الإنسانَ (على لسان نبيّه) عن أمور غيبيّة ساهم المكان والزمان في حجبها وتغييبها عنه، وقصّ عليه قصص الأُمم الغابرة التي فصله عنها حاجز الزمن الماضي، وأنبأه بأمورٍ تَكشّفَ له بعضُها بعد حين، وظلّ بعضُها الآخر ينتظر دوره في التحقّق ، وقد تحدث القرآن عن غيب الماضي وغيب المستقبل حديث الجازم المتأكد ، وإذا بالواقع يوماً بعد يوم يكشف عن صدق كل ذلك كله , كما أيد الله نبيه بمعجزات غيبية عظيمة، فكان يخبر بأحداث ستقع بعد مئات السنين، في زمن لم يكن أحد يتوقع حدوث مثل هذه الأشياء ، مع أن النبي في ذلك الزمن لم يكن متفرغاً لمثل هذه المواضيع، فهو الذي يحمل همَّ الأمة وهمَّ الدعوة، ولديه مهام صعبة جداً في إقناع المشركين بتغيير عقيدتهم الفاسدة، فكانت المعجزة تسير مع سيدنا محمد في كل مكان   ولسنا اليوم في زمن المعجزات ، لأننا بحاجة ماسة إلى التطبيقات   حتى تتم التغيرات { إن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بانفسهم } .  

 

 

 

ماذا ينتظر المسلمون

قال تعالى : ]إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصُمَّ الدعاء إذا ولَّو مدبرين وما أنت بهادي العُمْىِ عن ضلالتهم إن تُسْمِعُ إلا من يؤمنُ بآياتنا فهم مسلمون [ النمل 80 . هل يمكن لعاقل أن يرجو خيراً من الأموات ؟ وهل نتوقع من عالم لا يسمع ولا يرى أن يقدم لنا شيئا ؟ً وإن كانوا يسمعون ويشاهدون فما أدري ماذا ينتظرون ؟ وحتى متى هم صامتون ؟ ولماذا لا يحركهم الجور الذي فشا والعدل الذي عفا . وطغيان اليهود الذي غلا وعتا ؟ وتجاوز كل الحدود وتجرأ على البلاد والعباد ، بل أمعن في الطغيان والعناد .

أما آن لهم أن يخرجوا عن صمتهم غضباً لله ؟ أما يحرِّك ضمائرهم سفك الدماء وانتهاك محارم الله ؟ أما يستفزهم النهب والسلب والتقتيل والتهديد والتشريد ؟ ألا يكفي كل هذا لتحريك هذا العالم وإخراجه عن صمته ؟    

بل إن البلاء الأشد الذي أصيبت به الأمة ، هو عزلها عن العمل بمنهج ربها ودينها ، الذي يدعوها للقيام بواجبها الجهادي ، لتقف في مواجهة قدرها عارية من حافز الإيمان ، فلا تتقي البلاء ولا تدفع عن نفسها المكارة ، فتعثرت في خطاها  وضاعت هويتها الذاتية ، والعدو يعتقل ويفتك ويقتل ، تناسوا الواجب ، وغضوا الطرف عن الخطر الداهم ، والعدو ماض في الاحتلال والاقتحام ، يعدُّ العدة ثم يشن الغارة ، ويستكين ثم ينقض ، يتقدم ونتراجع ، يتوسع ونتقلص ، يزهو علينا ويستهين بنا ، ولو سرنا على منهج ربنا الذي أمرنا بقتالهم ما زها ولا استهان قال تعالى : ]قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصُرْكُمْ عليهم ويَشْفِ صُدورَ قوم مؤمنين [ التوبة 13 .  لقد دلكم الله أيها المسلمون على تجارة تنجيكم من عذاب أليم ، تشرف بكم على الخير والإيمان بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم والجهاد في سبيله ، وجعل ثوابه مغفرة الذنب ، ومساكن طيبة في جنات عدن ، وأخبر أنه يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص ، أما الذين تركوا الجهاد فإن سلموا من سيف العاجلة ، فلن يسلموا من سيف الآخرة ، ولا يهولنكم أيها الأخوة ما ترونه من صبر إخوانكم في فلسطين ، فوالله ما ترون فيهم إلا حمية العرب والمسلمين ، وصبراً تحت راية لا إله إلا الله ، وإنهم لعلى الحق يجاهدون محتسبين ، حتى يحكم الله بينهم وبين اليهود وهو خير الحاكمين .

إن عدائنا لليهود هو عداء مزدوج لا هوادة فيه ، وإنهم يستخفّون بعقولنا ويستهزئون بنا فمنذ سنة 1948 صدرت ألوف القرارات التي تدين إسرائيل   ولكن دون جدوى ، فهم مستمرون اليوم وغداً بالاستهزاء بنا والاستخفاف بعقولنا ، يتباكون على السلم ويفجرون الصراع ، يريدون سلماً بشروطهم هم ، وإلا فهم ماضون دون هوادة في عدوانهم  يحاورون ويداورون ويطاولون ، وفي بقية ما تبقى طامعون ، إلا أن شعب فلسطين أثبتوا للعالم أجمع أنه مهما غلا الثمن وعظمت التضحيات ، ورغم وسائل القمع والتعذيب والاضطهاد ، الذي يمارسه اليهود ضد هذا الشعب الصامد  إلا أنهم فشلوا في ثلم صلابة الإيمان ، في نفوس المجاهدين في فلسطين الذين قرروا أن يموتوا عند مقدساتهم .   

لقد باتت وحدة العمل الإسلامي والتنسيق بين العلماء الدعاة والتشاور بين الجماعات ، من الأمور المطلوبة أكثر من قبل ، وأشد إلحاحا ، لأن معاناة المسلمين وما يلاقونه من عذاب وقهر وإذلال وقتل وتشريد ، والذي يتطلب الوقوف لوضع حد للمعاناة ، وإيجاد مخرج لها ، وللبحث عن أسباب ووسائل التمكين والعزة ، لأن الدموع والآهات والحسرات ليست هي الرد الأمثل على ما اتفق عليه أعداء الإسلام ، على ألا تقوم للمسلمين قائمة ، كما أن التوجه إلى الله بالدعاء لإهلاك الأعداء ، ونحن على ما نحن عليه ، دون اعتماد المنهج الإلهي للتغيير ،  لن يغير من الواقع شيئا   لا يشك أحد أن المستقبل لهذا الدين ، وأنه سيبلغ ما بلغ الليل والنهار ، وأن النصر لأمة الإسلام ، وأن هذا النصر من الله تعالى جعله على أيدي المسلمين أنفسهم وبجهودهم ، وأن ذلك لن يحصل إلا بأخذ الأسباب ، فنحن لسنا أعز على الله تعالى من رسوله الكريم ، إذ أخذ بكافة الأسباب-حين أراد الهجرة من مكة –من رفيق الطريق والزاد و الدابة واستئجار الدليل ، كل ذلك والله قادر على إيصاله إلى المدينة بأقل من طرفة عين ، ولكنها السنن والمدرسة التي يجب أن نتعلم منها ونتلمس خطاها.   

أما التمني وأحلام اليقظة ، فهي لا تنتج إلا حرابا تنحر رقاب المسلمين ، لهذا طلب الشرع الالتزام بأحكام الدين عقيدة وشريعة وسلوكا ، ليتم تطبيقه الفعلي في الحياة ، وندد القرآن بمن يعرف حكم الله ولا يعمل على تطبيقه ، وبمن يدعو الناس إلى دين الله وهو لا يلتزم به ، ويعفي نفسه من ذلك قال تعالى :)يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ، كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون( .

 وفي هذا المجال لا ننكر جهود بعض المخلصين ونداءاتهم من أجل وحدة العمل الإسلامي ورص الصفوف ، رغم ما يعترض ذلك من صعاب ، ولكن النتائج لم تظهر أية مبادرة عملية في هذا الاتجاه ، حيث كثرت الأقوال وقلت الأعمال ، وافتقرت إلى الإعداد والأخذ بالأسباب لقوله تعالى :   ]وأعدوا لهم ما استطعتم [ .

إن المؤامرة أصبحت حقيقة واقعة ، لا مراء فيها، اليهود يعملون جاهدين في إحكام الحصار ، فماذا ننتظر؟ وماذا ينتظر المسلمون ؟  إنه العار الذي لم يرحمنا الله عليه وبه في الدنيا ولا في الآخرة ، والعار والذل لنا ولأبنائنا من بعدنا . فاليهود يعملون ، والعرب صامتون ، والصراع بيننا وبين اليهود ليس صراع أرض وحدود ، ولكنه صراع عقيدة ووجود . فاليهود يحاربوننا من منطلق عقيدتهم المزيفة المحرفة ، أما نحن فقد تركنا العقيدة ، وأبعدنا الإسلام عن ميدان الصراع ، لذا لا ولن ننتصر أبداً طالما ما لم نطبق منهج ربنا ، لأنه لا نصر ولا تأييد من الله إلا بإتباع منهج الله ، وإعلان الجهاد في سبيل الله  من أجل المقدسات في الأرض التي بارك الله فيها ، لأن الغرب واليهود لا يعرفون سلاماً ، ولا يؤمنون به ، بل الحقيقة أنهم يكفرون بالسلام 

الغرب يكفر بالسـلام وإنما      بسلامه المزعوم يستهوينا

الغرب يحمل خنجراً ورصاصة    فعلام يحمل قومنا الزيتونا

نعم ليس لديهم رغبة في السلام ، لكنهم يريدون لنا الاستسلام   ويخدرونا  بوعود كاذبة ، لا تتحقق ولن تتحقق في أرض الواقع   فمن يظن أن اليهود لهم عهد ، أو لهم ميثاق ، لقد نَقَضوا العهود مع الله ، ونقضوا العهود مع الأنبياء وقتلوهم وافتخروا بذلك ، وسجلهم مع أنبيائهم حافل بالتكذيب والإعراض ; حافل بالقتل والاعتداء حافل بتحكيم الشهوات والأهواء .

 والسؤال الذي يطرح نفسه : إذا كان نصر الله للمؤمنين واقع لا محالة  فما الذي يحقق ذلك ، إن ذلك يتعلق بالعودة إلى الله وتصحيح العقيدة والعبادة وتطبيق الشريعة ، وعقد العزم على رفع راية الجهاد في سبيل الله ، والتأسي بأبطال العقيدة والجهاد   من سلفنا الصالح كصلاح الدين ، الذي قال والقدس في قبضة الصليبين : " إن العمر قصير وإن الأجل غير مأمون، وإن ترك المغتصب يحتل شبراً واحداً من بلاد المسلمين، وفي استطاعتنا طرده أمر لا أستطيع أن أتحمل مسئوليته أمام الله " . بهذه القلوب حُرِرَ الأقصى  فالفارق بيننا وبينهم ، أننا نبحث عن الحياة ، وهم كانوا يبحثون عن الشهادة في سبيل الله ولسان حالهم ولست أبالي حين أقتل مسلماً   على أي جنب كان في الله مصرعي

وذاك في ذات الإله وإن يشأ    يبـارك على أشـلاء شلوا ممـزع

 فتطبيق الشريعة وتصحيح العقيدة ، بات من الضروريات حتى لا يكون الإسلام مجرد عنوان أو مجرد راية وشعار ، أو مجرد كلمة تقال باللسان ، والله سبحانه يريد من المسلم ، أن يسلم لمجرد أن الإسلام خير ، لا لأنه سيغلب أو سيمكن له في الأرض ;  وكأن الله سبحانه يعلم ما سيكون على مدار الزمان مع أجيال المسلمين ، وها نحن أولاء رأينا ونرى أن أعداء هذا الدين ، وأعداء الجماعة المسلمة على مدار التاريخ ، أمس واليوم من الذين قالوا إنهم نصارى ، كانوا أكثر عداءً من اليهود ومن الكفار مجتمعين فهؤلاء كهؤلاء قد ناصبوا الإسلام العداء ، وترصدوه القرون تلو القرون ، وحاربوه حربا لا هوادة فيها ، منذ أن اصطدم الإسلام بالدولة الرومانية على عهد أبى بكر وعمر رضي الله عنهما ، وإلى أن كانت الحروب الصليبية ; ثم كانت المسألة الشرقية التي تكتلت فيها الدول الصليبية في أرجاء الأرض ، للإجهاز على الخلافة ; ثم كان الاستعمار الذي يخفي الصليبية بين أضلاعه ; ثم كان التبشير الذي مهد للاستعمار وسانده ; ثم كانت وما تزال تلك الحروب المشنونة على كل طلائع البعث الإسلامي ، في أي مكان في الأرض وكلها حملات يشترك فيها اليهود والنصارى ، والكفار والوثنيون ، وهذا القرآن جاء ليكون كتاب الأمة المسلمة في حياتها إلى يوم القيامة ، وها هو ذا يعلمها ألا يكون ولاؤها إلا لله ولرسوله وللمؤمنين ; وينهاها أن يكون ولاؤها لليهود والنصارى والكافرين ويجزم ذلك بالجزم الحاسم في هذه القضية   ويأمر هذا الدين أهله بالسماحة وبحسن معاملة أهل الكتاب   والذين قالوا إنهم نصارى منهم خاصة ، ولكنه ينهاهم عن الولاء لهؤلاء جميعا ، لأن السماحة وحسن المعاملة ، مسألة خلق وسلوك ، أما الولاء فمسألة عقيدة ومسألة تنظيم ، إن الولاء هو النصرة هو التناصر بين فريق وفريق ; ولا تناصر بين المسلمين وأهل الكتاب ، كما هو الشأن في الكفار ، لأن التناصر في حياة المسلم هو تناصر في الدين وفي الجهاد لإقامة منهجه ونظامه في حياة الناس قال تعالى : ] يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين [. هذا قرار من الله وليس للمسلم أن يقرر غير ما قرره الله فقال تعالى :  ]وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم [ وكلمة الله باقية لا تغيرها الملابسات والظروف والذي يريد أن يكون مسلما ، يجب عليه بعد إقامة كتاب الله في نفسه وفي حياته أن يواجه الذين لا يقيمونه ، ودعوتهم إلى الإسلام من جديد فدعوى الإسلام باللسان أو بالوراثة دعوى لا تفيد إسلاما ولا تحقق إيمانا ، ولا تعطي صاحبها صفة التدين بدين الله ، فدين الله ليس راية ولا شعارا ولا وراثة . إن دين الله حقيقة تتمثل في عقيدة تعمر القلب ، وشعائر تقام للتعبد ونظام يصرّف الحياة ، ولا يقوم دين الله إلا في هذا الكل المتكامل ; ولا يكون الناس على دين الله ، إلا وهذا الكل المتكامل متمثل في نفوسهم وفي حياتهم  وكل اعتبار غير هذا الاعتبار ، تمييع للعقيدة وخداع للضمير  لا يقدم عليه مسلم نظيف الضمير ، وعلى المسلم أن يجهر بهذه الحقيقة ; ويفاصل الناس كلهم على أساسها ; ولا عليه مما ينشأ عن هذه المفاصلة والله هو العاصم ، والله لا يهدي القوم الكافرين ، وصاحب الدعوة لا يكون قد بلغ عن الله ; ولا يكون قد أقام الحجة لله على الناس ، إلا إذا أبلغهم حقيقة الدعوة كاملة ; ووصف لهم ما هم عليه ، كما هو في حقيقته بلا مجاملة ولا مداهنة ، وقد ينظر بعضنا اليوم مثلا ، فيرى أن الأعداء هم أصحاب الكثرة العددية ، وأصحاب القوة المادية   وينظر فيرى أصحاب الوثنيات المختلفة يعدون بمئات الملايين في الأرض ، وهم أصحاب كلمة مسموعة في الشئون الدولية   وينظر فيرى أصحاب المذاهب المادية ، أصحاب أعداد ضخمة وأصحاب قوة مدمرة ، وينظر فيرى الذين يقولون إنهم مسلمون ليسوا على شيء ، لأنهم لا يقيمون كتاب الله المنـزل إليهم فيخيفه عظم الأمر ويستكثر أن يواجه هذه البشرية الضالة كلها ، بكلمة الحق الفاصلة ويرى عدم الجدوى من ذلك ، مع أن واجب صاحب الدعوة ، واجب لا تغيره كثرة الضلال  ولا ضخامة الباطل ، وكما بدأت الدعوة الأولى بتبليغ أهل الأرض قاطبة ، أنهم ليسوا على شيء ، كذلك ينبغي أن تبلّغ وقد استدار الزمان كهيئة يوم بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم وناداه ] يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم [ .

 

 

 

لماذا لا ننتصر؟ ومتى يكون النصر ؟

 

إننا نعيش في أيام أصبحت الأمة الإسلامية ومقدراتها مقصد الطامعين ، فكيف ننتصر ؟ ومن هم جنود النصر المنشود ؟ ومن يقودنا في معركة الخلاص ؟ إذا علمنا أن الدعوة إلى الله هي التي لا تزال فارغة في خارطة العالم  لا تشغلها أمةٌ ولا دعوة ، فإذا قادها المسلون أحسنوا إلى الإنسانية وإلى أنفسهم  والمؤمن وحده في هذا العالم ، هو الذي يصلح للقيادة ، لأنه صاحب عقيدة لا تزول ولا تتحوَّل ، يحمل في جنبه قلباً يفيض حناناً ورحمة بالبشر  دائم الحنين إلى ربه ، شديد الشوق على جنته ، لا يبالي أوقع عليه الموت أم على الموت وقع ، فهو معقل الإنسانية ومنتهى الرجاء ، وأمين الله في الأرض وخليفة الأنبياء  هذا المؤمن بهذه الصفات ، وعد الله بنصره فقال تعالى :{ وكان حقاً علينا نصر المؤمنين } الروم 47 .  فما المطلوب من المسلمين حتى يكون لدعوتهم تأثيرها هذه الأيام   ويتوفر فيهم أهم  شرط من شروط النصر وهو الإيمان  كما كانوا في صدر الإسلام ؟ فكلمة الإسلام التي كانوا يتلفظون بها كانت ذات حقيقة ثابتة ، فتحولت هذه الأيام إلى ألفاظ مجردة ، ونطق فارغ ، ولأجل ذلك لا نرى لها تأثيراً في حياة الأمة ، تم نرى الناس يتوجهون إلى الله أن يمنحهم النصر المبين والاستخلاف والتمكين ، كما منحه لأجدادنا السابقين ، فنخدع بذلك أنفسنا ، لأنهم كانوا أصحاب جدٍ وحقيقة في الدين ، فقد كانت كلماتهم وأفعالهم تمثل حقيقة الإسلام ، بينما نحن متجردين عن هذه الحقائق ، لقد تمثلوا حقيقة الإسلام في كل ميدان ، فقد كان المسلمون في معركة اليرموك بضعة آلاف من المسلمين ، أما الروم فقد كان عددهم يبلغ أكثر من مائتي ألف ، فإذا بنصراني كان يقاتل تحت لواء المسلمين يقول : ما أكثر الروم وأقل المسلمين ، فيقول خالد : " ويلك أتخوفني بالروم ؟ إنما تكثر الجنود بالنصر وتقل بالخذلان لا بعدد الرجال .. " .

 

فلماذا كان خالد مطمئناً ؟ ولماذا لم يشغل خاطره هذا العدد الهائل من جنود الروم ؟ لأنه كان مؤمناً بالله واثقا بنصره ، وكان يعلم أنه على الحقيقة ، وأن الروم صورة فارغةٌ عن الحقيقة   وكان يعتقد أن الصورة مهما كثرت لا تقدر أن تقاوم حقيقة الإسلام وهكذا كان جيش المسلمين شجعاناً أقوياء ، لا يهابون العدو ولا يخافون الموت ، أتى رجلٌ من المسلمين يوم اليرموك وقال للأمير : إني قد تهيأت لأمري فهل لك من حاجة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال نعم تقرئه عني السلام وتقول : يا رسول الله إنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا . فهل يصدر هذا الكلام إلا من شخصٍ يوقن أنه مقتولٌ في سبيل الله ، وإذا حصل له هذا اليقين  فما الذي يمنعه من استقبال الموت ؟ وما الذي يحول بينه وبين الشهادة ، إنهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين كانوا لا يثبت لهم العدو فواق ناقةٍ عند اللقاء . روي أن هرقل لما انهزمت الروم قال لهم : " ويلكم أخبروني عن هؤلاء القوم الذين يقاتلونكم أليسوا بشراً مثلكم ؟ قالوا : بلى . قال : فأنتم أكثر أم هم ؟ قالوا بل نحن أكثر منهم أضعافا في كل موطن . قال : فما بالكم تنهزمون ؟ فقال شيخٌ من عظمائهم : من أجل أنهم يقومون الليل ويصومون النهار ، ويوفون بالعهد ، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويتناصحون بينهم . ومن أجل أنا نشرب الخمر ونزني ونركب الحرام وننقض العهد ونغضب ونظلم ، ونأمر بالسخط وننهى عما يرضى الله ونفسد في الأرض . فقال أنت صدقتني " .

 

إن نظرة إلى واقعنا نجد أن نصيب صورة الإسلام في حياتنا أكثر من نصيب حقيقته  وهذا سرُّ مصابنا وهزيمتنا   إننا نؤمن جميعاً أن الآخرة حق  ، والجنة حق ، والنار حق ، والبعث بعد الموت حق ، ولكننا لسنا حاملين لحقيقة هذا الإيمان ، كأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان . الذين عندما سمع أحدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض )  رمى بما معه من التمر وقال : لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياةٌ طويلة  وقاتل حتى قتل . لأن الجنة كانت عنده حقيقة لا يشك فيها . ففي تاريخنا المعاصر فضحتنا صورة الإسلام في كل معركة وحرب ، والذنب ذنبنا ، لأننا عقدنا الآمال الكبار بالصورة الضعيفة ، فخّيبت رجاءنا وكذبت أمانينا وخذلتنا في الميدان   ويتكرر الصراع بين صورة الإسلام وشعوب العالم وجنودها ، وفي كل مرّة تنخذل وتنهزم الصورة ، ويعتقد الناس أنه هزيمة الإسلام وخذلانه ، حتى هان الإسلام عند بعض الناس ، وزالت مهابته في قلوبهم   متناسين أن حقيقة الإسلام لم تتقدم إلى ساحة الحرب منذ زمن طويل ، ولم تنازله هذه الدول المعتدية ، وان الذي يبرز في الميدان هو صورة الإسلام لا حقيقته ، فتنهزم الصورة أمام الواقع ونولي الأدبار .

 

إن على كل مسلم أن يعلم أن وعد الله بالنصر والفتح في الدنيا ، والنجاة والغفران في الآخرة ، محصورٌ في حقيقة الإسلام وذلك في قوله تعالى : { ولا تهنوا ولا تحزنوا وانتم الأعلون إن كنتم مؤمنين } آل عمران 139 . جاء الخطاب للمؤمنين ، واشترط الإيمان لعزة المسلمين والعلو في الأرض . وقد أكد ذلك في آية أخرى فقال تعالى : { إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد } غافر 51 . وكل وعد من الله بالنصر في القرآن   اشترط أن يكون في المسلمين حقيقة الإيمان .

 

إن أكبر مهمة مطلوبة للأمة هي الانتقال من صورة الإسلام إلى حقيقته ، بذلك تستطيع الأمة أن تذلل كل عقبة ، وتهزم كل قوة ، وتأتى بعجائب وآيات من الإيمان والشجاعة والإيثار يعجز الناس عن تعليلها ، كما عجزوا من قبل عن تعليل حوادث الفتح الإسلامي ، كما على الأمة أن تعلم أن النصر والخذلان من عند الله ، فعندما نقرأ قوله تعالى :{ إن ينصركم الله فلا غالب لكم } . وقد نسأل ما هو المقابل ؟ والمقابل هو  : {وإن يخذُلْكم فمنذ الذي ينصُرُكم من بعده } آل عمران 160 . إن للنصر قوانين وسنناً ، فإذا أخذنا بالأسباب التي أمرنا الله بها على قدر الاستطاعة ، فلا ينبغي أن نقارن عددنا بعدد أعدائنا ، ولا عدتنا بعدتهم   لأن الله لا يكلفنا أن نقابل عددنا بعددهم أو عدتنا بعدتهم ، فقد طالبنا أن نعد ما استطعنا فقال تعالى :{ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة } . فالله يريد أن يصحب ركب الإيمان معونة المؤمن به وهو الله ، أما لو كنا متساوين معهم في العدد والإعداد ، لكانت القوة تقابلها قوة والغلبة للأقوى ، ولكن الله يريد أن يكون العدد قليلا وتكون العدة أقل ، وعند اللقاء نتوجه إلى الله بما قدرنا عليه وبالأسباب التي مكننا منها ، ونؤمن بأن الله مولانا يعيننا على أعدائنا ويمدنا بمدد من عنده قال تعالى : { ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم } . فعندما ننصر الله نضمن نصر الله لنا ، أما كيف نعرف أننا ننصر الله ؟ نعرف عندما تأتي النتيجة بنصرنا   فمن نصر الله نصره الله ، قانون جاء بصيغة الشرط والجزاء  قال تعالى:{ إن ينصركم الله فلا غالب لكم } . وإذا دلت الآية على أنه لا غالب لمن ينصره الله ، فلماذا لا ننتصر ؟   إن من سنن الله الجارية ، أنه إذا عصى الناس أمر الله  واستباحوا محارمه ، وبغوا وظلموا  وابتعدوا عن صراطه المستقيم ، ومنهجه القويم ، أن يجازيهم بسوء أعمالهم قال تعالى :

 

{ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً } فاطر 43 .

 

ومن سنن الله أنه لا يغير نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ، من الانحراف عن المنهج ، وسلوك الطريق الخاطئ ، وتضييع الأمانة . قال تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} الأنفال 53 . إنك لتجد الناس في مجالسهم يخوضوا ويتحدثوا عن حال الأمة الإسلامية   ومآسيها ، ونكباتها   وما أُصيبت به من الهوان والذل .   

 

والسؤال هنا هل سألنا أنفسنا عن سبب ذلك ، أليس ما حل بنا راجع إلى تخاذلنا وضعفنا وتقاعسنا . أم أن هناك شيئاً آخر قد ضيعناه ونسيناه ؟ ثم لماذا تراجع المسلمون وهزموا ، وتقدم غيرهم وانتصروا ؟ ولماذا تفكك المسلمون وانقسموا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون  وأعداء الله يرصون الصفوف ، ويجمعون الجموع ؟ ولماذا حورب الإسلام وأهله ، وفتح الباب على مصراعيه لأهل العلمنة والشر والفتنة وغيرهم ؟ وما هو الطريق الصحيح لتصحيح المسار، ومعالجة الأخطاء ، والرد على الكفار أعداء الله ؟ وإذا علمَ أن الداء منا فلم لا نبحث عن الدواء  ولماذا لا نبحث عن أسباب المصائب التي تحل بالمسلمين ؟ إن ما أصاب المسلمين ما هو إلا بسبب معاصيهم وذنوبهم ومخالفتهم لأوامر ربهم ونواهيه قال تعالى:) وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ( الشورى 30    وإذا كان ما أصابنا بسبب أنفسنا وذنوبنا وتقصيرنا في حق الله ، فإنه من المستحيل أن ننتصر لأننا ضيعنا الله ونسيناه ولا غرابة بعدها أن ينسانا قال تعالى : { وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ } الحشر 19 . وسنن الله لا تتغير ولا تتبدل فقد وعدنا بالنصر وأن يهزم عدونا ، إن نصرناه وجاهدنا لإعلاء كلمته ، وربينا أنفسنا على طاعته   والفرار من معصيته قال تعالى:{إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } محمد 7 .

 

وعد الله المسلمين بالنصر والتمكين ، بشرط أن ينهضوا بتكاليف عقيدتهم التى بينها فى الآيات ، إن قوى الشر والضلال تعمل في هذه الأرض ، والمعركة مستمرة بين الخير والشر والهدى والضلال   والصراع قائم بين قوى الإيمان وقوى الطغيان منذ أن خلق الله الإنسان .

 

والشر جامح والباطل مسلح . وهو يبطش غير متحرج  ويضرب غير متورع  ويمتلك أن يفتن الناس عن الخير إن اهتدوا إليه ، وعن الحق إن تفتحت قلوبهم له إذن لابد للإيمان والخير والحق من قوة تحميه من البطش ، وتقيه وتحرسه من الفتنة .

 

ولم يشأ الله أن يترك الإيمان والخير والحق وحيداً يكافح قوى الطغيان والشر والباطل ، اعتماداً على قوة الإيمان في النفوس ، إذ أن القوة المادية التي يملكها الباطل قد تزلزل القلوب وتفتن النفوس . لهذا لم يشأ أن يترك المؤمنين للفتنة  فأذن لهم في القتال لرد العدوان . وقبل أن يأذن لهم بالانطلاق إلى المعركة أخبرهم بأنه سيتولى الدفاع عنهم فهم في حمايته قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا } . وأنه يَكْره أعداءهم لكفرهم وخيانتهم فهم مخذولون حتماّ  قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ } .

 

وقد حكم لهم بأحقية دفاعهم ، فهم مظلومون غير معتدين قال تعالى : { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا } . وطمئنهم إلى أنه قادر على حمايتهم ونصره إياهم قال تعالى :

 

{ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ } . وأن لهم ما يبرر خوضهم للمعركة لأنهم منتدبون لمهمة إنسانية كبيرة ، مهمة حمل الرسالة ونشر دين الله في الأرض ، التي لا يعود خيرها عليهم وحدهم ، وإنما يعود على المؤمنين كلهم ، لما فيها من ضمان لحرية العقيدة وحرية العبادة . لأنهم مظلومون أخرجوا من ديارهم بغير حق  قال تعالى : { الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ } . وهى أصدق كلمة تقال  وأحق بأن تقال . ومن أجل هذه الكلمة بل من أجل العقيدة التي اعتقدوها كان إخراجهم . فكانت الحاجة إلى الدفع عن هذه العقيدة ، أي دفع حماة العقيدة لأعدائها الذين ينتهكون حرمتها ، ويعتدون على أهلها قال تعالى :{ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا } . فالباطل متبجح لا يكف ولا يقف عن العدوان إلا أن يدفع بمثل القوة التي يصول بها ويجول ، ولا يكفى الحق أنه الحق ليقف عدوان الباطل عليه ، بل لابد من قوة تحميه وتدفع عنه . وهى قاعدة كلية لا تتبدل ما دام الإنسان هو الإنسان .  والذي يفهم من الآيات إن الله يبدأ الإذن بالقتال للذين قاتلهم المشركون   واعتدى عليهم المبطلون ، بأن الله يدافع عن الذين آمنوا ، وأنه يكره المعتدين من الكفار الخائنين  قال تعالى :{ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ } . وقد ضمن للمؤمنين إذن أنه هو الذي يدافع عنهم . ومن يدافع الله عنه فهو ممنوع حتماً من عدوه ، ظاهر عليه  فلم يأذن لهم بالقتال ، ويكتب عليهم الجهاد ؟ ولماذا يقاتلون فيصيبهم القتل والجرح ، والجهد والمشقة ، والعاقبة معروفة ، والله قادر على تحقيق العاقبة لهم بلا جهد ولا مشقة ، ولا قتل ولا قتال ؟ الجواب أن حكمة الله في هذا هي العليا ، وأن لله الحجة البالغة .. والذي ندركه نحن البشر من تلك الحكمة ، ويظهر لعقولنا ومداركنا من تجاربنا ومعارفنا أن الله سبحانه لم يرد أن يكون حملة دعوته وحماتها من  الكسالى ، الذين يجلسون في استرخاء ، ثم يتنـزل عليهم نصره سهلاً هيناً بلا عناء ، لمجرد أنهم يقيمون الصلاة ويرتلون القرآن ويتوجهون إلى الله بالدعاء كلما مسهم الأذى ووقع عليهم الاعتداء ! نعم يجب عليهم أن يقيموا الصلاة وأن يرتلوا القرآن ، وأن يتوجهوا إلى الله بالدعاء في السراء والضراء . ولكن هذه العبادة وحدها لا تؤهلهم لحمل دعوة الله وحمايتها ، إنما هي الزاد الذي يتزودونه للمعركة والسلاح الذي يطمئنون إليه وهم يواجهون الباطل بمثل سلاحه المادي الذي يستطيعونه : { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة } ويزيدون عنه بسلاح التقوى والإيمان والاتصال بالله . لذلك شاء الله تعالى أن يجعل دفاعه عن الذين آمنوا يتم عن طريقهم هم أنفسهم وهم يدفعوا ويدافعوا ، بكل ما أعدوا من قوة لمواجه القوة المهاجمة .

 

والأمة التي تقوم على دعوة الله في حاجة إلى حشد كل قواها واستعداداتها  وتجميع كل طاقاتها ، كي تتهيأ لحمل الأمانة الضخمة والقيام عليها .

 

وإن النصر السريع الهين اللين سهل فقدانه وضياعه . لأنه رخيص الثمن لم تبذل فيه تضحيات عزيزة . ولأن الذين نالوه لم تدرب قواهم على الاحتفاظ به ولم تحشد لكسبه . فهي بالتالي لا تستعد للدفاع عنه ، لذلك جعل الله دفاعه عن الذين آمنوا يتم عن طريقهم هم أنفسهم ؛ ولم يجعله لقية تهبط عليهم من السماء بلا عناء . وإن النصر قد يبطئ على الذين ظُلموا وأُخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا : ربنا الله . فيكون هذا الإبطاء لحكمة يريدها الله .

 

قد يبطئ النصر لأن بنية الأمة المؤمنة لم يتم بعد تمامها  ولم يتم استعدادها  وحشد طاقاتها ، فلو نالت النصر حينئذ لفقدته لعدم قدرتها على حمايته طويلاً ! 

 

وقد يبطئ النصر حتى تجرب الأمة المؤمنة آخر قواها   فتدرك أن هذه القوى وحدها بدون سند من الله لا تكفل النصر . إنما يتنـزل النصر من عند الله عندما تبذل آخر ما في طوقها ثم تكل الأمر بعدها إلى الله .

 

وقد يبطئ النصر لتزيد الأمة المؤمنة صلتها بالله ، وهى تعاني وتتألم وتبذل ، ولا تجد لها سندا إلا الله ، ولا متوجهاً إلا إليه وحده في الضراء . وهذه الصلة هي الضمانة الأولى لاستقامتها على المنهج بعد النصر عندما يتأذن به الله . فلا تطغى ولا تنحرف عن الحق والعدل والخير الذي نصرها به الله .

 

وقد يبطئ النصر لأن الأمة المؤمنة لم تتجرد بعد في كفاحها وبذلها وتضحياتها لله ولدعوتها فهي تقاتل لمغنم تحققه ، أو تقاتل حمية لذاتها ، أو تقاتل شجاعة أمام أعدائها . والله يريد أن يكون الجهاد له وحده وفى سبيله بريئاً من المشاعر الأخرى التي تلابسه . وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يقاتل حمية والرجل يقاتل شجاعة والرجل يقاتل ليرى . فأيها في سبيل الله فقال : ( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله )  رواه الشيخان .  وقد يبطئ النصر لأن الباطل الذي تحاربه الأمة المؤمنة لم ينكشف زيفه للناس تماماً . فلو غلبه المؤمنون حينئذ فقد يجد له أنصاراً من المخدوعين فيه ، لم يقنعوا بعد بفساده وضرورة زواله ، فتظل له جذور في نفوس الأبرياء الذين لم تنكشف لهم الحقيقة . فيشاء الله أن يبقى الباطل حتى يتكشف عارياً للناس ، ويذهب غير مأسوف عليه من ذي بقية ! وقد يبطئ النصر لأن البيئة لا تصلح بعد لاستقبال الحق والخير والعدل الذي تمثله الأمة المؤمنة . فلو انتصرت حينئذ للقيت معارضة من البيئة لا يستقر لها معها قرار . فيظل الصراع قائماً حتى تتهيأ النفوس من حوله لاستقبال الحق الظافر ، ولاستبقائه ! وقد يبطئ النصر أيضاُ حتى تجرب الأمة السلام العالمي وقرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن ! وحتى تجرب الانقياد تحت رايات علمانية تبعد الإسلام عن المعركة ! من أجل هذا كله  ومن أجل غيره مما يعلمه الله ، قد يبطئ النصر، فتتضاعف التضحيات ، وتتضاعف الآلام . مع دفاع الله عن الذين آمنوا وتحقيق النصر لهم في النهاية . وللنصر تكاليفه وأعباؤه حين يتأذن الله به بعد استيفاء أسبابه وأداء ثمنه ، وتهيؤ الجو حوله لاستقباله واستبقائه قال تعالى:{وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}  فوعد الله المؤكد الوثيق المتحقق الذي لا يتخلف هو أن ينصر من ينصره .. فمن هم هؤلاء الذين ينصرون الله ، فيستحقون نصره ، الذي لا يهزم من يتولاه ؟ إنهم هؤلاء قال تعالى :{الذين إن مكناهم في الأرض – أي حققنا لهم النصر وثبتنا لهم الأمر - أَقَامُوا الصَّلَاةَ - عبدوا الله ووثقوا صلتهم به - وَآتَوُا الزَّكَاةَ - وأدوا حق المال ، وانتصروا على شح النفس ، وتطهروا من الحرص  وكفلوا الضعاف فيها - وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ - ودعوا إلى الخير والصلاح ، ودفعوا إليه الناس - وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ } وقاوموا الشر والفساد وحققوا بهذا وذاك صفة الأمة المسلمة التي لا تبقي على منكر وهى قادرة على تغييره ، ولا تقعد عن معروف وهى قادرة على تحقيقه ، هؤلاء هم الذين ينصرون الله ، إذ ينصرون نهجه الذي أراده للناس في الحياة ، معتزين بالله وحده دون سواه ، وهؤلاء هم الذين يعدهم الله بالنصر على وجه التحقيق واليقين .

 

إنه النصر القائم على أسبابه ومقتضياته والشروط بتكاليفه وأعبائه .. والأمر بعد ذلك لله  يصرفه كيف يشاء : فيبدل الهزيمة نصراً ، والنصر هزيمة ، عندما تختل القوائم  أو تهمل التكاليف : { وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } .

 

إنه النصر الذي يؤدى إلى تحقيق المنهج الإلهي في الحياة . ومن انتصار الحق والعدل والحرية المتجهة إلى الخير والصلاح . وهو نصر له سببه . وله ثمنه . وله تكاليفه . وله شروطه . فلن يعطى لأحد جزافاً أو محاباة ، وإن علينا أن نعرف أن إقامة النصر في الأرض ، وإعادة الخلافة فيها لا يقدم لنا مباشرة على طبق من ذهب بل لا بد من الكلل والتعب  والوصب والنصَّب ، حتى يأتينا نصر الله بعد أن علم منا الصدق في القلوب   والصلاح في الأعمال   والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً .

 

 

 

 

 

لا عزة إلا بالإسلام

] يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه ، فسوف يأتي الله بقومٍ يحبهم ويحبونه ، أذلةٍ على المؤمنين أعزَّةٍ على الكافرين   يجاهدون في سبيل الله ، ولا يخافون لومة لائم [ المائدة 54.

إن المؤمن عزيز على الكافرين بأنه لا يُغلب ، والعزة هنا هي العزة للعقيدة والاستعلاء لراية الجهاد التي يقف تحتها ، وحتى يبقى المؤمن عزيزاً ، لابد أن يجاهد   في سبيل الله ، لتكون كلمة الله هي العليا ، ولا عزة للمؤمن بغير الإسلام ] ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون [.

والمؤمن يعيش هذه الأيّام مواقفَ امتِحان وابتلاء ، وقد أوضح لنا كتاب ربنا الطريق  ، وأوضح لنا أسبابَ القوة وأسبابَ الضعف ، وشخّص لنا الأمراض ، ووَصف لنا العلاجَ ، ليس تقريرًا سياسيًا يتلوّن بألوانِ الأهواء ، وليس بحثًا اجتماعيًا تتعثّر استنتاجاتُه ، ولا تحليلاً نفسيًا تضطرِب إحصاءاته ، ولكنّه كتاب هدايَة ونور ، لا تشوب حُكمَه الشّبهات ، ولا تضِلّ دليلَه الشهوات ، فهو حقُّ اليقين وعين اليقِين وعلمُ اليقين من ربِّ العالمين .

 إنَّ المصيبة إذا ما أُصبنا بنكبة ، أن لا نعرِفَ معنَى النكبة ، ولا نفقهَ أسبابَها ومداها   ثمّ بعد ذلك لا ندري أينَ المخرجُ منها  فالسّنن الربانيّة والنواميس الإلهيّة  ، وما شهِد به تاريخُ الأمّة وتاريخ الأمَم ، تدل على أن الأسباب تتَّصِل بمسَبّباتها ، وترتبِط النتائج بمقدّماتها ، وتعرَف الغايات من وسائلِها ، إنّها نتائجُ محتومة لأسبابٍ معلومة وقد دلت التجارب في الماضي والحاضر   على أن زحف الأعداء لا يوقِفه إلاّ الإسلام ، وميل الميزان لا يعدّلُه إلاّ القرآن ، فلا نصر إلا بالإسلام ، ولا نصر يأتي بغير الإيمان ، ولا إيمان بغير الرجوع إلى الإسلام .  

ولا بد للإسلام من مسلمين ، ولا بد له من مؤمنين ، فالله تعالى يقول لرسوله :   ] هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين  [   ذكرت الصحف أن رجلا أجنبيا درس الإسلام ، فأعجب به   وأعجب بتعاليمه ، فقال كلمة يجب أن نحفظها ونرويها ، ماذا قال ؟ قال : ما أعظمه من دين لو كان له رجال ، دين عظيم ولكنه في حاجة إلى رجال عظماء ، دين قوي ولكنه في حاجة إلى رجال أقوياء .

إن الأمة وهي تتعرض لنكبات قاسية ، تتمثل في الحروب التي تتعرض لها بلاد المسلمين ، والتي لم تضع أوزارها بعد ، والتي تحمِل نُذُرَ سوء أورثت قلقًا ، وولَّدت يأساً ، إنها مدعوة إلى أن تقِف موقفَ تأمّل ونظرٍ في سُنن الله ، وفي تأريخ دينِ الله ورُسله . فقد تكون المِحن والنكبات التي يعاني منها المسلمون    سببًا من أسبابِ اليقظةِ والعودَة لدين الله .

لقد حقق الأعداء قديماً على المسلمين نصراً ماديًّا وعسكريًّا  ولكن لم تُهزَم قِيمهم ولا مبادِئهم، ولم تنهزِم روحُهم ولا إيمانهم ، فتحوّلت الهزيمة إلى نصر بعد حين ، وسرعانَ ما غزت الأعداء ، قِيَم المجتمعِ المسلم ، فأسلم التّتار وهم المنتصِرون  واندَحر الصليبيّون وهم الغالِبون ، كلّ ذلك على أيدِي المسلمين ، وقد كانوا هم المهزومين ، فجند الله هم الغالبون  وقد جاء هذا الوعد بالنصر والغلبة والتمكين ، في قوله تعالى : ] وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلْمُرْسَلِينَ ، إِنَّهُمْ لَهُمُ ٱلْمَنصُورُونَ ، وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَـٰلِبُونَ [ الصافات 171 .  فرسُل الله هم المنصورون ، وجند الله هم الغالبون ، كلمةٌ من الله سبقت ، ووعدٌ من الله لا يُخلَف ، على الرّغم من جميع العوائق ، وعلى الرّغم من كلّ صوَر التكذيب والتّشكيك ، فإن هذه القوى وهذه  الحضارة التي تسود اليوم لا بد أن تبيد   كما سادت الحضارات السابقة وبادت ، لأن الذي يبقى في النهاية عقائد المرسَلين ، لأنها الأظهَر والأبقى والأكمَل . وإنّ هذا متحقِّق في كلّ دعوة لله مخلِصة ، وفي كلّ دعاةٍ لله صادقين   إنها دعوةٌ غالبة منصورة ، مهما رصَد لها الباطل من قوى الحديد والنّار ، وقوى الدّعاية والافتراء ، وقوى الحرب والمقاومة . معاركُ تقوم بين أهلِ الحقّ والباطل ، ولكنّ نتائجَها تختلِف حتى تنتهيَ إلى وعد الله الحقّ ، الذي وعد رسلَه وأولياءه وجندَه ، وهو وعدٌ لا يُخلَف ، ولو قامت في طريقه كلُّ قوى الأرض ، وهو سنّةٌ من الله ماضية ، غيرَ أنَّ هذه السّنن مرهونة بتقدير الله تعال ، يحقِّقها حين يشاء وكيف يشاء ، وقد تُبطئ آثارها الظاهرة بالقياس في أعمارِ البَشر القصيرةِ المحدودة  ولكنّها لا تُخلَف ولا تتخلّف أبدًا ، بل قد تتحقّق في صورةٍ لا يدركها البَشر ، لأنّهم يطلبون المألوفَ من صوَر النّصر والغلبة   ولا يدركون تحقُّقَ السّنّة في صورةٍ غيرِ مألوفة إلاّ بَعد حين . قد يريد البَش‍َر صورةً معيّنة من صُور الغلبة والنّصر ، ويريد الله صورةً أخرى أكمَل وأتمّ وأبقى ، فيكون ما يريد الله ولو تكلّف جندُ الله من المشقّة وطول الأمَد أكثرَ ممَّا ينتظرون قال تعال : ] وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ ٱلشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَـٰتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ ٱلْكَـٰفِرِينَ ، لِيُحِقَّ ٱلْحَقَّ وَيُبْطِلَ ٱلْبَـٰطِلَ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُجْرِمُونَ [ الأنفال 8 .

فالنّاس يقصُرُون معنى النّصر ، في حدودٍ معيّنة معهودةٍ ، قريبة الرّؤى لأبصارهم   فالأزمات مهما اشتدّت ، والخطوب مهما ادلهمّت ، فإنّ دينَ الله سيبقى عزيزًا منصورًا ، بعزِّ عزيزٍ أو بذلِّ ذليل ، والأرض لله يورِثها من يشاء من عباده ، ويَرثُها عباد الله الصالحون . نعم سيبقى دينُ الله عزيزًا ، وستبقى العزّة للمؤمنين  لأن العزة عزّة مبادئ وعزّة قيَم ، لا عزّة جماعات ولا فِئات  فالهزيمة بحقٍّ هي هزيمة الأمّة حين تتخلّى عن قيَمها ، وتبتعِد عن مبادئها ، لأن المنتصِر هي المبادئ والأفكار وليس الأشخاص .

ولتقريرِ هذه الحقيقةِ تأمّلوا قولَ الله عزّ شأنه: ] مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعِزَّةَ فَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ جَمِيعاً [ فاطر10. إنها حقيقةٌ ثابتة ، لا تتغيّر ولا تتبدّل ، حقيقةٌ كفيلة بتعديل القيَم والموازين ، وتعديل الحُكم والتقدير ، وتثبيت المواقف ، وتعديل المنهَج والسّلوك   وضبط الوسائل والأسباب ، وإذا استقرّت هذه الحقيقةُ في قلبِ المؤمن وثبتت في يقينه ورسخت ، وقَفَت به أمامَ الدّنيا كلِّها عزيزًا كريمًا ثابتًا غيرَ متزعزِع وحينئذ لن يحنيَ رأسَه لمخلوقٍ متجبّر ، ولا لعاصفة طاغية ، ولا لحدَث جلَل ، ولا لمصلحةٍ مهما كانت ، لأن الحقّ غايتُه ، والعدلُ مبتَغاه ، والباطل خصمُه ، والظالم عدوّه . ومع هذا الوضوحِ في مبدَأ العزّة فهي ليسَت عنادًا مستكبرًا ، وليست طغيانًا فاجرًا ، وليست اندفاعًا باغيًا ، يخضَع لنـزوةٍ أو يذلُّ لشهوة ، وليست قوّةً عمياء تبطِش بغير حقّ وتسير بغير عَدل .

فالعزّة استعلاءٌ على شهوَة النّفس ، ورفضٌ للقيد والذّلّ   وارتفاع عن الخضوع لغيرِ الله ، بل هي خضوعٌ لله وخشية منه   وتقوى ومراقبة في السّرّاء والضّرّاء ، وفي هذا الخضوع ترتفِع الجِباه ، ومن هذه الخشيَة تمتنع عن كلّ ما يأباه ، ومن هذه المراقبة لا تبتغي إلا رضاه .

 إن العزّة في حقيقتِها ووسيلتِها ، هي في نصر رسالة المرسَلين  وغلبة جندِ الله المخلصين ، أمّا النّتاج الماديّ والمكتشفات في العلوم والتقنيّات والآلات والمخترعات فكلّ ذلك لا انتماءَ له   وميراثٌ لا جنسيّة له ، يستحقّه كلُّ مُجِدّ ، ويناله كلُّ من أخَذ بالأسباب على وجهِها . أمّا الأفكار والمبادئ فهي تراثٌ خاصّ تنهض به الأمّة ، صاحبة الرّسالات ووارثةُ الأنبياءِ .

إنّ حضارةَ الأمم لا تُقاس بالقوى الماديّة وحدَها، ولكنّها تقاس بمبادئها في أخلاقها ونُظُمها ، وإقامةِ العدل واحترام الحقّ ، فالإنسان لا قيمةَ له بجنسه أو عِرقه ، ولكن قيمته بإيمانِه وأخلاقِه وصحّة معتقدِه .

وإنّ لكم من دروسِ أيّامكم هذه في محنتِها وفتنتِها ، ما يجلِّي لكم ذلك كلَّ الجلاء ، لقد نزَع الخصومُ الزّيفَ الذي كانوا يتقنّعون به من قيَمِ التّحضّر ، وموازين العدلِ والإنصاف  وحقوقِ الإنسان ، لقد تجلّت الرّغبة الجامِحة العارِمة في نهبِ الثّروات ، ومحاصرة الأمَم والتحكّم في المصائر ، لقد ظهَر جليًّا أنّ تلك القيَم عندهم كانت انتقائيّة ، والمبادئ كانت دعائيّة  لا تصمُد أمام تحدّيات الأطماعِ وصِراع المصالح والأنانيّات .   

كم في طيّات المِحن من مِنح ، فلعلّ من الخير أن تنبّه كثيرون من المخدوعين من أبناء الأمّة ، فصاروا يراجِعون مواقفَهم  ويتحوّل إعجابُهم بحضارتهم إلى صدمةٍ عنيفة ، فقد أظهرت هذه المحنُ خبايا المنافقين ، ممَّن كان يضمِر للأمّة ودينِها كل كيد ، فكشفتهم هذه الأزَمات .

أليست هذه من بشائر الانتصار ومظاهرِ العزّة؟! لقد أفاق كثيرٌ من المسلمين ، وانجلت عنهم سحُب الغفلة ، لقد بعثت هذه المحَن روحًا كانت قد خبَت أو كادت ، فأصبحت الأمّة تتحدّث بقوّة عن عزّتها وكرامتِها وعن حقوقِها ، رَغم ما تعانيه من البطش والاستضعاف ، لقد بدأتِ الأمّة تنظر بيقظةٍ وتنبّه  إلى الإحساس بخطورَة أعدائِها ، وعِظَم مخطّطاتهِم  .

أما آن للمسلمين أن يتمسكوا بدينهم الحقّ ، وما الحقّ إلا أن يتَّحِد أهلُ الإسلام ، وما الحقّ إلا أن ينبذوا الخلافَ والتخاذل   وما الحقّ إلا أن توزَن الأمور بموازينها ، أما آن للغافلين أن يستيقِظوا ، وعلى المذنبين أن يُقلِعوا ، وعلى القانطين والمستيئسين أن يستبشِروا ويتفاءلوا ، وعلى الطائِعين المستقيمين أن يستقيموا على المنهج قال تعالى: ] يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَىٰ أَعْقَـٰبِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَـٰسِرِينَ بَلِ ٱللَّهُ مَوْلَـٰكُمْ وَهُوَ خَيْرُ ٱلنَّـٰصِرِينَ[ آل عمران 149 .

 إنه لا بدّ للهمّة العالية أن تنال مطلوبَها، ولا بدّ للعزائم المتوثِّبة أن تدركَ مرغوبَها . فالمواقِف مع الأعداء هي مواقف دينٍ ووجود ، لا معارك أرضٍ وحدود ، معارك دين واعتقاد   وليست معاركَ سياسة واقتصاد . لا بدّ من ردّ قضايا الأمّة إلى مدارها الإسلاميّ بكل آفاقه وأعماقه ، لا بدّ من نبذِ كلّ أعلام التبعيّة ورايات الإلحاد ، حتى يتبوّأ الإسلام مكانَه ، ويأخذَ القرآن موقِعَه ، تُرفَع راية القرآن ، وتسير الأمّة بنور كلماتِه   تُرَدّ القضايا إلى خطّها الأصيل ، حتى تصبحَ قوّةً تتأبّى على الوأد والاحتواء والترويض والتّدجين ، إنها القوّة الإسلاميّة التي لا بدّ أن تُستنفَر للذّود عن المقدّسات ، بعد أن أفلَست كلّ الدعوات الادّعاءات . إن على الأمّة أن تنتصرَ لقضاياها ، قبلَ أن تطلبَ من الآخرين الوقوفَ معها ، عليها أن تقِف بكلّ طاقاتها قبلَ أن تناشدَ الآخرين معاونَتَها ، فنصرةُ القضايا واسترداد الحقوقِ لن يتمَّ بجهود يبذلها الأعداء ، إنه لن يتم إلا بإعلان الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين ، والجهاد على كافة الأصعِدة ، جهادٌ بالقلم ، وجهادٌ بالسّياسة ، وجهاد بالنّفوذ  وجهاد بالاقتصاد والمال ، وجهاد بالقوّة والعدّة ، ألا فاتَّقوا الله رحِمكم الله ، واستمسِكوا بكتابِ ربّكم، والزَموا سنّة نبيّكم  ينجزْ لكم ما وعدَكم ، عزًّا في الدنيا ، وحسنَ ثوابٍ في الآخرة  

 

 

الابتلاء بالفقر والغنى

 عن عبد الله بن مسعود قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله قسَم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم   وإنّ الله عز وجل يعطي الدنيا من يحبُّ ومَن لا يحبّ ولا يُعطي الدِّين إلا لمن أحب فمن أعطاه الله الدِّين فقد أحبَّه ) . من الخطأ اعتبار المال والجاه خيراً على الدوام   فالله قد يعطي وقد لا يعطي ، وسواء أعطى أم لم يعط فهو خير في كلتا الحالتين بالنسبة للمستقيم ، أما غير المستقيم فالفقر يكون عنده وسيلة إلى الكفر  لأنه يحرضه على رفع راية العصيان تجاه ربه . 

لذا لا ينظر إلى مجرد الفقر أو إلى مجرد الغنى على أنه مصيبة أو نعمة . فقد يكون الفقر حسب موقعه من أكبر نعم الله تعالى ، وقد اختار الرسول صلى الله عليه وسلم  الفقر بإرادته فقال لعمر رضي الله عنه : ( أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة ؟ والله يبتلى بالغِنى ويبتلى بالفقر            } ونبلوكم بالشر والخير فتنة {  } فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعَّمه فيقول ربى أكرمنِ، وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه –أي ضيَّق عليه رزقه- فيقول ربى أهانن {  والنظرة الإسلاميَّة الحقيقية  لا تعتبر الفقر نعمة، بل تعتبره بلاءً ، ينبغي على الإنسان أن يصبر عليه إذا نزل به ، ولا يجوز أن يجره إلى معصية ، فهو بلاء من البلاءات ولذلك جاء في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستعين بالله من شر فتنه الغنى ومن شر فتنة الفقر، ويُحِّذر من الغنى المُطغي والفقر المُنسي  (كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى) ففقر الفقير لحكمة ، والغنى عند الغني لحكمة ولربما كان المال عند الإنسان أداة بطش وتعدٍ وطغيان ، وربما دعاه المال إلى العصيان ، فحين يمنعه الله    فإنه يرحمه بالفقر لأن الغنى لا يناسبه ، وصلاحه يكون في الفقر ، وفي شيء من الرضى بما قسمه الله له ، وألا يتطلع إلى من أعلى منه في متاع الدنيا ، والمؤمن مطالب أن يعيش في حدود إمكانياته المادية قال تعالى : } لينفق ذو سعة من سعته ومن قُدِرَ عليه رزقه فاليُنْفِق مما آتاه الله  لا يكلِف الله نفساً إلا ما آتاها { الطلاق . وعلى المؤمن أن يقنع بما في مقدوره ، أما إن امتدت عينه إلى فوق مستواه ، فإنه يلجا إلى الدين ، وبعد فترة يأتي من يطرق بابه يطالبه بالدين ، فيجد من مذلة المطالبة أضعاف ما وجد من لذة الصرف ، وقد ينُسي الفقر  الإنسان  ما ينبغي أن يتذكره ، وفى بعض الأحاديث وهي لم تصل لدرجة الصحة ( اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر ) وفي حديثٍ صحيح : ( أعوذ بك من القِلةِ والذِلة )  القلة في المال والقلة في كل شيء وسيدنا علي يقول : "لو تمثَّل لي الفقر رجلاً لقتلته" ويُروى عن أبى ذر أنه قال : "إذا ذهب الفقر إلى بلد قال له الكفر خذني معك" لأن الفقر ممكن أن يؤدي إلى الكفر ،  من أجل هذا يحارب الإسلام الفقر، ويعالجه بوسائل شتى ،  وليس هناك من فضلٍ لأحدهما على الآخر إلا بالتقوى ، فأيهما أعظم إيمانا وتقوى كان أفضل ، فإن استويا في ذلك استويا في الفضيلة قال تعالى : } إن يكن غنيا أو فقيرًا فالله أولى بهما { وقد كان في الأنبياء والسابقين الأولين من الأغنياء من هو أفضل من أكثر الفقراء ، وكان فيهم من الفقراء من هو أفضل من أكثر الأغنياء ، وقد يكون الفقر لبعض الناس أنفع ، والغنى لآخرين أنفع ، كما تكون الصحة لبعضهم أنفع والمرض لبعضهم أنفع ، كما في الحديث الذي رواه البغوي وغيره عن النبي فيما يروى عن ربه تبارك وتعالى ( إن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك ، وإنَّ من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك ، وإنَّ من عبادي من لا يصلحه إلا الصحة ولو أسقمته لأفسده ذلك ، وإنَّ من عبادي من لا يصلحه إلا السقم ولو أصححته لأفسده ذلك ، إنِّي أدبر عبادي إني بهم خبير بصير ) وقد صح عن النبي أنه قال : ( إن فقراء المسلمين يدخلون الجنة قبل الأغنياء ) وفى الحديث الآخر لما علم الفقراء الذكر عقب الصلاة سمع بذلك الأغنياء ، فقالوا مثل ما قالوا ، فذكر ذلك الفقراء للنبي فقال : ( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ) وتضييق الرزق على بعض الخلق له حكمة اجتماعية ، لأن هذا التفاوت يؤدي إلى نوع من التكامل بين عناصر المجتمع ، وتصور لو أن المجتمع كلهم أغنياء مبسوط لهم الرزق فمن سيقوم على خدمتهم ؟ والعبرة في هذه الحياة ليست بالفقر ولا بالغنى   فهذا أو ذاك لا يغني عنك من الله شيئًا  ، إلا إذا كان سببًا في زيادة الإيمان والتقوى ، لأنه المقياس والمعيار المعتبر عند رب العالمين ، والمهم الرضا وعدم التسخط عند المنع ، وقد قيل : من كان رضاه من الدنيا سد جوعته ، وستر عورته ، لم يكن عليه خوف ولا حزن في الدنيا ولا في الآخرة ، سواء جعله اللّه فقيراً أو غنياً أو ذا كفاف إذا اطمأن قلبه على الرضى .  وإذا وجدت الله يرزق هذا ويمنع عن ذلك فتذكر قول الله تعالى : } أليس الله بأعلم بالشاكرين {  وتذكر قول الله تعالى :        }  وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ {  فعليك بالرضا فإنه ملاك الأمر كله ، وعليك أن تقيس الأمور بمقياس أهل الإيمان ن واعلم أنَّ زيادة النعم قد تكون  استدراجًا   قال صلى الله عليه وسلم : (  إذا رأيت الله تعالى يعطي العبد من الدنيا ما يحب و هو مقيم على معاصيه فإنما ذلك منه استدراج ) وخف من شدة العذاب إنْ لم تكن من شاكري النعم قال تعالى : } لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إنَّ عذابي لشديد {  فهو مشغول بشكر نعمة الله عليه ، فيعطي حق المال من زكاة وصدقة ونفقة في سبيل الله تعالى ، فلا يعرف الترف بابه وإن ملك الملايين ، لأنَّه يعلم أنَّ الله سائله عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ؟ أما هل كثرة المال أمرٌ مطلوبٌ شرعا ؟ عن علي بن أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ  براعي إبل فبعث يستسقيه، فقال : أما ما في ضروعها فصبوح الحيّ ) أي أن اللبن الذي في ضروعها يحلب في الصباح  (وأما ما في آنيتها فغبوقهم).. أي ما يحلب آخر النهار وبالتالي فإنه ليس هناك شيء زائد نعطيك إياه (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم أكثر ماله وولده ، ثم مرّ براعي غنم فبعث إليه يستسقيه، فحلب له ما في ضروعها، وأكفأ ما في إنائه في إناء رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث إليه بشاة ، وقال: هذا ما عندنا   وإن أحببت أن نزيدك زدناك)  (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم ارزقه الكفاف ، فقال له بعض أصحابه: يا رسول الله!.. دعوت للذي ردك بدعاءٍ عامتنا نحبه، ودعوت للذي أسعفك بحاجتك بدعاء كلنا نكرهه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنّ ما قلّ وكفى، خير مما كثر وألهى  ، ثم دعا لنفسه وآله وقال: اللهم ارزق محمدا وآل محمد الكفاف ) . روي أن رجلا فقيرا قد عضه الفقر بأنيابه  فمر ذات يوم في القرية التي كان يعيش فيها ، يستجدى الناس عطاءهم ، فرأى رجلا جالسا بجوار مجموعة من الصنابير بعضها اشتد ماؤه ، وبعضها ماؤه كثير وبعضها ماؤه قليل ، وبعضها ندر ماؤه فلا يكاد يرى منه إلا خيط رفيع ، والبعض الآخر منها مغلقا ، فتعجب من الرجل وطلب منه أن يصلح ما فسد من الصنابير ، وان يغلق ما يمكن غلقه منها ، فقد حزن لإهدار الماء الذي هو سر الحياة  فضحك الرجل واخبره بان هذه الصنابير هي نصيب كل إنسان في الحياة من الرزق ، فسأله الرجل الفقير أين صنبور رزقي إذن .؟ فأشار الحارس إلى واحد بعيد كانت تتساقط منه قطرات من الماء يتباعد بينها الزمن طويلا ، فقال الرجل الفقير : أهذى رزقى ؟ فقال الحارس نعم ، فقال له الرجل الفقير: ألا يتغير ؟ فرد الحارس كل شيء بأمر الله  فهمس الرجل الفقير لنفسه : وقال سأقوم أنا وأحاول تغييره بيدي ، فامسك مقبض الصنبور وحاول أن يديره ، ولكنه الأمر لم يفلح وبقى الصنبور على حاله ، ففكر قليلا وتذكر ملك المدينة فقرر الذهاب إليه يحكى له عن حاله عل الأمر يتغير فيزداد ماء الصنبور بعد أن يحسن إليه الملك ، فذهب وحكى له حكايته ، فاخبره الملك أن يذهب إلى الخزانة ويأخذ منها ما يشاء ، فذهب الرجل إلى خزانة الملك واخذ منها ما يكفيه وشكر الملك وعاد إلى الصنابير ، علها تكون قد تغيرت واشتد ماء صنبوره ، ولكن عجبا وجد الصنبور على حاله فحاول فيه مرة ثانية ولكنه لم يستجب فتركه وذهب ، وهو في الطريق قابله مجموعة من اللصوص سرقوا منه ما كان قد أخذه من الملك ، فقرر في هذه المرة أن يحضر عودا من الحديد عله يستطيع تغيير رزقه بتسليك الصنبور ، حاول ذلك مرارا وتكرارا ولكنه لم يفلح إلى أن علق عود الحديد داخل الصنبور فتوقف ماؤه نهائيا ولم يعد يخرج منه الماء ، فسال الحارس ماذا حدث ، فقال له :قد انتهى رزقك ولم يعد لك اجل ، فسخر الرجل الفقير من الحارس وقال له ما أعلمك أنت بذلك ، سوف اثبت لك أن ما تقوله غير صحيح ، فانا أمامك على قيد الحياة ، فذهب إلى الملك مرة ثانية وحكى له ما حدث فأمره الملك أن يذهب إلى الخزانة ويأخذ منها ما يشاء فتوجه الرجل إلى الخزانة وملا جراباً كبيرا من الذهب والجواهر  ، ونزل على السلم بما نال من رزق وفير ظنا منه انه قد غير مصيره ، فتعثرت قدماه  وسقط من درج السلم فمات  . قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم : (  نفث روح القدس في روعي أن نفساً لن تخرج من الدنيا حتى تستكمل أجلها وتستوعب رزقها، فأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعصية الله، فإن الله لا ينال ما عنده إلا بطاعته ) رواه الطبراني 

وكثيراً ما تكون عاقبة الطمع الهلاك روى الطبري في تفسيره أن سيدنا عيسى صحب يهودي . وكان مع اليهودي رغيفان ، ومع عيسى رغيف   فقال له عيسى : شاركني. فقال اليهودي: نعم . فلما رأى أنه ليس مع عيسى إلا رغيف ندم ، فلما ناما قام اليهودي ليأكل الرغيف ، فلما أكل لقمة قال له عيسى: ما تصنع ؟ فقال : لا شيء ! حتى فرغ من الرغيف كله . فلما أصبحا قال له عيسى : هلم طعامك ! فجاء برغيف ، فقال له عيسى: أين الرغيف الآخر؟ قال : ما كان معي إلا واحد  فسكت عنه عيسى ، فانطلقوا، فمروا براعي غنم ، فنادى عيسى : يا صاحب الغنم ، أجزرنا شاةً من غنمك . قال : أرسل صاحبك يأخذها. فأرسل عيسى اليهودي ، فجاء بالشاة فذبحوها وشووها، ثم قال لليهودي : كل، ولا تكسرن عظماً ، فأكلا  فلما شبعوا، قذف عيسى العظام في الجلد، ثم ضربها بعصاه وقال : قومي بإذن الله ! فقامت الشاة تثغو، فقال: يا صاحب الغنم ، خذ شاتك   فقال له الراعي : من أنت ؟ فقال : أنا عيسى ابن مريم .     قال عيسى لليهودي : بالذي أحيى هذه الشاة بعد ما أكلناها كم رغيفا كان معك؟ فحلف ما كان معه إلا رغيف واحد . فانطلقا ، حتى مرا على كنـز قال اليهودي : يا عيسى، لمن هذا المال ؟ قال عيسى : دعه   فإن له أهلاً ، فجعلت نفس اليهودي تتطلع إلى المال  ولكنه يكره أن يعصى عيسى، فانطلق مع عيسى .  فقال لليهودي أخرجه حتى نقسمه . فأخرجه ، فقسمه عيسى بين ثلاثة، فقال اليهودي : يا عيسى، اتق الله ولا تظلمني   فإنما هو أنا وأنت وما هذه الثلاثة ؟ قال له عيسى : هذا لي ، وهذا لك ، وهذا الثلث لصاحب الرغيف . قال اليهودي : فإن أخبرتك بصاحب الرغيف ، تعطيني هذا المال ؟ فقال عيسى : نعم قال : أنا هو. قال عيسى : خذ حظي وحظك وحظ صاحب الرغيف ، فهو حظك من الدنيا والآخرة ، فلما حمله مشى به شيئاً، فخسف به .  ومر بالمال أربعة نفر ، فلما رأوه اجتمعوا عليه ، فقال اثنان لصاحبيهما: انطلقا فابتاعا لنا طعاماً وشراباً ودواب نحمل عليها هذا المال ، فانطلق الرجلان فابتاعا دواب وطعاماً وشراباً ، وقال أحدهما لصاحبه : هل لك أن نجعل لصاحبينا في طعامهما سماً، فإذا أكلا ماتا، فكان المال بيني وبينك ؟ فقال الآخر: نعم ! ففعلا  وقال الآخران ، ليقم كل واحد إلى صاحبه فيقتله ، فيكون الطعام والدواب بيننا . فلما جاءا بالطعام قاما فقتلاهما  ثم قعدا على الطعام فأكلا منه فماتا.  

إن الرضى بما قسم الله من علامات الإيمان الحق جاء في  الحديث القدسي يقول الله : ( يا ابن ادم خلقت السماوات والأرض فلم أعي بخلقهن أفيعييني رغيف أسوقه إليك ، يا ابن ادم لي عليك فريضة ولك علي رزق فان خالفتني في فريضتي لم أخالفك في رزقك ، يابن ادم وعزتي وجلالي إن لم ترضى بم قسمت لك  لأسلطن عليك الدنيا تركض فيها ركض الوحش في البرية ولا ينالك فيها إلا ما قسمته لك ولا أبالي ) . 

الطريق إلى نبذ الكراهية والبغض

إن الحكم على الشيء فرع عن تصوره ، وحقيقة الكراهية وجوهرها يتمثل في أمور معينة ، قد تصعب الإحاطة بها  ولذلك يقتضي الأمر ضرورة التعرف إلى معنى الكراهية : فهي لغة من مصدر كره ، فيقال كره كراهية ، والكره ـ بالضم والفتح ـ لغتان ، وهو يعني البغض ، فكَّره إليه الأمر، يعني بغضه فيه ·

ويمكن تعريف الكراهية اصطلاحاً : بأنها البغض القلبي  والنفور الذاتي ، والرفض النفساني ، المتمثل في طغيان مشاعر الصدور  والبعد عن شخص معين ، بسبب ظاهر أو خفي ، ولا غرابة في هذا ، لأن من أحب لسبب فإنه بالضرورة يبغض لضده  لأن الحب والكراهية وجهان لعملة واحدة ، ومن ثمَّ يقول الغزالي: "كل واحد من الحب والبغض داء دفين في القلب ، إنما يترشح عند الغلبة ، ويترشح بظهور أفعال المحبين والمبغضين في المقاربة والمباعدة ، وفي المخالفة والموافقة " ·

يؤكد هذا المعنى قول ابن القيم: " يجتمع في القلب بغض أذى الحبيب وكراهته من وجه ، ومحبته من وجه آخر ، فيحبه ويبغض أذاه " وبذا يتضح معنى الكراهية باعتبارها ضد الحب  وبضدها تتميز الأشياء .

فالكراهية شعور بغيض جدا ، وإذا كانت الكراهية بغيضة  فإن الحقد شعور أقبح من أن يوصف ، وإن الكره والمحبة من المشاعر التي جبل عليها الإنسان    فهناك أُناس نقابلهم ونكرههم من أول نظرة ولا نعرف السبب ، ربما لا نرتاح لهم مع أنهم طيبين ، علماً بأن الإنسان الطيب حينما يكره لا يؤذي من يكرهه   وإنما يبتعد عنه ، أما الإنسان الحقود حينما يكره فإنه يؤذي وتزداد كراهيته وحقده ، ويحاول تشويه من يكره قدر الإمكان ، وهذه صفة الإنسان اللئيم حينما يكره ، لا يهنأ له بال حتى يشوه من يكره ، ويبدأ بنشر الأكاذيب حوله   وتضخيم كل ما يصدر منه . وهناك فرق بين الحقود واللئيم  فالحقود يهنأ باله ويرتاح حينما يشعر أنه انتصر على من يكره  مع العلم أنه بالحقيقة انتصر على الطيبة التي بقيت بذاته ليس إلا   أما اللئيم فلا يهنأ له بال مهما فعل شرا .

لا يٌنْكِر إنسان أن هناك من البغضاء والحقد ، ما ينتشر بين الناس لأي سبب من الأسباب ، وهو ما حرمه الله بين المسلمين قال تعالى : ) كونوا عباد الله إخوانا (  فما أحوجنا للعفو والتسامح ، واستخدام لغة الحب والرحمة بيننا ، رحمة بأنفسنا في الدنيا والآخرة ، فعلى أي شيء يكره المسلم أخاه ، أو يحقد عليه وقد أمر الدين بأن يكونوا رحمة لغيرهم من العالمين ، لا شك أن كره المسلم لأخيه هو أشد تنكير للصفة التي جاء بها حبيبنا صلى الله عليه وسلم فلما لا نكون رحماء بيننا ، ثم كيف ندخل الجنة وقلوبنا مليئة بالبغضاء ، وقد نصت الأحاديث النبوية على أنه لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من غل أو بغض ، ولا أدري لماذا يحرص بعض الناس على أن يكرّهوا غيرهم فيهم ؟ وديننا لا يجيز كراهة المسلم لأحد من المسلمين بدون سبب شرعي ، ولماذا يتصرف بعض الناس بشكل يبعث الاستياء والغضب في النفوس ، سواء بحكم العمل أو الحاجة الشخصية  ولماذا لا يتعلّموا   فن التعامل في العلاقات بين الناس ؟ ولم لا يحاولون رسم ابتسامة نظيفة على وجوههم ، ولو لمرة في حياتهم العابسة ؟ ولم لا يحرصون على كسب ود الناس بدل حرصهم على كسب النفور والاستياء ؟! 

عجبا لأمر هؤلاء الناس وعجبا لبراعتهم في إنماء الروح العدائية لديهم ، والأكثر غرابة عندما يقابلون غيرهم بالابتسامات المزيفة ، والترحيبات الكاذبة ، والبراءة المصطنعة ، ويتصرفون في غياب أولئك الغير على عكس ذلك تماما ، ألا يعرف من كان كذلك أن الحياة فانية ، وان الإنسان لا بد وان يصل إلى تلك المرحلة التي يبدأ فيها بمحاسبة نفسه وتأنيبها حتى على اصغر الأشياء في حياته ، صحيح بأن الحياة فيها كل ما هو جميل وغريب أيضا ، وصحيح بأننا قد نصادف العديد من الأدمغة الجافة والقلوب الملوثة ، ولكنني أتساءل متى يدرك العدائيون أن المفعول السحري للابتسامة في وجه من عرفنا ومن لم نعرف ،  يعود علينا بالفائدة في حياتنا وبعد مماتنا ، وهذا سؤال بسيط يستطيع كل واحد منا أن يجد له جوابا ، فنحن نكره الذين يبغضونا ، لأن الميل الطبيعي لدى الإنسان العادي هو أن يصفع من يصفعه ، وان يشتم من يسبه ، وان يجرح من يخدشه ، فإذا استشعر الكراهية والبغضاء ، اعتمل في قلبه إحساس بالنفور ، لا يلبث أن يصبح كراهية مكبوتة أو سافرة . فالكاره يفترض أمورا تزيد في كراهيته ، وتملاه بالخوف والتوجس . لأن الكراهية في اغلبها خوف ينشأ عن سوء الظن  ووسوسة كاذبة وشك مكدر .

وهناك كراهية التنافس ، ومنها ذا الطابع التجاري ، وهي عملة سهلة يتداولها التجار في السوق . فعندما يحس الواحد أن هناك من يشاركه الكسب أو ينافسه في الفوز بمنفعة ما ، فانه سرعان ما يستجمع رصيده من هذه العملة الزائفة  عملة الكراهية وسوء الظن والهواجس ، وكأن الدنيا ضاقت ، وكأن الخير قد شح  وكان بمقدور الإنسان أن يأخذ طعام غيره ، أو يحجب عنه خيراً قدّره الله له  وهناك كراهية الأشرار : فكثيرا ما يقع الإنسان فريسة لكبريائهم ، فيقسموا الناس إلى أخيار وأشرار  ويضعوا أنفسهم في موضع الرضا ، ويضعوا الآخرين في قفص الاتهام . يرون البقع السوداء في حياة الآخرين ، ويغفلوا عما هم فيه من انحراف ، وعندما تتمكن في عقولهم تلك الفكرة الحمقاء ، بأن هناك أناس على درجة عالية من الفضيلة والأخلاق ، وان هناك آخرين يتمرغون في الأوحال ويلطخون وجه الحياة النظيفة ، فإن قضية الأخلاق عندهم تتحول إلى قضية شخصية ، يحولها كبرياؤهم إلى كراهية للآخرين . وحتى لو صدق تقديرهم للناس ، فانه لا ينبغي أن ننس أن الله يدعونا إلى نبذ الشر ، وأنه لا يدعونا إلى كراهية الأشرار ، بل إلى مساعدتهم حتى يستبين لهم الخطأ من الصواب .

كثيرا ما يكره البعض بعضاً لمجرد التفوق في الحياة . لأن النجاح والشهرة والاحترام التي تحيط بالناجحين ، تجعل الآخرين يحقدوا عليهم ويغاروا منهم  ويتمنوا لو استطاعوا تنحيتهم واستلاب مكاسبهم ، هذه الغيرة تولد كراهية عميقة في القلب . وهي تعمل كالمواد الكاوية في إتلاف خلايا الجسم ، وكم من صحة ضاعت ، وأجساد احترقت ، بنار الحسد والبغيضة والكراهية .

هناك أسباب كثيرة تملئ القلوب بالكراهية للآخرين ، فقد يقع الكره دون سبب معلوم . وقد تكون الكراهية عند البعض جزاءاً من جوهر طبيعتهم الشريرة التي تجنح نحو الخطئية والفساد . وربما يجدوا لأنفسهم الأعذار والمبررات لحقدهم  ولكن الحقيقة أن الذي يكره لا يكره إلا لأنه من الأشرار. فالكاره له عين ترى السوء ولا ترى الخير ، وله لسان لا يشهد بفضل الآخرين ، بل يسعى بالغيبة  والنميمة ، ويا ليته عمل بقول القائل : " اقتلع الكراهية من قلب أخيك باقتلاعها من صدرك أولا " . فكيف نقتلع الكراهية من صدورنا ؟ لا سبيل إلى ذلك إلا بإحلال الحب في القلب مكان الكراهية والحقد . فالحب وحده يقتلع الكراهية من صدور الناس ، والله يدعونا إلى الحب والتحابب ، والدفع بالتي هي أحسن ليتحول العدو إلى صديق ، والبعيد إلى قريب ، والخصم إلى رفيق ، وذلك لأن الإيمان يفرض على الإنسان ، أن يختار الأحسن في حركة العلاقات ، كما يريده اختيار الأحسن في حركة الحياة ، ولعل هذا الهدف يحتاج إلى الكثير من الجهد النفسي والفكري والعملي ، الذي يتجاوز الكثير من الضغوط الداخلية والخارجية التي تريده أو تقوده إلى الاستسلام ، إزاء المشاعر الانفعالية والعدوانية لذلك يقول تعالى:) وما يلقاها إلا الذين صبروا (  على مشاعر الحرمان التي يفرضها الانفتاح على الآخرين، في مجاهدة النفس ضد رغباتها الذاتية وضد نزواتها العشوائية ) وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم ( من الإيمان والوعي على كل معاني الخير والإحسان . 

إن وأد ثقافة الكراهية من مجتمعنا ، بحاجة إلى إعادة الاعتبار إلى الآخر وجوداً ورأياً  ، حتى يتسنى للجميع صياغة العلاقة بين الذات والآخر ، على أسس الاعتراف بحق الآخر في التعبير عن وجوده وأفكاره ، بعيداً عن ضغوط الإكراه وموجبات النفي والإلغاء ، روى أن الحجاج بن يوسف الثقفي كان يسبح يوما في النهر فبلغ به الجهد مبلغه واشرف على الغرق فرآه احد الناس فقفز إلى النهر وامسك به وأنقذه ، فقال الحجاج للرجل أتعرف من أنقذت يا هذا فقال : نعم اعرف ، فقال له : لكن يقال انك تكرهني ، فقال الرجل : نعم أكرهك ، فسأله الحجاج : ولماذا لم تدعني اغرق ؟ فرد عليه الرجل  : والله ما أنقذتك رغبه في نجاتك ، ولكن خشيت أن تموت شهيدا فتدخل الجنة .

  فالاختلاف مهما كان حجمه ، لا يُشرع للحقد والبغضاء وممارسة العدوان  بل يؤسس لضرورة الوعي والمعرفة بالآخر . وعياً يزيل من النفوس الأدران والأحقاد والهواجس ، التي تسوغ بشكل أو بآخر معاداة المختلفين مع بعضهم . ومعرفة تضيء كل محطات العلاقة بمستوياتها المتعددة ، وتحول دون إطلاق الاتهامات الجوفاء التي تضرّ ولا تنفع .

وقد جاء النهي عن الإفراط في الحب والبغض عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فعن زيد بن أسلم عن أبيه قال : قال لي عمر بن الخطاب رضي الله عنه : " يا أسلم لا يكن حبك كلفا ، و لا بغضك تلفا ، قلت : و كيف ذلك ؟ قال : إذا أحببت فلا تكلف كما يكلف الصبي بالشيء يحبه ، وإذا أبغضت فلا تبغض بغضا تحب أن يتلف صاحبك ويهلك " . و عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : أحبب حبيبك هونا ما ، عسى أن يكون بغيضك يوما ما ، وأبغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما " وقال أبو الأسود الدؤلي :

وأحبب إذا أحببت حبا مقاربا    فإنك لا تدري متى أنت نازع

و أبغض إذا أبغضت غير مباين   فإنك لا تدري متى أنت راجع

والمقصود الاقتصاد في الحب والبغض ، لأنّ الإسراف في الحب داع إلى التقصير  و كذلك البغض ، فعسى أن يصير الحبيب بغيضا ، و البغيض حبيبا ، فلا تكن مسرفا في الحب فتندم ، ولا في البغض فتأسف ، لأن القلب يتقلب فيندم أو يستحي ، قال بعض الحكماء : " ولا تكن في الإخاء مكثرا ، ثم تكون فيه مدبرا   فيعرف سرفك في الإكثار ، بجفائك في الإدبار " . ويخشى مع ذلك مع فرط المحبة أن يوافقه على باطل ، أو يقصر معه في واجب النصيحة لله عزّ و جل ، و قد تنقلب هذه المحبة إلى بغض مفرط ، و يخشى عند ذلك إفشاء الأسرار ، و ترك العدل والإنصاف ، وعن الحسن قال :" أحبوا هونا و أبغضوا هونا ، فقد أفرط أقوام في حب أقوام فهلكوا ، وأفرط أقوام في بغض أقوام فهلكوا "

إن من حق الأخ على أخيه ، أن يسكت عن ذكر عيوبه في غيبته وحضرته ، بل يتجاهل عنه ، أما ذكر عيوبه ومساويه في غيبته فهو من الغيبة المحرمة ، و ذلك حرام في حق كل مسلم   ولو أنك طلبت منـزها عن كل عيب ، اعتزلت عن الخلق كافة ، ولم تجد من تصاحبه أصلا كما قال النابغة الذبياني :

ولست بمستبق أخا لا تلُمُّه   على شعث أيّ الرجال المهذّب

فما من أحد من الناس إلا وله محاسن و مساوئ ، فإذا غلبت المحاسن المساوئ فهي الغاية ، والمؤمن أبدا يحضر في نفسه محاسن أخيه ، لينبعث من قلبه التوقير و الودّ و الاحترام ، و أما المنافق اللئيم فإنه أبدا يلاحظ المساوئ والعيوب

قال ابن المبارك : " المؤمن يطلب المعاذير ، والمنافق يطلب العثرات "  ما أحوجنا إلى تلك الثقافة التي تدفعنا إلى تجسير الفجوة مع المختلفين مع بعضهم لِتَحُثَّم على التعارف والتواصل   والتفاهم والحوار المستديم ، وتلزمهم باحترام الآخرين ، وإلى تلك المبادرات ، التي تستهدف إزالة كل ما من شأنه أن يسيء إلى علاقة الأخوة ، ويعمق أواصر التلاقي والمحبة ، من أجل الخروج من دائرة التعصب الأعمى إلى رحاب التواصل والحوار ، ومن ضيق التطرف والغلو إلى سعة الرفق والتيسير ، ومن دائرة الجمود المميتة إلى دائرة التواصل من أجل الحق والحقيقة   وإن ديننا يطلب منا الانعتاق من أسر الجمود والتعصب والأنانية القاتلة ، لنتمكن من مجابهة الظروف والتحديات التي تستهدف أمتنا . ولنأخذ بأسباب العدالة في تعاملنا مع الآخرين ، في نطاق الرؤية التي تقول : "عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به "  

إن الإسلام يتحسس النفوس بين الحين والحين ، ليغسلها من أدران الحقد الرخيص ، و ليجعلها حافلة بمشاعر أزكى وأنقى  نحو الناس ونحو الحياة .

في كل يوم وفي كل أسبوع ، و في كل عام تمر النفوس من آداب الإسلام في مصفاة تحجز الأكدار ، وتنقي العيوب و لا تبقي في الأفئدة المؤمنة أي أثار من للضغائن . أما في كل يوم : فقد أوضح الإسلام أن الصلوات المكتوبة لا يحظى المسلم بثوابها   إلا إذا اقترنت بصفاء القلب للناس ، وفراغه من الغش والخصومات ، قال رسول الله  )ثلاثة لا ترفع صلاتهم فوق رؤوسهم شبرا : رجل أم قوما و هم له كارهون ، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط  وأخوان متصارمان) ابن ماجة . وأما في كل أسبوع : فإن هناك إحصاء لما يعمله المسلم  ينظر الله فيه ليحاكم المرء إلى ما قدمت يداه ، وأسرَّه ضميره ، فإن كان سليم الصدر نجا من العثار ، وإن كان ملوثا بمآثم الغضب والحسد والسخط ، تأخر في المضمار قال رسول  الله   :    r   ( تعرض الأعمال في كل اثنين و خميس : فيغفر الله عز وجل في ذلك اليوم لكل امرئ لا يشرك بالله شيئا إلا امرءا  كانت بينه و بين أخيه شحناء فيقول : اتركوا هذين حتى يصطلحا ) مسلم .

و أما في كل عام : فبعد تراخي الليالي وامتداد الأيام ، لا ينبغي أن يبقى المسلم حبيسا في سجن العداوة ، مغلولا في قيود البغضاء ، فإن لله في دنيا الناس نفحات لا يظفر بخيرها إلا الأصفياء السمحاء . ففي الحديث : ( إن الله عز و جل يطلع  على عباده ليلة النصف من شعبان فيغفر للمستغفرين ، و يرحم المسترحمين  و يؤخر أهل الحقد كما هم ) البيهقي .

فمن مات بعد هذه المصافي المتتابعة ، والبغضاء لاصقة بقلبه ، لا تنفك عنه ، فهو جدير بأن يصلى حر النار ، فإن ما عجزت الشرائع عن تطهيره ، لا تعجز النار عن الوصول إلى قراره  وكي اضغانه وأوزاره ، والشحناء التي كرهها الإسلام و كره ما يدفع إليها أو ينشأ عنها هي التي تنشب من أجل الدنيا وأهوائها ، و الطمع في اقتناص لذائذها والاستئثار بمتاعها .

أما البغض لله ،  والغضب للحق  ، والثورة للشرف ، فشأن آخر ، وليس على المسلم جناح في أن يقاطع حتى الموت ، من يفسقون عن أمر الله   أو يعتدون على حدوده وليس عليه من لائمة ، في إن يُكْنّ َ لهم البغضاء ويجاهرهم بالعداء . بل إن ذلك من أمارات الإيمان الصحيح والإخلاص لله وحده .

وقد أمر الله عز و جل أن نجافي أعداءه ، ولو كانوا أقرب الناس إليه : ) يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا آبائكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ، ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون ( التوبة 23 .

و ابتعاد المسلم عمن تسوء صحبتهم أو من يغرون بالتهاون و الهزل واجب وابتعاده عمن أخطأ في حق الله ، عقابا له ، إلى أجل محدود أو ممدود ، لا شيء فيه ، فقد هجر النبي بعض نسائه أربعين يوما . وهجر عبد الله بن عمر ولدا له حتى مات   لأنه رد حكما لرسول الله ، كان أبوه يرويه في إباحة خروج النساء إلى المساجد . أما أن يتلمس المسلم العيوب لأخيه المسلم ، وإلصاقها به عن تعمد فذلك جريمة يدفع إليها الكره الشديد عدها الإسلام من أقبح الزور ، لما روت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : ( أتدرون أربى الربا عند الله ؟ قالوا الله ورسوله أعلم ، قال : فإن أربى الربا عند الله استحلال عرض امرئ مسلم ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ) والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبينا ( أبو يعلى .    

 

 

 

 

 

 

العمل الخيري في الإسلام

 

فعل الخير : هو كلُ عملٍ نافع ٍ للأمة في أمر دينِها ودنياها ، مما يُرضي اللهَ عزَّ وجلَّ  وكل إنسان أوصَلَ ذلك أو سعى إليه , أو عمِلَ للانتفاع بهِ , فهو مِن الصالحين جاء في الحديثِ القدسي : ( إنَّ مِن عبادي مَن جعلتُه مِفتاحاً للخير ويسَّرتُ الخيرَ على يديه , وإنَّ مِن عبادي مَن جعلتُه مِفتاحاً للشر ويسَّرتُ الشرَ على يديه   فطوبى لمَن جعلتُه مفتاحاً للخير مِغلاقاً للشر , وويلٌ لمَن جعلتُه مِفتاحاً للشر مِغلاقاً للخير ) وروى مسلم عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من دل على خير فله مثل أجر فاعله ) وهذا تشجيع عظيم على التعاون على فعل الخير  وروى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة .. الحديث ) وهنا يأتي دور مساعدة المؤمن لأخيه المؤمن بالنظر في سبب الكربة ، فإن كانت من جهة فقره وحاجته ، ساعده حتى يسد حاجته ، سواء أكان من ماله   أو من مساعيه الحسنة ، وإن كانت كربته بسبب مصيبة حلت به واساه وعزاه ، وإن كانت بسبب حاجته على زواج سعى في تزويجه ، أو بسبب حاجته إلى عمل   سعى لتهيئة العمل الملائم له ، أو بسبب حاجته إلى تداوٍ من علة ، سعى له فيما يريد .. وهكذا ، فجزاؤه عند الله بأن ينفس عنه كربة من كرب يوم القيامة ، ولو جمعت كل كرب الدنيا ، لا تعادل بعض كرب يوم القيامة  ونعم الثواب ثواب من ينفس الكرب عن إخوانه المؤمنين في هذه الحياة الدنيا .

 

وعمل الخير له أهميته في الإسلام ، فقد اعتنت الشريعة به عناية بالغة ، لإغاثة الملهوف ومساعدة المحتاج ، دون مقابل مادي ، ابتغاء مرضاة الله ورجاء الثواب عند الله وهو من المقاصد الشرعية ، التي تنحصر في المحافظة على الدين والنفس والنسل والعقل والمال ، والمحافظة على العرض ، وقد جاء في القرآن والسنة النبوية ، ما يأَمْرٌ به أو يرغب فيه ، وفي بعضها نهيٌ عن ضده أو تحذيرٌ منه وجاء في بعضها مدح لفاعلي الخير ، وذم لمن لا يفعل فعلهم ، وفيها ما يثني على فعل الخير في ذاته أو الدعوة إليه والتنافس فيه قال تعالى:{ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }الحج 77 وفي قول الخير قال تعالى:{ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا } البقرة  83 ، وفي الحديث: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت ) . وفي  المسارعة إلى الخير قال تعالى: { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } آل عمران 133 ، كما حرص الإسلام على دفع المؤمنين إلى التسابق إلى عمل الخير فقال تعالى:{ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا } المائدة48، وإلى أن يقوم فريق من الناس بالدعوة إلى الخير لقوله تعالى: { وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ } آل عمران 104 .

 

وقد حرض المؤمنين على عقد النية لعمل الخيرات ، حتى ولو لم تتيسر الظروف لفعله ، فإنهم يثابون على نية فعل الخير ، لحديث أبي كبشة الأنماري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إنما الدنيا لأربعة نفر : عبد رزقه الله مالا وعلما، فهو يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقا، فهذا بأفضل المنازل، وعبد رزقه الله علما ولم يرزقه مالا، فهو صادق النية، يقول : لو أن لي مالا لعملت بعمل فلان، فهو بنيته، فأجرهما سواء، وعبد رزقه الله مالا، ولم يرزقه علما، يخبط في ماله بغير علم  ولا يتقي فيه ربه ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله فيه حقا، فهذا بأخبث المنازل ، وعبد لم يرزقه الله مالا ولا علما، فهو يقول: لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان فهو بنيته ، فوزرهما سواء ) احمد .

 

 وقد رفع الإسلام من شأن عمل الخير ، ولو كان صغيرا لقوله تعالى: { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ } الزلزلة  7 ،  وقال صلى الله عليه وسلم : ( سبق درهم مئة ألف درهم قالوا : وكيف؟ قال: كان لرجل درهمان ، تصدق بأحدهما   وانطلق رجل إلى عرض ماله فأخذ منه مئة ألف درهم فتصدق بها ) وفي هذا صيانة لكرامة من يفعل المعروف القليل   من احتقار الناس لفعله ، ومن هذا القبيل قول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( اتقوا النار ولو بشق تمرة ) البخاري ومسلم .

 

كما يدعو الإسلام إلى التعاون على فعل الخير وتقديم العون للمحتاجين قال تعالى: { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى } المائدة 2 . وجاء في الحديث : ( والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ) . وجاء في النصوص ما يدل على أن ثواب عمل الخير ، كالمجاهد في سبيل الله   إذا  تحرى الحق ، وابتغى وجه الله بعمله لما روي عن رافع بن خديج قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( العامل على الصدقة بالحق  كالغازي في سبيل الله حتى يرجع  )   وما ورد عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدة ، كان لها أجرها بما أنفقت ولزوجها بما اكتسب ، وللخادم مثل ذلك ، لا ينقص بعضهم من أجر بعض شيئا ) .

 

وجاء في القصص والحكم والأمثال والأشعار ما فيه استحثاث الناس على فعل الخير ، وعدم تعجل نتائجه  فإنها آتية ولا ريب ، فإن لم تأت عاجلا فلسوف تأتي آجلا لا محالة ولقد أحسن القائل :

 

من يفعل الخير لا يعدم جوازيه   لا يذهب العرف بين الله والناس

 

ففاعل الخير لن يذهب سعيه سدى ، قصر الزمن أو طال ،  كان مزارعٌ إسكتلنديٌ فقيرٌ يعمل في حقل، فسمعَ صوتَ إستغاثةٍ مِن مُستنقعٍ قريب فذهب إليه فوجد صبياً غارقاً حتى مُنتصفِ جسمِهِ ، وبلا تردد.. أنقذَ الصبيّ ، وفي صباحِ اليومِ التالي، توقّفت عربةٌ أنيقةٌ عند كوخ المزارع   ونزلَ مِنها رجلٌ أنيق، قدّم نفسهُ للمُزارع على إنه والدُ الصبيّ الذي كان على وشكِ الغرق وقال له:  أرغبُ بِمُكافأتكَ على إنقاذِ ولدي ، ولكن المُزارع رفض العرض   رأى الرجل ولداً أمام الكوخ ، وسأله : أهذا ابنك؟ أجاب المزارع : نعم هو ابني ، فعرض الرجل عليه قائلاً : دعني أُوفّر لابنك نفسَ الفُرص التعليمية التي أُوفّرها لابني   قبل المزارع هذا العرض  وقد كبُر الولد ودرسَ في أحسنِ المدارسِ، وتخرّج مِن مدرسةِ (مشفى سانت ماري) وأصبح مشهوراً في كلّ بقاعِ العالم ، أتدرون من هو ؟ إنه العالِم (ألكسندر فيلينغ) مكتشف البنسلين ، وبعد سنواتٍ ، أُصيب الرجل الذي كان على وشك الغرق في المستنقع وهو صغير بمرضِ (ذات الرئة)   فأنقذ حياته البنسلين ، الذي اكتشفه ابن المزارع .

 

فالتعاون على الخير ، مظهر من مظاهر وحدة الجماعة  فقد يستطيع الفرد المساهمة في بعض عمل الخير ، ولا يستطيع القيام بكل العمل ، في حين يستطيع الفرد القيام بما يعجز عنه صاحبه ، ومساهمة كل منهما بما يستطيع  يحقق مبدأ التكافل  ولذلك جعل الإسلام ثواب من ساهم في فعل الخير ، كثوابه فيما لو فعل الخير كله  قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من دل على خير فله مثل أجر فاعله ) مسلم .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

السماحة في الإسلام

 السماحة هي طيب في النفس ، وانشراح في الصدر ولين في الجانب ، وذلة على المؤمنين دون ضعف ومهانة  وصدق في التعامل دون غبن وخيانة، وتيسير في الدعوة إلى الله دون مجاملة ومداهنة، وانقياد لدين الله دون تشدد بها تصفو القلوب قال صلى الله عليه وسلم : ( خير الناس ذو القلب المحموم واللسان الصادق، قيل : ما القلب المحموم؟ قال : هو التقي النقي الذي لا إثم ولا بغي ولا حسد قيل : فمن على أثره؟ قال : الذي يشنأ الدنيا ويحب الآخرة  قيل : فمن على أثره قال : المؤمن في خلق حسن) صحيح الجامع  

إن الغـلـظـة التي نراها في التعامـل بيننا ، ليست من ديننا في شيء ، وإن الجفاء الذي نجده ، يتنافى مع سماحة الإسلام ، لأن المؤمن الحقيقي ،سمح مألوف قال صلى الله عليه وسلم : ( المؤمن يألف ويُؤلف، ولا خير فيمن لا يَألف ولا يؤلف ، وخير الناس أنفعهم للناس) صحيح الجامع . بل إن السماحة هي من أفضل الإيمان قال صلى الله عليه وسلم : ( أفضل الإيمان الصبر والسماحة) صحيح الجامع. وقد امتدحت الأحاديث النبوية السماحة في البيع والشراء والقضاء قال صلى الله عليه وسلم : (إن الله تعالى يحب سمح البيع، سمح الشراء سمح القضاء) رواه الترمذي وهو في صحيح الجامع. وامتدحت السماحة في الدَّيْنِ والاقتضاء قال صلى الله عليه وسلم :( رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى) رواه البخاري . وفي هذا يعلق ابن حجر بقوله : " السهولة والسماحة متقاربان في المعنى ، والمراد بالسماحة ترك المضجرة ونحوها ، وإذا اقتضى أي طلب قضاء حقه بسهولة وعدم إلحاف ، وإذا قضى : أي أعطى الذي عليه بسهولة بغير مطل ، وفيه الحض على السماحة في المعاملة ، واستعمال معالي الأخلاق ، وترك المشاحنة   والحض على ترك التضييق على الناس في المطالبة ، وأخذ العفو منهم " ، وأكثر ما تكون الخصومات في المعاملات المالية ، والمناظرات الخلافية  والملاسنات الكلامية ، وقلّ أن يسلم فيها من لم يتحلّ بكرم الخلق ، وجود النفس  وسماحة الطبع .

وكم نحن بحاجة إلى السماحة في طلب الدَّيْنِ وإنظار المعسرين، والتجاوز عن المعوزين وقضاء حوائج الناس في تواضع وسماحة ، حتى تدركنا رحمةُ الله برحمة خلقه  فإنظار المعسر ، أو التجاوز عن القرض أو عن جزء منه   صورة عظمية من صور الكرم ، وسماحة النفس ، قال   صلى الله عليه وسلم : (كان تاجر يداين الناس ، فإذا رأى معسرًا قال لفتيانه : تجاوزوا عنه ؛ لعل الله أن يتجاوز عنا   فتجاوز الله عنه) رواه البخاري . بل إن توفيق الدنيا والآخرة مرهون بتيسيرك على أخيك المعسر : (من يسّر على معسرٍ يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة) رواه مسلم .

وصاحب السماحة لا يحرص على إيقاع الناس في الحرج   ولا يشغله التفكير بما له ، عن التفكير بما عليه من سماحة مع إخوانه وتقديره لظروفهم ، جاء في الحديث الصحيح : ( أن الصحابي أبا اليسر كان له على رجل قرض ، فلما ذهب لاستيفاء حقه ، اختبأ الغريم في داره ، لئلا يلقى أبا اليسر ، وهو لا يملك السداد ، فلما علم أبو اليسر أن صاحبه يتخفى منه حياء لعدم تمكنه من أداء ما عليه ، أتى بصحيفة القرض فمحاها وقال: إن وجدت قضاء فاقض، وإلا فأنت في حلّ ) رواه مسلم . وبسماحته تلك أخرج أخاه من الحرج الشديد .

ومن السماحة أن نتحمل جهل الجاهل، وفورة الغاضب  لأن الفظاظة ليست من ديننا قال تعالى : ] ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك [ فما أحوجنا إلى هذا الخلق ، في زمن بلغ فيه البغض غايته، ورفع فيه الحسد رايته ، ما أحوجنا إلى السهولة واليسر، والسماحة والتجاوز ، حتى نعيش في هذه الدنيا بهناء، ونكون يوم القيامة سعداء قال صلى الله عليه وسلم : ( من كان سهلاً ليناً هيناً حرمه الله على النار) صحيح الجامع .

والسماحة لها أثر عظيم تنشأ به محبة القلوب ، ومودة النفوس ، وعندما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أحب الدين قال : (الحنيفية السمحة) . إننا بحاجة إلى هذه السماحة بين الأهل والأحباب ، وبين المختلفين من الناس، وبين الأزواج والزوجات، وبين الأبناء والآباء والأمهات    فهي عظيمة في أجرها وثوابها  وفي أثرها ونفعها، دلت عليها المواقف النبوية كما في قصة الشاب الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الزنا ، فنهره الصحابة فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (مه مه ادن مني) فدنا منه الشاب، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : أترضاه لأمك، قال: لا فداءك أبي وأمي يا رسول الله  قال: والناس لا يرضونه لأمهاتهم ثم قال: لأختك  ثم قال: لابنتك ثم قال: لخالتك ثم وضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على صدره ودعا له فقال: اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه وحصن فرجه)  فكان من أثر ذلك أن قال هذا الغلام كما في رواية أخرى : (ما صار شيء أبغض إلى نفسي من الزنا) رواه   أحمد من رواية أبي أمامة . وتتجلى هذه السماحة النبوية عندما سمع النبي صلى الله عليه وسلم في الطواف أعرابيا يقول: يا كريم ، فقال النبي خلفه: يا كريم فمضى الإعرابي إلى جهة الميزاب وقال: يا كريم فقال النبي خلفه : يا كريم فالتفت الإعرابي إلى النبي   وقال : يا صبيح الوجه, يا رشيق القد أتهزأ بي لكوني أعرابيا؟‎ والله لولا صباحة وجهك ، ورشاقة قدك   لشكوتك إلى حبيبي محمد صلى الله عليه وسلم  فتبسم النبي وقال: أما تعرف نبيك يا أخا العرب ؟ قال الأعرابي : لا ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : فما إيمانك به؟ قال : اّمنت بنبوته ولم أره وصدقت برسالته ولم ألقه ، قال النبي : يا أعرابي , اعلم أني نبيك في الدنيا وشفيعك في الآخرة ، فأقبل الأعرابي يقبل يد النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي : مه يا أخا العرب
لا تفعل بي كما تفعل الأعاجم بملوكها, فإن الله سبحانه  
بعثني  ، لا متكبراً ولا متجبراً, بل بعثني بالحق بشيراً   ونذيراً فهبط جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم  وقال له: يا محمد !  السلام يقرئك السلام ، ويخصك بالتحية والإكرام  ويقول لك : قل للإعرابي لا يغرَّنَه حلمنا ولا كرمنا,فغداً نحاسبه على القليل والكثير ، والفتيل والقطمير  فقال الأعرابي: أو يحاسبني ربي يا رسول الله؟ قال : نعم يحاسبك إن شاء ، فقال الأعرابي: وعزته وجلاله, إن حاسبني لأحاسبنه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : وعلى ماذا تحاسب ربك يا أخا العرب ؟ قال الأعرابي : إن حاسبني ربي على ذنبي حاسبته على مغفرته ، وإن حاسبني ، على معصيتي حاسبته على عفوه ، وإن حاسبني على بخلي حاسبته على كرمه ، فبكى النبي صلى الله عليه وسلم  حتى إبتلت لحيته ، فهبط جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم وقال : يا محمد ! السلام يقرئك السلام  ويقول لك : يا محمد ! قلل من بكائك فقد ألهيت حملة العرش عن تسبيحهم ، وقل لأخيك الأعرابي لا يحاسبنا ولا نحاسبه ، فإنه رفيقك في الجنة " .

قد يوسوس الشيطان للمسلم : إنك لو تسامحت وصفك الناس بالعجز ، وظنوا فيك الضعف ، ولأَنَ تُؤْثِرَ أن يقال فيك ما يقال خير لك من الوقوع في الفجور ، بحيث يخشى الناس شرّك ، وقد ورد في الحديث : (يأتي عليكم زمان يُخيَّر فيه الرجل بين العجز والفجور ، فمن أدرك ذلك الزمان فليختر العجز على الفجور) رواه أحمد .

ومما يتنافى مع السماحة الانزلاق إلى الخصومة قال صلى الله عليه وسلم : (أبغض الرجال إلى الله الألدُّ الخَصِم) رواه البخاري . قال ابن حجر في الفتح : " الألدّ : الكذاب  وكأنه أراد أن من يكثر المخاصمة ، يقع في الكذب كثيرًا ، وحين يفتقد المرء السماحة ، تجده ينحدر في أخلاقه ، إلى أن ينجرف إلى التصايح والجدل لأمر يعلم بطلانه قال صلى الله عليه وسلم : ( ومن خاصم في باطل - وهو يعلمه - لم يزل في سخط الله حتى ينـزع عنه ) رواه أبي داود .  

إن خلق السماحة يقتضي من صاحبه المبادرة إلى التنازل  عند الوقوع في أي موقف جدلي ، وقد حُرمت الأمة العلم بميقات ليلة القدر ، وما فيها من الخير الكبير؛ بسبب انعدام روح السماحة بين رجلين من الأمة كما اخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم  (خرجت لأخبركم بليلة القدر  فتلاحى فلان وفلان فرُفعت) رواه البخاري . وكم تُحرم الأمة من البركات والنعم والنصر ، حين تدب الخصومات ، بل إن الصفة الأساسية من أخلاقيات المنافق أنه إذا خاصم فجر كما جاء في حديث البخاري .

 وإن مما يتنافى مع روح السماحة أن يقع الإخوة في جدالات لأمور سياسية ، أو قضايا فكرية ، أو توقعات غيبية ، ثم تجدهم ينفضّون متباغضين بسبب ذلك قال صلى الله عليه وسلم : (ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أُوتوا الجدل) رواه ابن ماجه . ولحث المسلمين على السماحة والتنازل عند الاختلاف ، وعدم الوقوع في مغبة الجدل ، تعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيت في الجنة لمن تنازل : ( أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقـًا) رواه أبي داود . ومن نتائج انعدام روح السماحة أن تتبارى الأمة بألسنتها   فتنقلب إلى أمة كلام ، بدل أن تكون أمة عمل ، وتضيع الأوقات في الشد والجذب والأخذ والرد ، وكل يناصر رأيه ، وكان مما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمته (منعـًا وهات) ، ومما كره لهم : ( قيل وقال ، وكثرة السؤال  وإضاعة المال) رواه البخاري .

 

 

 

التربية الجهادية

لقد جعل الإسلام حراسة الحق أرفع العبادات أجرا ، ولذلك حمل المسلمون في صدر الإسلام وعلى مدار التاريخ وحتى عهد قريب لواء الجهاد ، من أجل إحقاق الحق وإبطال الباطل .

( قيل يا رسول الله ! ما يعدل الجهاد في سبيل الله ؟ قال : لا تستطيعونه ، فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثاً ، كل ذلك وهو يقول : لا تستطيعونه ثم قال : مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله ، لا يفتر من صلاة ولا صيام حتى يرجع المجاهد في سبيل الله ) البخاري .

آمنوا بأن الموت في سبيل الله لإعلاء كلمة الله ونصر دينه هو تكريمٌ إلهي ، حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم حلف يرجو هذا المصير فقال : ( والذي نفس محمد بيده لوددت أن أغزو في سبيل الله فأقتل ، ثم أغزو فأقتل ) البخاري .

ولذلك كانت صيحة الجهاد تستهوي المسلمين ، ولهذا بذل أعداء الله جهوداً كبيرة لشغل المسلمين عن هذه الذروة النبيلة  ليضمن سيطرته على المسلمين دون مقاومة ، فماذا فعلوا لتحقيق ذلك ، لقد عملوا على تكثير الشهوات أمام العيون الجائعة ، وتوهين العقائد والفضائل التي تعصم عن الدنايا  وإبعاد الإسلام شكلاً وموضوعاً عن مجالات الحياة ، وتوهين روابط الأخوة بين المسلمين ، وها نحن نلمس نجاحهم ، إذ لم يستطع المسلمون توحيد صفوفهم ، لصد العدو الذي احتل أرضهم واستباح مقدساتهم ، أتدرون لماذا ؟ لأن المسلمين تحللوا من الإيمان وفرائضه ، والقرآن وأحكامه ، ويوم يرجع المسلمون إلى منهج ربهم ، فإن النصر سيكون حليفهم ، لأن المسلم إذا تسلَّح بسلاح العقيدة ، لأنها لبنة الأساس ، ولا يقبل الله من قوم شريعتهم إلا إذا صحت عقيدتهم ، ولن يكون لنا عز إلا إذا تربينا من جديد على العقيدة ، فمن تربى عليها وقاتل في سبيل الله ، فلن يقف دونه شيء ، أسوق لكم هذه القصة للدلالة على ذلك : روى فيما مضى أن قوماً كانوا يعبدون شجرة من دون الله ، فخرج رجلٌ مؤمن من صومعته   وأخذ معه فأساً ليقطع بها تلك الشجرة ، غَيْرَةً لله وحَميّة لدينه   فتمثل له إبليس في صورة رجل وقال له : إلى أين أنت ذاهب ؟ قال : أقطع تلك الشجرة التي تعبد من دون الله ، فقال له اتركها وأنا أعطيك درهمين كل يوم ، تجدها تحت وسادتك إذا استيقظت كل صباح ، فطمع الرجل في المال وانثنى عن غرضه   فلما أصبح لم يجد تحت وسادته شيئاً ، وظل كذلك ثلاثة أيام   فخرج غاضباً ومعه الفأس ليقطع الشجرة ، فاستقبله إبليس قائلاً : إلى أين أنت ذاهب ؟ قال : أقطع تلك الشجرة ، فقال له إبليس ارجع فلو دنوت منها قطعت عنقك ، فقد خرجت في المرة الأولى غاضباً لله ، فما كان يقدر عليك احد ، أما وقد خرجت للدنيا فلا مهابة لك ، ولن تستطيع تحقيق هدفك .

لقد استمات عدونا في محو الإيمان الخالص وبواعثه المجردة  في نفوسنا ، استمات في تعليق الأجيال بعرض الدنيا ولذة الحياة  استمات في إرخاص القيم الرفيعة ، وترجيح المنافع العاجلة  لأن وجود عبيد الحياة ومدمني الشهوات ، يجعل العدوان سهلاً ولا يلقى مقاومة ، ولصد العدوان لا بد من بناء المجتمع على قواعد الدين وإحكامه ، لأنه السياج الذي يحمينا في الدنيا وينقذنا في الآخرة ، فترك صلاة ما هو إضاعة لفريضةٍ مهمة  وإشباع النـزوة قد يؤدي إلى ارتكاب جريمة ، وهذا وذاك يمثلان في الأمة المنحرفة عن طريق الحق ، انهيار المقاومة المؤمنة   والتمهيد للتسليم للعدوان ، دون رغبة في جهاد أو أمل في استشهاد ، ولعل هذا سرُّ قوله تعالى : } فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا { مريم 59 . كان لكلمة الجهاد إذا ما ذكرت أثراً بعيد المدى ، لأن التربية الدينية ترفض التثاقل إلى الأرض ، والتخاذل عن الواجب وهذه التربية هي التي تفتقر إليها أمتنا ، فتراها تنظر لمن يعانوا في ظل الاحتلال نظرة المتفرج ، لا تهب لنجدته ، ولذلك فنحن بحاجة إلى تربية أجيال صالحة لخدمة الحق ، ورد العدوان عن الأمة .

وعندما تمكن الأعداء من السيطرة على العالم الإسلامي  حرصوا على أن يحولوا بين الأمة وروح الجهاد ، وحاولوا بشتى الطرق على أن لا تربى الأجيال المسلمة على روح الجهاد   فعملوا على تنشئة جيل يبحث عن الشهوات ، ويخلد إلى الأرض   فأصبحت الأمة بهذا الجيل ، جسداً لا تملك أمرها   ولا تحكم يومها ولا غدها ، بل إنها في تبعيتها للغرب أهملت كل ما من شأنه أن يجعلها في مصاف الأمم المصنعة ، لتكون مستهلكة حيث تبيع ثرواتها المعدنية والزراعية ، بأكوامٍ من المواد المستهلكة ، وأدوات الزينة والترف ، مع فقرها المدقع إلى ما يدفع عنها جشع العدو ، ونياته السود في اغتيالها وإبادتها وقد جاء هذا الواقع نتيجةً حتميةً لاتخاذ القرآن مهجورا   ونبذ تعاليمه ، إلا من ممارسة بعض الآثار الدينية السهلة ، بترك اللباب والاهتمام بالقشور ، المتعلقة بالمندوبات والمستحبات  وبعض الاحتفالات ببعض المناسبات ، تعبيراً عن حب الرسول r مع أن حباً غايته احتفال أو صلواتٌ تفلت من الشفتين  مصحوبة بعواطف ، قلما تتحول إلى عمل كبير وجهاد خطير   في وقتٍ يُهمل منهج الله أمرٌ مرفوض ديناً ، إن لم يكن ضرباً من النفاق ، وقد يكون حبهم تمسكاً شديداً ببعض النوافل  وهروباً تاماً من بعض الفرائض ، فحب الله ورسوله يوم يكون لقباً يضفيه عليه الكسالى ، هو حب لا وزن له ، ويوم يكون قراءة لكتابه في مواكب الموت ومجالس العزاء ، فهو حبٌ لا وزن له ولا اثر .

 وإني ألمح في كل ناحية استهانة بالفرائض ، وإيثاراً للسطوح عن الأعماق ، والأشكال عن الحقائق ، فهل بهذا نعيد مجداً تهدّم ، أو نرد عدواً توغل ؟ ومن هذا حالهم ما قدّروا دين الله حق قدره ، ولا غالوا بشرف الانتساب إليه ، عندما ابتلوا بالتقصير فيه ، بل إن فيهم من يريد العيش بعيداً عن رسالته زاهداً في دعوته ، ينأى بنفسه عن ميدان الشرف والسيادة  ومقومات الحق في الدنيا والآخرة . لقد جرب المسلمون الانسلاخ عن دينهم وترك جهاده ، فماذا أصابهم بسبب ذلك   حصد خضراءهم في الأندلس ، فخلت منهم بلاد طالما ازدانت بهم وعنت لهم ، فعرب الأندلس لم يتحولوا عن داره طائعين  ولكنهم أخرجوا مطرودين ، وها هي بلاد المسلمين تتهاوى وتتساقط الواحدة تلو الأخرى ، لتضيف المزيد إلى تعداد الدول الإسلامية المغتصبة بعد الأندلس وها هو الحال يتكرر في فلسطين وأفغانستان والعراق وغيرها ، وما من ملبّ وما من مجيب! ترى هل سكرت أبصارنا؟! أم ضرب على أسماعنا  فلم تعد أنات إخواننا وصرخات أسرى المسلمين تصل إلى أذاننا؟ نرى صور الصواريخ التي تهدم وتقتل ، والجرّافات التي تقتلع الأشجار والمزروعات ، وصور من يئنون ويصرخون من قلة الموارد والزاد بسبب الحصار ، ينادون وامعتصماه ؟  

إن ما أصاب المسلمين من ذل وهوان ، وضياع للديار وتسلط الكفرة الفجار ، لم يكن إلا بسبب ترك الجهاد والقعود عن القتال ، وهذا من العذاب الذي يعد الله به تعالى تاركي الجهاد } إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {  إن الاكتفاء  بالحديث عن فلسطين وأفغانستان وغيرهما لا يكون إلا من الضعفاء والعاجزين ، ورغم أنه حديث يثير الأسى ، إلا أنه حين يصدق ، لا يزيد عن شعارات ، سرعان ما تنطفئ أمام واقعتا الأليم . ولذلك شرع الله القتال لأنه يمثل المعركة الحقيقية بين الحق والباطل ، وبين جند الله وجند الطاغوت}الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ {  وحينئذ... لن يقف أمامنا يهود أو نصارى أو ملاحدة... } وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ   { .

 

 

 

 

 

العنف وحرمة الدم

 

خلق الله الإنسان وكرمه ) ولقد كرمنا بني آدم ( وفضله على كثير ممن خلقه  )ولقد خلقنا الإنسان في أحسن  تقويم ( وجعل حفظ النفس البشرية من الضروريات الخمسة ، وقرر الإسلام لكل جارحة في جسم الإنسان دية أو قصاصا ، واعتبر الاعتداء على النفس من الكبائر فقال : ( اجتنبوا السبع الموبقات ) وقد صانها الله تعالى فقرر حرمتها وحرّم المس بها .

 

وقد أرسى النبي صلى الله عليه وسلم قواعد المجتمع المسلم ، وشدد على حرماته تشديداً عظيماً.

 

ففى الصحيحين من حديث ابن عباس وأبى بكر أن النبى صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم النحر في منى وقال: ( أتدورن أى يوم هذا ؟ ) . فرد الصحابة رضوان الله عليهم  في أدب جماعي : الله ورسوله أعلم ، قال صلى الله عليه وسلم : ( أليس يوم النحر؟ ) قالوا : بلى قال صلى الله عليه وسلم : ( أليس ذا الحجة ؟ ) قالوا : بلى فسألهم  صلى الله عليه وسلم : ( أى بلد هذا ؟ )  قالوا : الله ورسوله أعلم  فقال صلى الله عليه وسلم : ( أليس البلد الحرام ؟ ) قالوا : بلى فقال لهم  صلى الله عليه وسلم : ( إن دماءكم وأولادكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا فى شهركم هذا فى بلدكم هذا ) ثم قال صلى الله عليه وسلم : ( ألا هل بلغت  اللهم اشهد )  وأعادها مراراً بأبى هو وأمى ثم التفت إلى الصحابة وقال : ( فليبلغ الشاهد الغائب ) ثم قال : ( لا ترجعوا بعدى كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ) . إن موضوع الدماء موضوع هامٌ جدا ، لأنه يتعلق بحق الحياة ، وإن أول حق للفرد المسلم على المجتمع المسلم هو حق الحياة ، وهو أعظم حق ضمنته الشريعة الإسلامية للإنسان في الأرض ، ولا ينبغي لأحد البتة أن يسلب هذه الحياة إلا بأمر الله ، في نطاق الحدود التي شرعها، ولا يسلب الروح إلا الله وحده ، ولهذا اعتبر الإسلام سفك الدماء جريمة بشعة تأتى مباشرة بعد جريمة الشرك بالله ، ورغم هذا الإثم الكبير فقد انتشرت في مجتمعاتنا جرائم القتل إما بدافع التناحر على السلطة ، وإما بدافع السرقة ، وإما بدافع الثأر البغيض الأعمى وإما بدافع انتهاك الأعراض أو الاغتصاب ، وكأنهم لم يسمعوا كلام الله فى كتابه الكريم : ) وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ( 93 سورة النساء . وفى صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يُصِبْ دما حراما ) . وكان ابن عمر يقول : " إن من موبقات الأمور التي لا مخرج منها إن أوقع نفسه فيها- الدم الحرام بغير حله " .  وفى الحديث الصحيح الذى رواه أحمد وأبو داود والنسائي  من حديث معاوية رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا من مات مشركا أو قتل مؤمنا متعمداً ) . وفى الحديث الصحيح الذي رواه النسائي من حديث بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( قتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا ) .   بل من أعجب الأحاديث الصحيحة التي قرأتها في هذا الباب ما رواه النسائي والبخاري في التاريخ الكبير وصحح الحديث الألباني في صحيح الجامع من حديث عمرو بن الحمق الخزاعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من أمن رجلا على دمه فقتله فأنا برئ من القاتل وإن كان المقتول كافرا ) . هذه الأحاديث تدل على أن حرمة الدماء عظيمة عند رب الأرض والسماء فمن أجل ذلك جعل الدماء هي أول شئ يقضى فيها بين العباد يوم القيامة كما في الصحيحين عن أبى هريرة أن النبي صلى الله علـيه وسلـم قـال   : ( أول ما يقضى فيه بين الناس يوم القيامة في الدماء ) . فإذا ما وزنت الموازين وتطايرت الصحف وغرق الناس في عرقهم على قدر أعمالهم ، وأتى بجهنم لها سبعون ألف زمام ، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها ، ينادى على القاتل المجرم الذي سفح الدماء بغير حل ، ليقف بين يدي الملك الحق   وينادى على كل قتيل قتله فيتعلق كل قتيل بالقاتل وأعناقهم تسيل دما ، ويتعلقون به وهو يصرخ ويستغيث بين يدي الملك الحق ويقول: يا رب سل هذا فيم قتلنا ؟ فماذا سيكون جواب القاتل ؟  إن ظاهرة العنف بكل أشكالها ، كالعنف الجسدي والاجتماعي، والكلامي  والسياسي ، نجد العنف في الشارع وفي البيوت وقد يكون داخل العائلة الواحدة شجارات عائلية ، أو بسبب خلاف بين أطفال الجيران ، وغير ذلك من الخلافات التي تستعمل فيها السكاكين والمسدسات ، والبنادق والمدافع الرشاشة   كل ذلك لانتهاك حرمة دم الإنسان المسلم ، وقد بدت هذه السلوكيات وكأنها نمط من أنماط حياتنا ، وأصابتنا حالة من الاسترضاء والاستمراء لأشكال الظاهرة وكأننا ماتت فينا النخوة والغيرة وفقد من حياتنا قيمة الإنسان والمفاهيم الإنسانية ،  ولتنبيه الغافلين وإرشاد الغيورين، وتذكير المسؤولين من أفراد ووجهاء وشخصيات وآباء وأمهات حول هذه الظاهرة في مجتمعنا  بكل أشكالها وأنواعها ، نقول لهم بأن أذية الناس بغير حق من اشد الظلم ، وأعظم المآثم التي توعد الله أهلها بالوعيد الأكيد   وتهددهم بالعذاب الشديد ، الذي ذُكر في الأحاديث  فالذي يؤذي الناس بغير حق على خطر من غضب الله ، وعلى خطر من نقمة الله وعلى خطر من سخط الله  والعاقل فينا من رد السيئة بالحسنة ، ودفع العدوان بالإحسان وأزال الأذى بالإصلاح لقوله صلى الله عليه وسلم  : (اتق الله حيثما كنت واتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن ) . ما أحوجنا إلى نبذ الكلمات السيئة من ألسنتنا وحذف العبارات الاستفزازية من قاموس حياتنا ، حتى يعم الأمن بدل الفوضى والحب بدل الكراهية ، والرحمة بدل القسوة  والتلاحم والتكاتف بدل الهجران والقتل والعنف . وعلينا أن نعلم أنه يحرم على المسلم سفك دم أخيه المسلم مهما كانت الأسباب والدوافع لارتكاب الجريمة . والحري بالمسلم أن يعلم قيمة أخيه المسلم  عند الله تعالى ، فلا يدع للغضب بابا مفتوحاً ، ولا للشيطان مدخلا ولا للهوى منفذا ولا للدنيا طريقا توصله إلى كبيرة القتل وكبيرة العنف ، فيلقى الله وقد خسر الدنيا والآخرة . فالويل ثم الويل لمن حمل خاطرا أو نوى نية ، أو قال قولا ، أو عمل عملا استهدف به إيذاء أخيه المؤمن ، لذا على المسلم أن يتقي الله في حرمة أخيه المسلم وان يعتبر المساس به جريمة . لأن دم المسلم عند الله أغلى من الكعبة المشرفة ، فكما أننا نشد الرحال إلى المسجد الحرام والكعبة المشرفة لقصد الزيارة والتشريف والتعظيم  فمن باب أولى أن يشد المسلم رحاله لزيارة أخيه المسلم  ويقطع دابر الهجران والتشاحن ، حقنا للدماء قـال صلى الله عليه وسلم : ( اعف عمن ظلمك وأعط من حرمك ، وصل من قطعك ) . وعلى المسلم أن يتقن هذا الدور الاجتماعي الأخلاقي ليضع حدا لتفاقم ظاهرة العنف ومضاعفة إشكالها وآثارها بين المسلمين .

 

 وقد جاءت التوجيهات النبوية لأخذ الاحتياط والحذر في حمل السلاح ، أو أي حديدة كانت سكيناً أو جنـزيراً أو بلطة في وجه المسلم ، لان التفريط في مثل هذا يؤدي إلى كثير من المشاكل ، وإن الملائكة تلعن من يشير بحديدة في وجه أخيه المسلم ولو كان مازحا ، فكيف بمن كان جادا وقاصدا !!. ورد في الحديث الصحيح الذي رواه النسائي عن ابي بكرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا أشار الرجل على أخيه بالسلاح فهما على جرف جهنم ، فإذا قتله وضعا فيها جميعا ) . وقوله : ( إن الملائكة تلعن أحدكم إذا أشار بحديدة وان كان أخاه لأبيه وأمه ) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه : قال : قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم : ( من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة ، لقي الله عز وجل مكتوب بين عينيه : آيس من رحمة الله )  رواه الإمام احمد وزاد ( قال سفيان بن عيينة : هو إن يقول أقـ ، يعني : لا يتم كلمة اقتل، فكيف بمن قتل ) .

 

 من أعان على قتل مسلم بغير حق  ، فإنه محروم من رحمة الله ، ومستحقٌ لعذابه عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قتل بالمدينة قتيل على عهد رسول الله لم يعلم من قتله ، فصعد النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( يا أيها الناس يقتل قتيل وانأ فيكم ولا يعلم من قتله : لو أجتمع أهل السماء والأرض على قتل مؤمن لعذبهم الله  ) . وروى البيهقي والاصبهاني: ( ولو إن أهل سماواته وأهل أرضه اشتركوا في دم مؤمن لأدخلهم الله النار ) . هذا الوعيد الرباني الذي لن يجد له القاتل تبديلا ولا تحويلا  لان حكم الله تعالى لا يقبل المجاملة ولا المداهنة ، لا يقبل الأماني ولا التمييز ، هذه الغيرة الربانية لعبده المؤمن الذي سُلبت حياته بالقتل فكان التهديد والوعيد على قدر ومكانة العبد المؤمن عند الله تعالى . ألا فليفقهوا الذين يعيثون في الأرض فسادا وخرابا  قتلا وإجراما ، بأن الله قادر عليهم وان الله ينتقم لأوليائه ولعباده . وهل يليق بأبناء المسلمين في بيت المقدس وأكنافه أن يكونوا عوناً لتفشي ظاهرة العنف ، ونحن نشاهد كل يوم أحوال الأمة الإسلامية وما فيها من ويلات ونكبات ، ومذابح ومجازر  وأهل الباطل يصولون ويجولون ، إن الأولى بأطراف النـزاع أي نزاع أن يراجعوا أنفسهم ، وأن يتداركوا موقفهم ، وأن لا يحبطوا جهادهم وسابقتهم ، فإن منهم من له بلاء حسن في نصرة الإسلام ، وإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل ، وإن الحق قديم لا يغيره شيء ، والله نسأل أن يردنا وإياهم إليه ردا جميلا ، وأن يرينا الحق حقا وأن يرزقنا إتباعه ، والباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه ، إنه ولي ذلك والقادر عليه . اللهم آمين ، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين . 

 

 

 

 

 

  

 

 

 

فإذ 

عاقبة ظلم الدول

قال تعالى } وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا { الكهف.  

إن الأمم والدول لا يدوم لها سلطانها وملكها مع الظلم والطغيان ؛ لأن من أعظم أسباب زوال الدول وسلطانها وملكها ، الظلم وغياب العدل ، والدول القوية في هذا الزمان  لم تنظر كيف كان عقاب الذين من قبلهم ، وبهذا تكون عدوة نفسها وليس هناك أجهل من دولة يضل سعيها في الحياة وتدمر نفسها ، وهي تحسب أنها تحسن صنعا , فقد حرم الله الظلم والدولة التي تظلم نفسها وتبيح سياسة الظلم هي من حيث لا تشعر تدمر نفسها ، وقد اختارت أمريكا أن تكون على خطى الدول التي أهلكها الله  ، وأزالها من الوجود ، عقوبة لها على محاربتها للإسلام وأهله ، وهاهي إلى جانـب جشعها الربوي العالمي الذي وعد الله تعالى بمحقه ، نرى طغيانها العظيم   والذي بلغ بها أن تسلَّطت على لقيمات المحاصرين وجرَّدتهم من كلِّ صدقة تأتيهم من الدول الإسلامية ، فعملت على تجميد أرصدة الدعم الخاصة بهم ، فجمَّد الله تعالى أموالها ، ودأبت على إغلاق الجمعيات الخيرية الإسلامية ، وملاحقة المتصدِّقين  وتجاهلت العالم وشنت حربها على بلاد المسلمين لنهب ثرواتهم بغياً وظلماً بغير وجه حق ، لذا فالمتوقع بحسب سنة الله في الدول التي خلت من قبلها ، أن يكون هذا بداية الهلاك وبداية النهاية لها .

قال أحد الكتاب الأمريكيين الناصحين في رسالة إلى الرئيس الأمريكي " وعلى الرغم من أننا دوما نصنف المجتمعات الأخرى ، ونصفها بأنها تمثل دول الشر فإننا نحن أنفسنا أصبحنا أكبر دولة للشر , أصبحنا لا نحترم المعاهدات الدولية , ونطأ بأقدامنا المحاكم الدولية , ونوجه ضربات أحادية الجانب لأي جهة نختارها , ونعطي أوامر للأمم المتحدة ولا نقوم بواجباتنا تجاهها , نشتكي من الإرهاب وإمبراطوريتنا هي أعظم دولة إرهابية وجه الأرض " وهذا في تقديري يؤذن بزوال ملكها وسيطرتها قال تعالى : ) قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنـزع الملك ممن تشاء ( آل عمران  .

إن الله مالك الملك بلا شريك وهو يُمَلِّك من يشاء ما يشاء من ملكه ، يُمَلِّكُه إياه تمليك عارية ، يستردها ممن يشاء عندما يشاء وليس لأحد ملكية أصيلة يتصرف فيها على هواه ، إنما هي ملكية معارة له ، خاضعة لشروط المملك الأصلي وتعليماته  فإذا تصرَّف المستعير فيها تصرفاً مخالفاً لشرط المالك ، وقع هذا التصرف باطلا ، وتحتم على المؤمنين رده في الدنيا ، أما في الآخرة فهو محاسب على باطله ومخالفته لشرط المملِّك صاحب الملك الأصيل .

إن الله يؤتي الملك من يقوم به ، ولا ينـزعه إلا ممن فسق عن أمر ربه يقول تعالى : ) لا ينال عهدي الظالمين ( البقرة 124 . فالملك لله سبحانه وتعالى ، ولا يظن إنسان انه ملك شيئاً أو جاهاً في هذه الدنيا بغير مراد الله ، فإذا انحرف العباد فلا بد أن يولى الله عليهم ملكاً ظالماً . لماذا ؟ لأن الأخيار قد لا يحسنون تربية الناس قـال تعالى : ) وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون ( الأنعام 126 . وكأن الله يقول سوف أضع ولاية ظالم أكبر ، على هذا الظالم الصغير لينتقم منه ، فالله هو المتصرف في ملكه ، وحين يخرج الناس عن طاعة الله ، فإن الله يسلط عليهم الحاكم الظالم   ولا يظن ظانٌ أن أحداً قد أخذ الملك غصباً من الله ، إنما الملك يريده الله لمن يؤدب به العباد   وإن ظلم المَلِكُ في التأديب ، فإن الله يبعث له من يظلمه ، ومن رأى ظلم هذا المَلِك أو ذاك الحاكم ، فمن الجائز أن يريه الله هذا أو ذاك مظلوما قال تعالى : ) وتنـزع الملك ممن تشاء (   ينبهنا الله إلى أن هؤلاء المتشبثين بكراسي الحكم ، نسو أن الله قادر على أن ينـزع ملكهم متى شاء . وقف أبو عبد الله آخر ملوك غرناطة بعد انكساره أمام جيوش فرديناند وإيزابيلا على شاطئ الخليج الرومي ، وهي تحت ذيل جبل طارق قبل نزوله إلى السفينة المعدة لحملة إلى إفريقيا ، وقد وقف حوله نساؤه وأولاده وعظماء قومه من بني الأحمر ، فألقى على ملكه الذاهب نظرةً طويلة ، وأنشأ يبكي بكاءً مرّاً ، حتى بكى كلُّ من حوله لبكائه ، وقد أحس هاتفاً يهتف باسمه ، فرفع رأسه فإذا شيخ ناسك متكئ على عصاه ، واقف على باب مغارة من مغارات الجبل المشرف عليه ، ينظر إليه ويقول : نعم لك أن تبكي أيها الملك الساقط على ملكك بكاء النساء ، فإنك لم تحتفظ به احتفاظ الرجال ، لقد ضحكت بالأمس كثير ، فابك اليوم بمقدار ما ضحكت بالأمس ، فالسرور نهار الحياة  والحزن ليلها ، ولا يلبث النهار الساطع أن يعقبه الليل القاتم ، لو أن ما ذهب من يدك من ملك ، ذهب بصدمة من صدمات القدر  ونازلةٍ من نوازل القضاء ، من حيث لا حول لك في ذلك ولا حيلة ، لهان أمره عليك ، أما وقد أضعته بيدك فابك عليه بكاء النادم المتفجِّع ، الذي لا يجد له من مصابه عزاء ولا سلوى ، لي سبعة أعوام انتظر فيها هذا المصير ، الذي صرتم إليه ، وأترقب الساعة التي أرى فيها آخر ملك من ملوك بني الأحمر ، يرحل عن هذه الديار رحلة لا رجعه بعدها ، لأن المُلْك الذي يتولى أمره الجاهلون الظالمون لا دوام له ولا بقاء . وكان مما قاله ... ستقفون غداً بين يدي الله يا ملوك الإسلام ، وسيسألكم عن الإسلام الذي أضعتموه ، وهبطتم به من علياء مجده ، حتى ألصقتم أنفه بالرغام ، وسيسألكم عن المسلمين الذين أسلمتموهم بأيديكم إلى أعدائكم ، ليعيشوا بينهم عيش البائسين المستضعفين ، وسيسألكم الله عن الأولاد الذين سقتموهم إلى ميادين القتال ليقاتلوا إخوانهم المسلمين قتالاً لا شرف فيه ولا فخار "  

وها نحن نرى الأعداء بقوتهم وغطرستهم وباطلهم الذي صنعوه  يحاكمون ويحكمون ويتوعدون رجالاتنا بلا خوف ولا وجل  فلهم الحق أن يفعلوا ما يشاءون ، فقد خلا لهم وجهُ البلاد  وأصبحوا أصحاب القوة والسلطان فيها ، وللسلطان عزٌّ لا يبالي بعهد ولا وفاء ، إنهم يتعاملون مع شعوبنا تعامل الأقوياء مع الضعفاء ، إنه سيف قاطع ، وغلٌّ ملتف على الأعناق  لأنهم الأقوياء ونحن الضعفاء ، فليصنعوا ما يشاءوا ، لأنه الحق الذي خولته لهم قوتهم ، فملكوا علينا مشاعرنا وعقولنا ، حتى لا ندين إلا بما يدينون ، لأنا عجزنا عن أن نكون أقوياء ، فنالنا ما ينال الضعفاء ، ظلمنا أنفسنا وقد تعهد الله أن ييُسَّر الله للظالم من يؤدبه ، قال تعالى : ) وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون( الأنعام 129 .  فإذا أراد الله أن يؤدب ظالماً لا يأتي له بواحدٍ من أهل الخير ليؤدبه ، فالله سبحانه بتكريمه لأهل الخير ، لم يجعل منهم من يكون في مقام من يؤدب الظالم ، إنها إرادة الله أن يجعل أهل الخير في موقف المتفرج ، على تأديب الظالمين بعضهم ببعض ، وعلى مدار التاريخ فقد صنع الظالمون بعضهم في بعض الكثير ، بينما لو تمكن منهم أعداهم الحقيقيون   لرحموهم لأن قلوبهم مملوءة بالرحمة , فكان على الطاغية أو الحاكم المستبد أن لا يظن أنه أخذ الحكم بذكائه أو بقوته ، بل إن الله جاء به ليؤدب الظلمة ، بدليل أنه ساعة يريد الله أن تنتهي هذه المسألة ، فالله بجلاله ينـزع المهابة من قلوب حرّاسه   وبدلا من أن يدافعوا عنه بالبندقية يصوبها عليه ، فلا يظن ظان أن مَلِكا يأخذ الُمْلك قهراً عن الله ، والعباد إذا ظلموا وطغوا  يسلط الله عليهم من يظلمهم وقد قيل   "الظالم سيف الله في الأرض ينتقم به وينتقم منه "   فكأن ما سلَّطه الله على الناس من شر إنما هو نتيجة لأعمالهم ، وقديماً قيل : " وما من ظالمٍ إلا سيبلى باظلم " .   

السماحة في الإسلام

 السماحة هي طيب في النفس ، وانشراح في الصدر ولين في الجانب ، وذلة على المؤمنين دون ضعف ومهانة  وصدق في التعامل دون غبن وخيانة، وتيسير في الدعوة إلى الله دون مجاملة ومداهنة، وانقياد لدين الله دون تشدد بها تصفو القلوب قال صلى الله عليه وسلم : ( خير الناس ذو القلب المحموم واللسان الصادق، قيل : ما القلب المحموم؟ قال : هو التقي النقي الذي لا إثم ولا بغي ولا حسد قيل : فمن على أثره؟ قال : الذي يشنأ الدنيا ويحب الآخرة  قيل : فمن على أثره قال : المؤمن في خلق حسن) صحيح الجامع  

إن الغـلـظـة التي نراها في التعامـل بيننا ، ليست من ديننا في شيء ، وإن الجفاء الذي نجده ، يتنافى مع سماحة الإسلام ، لأن المؤمن الحقيقي ،سمح مألوف قال صلى الله عليه وسلم : ( المؤمن يألف ويُؤلف، ولا خير فيمن لا يَألف ولا يؤلف ، وخير الناس أنفعهم للناس) صحيح الجامع . بل إن السماحة هي من أفضل الإيمان قال صلى الله عليه وسلم : ( أفضل الإيمان الصبر والسماحة) صحيح الجامع. وقد امتدحت الأحاديث النبوية السماحة في البيع والشراء والقضاء قال صلى الله عليه وسلم : (إن الله تعالى يحب سمح البيع، سمح الشراء سمح القضاء) رواه الترمذي وهو في صحيح الجامع. وامتدحت السماحة في الدَّيْنِ والاقتضاء قال صلى الله عليه وسلم :( رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى) رواه البخاري . وفي هذا يعلق ابن حجر بقوله : " السهولة والسماحة متقاربان في المعنى ، والمراد بالسماحة ترك المضجرة ونحوها ، وإذا اقتضى أي طلب قضاء حقه بسهولة وعدم إلحاف ، وإذا قضى : أي أعطى الذي عليه بسهولة بغير مطل ، وفيه الحض على السماحة في المعاملة ، واستعمال معالي الأخلاق ، وترك المشاحنة   والحض على ترك التضييق على الناس في المطالبة ، وأخذ العفو منهم " ، وأكثر ما تكون الخصومات في المعاملات المالية ، والمناظرات الخلافية  والملاسنات الكلامية ، وقلّ أن يسلم فيها من لم يتحلّ بكرم الخلق ، وجود النفس  وسماحة الطبع .

وكم نحن بحاجة إلى السماحة في طلب الدَّيْنِ وإنظار المعسرين، والتجاوز عن المعوزين وقضاء حوائج الناس في تواضع وسماحة ، حتى تدركنا رحمةُ الله برحمة خلقه  فإنظار المعسر ، أو التجاوز عن القرض أو عن جزء منه   صورة عظمية من صور الكرم ، وسماحة النفس ، قال   صلى الله عليه وسلم : (كان تاجر يداين الناس ، فإذا رأى معسرًا قال لفتيانه : تجاوزوا عنه ؛ لعل الله أن يتجاوز عنا   فتجاوز الله عنه) رواه البخاري . بل إن توفيق الدنيا والآخرة مرهون بتيسيرك على أخيك المعسر قال صلى الله عليه وسلم : (من يسر على معسرٍ يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة) رواه مسلم .

وصاحب السماحة لا يحرص على إيقاع الناس في الحرج   ولا يشغله التفكير بما له ، عن التفكير بما عليه من سماحة مع إخوانه وتقديره لظروفهم ، جاء في الحديث الصحيح : ( أن الصحابي أبا اليسر كان له على رجل قرض ، فلما ذهب لاستيفاء حقه ، اختبأ الغريم في داره ، لئلا يلقى أبا اليسر ، وهو لا يملك السداد ، فلما علم أبو اليسر أن صاحبه يتخفى منه حياء لعدم تمكنه من أداء ما عليه ، أتى بصحيفة القرض فمحاها وقال: إن وجدت قضاء فاقض، وإلا فأنت في حلّ ) رواه مسلم . وبسماحته تلك أخرج أخاه من الحرج الشديد .

ومن السماحة أن نتحمل جهل الجاهل، وفورة الغاضب  لأن الفظاظة ليست من ديننا قال تعالى : ] ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك [ فما أحوجنا إلى هذا الخلق ، في زمن بلغ فيه البغض غايته، ورفع فيه الحسد رايته ، ما أحوجنا إلى السهولة واليسر، والسماحة والتجاوز ، حتى نعيش في هذه الدنيا بهناء، ونكون يوم القيامة سعداء قال صلى الله عليه وسلم : ( من كان سهلاً ليناً هيناً حرمه الله على النار) صحيح الجامع .

والسماحة لها أثر عظيم تنشأ به محبة القلوب ، ومودة النفوس ، وعندما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أحب الدين قال : (الحنيفية السمحة) . إننا بحاجة إلى هذه السماحة بين الأهل والأحباب ، وبين المختلفين من الناس، وبين الأزواج والزوجات، وبين الأبناء والآباء والأمهات    فهي عظيمة في أجرها وثوابها  وفي أثرها ونفعها، دلت عليها المواقف النبوية كما في قصة الشاب الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الزنا ، فنهره الصحابة فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (مه مه ادن مني) فدنا منه الشاب، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : أترضاه لأمك، قال: لا فداءك أبي وأمي يا رسول الله  قال: والناس لا يرضونه لأمهاتهم ثم قال: لأختك  ثم قال: لابنتك ثم قال: لخالتك ثم وضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على صدره ودعا له فقال: اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه وحصن فرجه)  فكان من أثر ذلك أن قال هذا الغلام كما في رواية أخرى : (ما صار شيء أبغض إلى نفسي من الزنا) رواه   أحمد من رواية أبي أمامة . وتتجلى هذه السماحة النبوية عندما سمع النبي صلى الله عليه وسلم في الطواف أعرابيا يقول: يا كريم ، فقال النبي خلفه: يا كريم فمضى الإعرابي إلى جهة الميزاب وقال: يا كريم فقال النبي خلفه : يا كريم فالتفت الإعرابي إلى النبي   وقال : يا صبيح الوجه, يا رشيق القد أتهزأ بي لكوني أعرابيا؟‎ والله لولا صباحة وجهك ، ورشاقة قدك   لشكوتك إلى حبيبي محمد صلى الله عليه وسلم  فتبسم النبي وقال: أما تعرف نبيك يا أخا العرب ؟ قال الأعرابي : لا ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : فما إيمانك به؟ قال : اّمنت بنبوته ولم أره وصدقت برسالته ولم ألقه ، قال النبي : يا أعرابي , اعلم أني نبيك في الدنيا وشفيعك في الآخرة ، فأقبل الأعرابي يقبل يد النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي : مه يا أخا العرب
لا تفعل بي كما تفعل الأعاجم بملوكها, فإن الله سبحانه  
بعثني  ، لا متكبراً ولا متجبراً, بل بعثني بالحق بشيراً   ونذيراً فهبط جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم  وقال له: يا محمد !  السلام يقرئك السلام ، ويخصك بالتحية والإكرام  ويقول لك : قل للإعرابي لا يغرَّنَه حلمنا ولا كرمنا,فغداً نحاسبه على القليل والكثير ، والفتيل والقطمير  فقال الأعرابي: أو يحاسبني ربي يا رسول الله؟ قال : نعم يحاسبك إن شاء ، فقال الأعرابي: وعزته وجلاله, إن حاسبني لأحاسبنه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : وعلى ماذا تحاسب ربك يا أخا العرب ؟ قال الأعرابي : إن حاسبني ربي على ذنبي حاسبته على مغفرته ، وإن حاسبني ، على معصيتي حاسبته على عفوه ، وإن حاسبني على بخلي حاسبته على كرمه ، فبكى النبي صلى الله عليه وسلم  حتى إبتلت لحيته ، فهبط جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم وقال : يا محمد ! السلام يقرئك السلام  ويقول لك : يا محمد ! قلل من بكائك فقد ألهيت حملة العرش عن تسبيحهم ، وقل لأخيك الأعرابي لا يحاسبنا ولا نحاسبه ، فإنه رفيقك في الجنة " .

قد يوسوس الشيطان للمسلم : إنك لو تسامحت وصفك الناس بالعجز ، وظنوا فيك الضعف ، ولأَنَ تُؤْثِرَ أن يقال فيك ما يقال خير لك من الوقوع في الفجور ، بحيث يخشى الناس شرّك ، وقد ورد في الحديث : (يأتي عليكم زمان يُخيَّر فيه الرجل بين العجز والفجور ، فمن أدرك ذلك الزمان فليختر العجز على الفجور) رواه أحمد .

ومما يتنافى مع السماحة الانزلاق إلى الخصومة قال صلى الله عليه وسلم : (أبغض الرجال إلى الله الألدُّ الخَصِم) رواه البخاري . قال ابن حجر في الفتح : " الألدّ : الكذاب  وكأنه أراد أن من يكثر المخاصمة ، يقع في الكذب كثيرًا ، وحين يفتقد المرء السماحة ، تجده ينحدر في أخلاقه ، إلى أن ينجرف إلى التصايح والجدل لأمر يعلم بطلانه قال صلى الله عليه وسلم : ( ومن خاصم في باطل - وهو يعلمه - لم يزل في سخط الله حتى ينـزع عنه ) رواه أبي داود .  

إن خلق السماحة يقتضي من صاحبه المبادرة إلى التنازل  عند الوقوع في أي موقف جدلي ، وقد حُرمت الأمة العلم بميقات ليلة القدر ، وما فيها من الخير الكبير؛ بسبب انعدام روح السماحة بين رجلين من الأمة كما اخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم  (خرجت لأخبركم بليلة القدر  فتلاحى فلان وفلان فرُفعت) رواه البخاري . وكم تُحرم الأمة من البركات والنعم والنصر ، حين تدب الخصومات ، بل إن الصفة الأساسية من أخلاقيات المنافق أنه إذا خاصم فجر كما جاء في حديث البخاري .

 وإن مما يتنافى مع روح السماحة أن يقع الإخوة في جدالات لأمور سياسية ، أو قضايا فكرية ، أو توقعات غيبية ، ثم تجدهم ينفضّون متباغضين بسبب ذلك قال صلى الله عليه وسلم : (ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أُوتوا الجدل) رواه ابن ماجه . ولحث المسلمين على السماحة والتنازل عند الاختلاف ، وعدم الوقوع في مغبة الجدل ، تعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيت في الجنة لمن تنازل : ( أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقـًا) رواه أبي داود . ومن نتائج انعدام روح السماحة أن تتبارى الأمة بألسنتها   فتنقلب إلى أمة كلام ، بدل أن تكون أمة عمل ، وتضيع الأوقات في الشد والجذب والأخذ والرد ، وكل يناصر رأيه ، وكان مما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمته (منعـًا وهات) ، ومما كره لهم : ( قيل وقال ، وكثرة السؤال  وإضاعة المال) رواه البخاري .

 

 

 

    المجاهدون والابتلاء

قد أمر الله سبحانه عباده المؤمنين أن يعدوا للكفار ما استطاعوا من القوة، وأن يأخذوا حذرهم كما في قوله عز وجل: ] وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ [ الأنفال 60 وقوله سبحانه : ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فانفروا [ النساء 17 وقوله تعالى : ] يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ [  الأنفال 65 . وذلك يدل على وجوب العناية بالأسباب والحذر من مكائد الأعداء، ويدخل في ذلك جميع أنواع الإعداد المتعلقة بالأسلحة والأبدان، كما يدخل في ذلك إعداد جميع الوسائل المعنوية والحسية، وتدريب المجاهدين وتوجيههم إلى كل ما يعينهم على جهاد عدوهم  وقد أطلق الأمر بالإعداد، وأخذ الحذر، ولم يذكر نوعا دون نوع ولا حالا دون حال وما ذلك إلا لأن الأوقات تختلف والأسلحة تتنوع ، والعدو يقل ويكثر ويضعف ويقوى والجهاد قد يكون ابتداء ، وقد يكون دفاعا فلهذه الأمور وغيرها أطلق الله سبحانه الأمر بالإعداد ، وأخذ الحذر ليجتهد قادة المسلمين في إعداد ما يستطيعون من القوة لقتال أعدائهم ، دون النظر إلى ما يصيب المجاهدين ، فما يصيبهم إنما هو ابتلاء ، وقد اقتضت حكمة الله عز وجل أن يبتلى عباده المؤمنين ويمحصهم ويمحق الكافرين ويهلكهم ] وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [ . وما يمر بالعبد المؤمن من مصائب ، إنما هي من الابتلاءات التي يريد الله من ورائها أمراً يجهله كثير من الناس الذين لا يتدبرون ما وراءها من رفع للدرجات، وتكفير للسيئات، وعز في الدنيا ورفعة في الآخرة ، بحيث لو اعتمد الإنسان على علمه وعمله ما استطاع الوصول إليها ، عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لا يزال البلاء بالمؤمن أو المؤمنة في جسده وفي ماله وفي ولده حتى يلقى الله وما عليه من خطيئة) رواه أحمد ، وما يصيب المجاهدين إنما هو من الابتلاء الذي يرفع الله به درجتهم ويعلي به ذكرهم ، فالمجاهدين في فلسطين وغيرها من بلاد المسلمين ، وهم يواجهون ، أقوى قوة في العالم  يعلمون أن طريقهم شائك ، وما ينتظرهم يحتاج إلى الصبر والرضى "إذ ليس في التكليف أصعب من الصبر على القضاء ولا فيه أفضل من الرضى به".

وهم يعلمون أن أمامهم قتل أو أسر أو كسر أو بتر، أما النصر فهو من الله يؤتيه متى شاء ولمن يشاء، ] إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [ .

عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما من غازية أو سرية تغزو فتغْنم وتسلم إلا كانوا قد تعجلوا ثلثي أجورهم، وما من غازية أو سرية تُخفق وتصاب إلا تم أجورهم)  مسلم .

 والقتل أو الأسر من لوازم الجهاد في سبيل الله تعالى، ولا يعني هذا بحال من الأحوال خللاً في نهج الجهاد أو صدق المجاهدين  فما من عبد ادعى الإيمان إلا وأخذ نصيبه من الابتلاء على قدر إيمانه وصدقه مع ربه ] أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [ .

فإصابة بعض المسلمين بالأذى كالأسر أو الضرب يجب أن لا يصيب الآخرين بالضعف والجبن والقعود ،  فهذه هي ضريبة العز والمجد والنصر والتمكين ، والأمة التي تريد الرفعة والمنعة والظهور لا بد لها من تقديم التضحيات الجسام والبطولات العظام ، ومن يريد إعلاء "لاإله إلا الله" لابد له من اقتحام الصعاب وأنشدوا :

ومـا نيل المطـالب بالتمني   ولكن تؤخذ الدنيا غلابا

وما استعصى على قومٍ منالٌ    إذا الإقدام كان لهم ركابا

والقتل والأذى لا يعني نهاية المطاف ، ولا يعني نهاية الجهاد والمقاومة ، فالجهاد ماض إلى يوم القيامة ، والقافلة تسير وما يصيب المجاهدين ، يقوي من عزيمتهم ويشد من أزرهم متسلين بقوله تعالى: ] وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [ وقد أسر وأوذي وقتل في سبيل الله تعالى من هم خير منا حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما أوذي أحد ما أوذيت في الله) رواه أبو نعيم في الحلية وحسنه الألباني . 

والتاريخ الإسلامي مليئٌ بالشواهد والأحداث التي تثبت لنا أن الأمة ما نالت مكانتها الأولى في العالم قروناً طويلة إلا بما قدّمه أبناؤها من تضحيات في سبيل الله ، كما أن التاريخ وشواهده تثبت أيضاً أن الأمة ما وصلت إلى وصلت إليه من الضعف والهزيمة إلا عندما تخاذل أبناؤها بأنفسهم وأموالهم عن نصرة دينهم وعقيدتهم وإخوانهم .

ليس المطلوب أن تقتصر المواقف على الشجب والاحتجاج والبكاء ، فهذه أمور اختصت بها النساء دون الرجال .

كُتبَ القتلُ والقتالُ علينا   وعلى المحصناتِ جَرُّ الذيولِ

بل المطلوب العمل على المساعدة بكافة الطرق والوسائل التي يمكن أن تساعدهم في محنتهم مستجيبين بذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( وما من امرئ ينصر مسلماً في موضع ينتقص فيه من عرضه وتنتهك فيه حرمته إلا نصره الله في موضع يحب فيه نصرته)  أبو داود وقد ورد الحض على الجهاد  في سبيل الله واستنقاذ المستضعفين من الرجال والنساء والولدان في قوله تعالى : ] وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا [ .

إن الفضائيات تنقل لنا مشاهد مثيرة لحمية المسلم، وكرامة المؤمن ولعاطفة الرحمة الإنسانية ، كما نسمع في الأخبار عمن يعانون المحنة في عقيدتهم ، والفتنة في دينهم ، والمحنة في العقيدة أشد من المحنة في المال والأرض والعرض ، لأنها محنة في أخص خصائص الوجود الإنساني ، الذي تتبعه كرامة النفس والعرض وحق المال والأرض .

إن طريق الجهاد محفوف بالمخاطر والابتلاءات ، وقد جرى ذلك على النبي  صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، كما جرى على التابعين من بعدهم وجرى على جيوش المسلمين الفاتحين وقادتهم الميامين فما فتّ ذلك من عضدهم ، وما برر لهم القعود والخنوع والانكسار ، بل لقد دفعهم وقوى عزيمتهم وشد من أزرهم  فهزموا بإذن الله عدوهم ونصروا دينهم  .

وإن المجاهدين في أرض الرباط يفتحون صفحة الجهاد التي طويت في كتاب زماننا هذا ، وينفضون غبار الذل والصغار ويكتبون من جديد على صفحات غدنا المشرق وأسطر عزنا المنشود ، اللهم خذ من دمائنا حتى ترضى .

إن الأمم الحية بإيمانها هي وحدها التي تلجئها المحنة إلى ربها روتنقطع عند الشدة إليه سبحانه ، وكلما اشتدت الأمور ازدادت إيماناً بوعد ربها ونصره ، وصبراً على بلائه وسعياً في جهاد أعدائه .  

إن قضية الصبر والجهاد وحمل الرسالة هي من أكثر التكاليف والابتلاءات والوسائل قدرة على اختبار صدق الإنسان وإخلاصه لله سبحانه، وذلك لما تحتاجه هذه المهمة الصعبة من صبر وثبات وتضحية بالمال والنفس والأهل والراحة ، واستعداد لتحمل التشريد والقتل والتعذيب والأذى والحرب النفسية والدعائية ، والقرآن يصور بعض ذلك في نصوصه ، ويتحدث عن الصبر والجهاد والابتلاء، فيقول سبحانه وتعالى :  ] لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور [ .

 اللهم انصر الأمة وارفع الغمة وحكم شرعك في الأرض  وليكن لسان الحال :

سأثأر لكن لرب وديـن     وأمضى إلى سنتي في يقين

فإما إلى النصر فوق الأنام    وإما إلى الله في الخالـدين

 

 

 

 

 

 

النهي عن اليأس والإحباط

إني لأعجب أن يصيب الإحباط أمةً القرآن كتابها  وحديث رسول الله  صلى الله عليه وسلم سنتها ، ورجال تاريخها ليس لهم مثيل في تاريخ الأمم الأخرى ، رجال لهم الأثر البالغ  على فكر قادة العالم عامة ، وقادة اليهود خاصة  وهذا ما دفع نائب الليكود داني نافيه ، في مقابلة له في الإذاعة الناطقة بلسان المستوطنين اليهود أن يتساءل : لماذا يدعو خطباء المساجد في طول الوطن العربي وعرضه ربهم ، أن يبعث لهم قائداً على غرار صلاح الدين لطرد اليهود  والقضاء على الحركة الصهيونية ، بنفس الطريقة التي تم بها القضاء على الصليبين في الماضي ، وطالب المستشرق اليهودي يهشموع أحد حكومات إسرائيل ، أن تتوجه إلى العالم وعلى الأخص أمريكا للضغط على الدول العربية ، لتنقية مناهجها التعليمية ، وبيئتها الثقافية من كل صلة بصلاح الدين وما يمثله ، وأضاف قائلاً : إن على إسرائيل أن تطالب العرب باستبدال أسماء الشوارع التي أطلق عليها اسم صلاح الدين بأسماء أخرى ، وكذلك أسماء الميادين والمؤسسات ، ووصف إصرار العرب على التمسك بتراث صلاح الدين ، بأنه إصرار على ثقافة العنف ، وكان الجنرال شلوموا باوم يوصف بأنه أسطورة الجيش الإسرائيلي   وكان بن غوريون يعتبره مفخرة الدولة اليهودية ، وكتب عنه شارون بأنه آلة حرب متحركة ، تتجسد في جسمٍ بشري ، وبالرغم من انه خدم 35 عاماً في الجيش ، إلا أنه رفض بإصرار الحصول على إجازة ولو ليوم واحد ، شارك في أكثر من ألف عملية عسكرية ، معظمها خلف مواقع القوات العربية  اشتهر بالقسوة الشديدة في تعامله مع العرب الذين وقعوا في أسره ، وكانت سيرته الذاتية تدرس لطلاب المدارس  وفي ذكرى وفاته  نشر كاتب إسرائيلي في صحيفة معاريف ، أنه لكثرة ما سمع من إطراء على باوم ، قرر التعرف عليه ، بعد تسرحه من الجيش  للتعرف على الدوافع الكامنة وراء معنوياته العالية  وشعوره المطلق بعدالة ما يقوم به  يقول الكاتب : عندما توجهت إلى باول في شقته ، وجدت إنساناً غير الذي سمعت عنه   وجدت شخصاً قد تملكه الخوف ، واستولى عليه الهلع   واستبد به القلق ، وعندما سألته عن السر الذي دفعه لقتال العرب   وحرمان نفسه الراحة لعشرات السنين   إذا به يصمت ، ثم يقوم ويحضر ملفاً كبيراً   فيقلب صفحاته ويقول : هل سمعت عن الحروب الصليبية ؟ هل سمعت عن معركة حطين ؟ هل سمعت عن شخص يدعى صلاح الدين ؟ وعندما قلت له مستنكراً : لكن العالم العربي في أعلى مستويات الضعف في كل المجالات  ضحك ساخراً وقال : لقد كانت أوضاع المسلمين قبل معركة حطين ، تماثل من حيث موازين القوى أوضاع العرب حالياً ، فقد كانت الدويلات العربية ، التي كانت قائمة في ذلك الوقت ، تقوم بدور كلاب حراسة للمالك الصليبية ، وإن مخاوفي جعلتني أحاول رصد الأسباب التي جعلت المسلمين ، يحققون ذلك النصر الأسطوري ، وفق منطق العقل والتحليل العسكري ، وما جعلني أتعلق بالحرب ، هو حرصي على أن أقوم بكل شيء ، من أجل عدم تهيئة الظروف ، لمولد صلاح الدين من جديد ، وفي مقابلة صحفية مع شارون   عندما سئل كيف تسير الأمور في إسرائيل ؟ أجاب وهو مهموم ليس على ما يرام  وقال : اخشي من ظهور صلاح الدين من جديد بين المسلمين  لأنه نشأ في مثل هذه الظروف .               

وإني لأعجب أن تقنط أمة يخاف أعدائها ، أن تسير على نهج سلفها   وهي تملك من الثروات والمقدرات ، التي لا يملكها أعدائها ، وإني لا أتصور أمةً تؤمن بالله ربا   والقرآن نهجاً ودستورا ، أن يجد اليأس إليها سبيلا  وكيف تقنط أمةٌ يدعوها القرآن إلى التفاؤل، وحسن الظن   وانتظار الفرج ، وأن تستبشر بالخير ، وتطمئن بما قدره الله ، وتنتظر الفرج من الله عز وجل ، الذي نهى الله عن اليأس والقنوط ، مهما كانت الظروف والمصائب   حتى إن القرآن يضع اليأس في مرتبة الكفر، ويقرن القنوط بالضلال قال تعالى: ] وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ [ 56   الحجر . لكنها أصبحت حقيقة مشاهدة  وواقع لا ينكر ، ضاع فيه الأمل والحلم ، فخضعت الأمة خضوعاً مذلاً ، في حين يرجى لها الانتفاض  وركعت ركوعاً مخزياً ، في حين يرجى لها القيام ، فلماذا صارت إلى هذا المصير ؟ في تقديري أن ذلك راجع إلى تفريط المسلمين بدينهم   وابتعادهم عن منهج ربهم ، وتعاونهم على التخطيط لمستقبل أمتهم مع أعدائهم ، وقد اهتموا بالسنن والمندوبات والمستحبات ، وأهملوا الفرائض والواجبات ، أضف على ذلك ، ما تبثه القنوات الفضائية من الإباحية  والمجاهرة بكل فسق ومجون وانحلال ، وإهمال لمشاعر الأمة التي عاشت قروناً تحترم كل قانون وأدب إسلامي قال تعالى : ] وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا [

وقد انعكس هذا على الواقع الاقتصادي ، الذي يعاني من الانهيار  والديون المتراكمة ، والسيطرة الهائلة للاقتصاد الأجنبي على معظم مقاليد الأمور في البلاد الإسلامية  وهذا ما أوجد في نفوس كثير من المسلمين  إحباطاً ويأساً يشعرون معه أن القيام من جديد ، إن لم يكن صعباً  فهو من ضروب المستحيل ، ناسين أن اليأس من رحمة الله   جريمة في حد ذاتها ؛ فلا يجوز لأنه من صفات الكفار  والذين لا يعرفون حقيقة دين الله ، بل إن القرآن يقرر أن اليأس من رحمة الله كفر بالله قال تعالى : ] إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ [ 87 يوسف . وأنه لا بد من اتخاذ الأسباب ، ويقرره القرآن ناموساً كونياً لا يتبدل، ونظاماً ربانياً لا يتغير  وسنة من سنن الله ، ولن تجد لسنة الله تبديلاً ، وإن الأيام دول بين الناس، وإن القوي لن يستمر على قوته أبد الدهر ، والضعيف لن يدوم عليه ضعفه مدى الحياة ، فهي أدوار وأطوار، تعترض الأمم والشعوب كما تعترض الآحاد والأفراد ، فمداولة الأيام بين الناس  من الشدة إلى الرخاء ، ومن الرخاء إلى الشدة ، ومن النصر إلى الهزيمة ، ومن الهزيمة إلى النصر ؛ هي من السنن الربانية  قال تعالى : ] وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [ آل عمران140 . وهذه السنة نافذة بحسب ما تقتضيه سنة تغيير ما بالأنفس قال تعالى : ] حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ [ الأنفال 53   وسقوط الأمم  وعدمه مرتبط بهذا التغيير النفسي في مسارها عبر التاريخ والحاضر والمستقبل، وهي سنة ماضية ثابتة لا تتغير ولا تتبدل .

فحين يغير المؤمنون ما بأنفسهم ويستكملون أدوات النصر ، لا يضيرهم تفوق الأعداء عليهم ؛ لأن سنة أخرى تتدخل ، وهي وعد الله بالتمكين والنصر لعباده المؤمنين : ] وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [ الروم 47  وقوله تعالى : ]وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً [ النساء 141 وقوله : ] إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ [ غافر51 . وقد يتأخر ويبطىء نصر الله لحكمة ما ، لكن في نهاية المطاف فهو آت لا محالة قال تعالى : ] حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [110 يوسف . ولم تتخلف هذه القاعدة الربانية -وهي أن النصر لا يأتي إلا إذا اشتد الضيق، وزاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر حتى في الأمم السالفة، فكم من أمة ضعيفة نهضت بعد قعود وتحركت بعد خمود ، وكم من أمة بطرت معيشتها وكفرت بأنعم الله فزالت من الوجود ، وأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون.  

فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلن إعلاناً عاماً للبشرية كلها ويقول : (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، ولا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا فإن لو تفتح عمل الشيطان، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل)رواه مسلم.

ففي هذا الحديث تقوية للآمال، ورفع للهمم ، وحب للقوة والشجاعة وترك للفتور أو انتظار مقتضيات اليأس والإحباط، ودفع محاولة تبرير اليأس والقنوط، فالمؤمن هو الأقوى في كل الأمور: في الإيمان، في العلم والعمل، وفي كل شؤونه، يعد مؤمناً قوياً يستطيع بعون الله- أن يخرج من كثير من المشاكل والأزمات.. لا كما يفعله كثير من ضعفاء الإيمان من تبرير الفشل والكسل ، فالمؤمن القوي يحرص على ما ينفعه دوماً لا يخاف دون الله أحداً.. ثم هو مع ذلك الإقدام قد يصاب بمصيبة.. لكنه لا ييأس ولا يصاب بالإحباط بل يزيد إقدامه، ويقول عن تلك الأقدار والمصائب: قدر الله وما شاء فعل ، فما أعظمها من كلمات لو تدبرهن عاقل.. إنه تفويض للأمور وإرجاع لها إلى باريها..  الله الله بالتفاؤل والأمل، فإن ما ترونه اليوم من كيد أعداء الإسلام ، ليس إلا سحابة سوداء  سوف تنجلي عن قريب.. واعلموا أن ما أصاب الأمة من فتور ، وتركٌ لمسايرة الركب ، إنما جاء من حصول إحباط ويأس استولى على القلوب ، فلا تيأسوا فالنصر قادم ، أما تؤمنوا بقول الله تعالى : ] هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [ 33 التوبة . ويقول صلى الله عليه وسلم : ( والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)  البخاري ومسلم.

إن القرآن ليمد الصابرين الآملين الذين لا يجد اليأس إلى قلوبهم سبيلاً بمعين من القوة ، تتحطم أمامها قوى المخلوقين، وتعجز عن إضعافها والنيل منها محاولة العالمين ، وما يعلم جنود ربك إلا هو..وهل يليق بنا أن نقول : ماذا نصنع ونحن ضعاف وخصومنا أقوياء ؟ وفي صدورنا الأمل الواسع بنصر الله ، ومن ورائه التأييد الإلهي الشامل!! اللهم.. لا.. فأمِّلوا خيراً ، وإياكم والارتماء في مستنقع الذل والهزيمة واليأس من رحمة الله ، اللهم إنا نسألك عزاً للإسلام والمسلمين اللهم آمين .

 

 

 

 

 

 

 

 

حقوق الطفل في الإسلام

لقد اهتم التشريع الإسلامي بأمر الطفل ، وأحاطه بالرعاية  باعتباره رجل المستقبل وذخيرة الغد ، وأن النجاح في تربيتة على القيم والمثل العليا والأخلاق الفاضلة ، يؤدي إلى تكوين أجيال قوية قادرة على العمل والبناء ، وحقوق الطفل في الشريعة الإسلامية كثرة ، خصت الأم والأب ببعضها، وحددت واجباتهم تجاه أطفال بتنشئتهم على أخلاق الإسلام ، وأوجبت عليهم نهجاً وسطاً في التربية  يمنع القسوة والعنف ، ويبتعد عن التدليل الزائد    وخصت الدولة بالبعض الآخر ، بل إن الدولة مسئولة دينياً عن إعالة من لا عائل له ، وقد حرصت الشريعة على نشأة الطفولة في بيئة صالحة ، لذا حرصت على تكوين الأسرة وأوصت باختيار الزوجة الصالحة ذات الدين قال صلى الله عليه وسلم : ( تنكح المرأة لأربع : لمالها ولحسنها وجمالها ولدينها ، فاظفر بذات الدين تربت يداك ) مسلم  ودعا إلى ضرورة تفضيل الرجل الصالح فقال صلى الله عليه وسلم : ( إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فانكحوه إلا تفعلوا تكن فتنةٌ في الأرض وفساد ) الترمذي . وعندما سئل عمر بن الخطاب : " ما حق الولد على أبيه ؟ قال : أن ينتقي أمه ، ويحسن اسمه ، ويعلمه القرآن " . وقد قرر الإسلام حق الحياة لكل طفل قال تعالى : ] ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم [ الأنعام 151 . ووجهت الشريعة الوالدات أن يرضعن أولادهن ، وجعله واجباً دينياً قال تعالى : ] والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة [ البقرة 233 . وأوجبت لهم النفقة ، بل عدها النبي صلى الله عليه وسلم من أفضل النفقات فقال صلى الله عليه وسلم : ( أفضل دينار ينفقه الرجل دينار ينفقه على عياله .. الحديث ) مسلم . وقد روي في الحديث أن رجلاًً من الأنصار توفي وخلف أطفالاً صغاراً ، وكان قد صرف ما يملكه من أموال قبيل موته بقصد العبادة وجلب رضا الله ، مما أدى بأطفاله أن يمدوا يد العوز والحاجة يوم وفاته ، وعندما عرف النبي ذلك قال لقومه : ( ما صنعتم به ! قالوا : دفناه ، فقال : أما أني لو علمته ما تركتكم تدفنونه مع أهل الإسلام ، ترك ولده يتكففون الناس ) وأخرج أبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( كفى بالمرء إثماً أن يُضِّع من يقوت ) . 

وقد أوجب الإسلام على الآباء تعليم أطفالهم ، وهذا ما فهمه على بن أبي طالب من قوله تعالى : ] قوا أنفسكم وأهليكم نارا [ حيث قال : ( علموهم وأدبوهم ) وينقل عن الشوكاني في هذه الآية : علينا أن نعلِّم أولادنا الدين والخير وما لا يستغنى عنه من الأدب ، ثم ذكر قوله صلى الله عليه وسلم :( ما تحل والدٌ ولداً خيرٌ من أدبٍ حسن ) .ويرى ابن القيم : " وجوب تأديب الأولاد وتعليمهم والعدل بينهم حيث يقول : إن من أهمل تعليم ولده ما ينفعه وتركه سدى فقد أساء إليه غاية الإساءة ، وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء وإهمالهم لهم ، وترك تعليمهم فرائض الدين وسنته ، فأضاعوهم صغارا فلم ينتفعوا بأنفسهم ولم ينفعوا آبائهم كبارا ، وكم من والد حرم ولده خير الدنيا والآخرة ، وعرضة لهلاك الدنيا والآخرة ، وهذا من عواقب تفريط الآباء في حقوق الله وإضاعتهم لها وإعراضهم عما أوجب الله عليهم من العلم النافع والعمل الصالح " .

وقد أقرت الشريعة الإسلامية حق الطفل في اللعب وقد أورد علماء الحديث نصوصاً كثيرة في كتبهم تحت عنوان " استحباب التصابي مع الولد وملاعبته " تفيد أن اللعب مع الأطفال من الأمور المستحبة في الشريعة الإسلامية .

كما يعتبر الإسلام المساواة في معاملة الأطفال ذكوراً وإناثا من الأمور المهمة التي تبنى عليها الأسرة ، أسلوب تنشئة أبنائها ، روى الطبراني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( اعدلوا بين أبنائكم )  فالإسلام لم يفرق في المعاملة بين ذكرٍ وأنثى ، وإذا وجد من يميزون بين البنت والولد ، فالسبب يعود إلى البيئة الفاسدة التي رضعوا منها أعرافاً ما أنزل بها من سلطان تتصل بالجاهلية ، وهذا يعود لضعف الإيمان وعدم رضاهم بما قسم الله .

وقد يكون للعبد في البنات خيرٌ في الدنيا والآخرة ، قال صالح بن أحمد : كان أبي إذا ولد له ابنة يقول : " الأنبياء كانوا آباء بنات " ، وقد أنكر الإسلام التمييز بين الذكر والأنثى وأمر بالعدل بينهم، وميز البنت بأن جعلها الله حجاباً للآباء من النار عند حسن تربيتها. فقد روى الإمام أحمد في مسنده، عن عقبة بن عامر الجهني قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( من كانت له ثلاث بنات فصبر عليهن وسقاهن وكساهن من جِدَته ( أي: ماله ) كنّ له حجاباً من النار ) وقال صلى الله عليه وسلم : ( من كان له أنثى فلم يهنها ولم يؤثر ولده عليها أدخله الله الجنة ) .

روى مسلم عن النعمان بن بشير قال : ( انطلق بي أبي يحملني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ! أشهد  أني قد نحلت - أي أعطيت النعمان كذا وكذا - من مالي فقال : أكل بنيك قد نحلت مثل ما نحلت النعمان ؟ قال لا ، قال فاشهد على هذا غيري ، ثم قال : أيسرك أن يكونوا في البر سواء ؟ قال : بلى ، قال : فلا إذن ) وفي رواية أخرى لمسلم ( أفعلت هذا بولدك كلهم قال : لا  قال اتقوا الله واعدلوا في أولادكم ) .

وقد لاحظ المربون أن للأطفال حاجات نفسية لا تقل في أهميتها عن حاجتهم إلى الغذاء وإلى الرعاية الصحية والجسمية ، كالشعور بالأمن والطمأنينة ، والمحبة والعطف

وما أحسن ما قالته فاطمة الأنمارية عندما سئلت :" أي أولادك أحب إليك ؟ فأجابت : هم هم كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها " . كما أن الصغير إذا فقد العطف والمحبة نشأ غير سوي وأصاب صحته النفسية والعقلية والخلقية انحرافا ، وكثيراً ما تكون بداية الشذوذ والانحراف والإجرام .

لقد تعامل الرسول صلى الله عليه وسلم مع عالم الطفل فعمل على بنائه وتنميته وتزكيته وتعليمه بالوسائل التربوية ، التي تستوعب خصائص الطفل على اختلافها ، من بناء عقيدة الطفل إلى تربية سلوكه وخلقه ، إلى تنمية حسه الاجتماعي والنفسي والعاطفي ، والتنويع في وسائل التربية ، بالقدوة تارة والموعظة أخرى ، وبالقصة والعبرة ، وبالترويح والتدريب على المعاني السامية وفقاً لقيم السماء .

من حقوق الأطفال في الإسلام معانقتهم، وتقبيلهم وملاعبتهم، وممازحتهم ( قَبَّلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم  الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس التميمي فقال الأقرع : إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداً، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم  وقال: ( من لا يرحم لا يرحم) رواه البخاري . وفيه أيضاً عن عائشة رضي الله عنها قالت: ( جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: تقبلون الصبيان فما نقبلهم! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أو أملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة ؟ ) .

وكان يأخذ الحسن بن علي و الحسين فيقعدهما على فخذه يلاعبهما ويحملهما ، مما يدل على أن من حق الطفل أن يلعب وأن يلهو، وأن يشبع رغبته في ذلك وكان عليه الصلاة والسلام إذا مرَّ بالأولاد وهم يلعبون ألقى عليهم السلام ووقف ينظر إليهم ، وكان يخاطب الصغير منهم بما يثير اهتمامه منهم فيقول سائلاً الطفل عن عصفوره الخاص ( يا أبا عمير ما فعل النغير ) .

ومن أهم ما ينبغي الاهتمام به والحرص عليه تعويد الأبناء على أداء فرائض دينهم، وتربيتهم عليها منذ وقت مبكر؛ كيلا يَشق الأمر عليهم حين البلوغ؛ ولهذا وجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يَحُثُّ أولياء الأمور على تربية الأبناء على تعاليم دينهم منذ وقت مبكر من أعمارهم، فيقول: ( مُروا أولادكم بالصلاة لسبع سنين، واضربوهم عليها لعشر  وفرقوا بينهم في المضاجع ) رواه أبو داود ، وتدريب الأبناء وتعويدهم على صيام شهر رمضان يندرج تحت هذا الأمر النبوي.

وقد ورد ما يؤكد على عدم غشهم أو الكذب عليهم، جاء في حديث عبد الله بن عامر ، قال: ( دعتني أمي ورسول الله قاعد في بيتنا فقالت: ها تعال أعطيك فقال لها : ما أردت أن تعطيه؟ قالت : أعطيه تمرا فقال لها : أما أنك لو لم تعطيه شيئاً كتبت عليك كذبة ) . فالكذب على الطفل يفقده ثقته بأبويه ، فينصرف عن الاستماع إليهما ويعمد إلى تقليدهما بالكذب.

إن تربية الأولاد أمانة ومسؤولية لابد من القيام بها، لأنهم إذا أضاعوا تربيتهم صغاراً لم ينتفعوا بأنفسهم ولم ينفعوا آباءهم كباراً ،عاتب أحد الآباء ولده العاق فقال الولد: "يا أبت إنك عققتني صغيراً فعققتك كبيراً، وأضعتني وليداً فالمطلوب من الآباء إعانتهم أولادهم على برهم ، مصداقاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم  : "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليعن ولده على بره". وإلا فإنهم سيحاسبوا على عقوق أولادهم كما يحاسب الأولاد على عقوقهم .

جاء أحد الناس إلى عالمٍ من العلماء وقال: أشكو إليك  ابني ضربني على وجهي. قال: أعلمته القرآن؟ قال: لا. قال: أعلمته السنة؟ قال: لا. قال: أعلمته آداب العرب؟ قال: لا. قال: ظنك ثوراً فضربك " ، وما عق الابن أباه إلا لأن الأب عق أباه ، وما علم ابنه برّ الوالدين 

وينشأ ناشئ الفتيان منا  على ما كان عوده أبوه

أسأل الله أن يصلح لنا ولكم الذرية ، وسيكون موضوعنا في الجمعة القادمة خصائص وأهداف تربية الطفل في الإسلام .

  

 

 

 

 

 

 

 

 

خصائص تربية الأولاد في الإسلام

تميزت التربية الإسلامية بخصائص مستمدة من منهج الله  الذي يجعل المسلم يستمد التوجيهات التي تشمل جميع جوانب الحياة من منهج الله ، فتحقق له الحياة الواقعية   من خلال التنشئة الصالحة ، ليكون مسلماً عابداً عاملاً مؤتمراً بأوامر الله ، ومنتهياً بنواهيه تأسياً بقوله تعالى :   ] وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون [ الذاريات 56 . ليربط بين معنى العبودية ، والتصرفات الحياتية ، كالأكل والشرب ، وأن يؤدي الصلاة كاملة ، وان يتبع سنة محمد صلى الله عليه وسلم ، وأن يتعرف على حياة النبي وترسيخ حبه في نفوس الأطفال ليقلدوه ويقتدوا به ، ولا بد للطفل من قدوة في أسرته ووالديه لكي يتشرب منذ طفولته المبادئ الإسلامية   لأن الولد الذي يرى والده يكذب لا يمكن أن يتعلم الصدق ، والذي يرى أمه مستهترة لا يمكن أن يتعلّم الفضيلة ، والذي يقسو عليه أبوه لا يمكن أن يتعلّم الرحمة   لأن الأسرة هي الأساس الذي يبذر في نفس الطفل أول بذرة ، لذا يجب على الآباء والمربين انتهاج الطريق الصحيح لتربية أطفالهم   وقد اهتم الرسول صلى الله عليه وسلم بتربية الأولاد تربية إسلامية صحيحة والأنبياء من قبله كانوا يوصون أولادهم بتقوى الله وتوحيده قال تعالى :] ووصى بها إبراهيمُ بنيه ويعقوبُ يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وانتم مسلمون [ البقرة 132 .

وقد كان جانب العقيدة من أهم الجوانب التي اعتنى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك واضح في تلقينه ابن عباس مبادئ العقيدة الصحيحة عندما قال له : ( يا غلام احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، إذا سألت فاسأل الله   وإذا استعنت فاستعن بالله ..الحديث ) الترمذي . قال ابن رجب " هذا الحديث يتضمن وصايا عظيمة وقواعد كلية من أهم أمور الدين ، حتى قال بعض العلماء: تدبرت هذا الحديث فأدهشني وكدت أطيش لما فيه من الفوائد الجمة التي فيها : اهتمام النبي بتوجيه أمته وتنشئتها على العقيدة السليمة والأخلاق الفاضلة " .  والسنة النبوية مليئة وحافلة بالأحاديث التي تشير إلى موعظة الأبناء والناشئة ، والتي كان لها الأثر الأكبر في تنشئتهم التنشئة الإسلامية الحقة ، وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم الوالدين والمربين ، بتعليم أبنائهم أركان الصلاة وواجباتها ومفسداتها ، وحدد سن السابعة بداية لمرحلة التعليم   وقد أمر بمعاقبة من قصر في صلاته أو تهاون أو تكاسل في أدائها في سن العاشرة فقال صلى الله عليه وسلم : ( مُروا أبنائكم بالصلاة وهم أبناء سبع ، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر  وفرقوا بينهم في المضاجع ) أبو داود . ويجب التأكيد على أن العقاب يجب أن يتلو الذنب مباشرة ، وألا يكون من الخفة بحيث لا يجدي أو الشدة بحيث يشعر بالظلم أو يجرح الكبرياء ، وان تربية الطفل لا يصلح لها إلا ضبط الأعصاب مع التحمل المستمر لحركات الطفل وتصرفاته غير المتزنة ، وهذا ما يراه الوالدان من أشق أنواع التحمل في شؤون الأسرة ، ولكنه من أهم الضرورات لإصلاح تربية الطفل ، واشعر الطفل وأنت تضربه أنك لا تزال تحبه ، وقلل ما استطعت من استعمال الضرب ، ولأن يهابك ويحبك خيرٌ من أن يخافك ويكرهك .

وتعد القصة من وسائل التربية الحديثة ، لأن لها أهمية كبيرة في قوة التأثير إذا ما قورنت بالكلام العادي  كقصص الأنبياء ، وأبطال الإسلام ، وقد أكدت السنة مبدأ الترويح ، لأنه يقوم بدورٍ تربوي مؤثر في تنمية شخصية الأبناء ، ما يكسب الطفل السلوك المقبول اجتماعياً ، وأن يعرف السلوك غير المقبول ، فيتعلم متى يلعب ومع من يلعب ، وقد حرص الإسلام على تدريب الأبناء وتعليمهم العادات الإسلامية ، والأخلاق النبيلة  وأن يتمثلوها في حياتهم ، لأن تكوين العادة في الصغر  أيسر بكثير من تكوينها في الكبر .

ومن القواعد التي وضعها الإسلام في تربية الطفل اجتماعياً تعويده على سنة السلام ، وعبادة المريض ، وحضور مجالس الكبار ، والتدريب على البيع والشراء ، وأدب الطعام والشراب ، والاستئذان ، وتعويده على الصدق  والتحذير من عادة الكذب ، والتعويد على حفظ الأسرار   والأمانة وسلامة الصدر وترك الأحقاد ، كما ينبغي إشعار الطفل بأنه محبوب ، وأنه محل عناية وعطف ، وقد أوجب الإسلام العدل بين الأبناء ، ونهى عن تفضيل بعضهم على بعض ، وكان صلى الله عليه وسلم يستنكر أشد الإنكار عدم العدل فيقول : ( اعدلوا بين أولادكم كررها ثلاثا ) مسلم  

وهناك حقوق ينبغي أن نرشد الطفل إليها ، من أهمها حق الأبوين إذ يجب على المربي أن ينشئ ولده على ذلك البر   ويلقنه إياه ، وإذا تربى الطفل على هذا الحق ، كان من السهل عليه أن يتربى على احترام الجار والكبير واحترام المعلم ، بل واحترام الناس جميعا لأن فضيلة بر الوالدين هي منبع الفضائل .

وينبغي تعويد الإبن على النظافة ، فقد دعا إليها الإسلام  لأن الطفل الذي يريد الصلاة لا بد أن يتوضأ ، ولا بد أن تكون ثيابه نظيفة طاهرة ، وعلى المربي أن يعود الطفل النطق بالأذكار والأدعية المهمة ، وغرس محبة الله في نفسه وتعظيمه وخشيته ، وتعويده على الكلمات الطيبة  وتنمية الطموح لدى الطفل ، كأن يغرس في نفسه بأن يكون عالماً أو طبيباً .

وعلى المربي تربية الطفل على صفات الرجولة ، التي تبدأ من الصغر فلا يقول الإنسان : أنا صغير أو يربي أطفاله على التواكل ، فيقول كلما أسند إليه أمر : صغير صغير فينشأ وعمره أربعين وهو لا يزال صغيراً.. فهذا لا يصح   لأن التربية الصحيحة أن يشعره بالمسئولية من العاشرة  فهذا محمد بن القاسم قد قاد الجيش الإسلامي يوم دخل الهند وعمره خمس عشرة سنة!

 وهذا أسامة بن زيد الذي قاد الجيش لسبع عشرة سنة  وأرسل  صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن وعمره ما يقارب السابعة عشرة سنة ، وقد قال الصحابة لـعمر وكان يدخل عليه ابن عباس وعُمُره ثلاث عشرة سنة فقالوا : كيف تدخل هذا الطفل ؟ وقد كان عمر في مجلس الشورى الذي لا يدخله إلا من بلغ سن الأربعين فما فوق، من أهل بدر  وأهل بيعة الرضوان، وشيوخ الصحابة ، وأسياد الأمة ولا يدخله غيرهم لا من الأعراب ولا من الأطفال إلا ابن عباس ففد  أستثنى وسمح له بالدخول ، قال ابن عباس : " فجمع عمر الناس وقال للصحابة : ما معنى قوله تعالى : ] إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [ النصر:1 ، وهو يلتفت إلى ابن عباس ، يريد أن يريهم ذكاءه ، فقال الصحابة : لا ندري فالله يقول للرسول صلى الله عليه وسلم : إذا جاء النصر والفتح فاستغفر وتب، فسألهم جميعاً فقالوا: لا نعرف إلا هذا ، قال : وأنت يا ابن عباس ؟ فقال معنى الآية: قد اقتربت وفاتك يا رسول الله ، فما دام أن العرب قد أسلمت ودخلت في دين الله فترقب الوفاة أو كما قال ، فقال عمر : والله ما أعلم منها إلا كما تعلم ، ولذلك أدخلوه معهم في مجلس الشورى.

ولما جاء وفد العراق يبايع عمر بن عبد العزيز بالخلافة وكان فيهم شاب صغير جالس، فقام الشاب يتحدث فقال : مرت بنا ثلاث سنوات أما سنة فأذابت الشحم وأما سنة فأكلت اللحم، وأما سنة فدقت العظم ، وعندك مال الله فأخرج ما لله من خزائن الله على عباد الله فقال عمر بن عبد العزيز : يا بني.. اجلس ففي الناس من هو أولى منك بالحديث ، فقال الشاب: يا أمير المؤمنين! لو كان الأمر بالسن لكان في الناس من هو أولى بالخلافة منك أنت:

تعلم فليس المـرء يولد عالمـاً وليس أخو علم كمن هو جاهل 

إن كبير القـوم لا علم عنده   صغير إذا التفت عليه المحافل

فيا ليت المربين يحرصون على تربية أبنائهم التربية الإسلامية الحقة في ضوء الكتاب والسنة ، لأنها النهج العملي والتطبيقي الفعلي لتربية الأطفال ، ومن خلال قوله صلى الله عليه وسلم : ( كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته ) .

 

 

 

 تنظيم العلاقة بين الزوج والزوجة

 

هناك واجبات وحقوق على الأزواج ، لا بد منها لدوام الحياة الزوجية ، أما الزوج فبما جعل الله له من قوامة قال تعالى:{ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ } النساء:34 . وقد استمد الرجل هذا الحق من تفوقه التكويني على المرأة، ولتحمله تكاليف المعيشة الشاقة ، وهي قوامة لا تبيح للزوج التسلط والخروج عن دائرة المسؤولية إلى دائرة التحكم والتعامل القسري مع الزوجة، لأن ذلك يتصادم مع حق المرأة في المعاشرة الحسنة ، الذي أشار إليه القرآن صراحة في قوله تعالى : {وعاشروهن بالمعروف}النساء 19. ولا شك أن الإسلام قد طلب من الزوجة طاعة الزوج في كل ما يرتضيه العقل والشرع ، وما عدا ذلك لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، والإسلام لا يرتضي أن تستخدم هذه القوامة وسيلة لإذلال المرأة، أو الانتقاص من مكانتها . وأما الزوجة فهي شريكة الحياة ، ورفيقة الدرب قال الله تعالى :{ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} الروم 21 . إنها صلة النفس بالنفس  والسكن والقرار والمودة والرحمة ، صلة تحتاج إلى حسن الخلق ، لأن الزوجة تحتقر زوجها الذي يكثر السب واللعن والطعن ، بل لا قيمة لكل ما يقدمه إن كان سيئ الخلق  ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة  : (استوصوا بالنساء خيراً)  أمرٌ من رسول الله لكل زوج ، وقد يبين رسول الله صلى الله عليه وسلم حرمة الزوجة المسلمة ومكانتها في الحديث  الذي رواه مسلم من حديث جابر بن عبد الله وفيه : ( اتقوا الله في النساء؛ فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله) وفي الحديث الذي رواه ابن حبان والحاكم والترمذي وغيرهم بسند صحيح من حديث أبي هريرة  أن النبي  صلى الله عليه وسلم قال: ( أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً ) (وخياركم خياركم لنسائهم) . ومن أخلاق الإسلام وسننه ، إذا دخل الزوج على أهله أن يقول: السلام عليكم ورحمة الله . لما ورد في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره بسند حسن، أن النبي  صلى الله عليه وسلم قال لـأنس رضي الله عنه: (يا بني! إذا دخلت على أهلك فسلم؛ يكن بركة عليك وعلى أهل بيتك) ولأن ذلك يساهم في حل المشكلات بين الأزواج إن جدت     وأن يلقى امرأته إذا دخل عليها بوجه طلق؟ روى الإمام مسلم في الصحيح من حديث أبي ذر أن النبي  صلى الله عليه وسلم قال له : (لا تحقرن من المعروف شيئاً، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق) وأولى الناس بطلاقة الوجه من الرجل هي امرأته لأنها أقرب الناس إليه ، وليس من أخلاق الإسلام وسننه أن يدخل الزوج البيت مكفهر الوجه ، حتى أن  الزوجة   تستجدي منه الكلمة الطيبة، وتتسول منه الابتسامة الحانية، في الوقت الذي تراه مع أهله وأقربائه وأصدقائه وأحبابه لطيفاً ظريفاً، ودودواً لكنه يعامل زوجته بالقسوة والغلظة  وأن أولى الناس بهذه الملاطفة هي الزوجة رفيقة الدرب وشريكة الحياة  فأولى أن يخاطبها بأرق الكلمات، وأجمل العبارات التي تسعد قلبها  فالكلمة الطيبة صدقة ، فما ظنك إن كنت ستتصدق بهذه الكلمة على أقرب الناس إليك ، كما جاء في الصحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم : (اتقوا النار ولو بشق تمرة   فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة) فالزوج المؤمن لا يخاطب امرأته بكلمات جارحة نابية ، ولا يتصيد الخطأ الصغير من أجل أن يجعل منه مشكلة كبيرة  ليعنف ويوبخ  وشتان بين زوج يداعب زوجته ويقول لها: إن النساء رياحين خلقن لنا وكلنا يشتهي شم الرياحين ، وبين زوج عبوس يقول لامرأته: إن النساء شياطين خلقن لنا ، نعوذ بالله من شر الشياطين ، وليعلم الأزواج أن الحياة الزوجية ليست مكاناً للطعام والشراب، والاستمتاع الجسدي فحسب وإنما هي لبناء أسرة البيت باعتباره مثابة وسكن  تنبت في كنفه الطفولة    وتمتد منه وشائج الرحمة وأواصر التكافل ، يكون الزوج فيها عوناً لزوجته على طاعة الله سبحانه ، ويا حبذا لو أطلق يدها لتنفق في سبيل الله ، ولا حرج على الإطلاق إن أخبرها بأنه قد سامحها لو أنفقت شيئاً من ماله في مرضاة الله سبحانه ، ويا حبذا لو جلس مع امرأته في أماكن جميلة ، ليقضي معها وقتاً جميلاً  وأن يكون عوناً لها على طاعة الله سبحانه وتعالى، ففي الحديث الذي رواه أبو داود وابن ماجة بسند صحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى فأيقظ امرأته -يعني لتصلي معه- فإن أبت نضح في وجهها الماء) ليكون عوناً لها على طاعة الله، كما يجب أن تكون هي الأخرى عوناً له على طاعة الله عز وجل .

 

وينبغي على الزوج  الإنفاق على الزوجة لأنه حق من أعظم حقوقها، ولا ينبغي على الزوج أن يقصر في هذا الحق حتى لا يقع في الإثم لقوله صلى الله عليه وسلم : (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت) ولأن الزوجة تبغض من كل قلبها الزوج البخيل، ولو كان صاحب منصب أو جاه ، ولينفق الزوج بلا إسراف ولا تقتير، وبلا إفراط أو تفريط لقوله تعالى:{ لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ - يعني من ضيق عليه رزقه - فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً } الطلاق 7 . والنبي  صلى الله عليه وسلم يخبرنا بأن النفقة على الزوجة صدقة ، لما في الصحيحين من حديث أبي مسعود البدري : ( إذا أنفق الرجل نفقة على أهله يحتسبها فهي له عند الله صدقة )  وروى البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (دينار أنفقته في سبيل الله ودينار أنفقته في رقبة، ودينار أنفقته على مسكين  ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها عند الله أجراً دينار أنفقته على أهلك)  .

 

ومن حقوق الزوجة على زوجها: حق الفراش ، ذكره من كان أشد حياءً من العذراء في خدرها ، وما دام أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ذكره فنحن نذكره بدون أدنى حياء أو خجل  وهو حق من أعظم الحقوق الزوجية ، لذا ينبغي أن يكون اللقاء فيه لقاء مودة ورحمة ، يتطيب كلٌ من الزوجين للآخر لقوله تعالى : { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ } البقرة 228 . وكان ابن عباس يقول: " إني لأحب أن أتزين لامرأتي كما أحب أن تتزين لي امرأتي " فكما يحب الزوج أن تتطيب وتتزين له زوجته فمن حقها عليه أن يتزين ويتطيب هو الآخر لها.

 

والعجب كل العجب من إهمال المرأة لنفسها في بيتها بحضرة زوجها، وإفراطها في الاهتمام بنفسها وإبداء زينتها عند الخروج من بيتها، حتى صدق فيها قول من قال: قرد في البيت وغزال في الشارع ، وعلى الزوجة أن تعلم أن زوجها أحق الناس بزينتها وجمالها ، وأن عليها   أن تمكنه من نفسها كلما أراد ذلك  إلا في الحالات الاستثنائية الطبيعية التي تمر بها ، يقول صلى الله عليه وسلم  :

 

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن من خير نسائكم الولود الودود، الستيرة العزيزة في أهلها الذليلة مع بعلها -اي المتواضعة والمتحببة لزوجها رغم انها كانت عزيزة في اهلها- المتبرجة لزوجها الحصان عن غيره -اي التي تتزين في مظهرها وتتجمل في ملبسها لزوجها فقط اما مع الرجال المحارم فهي الرزنة في اقوالها وافعالها الممتنعة والمحصَنة او العفيفة مع غيره- التي تسمع قوله وتطيع أمره - اي لا تكون ندا معاندا له وعنصرا مخالفا لأراءه واقواله- وإذا خلا بها بذلت له ما أراد منها -اي مطاوعة له عند خلوتها به-  ثم قال: ألا اخبركم بشر نسائكم ؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال : شر نسائكم الذليلة في أهلها العزيزة مع بعلها - اي التي تتعزز على زوجها رغم انها كانت ذليلة عند اهلها-  العقيم الحقود التي لا تتورع من قبيح، المتبرجة إذا غاب عنها بعلها، وإذا خلا بها بعلها تمنعت منه تمنع الصعبة عند ركوبها - اي تمنعت كالدابة الصعبة الوحشية او المتنفرة التي تنفر ممن يريد ركوبها - ولا تقبل منه عذرا ولا تغفر له ذنبا - أي لا تسامحه وتقبل عذره عند خطئه او تقصيره ولا تنسى سيئاته معها- ، صححه الألباني في "صحيح الجامع الصغير " برقم : (3330) , وفي " السلسلة الصحيحة " برقم: (1849).

 

فالمرأة عليها الصلاح والانقباض في غياب زوجها والرجوع إلى الانبساط  وأسباب اللذة في حضوره وقد ورد في الأحاديث ما يحذر المرأة من الابتعاد عن فراش الزوجية ، وأن الملائكة تلعنها حتى تعود إلى زوجها ، لهذا قال صلى الله عليه وسلم : ( والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشه: فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء ساخطاً عليها حتى يرضى عنها ) وقال: ( إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه، فأبت أن تجيء، فبات غضبان، لعنتها الملائكة حتى تصبح )  لهذا على الزوجة الاهتمام بهذا الحق والاستجابة لزوجها ، خاصة في هذا العصر الذي ينتشر فيه الإغراء والتبرج ، فما يراه الرجل سواء في المنزل أو في الشارع أو في الأسواق من تبرج للنساء  يثير  الشهوة عنده ، وقد نبه إلى هذا صلى الله عليه وسلم بقوله ( إن المرأة تقبل في صورة شيطان، وتدبر في صورة شيطان فإذا رأى أحدكم امرأة فأعجبته فليأت أهله ، فإن ذلك يرد ما في نفسه ) وليس للزوجة أن تنشغل عن هذا الواجب ولو بأي أمر من الأمور لقوله صلى الله عليه وسلم : ( إذا الرجل دعا زوجته لحاجته، فلتأته وإن كانت على التنور )  أي وإن كانت تخبز على الفرن.

 

وعلى الزوجة أن تحترم زوجها وتطيعه وأن تسهم بدورها في عقد المودة والمحبة معه يقول صلى الله عليه وسلم : ( لو جاز لأحد أن يسجد لأحد غير الله  لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها ) وهكذا قدس الإسلام هذه الطاعة وهذه العلاقة بين الزوجين ، لذا يتوجب على الزوجة أن تكون لطيفة المعشر مع الزوج ، تخاطبه بعبارات تدخل السرور على قلبه ، خصوصا عندما يعود من العمل خائر القوى مرهق الأعصاب ، وأن تستقبله والبشر في وجهها، وتعرض خدماتها عليه ، لتنال رضاه ( فطوبى لامرأة رضي عنها زوجها ) كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم .

 

فللزوج إذن حق القوامة، وحق التمكين أو الاستمتاع  وحق الطاعة في الحدود المشروعة ، وليس للزوجة أن تخرج من بيتها بدون إذن زوجها ، وأن لا تعمل عملا يضيع عليه كمال الاستمتاع حتى لو كان ذلك تطوعا بعبادة لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يحل لامرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه ، ولا تأذن لأحد في بيته إلا بإذنه ) وقد جعل رسول الله  صلى الله عليه وسلم رضى الزوج عن زوجته من أسباب دخولها الجنة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة ) .

 

وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه أبو هريرة : ( إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحصنت فرجها، وأطاعت زوجها، قيل لها: أدخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئت)  ومما يؤسف له أن الكثير من الزوجات يقمن بالصلاة والصيام وغير ذلك من أعمال البر لكنهن يهملن طاعة الزوج. مع أن الله عز وجل الذي أمر بالصلاة والصيام ، هو سبحانه الذي أمر الزوجة بطاعة زوجها والعمل على رضاه ، لذلك ينبغي عليها أن تحرص على رضا زوجها ولا تهمل حقوقه ، وعلى كل فالزوجة الصالحة هي التي تفهم ذلك جيداً، وتتصرف على ضوء هذا الفهم، وتخشى الله في زوجها. فتكون ممن قال الله فيهن : { فَٱلصَّٰالحاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظاتٌ لّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ ٱللَّهُ } النساء 34  أي أن النساء الصالحات  مطيعات لله ولأزواجهن، حافظات لغيبتهم إذا غابوا  فيحفظن أنفسهن، ويحفظن أموال أزواجهن حتى يعودوا.

 

ومن الحقوق الزوجة أن يكون الزوج أميناً على أسرار البيت ، وإلا فإنه يكون من شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة، كما يقول النبي عليه السلام في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم : ( إن من شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته   وتفضي إليه ، ثم ينتشر سرها) وهذا من أقبح صور الخيانة أن يفشي الرجل سر امرأته .

 

ومن الحقوق الغيرة المنضبطة لقوله صلى الله عليه وسلم  : (إن من الغيرة ما يحبه الله، ومنها ما يبغضه الله)، فأما الغيرة التي يحبها الله سبحانه فالغيرة في ريبة، لأنها غيرة لها أسباب صريحة وأدلة واضحة ، وأما الغيرة التي لا يحبها الله سبحانه وتعالى فالغيرة في غير ريبة والتي تبنى على الظن والأوهام والشكوك ، لأنها تخرب البيوت، وتدمر الأسر، وقد يتهم   الزوج زوجته بأبشع التهم ، لذا لا بد أن تكون الغيرة منضبطة، بلا إفراط أو تفريط ؛ حتى تستمر الحياة وتظل بيوت المسلمين مستورة .

 

ومن حق الزوجة إن أخطأت واعتذرت أن يقبل الزوج عذرها ويعفو عنها لتستمر الحياة. 

 

ومن الحقوق: أن تكرم أهله وأقاربه خصوصاً الوالدين: فعليها برهما وإكرامهما، تقديراً لزوجها واحتراماً له ، وما يذكر من الخلاف الواقع بين أم الزوج وبين الزوجة هو أمر مستغرب ، وهو من كيد الشيطان وإغوائه لإفساد الحياة الزوجية ، وحمل الزوج على عقوق والديه .

 

وعلى الزوجة أن تتحمل وتصبر وأن تبتعد عن إثارة المشاكل مع أم زوجها ، وتجنب الشكوى إلى الزوج من والدته، حتى لا تفسد بيتها، وعليها أن لا تضع زوجها في خيارات صعبة مثل: التضحية بأمه أو بزوجته ، وعليها أن تعلم أن الأم هي أم ، وهي أم واحدة ولا يمكن استبدالها حتى ترضى الزوجة .

 

وعلى الزوجة أن تقرب بين زوجها وأهله بدلاً أن تفرق بينهم، لأن عدم تقديرها لأهله وإبعاده عنهم جريمة تعاقب عليها الزوجة في الدنيا والآخرة، ويكفي في هذا قول النبي : ( ليس منا من لم يجل كبيرنا ) ليس منا من لم يوقر كبيرنا، وعلى الزوج أن يكون في هذا رجلاً وأن لا تسيطر عليه المرأة فتوقعه في عقوق والديه، ويكفيه قول النبي ( لا يدخل الجنة عاق) .

 

ومن الطاعة للزوج أن لا تطيع أحداً في معصيته ولو كان أبويها ، لأننا نسمع أن بعض الزوجات يطعن أمهاتهن في معصية أزواجهن، ويؤذين أزواجهن بناءً على توصيات الأمهات ، وهذا حرام ولا يجوز أبداً ، حرام على الأم أن تحرض ابنتها على زوجها طالما كان الزوج متقياً لله فيها وحرام على الزوجة أن تطيع أمها أو أي أحدٍ في معصية زوجها، دونما مبرر شرعي ، يقول ابن تيمية : " المرأة إذا تزوجت كان زوجها أملك لها من أبويها، وطاعة زوجها أوجب وقال: "لا يحل لها أن تطيع واحداً من أبويها في طلاقه، إذا كان متقياً لله فيها" . وعلى الأزواج الالتزام بحسن المعاشرة ، والاحترام ومقابلة الإحسان بالإحسان ، فالمرأة هي الرقة واللطافة أولاً وأخيراً ، لأنها ذوق وتربية ، وبها تدوم المحبة  وقد أنذر الرسول صلى الله عليه وسلم من كفران العشير ونكران الإحسان فقال صلى الله عليه وسلم : ( رأيت أكثر أهل النار النساء ، قالوا لم يا رسول الله ؟ قال : بكفرهن قيل يكفرن بالله ؟ قال : يكفرن العشير ويكفرن الإحسان ، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئا قالت : ما رأيت منك خيراً قط ) البخاري . والمعاملة بالحسنى من طرف الزوجة   دليل واضح على حسن تربيتها، وعلى استقامتها وصلاحها ، عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم  أنه كان يقول: ( ما استفاد المؤمن – بعد تقوى الله عز وجل – خيراً له من زوجة صالحة إذا أمرها أطاعته، وإن نظر إليها سرته، وإن أقسم عليها أبرته، وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله) وهكذا يربط الإسلام الزوجة بالزوج ، والزوج بالزوجة ، ثم يربطهما بالبيت وبحياة البيت ، ثم يربطهما بالدين وبالدنيا وبالآخرة معا ن لأنهما أساس البيت  وأساس الحياة في البيت ، ومربيا الأولاد ، ولذا فهما أساس الجيل ، وأساس المجتمع  ، ولكلٍ منهم مسئوليته قال صلى الله عليه وسلم : ( كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته  الأمير راع ، والرجل راع على أهل بيته ، والمرأة راعية على بيت زوجها ، فكلكم راعٍ وكلكم مسئولٌ عن رعيته ) البخاري . 

 

 

 

مصائب الأمة

 قال  صلى الله عليه وسلم : (إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك الله أن يعمهم بعقابه) رواه أحمد في مسنده . واجب المسلمين قادة وزعماء وعلماء وغيرهم ، واجبهم الاهتمام بكل مصيبة تحل أو نكبة تقع ، واجبهم تذكير الناس وبيان ما وقعوا فيه ، وأن يكونوا القدوة الصالحة في العمل الصالح، والبحث عن مسببات غضب الله ونقمته ، والبحث عن العلاج والإصلاح ، لأن هداية العالم وحكمة الوالي وصلاحهما من أهم المؤثرات في الرعية (فكلكم راع وكل مسئول عن رعيته) وإذا استمرأ المسلمون المعاصي ولم ينكرها من بيده الأمر والحل والعقد ، يوشك أن يعم الله الأمة بغضب منه، وإذا وقع غضب الله وحلت نقمته فإن ذلك يشمل المحسن والمسيء نعوذ بالله من ذلك قال تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً  ﴾ .  والحديث عن مصائب الأمة ، حديث يطول ، فهل نتحدث عن مصاب الأمةٍ وهي تئن من ضربات الأعداء ؟ أم نتحدث عن مصاب الكثيرين منهم وهم يموتون جوعاً وعرياً، وفقراً، على حين أنهم أغنى الأمم وأكثرها أموالاً وأولاد ؟ أم نتحدث عن مصاب هذه الأمة حين يقتل بعضها بعضاً، ويسفك بعضها دم بعض؟! أم نتحدث عن مصيبة هذه الأمة حين تفارق دينها وتجهل حدود ما أنـزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم ؟ فحين نقرأ في الأخبار، أو نسمع عن بعض المصائب، لو أردنا أن نتحدث عنها لعجزنا لأن الواقع يكون أحياناً أكبر من الكلمات  .

جاء في بعض التقارير في الصومال أن أعداداً غفيرة من الناس، تقف طوابير عند إحدى المنظمات، لماذا؟ لأجل أن تسجل أولادها وأطفالها في قوائم الراغبين في السفر إلى أوروبا وأمريكا، حتى يجدوا الحياة المطمئنة هناك وهم أطفال ، وقطعاً سوف يتخرج هؤلاء قُسساً ورهباناً ومنصرين، ثم يعودون إلى الصومال بأسماء نصرانية ويحملون الصليب بيد، والإعانة بيدٍ أخرى .

وليس الوضع في إريتريا بأحسن حالا ففي السودان وحدها أكثر من مليون ونصف لاجئ إريتيري، منهم سبعمائة ألف في المعسكرات، في أوضاع في منتهى الفقر لا يجد الواحد منهم إلا ما يسد رمقه، أو يستر سوأته وعورته .

وفي فلسطين، نجد ألوان الاضطهاد الذي يلقاه المسلمون على يد اليهود، الذين هم أشد الناس عداوةً للذين آمنوا  وحدث ولا حرج عما يدور في العراق وأفغانستان ، بل إنك لتجد في كل بلدٍ مصيبة، وفي كل منطقة كارثة، وفي كل ناحية نكبة ، كما انك لتجد ما يضحك ويبكي  فتجد أغلى إنسان وأرخص إنسان ، فالمسلم الحق أغلى إنسان عند الله عندما يعمل لتحكيم شرع الله ، وهو أرخص إنسان عند الأعداء الذين لم يحركوا ساكناً على مليوني إنسان، غادروا أرض البوسنة والهرسك إلى مكان لا يعلمونه، ولا يغضب على مئات الألوف ممن هم في معسكرات الاعتقال، ولا يغضب لعشرات الألوف الذين سحقتهم الدبابات وقتلوا في حرب الشوارع، ولا يغضب أيضاً لتلك الأعداد الغفيرة ممن ماتوا في المجاعات، لماذا؟ لأنهم مسلمون ، وحتى عند بعض المسلمين نجد المسلم لا يحظى باهتمامهم كما تحظى به البهائم ، وقد سمعنا أن من الدول الإسلامية من دفعت إعانات ومساعدات، لبعض حدائق الحيوانات في لندن ، بل إن من المسلمين من هان على نفسه ، فأصبح لا يرى نفسه شيئاً ولا يري نفسه أهلاً لشيء لا يعمل، ولا يتكلم ولا يشارك  ولا يناقش  ولا يُفكِّر ولا يسمع ولا يبصر، فتجد من المسلمين يقول: لماذا أسمع الأخبار؟ أنا لست حاكماً كي أتصرف، فدع الناس وما هم فيه، لماذا أسمع وأزعج نفسي؟!  فأنا لا أستطيع أن أقدم ولا أؤخر؟!  والأمور خربانة، وليس باليد حيلة والشكوى إلى الله وهكذا ، فقد أصبحنا نخشى من الدول العظمى، ونخشى من خصومنا وأعدائنا  ونخشى من اليهود والنصارى، ولا نخشى الذل ، ولذلك عاملتنا الأمم الغربية بالمنطق نفسه ، فرأت أن هذه الأمة التي قبلت الذل والخضوع، والخنوع هي أمةٌ جديرة بألوان الاضطهاد ، وقد أصبحت بالفعل سوقاً لنشر ثقافات الغرب ، ونظرياته ومبادئه واهتماماته ، وإنك لتجد العلمانية قد أصبحت ديناً يدين به قطاع عريض ، وهم ينادون بفصل الدين عن الحياة ، ومن لم يقع في فخ العلمانية ، فإنه يقع في شرك الإباحية الغربية ، هناك تقارير غربية تتكلم الآن عن جوعٍ في البلاد الإسلامية ورد فيها : إن العالم الإسلامي كما هو بحاجة إلى الإغاثة في مجال المساعدات المادية ، فهو أيضاً بحاجة إلى الإغاثة والمساعدة فيما يتعلق بنقل تعاليم المسيح إليهم .

 أضف إلى ذلك وكما نعلم بأن بلاد المسلمين هي أغنى مناطق العالم ، هي في التصنيف من أفقر مناطق العالم  مع أنها أغنى مناطق العالم بالثروات كالبترول وغيره، وأغنى مناطق العالم بوجود المنافذ المهمة والمواقع الحساسة: الجوية، والبرية، والبحرية، والمضايق التي يحتاج إليها العالم  وأغنى مناطق العالم بالكثافة العددية والبشرية، ومع ذلك فهي أفقر مناطق العالم ، وإنه لمن المبكي أن تعلم أن الغرب يوزع خيرات المسلمين على المسلمين، فهذه الإغاثات التي تنقلها الأمم المتحدة -مثلاً- إلى الصومال من أين هي؟ هل هي من كد جبينهم، ومما عملت أيديهم، كلا. إنها بعض ثروات وخيرات المسلمين التي استطاع الغرب بخبرته ، وذكائه وسياسته ، أن يمتصها في بنوكه ومصانعه ، وفي ميزانياته، وفي وزارات دفاعه واقتصاده ، ثم يجعل جزءاً يسيراً منها إلى البلاد الإسلامية المنكوبة ، وهذا الجزء اليسير، إنما يستخدمه الغرب لتنصير المسلمين ، وشراء ذمم ضعفاء الإيمان منهم ، ولعلك تعجب أكثر حينما تعلم أن هناك أموالاً جمعها المسلمون في مساجدهم ، وبلادهم  فقامت منظمات صليبية بتوزيعها على المسلمين أيام الفيضانات أو الزلازل ، أو أيام المجاعات سواءً في بنجلادش أو في كشمير أو في البوسنة والهرسك وغيرها ، وأعجب من ذلك أن الغرب يتكلم عن -صندوق التنمية- صندوق دولي للتنمية يقوم بمساعدة الدول الفقيرة  أو الدول النامية ، أو دول العالم الثالث كما يسميها، وهذا الصندوق أمواله من البلاد الإسلامية ، وبالذات من دول الخليج العربي ، والذي يقوم بإدارته ، هي أمريكا، وتوزعه على المناطق الفقيرة  وهذا يذكرني بنكته قيل : "إن رجلاً مغفلاً، جاء إلى أحد الأغنياء الأذكياء، فقا ل الغني له يا فلان: إنني سمعت أن هناك منطقة في الصحراء المحيطة بنا، يوجد فيها الكمأ فأريدك أن تذهب لتلتقط الكمأ مناصفةً بيني وبينك ، فهزَّ الفقير رأسه وذهب موافقاً وركب حماره ، وفي أول يوم ذهب إلى تلك المنطقة ، فأصبح يبحث في الأرض  ويلتقط الكما، وذهب إلى التاجر فقسمه بينهما مناصفة أعطاه نصفه وأخذ النصف، وفي اليوم الثاني ذهب الفقير إلى المنطقة نفسها، وبدأ يلتقط الكمأ من الأرض ، ففي الطريق وهو راجع أصابته صحوة ، فهز رأسه وقال: الحمار حماري، وأنا أنا، والأرض لله ، والمطر من الله ، وأنا أعطي هذا التاجر نصف ما أجمع ، فهذا ليس بالعدل فألقى ما التقطه ، ورجع بلا شيء  لماذا؟ لأنه يريد أن يحرم هذا التاجر من هذا الكمأ .  وهذا فعلاً ما يقع  فصندوق التنمية العالمية يُنفقُ عليه المسلمون وتديره الدول الغربية ليخدم مصالحها في بلاد المسلمين وبأموال لمسلمين  وإذا ما اطلعت على الدراسات والتقارير لمجامع البحوث والدراسات العلمية ، فأنك لا تجد أي شعب في العالم يعاني ما يعانيه المسلمون، وإذا ما تساءلنا : أين توجد المجاعة ؟ وأين توجد عملية التصفية العرقية؟ وأين يوجد الحصار الاقتصادي على شعب بأكمله ؟ وأين يوجد الفقر؟ إنه في دول غالبها إن لم يكن كلها دولٌ إسلامية فالوقت الذي فيه للمسلمين نصيب الأسد من هذه المآسي، فإن المحزن والمؤلم ، أن الذين يُظهرون تبني قضايا المسلمين والدفاع عن حقوقهم ، هم من النصارى والكفار، وأي خيرٍ في أمة يتولى عدوها مساعدتها والدفاع عنها ، يُصاب المسلمون في أي بلد فلا يعلن الدفاع عنهم إلا منظمات حقوق الإنسان، ومنظمات العدل، والمنظمات الدولية الإنسانية في أوروبا وأمريكا وغيرها، التي هي في غالبها إن لم تكن كلها منظمات نصرانية ، فليس للمسلمين فيها أي وجود فيها ، لقد أصيب المسلمون بالجبن والخوف والتمزق، فأصبح المسلم لا يشعر بمصاب أخيه ولو شعر به فإنه لا يملك الشجاعة والجرأة بأن ينادي بإنصاف أخيه المسلم ، وإذا أردنا أن نعرف السبب فيما صرنا إليه ، فإنا نجد ذلك في قوله تعالى: ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾ الشورى30  وقوله: ﴿ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ آل عمران 165 وقوله تعالى: ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ  ﴾النحل112 . وغيرها من آيات في كتاب الله تعالى الناطقة التي لا تحتاج إلى تفسيرٍ أو بيان، وخلاصة هذه الآيات أن كل ما أصاب الناس من مصائب دينية أو دنيوية ، فهي من عند أنفسهم .   وما الذي أوصل المسلمين إلى هذه الحال التي يألم لها كل مسلم ، إنه ضعف الإيمان في النفوس ، وانشغال أكثر المسلمين بالدنيا ومتاعها ، وبضعف الإيمان ضعفت شوكتهم وقوتهم ، فطمع فيهم أعداءهم ، وتوالت النكبات عليهم ، حيث أُبعد المسلمون من أجزاء من الأرض التي فتحها الإسلام ، واحتل الأعداء كثيرًا من أقطار المسلمين بجيوشهم ، وغزوا تلك الأقطار بكل ألوان الفساد، وأبعدوا الشريعة الإسلامية عن الحكم واستبدلوا بها قوانين من صنع البشر، ثم تآمروا وأسقطوا الخلافة الإسلامية ، وأثاروا الفرقة بين أقطار المسلمين، وغرسوا الكيان الصهيوني في قلب الأمة الإسلامية؛ ليضعفها ويمزقها ، ويتوسع على حساب أرض الإسلام .

ولمّا أعرض الناس عن تحكيم الكتاب والسنة والتحاكم إليهما ، واعتقدوا عدم الاكتفاء بهما ، عرض لهم فسادٌ في فِطَرهم وظلمةٌ في قلوبهم ومَحْقٌ في عقولهم ، وجعل الله تعالى بأسهم بينهم ، فها نحن نرى بأس المسلمين فيما بينهم تفرق إلى جماعات ، وأحزاب وتكتلات : ﴿ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ﴾ الروم 32 .

أيها الأخوة : إن الأمن والأمان لا يكون إلا في ظل شرع الله ، وفي تحقيق شريعة الله ، ولا يكون إلا في الإسلام الذي أنزله الله تعالى ، وما عوقب المسلمون بهذه العقوبات إلا لأنهم فرّطوا في تمسكهم بهذا الدين ، وعصوا الله تعالى، ووالله ثم والله إذا تمسك المسلمون بشرع الله وطبقوه في حياتهم ومجتمعاتهم ، فإنهم سيظفرون بكل سعادة وهناء ، والله تعالى وعد كل من آمن واستقام على شرعه بالحياة الطيبة كما قال تعالى : ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ النحل97 .

 

 

واجب العمل للدين

إنه الواجب الذي ينبغي أن لا نمل من طرحه وتكراره ليبقى حاضراً في واقعنا ، ولا يغيب عن بالنا ، في الوقت الذي حملناه بضعف ، لأننا نعاني من أزمة ضعف الإيمان  نبحث عن الجهود المخلصة في هذه الأمة ، فإذا هو لا يتناسب مع عددها ، متناسين أن الله أمرنا أن نحمله ونأخذه بقوة ، فإذا نحن كما وصف رسولنا صلى الله عليه وسلم غثاء كغثاء السيل .

واجبنا أن نواجه الحرب ضد الإسلام ومنهجه ، كما كانت هذه القضية واضحة محسومة في عقيدة سلفنا الصالح ، الذين كانوا يضحون بأنفسهم من أجل نصرة الحق ودحض الباطل ، فكانوا لا يخافون في الله لومة لائم ليقولوا للناس : إن الموت في سبيل الله خير من الموت ذلاً وجبنا  

إن إحياء الأمة من مواتها ، وبعثها من غفوتها ونومها  وحمل هذا الدين والسعي به والجهاد في سبيله ، هو من سمات المخلصين من هذه الأمة ، ولعل مواقفهم الخالدة تكون إحياءً للغافلين ، وعزاءً لمن ضحوا بأرواحهم في سبيل إعلاء هذا الدين ، دين الله ، ليعلموا أنه قد سبقهم أقوام على الطريق نفسه .

وعظ ابن الجوزي المستضيء بالله فقال له : يا أمير المؤمنين ! إذا تكلمتُ خفت منك ، وإن سكتُّ خفت عليك ، فأنا أقدم خوفي عليك من خوفي منك ، لمحبتي دوام أيامك ، وأنكم أهل بيت مغفورٌ له ، وقد كان عمر بن الخطاب يقول : إذا بلغني عن عالم ظالم أنه قد ظلم الرعية ، ولم أغيره فأنا الظالم ، يا أمير المؤمنين كان يوسف عليه السلام لا يشبع في زمان القحط ، لئلا ينسى الجياع ، وكان عمر يضرب بطنه عام الرمادة ويقول : قرْقري إن شئت أو لا ، والله لا شبعتِ والمسلمون جياع    لقد ترتب على هذه الموعظة أن أطلق المستضيء المحابيس   وتصدق وأشبع الجياع .       

وجاء في طبقات الشافعية أن العز بن عبد السلام طلع إلى السلطان في يوم عيد ، فشاهد العسكر مصطفين بين يديه وما فيه من الأبهة ، وقد خرج على قومه في زينته على عادة سلاطين مصر ، وأخذت الأمراء تقبل الأرض بين يديه ، فالتفت الشيخ إلى السلطان وناداه : يا أيوب ! ما حجتك عند الله إذا قال لك : يا أيوب ألم أُبوئ لك ملك مصر ، ثم تبيح الخمور ؟ فقال هل جرى هذا ؟ قال نعم   الحانة الفلانية تباع فيها الخمور ، وغيرها من المنكرات  وأنت تتقلب في نعمة هذه المملكة – ناداه بأعلى صوته  والعساكر واقفون – فقال السلطان يا سيدي هذا ما أنا عملته ، هذا من زمان أبي ، فقال أنت من الذين يقولون : ] إنا وجدنا آبائنا على أمة [ الزخرف 22 . فما كان من السلطان إلا أن أغلق الحانة .

 إن العمل للدين ليس مؤقت بوقت ولا محدد بزمان ولا مكان ، لأن أنبياء الله ورسله ، ومن السائرون على أثرهم ما نسوا دعوتهم ، حتى في آخر لحظات العمر ، فقد ماتوا وبقي المنهج الذي أُرسلوا بالدعوة إليه .

 إن كل مسلم ينبغي أن يكون عاملاً للدين ، مهما كان عليه ، ومهما كان فيه من خطئ ، ومهما اعتراه من تقصير ، فينبغي أن لا يضيفَ إلى أخطائِه خطاءً أخر وهو القعود عن العمل للدين ، كما ينبغي ألا يضيف إلى ذنوبه ذنبا آخر ، وهو خذلان العاملين للدين ، فلما لا يستثيرنا عمل أهل الباطل لباطلهم ، ولم لا يستنفرنا عمل أهل الدنيا لدنياهم ، وأهل المال لمالهم ، ألسنا مطالبين بأن ننصر دين الله ونقيمه ، ألا نعلم أن العمل لإقامته أمانة وميثاق ، أخذه الله على كل مؤمن تصله دعوة الإسلام ] وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لما ءَاتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ [ .  

ألا نعلم أن المسلمين لا يكونون على شيء يعتد به من أمر الدين حتى يقيموا منهجه ، وإن ادعاء الإيمان ، أو حب الله والرسول ، دون نصر الدين بالعمل لإقامته ، لا قيمة له شرعا ، لأن كل من يؤمن بالله ورسوله ويدين بالدين الحق ، فإنه لا يترك العمل لإقامة حكم الله في الأرض ، فما جاء الدين من عند الله إلا لينفذ في دنيا الواقع ، وليتبعه الناس ، وأن لا يبقى مجرد شعور وجداني في ضمائرهم ، أو مجرد تهذيب روحي في أخلاقهم ، أو مجرد شعائر تعبدية في محاريبهم ومساجدهم، أو مجرد أحوال شخصية في جانب واحد من جوانب حياتهم ، بل جاء كلاًّ لا يتجزأ ، جاء دعوة للمنحرفين والغافلين عنه   ودعوة للمتمسكين به لبعث هممهم ، وتعريفهم طريق العمل وفقه الدعوة ، وتبصيرهم بواقع المسلمين الحاضر المؤلم ، والعمل على انتشال الأمة من تيهها الذي تهيم فيه   وإلا ذاقت الويلات ،  لبعدها عن منهج الله ، لقد استمرت كلمات الداعين من كل جيل ، لا يسوغون لأحدٍ أن يقعد ويعتزل عن الدعوة إلى الله ولو أكثر العبادة 

حسبوا بأن الدين عزلة راهب    واستمرءوا الأوراد والأذكارا

عجباً أراهم يؤمنون ببعضه      وأرى القلوب ببعضه كفارا

والدين كان ولا يزال فرائضاً    ونوافـلاً لله واستغفـارا

والدين حكمٌ باسم ربك قائمٌ   بالعدل لا جوراً ولا استهتارا

إن الإسلام اليوم أحوج ما يكون إلى جماعة من الدعاة الذين يعرفون واجبهم في هداية الناس ، وإن الأرض لا تقدس أحدا ، وإنما يقدس العبد عمله كما قال سلمان : " إنما تقدسنا الدعوة والمرابطة عليها في ديار الإسلام "  فالداعية الصادق تظل هيبته الإيمانية في تصاعد ما تصاعدت هيبته لله ، وكم من المتكلمين بالإسلام ترفعه الدعاية ، فإذا عاملته وجدته جاف القلب والروح ، فما بمثل هؤلاء تنتصر الدعوة ، لأن دين الله ليس راية ولا شعارا ، إنه حقيقة تتمثل في الضمير ، وفي الحياة على حدٍ سواء  وتتمثل في عقيدة تعمر القلب وشعائر تقام للتعبد  ونظامٌ يصرّف الحياة ، وكل ما عدا ذلك فهو تمييع للعقيدة وخداعٌ للضمير .

وليعلم المثبطون للدعاة ، أن مائة ألف صحابي حضروا حجة الوداع ، لم يدفن في المدينة منهم إلا عشرة آلاف   أتدرون أين ذهب الباقون ؟ إنهم فهموا معاني الشهادة والتبليغ للرسالة ، وانطلقوا في الآفاق يمتطون خيولهم وجمالهم ، ينشرون دعوة الله ، ويبلغونها للعالمين ، أدركوا رسالتهم للعالم  ولم يكتفوا بالجلوس في بيوتهم ومساجدهم ، يقيمون نصف الدين ويتركون النصف الآخر ، وكان من آخر ما قاله أبو بكر قبل وفاته : " ولا تشغلنكم مصيبةٌ وإن عظمت عن أمر دينكم ووصية ربكم " وفي هذا أسوة للدعاة الذين يريدون الآخرة ويعملون لها ، ويعيشون بالإسلام وللإسلام إلى يوم لقاء ربهم ] يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم [ الشعراء 88 .   

 

 

أثر خوف الله في حياة المسلم

إنّ الخوف من الله فرض على كل أحد، ولهذا عُلِّق على الإيمان ، فمن كان مؤمناً حقَّاً خاف الله سبحانه قال تعالى: ] فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [ آل عمران 175 . وقال : ] وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [ .  البقرة40 . فالخوف الذي دعا إليه سبحانه في هذه الآيات   هو الخوف القائم على مراقبة الله ، والخضوع لأمره  وترك المحرمات خوفاً منه وتعظيماً له ، وهذا  يستلزم الرجوع إلى الله ، والاعتصام بحبله وقد قيل : "الخوف سوط الله يقوِّم الشاردين عن بابه".  

 قال الإمام أحمد : " من كان بالله أعرف كان منه أخوف ، فكل واحد إذا خفته هربت منه إلا الله عز وجل ، فإنك إذا خفته هربت إليه قال تعالى : ] ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين [ . ويكون الخوف محموداً ، إذا حال بين صاحبه ويبن محارم الله عز وجل ، فلا يتعامل بالربا ، ولا يأكل مالا حراما   ولا يشهد زورا ، ولا يحلف كاذبا، ولا يخلف وعدا   ولا يخون عهدا ، ولا يغش في المعاملة ، ولا يمشي بالنميمة، ولا يغتاب الناس ، ولا يترك النصيحة والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، ولا يزني   ولا يتعاطى محرما ، ولا يقصّر في الصلاة ، بل يجب أن يصلي ، لأن الخوف من الله : أن يجدك حيث أمرك ويفتقدك حيث نهاك قال تعالى : ] أقيموا وجوهكم عند كل مسجد [ لأن في الصلاة سجود   والخوف من الله فيه ، يحرق وجود الشيطان ، لأنه يتصاغر ويولول ويقول : يا ويلي أُمِر هذا بالسجود فسجد ، وأُمرت بالسجود فلم أسجد ، بل إن الخوف من الله في قلب المؤمن ، يعصمه من فتنة الدنيا ، وبدونه لا تصلح الحياة ، قال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه : ( وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين وأمنين : إذا خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة ، وإذا أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة ) رواه أبن حبان في صحيحه   كثير من الناس لا يريدون أن يعملوا ، ولا يريدون أن يتذكروا خوف الله  معتمدين على عفو الله وستره ، وما علموا أن اعتمادهم على هذا مرّة بعد مرّة ، قد يكون استدراجا من الله لهم قال الله تعالى :  ] سنستدرجهم من حيث لا يعلمون [ الأعراف 182 .  كان السلف الصالح  يخافون ويبكون ، حتى قال الله تعالى عنهم : ] ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا [ . وقال صلى الله عليه وسلم : (حرمت النار على عين دمعت أو بكت من خشية الله) . وما كانوا يخافون ويبكون ويتضرعون ، نتيجة تقصير أو عصيان أو كثرة الذنوب ، بل كانوا يخافون أن لا يتقبل الله منهم ، فلم لا ترتجف قلوبنا من الخوف تأسياً بهم   فلسنا أشرف ولا أزكى من رسولنا صلى الله عليه وسلم ، فقد كان إذا ذكرت النار يهتز قلبه ، وكان صدره كأزيز المرجل ، وكان عمر بن عبد العزيز إذا مرّ بآية من آيات النار ، شعر أن لفح جهنم في أذنيه ووجهه . 

وما دام العبد مستشعراً روح الخوف من الله ، فإن قلبه يظل عامراً بالإيمان واليقين ، ولذلك قالوا : "إذا سكن الخوفُ القلوبَ ، أحرق مواضع الشهوات منها ، وطرد الدنيا عنها ". قال ابن رجب : " القدر الواجب من الخوف ، ما حَمل على أداء الفرائض واجتناب المحارم ، فإن زاد على ذلك ، بحيث صار باعثاً للنفوس على التَّشمير في نوافل الطاعات والانكفاف عن دقائق المكروهات ، والتَّبسُّط في فضول المباحات ، كان ذلك فضلاً محموداً ".

فمن خاف الله عز وجل وخاف حكم الله فيه    ونهى نفسه عن هواها، وردها إلى طاعة مولاها فمصيره إلى الجنة قال تعالى : ] وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [ النازعات 40 وقال سبحانه : ] وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [ الرحمن 46 . وقال صلى الله عليه وسلم : ( ثلاثٌ منجيات: خشية الله تعالى في السرِّ والعلن، والعدل في الرِّضا والغضب  والقصد في الغنى والفقر. وثلاثٌ مهلكات: هوىً مُتَّبع، وشحٌّ مُطاع  وإعجاب المرء بنفسه ) البزّار والبيهقي 

فما أحوجنا اليوم إلى الخوف من الله ، لأن وازع الخوف إذا انعدم أو ضعف في النفوس ، فإنها تنتهك الحرمات، وتفعل الكبائر والموبقات ، وبذلك تفشو الرذيلة ، وتنعدم الفضيلة ، لأن الخوف يدفع لفعل الطاعات، والكف عن المحرمات .

إذَا ما خَلَوْتَ الدَّهْرَ يوماً فَلا  تَقُل خَلَوْتُ ولكن قُل عليَّ رَقيبُ

وَلا تحسـبَنَّ اللهَ يغفـلُ ساعَـةً  وَلا أنَّ ما تُخفِي عليهِ يَغيبُ

فالخوف من الله سمة المؤمنين ، وآية المتقين ، قال تعالى : ] وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ [ الرعد 21 .  وهو درجة عظيمة تدل على قوة الإيمان ، قال عمر بن عبد العزيز : "مَن خاف الله ، أخاف الله منه كل شيء   ومن لم يخف الله ، خاف من كل شيء".

وخوف الله تعالى هو الذي حجب قلوب الخائفين عن زهرة الدنيا ، وعوارض الشبهات ، وقوة مراقبة المرء لربه ، ومحاسبته لنفسه ، بحسب قوة معرفته بجلال ربه ، والخوف من وعيده .

إذا مـا الليل أظلم كابـدوه  فيسفـر عنهمُ وهـمُ ركوع

أطار الخوف نومهمُ فقاموا  وأهل الأمن في الدنيا هجوعُ     

عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم : ( دخل على شاب وهو في الموت ، فقال: كيف تجدك ، قال : أرجو الله يا رسول الله ! وإني أخاف ذنوبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن  إلا أعطاه الله ما يرجو وأمَّنه مما يخاف) رواه الترمذي وابن ماجه .

وقد ذكر الله تعالى في كتابه آيات كثيرة تدل على عِظَم شأن الخوف ، وأنه لا بد منه للمؤمن في حياته الدنيا؛ لكي يصل إلى رضا الله تعالى وجنته ، لأنه كلما زاد خوف العبد من ربِّه ، زاد عمله ، وقل عُجْبه، وقلت معصيته ، وكلما قلَّ خوف العبد من ربِّه ، نقص عمله ، وزاد عجبه ، وكثرت معصيته لذا يجب على الإنسان تنمية الخوف من الله في قلبه لأنه صفة بارزة من صفات عباد الله الصالحين  لا غنى لهم عنها ، في إقبالهم على الله تعالى ، فتراهم يؤدون حقوق الله ، وهم خائفون وجلون من عدم قبولها ، فكانوا أحرص الناس على طاعة ربهم والمسارعة إلى رضاه ، والبعد عن معصيته ، والفرار من سخطه وغضبه ، ومع ذلك يخافون من عدم قبول أعمالهم ، لأن الخوف من الله دليل كمال الإيمان وحسن الإسلام عندهم ، وخشيته في السر والعلن من صفاتهم ، لذا مدحهم الله وأثنى عليهم فقال: ] إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُون  وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُون [ المؤمنون 57 . وعن هذه الآية سألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ! قولُ الله : ] وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [ أهو الذي يزني  ويشرب الخمر ويسرق ؟ فقال: لا يَا ابنة الصِّدِّيق، ولكنَّه الرَّجل يصوم ويصلي ويتصدق ، ويخاف أن لا يُقبل منه". فمع كونهم يخشون ربهم ويؤمنون بآياته ، ولا يشركون به شيئا ، ويؤدون طاعته ، فإنهم يخافون عدم قبوله لهم ، عند الرجوع إليه ، ولقائهم له . فمن يخاف الله تعالى يتقيه ، ورد في الحديث : ( مَنْ خاف أدلج ، ومَنْ أدلج بلغ المنـزل ) من أدلج :  يعني- سرى في الليل ، وصل إلى مكان يأمن فيه . فكذلك مَنْ خاف من عذاب الله ، ابتعد عن أسبابه ، فيتَرَكَ المعاصي والمحرمات ويفعل الطاعات . قال الحافظ بن حجر في الفتح :" إن الخوف من المقامات العلية ، وهو من لوازم الإيمان قال الله تعالى : ] وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [ آل عمران 175 وقال الله تعالى : ] فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ [ المائدة44 وقال الله  تعالى: ] إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [ فاطر 28 وقال صلى الله عليه وسلم : ( أنا أعلمكم بالله وأشدكم له خشية ) وكلما كان العبد أقرب إلى ربِّه ، كان أشد له خشية ممن دونه   وقد وصف الله تعالى الملائكة بقوله : ] يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [ النحل50 والأنبياء بقوله : ] الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ [ الأحزاب 39 . وإنما كان خوف المقربين أشد ؛ لأنهم يطالبون بما لا يطالب به غيرهم ، فيراعون تلك المنـزلة " .

 

 

 

 

التجارة الرابحة

قال تعالى : ] يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم ، تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله [الصف 52 .

نداء من الله باسم الإيمان ، يدعو إلى التجارة الرابحة  ويحرض على الجهاد في سبيل الله ، وقد جاء الخطاب    بأسلوب الترغيب والتشويق ، لأن المؤمن لا يطيق أن يعيش في عالم بلا إيمان ، ولا يطيق أن يقعد بلا جهاد لتحقيق عالم يسوده الإيمان ، فلا مفر من الجهاد لإقامة منهج الله وحراسته في الأرض ، لأن الجهاد في سبيل الله ذروة سنام الإسلام، ورتبته في أعلى شعب الإيمان ، به تعلو الكلمة وتعز الأمة، وتصان الحرمات، وتحمى الديار ويطرد الأعداء ، به يتم إقرار الحق في نصابه ، ويرد البغي والظلم والطغيان ، ويكافح الشر والكيد والعدوان  إنه التجارة المنجية، والصفقة الرابحة، والبضاعة المبشرة  يحوز أهله المخلصون من المنازل أرفعها، ومن المكانة أعظمها  ومن الدرجات أعلاها، فهم الأعلون في الدنيا والآخرة .

لقد حظيت فريضة الجهاد في هذا الدين بالعناية والاهتمام، وإننا لنجد عشرات الآيات الكريمة والأحاديث الصحيحة ، تحث على الجهاد وترغب فيه، وتبين ما لأهله من الأجر والمثوبة في الآخرة ، وتنذر بالوعيد الشديد على من ركنوا إلى الدنيا، وتثاقلوا إلى الأرض، وعطلوا هذه الفريضة ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من مات ولم يغز، ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق ) مسلم 

لقد أصم المسلمون أذانهم عن الآيات والأحاديث التي ترغب في الجهاد وتحث عليه ، ورضوا أن يعيشوا هذا الواقع المرير ، فرضوا من الإسلام باسمه ، ومن الجهاد بكلمته ، وأصبحت كلمة الجهاد ، مثل كلمة دين الدولة الإسلام ، بل إنها لا تحصل على هذه المرتبة ، لأنها أُلغيت في مؤتمر دكار من قاموسهم ، فاستبعدوه بحجة عدم قدرتهم على مواجهة أعدائهم ، وأصبح عندهم الجهاد كلمة تاريخية ، لا روح فيها ، تكتب فيها الأبحاث   وتؤلف الكتب ، وتزين بها الخطب والبيانات ، علماً بأن وقع كلمة الجهاد وتأثيرها ، لا يكون إلا برفع راية الجهاد من قبل الحاكم أولاً ، لأن إجماع العلماء والفقهاء منعقد على أن الجهاد يناط إعلانه بالحاكم ، وعندما تخلى المسلمون عن رفع راية الجهاد ، أصبح الإسلام يضرب بقوة ، وبيد من حديد ، ودماء المسلمين تسيل بغزارة  والضاربون لا يخشون قصاصا ، لأن المسلمين ابتعدوا عن منهج ربهم ، وتركوا الجهاد في سبيل الله ، فسلط الله عليهم ذلاً لن ينـزعه ، حتى يرجعوا إلى دينهم ، وأصبح حالهم كما قال الشاعر :

نهارك يا مغرور سهوٌ وغفلةٌ     وليلك نومٌ والردى لك لازمُ

وشغلك فيما سوف تكره غِيّهُ  كذلك في الدنيا تعيش البهائمُ

لقد مات عند الكثير من الناس الشعور بالذنب ، والشعور بالتقصير ، حتى ظن الكثير منهم أنهم على خير عظيم  بمجرد القيام ببعض الأركان والواجبات ، وظنوا أنهم حازوا الإسلام كله ، ونسوا الذنوب والمعاصي التي ارتكبوها صباح مساء ، فتركوا الواجبات ، وفعلوا المحرّمات ، فضلاً عن الكبائر والموبقات ، ناسين أن العذاب ينتظرهم ، إن لم يتوبوا ويرجعوا عن غيِّهم 

أما والله لو علم الأنامُ    لِمَ خلقوا لما غفلوا وناموا

لقد خلقوا لِمَا لو أبصَرَته عيون قلوبهم تاهوا وهاموا

مماتٌ ثم قبرٌ ثم حشرٌ        وتوبيخٌ وأهوالٌ عظامُ

لقد تبلد الإحساس فماتت القلوب ، فما عادت تحس بذنب ولا تقصير ، ولا بما يصيب المسلمين من قتل وتهجير ، وما عاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذا أهمية قال صلى الله عليه وسلم : ( ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون على أن يغيروا عليه فلا يغيروا إلا أصابهم الله بعذاب من قبل أن يموتوا ) أبو داود .

 كثيرٌ من الناس إذا ما تحدثت معهم عن أوضاع المسلمين قالوا : ما لنا ولهم ، متجاهلين قوله صلى الله عليه وسلم : ( من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم ) ومتناسين أن أمة الإسلام عانت قديماً ظلم الصليبين ، الذين عاثوا في الأرض فساداً من نهب وقتل ، يروي التاريخ أن الناس في بغداد لمّا سمعوا ما حل بالمسلمين ، هالهم ذلك وتباكوا  فنظم أبو سعد الهروي كلاماً قُرئ في الديوان وعلى المنابر   فارتفع بكاء الناس، وندب الخليفة الفقهاء للخروج إلى البلاد   ليحرضوا الناس على الجهاد فساروا في الناس فلم يفد شيئاً ، وقد وصف الشاعر الحال يومها فقال :

أحل الكفر بالإسلام ضيماً    يطول عليه للدين النحيبُ

فحقٌ ضائعٌ وحما مباحٌ       وسيفٌ قاطعٌ و دمٌ صبيبُ

وكم من مسلمٍ أمسى سليباً  ومسلمةٍ لـها حرمٌ سليبُ

أمورٌ لو تأملهن طفلٌ         لطفّل في عوارضه المشيبُ

أتسبى المسلمات بكل ثغر    وعيش المسلمين إذاً يطيب

فقل لذوي البصائر حيث كانوا  أجيبوا الله ويحكم أجيبوا

وقد روي أن الشعراء والخطباء ، استمروا يستثيرون الهمم ولكن بلا جدوى ، وذكرت المصادر التاريخية صوراً أقبح من تقاعس بعض أولئك ، الذين تولّوا مقاليد الأمور في تلك الفترة ، أمام الفظائع التي ارتكبها الصليبيون ، وقد روي أن جمع أحد الوفود ، كيساً كبيراً مليئاً بالجماجم وشعور النساء والأطفال ، ونثروها بين يدي أحد السلاطين ، فكان جوابه لوزيره : دعني أنا في شيء أهم من هذا ، حمامتي البلقاء لي ثلاثة أيام لم أرها .

لقد عاصر المسلمون من فقدوا رشدهم ، وناموا في فراش اللهو ، وهل سقطت الدولة الإسلامية مراراً إلا لوجودهم  يذكر التاريخ أنه كان للمسلمين وجود في الأندلس ولكنهم حرموا منه ، وها هو أحدهم يقول :

إبك مثل النساء ملكاً تولى   لم تحافظ عليه مثل الرجال

وها هو شاعر يقول في قصيدة رثاء للأندلس :

أعندكم نبأ عن أهل أندلس    فقد سرى بحديث القوم ركبان

كم يستغيث بنا المستضعفون وهم أسرى وقتلى فما يهتز إنسان

وها هم أهل بغداد الذين هالهم ما فعل الصليبيون بالمسلمين في بلاد الشام ، يشربون نفس الكأس ، فقد ذكر التاريخ أن هولاكو دخل بغداد وقتل أكثر من مليون من أهلها ، لماذا ؟ لأن المسلمين كانوا أهلاً للهزيمة ، ولما صلحت أحوالهم واصطلحوا مع الله ، ثأروا لأنفسهم مما حل بهم ، فهزموا التتار كما هزموا الصليبين من قبل   ودخلوا القسطنطينية وجعلوها عاصمة الإسلام .

ولما عُرِف عن المسلمين حبهم للجهاد ، وتحملهم للتضحيات الجسام ، كي يحق الحق ويبطل الباطل ، فقد كبحوا جماح المعتدين ، وردوا فلولهم من حيث جاءت  لأنهم آمنوا بأن الإسلام ، جعل حراسة الحق ، من أرفع العبادات أجرا ، ولولا يقظتهم وتفانيهم ما بقي للإيمان منار ( قيل : يا رسول الله ! ما يعدل الجهاد في سبيل الله ؟ قال : لا تستطيعونه ، فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثا   كل ذلك وهو يقول : لا تستطيعونه ، ثم قال : مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفتر من صلاة ولا صيام ، حتى يرجع المجاهد في سبيل الله) البخاري . ولئن كان الموت من اكبر المصائب ، إلا أنه بالنسبة للمجاهدين بداية تكريم إلهي ، حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم حلف يرجو هذا المصير

 ( والذي نفس محمد بيده لوددت أن أغزو في سبيل الله فاقتل ، ثم أغزو فاقتل ، ثم أغزوا فاقتل ) البخاري . 

لقد بذل الأعداء جهوداً كبيرة ، لإبعاد المسلمين عن هذه المعاني ، وقتلها في النفوس ، ليضمن السيطرة على البلاد الإسلامية وثرواتها دون مقاومة ، وذلك بتكثير الشهوات   وتوهين العقائد والفضائل ، التي تعصم عن الدنايا    وإبعاد الإسلام موضوعاً عن كل مجال ، فرأينا من تحلل من الإيمان وفرائضه ، والقرآن وأحكامه ، كما استمات في إرخاص المثل الرفيعة ، وترجيح المنافع العاجلة ، وقد كان ذلك تمهيداً لمرور العدوان الباغي ، دون رغبة في جهاد أو أمل في استشهاد .

إن المسلمين وإن تباعدت أقطارهم إخوة في العقيدة تربطهم رابطة الإيمان، وتجمعهم عقيدة الإسلام، كالجسد الواحد وكالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً، وإن واجب الأخوة الإسلامية يقتضي أن يهتم المسلم بأمر إخوانه المسلمين، يتابع أخبارهم، ويشاطرهم آلامهم وآمالهم، ويؤدي ما استطاع من جهد ووقت ومال لتحسين أوضاعهم، وإصلاح أحوالهم .

لقد دلنا ربنا على التجارة الرابحة ، التي فيها النجاة من العذاب الأليم ، والفوز بالجنة فقال : ] ومساكن طيبة في جنات عدن [ يا لها من تجاره رابحة بكل المعاني   تجارة مدتها سنوات معدودة ، قد يبخل فيها الإنسان بأن يجاهد بماله أو بنفسه أو بالاثنين معا ليضمن حياة أبدية كلها نعيم مقيم ، فالمكاسب الأخروية تفوق كل الأوصاف ، وتفوق كل المقادير ، الم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجنة فيها ما لا عينين رأت ولا أذنا سمعت ولا خطر على قلب بشر.

والمؤمن بالله ورسوله ، يكون حريصاً دائماً على معرفة الأعمال التي يرضى عنها الله ورسوله، فالصحابة رضوان الله عليهم كانوا حريصين على ذلك كل الحرص فقد كانوا يسألون عن أحب الأعمال إلى الله عز وجل حتى يلتزموا بها ، عن ابن عباس رضي الله عنه: أن الصحابة الكرام قالوا لو نعلم ما هي أحب الأعمال إلى الله لعملناه فنزلت هذه الآية الكريمة :] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [ الصف 13 .  

نعم هذه هي التجارة الرابحة وهل هناك تجارة أربح من المتاجرة مع الله عز وجل. فالتجارة مع الله عز وجل رابحة دائماً ،  وليس فيها خسارة ، إنها التجارة مع خالق هذا الكون مع الله الذي أنعم علينا بكل هذه النعم حيث قال تعالى : ] إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُور [ فاطر 29 وأول أركان هذه التجارة الرابحة هو الإيمان بالله ورسوله ، ومن باب حرص الله على عباده ، على الالتزام بهذه التجارة استخدم الله عز وجل أسلوب الخبر الذي يتضمن الأمر فقال تعالى : ] تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [ أي آمنوا بالله ورسوله ، وجاهدوا في سبيل الله  على وجوب وسرعة الامتثال ، وكأن المخاطب قد امتثل بهذا الأمر ، فالآية تذكر المؤمنين بإيمانهم   وتؤكد لهم فضل الإيمان والثبات عليه ، وفي نفس الوقت تطلب ممن لم يؤمن ، سرعة الإيمان والامتثال لله عز وجل في جميع أعماله ، وقد ربط الله عز وجل العمل بالإيمان  فالإيمان بالله ، هو الدافع الحقيقي الذي يدفع المؤمنين للالتزام بالأحكام الشرعية ، وجعل العمل ثمرة الإيمان حيث قال تعالى : ]إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً [ الكهف 107 وهذا ما فهمه الصحابة الكرام ، فكان الدين عندهم إيمان يتلوه العمل ، وقد صدقوا في الاثنين ، وما قصروا في أي منهما ، فاستحقوا ثناء الله عليهم حيث قال الله تعالى : ] رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ [ .

 

 

 

وعد الله بالتمكين لدينه

عندما نناقش أوضاع المسلمين ، يتكلم البعض عن هذا الواقع بصورة تزرع اليأس في النفوس ، مع إن الواجب الشرعي يحتم عليهم بعث الأمل في النفوس ، وتعليق القلوب بالله وتوضيح سنن الله الكونية في خلقه ، مع تشخيص الداء وطلب الدواء وإرشاد الأمة إلى الأخذ بأسباب التمكين ، ومعرفة شروطه، فالسيرة النبوية تحدثنا أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو محاصر في المدينة من قبل الأحزاب كان يبشر الصحابة بوعد الله لهم بتملك كنوز كسرى! إنها الثقة بنصر الله ، وعدم الانهزام أمام الواقع.

وهناك رغم ما يبدو مثيراً للإحباط واليأس والقنوط   هناك من المبشرات في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ما يدعو للاستبشار بتحقيق وعد الله ، بالتمكين لدينه في الأرض ، فما من مرة سارت هذه الأمة على نهج الله    وحكّمته في كل أمورها ، إلا تحقق وعد الله بالاستخلاف والتمكين ، وما من مرة خالفت منهج الله إلا تخلفت وذلت واستبد بها الخوف ، وطمع بها الأعداء .

والتمكين في الأرض لأمة الإسلام ليس مستحيلا كما يصور البعض ، إن حققت الأمة شروطه وبذلت أسبابه والمؤمن الصادق يوقن بوعد الله بوراثة الأرض قال تعالى: ] وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء 105 ، وبصدق بشرى رسول الله صلى الله عليه وسلم للأمة بالثناء والتمكين فقال صلى الله عليه وسلم : ( بشروا هذه الأمة بالسناء والرفعة والنصر والتمكين في الأرض ) رواه احمد .   وقد وعد الله تعالى عباده المؤمنين أن يمكن لهذا الدين في الأرض ، وأن ينصر هذا الدين وأهله ، وأن يجعله عزيزاً قوياً لا تغلبه قوة ، ولا يعلوه دين قال تعالى : ] وعد الله الذين آمنوا منكم ، وعملوا الصالحات  ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم ، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم ، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً ، يعبدونني ولا يشركون بي شيئاً ، ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون [ النور55 . وعبثاً يظن أهل الباطل أنهم قادرون على القضاء على هذا الدين الذي ارتضاه الله لعباده  رغم جهودهم الجبارة وكيدهم ومكرهم على مدى الزمان ، ولقد صور الله تعالى محاولاتهم اليائسة لضرب هذا الدين ، بصورة تبين مدى ضعفهم في مواجهته ، ومواجهة هذا الحق الذي جاء من عند الله فقال تعالى : ] يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا إن يتم نوره ولو كره الكافرون   هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون [ التوبة 23 .

إن أهل الكتاب لا يقفون عند حد الانحراف عن دين الله   وإنما يعلنون الحرب على دينه ، ويريدون إطفاء نور الله في الأرض المتمثل في هذا الدين ، وفي المنهج الذي يصوغ على وفقه حياة البشر ] يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم [ فهم محاربون لنور الله ، سواء بما يطلقونه من أكاذيب ودسائس وفتن ، أو بما يحرضون به أتباعهم وأشياعهم على حرب هذا الدين وأهله ، والوقوف سداً في وجهه ، ولكن الله سيتم نوره ] ويأبى الله إلاً أن يتم نوره ولو كره الكافرون [ وهو الوعد الحق من الله   الدالّ على سنته التي لا تتبدل ، في إتمام نوره بإظهار دينه ولو كره الكافرون ، وهو وعد تطمئن له قلوب الذين آمنوا ، فيدفعهم هذا إلى المضي في الطريق ، ويفهم من الآية الوعيد للكافرين وأمثالهم على مدار الزمان ، ويزيد السياق في هذا الوعيد وذلك الوعد توكيداً : ] هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ، ولو كره المشركون [ فقد ظهر دين الحق ، في الأرض كلها قبل مضي نصف قرن من الزمان ، ظهر في إمبراطورية كسرى كلها ، وفي قسم كبير من إمبراطورية قيصر ، وظهر في الهند وفي الصين ، ثم في جنوب آسيا في الملايو وغيرها ، وفي جزر الهند الشرقية ( أندونيسيا )  وما يزال دين الحق ظاهراً على الدين كله-حتى بعد انحساره السياسي عن جزء كبير من الأرض التي فتحها وبخاصة في أوروبا وجزر البحر الأبيض . وانحسار قوة أهله في الأرض كلها ، بالقياس إلى القوى التي ظهرت في الشرق والغرب في هذا الزمان .

فدين الحق ظاهراً على الدين كله ، من حيث هو دين   فهو الدين القوي بذاته ، القوي بطبيعته ، الزاحف بلا سيف ولا مدفع من أهله ! لما في طبيعته من استقامة مع الفطرة ، ولما فيه من تلبية لحاجات العقل والروح  وحاجات العمران والتقدم ، وحاجات البيئات المتنوعة  من ساكني الأكواخ إلى سكان ناطحات السحاب! وما من صاحب دين غير الإسلام ، ينظر في الإسلام نظرة مجردة من التعصب والهوى ، حتى يقر باستقامة هذا الدين وقوته ، وقدرته على قيادة البشرية قيادة راشدة ، وتلبية حاجاتها ] وكفى بالله شهيداً [ وقد تحقق وعد الله في الصورة السياسية الظاهرة قبل قرن من الزمان بعد البعثة المحمدية . ووعد الله ما يزال متحققاً في الصورة الموضوعية الثابتة ، وما يزال هذا الدين ظاهراً على الدين كله في حقيقته . بل إنه هو الدين الوحيد الباقي القادر على العمل والقيادة في جميع  الأحوال ، ولعل أهل هذا الدين هم وحدهم ، الذين لا يدركون هذه الحقيقة ! فغير أهله يدركونها ويخشونها ، ويحسبون لها في سياستهم كل حساب ، وما تزال لهذا الدين أدوار في تاريخ البشرية يؤديها ، ظاهراً بإذن الله على الدين كله تحقيقاً لوعد الله   الذي لا تقف له جهود العبيد ، مهما بلغوا من القوة والكيد والتضليل ! وفي القرآن الكريم الآيات الحافزة للمؤمنين المخاطبين بها على حمل الأمانة التي اختارهم الله لها بعد أن لم يرعها اليهود والنصارى . وكانت تطميناً لقلوبهم وهم ينفذون قدر الله ، في إظهار دينه الذي أراده ليظهر ، وإن هم إلا أداة ، وما تزال حافزاً ومطمئناً لقلوب المؤمنين الواثقين بوعد ربهم ، وستظل تبعث في الأجيال القادمة ، مثل هذه المشاعر حتى يتحقق وعد الله مرة أخرى في واقع الحياة بإذن الله .  

فقد وعد الله المؤمنين بالنصر والتمكين في الأرض ، بل وكتبه على نفسه ، وجعله حقاً عليه أن يؤيد المؤمنين وينصرهم ، ويقف إلى جانبهم .. ذلك بأنهم يمثلون الحق المنـزل من الله عز وجل ، والله تعالى ينصر الحق وأهله  وينتقم من الباطل وأهله قال تعالى :] ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون [ الصافات 171 فالوعد واقع وكلمة الله قائمة   وقد استقرت جذور العقيدة في الأرض ، وقام بناء الإيمان   وعلى الرغم من التنكيل بالدعاة والمتبعين ، وقد بقيت عقيدة الإسلام ، تسيطر على قلوب الناس  وعقولهم    وما تزال على الرغم من كل شيء ، هي الأظهر والأبقى  في هذا العالم ، وكل المحاولات التي بذلت لمحوها   وتغليب أية فكرة أو فلسفة أخرى عليها ، باءت بالفشل   وحقت كلمة الله لعباده المرسلين ] إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون [ هذه بصفة عامة ، وهي ظاهرة ملحوظة في جميع بقاع الأرض ، في جميع العصور . وهي كذلك متحققة في كل دعوة لله ، يخلص فيها الجند  ويتجرد لها الدعاة . إنها غالبة منصورة مهما وضعت في سبيلها العوائق ، وقامت في طريقها العراقيل . ومهما رصد لها الباطل من قوى الحديد والنار ، وقوى الدعاية والافتراء ، وقوى الحرب والمقاومة ، وإن هي إلا معركة تختلف نتائجها ، ثم تنتهي إلى الوعد الذي وعده الله لرسله ، والذي لا يخلف ، ولو قامت قوى الأرض كلها في طريقه . الوعد بالنصر والغلبة والتمكين ، فقال تعالى مؤكداً هذا الوعد :] إن الذين يحادّون الله ورسوله أولئك في الأذلين ، كتب الله لأغلبن أنا ورسلي . إن الله قوي عزيز [المجادلة 20  وهذا وعد الله الصادق  الذي كان ، والذي لابد أن يكون ، على الرغم فيما قد يبدو أحياناً من الظاهر ، الذي يخالف هذا الوعد الصادق . والذي وقع بالفعل ، أن الإيمان والتوحيد قد غلبا الكفر والشرك . واستقرت العقيدة في الله في هذه الأرض   ودانت لها البشرية ، بعد كل ما وقف في طريقها من عقبات الشرك والوثنية ، وبعد الصراع الطويل مع الكفر والشرك والإلحاد ، وإذا كانت هناك فترات عاد فيها الإلحاد والشرك إلى الظهور في هذا العصر ، فإن العقيدة في الله هي التي  ستسيطر بعون الله ، وإن غيرها من العقائد إلى زوال مؤكد ، لأنها غير صالحة للبقاء   والبشرية تهتدي في كل يوم إلى أدلة جديدة تهدي إلى الاعتقاد في الله ، والتمكين لعقيدة الإيمان والتوحيد فقال تعالى بصيغة الجزم :] إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد [ غافر 51. ووعد الله قاطع جازم ، وعندما يشاهد الناس أن المؤمنين فيهم من يسام العذاب ، وفيهم من يستشهد ، وفيهم من يعيش في كرب وشدة واضطهاد ، يسألون أين وعد الله لهم بالنصر في الحياة الدنيا ؟ ويدخل الشيطان إلى النفوس من هذا المدخل ، ويفعل بها الأفاعيل ! لأن الناس يقيسون الأمور يظواهرها . ويغفلون عن قيم وحقائق كثيرة في التقدير   فهم يقيسون بفترة قصيرة من الزمان ، وحيز محدود من المكان ، وهي مقاييس بشرية صغيرة . فأما المقياس الشامل ، فيعرض القضية في الرقعة الفسيحة من الزمان والمكان ، ولا يضع الحدود بين عصر وعصر ، ولا بين مكان ومكان ، ولو نظرنا إلى قضية الاعتقاد والإيمان في هذا المجال ، لرأيناها تنتصر من غير شك . وانتصار قضية الاعتقاد هو انتصار أصحابها ، فليس لأصحاب هذه القضية وجود ذاتي خارج وجودها ، وأول ما يطلبه منهم الإيمان أن يفنوا فيها ويختفوا هم  ويبرزوها ! والناس كذلك يقصرون معنى النصر على صورة معينة معهودة لهم   قريبة الرؤية لأعينهم ، ولكن صور البصر شتى ، وقد يتلبس بعضها بصورة الهزيمة عند النظرة القصيرة   فإبراهيم عليه السلام وهو يلقى في النار ،لم يرجع عن عقيدته ولا عن الدعوة إليها ، أكان في موقف نصر أم في موقف هزيمة ؟ ما من شك - في منطق العقيدة - أنه كان في قمة النصر وهو يلقى في النار ، كما أنه انتصر مرة أخرى وهو ينجو من النار . هذه صورة وتلك صورة   وهما في الظاهر بعيد من بعيد ، أما في الحقيقة فهما قريب من قريب ! وما النصر ؟ وما الهزيمة فهو ما سنوضحه إن شاء الله .

 

 

 

غلبة الدين وقهر الرجال

وردت عبارة قهر الرجال في حديث أخرجه أبو داود في سننه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : دخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد يوماً ورأى رجلا من الأنصار يقال له أبو أمامه فقال له صلى الله عليه وسلم : مالي أراك جالسا في المسجد في غير وقت صلاة ؟ فقال : يا رسول الله همٌ نزل بي وديون لزمتني ، فقال صلى الله عليه وسلم : ألا أعلمك كلمات إن قلتها أذهب الله همّك ، قال قلت : بلى يا رسول الله قال : قل إذا أصبحت وإذا أمسيت ، اللهم إني أعوذ بك من الهّم والغم ومن العجز والكسل وأعوذ بك من الجبن والبخل وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال ) 

القهر : الغلَبة والأخذ من فوق ، وقهر الرجال في قول كثير من العلماء : ما يصيب الإنسان من هم وغم بغلبة انتُصر عليه بها ، وهو يعلم أنه على الحق وخصمه على الباطل ، وغلبة الدَّين وقهر الرجال اللذان استعاذ منهما النبي صلى الله عليه وسلم ونستعيذ بالله منها جميعاً، هما أشد ما يمكن أن يصاب به الإنسان ، يقال : إن لقمان الحكيم قال في وصاياه: وحملت الأثقال كلها فما وجدت شيئاً أثقل من الدين فلا أشد من الدين، ولا أسوأ على قلوب الرجال الشرفاء؛ أهل النبالة والكرامة من أن يأتيه صاحب الدَّين وهو بين الناس ثم يقول: متى تعطيني؟ .

 أما قهر الرجال فهو مرّ ، وإن من أَمَر الأشياء الظلم والقهر، كأن يواجهك شخص ويقهرك ، ويظلمك بشيء واضح لك كالعيان، ولكنك مقهور لا تستطيع أن تتصرف تجاهه، نسأل الله أن يعيذنا وإياكم من ذلك.  

 والدين كما قيل هم باليل وذل بالنهار .. يفقد العاقل رشده .. وينتزع بين الأصحاب وده .. بل ويؤلبهم ضده  فيا من أثقلك الدين فكدرك  وأرقك فأسهرك   وأهانك فقهرك . كلمات من مشكاة النبوه ، تفك   بإذن الله قيدك .. وتحفظ عند الناس عهدك  ( اللهم اكفني بحلالك عن حرامك، واغنني بفضلك عمن سواك ) وكلمات تقولها عند النوم :كما في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا آوى إلى فراشه كان يقول : (الـلهم رب السموات والأرض ورب العرش العظيم ، ربنا ورب كل شيء ، فالق الحب والنوى ، منزل التوراة والإنجيل والقران ،أعوذ بك من شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته ، أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء ، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء ، وأنت الباطن فليس دونك شيء  اقض الدين عنا وأغننا من الفقر ) . ومن الأدعية التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوا بها ربه دفعاً لخصاصة ( اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر ، وأعوذ بك من الفقر ، لا إله إلا أنت ) ثلاث مرات صباحاً ومساءاً

والرّجل لا يقهره إلا الرِّجال الأشداء ، وإذا قُهر الرَّجُل من قبِل الرِجال فإن قلبه يَحمِل الغيظ والحقد . وقد ورد في الأمثال " قهر الرجال يهد الجبال " هذا المثل يُضرب في توصيف القهر الذي يحصل للرجال بأنه من شدته وسطوته يهد الجبال ، ولذا قيل تعوذوا من قهر الرجال .

لأن القهر يولد الحقد ، ويفقد الحُب ويسلب الراحة  ويمرض العقول ويخل بالشعور ويضعف الإدراك ويقلب الموازين ، والإحساس بالقهر   هو الشعور الذي يجعل الإنسان يحس بالألم والعذاب ، وقمة القهر أن تضطرك الحياة لمصاحبة عدوك ، وقمة القهر أن يشعر الإنسان بالظلم ويستسلم للظالم ، وقمة القهر أن ترى غيرك يتباهى بقتل مشاعرك   ولذلك كان الصحابة يتعوذون من : قهر الرجال وفتنة المسيخ الدجال

وفي هذا المجال بين ابن خلدون أثر القهر على نفس الفرد والمجتمع فقال:"ومن كان مُرَبَّاهُ بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك، أو الخدم سطا به القهر، وضيق على النفس انبساطها، وذهب بنشاطها، ودعاه إلى الكسل وحمل على الكذب، والخبث؛ وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفا من انبساط الأيدي بالقهر عليه، وعَلَّمَهُ المكر والخديعة لذلك وصارت له هذه عادة وخلقا، وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمرن…وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل، فانقبضت عن غايتها، ومدى إنسانيتها، فارتكس وعاد في أسفل السافلين " . ولما يترتب على القهر من الكبت الذي يفسد الخلق والطبع   ويثير في المرء دواعي التمرد على القيم الاجتماعية ، جاء النهي في القرآن الكريم عن قهر اليتيم ، لأن القهر والكبت يجعل شخصية الإنسان ميالة إلى العنف، والاعتداء انتقاما للذات ممن قهره .ولذلك حذر الله من نتائج هذا القهر عن طريق النهي عنه فقال : ] فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ [ ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يحسن إلى اليتيم ويبره ويوصي باليتامى خيرا . 

 

 

 

عالمـية الإسلام

 لقد بدأت عالمية الإسلام منذ اللحظة الأولى لبعثة النبي صلى الله عليه وسلم فالإسلام عقيدة لا يختص بها شعب ، أو مجتمع أو بلد   بل هو دين للناس جميعا ، بغض النظر عن العنصر أو الوطن أو اللسان ، ولا يعترف بأية فواصل وتحديدات جنسية أو إقليمية أو زمنية ، فهو عام في المكان والزمان . جاء في تفسير القرطبي في قوله تعالى : ] تبارك الذي نـزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً [ الفرقان1.  المراد بالعالمين هنا الإنس والجن ، وها هو صلى الله عليه وسلم يخبر قومه قائلاً: ( والله الذي لا إله إلا هو إني رسول الله إليكم خاصة وإلى الناس عامة ) ولأن النبي صلى الله عليه وسلم رسولاً للجن والإنس ونذيراً لهما ، وأنه خاتم الأنبياء ، أمره الله أول ما بعثه أن يصدع بالحق ، بين عشيرته أولاً ، ولتتسع دائرة التبليغ والإنذار ، إلى أن تصل مباشرة إلى أسماع كل من يستطيع أن يسمعه ، أو يرسل من ينوب عنه في تبليغ ما جاء به من الله تعالى ، ولتحقيق ما كلف به من تبليغ رسالته لجميع الناس ، فبدأ النبي صلى الله عليه وسلم يرسل كتبه إلى كل حاكم حوله ، فأرسل إلى فارس وإلى الروم وإلى مصر  وإلى كل بلد يمكن أن يكون فيها من يستطيع تلبية الرسالة ، وما كتاباته صلى الله عليه وسلم إلى ملوك العالم في عهده إلا دليلاً قاطعاً على عالمية رسالته .

وقد أتى الإسلام بتشريعاته وأحكامه ، في كل شؤون الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، وقد جاءت هذه الأحكام لمعالجة شؤون الناس جميعا ؛ مسلمين وغير مسلمين ، كما جاءت لتقضي على التفرقة بين الناس ، وحل النـزاعات الإقليمية أو الطائفية أو العنصرية أو القبلية أو الوطنية ؛ لأن الإسلام لا يفرق بين أبيض وأسود ولا بين جنس وآخر ، وقد حارب العصبية والعنصرية والطائفية ودعا الناس إلى رابطة واحدة هي رابطة العقيدة الإسلامية وهذا واضح في قول الله تعالى :  ] يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [ الحجرات13.    

وقد أخذ الخلفاء والمسلمون من بعده صلى الله عليه وسلم يمدون هذه الرسالة حيث تنقلوا ، فكانوا وهم يحطمون جبروت الاستعمار ، متجردين لله ، وكانت حياتهم مع بعضهم البعض ، ومسالكهم مع الآخرين ، سببا في دخول بقية الأمم في الإسلام ، حتى أصبحت في مقدمة الأمم المتعصبة له والمدافعة عنه ، فكان منها العلماء والفقهاء  الذين حملوا لواء التدريس في البلاد الإسلامية ، ومضت إلى أن بلغت عهدنا الحالي ، ولو تركنا نصرته والعمل له  فسوف يأتي الله بقوم آخرين ، يعملون لرفعة هذا الدين  ونصرته قال تعالى : ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [ المائدة54 وقال تعالى : ] وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [ محمد 38 .

إن عالمية الإسلام ستبقى إلى قيام الساعة ، ولا بد أن يسيطر على العالم  قال تعالى : ] هو الذي أرسل بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون [ الصف 9 . ثم يخبرنا الله أن الكفر مهما كان قوياً   ومهما كانت أعداده كثيرة ، ومهما كانت أسلحته ماضية ، يخبرنا الله أن لا نهتم لذلك فقال تعالى : ] لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض ومأواهم النار ولبئس المصير [ النور 57 . فلن يغلبوا الله ، وقال الله تعالى : ] وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة [ آل عمران 55 . معنى هذا أن عبودية البشر كافة لله   وأن هذه العقيدة ظاهرة فوق غيرها إلى يوم القيامة   يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث طويل ( ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل ، عزاً يعز به الإسلام ، وذلاً يذل الله به الكفر ) أحمد . وفي حديث أخر ( مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خيرٌ أم آخره ) الترمذي   

وقد يسأل سائل : كيف نوفق بين هذه الأحاديث  والأحاديث التي تتحدث عن غربة الإسلام وضعفه ؟

أن الخط البياني لخط الإسلام خط متعرج ، لا يرتفع باستمرار ولا ينخفض باستمرار ، إنه يرتفع وينخفض  وإن الإسلام بين مد وجزر ، حتى في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم  فالله نصر المسلمين في بدر ، وهزمهم في أحد قال تعالى : ] وتلك الأيام نداولها بين الناس [ آل عمران 140 .     وكذلك إلى قيام الساعة ، سننتصر وننهزم ، وننتصر وننهزم ، وسيكون الإسلام غريبا في بعض الأوقات ، ثم يأنس ويعتز ويقوى ، ثم يستوحش لضعف الناصر وجهل العامل ، وما إلى ذلك ، ثم تذهب هذه العلل ، وتنقشع هذه الغُمم ، ويعود الإسلام قوياً عزيزا ، وهكذا إلى قيام الساعة ، ولكن الكلمة الأخيرة للإسلام كما قال تعالى : ] وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة [ آل عمران 55 .وإذا كنا نمرُّ في أيام ضعف ، والأعداء ينالون منا ، فإن السبب ليس من الأعداء لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها   وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها ، وأعطيت الكنـزين الأحمر والأبيض ، وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسَنة بعامَّةٍ ، وأن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ، وإن ربي قال : يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد ، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بِسنة بِعامَّة ، ولا أسلط عليهم عدّواً من سوى أنفسهم ، فيستبيح بيضتهم ، ولو اجتمع عليهم من أقطارها ، حتى يكون بعضهم يهلك بعض ، ويسبي بعضهم بعضا ) مسلم في الفتن . نعم إن أعدائنا لا يضربوننا بأيديهم ، بقدر ما يضربوننا بأيدينا نحن   فالفرقة بين العرب والمسلمين حقيقة موجودة ، وستبقى حتى يعودوا إلى الإسلام ، وحتى تكون للقرآن مكانته العملية ويوم يطبق منهج الله .  

إن أي دارس للتاريخ يعلم أن العرب ينتصرون حين يعودون إلى ربهم ، ويرجعون إلى دينهم ، ويتمسكون بشرائعهم ، وإن الرباط الذي يربط بين المسلمين ويمنع تفككهم هو الدين ، وليعلم المسلمون أن راية الإسلام هي وحدها التي تجمع الشمل ، وتوحد الصفوف ، في وقت ازدادت جراحاتهم ، وشعر أعداء الإسلام بأن الإسلام سينتهي أو كاد ، ولما تعالت الصيحات بوجوب العودة إلى الدين والتمسك به ، أخذت المؤامرة ضد الإسلام طريقاً آخر ، بأن لا مانع من العودة إلى الإسلام ، ولكنه إسلام يمكن التخلص من نصوصه ، بل وأكثر من ذلك ، يريدون منا أن نرتد عن ديننا ، وأن نتنازل عن بلادنا ، أما الارتداد عن الدين فلأنهم يحاربوننا على هذا الدين منذ أن ظهر ، وأما التنازل عن البلاد   فلأن خيراتها كثيرة ، وكنوزها موفورة ، والطاقات فيها لا تكاد تنتهي ، وأمام هذا الواقع لا خيار لنا ، إما أن نتمسك بالإسلام ، فننجوا وننجح ، وإما أن نهمله فنخسر دنيانا وآخرتنا . 

والدارس للتاريخ الإسلامي يرى أن العقيدة الإسلامية والمبادئ الإسلامية ، مكنت المسلمين الأوائل ، من أن ينجحوا في تحمل عبء الحكم ومسئولياته ، ونجحوا في حمل الدعوة إلى العالم ، وهذا يجعلنا في الوقت الحاضر أن نتطلع إلى مستقبل الإسلام باطمئنان ، فنحن أكبر منهم قوة وأكثر عددا ، إذا استكملنا ما تفوقوا به علينا    وهو الاستمساك بالدين ، والاعتصام بحبل الله المتين    والالتفاف حول راية لا إله إلا الله ، أمكننا أن نستأنف دورهم في قيادة العالم ] وقل اعملوا فسيرى الله عملكم [  

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

سنة الله في أخذ الكافرين والظالمين

دعانا الله تعالى في كثير من آياته إلى السير في الأرض ، لمعرفة سنته تعالى في أخذ الكافرين والظالمين ، وذكّرنا بمصارع الغابرين ، والأقوام السابقين . ليبين لنا أن هذه هي سنته في أخذ الكافرين في كل زمان ومكان ، مهما عظمت دولتهم  وقويت شوكتهم ، لأنهم لما نسوا الله تعالى هانوا عليه فأهلكهم   ومضت قصصهم عبرة لكل متجبر وظالم ، وبقيت آثارهم عظة لكل من له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ، حتى يعلم المؤمن أن أهل الباطل مهما بلغت قوتهم ، وصالوا وجالوا فلن يعجزوا الله تعالى ، وأنه لهم بالمرصاد ، وما هو بالإهمال لهم بل هو الإمهال والإملاء ، حتى يحين أجل الله وموعده بأخذهم وإهلاكهم وزوالهم وذهابهم .

أما إن إهلاك الكافرين والظالمين سنة من سنن الله تعالى فهذا مقرّر في قوله تعالى : ] ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ، فهل ينظرون إلاّ سنَّةَ الأولين ، فلن تجد لسنة الله تبديلا ، ولن تجد لسنة الله تحويلا [ فاطر 43 . وأما دعوة الله تعالى لنا بالسير في الأرض ، والنظر في حال الأمم السابقة التي أهلكها الله ففي   قوله تعالى : ] أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبةُ الذين كانوا من قبلهم ، كانوا هم أشدَّ منهم قوةً وآثاراً في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق [ غافر21 . وقوله تعالى : ] أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة   وآثاراً في الأرض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون [ غافر 82 . في هذه الآيات : دعوة إلى التأمل في مصائر الغابرين ، فسنة الله هي سنة الله في الجميع . وسنة الله حق ثابت يقوم عليه هذا الوجود ، والله تعالى قد يملى للقرية الظالمة ويمهلها ، ثم يأخذها بعذاب من عنده ، كما فعل الله ببعض القرى السابقة حينما كذبوا برسلهم ، وفي هذا ما يطمئن قلوب المؤمنين ، كما طمأن الله رسوله الكريم من قبل بقوله تعالى : ] وإن يُكذِّبوك فقد كذَّبت قبلَهم قومُ نوح وعادٌ وثمودُ ، وقومُ إبراهيم  وقومُ لوط ، وأصحابُ مدين ، وكُذِّب موسى ، فأملَيتُ للكافرين ثم أخذتهم ، فكيف كان نكير ،فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمةٌ فهي خاويةٌ على عروشها وبئرٍ معطلةٍ وقصرٍ مَّشيدٍ، أفلم يسيروا في الأرض فتكونَ لهم قلوبٌ يعقلون بها أو آذانٌ يسمعون بها ، فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوبُ التي في الصدور [ الحج 41.

هذا نموذج من الواقع التاريخي . نموذج يعرض ويفسر كيف يتعرض الناس لبأس الله ، وكيف تكون عاقبة تضرعهم له  وكيف يمنحهم الله الفرصة بعد الفرصة ، ويسوق إليهم التنبيه بعد التنبيه ، فإذا نسوا ما ذكروا به ، ولم توجههم الشدة إلى التوجه إلى الله والتضرع إليه ، ولم توجههم النعمة إلى الشكر والحذر من الفتنة ، وكانت فطرتهم قد فسدت الفساد الذي لا يرجى منه صلاح ، وكانت حياتهم قد فسدت الفساد الذي لا تصلح معه للبقاء . فحقت عليهم كلمة الله . ونزل بساحتهم الدمار قال تعالى : ] ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك  فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون ، فلولا أن جاءهم بأسنا تضرعوا ، ولكن قست قلوبهم ، وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون [ . ولقد عرف الواقع البشري كثيراً من هذه الأمم  التي قص القرآن الكريم على الإنسانية خبر الكثير منها ، قبل أن يولد " التاريخ " الذي صنعه الإنسان ! فالتاريخ الذي سجله بنو الإنسان حديث المولد ، لا يكاد يعي إلا القليل من التاريخ الحقيقي للبشر على ظهر هذه الأرض ! وهذا التاريخ الذي صنعه البشر حافل - على  قصره - بالأكاذيب وبالعجز والقصور عن الإحاطة بجميع العوامل المنشئة ، والمحركة للتاريخ البشري ، والتي يكمن بعضها في أغوار النفس ، ويتوارى بعضها وراء ستر الغيب ، ولا يبدو منها إلا بعضها . وهذا البعض يخطئ البشر في جمعه ، ويخطئون في تفسيره ، ويخطئون أيضاً في تمييز صحيحه من زائفه - إلا قليلا - ودعوى أي إنسان أنه أحاط بالتاريخ البشري علماً  وانه يملك تفسيره تفسيراً " علمياً " ، وأنه يجزم بحتمياته المقبلة أيضاً ، إنها أكبر أكذوبة يمكن أن يدعيها إنسان ! ومن عجب أن البعض يدعيها ! والأشد إثارة للعجب أن البعض يصدقها ! ولو قال ذلك المدعي : إنه يتحدث عن (توقعات) لا عن (حتميات) لكان ذلك مستساغاً .. ولكن إذا وجد المفتري من المغفلين من يصدقه فلماذا لا يفتري ؟ وما علم أن الله يقول الحق ، ويعلم ماذا كان ولماذا كان . ويقص على عبيده- رحمة منه وفضلا - جانباً من أسرار سنته ، ليأخذوا حذرهم ويتعظوا وليدركوا كذلك ما وراء الواقع التاريخي من عوامل كامنة وأسباب ظاهرة ، يفسرون بها هذا الواقع التاريخي تفسيراً كاملاً صحيحاً ، ومن وراء هذه المعرفة يمكن أن يتوقعوا ما سيكون  استناداً إلى سنة الله التي لا تتبدل .. هذه السنة التي يكشف الله لهم عنها ، وجاء في الآيات القرآنية تصوير وعرض لنموذج متكرر لأمم شتى .. أمم جاءتهم رسلهم فكذبوا ، فأخذهم الله بالبأساء والضراء ، في أموالهم وفي أنفسهم ، وفي أحوالهم وأوضاعهم ، ليرجعوا إلى أنفسهم ، لعلهم تحت وطأة الشدة يتضرعون إلى الله ، ويتذللون له ، وينـزلون عن عنادهم واستكبارهم  ويدْعون الله أن يرفع عنهم البلاء بقلوب مخلصة  فيرفع الله عنهم البلاء ، ويفتح لهم أبواب الرحمة .. ولكنهم لم يفعلوا ولم يلجأوا إلى الله ، ولم يرجعوا عن عنادهم ، ولم ترد إليهم الشدة وعيهم ، ولم تفتح بصيرتهم ، ولم تلين قلوبهم . وكان الشيطان من ورائهم يزين لهم ما هم فيه من الضلال والعناد : ]ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون [ . والقلب الذي لا ترده الشدة إلى الله ، قلب تحجر ومات ، فلم تعد الشدة تثير فيه الإحساس ، ولم يرجع عما زينه الشيطان من الإعراض والعناد .. وهنا يملي الله لهم ويستدرجهم بالرخاء : ] فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبوب كل شيء . حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة ، فإذا هم مبلسون ، فقطع دابر القوم الذين ظلموا ، والحمد لله رب العالمين [ نفهم من الآية أن الرخاء ابتلاء آخر كابتلاء الشدة  وهو مرتبة أشد وأعلى من مرتبة الشدة ! والله يبتلي بالرخاء كما يبتلي بالشدة  يبتلي الطائعين والعصاة سواء ، فالمؤمن يبتلى بالشدة فيصبر ، ويبتلى بالرخاء فيشكر ، ويكون أمره كله خير وفي الحديث : ( عجباً للمؤمن إن أمره كله خير وليس ذلك لأحد إلاّ للمؤمن ، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له ) مسلم .

لقد كان لتلك الأمم من الحضارة ، وكان لها من التمكين في الأرض ، وكان لها من الرخاء والمتاع ، ما لا يقل - إن لم يزد في بعض نواحيه - عما تتمتع به البشرية اليوم ، أمم مستغرقة في السلطان والرخاء والمتاع ، مخدوعة بما هي فيه ، خادعة لغيرها ممن لا يعرفون سنة الله في الشدة والرخاء ، هذه الأمم لا تدرك أن هناك سنة ، ولا تشعر أن الله يستدرجها وفق هذه السنة . والذين يدورون في فلكها يخدعهم إملاء الله لهذه الأمم  وهي لا تعبد الله أو لا تعرفه ، وهي تتمرد على سلطانه    تعيث في الأرض فساداً ، وإذا كان الله قد رفع عذاب الاستئصال بعد بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهناك ألوان من العذاب باقية ، فالعذاب النفسي ، والشقاء الروحي ، والشذوذ الجنسي والإنحلال الخلقي ، الذي تقاسي منه البشرية اليوم ، ليكاد يغطي على الإنتاج والرخاء والمتاع ، وليكاد يصبغ الحياة كلها بالنكد والقلق والشقاء ! ذلك إلى جانب الطلائع التي تشير إليها القضايا الأخلاقية السياسية ، التي تباع فيها أسرار الدول  وتقع فيها الخيانة للأمم ، في مقابل شهوة أو شذوذ ، وليس هذا إلا بداية الطريق .. وصدق رسول الله r لما قال : ( إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا - على معاصيه - ما يحب فإنما هو استدراج ) ثم تلا : ] فلما نسوا ما ذكروا به أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون [ رواه ابن جرير وابن أبي حاتم . غير أنه ينبغي التنبيه إلى أن سنة الله في تدمير (الباطل) أن يقوم في الأرض (حق) يتمثل في (أمة) ثم يقذف الله بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق   فلا يقعدن أهل الحق كسالى ، يرتقبون أن تجري سنة الله بلا عمل منهم ولا كد ، فإنهم حبنئذ لا يمثلون الحق ، ولا يكونون أهله ، وهم كسالى قاعدون ، والحق لا يتمثل إلا في أمة تقوم لتقر حاكمية الله في الأرض، وتدفع المغتصبين لها ] ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض [ فلا تغرنكم قوة الباطل ولا صولته ، فإنه لا يعجز الله تعالى الذي يقول : ] ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغرنك تقلبهم في البلاد ، كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم   وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه ، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب [ غافر4 . إنه مصير الكافرين على مر الزمان ، إذا ما أصروا على كفرهم   وعلى تكذيبهم بالرسالة ، وعلى مواجهتهم للحق ، فهي سنة ثابتة متكررة لا تتغير ولا تتبدل قال تعالى : ] ألم نهلك الأولين   ثم نتبعهم الآخرين ، كذلك نفعل بالمجرمين ، ويل يومئذ للمكذبين [ المرسلات 16 وقال تعالى] أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمّر الله عليهم وللكافرين أمثالها [ محمد 10 .

 

دور الشباب في الحياة

إننا نعيش في عصر تدور المعركة فيه على مستقبل الإسلام وقتله ، وإن الخطوة الأولى للنصر ، أن يعرف المسلمون هذه الحقيقة ، وأن يقاتلوا دونها وأن يعرفوا أن مستقبل الإسلام ، بحاجة إلى شباب يؤمن بأن مستقبلنا مرتبط باصطلاحنا مع الله ، وعودتنا إلى الإسلام ، وتطبيقنا لتعاليمه ، شباب يؤمن بالله ويحرص على مرضاته ، شباب يريد أن يؤدي واجبه طلباً لرضا الله ، شباب يؤمن بأن الأمة التي تبني مستقبلها على التسول السياسي والاجتماعي ، لا تصلح للحياة ، لأن مستقبل الأمة الإسلامية  لا يصنعه إلا المسلمون .

إن الشباب في كل أمة عماد نهضتها، وفي كل نهضة سر قوتها ، وهم الأساس الذي تُبنى عليه الحضارات وهم المستقبل الواعد ، والأمل القادم ، وقد اعتنى الإسلام بالشباب عناية فائقة ؛ فحرص على إبعادهم عن كل رذيلة ، وحثّهم على التمسك بكل فضيلة وذلك حين أوصاهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( يا معشرَ الشبابِ من استطاع منكم البَاءَة فليتزوج؛ فإنه أغَضُّ للبصرِ وأحَصَنُ للفَرْجِ، ومن لم يستطعْ فعليهِ بالصوم فإنه له وِجَاء ) رواه البخاري . كما حثّهم على ملء أوقاتهم بكل مفيد لهم ولأمتهم ، فقال صلى الله عليه وسلم : ( لا تزول قدم ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يُسأل عن خمس : عن عمرهِ فيما أفناه ، وعن شبابهِ فيما أبْلاه وعن ماله من أين اكتسبهُ وفيم أنفقه ، وماذا عمل فيما علِم ) رواه الترمذي . ووجههم إلى طاعة الله وعبادته فقال صلى الله عليه وسلم : ( سبعةٌ يُظِلُهُمُ الله في ظِلِهِ يومَ لا ظلَ إلا ظله:... وشابٌ نشأ في طاعةِ الله...) رواه البخاري.

لقد نظر الإسلام إلى الشباب نظرة خاصة ، فحبب إليهم العفة ، وفي قصة الشاب الذي أتى النبي صلى الله عليه وسلم ليستأذنه في الزنا ، خير دليل على ذلك ، فما نهره ولا زجره ولا ضربه ، وإنما ناقشه وحاوره حوارا عقليا هادئا وهادفا ، انتهى إلى اقتناع الشاب بأن الزنا فاحشة ، لا يرضاها أحد من الناس لأمه ، ولا لأخته ، ولا لبنته ، ولا لعمته ، ولا لخالته ، و هو في كل ذلك يسأل ، والشاب هو الذي يجيب مقررا هذه الحقائق ، ولمَّا تيقن باقتناعه دعا الله تعالى له  فبغض الله إليه هذه الفاحشة النكراء .

إن نجاح كل نهضة ، يرجع إلى مقدار ما يبذل فيها الشباب من جهود ، وإلى مقدار ما ارتبط بها من آمالهم وأعمالهم ، فهم طليعة الثائرين على الفساد والاستبداد ، لأنهم أقدر على المخاطرة والتضحية  لأن الشاب إن سجن ، لم يجزع على أسرة يعولها   وإن قتل ، لا تبكه امرأة أيم ، ولا ولد يتيم ، ولخفة حمله من هذه الناحية ، يكون سريع الاستجابة لنداء الواجب ، شبابٌ لا تغتاله الأعراض الطارئة مهما اشتدت وطأتها ، شبابٌ لسان حالهم لا بأس أن نموت أو نسجن فدى مبادئنا ، شبابٌ لسان حالهم : الجهاد سبيلنا ، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا .

وقد ورد في القرآن ما يدل على دور الشباب في التغيير ففي قوله تعالى : ] سمعنا فتى يذكرهم [ في سياق الثناء على سيدنا إبراهيم عليه السلام ، وكيف فعل بأصنام القوم الكافرين، وقوله تعالى : ] إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى  [ وقد عبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن حبه للشباب فقال :( نصرني الشباب ) وثبت عن أبي سعيد الخدري : " أنه كان إذا رأى الشباب قال : مرحباً بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم  أوصانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نوسع لكم في المجلس ، وأن نفهمكم الحديث ، فإنكم خلوفنا وأهل الحديث بعدنا " وكان عبد الله بن مسعود إذا رأى الشباب يطلبون العلم قال :" مرحباً بكم ينابيع الحكمة " .     

ولم لمرحلة الشباب من مكانة في حياة الأمة ، فقد قيل : إن فترة الشباب أخصب مراحل العمر  وأجدرها بحسن الإفادة ، وعظم الإجادة ، ولهذه الفترة حسابها الخاص عند الله تعالى ، لأنها مرحلة القوة ، فالإنسان يبدأ وبه ضعف الطفولة  وينتهي وبه ضعف الشيخوخة ، وقد قرر القرآن الكريم ذلك قال تعالى: ] الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفاً وشيبة [ الروم 54 . هذه القوة بين ضعفين جعلت لفترة الشباب حساباً خاصاً ، جعلت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن خمس : عن عمره فيما أفناه ، وعن شبابه فيم أبلاه   وعن ماله من أين اكتسبه ، وفيم أنفقه ، وماذا عمل فيما علم ؟ ) رواه الترمذي . وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتني بالشباب الذين وهبوا الله أعمارهم وكرسوا له قواهم ، واستطاعوا أن يكونوا قذائف الحق ، التي دمر بها الباطل ، واستطاعوا أن يكونوا طلائع الفجر ، الذي طلع على الدنيا بحضارة الإسلام  فأغناها روحياً ومادياً ، ولما ظهر هذا الشباب المؤمن حول محمد صلى الله عليه وسلم بدأ الإسلام يؤدي رسالته تأدية رائعة ، بهم مضى الإيمان في طريقه ، فهم العمدة في تحقيق النصر للأمة ، والمعتمد عليهم بعد الله في الأزمات ، هم الذين آتاهم الله تعالى القوة في كل شيء ، والفتوة في كل أمر ، بهم تحي الأمم  وبهم ترتفع الرايات وبهم تصنع الحياة وتعمر الدنيا .    

 وقد أدرك أعداء الإسلام اهتمام الإسلام بالشباب فعملوا جاهدين ، للسيطرة على الشباب ، عن طريق تغريبهم عن دينهم ، حتى تسهل السيطرة عليهم  وبحثوا عن وسائل تعينهم ، على تحقيق هذه الغاية   بنشر وسائل اللهو والفساد ، عن طريق الفن الهابط الذي يدغدغ مشاعر الشباب ، ويثير غرائزهم من جهة ، والى نشر المخدرات بأنواعها المختلفة بين شباب الأمة من جهة أخرى .

فقد أدركوا أهمية دور الشباب في حياة الأمة لما أعطاهم الله من القوة البدنية ، والقوة الفكرية ، ما يفوقون به كبار السن ، وإن كان كبار السن يفضلونهم بالسبق والتجارب والخبرة، إلا أن ضعف أجسامهم في الغالب ، وضعف قواهم ، لا يمكنهم بما يقوم به الشباب الأقوياء ، ومن هنا كان دور شباب الصحابة ، الدور العظيم في نشر هذا الدين ، تفقهاً في دين الله ، وجهادًا في سبيله ، وقد حفظوا لهذه الأمة ميراث نبيها وبلغوه ، فقد قاموا بواجبهم تجاه دينهم وأمتهم ومجتمعهم ، الذي لا تزال آثاره باقية إلى اليوم ، وستبقى بإذن الله ما بقي الإسلام.

إن واجب الشباب هذه الأيام ، أن لا يتركوا الباطل يمر دون نكير ، لأن الأمة التي يخرس صوت الحق بين  شبابها ، وتتوارث الصمت المعيب ، هي أمة تسير في طريق الذلة والمهانة ، ومن حق حياة الأمة أن تخلو من ذلك ، ويكون من أولى أولوياتها ، أن تنصح الهازلين ، بأن عقبى اللعب بمصير الشعوب ، ستقع على أم رأسهم ، وأن جرأتهم على أمتهم إن نجوا من عقابها ، وإلا فسيؤخذون بها أولاً وآخرا ] فأخذه الله نكالَ الآخرةِ والأولى ، إن في ذلك لعبرةً لمن يخشى [ النازعات 25 . 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ثمرة مراقبة الله

 إن مراقبة الله : هي دوام علم العبد وتيقنه ، باطلاع الله تعالى على ظاهره وباطنه ، وأنه ناظر إليه، سامع لقوله رقيب عليه ، قال تعالى: ]إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [ ومراقبة الله وخشيته هي التي منعت نبي الله يوسف عليه السلام عن المعصية لما راودته امرأة العزيز ] وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ [  ومراقبة الله هي التي دفعت البنت حينما أمرتها أمها أن تغش اللبن الذي تريد بيعه للناس فقالت: يا أماه ألا تخافين من عمر؟ فقالت لها أمها: إن عمر لا يرانا فقالت البنت: إن كان عمر لا يرانا فرب عمر يرانا ، وقد سمعها عمر فأعجب بها ، وسأل عنها ثم زوجها أحد أبنائه ، فكان من نسلها عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد ، ويمرُ عمرُ بامرأة أخرى تغيبَ عنها زوجها منذ شهور في الجهاد في سبيل الله عز وجل ، وإذا بها تنشد وتحكي مأساتها :

تطاول هذا الليل وازور جانبه  وأرقنـي أن لا حبيب ألاعبـه

فوالله لولا الله لا رب غيـره   لحرك من هذا السريري جوانبه

 وأعرابية أخرى يراودها رجل على نفسها كما أورد ابن رجب، ثم قال لها: ما يرانا أحد إلا الكواكب ، فقالت: وأين مكوكبها يا رجل؟ أين الله يا رجل؟ أتستخفي من الناس ولا تستخفي من الله وهو معك إذ تبيت ما لا يرضى من القول ، ومراقبة الله هي التي دفعت راعي الغنم أن يقول لعمر عندما قال له : بعني شاة من هذه الغنم؟ فقال:إنني مملوك ، فقال له عمر :قل لسيدك أكلها

 

الذئب..قال الراعي:فأين الله؟! فبكى عمر ثم غدا إلى المملوك فاشتراه من مولاه وأعتقه..وقال:أعتَقَتْك في الدنيا هذه الكلمة ، وأرجو أن تعتقك في الآخرة.

فكل هذه الخصال السامية تجدها في أولئك الذين جعلوا المراقبة من بالهم..وهى صفات عزيزة نادرة كندرة هذه الصفة:"صفة المراقبة" .

إن مراقبة الله تعالى تكشف تأمر المتآمرين ، فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين ، فهذان رجلان من قريش هما صفوان بن أمية وعمير بن وهب ، جلسا يجران أحقادهما ، تحت جدارِ الكعبة ، فتذاكرا قتلى بدر فقال صفوان : والله ما في العيش بعدهم خير ، وقال له عمير: صدقت والله لولا دينُ علي لا أملك قضاءه ، وعيالُ أخشى عليهم الضيعة بعدي   لركبتُ إلى محمد حتى أقتله فإن لي عنده علّة أعتل بها عليه ، أقول قدمت من أجل إبني هذا الأسير ، فاغتنمها صفوان وقال : علي دينُك أنا اقضيه عنك، وعيالُك مع عيالي أواسيهم ما بقوا ، فقال له عمير: فأكتم شأني وشأنك لا يعلم بذلك أحد ، قال صفوانُ: أفعل   فقام عمير وشحذ سيفَه وسمَه ، ثم انطلقَ إلى المدينة ، فلما وصل إلى هناك أناخَ راحلته على بابِ مسجد رسول الله  صلى الله عليه وسلم متوشحاً سيفه ، فرآه عمر وقال : عدو الله ، والله ما جاء إلا لشر ، ودخل عمر على رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بخبره ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أدخلُه عليّ   ودخل به عمر على النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بحمالة سيفه في عنقه ، فلما رآه  صلى الله عليه وسلم قال لعمر: أرسله يا عمر ، ثم قال ما جاء بك يا عمير. وكان له أبنُ أسير عند رسولِ صلى الله عليه وسلم  قال : جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم ، فقال صلى الله عليه وسلم : فما بالُ السيفِ في عنقك؟ قال: قبحها اللهُ من سيوف وهل أغنت عنا شيئاً  فقال  صلى الله عليه وسلم وقد جاءه الوحيُ بما يضمرُه عمير، أصدقني يا عمير ما الذي جاء بك؟ قال: ما جئت إلا لذاك ، فقال صلى الله عليه وسلم : بل قعدت أنت وصفوان في الحجر فذكرتما أصحاب القليب من قريش ثم قلت له: كذا وقال لك: كذا وتعهد لك بدينك وعيالك، واللهُ حائلُ بيني وبينك ، قال عمير: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله ، هذا أمرُ لم يحضُره إلا أنا وصفوان، فواللهِ ما أنبأك به إلا الله ، فالحمد لله الذي هداني للإسلام ،يقول عمر : " والذي نفسي بيده لخنزيرٌ كان أحب إليّ من عمير ، حين طلع علينا ، ولهو اليوم أحبُّ إليّ من بعض ولدي " ، جاء ليقتلَ النور ويطفىء النور، فرجعَ وهو شعلةُ نور اقتبسَه من صاحب النور صلى الله عليه وسلم ، واسمعوا لهذه القصة في زمن مضى لتعلموا ثمرة المراقبة لله عز وجل، رجل اسمه نوح بن مريم كان ذي نعمة ومال وثراء وجاه، وفوق ذلك صاحب دين وخلق ، وكان له ابنة ذات منصب وجمال ، وخلق ودين ، وكان معه عبد اسمه مبارك ، لا يملك من الدنيا قليلاً ولا كثيراً ولكنه يملك الدين والخلق، ومن ملكهما فقد ملك كل شيء ، أرسلَه سيده إلى بساتين له ، وقال له : اذهب إلى تلك البساتين واحفظ ثمرها وكن على خدمتها إلى أن آتيك ، مضى الرجل وبقي في البساتين ، وجاءه سيده ليستريح في تلك البساتين ، فجلس تحت شجرة وقال: يا مبارك، ائتني بقطف من عنب ، فجاءه بقطف فإذا هو حامض  فقال: ائتني بقطف آخر إن هذا حامض ، فأتاه بآخر فإذا هو حامض  قال: ائتني بآخر، فجاءه بالثالث فإذا هو حامض ، كاد أن يستولي عليه الغضب ، وقال: يا مبارك أطلب منك قطف عنب قد نضج وتأتني بقطف لم ينضج   ألا تعرف حلوه من حامضة ؟ قال : والله ما أرسلتني لأكله وإنما أرسلتني لأحفظه وأقوم على خدمته ، والذي لا إله إلا هو ما ذقت منه عنبة واحدة ، والذي لا إله إلا هو ما راقبتك، ولا راقبت أحداً من الكائنات، ولكني راقبت الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء   فأعجب سيده به وبورعه وقال: الآن أستشيرك والمؤمنون نصحة، والمنافقون غششة، والمستشار مؤتمن ، فقد تقدم لابنتي فلان وفلان من أصحاب الثراء والمال والجاه، فمن ترى أن أزوج هذه البنت؟ فقال مبارك: لقد كان أهل الجاهلية يزوجون للأصل والحسب والنسب ، واليهود يزوجون للمال ، والنصارى للجمال ، وعلى عهد رسول الله  صلى الله عليه وسلم يزوجون للدين والخلق ، وعلى عهدنا هذا للمال والجاه ، والمرء مع من أحب، ومن تشبه بقوم فهو منهم ، أي نصيحة وأي مشورة؟ نظر وقدر وفكر فما وجد خيراً من مبارك ، قال: أنت حر لوجه الله ، أعتقه أولاً ، ثم قال : لقد قلبت النظر فرأيت أنك خير من يتزوج بهذه البنت  قال: اعرض عليها ، فذهب وعرض على البنت وقال لها: إني قلبت ونظرت وحصل كذا وكذا، ورأيت أن تتزوجي بمبارك ، قالت: أترضاه لي؟ قال: نعم ، قالت: فإني أرضاه ، فكان الزواج المبارك من مبارك  فكانت ثمرة هذا الزواج  أن حملت وولدت طفلاً أسمياه عبد الله ، لعل الكل يعرف هذا الرجل ، إنه عبد الله بن المبارك المحدث الزاهد العابد ،  إنه ثمرة مراقبة الله غز وجل في كل شي ، أما والله لو راقبنا الله حق المراقبة لصلح الحال، واستقامت الأمور.

إذا ما خلوت الدهرَ يوماً فلا تقل  خلوتُ ولكن قل علي رقيبُ

  ولا تحسـبنَ اللهَ يغفـلُ سـاعةً   ولا أن ما تخفيه عنه يغيبُ

فالمؤمن يشعر بالمراقبة الإلهية في سره ونجواه ، وفي هذا من الترغيب والترهيب ما يدفعه إلى الطاعة ويمنعه من المعصية  

] فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ  [ أي: المطلع على سرائرهم وضمائرهم ] وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [ علما وسمعا وبصرا، فعلمك قد أحاط بالمعلومات وسمعك بالمسموعات، وبصرك بالمبصرات، فأنت الذي تجازي عبادك بما تعلمه فيهم من خير وشر ، ترى أحوالهم وتعلم أقوالهم وتحصى أعمالهم ، ولا يخفى عليك شيء من سرائرهم .

إنه لا واعظ أعظم من المراقبة  فراقب الله في أفعالك وأقوالك ، واعلم أن الله رقيب عليك ، يروي التاريخ قصة شاب كان أيام التتار ، يريد أن يستقيم ولا يستطيع.. فذهب إلى عالم وقال له: أنا سمعت حديث النبي  صلى الله عليه وسلم عندما قال له رجل دلني على قول في الإسلام لا أسأل عنه أحد بعدك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( قل آمنت بالله ثم استقم ) فسأل الشاب العالم كيف أفعلها ؟ فقال له: إذا أويت إلى فراشك قبل أن تنام فردد في نفسك مراراً حتى يأخذك النوم : الله ناظري، الله مراقيبي، الله شهيد علي ، ورددها حتى تنام ، فإذا استيقظت لتبدأ يومك ، فرددها حتى تخرج من بيتك ، أراد العالم بذلك أن يستقر هذا المعنى في ذهن الشاب ليلاً ونهاراً ثم قال له العالم: رددها في يومك ما استطعت، وائتني بعد سنة لتقول لي ماذا فعلت ، ولكنه بعد لقائه بالعالم تغيرت أحواله ، يقول: فكنت إذا هممت بمعصية أُردد الله ناظري ، الله مراقيبي، الله شهيد علي، وكنت إذا فعلت خيراً أقول الله ناظري، الله مراقيبي، الله شهيد عليّ   وكنت أتغير يوماً بعد يوم، ومضت سنة ولم يرجع إلى العالم ، ورأى رؤية ، أنه تاه في الصحراء وجلس على صخرة يبكي ، فإذا بكوكبة من الفرسان يتقدمهم رجل أبيض جميل، فلما رآه يبكي نزل عن فرسه وأخذه واسنتهضه وضغط على صدره وقال: قم يا محمود طريقك إلى مصر من هاهنا ستملكها وستهزم التتار. فكان الشاب هو قطز الذي استيقظ بعد هذه الرؤية وذهب إلى العالم الجليل العز بن عبد السلام الذي قال له: ستكون رؤية خير، وفعلاً تحققت الرؤية .

كثيراً ما يتجرأ الإنسان إذا كان وحيداً غائباً عن أعين الناس على أمور لا يتجرأ عليها أمامهم ، قد يبتعد الإنسان عن المعاصي والذنوب إذا كان يحضره الناس وعلى مشهد منهم، لكنه إذا خلا بنفسه، وغاب عن أعين الناس، أطلق لنفسه العنان،  واقترف السيئات، وارتكب المنكرات،  فما أعظم كفر من تجرأ على معصية الله لاعتقاده بأن الله لا يراه ، وما أشد وقاحته، وأقل حياءه إن كان يعلم اطلاعه عليه وتجاهل قوله تعالى : ] يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور [ وما علم أن منزلة المراقبة من منازل ] إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ  [ وأنها بالنسبة للعبد دوام علمه  وتيقنه باطلاع الحق سبحانه وتعالى على ظاهره وباطنه ، واستدامته لهذا العلم  واليقين بذلك هي المراقبة ، التي هي ثمرة علمه بأنَّ الله سبحانه   رقيب عليه  ناظر إليه ..سامع لقوله ..مطلع على عمله ..ومن راقب الله في خواطره ؛ عصمه الله في حركات جوارحه ، قال أحدهم : والله إني لأستحي أن ينظر الله في قلبي وفيه أحد سواه   وقال ذو النون : علامة المراقبة ..إيثار ما أنزل الله ..وتعظيم ما عظَّم الله   وتصغير ما صغَّر الله ، وقال الشافعي : أعزّ الأشياء ثلاثة  الجود من قلة ..والورع في خلوة وكلمة الحق عند من يُرجى أو يُخاف ، وقالوا : أعظم العبادات مراقبة الله في سائر الأوقات ، وقال بعضهم: ليس الخائف من بكى فعصر عينيه إنما الخائف من ترك ما اشتهى من الحرام إذا قدر عليه .

اعلموا أيها المسلمون أن من راقب الله تعالى في أفعاله وأقواله   كان من أهل الإحسان ، وأهل الإحسان هم الذين قال الله تعالى عنهم : ] للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يَرْهَقُ وجوهَهُم قَتَرٌ ولا ذِلَّةٌ أولئك صحاب الجنةِ هم فيها خالدون [  يونس 26 .

 

 

 

 

تكاليف النصر وأعباؤه

إن للنصر تكاليفه وأعباؤه في ذات النفس وفي واقع الحياة   ويمكننا أن نتعرف على هذه التكاليف وهذه الأعباء من خلال  الوقوف عند قوله تعالى: ] ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ، الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، ولله عاقبة الأمور  [الحج 41 .

فوعد الله المؤكد الذي لا يتخلف هو أن ينصر من ينصره فمن هم هؤلاء الذين ينصرون الله ، فيستحقون نصر الله  القوي الذي لا يهزم من يتولاه ؟ إنهم : ] الذين إن مكناهم في الأرض [ فحققنا لهم النصر،  وثبتنا لهم الأمر ] أقاموا الصلاة [ عبدوا الله ، ووثقوا صلتهم به   واتجهوا إليه طائعين خاضعين مستسلمين ] وآتوا الزكاة [ أدوا حق  المال ، وانتصروا على شح النفس، وتطهّروا من الحرص ، وكفلوا الضعاف فيها والمحتاجين ] وأمروا بالمعروف [ دعوا  إلى الخير والصلاح، ودفعوا إليه الناس ] ونهوا عن المنكر [ قاوموا الشر والفساد، فحققوا بهذا وذاك صفة الأمة المسلمة ، التي لا تبقي على  منكر وهي قادرة على تغييره، ولا تقعد عن معروف وهي قادرة على  تحقيقه ، هؤلاء ينصرون الله ، بنصرون نهجه الذي أراده للناس  في الحياة ، معتزين بالله وحده دون سواه ، هؤلاء هم الذين يعدهم الله بالنصر على وجه التحقيق واليقين   والأمر بعد ذلك لله ، يصرفه كيف شاء ، فيبدل الهزيمة نصرا ،  والنصر هزيمة، عندما تهمل التكاليف: ] ولله عاقبة الأمور [  فلا يعطى النصر  لأحد جزافاً أو محاباة ولا يبقى لأحد لا يحقق غايته ومقتضاه ، وهذا ما يشير إليه قوله  تعالى: ] وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في  الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا. يعبدونني لا يشركون بي شيئاً. ومن كفر  بعد ذلك فألئك هم الفاسقون [ النور  55 وحقيقة الاستخلاف في الأرض ؟ إنها ليست مجرد الملك والقهر والغلبة والحكم ، إنما هي  استخلاف بشرط استخدامه في الإصلاح والتعمير والبناء ، وتحقيق المنهج الذي رسمه الله للبشرية كي تسير عليه ، استخلاف على العمارة والإصلاح، لا على الهدم  والإفساد ، استخلاف لتحقيق العدل والطمأنينة، لا للظلم والقهر .  

 فما من مرة سارت الأمة على نهج الله ، وحكمت هذا النهج في  الحياة ، وارتضته في كل أمورها ،  إلاّ تحقق وعد الله بالاستخلاف والتمكين والأمن ، وما من مرة خالفت عن هذا النهج إلاّ تخلفت وذلّت، وطُرد دينها من الهيمنة على البشرية، واستبدّ بها الخوف، وتخطفها الأعداء ، والله تبارك وتعالى قد جعل هذه الأمة خير الأمم وأخرجها إلى الناس لتقوم بدورها، وتنهض بتبعاتها وتكاليفها قال تعالى: ] كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، وتؤمنون بالله [ آل عمران110. وهذا ما ينبغي أن تدركه الأمة المسلمة، لتعرف حقيقتها وقيمتها، وتعرف أنها أُخرجت لتكون طليعة، ولتكون لها القيادة، بما أنها هي خير أمة ، والله يريد أن تكون القيادة للخير لا للشر في هذه الأرض ،  ومن ثم لا ينبغي لها أن تتلقى من غيرها من الأمم ، إنما ينبغي دائما أن تعطي هذه الأمم مما لديها ، وأن يكون لديها دائما ما تعطيه من الاعتقاد الصحيح ، والنظام الصحيح، والخلق الصحيح   والعلم الصحيح ، وهذا هو واجبها ، أن تكون في مركز القيادة دائما ، وأن تكون لها القوة التي تمكنها من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع الإيمان الذي يحدده المعروف والمنكر: ] تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله [ فلا بد من الإيمان أيضا ليملك الدعاة إلى الخير، الآمرون بالمعروف، الناهون عن المنكر، أن يمضوا في هذا الطريق ، ويحتملوا تكاليفه ، وهم يواجهون طاغوت الشر والشهوة ، زادهم وعدتهم الإيمان   وسندهم هو الله ، وكل زاد سوى زاد الإيمان ينفد   وكل سند غير سند الله ينهار قال تعالى : ] هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله  وكفى بالله شهيداً [ الفتح 28. فقد ظهر دين الحق قبل مضي نصف قرن من الزمان ، وما يزال دين الحق ظاهراً على الدين كله-حتى بعد انحساره السياسي عن جزء كبير من الأرض التي فتحها، وبخاصة في أوروبا وجزر البحر الأبيض . وانحسار قوة أهله في الأرض كلها بالقياس إلى القوى التي ظهرت في الشرق والغرب في هذا الزمان .

فما يزال دين الحق ظاهراً على الدين كله ، من حيث هو دين ، فهو الدين القوي بذاته ، القوي بطبيعته ، الزاحف بلا سيف ولا مدفع من أهله ! لما في طبيعته من استقامة مع الفطرة ، ولما فيه من تلبية بسيطة لحاجات العقل والروح ، وحاجات العمران والتقدم ، وحاجات البيئات المتنوعة ، من ساكني الأكواخ إلى سكان ناطحات السحاب! وما من صاحب دين غير الإسلام ، ينظر في الإسلام نظرة مجردة من التعصب والهوى حتى يقر باستقامة هذا الدين وقوته الكامنة ، وقدرته على قيادة البشرية قيادة راشدة ، وتلبية حاجاتها النامية المتطورة في يسر واستقامة ] وكفى بالله شهيداً [ .

  وقد تحقق وعد الله الحق في الصورة السياسية الظاهرة قبل قرن من الزمان بعد البعثة المحمدية ، ووعد الله ما يزال متحققاً في الصورة الموضوعية الثابتة ، وما يزال هذا الدين ظاهراً على الدين كله في حقيقته . بل إنه هو الدين الوحيد الباقي قادراً على العمل والقيادة ، في جميع  الأحوال ، ولعل أهل هذا الدين هم وحدهم الذين لا يدركون هذه الحقيقة اليوم ! فغير أهله يدركونها ويخشونها ويحسبون لها في سياستهم كل حساب ، وما تزال لهذا الدين أدوار في تاريخ البشرية يؤديها ، ظاهراً بإذن الله على الدين كله تحقيقاً لوعد الله ، الذي لا تقف له جهود العبيد ، مهما بلغوا من القوة والكيد والتضليل ! وجاءت الآيات القرآنية حافزاً للمؤمنين المخاطبين بها على حمل الأمانة التي اختارهم الله لها ، وما تزال حافزاً ومطمئناً لقلوب المؤمنين الواثقين بوعد ربهم ، وستظل تبعث في الأجيال القادمة مثل هذه المشاعر حتى يتحقق وعد الله مرة أخرى في واقع الحياة بإذن الله قال الله تعالى : ] ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون [ الصافات171.

فوعد الله واقع وكلمتة قائمة  متحققة في كل دعوة لله  يخلص فيها الجند ، ويتجرد لها الدعاة ، إنها غالبة منصورة مهما وضعت في سبيلها العوائق ، وقامت في طريقها العراقيل ، ومهما رصد لها الباطل من قوى الحديد والنار   وقوى لدعاية والافتراء ، وقوى الحرب والمقاومة   وإن هي إلا معركة تختلف نتائجها ، ثم تنتهي إلى الوعد الذي وعده الله لرسله ، والذي لا يُخلف ولو قامت قوى الأرض كلها في طريقه ، إنه الوعد بالنصر والغلبة  والتمكين قال تعالى : ] إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا [ .

 

 

 

أين وعد الله بالنصر

في القرآن الكريم عشرات الوعود الربانية، التي يعد فيها سبحانه وتعالى عباده المؤمنين بوعود، تبشرهم وتطمئنهم بنصر الله وتمكينه لهم، إلا أن فهم كثير من الناس لهذه الوعود يشوبه الخلل في الفهم والتصور، فينظر إلى هذه الوعود كأنما هي بشارات ، بأن الله سيخوض المعركة بالنيابة عنهم، ناسين أن تلك الوعود لا تعمل عملها إلا بشروط ومقدمات ، فوعد الله بهزيمة الذين يكفرون ويكذبون وينحرفون عن منهج الله ، قائم في كل لحظة ، ووعد الله بنصر الفئة المؤمنة قائم كذلك في كل لحظة . وتوقف النصر على تأييد الله الذي يعطيه من يشاء حقيقة قائمة وسنة ماضية لم تتوقف ، وعلى الفئة المؤمنة أن تطمئن إلى هذه الحقيقة  وتثق  بالوعد الرباني ، وتعد للأمر عدته ، وتصبر حتى يأذن الله ، ولا تستعجل ولا تقنط إذا طال عليها الأمد ، المغيب في علم الله ، المدبر بحكمته  المؤجل لموعده الذي يحقق هذه الحكمة : ] إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار [ وقبل أن نسأل : أين وعد الله للمؤمنين بالنصر في الحياة الدنيا علينا أن نؤمن بأنه وعد من الله قاطع ، وحكم من الله جامع ، إذا استقرت حقيقة الإيمان في نفوس المؤمنين ، وتمثلت في واقع حياتهم منهجا للحياة ، ونظاما للحكم ، وتجردا لله في كل حركة ، وعبادة لله في الصغيرة والكبيرة ، حينها لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا  والدارس للسيرة النبوية والتاريخ ، يجد أن الهزيمة لا تلحق بالمؤمنين , ولم تلحق بهم في تاريخهم كله ، إلا وهناك ثغرة في حقيقة الإيمان ، إما في الشعور وإما في العمل ، ومن الإيمان أخذ العدة ، وإعداد القوة في كل حين بنية الجهاد في سبيل الله ، وتحت راية لا إله إلا الله  وبقدر هذه الثغرة تكون الهزيمة الوقتية ، ثم يعود النصر للمؤمنين   ففي أحد مثلا  كانت الثغرة في ترك طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وفي الطمع في الغنيمة ، وقد بيَّن الله تعالى أن الهزيمة ما لحقتهم إلا بمعصيتهم لله ] أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [ آل عمران   فهو سبحانه وتعالى قدير على نصركم   وعلى خذلانكم، فلما عصيتم قدَّر الله سبحانه لكم الخذلان ، الذي من أعظم أسبابه معصية الله تعالى ، وهي سبب الخلاف والتنازع، كما أنها سبب الفشل والهزيمة ، أما الطاعة فهي سبب التآلف واجتماع الكلمة   وهي سبب النصر والظفر .

وفي غزوة حنين كانت الثغرة في الاعتزاز بالكثرة والإعجاب بها 

ولو ذهبنا نتتبع كل مرة تخلف فيها النصر عن المسلمين في تاريخهم ، لوجدنا شيئا من هذا ، نعرفه أو لا نعرفه  ، أما وعد الله فهو حق في كل حين ، وأما المحنة فقد تكون للابتلاء  والابتلاء إنما يجيء لحكمة ، وهي استكمال حقيقة الإيمان  ومقتضياته من الأعمال .

 والهزيمة في أي معركة لا تكون هزيمة ، إلا إذا تركت آثارها في النفوس ، يأساً وقنوطا ، أما إذا بعثت الهمة ، وكشفت عن طبيعة العقيدة وطبيعة المعركة ، فهي المقدمة الأكيدة للنصر الأكيد ، ولو طال الطريق ، وحين يقرر النص القرآني : أن الله  ] ولن يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا  [فإنما يشير إلى أن الروح المؤمنة هي التي تنتصر ، والفكرة المؤمنة هي التي تسود  والنص القرآني إنما يدعو الجماعة المسلمة إلى استكمال حقيقة الإيمان في قلوبها ، تصورا وشعورا ، وفي حياتها واقعا وعملا  وليس بيننا وبين النصر في أي زمان وفي أي مكان ، إلا أن نستكمل حقيقة الإيمان ، ونستكمل مقتضيات هذه الحقيقة في حياتنا وواقعنا كذلك ، ومن حقيقة الإيمان أن نأخذ العدة ونستكمل القوة ، ومن حقيقة الإيمان ألا نركن إلى الأعداء   وألا نطلب العزة إلا من الله .

ووعده الأكيد للمؤمنين بالنصر , هو الوعد الذي يتفق تماما مع حقيقة الأيمان وحقيقة الكفر في هذا الكون ، فالإيمان صلة بالقوة الإلهية التي لا تضعف   والكفر انقطاع عن تلك القوة وانعزال عنها ، ولن تملك قوة محدودة مقطوعة منعزلة فانية , أن تغلب قوة موصولة بمصدر القوة في هذا الكون جميعا ، إلا عندما يتحول الإيمان إلى مظهر ، عندها فإن حقيقة الكفر تغلبه   لأن حقيقة أي شيء أقوى من مظهره .  ومتى عصى المسلمون ربهم ، أظهر عليهم الكافرين   وقد بينت الآيات القرآنية ، أن المؤمنين منصورون غالبون قاهرون لعدوهم  مهما كانت قوة العدو وعدده وعدته ، ومهما اختلت موازين القوى لصالح الكفار إذا كان المؤمنون صادقين عاملين بما يجب عليهم   تاركين لما نُهوا عنه ، وقد أخذوا من أسباب القوة ما كان في طاقاتهم ووسعهم ، ولم يقصّروا في امتلاك القوة التي يمكنهم امتلاكها   وقد قال الله تعالى مبيناً ذلك : ] وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ [ الصافات 173. والآيات في ذلك كثيرة ، وكان عمر بن الخطاب يُوصي الجيش إذا خرج للجهاد بطاعة الله فيقول : "إنكم لا تنتصرون على عدوكم بعددٍ ولا عدة ، وإنما تنتصرون بطاعتكم لله ومعصيتهم له ، فإذ تساويتم في المعصية غلبوكم بالعدد والعدة". ويبين ابن رواحة أن المسلمين لا ينتصرون على عدوهم بعدد أو عدة ، وإنما ينتصرون بطاعة المسلمين لله   ومعصية الكافرين له ، ويقول عندما استشاره زيد في لقاء الروم بعد أن جمعوا جموعاً كثيرة في مؤتة : " لسنا نقاتلهم بعدد ولا عدة والرأيُ المسير إليهم " ، إنه الجيل الذي زلزل عرش كسرى وقيصر ، وفتح البلدان والأمصار ، مع أنهم كانوا قلة في العدد والعتاد، ولكنه الإيمان الذي يصنع المعجزات  ، قال تعالى :

] فأيدنا الذين أمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين [   الصف14. وعندما سأل هرقل ملك الروم جنوده عن سرِّ هزيمتهم  مع أن عددهم يفوق بكثير عدد المسلمين، ومعهم من العدة والعتاد ما ليس للمسلمين أجابه أحدهم: "لأنهم يصومون النهار ويقومون الليل، ويحبون الموت كما نحب نحن الحياة". وقد يتأخر ويبطؤ نصر الله لحكمةٍ ما، لكن في نهاية المطاف فهو آتٍ لا محالة : ] حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [يوسف 110.

 

 

انتصار الحق على الباطل

من معالم الصراع بين الحق والباطل "انتصار الحق على الباطل في نهاية الصراع" بعد أن يتراوح المؤمنون في هذا الصراع بين النصر والهزيمة ، ويطول البلاء على المؤمنين، ويشتد الكرب.  يتمخّض عن هذا كله انتصاراً واضحاً ، وساحقاً للحق وأهله  على الباطل بكل أشكاله وألوانه ، فينصر الله الضعفاء من المؤمنين ، ويمكّن لهم في الأرض ، ويعز الله جنده  ويثبّت أولياءه ، ويُعلي الله كلمته ، ويرفع رايته ، ويهزم أعداءه   ويجعل الدائرة عليهم ، والهزائم تلاحقهم في كل مكان ، وفي أثناء ذلك ، يسقط الطغاة ، ويكثر بعد ذلك أتباع هذا الدين  وتنتشر الفضيلة  ، وتحارب الرذيلة ، ويعمّ الخير، ويزول الشر . ويعيش الناس في ظل هذا الدين في مأمن وسلام ، بعد أن ذاقوا الخوف والجوع والحروب والويلات ، والقرآن الكريم بيّن هذا في آياته : بوسائل مختلفة ، وأساليب متنوعة وطرقاً متعددة  فتارة بآية قرآنية صريحة، وتارة أخرى بإشارة قرآنية خفية ، وفي موضع بقصة قرآنية ، وفي موضع أخر بمثلٍ قرآني ، ومن الواقع والتاريخ نماذج متعددة ، وصوراً جليّة تكشف عن هذه الحقيقة مما لا يترك مجالا للشك في عدم وقوعها  ، بل هو اليقين الثابت  والحق الجازم ، والسنة الجارية ، بل هو وعد الله ، والله لا يخلف الميعاد ، فنصر الله قادم ، وفرجه قريب ، وما بعد العسر إلاّ اليسر ، وما بعد الضيق إلاّ الفرج .

إن واقع المسلمين اليوم ، وما يتعرضوا له من محن وابتلاءات   وضيق وكرب ، يتطلب البحث عن العلاج الذي يخفف الآلام   ويلملم الجراح ، ويواسي المستضعفين ، وفي القرآن الكريم الزاد المعين على ذلك ، وفيه من آيات التثبيت ما يجعل البلاء قُربة يتعبد الله بها ، فالقرآن نورٌ وضياء ، ودستورٌ ومنهاج ، وأملٌ وحياة ، يبعث النفس على الاستعلاء على الباطل مهما عَظُم وتجبر ، جاء في كثير من الآيات القرآنية تقرير انتصار الحق على الباطل ، بل أمر الله رسوله الكريم أن يعلنها واضحة صريحة بقوله تعالى : ] وقل جاء الحق وزهق الباطل ، إن الباطل كان زهوقا [ الإسراء 81 . بهذا السلطان المستمد من الله ، أعلن مجيء الحق بقوته وصدقه وثباته ، وزهوق الباطل واندحاره وجلاءه ، فمن طبيعة الصدق أن يحيا ويثبت ،  ومن طبيعة الباطل أن يتوارى ويزهق ] إن  الباطل كان زهوقا [ حقيقة يقررها بصيغة التوكيد ، وإن بدا للنظرة الأولى أن للباطل صولة ودولة ، فالباطل ينتفخ وينفش ، لأنه باطل لا يطمئن إلى حقيقة  ومن ثم يحاول أن يموه على العين ، وأن يبدو عظيماً كبيراً ضخماً راسخاً ، ولكنه هش سريع العطب زاهق ] إن الباطل كان زهوقا [ لأنه لا يحمل عناصر البقاء في ذاته إنما يستمد حياته الموقوتة من عوامل خارجية ، فإذا تخلخلت تلك العوامل  تهاوى وانهار . أما الحق فمن ذاته يستمد عناصر وجوده . وقد تقف ضده الأهواء ، وتقف ضده الظروف ، ويقف ضده السلطان ، ولكن ثباته واطمئنانه يجعل له العقبى ، ويكفل له البقاء ، لأنه من عند الله الذي جعل " الحق " من أسمائه وهو الحي الباقي الذي لا يزول . فالباطل زاهق ومن ورائه  الشيطان   ومن ورائه السلطان . ووعد الله أصدق وسلطانه أقوى . وما من مؤمن ذاق طعم الإيمان ، إلا وذاق معه حلاوة الوعد   وصدق العهد . ومن أوفى بعهده من الله ؟ ومن أصدق من الله حديثاً ؟ وبمثل هذا التوجيه الرباني ، يأمر الله نبيه أن يلقي هذه الحقيقة قذيفة في وجه الباطل وأهله ، إذ يقول الله تعالى : ] قل إن ربي يقذف بالحق علاّمُ الغيوب ، قل جاء الحق وما يُبديءُ الباطلُ وما يعيد [ سبأ49 . أي فهذا " الذي جئتكم به الحق . الحق القوي الذي يقذف به الله ، إنه تعبير مصور مجسم  متحرك . وكأنما الحق قذيفة تصدع وتنفذ ولا يقف لها أحد في طريق ، يقذف بها الله عن علم ، ويوجهها على علم ، ولا يخفى عليه  هدف ، ولا تغيب عنه غاية ، ولا يقف في وجه الحق الذي يقذف به معترض ، فالطريق أمامه مكشوف ليس فيه مستور ! جاء هذا الحق في صورة من صوره ، في الرسالة المحمدية ، وفي قرآنها ، وفي منهجها المستقيم . قل : جاء الحق . جاء بقوته ، جاء باستعلائه وسيطرته ] وما يبديء الباطل وما يعيد [ قد انتهى أمره . وما عادت له حياة   وما عاد له مجال   وقد تقرر مصيره ، وعرف أنه إلى زوال ، إنه الإيقاع المزلزل  الذي يشعر من يسمعه أن القضاء المبرم قد قضى ، وأنه لم يعد هناك مجال لشيء آخر يقال ، وإنه لكذلك . فمنذ جاء القرآن استقر منهج الحق واتضح . ولم يعد الباطل إلا مماحكة أمام الحق الواضح الحاسم الجازم . ومهما يقع من غلبة مادية للباطل في بعض الأحوال والظروف ، إلا أنها ليست غلبة على الحق . إنما هي غلبة على المنتمين إلى الحق . غلبة الناس لا المبادئ . وهذه موقوتة ثم تزول . أما الحق فواضح بين صريح  . وبمثل هذا التقرير يقول الله تعالى :] بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق [ الأنبياء 18 . إذاً " هذه هي السنة المقررة   فالحق أصيل في طبيعة الكون ، عميق في تكوين الوجود . والباطل منفي عن خلقة في هذا الكون أصلاً ، طارئ لا أصالة فيه ، ولا سلطان له ، يطارده الله ويقذف عليه بالحق فيدمغه . ولا بقاء لشيء يطارده الله ، ولا حياة لشيء تقذفه يد الله فتدمغه ! ولقد يخيل للناس أحياناً أن واقع الحياة يخالف هذه الحقيقة التي يقررها العليم الخبير . وذلك في الفترات التي يبدو فيها الباطل منتفشاً كأنه غالب ، ويبدو فيها الحق منـزوياً كأنه مغلوب . وإن هي إلا فترة من الزمان ، يمهد الله فيها ما يشاء ، للفتنة والابتلاء . ثم تجري السنة الأزلية الباقية التي قام عليها بناء السماء والأرض ، وقامت عليها العقائد والدعوات سواء بسواء ، والمؤمنون بالله لا يساورهم الشك في صدق وعده ، وفي أصالة الحق في بناء الوجود ونظامه ، وفي نصرة الحق الذي يقذف به على الباطل فيدمغه ، فإذا ابتلاهم الله بغلبة الباطل حيناً من الدهر ، عرفوا أنها الفتنة ، وأدركوا أنه الابتلاء   وأحسوا أن ربهم يربيهم ، لأن فيهم ضعفاً أو نقصاً ، وهو يريد أن يعدّهم لاستقبال الحق المنتصر  ، فيدعهم يجتازون فترة البلاء   ليستكملون فيها النقص ويعالجون فيها الضعف ، وكلما سارعوا إلى العلاج ، قصّر الله عليهم فترة الابتلاء  وحقق على أيديهم ما يشاء . أما العاقبة فهي مقررة :] بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق [ والله يفعل ما يريد ، بل جعل الله تعالى انتصار الحق على الباطل من محض إرادته تعالى  ولا راد لحكمه وقضائه فقال تعالى:] ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ، ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون [ الأنفال 7 ، وقوله تعالى :] ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون [ يونس 82 ، وقوله : ] ويمحق الله الباطل ويحق الحق بكلماته ، إنه عليم بذات الصدور [ الشورى 24 . وهذا كله موقوت بأمر الله : ]   فإذا جاء أمر الله قضي بالحق  وخسر هنالك المبطلون [ غافر 78. آيات تقرر بوضوح إرادة الله في انتصار الحق على الباطل ، وأن الحق أصيل وغالب ، وأن الباطل ضعيف طارئ ، لا أصل له ولا أساس ، وأن الله وراء المعركة القائمة بين أهل الحق وأهل الباطل ، الذي يقودها بإرادته ، ويحكم في نهايتها بانتصار الحق على الباطل ، وبهذا تطمئن النفوس ، وتهدأ الضمائر ، ويزول الشك ، ويحل محله اليقين ، فالله مع أهل الحق ، ينصرهم ويؤيدهم ، ويعينهم ، ولا ينسى عباده ، ولا يتخلى عنهم ، بل يقف إلى جانبهم ، فيحق الحق ويبطل الباطل ويمحوه ، حتى لا يعود له أثر ولا وجود.

إن معركة المصير التي قضى الله أن لا تَخْبُوَ نارُها ولا تخمد جذوتها ولا يسكن لهيبها، بل تظلُّ مستعرةً حتى يرث الله الأرض ومن عليها، هي معركة الحق مع الباطل والهدى مع الضلال والكفر مع الإيمان. وإن هذه المعركة في واقعها انتفاضةُ الخير أمام صولةِ الشر ، في كل صوره وألوانه، في كل زمان ومكان مهما اختلفت راياته وكثر جنده وعظم كيده وأحدق خطره ، وهي لذلك ليست وليدةَ اليوم بل هي فصولٌ متعاقبة موغلةٌ في القدم ، يرويها الذكر الحكيم، تبصرةً وذكرى للذاكرين، وهدى وموعظة للمتقين ، ومِن سننِه جلّ وعلا أنَّ الحقّ والباطلَ في هذه الدنيا في صراعٍ دائم مستمِرّ، ليستبينَ مَن هو صادقُ الإيمان قويّ اليقين ، مِمّن يعبُد اللهَ على حرف، فإن أصابه خيرٌ اطمئنَّ به ، وإن أصابته فتنةٌ انقلبَ على وجهِه خسر الدنيا والآخرة .

ومِن تلك السنن أن ابتلى عبادَه المؤمنين ؛ بأعدائِهم ليظهرَ مَن كان صادقًا ثابتًا على الحقّ يقول الله تعالى : ] وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ ٱلْمُجَـٰهِدِين َ مِنكُمْ وَٱلصَّـٰبِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَـٰرَكُمْ [ محمد31 ويقول الله تعالى: ]وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَـٰكِن لّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [ محمد 4 ويقول : ] مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِيَذَرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيّبِ [آل عمران 179. ومِن سننِه تعالى أنّ هذا الدينَ سيظلّ إلى أن يرِث الله الأرضَ ومن عليها ، خاتمة الأديانِ كلِّها، فعنه r قال: (ولا تزال طائفةٌ من أمّتي ظاهرين على الحقّ، لا يضرّهم من خذلهم ولا مَن خالفهم حتى يأتيَ أمر الله وهم على ذلك ) . فأيّ قوةٍ مهما عظُمت على وجه الأرض لن تستطيعَ  القضاء على هذا الدّين قال تعالى: ] إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَـٰفِظُونَ [ الحجر 9  وقال تعالى : ] يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفْوٰهِهِمْ وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَـٰفِرُونَ [ الصف 8 . فكم تعرَّضت الأمّة لحملاتٍ من أعدائها على اختلاف القرون ، ولكن لا يزال هذا الدينُ ظاهرًا قويًّا، مَن تمسَّك به ودعا إليه ورفع رايتَه فالعزُّ والتوفيق من الله له قال تعالى: ] إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ ٱلأَشْهَـٰدُ [ غافر51  وقال:] وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَـٰلِبُونَ [ الصافات171 وما على المؤمنِ أن يأخذَ بأسباب النّصر والتمكين، حيث يقول تعالى : ] وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُ [ الحج40 ويقول : ] يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ [ محمد 7 .  

 

 

أمثلة لانتصار الحق على الباطل

ذكر القرآن قصصاً تدل على انتصار الله لعدد من أنبيائه ورسله ، في معرض مواجهتهم لأقوامهم ، وما لا قوه في سبيل دعوتهم من المصاعب والأذى ، وهذه القصص مفادها العظة والعبرة ، وهي دروس يستشف منها المسلم ما يعينه على مواصلة المسير ، مهما اشتد عليه البلاء ، فله في الأنبياء مَثَلٌ وقدوة ، وله في قصصهم عظة وعبرة  وهي قصص يتبين من خلال العرض القرآني لها ، كيف تدخلت يد القدرة الإلهية ، لانتصار هؤلاء الرسل وكيف نجو من أذى أقوامهم ، فقد ذكر الله تعالى في كتابه الكريم قصة نوح عليه السلام ، وبينت الآيات مدى الجهد الذي بذله في تبليغ رسالة ربه إلى قومه ، وما لاقاه في سبيل دعوته ، كما ذكرت الآيات نهاية هذا الجهد النبوي انتصار الله لنوح عليه السلام ولمن آمن معه ، وإهلاكه  للكافرين قال تعالى : ] كذبت قبلهم قومُ نوح  فكذَّبوا عبدَنا وقالوا مجنونٌ وازدُّجر ، فدعا ربه أَني مغلوب فانتصر ، ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيوناً فالتقى الماء على أمر قد قُدِر وحملناه على ذاتِ ألواح ودُسُرٍ   تجري بأعيننا جزاءً لمن كان كُفِر [ القمر9.

إن المسلمين من أتباع نوح عليه السلام ، وتذكر بعض الروايات أنهم اثنا عشر ، كانوا حصيلة دعوته في ألف سنة إلا خمسين عاما ، قد استحقت أن يغير الله لهم المألوف من ظواهر هذا الكون ، وأن يجري لهم ذلك الطوفان الذي غمر كل شيء وكل حي وقتها في الأرض   وأن يجعلهم وحدهم هم وارثي الأرض بعد ذلك ، وبذرة العمران فيها والاستخلاف من جديد ، لأن وجود البذرة المسلمة أمر عظيم في ميزان الله تعالى ، وشيء يستحق منه سبحانه أن يدمر الجاهلية وأرضها وعمرانها وقواها ومدخراتها جميعاً ، كما يستحق منه سبحانه أن يرعى هذه البذرة ، حتى تسلم وتنمو وترث الأرض وتعمرها من جديد! إنهم يستحقوا أن يسخر الله لهم القوى الكونية الهائلة ، وليس من الضروري أن تكون هي الطوفان . فما الطوفان إلا صورة من صور تلك القوى ] وما يعلم جنود ربك إلا هو [ وما على هذه الفئة المؤمنة إلاّ أن تثبت وتستمر في طريقها ، وأن تعرف مصدر قوتها وتلجأ إليه ، وأن تصبر حتى يأتي الله بأمره ، وأن تثق أن الله لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء . وأنه لن يترك أولياءه إلى أعدائه ، إلاّ فترة الإعداد والابتلاء  ومتى مرَّت هذه الفترة ، فإن الله سيصنع لها ويصنع بها في الأرض ما يشاء .

فلا ينبغي لأحد يواجه الجاهلية بالإسلام ، وأن يظن أن الله تاركه لقوى الكفر ، كما أنه لا ينبغي له أن يقيس قوته الذاتية إلى قوى الكفر ، فيظن أن الله تاركه لهذه القوى حين يستنصر به فيدعوه : ] أني مغلوب فانتصر [  

إن القوى في حقيقتها ليست متكافئة ولا متقاربة ، وقوى الشرك والكفر تملك قواها ، ولكن الداعي إلى الله يستند إلى قوة الله ، والله يملك أن يسخر له بعض القوى الكونية - حينما يشاء وكيفما يشاء -  فيدمرها ، وقد تطول فترة الابتلاء لأمر يريده الله ، فنوح عليه السلام لبث في قومه ألف سنة إلاّ خمسين عاماً ، قبل أن يأتي الأجل الذي قدره الله ، ولم تكن حصيلة هذه الفترة الطويلة إلاّ اثني عشر مسلماً .. ولكن هذه الحفنة من البشر كانت في ميزان الله تساوي تسخير تلك القوى الهائلة والتدمير على البشرية الضالة جميعاً ، وتوريث الأرض لتلك الحفنة الطيبة لتعمرها من جديد .

إن عصر الخوارق لم يمض ! فالخوارق تتم في كل لحظة - وفق مشيئة الله - ولكن الله يستبدل بأنماط من الخوارق أنماطاً أخرى ، تلائم واقع كل فترة ومقتضياتها ، وإذا كانت أغلب العقول لا تدرك هذه الخوارق ، فإن الموصولين بالله يرون يد الله دائماً ، ويلامسون آثارها المبدعة ، وما عليهم إلاّ أن يؤدوا واجبهم كاملاً ، بكل ما في طاقتهم من جهد ، ثم يدَعوا الأمور لله في طمأنينة وثقة   وعندما يُغلبون ، عليهم أن يتوجهوا إلى الله بالدعاء كما توجه نوحٌ عليه السلام  : ]فدعا ربه أني مغلوب فانتصر [  ثم ينتظروا فرج الله القريب . وانتظار الفرج من الله عبادة   وعلى هذا الانتظار مأجورون .

 وجاء في القصص القرآني كيف نجى الله تعالى نبيه إبراهيم - عليه السلام - ورد كيد الكافرين ، بل وألحق بهم الخسارة في الدنيا والآخرة ، وكيف تحقق وعد الله لعباده المخلصين ووعيده لأعدائهم المكذبين : ] فأرادوا به كيداً فجعلناهم الأسفلين [ وأين يذهب كيد العباد إذا كان الله يريد ؟ وماذا يملك أولئك الضعفاء من الطغاة   إذا كانت رعاية الله تحوط عباده المخلصين ] وقالوا حرّقوه [ ولكن كلمة أخرى قد قيلت ، فأبطلت كل قول ، وأحبطت كل كيد   ذلك أنها الكلمة العليا التي لا ترد : ] قلنا : يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم [  فكانت برداً وسلاماً ، كيف ؟ : ] إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له :كن يكون [ . فلا نسأل .كيف لم تحرق النار إبراهيم ، والمشهود المعروف أن النار تحرق الأجسام الحية ؟ فالذي قال للنار : كوني حارقة . هو الذي قال لها : كوني برداً وسلاماً . وهي الكلمة الواحدة التي تنشئ مدلولها عند قولها كيفما كان هذا المدلول  مألوفاً للبشر أو غير مألوف ، وما علينا إلا أن نؤمن بأن هذا قد كان لأن صانعه يملك أن يكون ، أما كيف صنع بالنار فإذا هي برد وسلام ؟ وكيف صنع بإبراهيم فلا تحرقه النار ، فذلك ما سكت عنه النص القرآني لأنه لا سبيل إلى إدراكه بعقل البشر المحدود ، وليس لنا سوى النص القرآني من دليل ] يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم [ وإن هي إلا رمز للكلمة التي تبطل كل قول  وتحبط كل كيد ، لأنها الكلمة العليا التي لا ترد .

وقد ذكر الله تعالى -في مواضيع كثيرة من كتابه- قصة موسى عليه السلام ، فقص الله علينا قصته منذ ولادته  ونشأته ، ثم دعوته لقومه ولفرعون ، وما منّ الله به عليه   ومن آمن معه ، بالنجاة من فرعون وجنوده ، ثم ما لحق فرعون وجنوده من الغرق والهلاك ، وكذلك ما منّ به على بني إسرائيل - بعد ذلك - من التمكين في الأرض  والاستخلاف فيها ] إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم ، إنه كان من المفسدين ،ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلَهم أئمةً ونجعلَهُمُ الوارثين ، ونمكنَ لهم في الأرض ونُريَ فرعون وهامان وجنودَهُما منهم ما كانوا يَحْذَرون [ القصص  1-6. والطغاة تخدعهم قوتهم وسطوتهم ، فينسون إرادة الله وتقديره ، ويحسبون أنهم يختارون لأنفسهم ما يحبون   ويختارون لأعدائهم ما يشاءون .ويظنون أنهم على هذا وذاك قادرون .

وقد تعرض رسولنا صلى الله عليه وسلم لما تعرض له الأنبياء والرسل السابقين من الأذى والابتلاء ، وصبر على ذلك كله    ولما أرادت قريش أن تتخلص من الرسول صلى الله عليه وسلم وتقضي على دعوته ، عندها تدخلت يد القدرة الإلهية للانتصار لرسوله صلى الله عليه وسلم، حتى وصل إلى المدينة المنورة بسلام  تحت حفظ الله ورعايته ، وفي ذلك مثل للمؤمنين في كل زمان   وللدعاة إلى الله ، ليعلّمهم أن الله معهم ، يؤيدهم  وينصرهم ، وإن فقدوا كل أسباب العون والقوة ، وفي بيان هذا يقول الله تعالى : ] إلاّ تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ، ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول صاحبه ، لا تحزن إن الله معنا ، فأنزل الله سكينته عليه  وأيده بجنود لم تروها ، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى  وكلمة الله هي العليا ، والله عزيز حكيم [ التوبة (40)  

  ذلك حين ضاقت قريش بمحمد ذرعاً ، كما تضيق القوة الغاشمة دائماً بكلمة الحق ، لا تملك لها دفعاً ، ولا تطيق عليها صبراً ، فائتمرت به وقررت أن تتخلص منه  فأطلعه الله على ما ائتمرت ، وأوحى إليه بالخروج  فخرج وحيداً إلاّ من صاحبه الصديق ، لا جيش ولا عدة  وأعداؤه كثر ، وقوتهم إلى قوته ظاهرة .  

ذلك مثل على نصرة الله لرسوله ولكلمته ، والله قادر على أن يعيده على أيدي قوم آخرين ، غير الذين يتثاقلون ويتباطأون. وهو مثل من الواقع إن كانوا في حاجة بعد قول الله إلى دليل !  وهكذا تجلت قدرة الله في نصرته لأنبيائه ورسله ، مما قصه الله تعالى علينا في كتابه الكريم  والتي تلقي في النفس المؤمنة ، ظلال الطمأنينة والثقة والتثبيت ، في زمن اليأس والعجز والضعف ، وهذه هي حكمة ذكر قصص الأنبياء والرسل في كتاب  الله  كما ذكر الله تعالى لرسوله بقوله:] وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك ، وجاءك في هذه الحقُّ   وموعظةٌ ، وذكرى للمؤمنين [ هود 120 . كان هذا القصص يتنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلمفي مكة . والقلة المؤمنة معه محصورة بين شعابها ، والدعوة الإسلامية مجمدة فيها   والطريق شاق طويل ، لا يكاد المسلمون يرون له نهاية ! فكان هذا القصص يكشف لهم عن نهاية الطريق  ويأخذ بأيديهم وينقل خطاهم في هذا الطريق .

 إن القرآن لا يتفتح عن أسراره إلا للعصبة المسلمة التي تتحرك به ، لتحقيق مدلوله في عالم الواقع . لا لمن يقرأونه لمجرد التبرك ! ولا لمن يقرأونه لمجرد الدراسة الفنية أو العلمية ، ولا لمن يدرسونه لمجرد تتبع الأداء البياني فيه !

إن هؤلاء جميعاً لن يدركوا من هذا القرآن شيئاً يذكر . فإن هذا القرآن لم يتنـزل ليكون مادة دراسة على هذا النحو ، إنما تنـزل ليكون مادة حركة وتوجيه .

إن الذين يواجهون الجاهلية الطاغية بالإسلام الحنيف  والذين يجاهدون البشرية الضالة لردها إلى الإسلام من جديد ، والذين يكافحون الطاغوت في الأرض ليخرجوا الناس من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده ، إن هؤلاء وحدهم هم الذين يفقهون هذا القرآن ، لأنهم يعيشون في مثل هذا الجو الذي نزل فيه ، ويحاولون المحاولة التي كان يحاولها من تنـزل عليهم أول مرة  ويتذوقون في أثناء الحركة والجهاد ما تعنيه نصوص القرآن   لأنهم يجدون هذه المعاني ممثلة في أحداث ووقائع ، وهذا وحده جزاء على كل ما يصيبهم من آلام ، لا بل إنه لفضل من الله كبير ] قل فبفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون [ .  

 

 

 

الهجرة دروس وعبر

اعتبر المسلمون الهجرة بداية تاريخهم في هذه الحياة ، ولم يكن هذا التصرف إلا فقهاً منهم في دينهم ، وقد كانت الهجرة انتقال نفسي  وانتقال روحي وانتقال فكري  كانت ثورة على الظلم والفساد  وانطلاقاً من الحياة الضيقة المضطهدة ، إلى عالم أفضل تزدهر فيه كلمة الحق   وتعلو مشيئة الله .

عبرت الهجرة عن بطولة الإيمان ، التي اكتملت في نفس النبي صلى الله عليه وسلم والذين معه الذين ضحوا بالأهل والمال والولد والأسرة في سبيل العقيدة ، فحققوا قوانين النصر في أنفسهم وفي تنظيمهم ، فأمدهم الله بالقوة ، وأنزل عليهم السكينة ، وأيدهم بجنود لم يروها ، هؤلاء المؤمنون هم الذين أعطوا الهجرة بأعمالهم الخالدة روح الخلود ، فعلّموا الأجيال كيف ترجح المبادئ بكل ما توزن به من مآرب أو متاعب ، وكيف تتخطى كل ما يعوقها من صعاب  ولو أدرك المسلمون من التأريخ الهجري هذا المعنى السامي ما اضطربت أحوالهم ، فلا هم الذين حرصوا على الحياة لدينهم ، ولا هم الذين ماتوا دون أن ينال أعداؤهم منهم 

تعلمنا من الهجرة أن الباطل مهما حشد من قوة ، ومَلَك من سلاح فهو مندحر في النهاية ، لأن الله يأبى أن ينصر الباطل ، ويذل أولياءَه الذين تسلحوا بسلاح الإيمان  وهذا يمنحنا درساً ينبغي أن نستوعبه في نضالنا المعاصر  وهو أن نصبر ونعرف أن النصر مقترنٌ بالصبر ، وألا نرهب الباطل أو نيأس من النصر ، لأن حقنا واضح  وسلاح الإيمان أقوى سلاح ، بهذا نكون قد عرفنا طريقنا   ومن عرف طريقه وصل إلى هدفه من أجل هذا يجب علينا ألا نساوم أو نفرط أو نستسلم لأعدائنا ، وأن نلتزم المنهج الذي التزمه رسول الله صلى الله عليه وسلم لننتصر ، كما انتصر بإيمانه وصموده ، وأن نعلم علم اليقين ، أن حقنا المقدس لا ينال إلا بالجهاد. 

لقد كانت هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، هجرة قلوب وأرواح ، قبل أن تكون هجرة جسومٍ وأشباح ، وبذلك صارت درساً معلماً ورائدا ً لأرباب الشجاعة والصدق  والوفاء والحق ، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها  

في هذه الذكرى ينبغي أن نوثق الربط بين الهجرة والعقيدة   الهجرة التي لولاها لما كان للإسلام وجود عالمي  ينسف بالحق المنتصر إرادة الجبابرة الظالمين ، ويضع حداً لمأساة القهر والظلم والتخلف ، التي تردت فيها البشرية ، ويهيئ للمستضعفين في أرض الله ، حياة كريمة تنقلهم من عبادة العبادة العباد إلى عبادة الله .

إن من الدروس المستفادة من ذكرى الهجرة ، أن الحق لا بد أن ينتصر مهما طال عليه الأمد ، ومهما قل مساندوه   وأن الباطل لا بد مندحر  مهما تبجح وعلا في القوة وكثر مشايعوه ، وأن النصر مع الصبر ، فما تعجل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا كف عن الدعوة إلى ربه ، ولا تسرب اليأس إلى فلبه ، في وقت قل فيه المعين وعز النصير .

كما نتعلم من ذكرى الهجرة أن الإعداد المادي والروحي عنصر أساسي لتحقيق النصر ، فقد رتب رسول الله صلى الله عليه وسلم رحلة الهجرة ، ورسم سبيلها  وخطط بالمعرفة الذكية والعقل المستنير وسائلها وغاياتها ، ووضع الخبرات البشرية في وضعها المناسب ، وجعل الخطة سرّية ، كما اعتمد على عنصر المفاجأة ، فلم يترك ثغرة للعدو ينفذ من خلالها ، حتى إذا أتم الإعداد   اتجه إلى ربه يطلب الإمداد ، فالتقى الإمداد بالإعداد ، على أمر قد قُدر  فجاء نصر الله والفتح ، إنه درس من دروس الهجرة ، يُساق إلى المتواكلين الذين ينتظرون من الله ، أن يُقدِّم لهم كل شيء   وهم لم يقدموا شيئا . 

لقد كانت الهجرة تعبيراً صادقاً ، عن طبيعة الإيمان في النفوس ، وعندما ترتقي النفوس وتسمو بالطهر والإيمان  تتحقق لها الهجرة المعنوية التي تهيب بالمسلمين أن يعيشوا حياةً إسلامية ، تتحقق فيها فضائل الإسلام وآدابه  وتطبق فيها شريعة الله .

وعندما ترتفع النفس المؤمنة فوق الشهوات والآثام  وتتحول بالإيمان إلى طاقة بناءة ، فإنها بذلك تحقق معنى الهجرة النفسية . هجرة الانتقال الصاعد من السيئ إلى الحسن ، ومن الشر إلى الخير ، ومن الفساد إلى الصلاح  ومن الرجس إلى الطهر ، ومن حياة الظلام والخطيئة ، إلى حياة النور والإيمان ، بحيث تظل هذه النفس المؤمنة    ثائرة على الهبوط والإسفاف ، جانحة إلى رفض الواقع المهين  

إن لكل عضو من أعضاء المؤمن هجرة ، فاليد مثلاً تهاجر من البطش والإيذاء إلى المعاونة والمصافحة ، واللسان يتحول من الثرثرة الفارغة  وتمزيق الأعراض ، إلى القول السديد ، والحديث المفيد ، والعين تنتقل في رحلة معنوية من الترصد لمناظر الفتنة والسوء ، إلى رؤية الحق والخير والجمال ، والتطلع في أسرار الكون والحياة ، لتصل إلى المعرفة الحقة ، والقلب يهجر الحقد والحسد والأثرة ، إلى حسنات الحب والخير والمودة والإيثار ، والعقل يدَع التفكير السيئ ، إلى بناء عالم مؤمن كريم .

وإلى هذه الهجرة التي تعبر بحق عن روح الإيمان وتدعم وجوده ، وتحيله إلى سلوك طاهر ، وحياة نظيفة يشير النبي صلى الله عليه وسلم بقوله ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده   والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه ) هجرةٌ من الذنوب والسيئات والشهوات والشبهات ومجالس المنكرات .

إن الوفاء لذكرى الهجرة ، يقتضينا أن نعمل على إيقاف الانهيار في أنفسنا لنتحول إلى مسلمين حقيقيين ، فنكون أداة للتغيير كما أراد لنا رب العزة ] كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر [  

ولن يتغير وضعنا ولن يحدث التغير في حياتنا ، ولن نأخذ مكاننا في قيادة امتنا ، وقيادة العالم ، إلا يوم نصعد بأنفسنا ونهاجر بقلوبنا وضمائرنا ، إلى مستوى حملة الرسالة الأوائل ، إيماناً وصدقاً وعلماً ووعيا وجهاداً وبذلاً   إن هذه الذكرى تدعونا لأن نجسد الإيمان في حياتنا ، فما يجوز أن يصبح القرآن نظرية تدّرس ، بل يجب أن يتحول إلى مبادئ تُغرس  فالنفوس الطيبة تنقل المعاني القرآنية من قلب المصحف إلى قلب الحياة  ليصبح القرآن بها حياةً تمارس ، وواقعاً يعيشه الأفراد والجماعات .        

ويا ليت المسلمين في هذه الذكرى يعرفون قيمة التضحية في سبيل الحق ، أو ليتهم يعرفون معنى الجهاد في سبيل الواجب ، إذاً لكان للإسلام شأن غير هذا الشأن   وحال غير هذا الحال ، بل ليت المسلمين يهجرون أهوائهم وشهواتهم ، ولذائذهم ورغباتهم ، كما هجر السابقون أموالهم وأوطانهم لله ، مؤمنون بأن جنسيةَ المسلمِ ووطنِه هي عقيدتُه ، وأن المسلمُ تبعًا لهذا المبدأ ، لا يَهِنُ ولا يستكين ولا يقبل الذلَّ ، ولا يقبلُ  الضعفَ    ] وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [ .

 

 

النجاة من النار

قال تعالى :] يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذابٍ أليم ، تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله .. [  

هذه وصية وإرشاد من الله تعالى لعباده المؤمنين   لأعظم تجارة ، وأجل مطلوب ، وأعلى مرغوب  يحصل بها النجاة من العذاب الأليم ، والفوز بالنعيم المقيم وقد أرشدنا رسولنا صلى الله عليه وسلم إلى الطريقة التي نتقي بها النار حيث قال صلى الله عليه وسلم (من أستطاع منكم أن يتقي النار فليتصدق ولو بشق تمرة ، فمن لم يجد فبكلمة طيبة)رواه أحمد ومسلم ، فالإنفاق في سبيل الله والصدقة على الفقراء والمساكين والأرامل تعتبر من أفعال الخير العظيمة ، التي تقي مصارع السوء وتقي من النار ، وقد أمر الله المسلمين بالتصدق والإنفاق  فقال تعالى : ( يا أيها الذين أمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلةٌ ولا شفاعةٌ والكافرون هم الظالمون) البقرة 254 .

وهذا من لطف الله بعباده ، حيث أمرهم بتقديم شيء مما رزقهم ، ليكون لهم ذخراً وأجراً ، في يوم يحتاج فيه العاملون إلى مثقال ذرة من الخير ، وحتى من لم يجدوا ، فقد أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتصدق ، فقال r  : ( على كل مسلم صدقة ، فقالوا يا نبي الله ! فمن لم يجد ، قال يعين ذا الحاجة الملهوف ، قالوا فإن لم يجد ، قال : فليعمل بالمعروف وليمسك عن الشر ، فإنها له صدقة ) البخاري ، وأكد لنا صلى الله عليه وسلم أن الصدقة في الدنيا تطفئ غضب الرب ، وتقي من ميتة السوء - أي أنها تقي المسلم من الخاتمة السيئة - فقال صلى الله عليه وسلم : ( إن الصدقة تطفئ غضب الرب ، وتدفع ميتة السوء )رواه الترمذي وحسنه . ومع ذلك فإن هذه الصدقة لا تنقص من مال المتصدق شيء ، مهما كان مقدارها فقد روى الترمذي عن أبى كبشة الأنماري أن رسول صلى الله عليه وسلم قال : ( ثلاثة أقسم عليهن وأحدثكم حديثاً فاحفظوه : ما نقص مال من صدقة, ولا ظُلم عبد مظلمة فصبر عليها إلا زاده الله بها عزا, ولا فتح عبد باب مسألة ، إلا فتح الله عليه باب فقر ) , وقال صلى الله عليه وسلم :  ( ما من يوم يصبح العباد فيه ، إلا وملكان ينـزلان فيقول أحدهما : اللهم أعط منفقاً خلفاً  ويقول الآخر : اللهم أعط كل ممسك تلفاً ) رواه مسلم

وهناك أعمالٌ تنجي من النار ، جعلها الله أسباباً للمغفرة والعفو والرضوان ، منها : الصبر على موت ثلاثة من الولد ، قالr  : ) من دفن ثلاثة من الولد حرّم الله عليه النار ) الطبراني وصححه الألباني . ومنها : من عال ثلاث بنات أو أخوات ، وأحسن إليهن لما روت عائشة أن رسول r قال : ( ليس أحد من أمتي يعول ثلاث بنات أو ثلاث أخوات ، فيحسن إليهن إلا كن له ستراً من النار ) رواه البيهقي وصححه الألباني . ومنها : من دافع عن أخيه المؤمن وهو غائب قال صلى الله عليه وسلم : ( من ذبّ عن عرض أخيه بالغيبة ، كان حقاً على الله أن يعتقه من النار ) رواه أحمد وصححه الألباني .

ومنها : من صلى أربعين يوماً في جماعة يدرك التكبيرة الأولى فقد روى أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من صلى لله أربعين يوماً في جماعة ، يدرك التكبيرة الأولى كتب له براءتان : براءة من النار وبراءة من النفاق ) رواه الترمذي وحسنه الألباني . ومنها : من حافظ على صلاة الفجر والعصر قال صلى الله عليه وسلم : ( لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس ، وقبل غروبها ) رواه مسلم  . ومنها : فعل المعروف قـال صلى الله عليه وسلم :

( لكل معروف صدقة ) فالجزاء الذي وعد الله به صانع المعروف ، وفاعل الخير مع الخلق ، هو أمر يرخص عنده كل غالٍ ، روى أبو هريرة أن رسول الله r قال : ( من يسر على معسر ،  يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ) رواه ابن ماجه . ومما يغفر الذنوب وينجي من عذاب الآخرة ، ما روى حذيفة أن رسول الله r قال : ( تلقت الملائكة روح رجل ممن كان قبلكم ، فقالوا: أعملت من الخير شيئاً ؟ قال : لا ، قالوا: تذكر ، قال : كنت أداين الناس   فآمر فتياني أن ينظروا المعسر ، ويتجوزوا عن الموسر ، قال : قال الله : عز وجل تجوزوا عنه ) رواه البخاري وفي رواية عند مسلم ( فقال الله أنا أحق بذا منك   تجاوزوا عن عبدي ) .

فاصنعوا المعروف ، تنالوا مغفرة الله تعالى ، وتدخلوا جنته ، وأحسنوا إلى عباد الله , وأدوا إليهم حقوقهم الواجبة والمستحبة ، حتى يحسن الله إليكم , وييسر لكم أموركم , ويفرج عنكم كربكم في الدنيا والآخرة ، قال زيد بن علي بن حسين : " ما شيء أفضل من المعروف إلا ثوابه وليس كل من يرغب فيه يقدر عليه ، ولا كل من قدر عليه يؤذن له فيه فإذا اجتمعت الرغبة والقدرة والإذن ، تمت السعادة للطالب والمطلوب منه " وكان يقال : اصنع المعروف إلى كل أحد ، فإن كان من أهله فقد وضعته في موضعه ، وإن لم يكن من أهله ، كنت أنت من أهله . وقال الشاعر :

ولم أر كالمعروف أما مذاقه  فحلو وأما وجهه فجميل

 وقيل : من زرع معروفا حصد خيرا ، ومن زرع شرا حصد ندامة ، وقال ابن المبارك :

يد المعروف غنم حيث كانت   تحملها شكور أو كفورففي شكر الشكور لها جزاء    وعند الله ما كفر الكفور

وقد قيل : ليس للأحرار ثمن إلا الإكرام ، فأكرم حرا تملكه ، وقال المتنبي :

إذا أنت أكرمت الكريم ملكته  وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا

وقيل : دواء من لا يصلحه الإكرام الهوان    وأنشدوا:من لم يؤدبه الجميل    ففي عقوبته صلاحه

ولذلك قالوا : فعل الخير مع الأشرار تقوية لهم على الأخيار ،  ولا ينبغي أن يحرم الخير أهله ، ولا ينبغي أن يحرم الخير حقه ، فإن وضع الخير في غير محله فهو ظلم للخير كما قيل : لا تمنعوا الحكمة أهلها فتظلموهم ، ولا تضعوها في غير أهلها فتظلموها   وقال علي رضي الله عنه : " كن من خمسة على حذر ، من لئيم إذا أكرمته ، وكريم إذا أهنته   وعاقل إذا أحرجته ، وأحمق وفاجر إذا مازجته "  

إن في الاستقامة على أمر الله بمراد الله لوجه الله  نجاة من النار ، لأن الاستقامة جزء لا يتجزأ من أركان الإيمان ، لما تبنيه في نفس العبد من ثبات لأركان الإسلام ، فهي طريق المؤمنين ونهج الصالحين بها يسدد العبد ويقارب ، فيكسب الحسنات   ويفعل الطاعات ، بها تقال العثرات وتمحى الزلات  

ويوسع للعبد المؤمن في رزقه ، ويغدق الله عليه الخيرات ، قال تعالى : ] وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً [ 16 الجن .

 

بها يقبل الله العمل ، و يمحو الزلل قال الله تعالى : ]  إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنـزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم بها توعدون [ .

إنّ الاستقامة والثبات عليها أمر لا مناص منه للمؤمن  خصوصاً في زمن التقلبات والأهواء والفتن ، وفي زمن المساومة على دين الله تعالى ، إنها أفضل سلاح يستطيع المؤمن من خلاله أن يتخطى هذه العقبات   التي تقف في طريقه ، وتعترض سبيله ، وحينئذٍ لا يضره من خالفه ، ولا من خذله ، حتى يأتي أمر الله  إن الاستقامة كلمة جامعة ، معناها الثبات على شريعة الله ، كما أمر الله ظاهراً وباطناً ، وهي تتعلق بالأقوال والأفعال ، والأحوال والنيات   فالمستقيم على دين الله ، يكون ثابتاً على الحق لا يزيد ولا ينقص ، ولا يبدل ولا يغير ، بل يكون معتدلاً مقتصداً ، لا يشدد ولا يتساهل ، وعن سفيان بن عبد الله رضي الله عنه قال : قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسال عنه أحداً غيرك ، قال : ( قل آمنت بالله ثم استقم ) رواه مسلم . 

هذا الحديث يبين المنهج الصحيح الذي فيه نجاه العبد ويتلخص في صحة الإيمان ، وسلامة المعتقد   والالتزام بشرع الله ، وموافقته ظاهراً وباطناً .

فلا يكون الإنسان مستقيماً على دين الله بمجرد قوله أمنت بالله لقوله تعالى : ] ومن الناس من يقول آمنا فإذا أُوذي في الله جعلَ فتنَةَ الناسِ كعذابِ الله [ العنكبوت 10 . فإذا أوذي بضرب أو أخذ مال ليرتد عن دينه ، جعل ذلك صاداً له عن الإيمان والثبات على دين الله ، فينحرف عند أدنى محنه ، ويضل عند أدنى شبهه  ويستسلم عند أول شهوه ، أولئك الذين يقولون ما لا يفعلون , دينهم ما تهواه أنفسهم , وما يوافق رغباتهم  متجاهلين أن الدين ليس بالأقوال والأماني ، بل هو إيمان   وتصديق واستسلام ، وقول وعمل ، بذلك يحصل للعبد ما وعده الله به ، من خصال الكرامة قال تعالى : ] إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا [ فصلت30 .

  

 

 

الكيد للإسلام وأهله

قال تعالى : ] يُرِيدُون َلِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْكَرِهَ الْكَافِرُونَ [ الصف 8 .

قديماً وقف بنو إسرائيل في وجه الدين الإسلامي وقفة العداء والكيد والتضليل , وحاربوه بشتى الوسائل  حربا ، لم تضع أوزارها حتى اليوم .

حاربوه بالاتهام ، والدس والوقيعة ، والتآمر مع المنافقين تارة ومع المشركين تارة ، وحاربوه بالإشاعات الباطلة والأكاذيب ، واستطاعوا أن يقضوا على دولة الخلافة ، آخر مظهر من مظاهر الحكم الإسلامي ، وإذا كان للباطل جولة ، فإن للحق جولات ، فقد جاء في كتاب الله من البشائر ما يشير إلى ضعف كيد الكافرين وضلال سعيهم  الذين يكيدون للإسلام وأهله ، ويبذلون جهوداً كبيرة لحرب المسلمين في عقيدتهم وإفساد دينهم ، في حين أن المسلمين غافلون عما يكاد لهم ، ويراد بدينهم  قال تعالى: ] إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون [ فكم من المليارات أنفقت ولا زالت تنفق للصد عن سبيل الله ، وتنحية دين الله ، وتنصير عباد الله ، وكم من المليارات أنفقت للحركات التبشيرية ، وكم أنفقوا لتدمير كيان الأسرة المسلمة  وإشاعة الرذيلة ، عن طريق القنوات الفضائية ، وعن طريق الأفلام والمسلسلات الفاجرة ، والصور الخليعة الماجنة ، والقصص الهابطة ، وعن طريق شبكات الإنترنت ، فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون ، والمتأمل في قول الله تعالى: ] إنهم يكيدون كيداً وأكيد كيداً فأمهل الكافرين أمهلهم رويدا [ وقوله عز وجل :]  ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين [ يرى أنه مهما كادوا لدين الله ، ومهما بذلوا لمحاربته ، فالله لهم بالمرصاد ، ففي كل مرّة يكيدون للإسلام ، يعود الإسلام أقوى مما كان في نفوس أتباعه ومحبيه ، لأنه الدين الوحيد الذي يملك أسباب البقاء والقوه ، على الرغم من كل حملات   الكيد والتنكيل ، لأنه الدين الذي لا يمكن أن تطفئه الأفواه , وإن خيل للطغاة الجبارين ، المصنوعين على أعين الصليبيين واليهود ، أنهم بالغو هذا الهدف البعيد ! لقد جرى قدر الله أن يظهر هذا الدين , فكان من الحتم أن يكون : ] هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [ وشهادة الله لهذا الدين بأنه دين الهدى ودين الحق ، هي الشهادة ، وهي كلمة الفصل التي ليس بعدها زيادة .

ولقد تمت إرادة الله ، فظهر هذا الدين على الدين كله ، ظهر في ذاته كدين , فما يثبت له دين آخر في حقيقته وفي طبيعته ، فقد ظهر هذا الدين قوة وحقيقة ونظام حكم ، على الدين كله ، وما تزال لهذا الدين أدوار في تاريخ البشرية يؤديها , ظاهرا بإذن الله ، على الدين كله تحقيقا لوعد الله ، إن التدخل المباشر في شئون المسلمين ، وزرع الفتنة بين قادتهم ، أدى إلى تفرقهم ، لأنهم يعرفون جيداً أن القادةَ الذين رفعوا راية الجهاد ، ودانتْ لهم الممالك  التي لم تخضع لهم ، لكثرةِ عددهم أو قوةِ عُدَّتهم   وإنما خضعت لعظمة دينِهم ، وقوةِ إيمانهم وشدةِ تماسكهم واتحادهم ، حتى إنَّ رابطةَ الإيمانِ عندهم ، كانت أقوى من رابطةِ النَّسَب ، بل إنهم كانوا إذا اختلفوا على أمر من الأمور ، لا يتركون فرصةً لعدوٍهم ، ليضربَ مسلماً بمسلم أو أخاً بأخيه فهذا معاويةُ بن أبي سفيان ، يضربُ لنا أروعَ الأمثالِ في ذكاءِ المؤمنِ ويقظتِهِ ووعيِهِ ، وعدم استجابتهِ لإغراءاتِ أعداءِ الإسلام ، وذلك حين أرادَ هرقلُ أن ينتهزَ فرصةَ الخلافِ الذي كان بينه وبين عليِّ بن أبي طالبٍ ، حيثُ أرسلَ إليه هرقلُ يقول: يامعاويةُ : لقد علمتُ ما كان بينَك وبينَ صاحبِك، فإن شئتَ أرسلتُ إليك بجيش قوي ، يأتي لك بعليٍّ مُكبَّلاً بالأغلال بين يديك!.
وما كان لمعاويةَ أنْ يُخْدَعَ ، ولا أن يستعين بكافرٍ على مسلمٍ، فلم يقبلْ هذا العَرْضَ ، بل لقَّنَ هرقلَ درساً لا يُنْسى حيث بيَّن له أن أمةَ الإسلام ، لا يَفُتُّ في عَضُدِها خلافٌ بين أخوين، فالكُل يدٌ واحدةٌ على من سواهم حتى وإن اختلفوا فيما بينهم، فماذا قال معاوية ؟ إنه أرسل رداً إلى هرقلَ أفقدَهُ صوابَه   أرسل إليه يقول: من معاويةَ بنِ أبي سفيان إلى هرقلَ أما بعد : فأنَا وعليٌّ أخوانِ ، كُلٌّ منَّا يرى أن الحق له، ومهما يكن من أمرٍ ، فما أنت بأقربَ إليَّ من عليٍّ، فاكففْ يا هرقلُ عنَّا ، خُبْثَكَ وشَرَّكَ ، وإلا أتيتُ إليك بجيشٍ جَرَّارٍ، عليٌّ قائدُه ، وأنا تحتَ إمْرَةِ عليٍّ ، حتى أُمَلِّكَهُ الأرضَ التي تحتَ قدميكَ!.  

هكذا كانوا في إيمانِهم وذكائهِم وترابطهِم ، حتى استحقوا أن يصفهم الله تعالى بقوله ] مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [ فلماذا لا  نتَشَبَّهُ بهم إنْ لم نكن مثلَهم ، إنَّ التَشَبُّهَ بالرِّجالِ فَلاحُ .

أما آن لنا أن نُفِيقَ بعد هذه المصائب التي نزلتْ بأمتنا ونتنبَّه إلى ما قاله أحدُ أعداءِ الإسلامِ ، يحذر قومه من قوة هذا الدين ، رغم تضَافُرِهم عليه حيث قال: أنا لا أجهل أنَّ أمة الإسلام اتخذت القرآنَ مهجوراً  وأنها فُتِنَتْ بالمال كغيرها من الأُمم ، ولكني أخاف أنَّ قوارعَ العصر ستوقظُ هذه الأمةَ وتردُّها إلى شريعة محمد، إني أحذركم وأنذركم من دين محمد حامي الذِّمَار وحارسِ الذِّمَمِ والأعراض، دينِ الكرامةِ والشرفِ، دينِ الأمانةِ والعفافِ، دينِ المروءةِ والبطولةِ، لا يفرق بين مالك ومملوك، ولا يُؤْثِر سلطاناً على صعلوك، يُزَكِّي المالَ من كُل دَنَسٍ فابذلوا جُهدَكم أن يَظلَّ هذا الدينُ مُتوارياً عن أعْينِ الناس!. أرأيتم كيف يعرف أعداءُ الإسلامِ مواطنَ القوةِ في ديننا ؟ وكيف يخططون لإضعافِ هذه القُوَى ، ونحن المسلمين عن كل ذلك غافلون ؟.

 إن الحكومات والمنظمات التنصيرية في الغرب ترصد ميزانيات مالية ضخمة لوقف المد الإسلامي  ومواجهة تيار الأسلمة ، الذي استطاع اختراق الخارطة الأوروبية بقوته الذاتية ، ومعجزته القرآنية     فترى محاولات تشويه الإسلام ، تنطلق في أماكن متعددة ، وترى الصحف الغربية تطلق التحذيرات من الانتشار الواسع لدين الإسلام ، بين النصارى فقد جاء في مقال نشر في مجلة (التايم) الأميركية « ستشرق شمس الإسلام من جديد، ولكنها هذه المرة تعكس كل حقائق الجغرافيا، فهي لا تشرق من المشرق كالعادة، وإنما ستشرق في هذه المرة من الغرب». أما جريدة (الصاندي تلغراف) البريطانية فقالت: «إن إنتشار الإسلام مع نهاية هذا القرن ومطلع القرن الجديد ليس له من سبب مباشر إلا أن سكان العالم من غير المسلمين ، بدؤوا يتطلعون إلى الإسلام، وبدؤوا يقرؤون عن الإسلام فعرفوا من خلال اطلاعهم ، أن الإسلام هو الدين الوحيد القادر على حل كل مشاكل البشرية» وقالت مجلة (لودينا) الفرنسية بعد دراسة قام بها متخصصون «إن مستقبل نظام العالم ، سيكون دينياً، وسيعود النظام الإسلامي على الرغم من ضعفه الحالي، لأنه الدين الوحيد الذي يمتلك قوة شمولية هائلة». وإضافة إلى ذلك يقوم الغرب بتنظيم تنظيم ندوات ومحاضرات ومهرجانات ثقافية ، في العواصم الغربية ، للحديث عن الإسلام والمسلمين ، والجهاد والمجاهدين، ومن أجل تشويه المفاهيم الإسلامية لدى المفكرين والمثقفين في أوروبا وأميركا على وجه الخصوص ، مما يوجب علينا أن نعمل لمواجهة الحملة الغربية المنكرة على الإسلام، كما يجب علينا أن نعمل للوصول إلى النفوس العطشى من الشعوب الغربية التي اكتوت بنيران الرأسمالية ، وذاقت خواءها الروحي ، وفراغها  الفكري ، لقد أراد الله لنا أن نكون رؤوساً بالإسلام ، قادة برسالته ، فإذا عاودهم الحنين إلى جاهليتهم ، وآثروا الانتماء إلى قوميتهم   فإننا ننذرهم بقوله تعالى : ] إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا [

 

 

 

 

 

 

الساكت عن الحق

قد يهرب أحدنا من ثقل المسؤولية ليتستر خلف مفاهيم واهية مغلوطة ، وضعت في غير موضعها. فيقول ما قاله سيدنا أبو بكر الصديق " من تمام كمال المرء وإيمانه تركه ما لا يعنيه" وآخر يقول : الله يقول : ] ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة [ فآثر الناس جهلاً بمفهوم الآية ، ترك الجهر بكلمة الحق  لأن الآية نزلت في الدعوة إلى الإنفاق في سبيل الله والجهاد ، وأن التارك لذلك يعرض نفسه لهلاك الدنيا والآخرة ، ولا يفهم من الآية النهي عن الجهر بكلمة الحق ، بل جاء في الحديث ما يدل على الجهر بكلمة الحق ، ولو أدى ذلك إلى الاستشهاد  عن ابن عباس قال : قال رسول الله : ( سيد الشهداء حمزة بن عبد المطَّلب، ورجل قام إلى إمام جائر  فأمره ونهاه فقتله ) . وإنما كان هذا النوع من الأمر والنهي أفضل الجهاد وأعظمه؛ لأنه كما قال السِّندي : "جهاد قلَّ من ينجو فيه، وقلَّ من يصوِّب صاحبه بل الكل يخطِّئونه أولاً، ثم يؤدي إلى الموت بأشد طريق عندهم؛ بلا قتال؛ بل صبرًا " وليس غريبًا على الباذلين أنفسهم لله ، أن يقولوا كلمة الحق غير هيَّابين ، وأن يقفوا عند كلمتهم، وأن يموتوا في سبيلها ، لأنه  لا يجوز للمسلم أن يدور مع  الأهواء حيث دارت ، أو يضع في حساباته ضرورة استجابة الناس أو كسب مدحهم ورضاهم أو الخوف من غضبهم  وأن يقول الحق إرضاء لله تعالى وحده ، وإيماناً منه بأنه واجب لابد أن يقوم به ، ولا يخاف في ذلك لومة لائم ، لأن كلمة الحق قد توقظ الغافلين من غفلتهم ، وتشحذ همم المخلصين للقيام بواجباتهم تجاه دينهم ، والأمة بحاجة إلى من يقول في الله كلمة الحق كاملة ، ويذكّرها بدورها الريادي لقيادة البشرية ، في وقت ظن الأعداء أنهم قد نجحوا في تخدير هذه الأمة ، وإسكات صوت الحق فيها  كما أنها بحاجة إلى العمل بقوله تعالى : ] الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللهَ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيباً [ . فالحرب الدائرة بين أهل الحق وأهل الباطل ، تعتبر من أشرس الحروب التي عرفتها البشرية على الإطلاق، ولم تجتمع كلمة الذين كفروا وأشركوا وارتدوا على ضرب الإسلام والمسلمين كما اجتمعت هذه الأيام، لذا نرى أن أتباع الحق   محاربون ومطاردون ومحاصرون ، من كل جانب  ورغم ذلك ، فإنهم يضحون بما هو أرخص لنيل الأغلى، وكل شيء دون الجنة ، فهو رخيص حتى وإن كان ذلك بالنفس والنفيس ، وإن هذه العقيدة هي بمثابة قوة دفع ، تحرك المؤمن تجاه أهدافه ، بحيث لا يستطيع الأعداء ، أن يوقفوه أو يحرْفوه مساره لأنهم عاجزون عن تقديم بديل لهذه الجنة ، سواء في الدنيا أو في الآخرة، ولهذا يبقى المؤمن الصادق قوياً لا يمكن ترويضه ، وغصة في حلق الكافرين لا يمكن التخلص منها، وهذا ما ينبغي التركيز عليه في تربية الأجيال الصاعدة، وربط النفوس بها ، من عدم  السكوت عن قول الحق والرضا بالظلم ، حتى لا تكون الأجيال ، ممن وصفهم الرسول صلى الله عليه وسلم بقولـه : ( الساكت عن الحق شيطان أخرس ) قال صلى الله عليه وسلم الساكت عن الحق ولم يقل ، الرافض لقول الحق  لأن الرافض لقول الحق ، هو من طُلب منه أن يقول الحق ، لمعرفة الطالب بأنه على علم بالحقيقة وشاهد عليها ، ويقرر صلى الله عليه وسلم عدم استحقاق الساكت عن الحق لإنسانيته وآدميته ، فينعته بشيطان أخرس ، وما هو إلا امتداداً لقوله تعالى ] ومن يكتمها فإنه آثم قلبه [ وكاتم الشهادة ، كالساكت عن الحق ، لا يختلف وصفه ورسمه ، وكلاهما في الميزان الرباني ، قد أثم وحمل وزراً  ، ولم يؤد الأمانة التي استودعها الله في آدميته وإنسانيته ، وليس للظالم المستكبر رادعاً لظلمه في مهده ، إلا أن يصرخ الإنسان بقول الحق ، دون اعتبار للنتيجة والمآل ، طالما كان السكوت عن قول الحق ، يمس إنساناً آخر بظلم ، أو يؤدي إلى إفساد عام ، فالظالم سواء كان حاكماً أو سيداً في قومه أو ذا مال ونفوذ أو صاحب مسؤولية ، لا يمكنه بأي حال من الأحوال ، أن يستهين بنظرة الناس إليه  ورأيهم فيه ، وموقفهم تجاهه ، لذا فإنه يكون من  أكثر الناس قلقاً ، وأشدهم انتباهاً لحالهم وتصرفاتهم ، فيتمادون في جبروتهم وطغيانهم خوفاً من أن تسوِّل نفس أحد من أتباعهم أن يقول الحق  أو أن يفشيه بين الناس ، فينفلت زمام الأمر من يده

إن قول الحق محور بقاء الأمة ، ومحور صلاح المجتمع وعموده ، وإن الأخذ على يد الظالم لا يبدأ إلا بقول الحق ، وشهادة الحق ، ورفض السكوت عن الحق  ورفض قبول الظلم والضيم مهما كلف الأمر.

فإن عجزت الأمة أن تقول للظالم (يا ظالم) فقد تودِّع منها ، بحيث لا يرتجى منها خيراً ، ففي حديث أبي بكر الذي في السنن قال رضي الله عنه: أيها الناس إنكم تقرءون قول الله تعالى: ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [ وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم  يقول : إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه ، أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده ) إذا رأوا المنكر وهم قادرون على أن يغيروه فتركوا تغييره ، وهذا يكون سببا لعموم العقوبة ، أن يعمهم الله بعقاب من عنده  سيما إذا كانت المعاصي ظاهرة مشاهدة، فإن العقوبة عليها عامة ، وقد يقول القائل إن مقتضيات المصلحة أن لا يواجه الظالم بحقيقته وحقيقة ظلمه ، ولكن التاريخ والقصص القرآني ، فيه ما يدل على أن السكوت على الظالم وعدم مواجهته بحقيقة أمره  يجعله يتمادى في ظلمه وطغيانه ويزيد من تعسفه وجبروته ، لقد استخف فرعون قومه فأطاعوه  فراح يؤسس لعلاقة ثنائية بينه وبين قومه ، بنيت على الكذب المتبادل ، في حين يعلم كلا الطرفين موقعه من معادلة الكذب ، خافوه على مصالحهم الشخصية  فصدّقوه ولم يَصدُقوه ، وعَرفَ فرعون فيهم هذه الرذيلة فاستغلها ، فكانوا أهون عليه من أن يلقى لهم بالاً أو يأخذ رأيهم في الاعتبار ، فتركوه يورد نفسه موارد الهلاك ، فإذا بهم يكونون معه من الغارقين .

إن قول الحق هو الدواء الشافي لوأد الظلم والطغيان في مهده ، وهو المانع لمتبعي الأهواء من اتباع أهوائهم ، أما كيفية الجهر بقول الحق ، فهذا يتبع مقتضيات المقام والمقال ، وفداحة الظلم وعموم آثاره ومقتضيات رفعه ، لأن السكوت عن الحق يوقع الناس في الفتنة ، وقد ورد في كتاب الله ما يدل على وجوب الجهر بقول الحق وتبيانه فقال تعالى : ] وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ [ ولابد من تنفيذ أمر الله في ذلك، وما أمر الله بذلك إلا لأهميته ، وجاء في القرآن ما يدل على العاقبة المترتبة على كتمان قول الحق فقال الله تعالى : ] إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ) يلعنهم الله لأنهم ما قاموا بأمره وشرعه ] وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [ يلعنهم اللاعنون لأنهم غشوهم وكتموا عنهم البينات والهدى ] إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [ .

لأن الجهر بالحق ، هو طريق التمكين في الأرض وتطبيق شرع الله تعالى فيها ، وهو شرف عظيم لا يعطى إلاّ لمن يستحقه ، ولا يحصل إلا بعد التمحيص والتنقية ، لذلك كان الابتلاء معْبَراً للتمكين في الأرض ، وتطبيق حكم الله فيها .  سأل رجل الشافعي فقال : يا أبا عبد الله ! أيما أفضل للرجل أن يمكّن أو يبتلى ؟ فقال : لا يمكّن حتى يبتلى " .

 

 

وسائل دفع الغربة

 

 

 

 

 

الشهادة في محاربة الظلم

علينا تمني الموت في ساحات الجهاد ، حتى ننجوا من الميتتة الجاهلية ، التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : ( من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات ميتتة جاهلية ) . لذا كان المسلمون يتمنون الموت في ساحات الجهاد وعلى شفة أحدهم :

وذلك في ذات الإله وإن يشأ  يبارك على أوصال شلو ممزع

هكذا مضت سنة الإيمان ، فوصفهم الله بأنهم ] يقتلون ويقتلون [ . كانوا يتمنون الشهادة في محاربة البغي  وبعد أن كان الموت في الميدان عندهم أمنية ، فقد أصبح في هذا العصر الذي نعيش مستبعداً ، مما أطمع أعداء الإسلام في بلاد الإسلام ، لأن هناك قلوباً تطرق إليها الوهن ، الذي وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه حب الدنيا وكراهية الموت ، وإن كنا مسلمين فلماذا الوهن بالإسلام ، وإن كنا رجالاً فإن الرجولة تتطلب منا الجرأة في الحق ، جرأةٌ تفوق جرأة أعداء الإسلام في الباطل ، والرجولة حيث يكون الاستعلاء والاستعباد ، هي الرجولة التي تدفع المسلمين لأن يكونوا ثوارا ، يموتون من أجل العزة والكرامة ، ولا يمكن للشباب الثائر أن ينجح إلا إذا استهتر بالموت وأحبه في ذات الله ، شباب تجدد شباب الإسلام من شبابهم ، شبابٌ أعاد للأمة ثقتها بعدما كادت تنهار  حتى تساءل خصومها : أبقي في أمة الإسلام هذا اللون من الرجولة ، في بلاد عملنا على حرمانها من دروس الرجولة ، وأغرقنا أرضها بالمغريات والمثبطات ، وهل بقي الإسلام قادراً على خلق هذا الشباب التقي النقي ، الذين يعتز الحق بتضحياتهم ؟ شباب نضن عليهم بالموت ، لكن الله لا يضن بهم على الاستشهاد ، كما لا يضن بالشهادة على أمثالهم وهو القائل : ] وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين [ آل عمران 140 . 

لا يضن بالشهادة عليهم لأنهم يجودون بأرواحهم وهم يرفعون ألوية الحق ، عملاً بالنصوص التي تغرس في نفس المسلم رفض الظلم ، والتمرُّد على الظالمين  حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم ليقول في دعاء القنوت المروي عن ابن مسعود : ( نشكرك الله ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يَفجرُك ) البيهقي وابن ابي شيبة . والنصوص التي ترغِّب في القتال لإنقاذ المُضطهدين والمُستضعفين في الأرض بأبلغ عبارات الحثِّ والتحريض فيقول تعالى : ] وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا [ النساء 75 .

وجاء في النصوص ما يدل على الإنكار الشديد على الذين يقبلون الضَّيم، ويرضون بالإقامة في أرض يُهانون فيها ويُظلَمون، ولديهم القدرة على الهجرة منها والفرار إلى أرض سواها، فيقول:] إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا [ النساء 99. حتى هؤلاء العجزة والضعفاء قال القرآن في شأنهم : ] عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ [ فجعل ذلك في مَظِنَّة الرجاء من الله تعالى؛ زجرًا عن الرضا بالذل والظلم ما وجد المسلم إلى رفضه سبيلًا.

وحديث القرآن المُتكرِّر عن المُتجبرين في الأرض   حديث يملأ قلب المسلم بالنقمة عليهم، والإنكار لسيرتهم، والبغض لطغيانهم ، وقد علمنا القرآن أن الاستهانة بكرامة الأمة ، وتملُّق الحكام بالباطل وموالاة أعداء الله ، وأعداء الأمة من دون المؤمنين منكر من أكبر المنكرات ، وتتسع دائرة المنكرات هذه ، لتشمل كثيرًا مما يعدُّه الناس في صُلب السياسة  مما يدعو للتساؤل : هل يَسَع المسلم الحريص على مرضاة ربه أن يقف صامتًا، أو ينسحب من الميدان هاربًا أمام هذه المنكرات وغيرها؛ خوفًا أو طمعًا أو إيثارًا للسلامة ؟ إن مثل هذه الروح ، إن شاعت في الأمة فقد انتهت رسالتها، وحُكِمَ عليها بالفناء؛ لأنها غَدَت أمة أخرى غير الأمة التي وصفها الله بقوله : ] كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [ آل عمران110.

ولا عجب أن نسمع هذا النذير النبوي للأمة في هذا الموقف ، في الحديث الذي رواه أحمد والحاكم والبيهقي : ( إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم: يا ظالم فقد تُوُدِّعَ منهم ) أي فقدوا أهلية الحياة   لذلك فإن المسلم مطالب -بمقتضى إيمانه- ألا يقف موقف المتفرج من المنكر أيًّا كان نوعه ، سياسيًّا كان أم اقتصاديًّا أم اجتماعيًّا أم ثقافيًّا ، بل عليه أن يقاومه ، ويعمل على تغييره باليد إن استطاع، وإلا فباللسان والبيان، فإن عجز عن التغيير باللسان انتقل إلى آخر المراحل وأدناها؛ وهي التغيير بالقلب، وهي التي جعلها الحديث: "أضعف الإيمان". وإنما سماه الرسول صلى الله عليه وسلم تغييرًا بالقلب؛ لأنه تعبئة نفسية وشعورية  ضد المنكر وأهله وحماته   وهذه التعبئة ليست أمرًا سلبيًّا محضًا كما يتوهم ، ولو كانت كذلك ما سماها الحديث (تغييرًا) ، لأن هذه التعبئة المستمرة للأنفس والمشاعر والضمائر ، لا بد لها أن تتنفَّس يومًا ما في عمل إيجابي، قد يكون ثورة عارمة، أو انفجارًا لا يُبقى ولا يذر، فإن توالي الضغط لا بد أن يُولِّد الانفجار، سُنة الله في خلقه  وإذا كان هذا الحديث سمى هذا الموقف (تغييرًا بالقلب) فإن حديثًا نبويًّا آخر سماه (جهاد القلب) وهو آخر درجات الجهاد كما أنه آخر درجات الإيمان وأضعفها، فقد روى مسلم عن ابن مسعود مرفوعًا : ( ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تَخلُف من بعدهم خُلُوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمَن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومَن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومَن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، ليس ذلك من الإيمان حبة خردل ) .

وقد يعجز الفرد وحده عن مقاومة المنكر، وخصوصًا إذا انتشر وقَوِي فاعلوه ، أو كان المنكر من قِبَل الأمراء الذين يفترض فيهم أن يكونوا هم أول المحاربين له، لا أصحابه وحرَّاسه، وهنا يكون الأمر كما في المثل: "حاميها حراميها"، أو كقول الشاعر:

وراعي الشاة يحمي الذئب عنها  فكيف إذا الرعاة لها ذئاب؟!

وهنا تكون الثورة على تغيير المنكر ، واجبًا لا ريب فيه؛ لأنها تعاون على البر والتقوى، ويكون العمل الجماعي -عن طريق الجمعيات أو الأحزاب أو غيرها من القنوات المتاحة- فريضة يوجبها الدِّين كما أنه ضرورة يُحتِّمها الواقع ، وإن ما يقال عنه حرية الحق في التعبير والنقد والمعارضة سلما ، هو حقٌ يَرقى به الإسلام ليجعله فريضة مقدسة يبوء بالإثم ، ويستحق عقاب الله ، من يفرَّط فيها .

وفرق كبير بين (الحق) الذي يدخل في دائرة (الإباحة) أو (التخيير) الذي يكون الإنسان في حِلّ من تركه إن شاء، وبين (الواجب) أو (الفرض) الذي لا خيار للمكلف في تركه ، أو إغفاله بغير عذر يقبله الشرع ، لأن المكلف مطالب بمقتضى إيمانه ألا يعيش لنفسه وحدها، دون اهتمام بمشكلات الآخرين وهمومهم، وخصوصًا المؤمنين منهم، بحكم أُخوة الإيمان لقوله تعالى : ] إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ[  الحجرات10 ولما ورد في الحديث: ( مَن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، ومَن لم يصبح ناصحًا لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم فليس منهم) الطبراني وأحمد  ( وأيما أهل عَرْصَة بات فيهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله وذمة رسوله ) الطبراني والحاكم . وكما أن المسلم مطالَب بمقاومة الظلم الاجتماعي

ومطالَب أيضًا بمحاربة الظلم السياسي، وكل ظلم أيًّا كان اسمه ونوعه، فإن السكوت عنه والتهاون فيه  يوجب العذاب على الأمة كلها؛ كما قال تعالى: ] وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال 25 . وقد ذمَّ القرآن الكريم الأقوام الذين أطاعوا الجبابرة الطغاة وساروا في ركابهم كقوله عن قوم نوح: ] وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا [ نوح 21 . بل جعل القرآن مُجرَّد الركون والميل النفسي إلى الظالمين موجبًا لعذاب الله : ] وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ [ هود 113.

 

      

 

 

ثواب الصبر على مقاومة الظلم

لقد حُرِف المفهوم الإسلامي للصبر هذه الأيام  فصوروه على أنه استسلام للواقع الفاسد، واستسلام للظلم والظالمين ، والسكوت على الضيم والجور  وتحمل الذل، والاستسلام لكل المخططات التي تهدم حياة الإنسان، ومستقبله وقيمه وأخلاقه ودينه  تهدمها لتبني على  أشلائها عروشها وملكها .

بينما نقرأ مفهوم الصبر في القرآن الكريم ، على أنه صبر على مقاومة الظلم ، ومجاهدة الظالمين ومقاومتهم ، صبرٌ على الموت والقتل ، وصبر على الجهاد والاستشهاد ، وليس صبراً على الظلم بدليل أن ذكر الصبر في كثير من آيات القرآن الكريم  ذا دلائل جهادية كقوله تعالى ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [ آل عمران200 . وقال تعالى : ] وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [ آل عمران 146. وقال تعالى : ] قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [ البقرة250 . وهكذا لو استعرضنا ذكر الصبر في القرآن الكريم لوجدنا أن معظم الآيات التي ذكر فيها ، ذا دلائل جهادية، وقتالية  واستشهادية وليس فيها ما يدل على الصبر ظلم الظالمين، وعدوان المعتدين ، كما يتصور من ينشغل بطقوس العبادة  وينعزل عن الساحة الاجتماعية والسياسية ، ولا ينكر المنكر ، ولا يأمر بالمعروف ، إلا في حدود ضيقة ، لبعض العبادات والأخلاقيات  .  

لقد رأت هذه الأمة في تاريخها الطويل من النصر والهزيمة ، ما تراه كل أمة ، ولكن ما تواجهه الآن هو أشدّ من كل ما واجهته ، لأن الأعداء يكيدون لها يساعدهم في ذلك ، الظلمة من أبناء الأمة ، وفي المقابل شعوبٌ دفعها الإيمان بربها ، والتمسك بعقيدتها ، إلى التضحية والبذل ، فاندفع شبابها ليغسلوا بدمائهم صفحة التردد والتخاذل ، والخيانة والانقسام ، شبابٌ إلى جانبهم شيوخٌ بحماسة الشباب ، وإلى جانبهم شبابٌ بحكمة الشيوخ  وإلى جانب الشيوخ والشباب ، نساءٌ يتمتعن برجولة الرجال ، والصغار إلى جانبهم بعزائم الكبار   وكلهم صابراً ومصا برا طلباً للشهادة ، وكلهم يعلم أن الشهادة لا تنال بدون اختبار وامتحان وابتلاء ولم لا ، فقد ابتلى الله الأنبياء والصالحين ، وهم بذلك يتأسوا برسول الله صلى الله على سيدنا محمد وصحابته والتابعين ، ممن أُذوا في سبيل الله ، وبمن وضعت المناشير على أعناقهم ليقولوا كلمة الكفر  فما وهنوا وما استكانوا .

إن ما يلاقيه بعض المسلمين ، من الظلم والبطش  يذكرني بقصة الوالي الذي طغى وبغى ، وشنق وخنق  حتى خلعت خشبة بطشه القلوب ، وقطعت الألسنة فجاءه رجل صالح بموعظة ، جاءه بمسمار أعده وحمله للطاغية ، على أربعة جمال ، حتى بلغ به باب قصر الطاغية ، فأطل فرآه ، وقال متعجبا ، ما هذا ؟ فقال الرجل الصالح : هذا يا مولاي مسمار لتسمّر به الفَلَكْ ، فلا يدور بالمُلك عنك إلى غيرك  ليبقى لك أبدا ، فما سُمِّرََ الفَلَكْ ولا دام المُلْك  فذهب كما ذهب غيره ، وطواه عالم النسيان .

إن المحن التي تصيب الأمة ، ليست هي أولى المحن  وليست بآخرها ، فقد ذكر التاريخ أشدّ منها ، ذكر يوم أن جاء ت جيوش أوروبة ، وقامت في فلسطين لهم دول ، وكان المسلمون على حال هي شرّ مما نحن عليه اليوم ، حتى حسب الضعفاء أن قد طويت راية الإسلام ، كما ذكر يوم رمانا الشرق بجيوش التتر ، نحط على بلدان العالم الإسلامي ، فأبادت ممالك ، حتى بلغ هولاكو عرش الخليفة في بغداد فذبحه ، وترك بغداد خرائب وأطلال ، كما ذكر يوم هزم القرامطة جيوش المسلمين ، وعدوا على الحجاج ، فذبحوهم ذبح النعاج ، فقد ظهر أولئك واختفوا  والإسلام هو الإسلام ، ما ازداد إلا قوة .

لقد علّمنا رسول الله صلى الله على سيدنا محمد كيف نصبر على المصائب وإن تتالت ، والشدائد وإن تعاقبت   وطالبنا أن نعمل على دفعها ، فكان الجهاد في سبيل الله ، وكان بذل المهج والأنفس ، من أجل دين الله وعزته   وكانوا يطلبون الموت ، لتوهب لهم الحياة ، بخلاف من يريدون لنا أن نظل أضعف من أعدائنا وأجهل ، ولا يريدون أن نعد العدة ، ونتسلح بسلاح الإيمان ، ولكن والحمد لله فقد ظهر في الأمة شبابٌ لا يريد أن يذل ، ولا يريد للذل أن يعرف طريقه لهم ، ليعيش كريماً أو يموت شهيدا .

إن منهج الإسلام يربى أتباعه على التمسك بحقوقهم دون التفريط فيها ، ومقاومة من يتعدى عليها بغير حق ، وسن لهذه الحقوق تشريعات وعقوبات على من ظلم وبغى بغير حق ، وجاء في الآيات القرآنية الأمر بمجابهه أولئك الذين يريدون تدمير الإسلام : قال تعالى : ] وان عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ، واصبر وما صبرك إلا باللّه ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون [ النحل126 . وقال تعالى: ] أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [ .

وللوصول إلى عزة الإسلام ، لابد من الصبر ، فقد ذكر ما ينسب لعيسى عليه السلام قوله :" إنكم لا تدركون ما تأملون إلا بالصبر على ما تكرهون " وعن الإمام علي :" الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد " . وقال : " لا يعدم الصبور الظفر وإن طال الزمان " . ونسب إليه قوله : " الصبر سيف لا ينبو ومطية لا تكبو، وضياء لا يخبو " .

 إن من أهداف الصبر في الإسلام ، الصبر على تحمل الأذى في محاربة الظلم، والقضاء عليه ، ومنها  

الصبر على تحمل الآلام والمتاعب في سبيل الوصول إلى الهدف الأسمى ، وهو العبودية المطلقة لله تعالى ورفض كل عبودية لسواه ، بل إن كل حق لا بقاء له بدون الصبر، وقد كان صبر الأنبياء والأوصياء من أهم أسباب بقاء الحق .

 ومن الأمور الجديرة بالتسجيل بالنسبة للصبر في الحرب، قوله تعالى: ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ [

ففي حين يأمرهم بالثبات في الحرب، يأمرهم بأن يذكروا الله كثيراً ، وذلك من أجل أن يبقوا محتفظين بالهدف الأسمى الذي يفترض فيهم السعي إليه وأن يجعلوه نصب أعينهم، ولا يصرفهم الدفاع عن نفوسهم عن ذكر الله تعالى ، وطبيعي: أن كثرة ذكر الله ، تذكرهم بأن الله بيده كل شيء، وأنه هو الذي ينصرهم على عدوهم، وأنه مصدر عزتهم وسعادتهم وأن ذكر الله يقويهم ويدعوهم إلى طاعته، وطاعة رسوله، وأن لا يتنازعوا، وأن يصبروا؛ وأن ذكر الله هو مفتاح النصر في جميع المجالات، ثم الوصول إلى الهدف الأقصى، وهو إقامة دين الحق، ونصر الله : ]إِن تَنصُرُوا الله يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [ .

 

 

  

 

 

 

 

 ابتلاء الله وغضبه

الابتلاء سنة إلهية لا يسلم منها أحد وتشمل الخير والشر،قال تعالى:﴿ ونبلوكم بالشر والخير فتنة ﴾، أي اختباراً وامتحاناً بالنعم والنقم، والصحة والمرض والغني والفقر، والرخاء والشدة، والحياة والموت قال تعالى : ﴿ فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن، وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن ﴾ . أما غضب الله فيكون بعدم توفيق العبد إلى الطاعة ، فيعصي الله ، ويرتكب الجرائم حتى إذا أخذه لم يفلته ، بخلاف العبد الطائع ، فلا يسخط إذا نزل به بلاء أو مكروه ، ومما يؤسف له أن بعض ، ضعاف الإيمان ، إذا نزل به البلاء ، تسخط     ولام خالقه في أفعاله ، وغابت عنه حكمة الله في قدره ، فوقع في بلاء أشد من البلاء الذي أصابه ، وتناسى أن الدنيا  مليئة بالمصائب والرزايا ، والمحن والبلايا، إلى جانب ما فيها من كريم المنح والعطايا   وهي دار شدة ورخاء، وضحك وبكاء تتنوع فيها الابتلاءات، ليعتبر بها المعتبرون ويغتنمها الموفقون، ولايغتر بها المغترون ويهلك بها الهالكون قال تعالى: ﴿ ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون ﴾الأنبياء35.     وقال تعالى : ﴿ فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ﴾العنكبوت3، فكم من الشاكين والباكين؛ الذين يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية ،  فإذا نزلت بأحدهم النازلة ، أو حلت به الكارثة ضاقت عليه المسالك، وترقب أفجع المهالك؛ فضاق صدره، ونفد صبره واضطربت نفسه، وساء ظنه، وكثرت همومه ، وتوالت غمومه، فصد عن الحق، وتعلق بمن لا يملك نفعه ولا ضره من الخلق؛ يأساً من روح الله ، وقنوطاً من رحمته، وذلك هو الخسران المبين في الدارين لأن التعلق بالمخلوقين ، والإعراض عن رب العالمين ، شرك بنص الكتاب المبين قال تعالى:﴿ ولا تدع من دون الله مالا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذاً من الظالمين وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يُرِدْك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم ﴾ يونس 106. أما من آمن بالله ، وعرف حقيقة دنياه، وسلّم لربه فيما قدره وقضاه، فإنه يصبر على الضراء ، ويشكر على السراء ويطيع ربه في الشدة والرخاء، لأنه يؤمن أن الله يبتلي العبد بالخير والشر ؛ ليختبر صبره  فقد صح  عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال:(عجباً لأمر المؤمن؛ إن أمره كله له خير، وليس ذلك إلا للمؤمن، وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له) رواه مسلم . فاستخدامك للسرّاء في طاعة الله ، يكون نعمة ومنحة من الله ، ومكافأة علي طاعتك لله ، وإن كان استخدامك لها في غير طاعة الله  تصبح هذه النعمة بلاء  وإذا ازددت بهذه النعمة اقترابا من الله ، وسخرتها لإعانة المحتاج ، فقد نجحت في الامتحان الإلهي وإن زادتك تكبرا وغلظة ، فقد أخفقت      عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ما يزال البلاء بالمؤمن في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة) الترمذي ، وقال النبي عليه الصلاة والسلام : (إن عظم الجزاء مع عظم البلاء وإن الله تعالى إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط) فكم من محنة في طيها منح ورحمات، وكم من مكروه يحل بالعبد ينال به رفيع الدرجات ، وصدق الله إذ يقول:﴿ إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ﴾ الزمر10.قد يتعجب البعض إذا قلنا أن الألم والابتلاء نعمة ، نعم إنه نعمة لأن الألم تهذيب للنفس ، وتخليص لها من شوائب الدنيا ، التي قد تكون علقت بها ، فإذا نظرت، ستجد الكل مبتلي، فهذا مبتلي في صحته.. وذاك مبتلي بالفقر وضيق ذات اليد.. وذاك ابتلاه الله بفقد الولد أو مرضه.. فلست وحدك المبتلى    فالكل يعاني ويكابد ، من الابتلاء لأنه سنة كونية تتجلى في قوله تعالي: ﴿ لقد خلقنا الإنسان في كبد﴾ أي أن هذا ما قدره الله علي عباده في هذه الحياة ، من التعب والمشقة ، والمعاناة التي تتفاوت من شخص لآخر، ولو علمنا حكمة الله في الابتلاء والجزاء ، الذي أعده للصابرين ، لحُسدوا   على النعيم الذي أعده الله لهم في الآخرة  فمن صبر علي الفقر في الدنيا ، عوضه الله عن ذلك بنعيم دائم لا ينقطع في الآخرة  ومن احترق قلبه لوعة لفقده ولده ، وصبر واحتسبه عند الله ، بني الله له بيتا في الجنة يسمي بيت الحمد ، كما جاء في الحديث القدسي : ( يسأل الله سبحانه ملائكته اقبضوا ولد عبدي ، اقبضوا ثمرة فؤاده فيقولون : نعم يا ربنا ، فيقول تعالى وهو الأعلم بعباده: فماذا قال؟! قالوا: حمدك فيقول:  ابنوا له بيتا في الجنة اسمه بيت الحمد ) .فالابتلاء إذن ، ليس مذموما دائما ، ولا مكروها دائما ، وكيف لا يكون البلاء أو الألم نعمة من الله ، وجزاء من يصبر عليهما الجنة ونعيمها؟! وفي ذلك قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: ( ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذي ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر بها خطاياه ) رواه البخاري . وقد يتخفي البلاء في ثوب النعم ، ويتجلي هذا المعني في قوله تعالي: ﴿ أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ﴾ فالنعم ليست في مطلقها خيرا، بل قد تكون امتحانا من الله لعبده ، ومن نعم الله أن جعل البلاء فرصة للتوبة قبل أن يحل العذاب الأكبر يوم القيامة قال تعالى :﴿  وَلَنُذِيقَنهُم منَ العَذَابِ الأدنَى دُونَ العَذَابِ الأكبَرِ لَعَلهُم يَرجِعُونَ ﴾ السجدة 21 ، والعذاب الأدنى هو نكد الدنيا ، وما يصيب الإنسان من سوء وشر ، وإذا استمرت الحياة هانئة  فسوف يصل الإنسان إلى مرحلة الغرور والكبر ، ويظن نفسه مستغنياً عن الله   فمن رحمته سبحانه ، أن يبتلي الإنسان حتى يعود إليه ، فيكون نزول البلاء خيرٌ للمؤمن ، من أن يُدَّخر له العقاب في الآخرة ،  كيف لا وفيه تُرفع درجاته   وتكفر سيئاته ، قال صلى الله عليه وسلم : ( إذا أراد الله بعبده الخير عجَّل له العقوبة في الدنيا  وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبـــه حتى يوافيه به يوم القيامة ) صححه الألباني في صحيح الترمذي .وقال الحسن البصري رحمه الله :" لا تكرهوا البلايا الواقعة ، والنقمات الحادثة  فَلَرُبَّ أمرٍ تكرهه ، فيه نجاتك ، ولَرُبَّ أمرٍ تؤثره ، فيه عطبك – أي هلاكك "     قيل للإمام الشافعي رحمه الله : أَيّهما أَفضل : الصَّبر أو المِحنة أو التَّمكين ؟ فقال : التَّمكين درجة الأنبياء ، ولا يكون التَّمكين إلا بعد المحنة  فإذا امتحن صبر ، وإذا صبر مكن " فاتقوا الله وأثبتوا على إيمانكم  واصبروا على ما قد تبتلون به ، وأدوا حق الله فيما أعطاكم ، ولا يطغينكم عز ورخاء أو صحة وثراء، ولا تضعفوا أمام الأحداث والشدائد والمضايقات ، فما هي إلا إبتلاء وامتحان ، ثم يأتي فرج الله ونصره ، ومثوبته لمن قام بأمره ، قال عليه الصلاة والسلام :

( إذا رأيت الله يُعطي العَبد مِن الدُّنيا على مَعاصيه ما يُحِبّ ، فإنما هو استدراج ، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : ﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴾ . رواه الإمام أحمد ، وصححه الألباني .

أكل أموال الناس بالباطل

موضوع لا يهتم به الكثيرون ، وما علموا أن أخذ أموال الناس بالباطل من الكبائر    ومن لا يهتم من أين اكتسب المال ، فإنه يخالف منهج الله عزَّ وجل ،  الذي قال :  ﴿وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ ﴾البقرة  188 لا يأخذ بعضكم أموال بعض ، ولا يستولي عليها بغير حق ، وقد اعتبرت الشريعة الإسلامية المال من الضروريات الخمس التي جاءت الشريعة بوجوب حمايته ، بل سعى الشارع إلى المحافظة عليه ، فمنع أخذه بغير حق شرعي ، ولذلك نهى الله  عن أكل الأموال بالباطل، فقال تعالى : ﴿ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ البقرة ١٨٨.قال ابن عباس رضي الله عنه :"هذا في الرجل يكون عليه مال   وليس عليه بينة ، فيجحد المال ، ويخاصم إلى الحكام ، وهو يعرف أنّ الحقّ عليه، وقد علم أنه آثمٌ آكلُ حرام " الدر المنثور ، فالدَّيْنُ أمرُه عظيمٌ ، لتعلُّق حق الغير بذمة المدين، ولو لم يَرِدْ في ذلك إلا قولُ رسول الله صلى الله عليه وسلم  : (يُغفَر للشهيد كلُّ ذنب إلا الدَّين)مسلم ، لكفى ذلك زاجرًا عن إشغال الذمة من غير حاجة ، لذا يحرم على المسلم أن يماطل أو يتأخر في سداد الدين الثابت في الذمة ، وهذا داخل في ظلم الأموال  وهو من الذنوب العظيمة ، التي نهى عنها الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقد نص الفقهاء على أن المماطل فاسق ، ترد شهادته لظلمه وتهاونه بالحقوق. روى البخاري ومسلم وغيرهما عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:( مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ وَإِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ ) أي إذَا أُحِيلَ بِالدَّيْنِ الَّذِي لَهُ عَلَى مُوسِرٍ، فَلْيَحْتَلْ ، وإذا ماطل المدين ، فإنه يحل للدائن أن يشتكيه عند الحاكم ، ويحل للحاكم حبسه حتى يوفيه دينه ، لأنه ظلمه في ماله لقول الرسول صلى الله عليه وسلم  : ( لَيُّ الْوَاجِدِ-أي مطله- يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ )رواه أبوداود. وإذا لم يجد الدائن سبيلا عليه ، أبيح له أن يدعو على المدين لأنه مظلوم ، وقد جعل الشارع   دعوة المظلوم مستجابة ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) متفق عليه.

لذا ينبغي على المؤمن أن يتخلص من حقوق الغير في الدنيا ، ويوفيهم أموالهم قبل أن يقتصوا منه يوم القيامة ، فيأخذوا من حسناته ، فإن نفدت طرحوا عليه سيئاتهم وقد حذّر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك بقوله: ( مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلمَةٌ لأَخِيه ، مِنْ عِرضِهِ أَوْ مِنْ شَيْءٍ ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ اليَوْمَ قبْلَ أنْ لاَ يَكُونَ دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه) رواه البخاري. والمماطل إن نجا من عقوبة الدنيا ، فلن ينجو من عقوبة الآخرة ، وهذا يدل على خطورة الموقف وعظم الحساب فليحذر المؤمن من هذا الأمر أشد الحذر.

 ولو قال قائل : من يضحي أكثر ؟ الشهيد، أم الذي ينفق المال ، ومع ذلك: ( يغفر للشهيد كل ذنبٍ إلا الدين ) من الجامع الصغير: عن ابن عمر ، ورغم أن الشهيد قدم أثمن ما يملك ، لكنه لم ينجو من موضوع الدين  لقوله صلى الله عليه وسلم : ( أعليه دين ؟ ـ قالوا: نعم. ـ قال: صلوا على صاحبكم  فقال أحدهم: عليَّ دينه. فصلى عليه النبي  سأله: أأديت الدين ؟  قال: لا ، سأله مرةً ثانية: أأديت الدين ؟ قال: لا ، سأله ثالثةً: أأديت الدين ؟  قال: نعم ، قال: الآن ابترد جلده ) ، ومن المعلوم أن الذنوب ثلاثة: ذنبٌ لا يغفر وهو الشرك، وذنبٌ لا يترك وهو ظلم العباد بعضهم بعضاً، وذنبٌ يغفر ما كان بين العبد وبين الله ، فمن أكل حقوق العباد، لا تنفعه صلاته، ولا صيامه  ولا حجه ، لأن حقوق العباد  مبنيةٌ على المسامحة ، فلا يجوز أخذها إلا بطيب نفس صاحبها ،  عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم النحر، فقال: (يا أيها الناس، أي يوم هذا؟ قالوا: يوم حرام، قال: فأي بلد هذا؟ قالوا: بلد حرام، قال: فأي شهر هذا؟ قالوا: شهر حرام، قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، فأعادها مرارًا ) رواه البخاري ، اشتمل الحديث على جملة من المحرمات؛ وذكر منها النهي عن أكل الأموال، كما دل على ذلك ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (  كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله وعرضه). هناك من يفرح إذا أخذ أو ظفر بحق أخيه وامتنع عن قضاء دينه واعتبر ذلك ذكاءً ودهاءً وقوة ، إذ لا يهمه أن هذا المال حرام أو حلال ، لكن المهم عنده أنه حصل عليه ، دون خوف من الله  ، ونسي وعيد الله ودعاء المظلومين ، وعذاب قلوبهم المتجهة إلى ربها ، ترفع أكف الضراعة إلى الله ليأخذ حقها ، وينتقم ممن ظلمها فتساهلوا في أمر الدَّين ، وماطلوا في تسديده أو إنكاره أو تناسيه ، وما علموا أن روح المسلم معلقة بدينه إذا مات ، حتى يقضى عنه ، وعندما قدمت جنازة إلى رسول الله  ليصلي عليها قال : (هل عليه دين؟ فقالوا: ديناران، فقال صلوا على صاحبكم ، ورفض أن يصلي عليه، فضمن أبو قتادة الدينارين فصلى عليه الرسول وقال: الآن بردت جلدته)، وقال : (من أخذ أموال الناس ن يريد أدائها أدى الله عنه ومن أخذ أموال الناس ، يريد إتلافها أتلفه الله)، لقد كثرت في المحاكم الخصومات والقضايا والمشكلات بسبب المظالم ، ومن الناس من يعلم أنه هو الظالم ، لكنه يريد الانتصار على خصمه ن وأخذ حقه ، وربما غلب بالحجة ، وقضى له القاضي بمال أخيه ، على نحو ما ظهر له، وعليه أن يعلم أن حكم القاضي ، لا يحل الحرام أو يحرم الحلال ، لأن القاضي ليس له إلا الظاهر بما يسمع من الخصمين وأما الباطن فهو إلى الله الذي يحكم به يوم تبلى السرائر ، ولا يوجد في ذلك اليوم للظالم من قوة ولا ناصر قال عليه السلام : (إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له بنحو ما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار). وقال : (لكل غادر لواء يوم القيامة يقال: هذه غدرة فلان) ، إن هذه القضية الخطيرة  والجريمة الكبيرة ، انتشرت ، فصارت أموال الناس تؤكل بالباطل ، إما عن طريق المحاكم  أو عن طريق الكذب والمكر والاحتيال  والنصب والسلب والسرقة ، والغش والخديعة والتزوير ، صدق فيهم قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة الذي ذكره ابن بطال في شرحه لصحيح البخاري : ( لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لا يُبَالِى الْمَرْءُ بِمَا أَخَذَ الْمَالَ ، مِنْ حَلالٍ أَوْ مِنْ حَرَامٍ )  وقد وردت نصوص كثيرة في التحذير من هذا الأمر والتخويف منه ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : (إِنَّ رِجَالاً يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) رواه البخاري في صحيحه ، وعيد شديد ترجف منه قلوب المؤمنين ، وتطيب به مكاسب المتقين  وتصلح به أعمال الخائفين ، الذين يسعون إلى إبراء الذمم من حقوق المسلمين ، بأن يتحللوا منهم ويرضوهم ، فقال عليه الصلاة والسلام : (من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو من شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم ، إن كان له عمل صالح ، أخذ منه بقدر مظلمته    وإن لم يكن له حسنات ، أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه) . فليحذر المسلم  أن تذهب أعماله الصالحة التي تعب عليها   ويخسرها ، لتعطى للناس الذين ظلمتهم واعتدى على حقوقهم ، سأل الناس عمر بن عبدالعزيز وهو على فراش الموت : ماذا تركت لأبنائك يا عمر ؟ قال : تركت لهم تقوى الله ، فإن كانوا صالحين فالله تعالى يتولى الصالحين ، وإن كانوا غير ذلك فلن أترك لهم ما يعينهم على معصية الله تعالى" فتأمل ، كثير من الناس يسعى ويكد ويتعب ليؤمن مستقبل أولاده ، ظنا منه أن وجود المال في أيديهم بعد موته أمان لهم، وغفل عن الأمان العظيم الذي ذكره الله في كتابه:

( وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ) .

 

 

قراءة لما يجري

إن المستمع للمقابلات التي نشاهدها على شاشات التلفزة بخصوص الحرب الجارية     يلمس موجة من الانهماك في عالم التوقعات ودنيا التأويلات والتفسيرات ، التي تتحدث عن الأحداث ، فبين متمهل مطمئن بأنها ستحسم قريباً ، وبين مبشرٍ بأنها ستستغرق وقتاً طويلاً   ونسمع لكثيرٍ من الآراء والطروحات التي تغلب عليها روح العداء للإسلام  والحقد على المسلمين   والتفاؤل بتحقيق الهدف الذي قامت الحرب من أجله ،  ناسين أن هناك إلهاً وأن هناك ترتيباً آخر قد يفاجئهم .

أما المسلم الحق فالواجب أن تختلف نظرته لهذه الحرب ، فليس من المستبعد أن يكون النصر حليف المؤمنين بالله ، فالفأل الحسن محمود    أقول ليس من المستبعد لأنني اجزم بنصر الله للفئة المؤمنة ، بغض النظر عن العدد أو العدة ، لأن الله وعد المؤمنين بالنصر فقال تعالى :}إن تنصروا الله ينصرْكُم ويثبت أقدامكم { محمد 7  .

ولأن المستقبل للإسلام ، بشرط ألا يكون موقفناً من هذا المستقبل مجرد انتظار استقباله فنحن أمة تؤمن بالغيب ، ولكنها لا تقبع وراء ذلك الغيب مستشرفةً حدوثه وهي في عالم الشهادة والتكليف  لأن الذي يتصور أن يهلك الله أمة الكفر  مكتفياً بالدعاء ورفع الأكف إلى الله بالضراعة ، دون أن يُعد نفسه وغيره لذلك ، فهو واهم وحالم في أحسن الأحوال وظالم في أسوئها ، وقد نبهنا الله إلى هذه القضية فقال تعالى : }ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدّةً ، ولكن كره الله إنبعاثَهُم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين{ . التوبة 46. هؤلاء الذين لا يهتمون بما يعاني إخوانهم في الدين ، كره الله انبعاثهم لما يعلمه من خيانتهم وعدم نصرتهم ، فتخلفوا عن الجهاد كالعجائز والنساء والأطفال الذين لا يستطيعون الجهاد ، ولا ينبعثون له من أرباب الهمم الساقطة والقلوب المرتابة والنفوس الخالية من اليقين   يظنون أنهم يحققون لأنفسهم الخير بالتخلف والقعود عن مشاركة المجاهدين في مراكب الهم والهدم والدم .

نسمع الأخبار ونحن مع القاعدين ، فمرة نتشاءم ومرة نتفاءل ، ومع أن التفاؤل والتبشير بلا عمل ملامة ، والتشاؤم واليأس ولو مع شيء من العمل إدانة ، إلا أن ذلك يبعث على القلق وبخاصة مع تزايد حدّة التحدي والخروج عن الهدف المحدد للحرب .

لقد أعلنوا الحرب على الإرهاب والإرهابيين ، ونحن نراها طالت المرضى والعجزة والمقعدين ، لا بل كافة الناس هناك أجمعين ، وهنا نتساءل : هل صحيح أن كل الإسلاميين بما فيهم النساء والأطفال هم إرهابيين ؟ وما هو المطلوب ؟

إن الذي يظن أن مجرد متابعة الأخبار على الشاشات والإذاعات مع التحسر والتألم لما يجري يعفي من الأثم عند الله ، فذلك لعمري هو القصور في الفهم ، والتهرب من الواقع الأليم ، وأنت تشاهد يا أخي الأخبار على الشاشات ، تصور أن الأم الثكلى التي تراها هي أمك ، أو أن ذلك الطفل أو الطفلة الصغيرة المجروحة الجسد المحروقة الأطراف هي ابنتك ، أو أن ذلك الصغير التائه الزائغ العينين المتعفر الثياب الذي يبحث عن شيء يأكله في أكوام القمامة هو ابنك ، وأن تلك الفتاة المدفوعة بين الذئاب والكلاب هي أختك وأن تلك العجوز المرتعشة الأصابع الضعيفة البصر الرافعة كفيها إلى السماء بالدعاء بعد هدم بيتها وغياب عائلتها هي جدتك أو خالتك أو عمتك ،  ماذا كنت ستفعل ؟ لو أن هؤلاء أهلك مع أنهم في الحقيقة إخوانك وأهلك ، نعم إنهم أهلونا وخذلهم هو خذلان لنا والتخلي عنهم مسؤولية أمام الله ، وبلادنا الهدف المنشود لزعماء الغرب لتحقيق أهدافهم والمتتبع لمسيرة زعماء أمريكا ، يجد أنهم يلجأون إلى المنطقة العربية لتحقيق الانتصارات التي يحتاجونها أمام شعبهم ، والسؤال هنا : لماذا المنطقة العربية ؟

هل لأننا كرماء بطبعنا أو أوفياء لأصدقائنا نتنازل بكرمنا المعهود عن حقوقنا ؟

أم لأننا شعب مغلوب على أمره تفرض عليه الحلول الظالمة ويرضى بها دون تردد أو مناقشة ؟ فقد وصلنا على أرض الواقع إلى درجة من الانهزام ، نقبل التعليمات التي يصدرونها بكل فخر واعتزاز ، مما يدل على الاستهانة بهذه الأمة واعتبارها الجانب الأضعف باللعبة السياسية  الذي تعوَّد قادة أعدائنا تحقيق انتصاراتهم عن طريقه   أضف إلى ذلك مواقفهم المؤيدة لعدونا اللدود إسرائيل ، فهذه أمريكا ممثلة برئيسها الذي يعمل بوحي من شعبها ، تعمل لمصلحة دولة يهود التي احتلت أرضنا ومقدساتنا وشردت أبناء شعبنا وحاصرت وقاتلت ، وما زالت تعمل ليل نهار قصفاً وقتلاً وتدميراً .

والرؤساء الأمريكيين المتقدمين منهم والمتأخرين   لم نلمس منهم موقفاً حازماً لإيقاف عمليات القتل والتدمير ، لأنهم لم يعتلوا كراسيهم إلا بصوت الناخب اليهودي .

لذا فهم مدينون لهم بالولاء من أجل قيام دولتهم   وتحجيم جميع القوى المعارضة لهم لا أقول بالمنطقة فحسب ولكن بجميع أنحاء العالم ، لذا يجب علينا أن نستيقظ من غفوتنا ونؤوب إلى رشدنا ، ونحزم أمرنا ونعرف صديقنا من عدونا ، ونعلن للعالم كله أننا أمة يجب أن تجاهد لإعلاء كلمة الله أولاً   وتدافع عن الحقوق المغتصبة ثانياً ، لأن واجبنا تجاه امتنا لا يحتاج إلى مزيد شرحٍ وبيان ، فطالما تكلمنا بذلك وتكلم الدعاة إلى الله ولكن للأسف صُمَّت الآذان ، فاستمرئنا الهوان و أصابنا الإحباط والخذلان .

تعالوا نقلب دفتر الذكريات وصفحات التاريخ   لننظر سوياً إلى رجال ذلك الجيل الذي عملت فيه الأمة وسادت ، ما أحوجنا إلى رجالٍ أمثالهم يقودون السفينة التي عصفت بها ريح الكفر   وهبت عليها أعاصير الحقد والكراهية للإسلام وأهله ، روى التاريخ أن امرأة قتل أبوها وزوجها وأخوها يوم أحد ، فلما أتاها خبرهم قالت : ما فعل الله برسول الله ؟ قالوا : بحمد الله كما تحبين   قالت : أرونيه حتى أنظره ، فلما رأته صاحت من أعماق قلبها : كل مصيبة صغيرة بعدك يا رسول الله !

إنه الصبر الجميل على قدر الله ، إنه الصبر الذي افتقده كثير من رجال زماننا ، الصبر على تحمل المسؤولية الذي تخرّج منه أولئك الأبطال الأشداء   الذين يثبتون عندما تزل الأقدام ويحتسبون عندما ييأس أصحاب العزائم الخاملة ، فنحن بحاجة إلى رجال كهذه المرأة في صبرها وحرصها ، لا رجالاً خرست ألسنتهم حتى عن كلمة شجب أو إدانة لما يجري لإخواننا مسلمي فلسطين في محنتهم   الذين يلاقون أكثر مما تلاقيه أفغانستان ، وكأن ما يجري توزيع للمهمات لإذلال المسلمين والسيطرة على مقدِّراتهم ، فأمريكا في أفغانستان وإسرائيل في فلسطين لأن ما يفعله اليهود الحاقدون من وحشية وظلم وطغيان وإهانات  محاصرين إخواننا في قراهم ومدنهم ، يُمْطرون ليل نهار بححمم القذائف والنار من الدبابات والمدافع ، في أبشع صور الوحشية والطغيان ، مع تأييد غربي وسكوت عربي ، فأين الجامعة العربية لا بل أين مجلس الأمن والأمم المتحدة وحقوق الإنسان التي تكيل بمكيالين   أرأيتم ما جرى في نيمور الشرقية لأبناء ملتهم من تدابير عاجلة ، وإعلام هائل وتحرك بأسرع وقت ، ولكن من يعرف خفايا الغرب وموقفه من الإسلام وأهله لا يستغرب ذلك   ومما يدمي القلب أن اثنين وخمسين دولة إسلامية مجتمعة أو منفردة لا تفعل شيئاً تجاه إخوان لهم يعتدى عليهم بأحدث ما عرفته التقنية الغربية من السلاح المتطور ، ولا يحركوا ساكناً   مما يدل على أن هناك خللاً في إسلامهم وصلتهم بربهم ، وهذا والله منتهى الذل والهوان ، ويا ليت المسلمين يسلمون بالرغم من كل ذلك من مكر دولهم ، ومحاربتها لكل ما هو إسلامي حتى فاقت في ذلك دول الكفر واليهود .

يخيل لي أن ما يجري من تركيز القصف على محطات الكهرباء والأسواق والمراكز الحيوية في المدن والقرى لتختل مقومات الحياة وتدمر ، حتى يواجه من ينجو من هذا الشعب الشتاء ببرده القارس ، وهم عزل من كل شيء سوى القذائف والصواريخ التي تمطرهم صباح ومساء ، ومن فرّ لا يجدي الملجأ ولا الطعام ، بل ولا أي شيء من مقومات الحياة 

وكل ما أستطيع قوله :                                  عفاءً على الدنيا إذا المرء لم يعش          بها بطلاً يحمي الحقيقة شُدُّه

وأسأل : لماذا يحدث لنا كل هذا ؟ ولماذا المسلمون بالذات تسيل دماؤهم وتُزهق أرواحهم وتُنثر أشلاؤهم ؟ ولا حيلة لي إلا أن أنادي : أيها المسلمون ، أيها النائمون ، ما لكم لا تبصرون ؟ ما لكم لا تنطقون ؟ أي عار بعد هذا تنتظرون ؟.

وأكرر : لماذا أنتم صامتون ؟ أفسحرٌ هذا أم أنتم لا تبصرون ؟ أما يوجد فيكم قوم يتحركون ؟ أو أنكم أصبحتم لا تعقلون ؟

      لقد أسمعت لو ناديت حياً     ولكن لا حياة لمن تنادي

أما الحل فهو كما قلنا مراراً وتكراراً ، يكمن في العودة الصادقة لرب العالمين ، واتباع نهج سيد المرسلين . وعندها ستكون الجولة للإسلام وللإسلام وحده }ويقولون متى هوَ قل عسى أن يكونَ قريباً{.الإسراء 51 .

 

 

   

 

 

جريمة الصد عن دين الله

 

الصد عن سبيل الله ، يدور مع الكفر، حيث دار، ولا ينفك عنه؛ فجميع من وُصِفوا بالصد عن سبيل الله بمختلف فئاتهم ، هم ممن كفروا بالله تعالى، ظاهرا أو باطنا.  وموضوع الصد عن سبيل الله ، يتناول كل الأعمال الموجهة ضد الإسلام، ومنع الناس من قبول دين الله ، كمنهج للحياة والاستقامة على ذلك ، وقد جاء التحذير ممن يصد عن سبيل الله فقال تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ ﴾آل عمران 118. لا أرى تحذيراً من خطر اختراق الأعداء لصفوف الأمة ، في القديم والحديث ، أشد من هذا التحذير الإلهي ، الذي إذا لم تدركه الأمة ، وتعمل على مقاومته ، تكون فريسة مخططات أعدائها ، الذين لا يألون جهدا في العمل على تدميرها. ولهذا جاء النهي عن اتخاذ أولياء وأصفياء ، من غير المؤمنين, لأنهم غالباً ما يطلعون على أسرار من يوالونهم ، ويخونون حقوق الموالاة, بل هم مجتمعون على إيذاء المؤمنين ، بكل السبل, سواء بقوَّتهم وسلاحهم , أو  بألسنتهم ، وإن تظاهروا بغير ذلك من   كراهيتهم للحق وأهله .

 

إن المعركة مع أعداء الدين الإسلامي ، لن تتوقف ، وإن الصراع بين الحق والباطل باق إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها كما قال سبحانه : ﴿ ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ﴾البقرة   217.  فهم لا يريدون للإسلام ، أن يحكم   ويعطي كل ذي حق حقه ، لذلك اجتهدوا في محاربته ، ورد الحق بالباطل    لأنهم يريدون أن نكون مثلهم ، كما قال تعالى : ﴿ ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء ﴾النساء 89  ولكنهم لن يفلحوا ، لأن الدين  باق ، والله متم نوره ولو كره الكافرون .

 

إن الصد عن سبيل الله ، مشكلة قديمةً وحديثةً، وإن أعداء ديننا ، سواء كانوا كافرين ، أو منافقين ، أو أهل كتاب ، فإنهم يتربصون الدوائر، بالإسلام والمسلمين ، ويترصدون المسلمين الصادقين في كل مكان ، ليصدوهم  ويفتنوهم عن دين الله، فهو إذن ، صراع منذ بدء الخليقة ، ومع كل الأنبياء ، وعبر العصور والأجيال ، وحتى يومنا هذا  وسيبقى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها   والصدُّ عن سبيل الله ، جرثومةٌ قديمة، زَرَعها الكفَّار قال تعالى﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ﴾ فصلت 26 ، ومن صور هذا الصد ، أن يُسمى المسلمون اليوم ، بالإرهابيين والمتطرفين  وغيرها من المسميات، لا لشيء ، إلا لكونهم آمنوا بالله ، وجاهدوا في سبيله  والصدُّ عن سبيل الله ، معركة متجدِّدة  وعداوة باقية، وأسلوبٌ متواصاً به، عُودِي به الأنبياء أزمانًا، واشتكى الصالحون منه دهورًا ، قال تعالى : ﴿ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ﴾الذاريات53 . والصدُ سبيل المفسدين وحِيلة المجرمين، باقٍ ما بَقِي للحقِّ صوتٌ وأعوان، ورغم ذلك ، سيبقى الحقُّ ما بَقِي الليل والنهار  روى الإمام أحمد  بسند صحيح عن أُبيِّ بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بَشِّرْ هذه الأمة بالسَّناء والرِّفعة والدِّين والنصر والتمكين في الأرض) فالعِزُّ والرِّفعة وظهور الحقِّ ، هو قَدَرُ الله تعالى لهذه الأُمَّة  ولن يخلوَ عصرٌ ، من عصور أمة الإسلام من طائفة تقوم بالحقِّ وتقول به، ولن يضرّ الدين ، هذا الصد عن سبيل الله ، مَهْمَا طالَ واشتدَّ، لأنَّ الله سبحانه قد اختاره   واصطفاه، ليبقى في الأرض، فقد روى التاريخ أحداثًا وصورًا ،كاد فيها الباطل وزاد، فذهب هو وكيدُه، وبَقِي نورُ الحق ، فقد روى أحداثاً ، في الصدِّ عن سبيل الله ذاق المسلمون فيها ، مواجع وفواجعَ  تفوق ما يعانيه المسلمون هذه الأيام ، لأنها وصلتْ إلى حدِّ التصفية ، حتى دبَّ اليأس في نفوس أهل ذلك الزمان ، يوم سقطت بغداد عاصمة المسلمين ، في عهْد العباسيين ، وقُتل فيها ما يُقارب مليوني مسلم، حتى قال بعض المؤرِّخين عن تلك الحقبة : "لن تقوم للإسلام بعده قائمة".  ولكن أمة الإسلام لن تموت ، وإن الدين لا بد منصورٌ، والحقُّ ظاهر ، فتاريخ الإسلام حافل بالمواجهات ، بينه وبين أعدائه  والمتآمرين عليه ، وفي كل مرة يخرج منتصرا ، قال تعالى : ﴿ إنَّهُم يَكِيدُونَ كيدا  وَأكيدُ كيدا ، فَمَهِّلِ الكَافِرِينَ أَمهِلهُم رُوَيدا ﴾ فقد خاض حرباً ضد التآمر الوثني ، والتآمر اليهودي ، والتآمر الصليبي ، والتآمر المجوسي ، فانتصر الإسلام ، وسقط التآمر والمتآمرون . لأن الإسلام دين الحق ومنهج الحق، وصراعه مع الباطل صراع أبدي شعاره قول الله سبحانه﴿ بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ﴾ وقول الله تعالى : ﴿ وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا ﴾ فكم بذلوا من المليارات ، للصد عن دين الله ، وتنصير المسلمين، وتشويه دينهم! وكم عقدوا لهذه الغاية من المؤتمرات ، فخيَّب الله مسعاهم بل غزاهم الإسلام بنوره وهداياته في بلادهم حتى قال أحد بابوات الفاتيكان ، قولته المشهورة: "هيا تحرَّكوا بسرعة لوقف الزحْفِ الإسلامي الهائل في أوربا". ما يدل على أن الإسلام مستهدف  وأن أعداء الأمة يغيظهم اتباع منهج الله ، فسعوا إلى إذكاء الأحقاد المذهبية لتحقيق ما يصبون إليه ، بأعمالهم الإجرامية ، مستحلين الدماء المعصومة  ومنتهكين حرمة بلاد المسلمين  فتراهم لا يأبهون بإزهاق الأرواح ، ولا يتورعون عن انتهاك حرمات الله ، ولا يعظمون شعائره ، ومن يرى أعمال الصادين عن سبيل الله ، يجدها لا تخدم إلا الأعداء  لأنهم يتحينون الفرص ، التي تكون فيها الأمة ، مشغولة ببناء نهضتها ، ودفع أعدائها ، ليكونوا أداة هدم وتخريب  وإشاعة للفتنة والفوضى ، ولكن الله لهم بالمرصاد ﴿ وما الله بغافل عما يعملون﴾ يسجل عليهم معرفتهم بالحق الذي يكفرون به ، ويصدون الناس عنه ، فقال الله تعالى : ﴿ لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا ﴾ إنها لفتة قرآنيةٌ ذات مغزى كبير  تدل على أن سبيل الله ، هو الطريق المستقيم ، وما عداه عوج غير مستقيم  وحين يصد الناس عن سبيل الله ، وحين يصد المؤمنون عن منهج الله ، فإن الأمور كلها تفقد استقامتها ، والموازينَ تفقد سلامتها ، ولا يكون في الأرض إلا العوج  الذي لا يستقيم ، وظهور الفساد بأشكاله وألوانه ، فساد الفطرة بانحرافها ، وفساد الحياة باعوجاجها ، وفساد في التصور والسلوك والمعاملات  وفساد ما بين الناس من ارتباطات ، وفساد الصادين عن سبيل الله   الذين مع الكفار ، في حربهم الظاهرة والخفية ، ضد الإسلام والمسلمين ، وكثيراً ما نشاهد من يتكلمون ، في وسائل الإعلام المسموعة والمرئية ، باسم الدين  وهم يعيثون في الأرض فساداً ، همزاً ولمزاً ، وغمزاً وسخرية ، وخيانة وتآمرا  تفضحهم أفعالهم وتصرفاتهم ، لأن ظاهرهم ، يخالف باطنهم ، وما ينخدع بهم إلا الجاهلون  لأنهم كما قال تعالى : ﴿ يَاًمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المَعْرُوفِ ﴾التوبة 67. وصدق ابن القيم رحمه الله في وصفهم : "فلله كم من معقل للإسلام قد هدموه، وكم من حصن له قد قلعوا أساسه وخربوه، وكم من عَلم له قد طمسوه، وكم من لواءٍ له مرفوع قد وضعوه... وقال : فلا يزال الإسلام وأهلُه  منهم ، في محنة وبلية، ولا يزال يطرقه من شُبَهِهِم ، سرية بعد سرية ، ويزعمون أنهم بذلك مصلحون ، وقد وصفهم الله بقوله : ﴿ ألا إنهم هم المفسدون، ولكن لا يشعرون﴾  وقال رحمه الله: احذر من عدوين ، هلك بهما أكثر الخلق : صادٌ عن سبيل الله بشبهاته ، وزخرف قوله ، ومفتون بدنياه. لذلك ينبغي التصدي لهم بكل الوسائل الرادعة ، لأنهم خطر دائم  يتهدد معالم الإيمان والدين .

 

 

 

 جريمة الفساد

 إن محاربة الفساد ، من أهداف الإصلاحات الأولى، لأن الفساد هو المصيبة الكبرى في أي مجتمع، يكون  المفسدون فيه فوق المسائلة ، ويترافق فيه الظلم مع الفساد، لهذا عاقب الله بني إسرائيل، لأنهم كانوا إذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ، وإذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وقد جاءت النصوص تحذِّر من الفساد ، وأن الله لا يحب أهل الفساد فقال تعالى : ﴿ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ ﴾البقرة 205 كما حذَّر من الإفساد في الأرض بعد إصلاحها فقال تعالى: ﴿ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا﴾الأعراف56. ودعا الله عباده إلى الاتعاظ والاعتبار بأحوال الأمم السالفة ، وما أحلَّه الله بهم من عواقب وخيمةٍ ، ونهاياتٍ أليمة فقال تعالى:﴿ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾الأعراف103، ونهى   عن اتباع كل مفسد وطاعته؛ قال تعالى:﴿ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ ْالمُفْسِدِينَ﴾الأعراف142، وأخبر الله تعالى أن فساد العباد فسادٌ للأرض والبلاد   قال تعالى : ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾الروم 41 . فالفساد لا يظهر إنما يظهر أثره  ، لذلك يفضح الله أهل الفساد ، فيروا أثار ما عملوا، من فساد في العقائد والعبادات، وفساد في الأخلاق والمعاملات، وفساد في معايش الناس ونقصها ، وحلول الآفات بها، فعم الفقر  ومنع القطر، وقل الزرع، وفساد في الأنفس   والأخلاق ، بارتكاب الموبقات، وانتشار المنكرات، وفساد في المعاملات والعلاقات، فظهر عقوق الأبناء للآباء والأمهات، وعقوق الوالدين لأولادهم، وفشا سوء العشرة بين الأزواج والزوجات، وتسلط الظلمة على الضعفاء ، والساسة على المسوسين، والحاكم على الرعية، كل ذلك بسبب ما عملت الأيدي ، من الأعمال الفاسدة المفسدة ﴿ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا ﴾ فعجل لهم نموذجا من جزاء أعمالهم في الدنيا ﴿ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ عن أعمالهم، ويتوبون إلى ربهم ، بترك السيئات  وعمل الطاعات، لتصلح أحوالهم، في الوقت الذي تكاثر فيه المفسدون   وتعدَّدت راياتهم، وتفننوا في ابتكار صنوف الفساد والإفساد ، في كل الميادين، صفة ملازمة لهم ، لأنهم لا أمانة لهم. ولهذا نراهم يتساقطون في دركات الخيانة ، وغِش الأمة لتحقيق مصالح شخصية ، وما أسهل أن يبيع المفسد دينه ، ويخون أمته! فترى المفسدين يقْلِبون الموازين  ويزيفون الحقائق ويُسمُّون الأمور بغير مسمياتها؛ ويدّعوا أنهم لا يفسدون ، ولكنهم يصلحون ، وأي صلاح في عدم اتباع منهج الله ، ولهذا قال الله تعالى في وصفهم: ﴿ وَإذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ  أَلا إنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لا يَشْعُرُونَ﴾البقرة 11 وإذا نظرنا إلى الواقع الذي نعيش، نرى أن الفساد أدى إلى أكل أموال الناس بالباطل ، والتعامل بالربا، وطلب الرشوة أو أخذها ، والاعتداء على حقوق الآخرين ، بسرقة أو نحوها، واحتكار المواد الغذائية ، وخاصة الضروري منها ، في غياب الرقابة الرسمية والشعبية ، على المستويين الإداري والمالي ، كما يلجأ المُفسدون؛ إلى قَلْب الحقائق، وتزييف الأمور، وطَمْس الحق وتزيين الباطل ، ويرون الحقَّ باطلاً  والباطلَ حقًّا، والإيمان كُفرًا، والكفر إيمانًا  والنصر هزيمة، والهزيمة نَصْرًا ، والذلَّ عِزًّا والعِزَّ ذُلاًّ، فسقطت البلاد في مستنقعات الفساد ، واستضعَف المفسِدون شعوبهم فأسرفوا في التعدي على حرمات الدين  وحقوق المجتمع ، وكرامة الإنسان ، فلا تخلو المؤسسات الخدماتية من الفساد    وحتى الجمعيات الخيرية ، حيث الرواتب الخيالية التي يتقاضاها مدراءها ، وتوظيف أقربائهم وأبنائهم ، على سلم هياكلها الإدارية ، بالإضافة إلى التقارير، التي تتحدث عن الفساد ، في المؤسسات الرسمية ، في ظل الخلل في الأداء الرقابي الداخلي ، وتزايد شكاوي المواطنين ، دون النظر بها، وهو ما يؤشر إلى ترابط منظومة الفساد ، وغياب منظومة النزاهة، وتحالف الجهات المتلاعبة ، بمصير البلاد والعباد   من أجل غايات شخصية ، وتحقيق مكاسب مالية ، بطريقة غير مشروعة، لبعض السياسيين المتورطين بالفساد ، دون أن يحاسبهم أحد ، وهناك من نهبوا الأموال  وهربوا ، ليتمتعوا بها في الخارج ، بعيداً عن الملاحقة القانونية ، واسترداد الأموال المنهوبة ، مما يؤكد الحاجة الماسة إلى الإصلاح الدستوري والقضائي ، لملاحقة الفاسدين ، وتقديمهم لمحاكمات عادلة  وإلا سيجد الفاسدون مئات الثغرات ، في القوانين ، لينفذوا منها, ويمارسوا فسادهم  ويبقى المواطن هو من يدفع الثمن  في حياة لا تطاق ، إذ أفقدونا الأمل في حُلمنا   وأسكنوا اليأس في نفوسنا ، وألبسوا الحزن على وجوهنا ، وقتلوا الفرحة في قلوبنا  وسرقوا السعادة من عمرنا ، لأن الفساد من أسوء الأمراض الخبيثة والمستشرية  والناخرة في المؤسسات ، لسوء استخدام المنصب والسلطة واستغلالها ، من أجل تحقيق مصالح وامتيازات خاصة ، وإن الدعاوى بالقضاء على الفساد ، لا بُدَّ أن تُصَدِّقَها الأعمالُ  بإقامة العدل ، وردع الظالمين والمفسدين ، لأن الله يحفظ الحياة ، بالذين ينهون عن الفساد في الأرض ، لأنهم يعملون على ضوء منهج السماء ، الذي يعود بالخير على مخلوقات الله ، لا على الله ، ألا نقرأ قول الله ﴿ والسماء رفعها ووضع الميزان ، ألا تطغوا في الميزان ﴾ بمعنى تجاوز الحد في الجور والتعدي والفساد ، ومن اعوجاج الميزان  أن يأخذ الفاسد خير الكادح ، ويراه الناس وهو يحيا في ترف ، من سرقة الكادح  فيفعلون مثله ، فيصير الأمر إلى انتشار الفساد ، وينزوي أصحاب المواهب فلا يعمل لأكثر من حاجته ، لأن ثمرة عمله إن زادت ، فهي غير مصونة بالعدالة ، وهكذا تفسد حركة الحياة ، وتختل الموازين وتتخلّف المجتمعات عن ركب الحياة وفي هذا يقول الله سبحانه : ﴿ فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ ﴾هود 116،أي لولا أن كان في الناس بقية من الخير ، وبقية من الإيمان ، وبقية من اليقين ، ينهون عن الفساد في الأرض ، لولا هم لخسف الله الأرض بمن فيها ، ولذلك لم يترك الله الرغبة في إصلاح الناس ، إلى أهوائهم ورغباتهم ، بل رسم لهم طريقاً يسيرون عليه في حياتهم ، وهو ما أرسل به رسله ، وأنزل به كتبه ، فتضمن هذا الطريق  صالح البشرية ، إلى أن تقوم الساعة؛ فلا صلاح ولا إصلاح  إلا باتباع هذا الطريق المرسوم، قال تعالى: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرٰطِي مُسْتَقِيمًا فَٱتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ﴾الأنعام 153 لأن الإصلاح لا يتحقق في الأرض ، إلا أن نتناصح فيما بيننا، وأن نأخذ على أيدي السفهاء، وأن نحرص على طهارة النفوس ، من أدران الذنوب والمعاصي، والبعد عن الحرام بشتى صوره، وأن نرجع إلى الله تعالى، وأن نتوب إليه، وفي ذلك النجاة بإذن الله تعالى في الدنيا قبل الآخرة ، ولا يكون ذلك إلا بتطبيق شرع الله ، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، وإقامة الحدود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴾الحج 41 .  

زمن الرويبضه

أننا نعيش في زمان كثرت فيه الفتن والبلايا وعظمت فيه المحن والرزايا ، ونطق الرويبضات ، زمن قيل للحق باطل   وللباطل حقاً ، وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عما سيقع  في آخر الزمان  في الحديث الذي روي عن أنس بن مالك وأبي هريرة  قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(سيأتي على الناس سنوات خداعات  يُصدَّقُ فيها الكاذبُ، ويُكذَّبُ فيها الصادقُ ، ويُؤتمن فيها الخائن   ويُخوَّن فيها الأمين، وينطق الرُّويبضة)، قيل: وما الرَّويبضة ؟ قال:(الرجل التافه يتكلم في أمر العامة) . التافه : هو الخسيس الحقير . والرويبضة : من انحرف وراء فكر ، لا يجيز لغيره أن يناقشه فيه ، وهو السفيه الذي يتكلم في أمر العامة ، وليس عنده دين ولا عقل ولا حكمة ، يتحدث بلغة أهل العلم والفهم ، وهو في حقيقة الأمر، لا علم لديه ولا فقه ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ( يَخْرُجُ في آخِرِ الزَّمَانِ  قَوْمٌ أَحْدَاثُ الأَسْنَانِ  سُفَهَاءُ الأَحْلاَمِ ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ النَّاسِ ، يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ ، لاَ يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ   يَمْرُقُونَ مِنَ الإِسْلاَمِ  ،كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ  فَمَنْ لَقِيَهُمْ فَلْيَقْتُلْهُمْ ، فَإِنَّ قَتْلَهُمْ أَجْرٌ عِنْدَ اللهِ لِمَنْ قَتَلَهُمْ )أخرجه أحمد والتِّرمِذي وصححه   الألباني في صحيح الجامع .

إن من يطلقون هذا الوصف على من آمن بأن اختلاف وجهات النظر، مأنوس في تراثنا ، مقبولٌ في مسالكنا ، مأجورٌ عند الله سبحانه ، خطأً كان أم صوابا ، هو غيبة ونميمة ، تنم عن حقد دفين ، ومن يطعنون في المسلمين باسم الإسلام ، ويصفون من يقوم بتبيان الأحكام الشرعية بأدلتها التفصيلية ، بالرويبضة التافه ، كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً  يتيهون ويهيمون ، وليتهم عرفوا مدلولها الشرعي ، إنها حجة عليهم ، ديدنهم الكذب ، وشعارهم التدليس، لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة ، إذا رأوا عالماً أو طالب علم ، لا يوافق أهوائهم ، ولَغوا في عرضه  فتارة يتغامزون، ويهمزون ويلمزون ، وهم غافلون عن قول الله لاهون :﴿ وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ ﴾ وقوله:﴿إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُون ﴾  المطففين29. إنه زمن القابض فيه على دينه  ،كالقابض على الجمر ، زمن تصديق الكاذب ، وتكذيب الصادق  وائتمان الخائن ، وتخوين الأمين ، وكأن الدين من قلوب الناس قد انعدم ، والإيمان قد زال منها وانثلم ، ولقد أحسن من قال :

وكم فصيحٍ  أمات الجهلُ  حُجَّتَهُ  وكم صفيقٍ لهُ الأسـماعُ  في رَغَدِ

دار الزمان على الإنسان وانقلبَتْ   كلُّ الموازين واختلَّـتْ بمُســتندِ

أمَّا الذيـن كتـاب الله منهجهمْ        فهُمْ منـابرُ إشــعاعٍ بلا مَـدَدِ

ما ضرَّهم أبداً إسفاف من سفهوا   أو ضرَّهم أبداً  عقلٌ  بدون يــدِ

قال ابن تيمية رحمه الله: " إنما يفسد الدنيا ثلاثة أنصاف : نصف فقيه ، ونصف طبيب ونصف نحوي . فنصف الفقيه يفسد الدين ونصف الطبيب يفسد الأبدان ، ونصف النحوي يفسد اللسان " في زمن الرويبضة يصبح من لا عقل لهم ولا حِلم لديهم ، هم أهل الوجاهة والقيادة والاحترام، ويصبح العقلاء الحكماء الحُلماء هم الغرباء   أولئك التافهون ، الذين تعجبك أشكالهم  وأجوافهم فارغة ﴿ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّده ﴾ في هذا الزمن نرى العجائب ، نرى من يتصدر الناس بلسانه وقلمه ، ليوجه التهم ويصدر الأحكام في أمور تمس الناس عامة ، ولو كان لا يفهم فيها شيئاً ، ورحم الله محمد الغزالي إذ قال : الويل لأمة يقودها التافهون، ويخزى فيها القادرون " فالتافه رغم تفاهته ، قد شحذ لسانه ، وأشهر قلمه ، لا ليتحدث فيما يعنيه، لأن التافهون ، معروفون بقصور فهمهم ، لا يهمّهم أمرُ الدينِ في شيء  لأنهم أصحاب أهواء دنيويّة ، ومصالح شخصية ، يرفعون رايات الجاهليّة ، ويدعون إلى المبادئ الضالّة الهدّامة ، ويحاربون الإسلام بكل الوسائل ، إنّهم أئمّة الضلال الذين ابتليت بهم هذه الأمّة ، وأتباع الأهواء والشهوات ، وقادة الضياع الفكريّ  والانحراف السلوكيّ ، والإفساد الأخلاقيّ في الأرض ، حتى يئس البعض ، من صلاح أحوالها ، ولسان حاله يقول ما قاله شعبة :"عقولنا قليلة ، فإذا جلسنا مع من هو أقل عقلا منا ، ذهب ذلك القليل ، وإني لأرى الرجل يجلس مع من هو أقل عقلا منه فأمقته" . ولقد حرّم الإسلام تحريما شديدا أن يستغل صاحب المنصب  منصبه لتحقيق مصالح ومنافع شخصية  وهذا ما نبه إليه النبي عليه السلام ، في الحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة   قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إذا ضُيعت الأمانة فانتظر الساعة) قال:كيف إضاعتها يا رسول الله ؟ قال : إذا أُسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة). والأمانة تقضي ، بأن نختار للأعمال   أحسن الناس قياما بها ، فإذا أسندت للرويبضات ، فقد ارتكبنا خيانة فادحة  واستنادا إلى مجمل النصوص في هذا المجال ، وإلى القواعد العامة في الشريعة ومقاصدها، ذهب علماؤنا المحققون الصادقون من السلف والخلف ، إلى وجوب اختيار الأكفأ ، في عملية تولية المناصب ، وشدد على أهمية العناية بأمانة المناصب ، بالعديد من الأوامر والنواهي التي إن روعيت ، فسوف تتحقق مصالح العباد والبلاد، من جلب للمصالح والمنافع  ودرء للمفاسد والمصائب ، التي تقع بسبب الخيانة ، وتضييع الأمانة قال تعالى: ﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون ﴾الأنفال   27 . فالأمة التي لا أمانة فيها ، هي التي تهمل أصحاب الكفاءات والخبرات ، ولا تختار لكل عمل أهله ، ولكل ميدان فرسانه ، فإذا قام بالعمل من ليس له بأهل, فالننتظر  الساعة. لإن إسناد الأمور إلى غير أهلها خيانة ، من علامات الساعة ، ونحن مأمورون ، بمدافعة تلك العلامة ، بأن نسعى إلى أن نُسنِد الأمر إلى أهله ، لنحقق بذلك الأمانة في قوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ﴾النساء 58. ومن أعظم الخيانات ، إسناد الأمور إلى غير أهلها، لما في ذلك من الظلم للأكفأ ، لذا أمر الله سبحانه بأداء الأمانة إلى أهلها ، ومن يخالف أمر الله تعالى ،ويتبع هواه ، فهو ممن عناهم الله بقوله : ﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾القصص 50.

 لذا وضع الإسلام أسسا وقواعد لتولي وتقلد المناصب والأعمال، من بينها الأمانة والعلم والكفاءة والمقدرة ، والتفريط فيها بتسليمها للرويبضة ، يُعَد خيانة عظيمة. ولذلك لما سأل أبوذر رضي الله عنه الرسول عليه السلام ، لماذا لا يستعمله ، قال له : ( يا أبا ذر! إنك ضعيف ، وإنها أمانة   وإنها يوم القيامة ، خزي وندامة ، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها )  رواه مسلم. إذاً هناك شرطان لتولية الوظيفة : الأهلية لها، والوفاء بمتطلباتها كما ينبغي  أما الكفاية العلمية أو العملية ، فليست لازمة لصلاح النفس، فقد يكون الرجل رضي السيرة، حسن الإيمان ، ولكنه لا يحمل من المؤهلات المنشودة ، ما يجعله منتجا في وظيفة معينة ، فإذا ملنا  لغيره  لهوى أو رشوة أو قرابة ، فقد ارتكبنا  بتنحية القادر ، وتولية العاجز ، خيانة فادحة  وقد رُويت أحاديث ، تحذر من الخيانة في تولية المناصب للرويبضات ، تحذيراً شديداً وتُرهّب منه ترهيباً مخيفاً، لما روي عن النبي عليه السلام أنه قال :(من استعمل رجلا على عصابة ، وفيهم من هو أرضى لله منه  فقد خان الله ورسوله والمؤمنين) رواه الحاكم في المستدرك    

 

 

زنا العينين

خلق الله الإنسان ، وخلق فيه شهوة الفرج وحدّ لها حدوداً ونظمها ، ونظم لها طريق الحلال ، وحذّر من طريق الحرام ، بل حذّر من القرب من الحرام مخافة الوقوع فيه   لأن َكَثِيراً مِنَ النَّاسِ ممن َقَلَّ حَيَاؤُهُمْ   ينظرون إلى المحرّم ، غَيْرَ مُبَالِينَبماورد في القرآن والسنة النبوية ، من النصوص التي تنهى المؤمن ،ألا ينظر إلى محرّم ولا ينقل القول الفاحش ، ولا يشيع ذلك بين الناس، أخرج البخاري ومسلم عن ابن عباس ، قال : ما رأيت شيئا أشبه باللمم – كل ما دون الزنا- مما روي عن أبي هريرة : ( إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا ، أدرك ذلك لا محالة ، فزنا العينين النظر ، وزنا اللسان النطق ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي -تمنيها واشتهائها الزنا الحقيقي- وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ) ولقد أحسن القائل :

كـل الحوادث مبدأها من النظر     ومعظم النار من مستصغر الشرر

كم نظرة فتكت في قلب صاحبها   فتك الســهام بلا قوس ولا وتر

والعبــد ما دام ذا عين يقلبها        في أعين الغيد موقوف على الخطر

     يسـر مقلته ما ضـر مهجـته     لا مـرحبا بسرور عاد بالضـرر

 وقد أنعم الله علينا بنعمة السمع والبصر   فقال تعالى : ﴿ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ﴾الملك 23، وشكر هذه النعمة ، من أوجب الواجبات   لذا  يتحتم علينا أن نستحي من صاحب هذه النعمة ، وأن نراقبه فيها ، فلا ننظر إلى ما حرّم الله ، وأن نسخرها فيما يرضي الله  

وسوف نُسئل عما رأيناه بأبصارنا قال تعالى

: ﴿ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً﴾ ولما كان إطلاق البصر سببا لوقوع الهوى في القلب ، أمر الشارع بغض البصر، عما عمّا حرّم الله تعالى ، وعن محلّ الشهوة ، لأن قضية الجنس قضية دقيقة ، لأنها شهوة ذات قوة جذب لا يمكن أن ينجو منها الإنسان ، إلا إذا أبقى بينه وبينها هامش أمان، لذلك لم يرد في القرآن آية تنهى عن الزنا ، ولكنها جاءت تنهى عن الاقتراب من الزنا، كإطلاق البصر     ومتابعة الأفلام الإباحية ، فهذه محرمة   لأنها الطريق الموصل إلى الفاحشة ، ولأن إطلاق البصر ، سبب لأعظم الفتن، فكم فسد بسبب النظر من عابد، وكم انتكس بسببه من شباب وفتيات كانوا طائعين، وكم وقع بسببه أناس في الزنى والفاحشة   فالعين مرآة القلب، فإذا غض العبد بصره غض القلب شهوته وإرادته، وإذا أطلق العبد بصره ، أطلق القلب شهوته وإرادته، فيشغله ذلك عن الفكر فيما ينفعه في الدار الآخرة.

فيا أيها الإنسان ، لماذا تتجاهل أن الله يراك أينما كنت ، ويعلم ما تخفي وما تعلن فقال  : ﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ ويا من جلست أمام المشاهد الفاضحة   لترى الرجال والنساء ، يرتكبون الفواحش المغلظة ، بأبشع صورها وأفضح مناظرها   ما تستنكره الفطر السليمة ، والأعراف المستقيمة ، لماذا وأنت تتلذذ بالنظر إلى الأجساد الفاضحة ، تتناسى أن الله جل وعلا من فوقك ، مطلع عليك ، يرى حركاتك وسكناتك ، ويرى عيناك ، وهما تحدِّقان بالفاحشة ، ويرى سمعك وهو يتمتع بأصوات البغايا ، وأنت غافل أو متغافل عن رقابة الله لك ، وشهود الله عليك ومنها جوارحك ، التي ستشهد عليك يوم القيامة ، قال تعالى :﴿ يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية ﴾ يوم تتكلم الجوارح وتشهد عليهم ، قال تعالى : ﴿ حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون﴾ فيخاطب المرء جوارحه ﴿ وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا﴾ ، ﴿ قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء ﴾ فأين استشعار شهود الله عليك ؟! وأين استشعار رقابة الله لك ؟! وأين الحياء من الله ؟! ألا تستحي أن يراك الناس أو أحداً من أهلك ؟! فمن أحق بهذا الحياء   أليس الله أحق بذلك ؟ ألا تذكر اطلاع الله عليك عندما اختفيت عن أعين البشر ؟ لترى تلك الصور ، ألا تتذكر مَنْ لا تخفى عليه خافية ، ولقد أحسن من قال :    

 إذا خَلَوتَ بريبـة في ظُلمةٍ       والنفس داعيـة إلى العصيان

فاستحي من نظر الإله وقل لها   إن الذي خلق الظلام يراني

إن الأمر خطير ، والاستمرار عليه اخطر لأن حكم هذا المشاهد الساقطة والمقززة  محرمه بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإجماع المسلمين، فإن الله جل وعلا ، قد حرم مجرد النظر إلى النساء الأجنبيات أو مخالطتهنَّ ، ولو لم يكن في ذلك شيء من الفاحشة؛ كما قال تعالى:﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ﴾ وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تتبع النظرة النظرة فإن الأولى لك والثانية عليك ) رواه مسلم. فإذا كان هذا النهي عن النظرة العادية ، فإن حكم مشاهدة الأفلام الإباحية ، ولا شك التحريم القطعي ، الذي لا ريبة فيه ، لمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، وإذا كان هذا حكم مشاهدتها ، فكيف بإشاعة هذه الفاحشة بين الشباب ، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ﴾النور .

هذا العذاب للذين يحبون إشاعة الفاحشة بين المسلمين ، فكيف بمَن يقوم ببث ذلك في بيوت المسلمين؟!إنها ولا شك أشد حرمة ، وان عليه وزرها ووزر من عمل بها    قال صلى الله عليه وسلم:( من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً. ومن دعا إلى ضلالة كان عليه وزر من تبعه لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً ) رواه مسلم .

إن مشاهدة الأفلام الإباحية والاستمرار عليها ، يفضي إلى ما هو اشد حرمه  كطلب الجماع فيما حرّم الله ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا ينظر الله إلى رجل أتى امرأته في الدبر) أخرجه ابن أبي شيبه والترمذي وحسنه وللأسف إن كثيرا ممن ابتلي بمشاهدة هذه الأفلام الساقطة ، يشتهي أن يطبق ما يراه فيها، والواقع خير شاهد على ذلك.

 وقد أثبتت الدراسات النفسية ، أن من يشاهد الأفلام الإباحية ، تتأثر نظرته للعلاقة الجسدية ، ولا يحصل على الإشباع الذي يحصل عليه ، من لا يشاهد هذه الأفلام.

كما أن المدمن على مشاهدتها ، ينتهي به الأمر إلى أن زوجته لا تثيره جنسيا ، ولا تحرك شهوته ، وإن كانت أجمل الجميلات   لأنّ الشّيطان يريد أن يُلبس عليه، وأن يضِّله وأن يوقعه في المعصية ، وقد تؤدي إلى انعدام الرّغبة في الزّوجة، وقد يؤدي ذلك إلى طلاقها ، لذا يحرم النظر إلى الصور الإباحية ، سواء كان عن طريق التلفزيون أو المجلات أو غيرها من الوسائل ، وهو من الجرائم المنكرة ، والأخلاق الدنيئة ، ويعظم التحريم ، لأن النظر إلى هذه الصور ، فيه مفاسد كثيرة ، منها تزيين الفاحشة ، وزهد الرجل بامرأته والمرأة بزوجها ، ومن أدخلها إلى بيته أو رضي بها فهو مضيع للأمانة وفيه نوع دياثة والعياذ بالله.

ومن نظر إلى هذه الصور وداوم على مطالعة هذه المواقع قاده ذلك إلى الاستغناء بهذا عن الزواج المباح، أو التقصير في حق زوجته ، وقسوة قلبه،وزهده في الحلال، واشتياقه لمواقعة المحرم ، لأن الرجل الذي يرى هذه الصور والأفلام الإباحية قد لا تعجبه بعد ذلك زوجته فيكرهها وينبذها ويستغني عنها ويشعر باشمئزاز منها ، والخطر أنّها تقود إلى تقويض العلاقات الأسرية بشكل عام، كأنّ يمل الرجل من زوجته . الأمر يبدو واضحا إذا علمنا أن مدمن الخيال و الأحلام و مهما امتلكت زوجته من مقومات الجمال فسيملها ولن تبلغ في درجة إقناعه ما وصلت إليه أولئك النساء اللاتي يراهن في الأفلام ، وقد يغويه الشيطان ، فيبحث عن مصدر آخر للاستمتاع ، ظنا منه أن المشكل يكمن في زوجته ، فيتزوج عليها ، وإن كان ضعيف الدين ، يبحث عن خليلة تطفئ ظمؤه   وهذا خيانة للزوجة ، ولا يدري أنه إن عاشر نساء الدنيا كلها ، فلن يصل إلى الإشباع الذي يبحث عنه ، ولهذا روج أعداء الإسلام وصناع الإباحية هذه الأفلام إلى بلاد المسلمين وأنشأوا قنوات متخصصة في هذا البلاء   لزعزعة استقرار الأسر وتدميرها .

 

 

صلاحية الإسلام لكل الأزمان

يتحدّث الكثير من أبناء المسلمين عن خطورة التحديات المعاصرة ، وصعوبة التغلب عليها ، فقالوا بعدم صلاحية شريعة الإسلام ومنهجه ، في هذا العصر الذي تواجه تحدياته العلمية والحضارية العالم الإسلامي ، وتجاهلوا أن مواكبة العصر لا تكون بمخالفة أحكام الله وشرعه ، وتقليد كل كافر وفاجر، وأن المطلوب إخضاع الواقع لشريعة الإسلام ، لا مسايرته وموافقته  وإن اتهام الإسلام وأهله ، بالجمود والتطرف ، دعوى يرددها أعداء الإسلام فهل يرضى المسلم أن يكون في صفهم؟ ولماذا لا يتدبَّر قول الله تعالى :﴿ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ المائدة 51 ، ولماذا لا يحكِّم عقله في الأمور، ويسأل أهل العلم فيما يستجد، فإن قالوا فيها حكم الله ، فلا يجوز أن يتهم الإسلام ، وما يتهم الإسلام إلا جامد ومتطرف، ومن هذا حاله فقد خلع ربقَة الإسلام وخرج من الملة.

إن الدين الإسلامي ، صالح لكل زمان ومكان؛ وقد سبق في علم الله ، أن رسالة الإسلام هي الخاتمة، والله سبحانه يعلم متغيرات الحياة ، وتبدّل المجتمعات إلى قيام الساعة، وهذا يعني ، أن هذا الدين صالح لكل زمن ، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، والتشريع الإسلامي ، شامل متكامل؛ قال تعالى:﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً ﴾المائدة 3. فلا ينبغي للمسلم ، أن يتنازل عن المحافظة على (أسلمة) الفكر ولا مانع من عصرنة الأسلوب ، لا عصرنة الإسلام. لأن أساسيات الدعوة ، لا تتغير  إنما يتغير الأسلوب ، ليتلاءم مع طبيعة المجتمعات، مع مراعاة اختلاف البيئات   لأن شريعة الإسلام في أصلها ، تناسب كل العصور، وإذا كنا لا نستطيع تطبيق شريعة الإسلام  ،كما طبقها رسول الله  صلى الله عليه وسلم ، فهذا لا يعنى أن الإسلام غير قابل للتطبيق ، في كل زمان ومكان   فتطبيق الشريعة الإسلامية ، كان موجوداً ومطبقاً في الزمن السابق ، وإن عدم التمكن من تطبيقها هذه الأيام ، لا يعنى فشل الإسلام ، ولا يعنى أن الإسلام غير قابل للتطبيق ، مما يدل على أن العيب في المسلمين ، وليس في شريعة الإسلام ، لأن الأصل في أوامر الله وأحكامه ، هو الثبات والبقاء، ولا يملك بشر سلطةً ، فوق سلطة الله، حتى يلغي أحكامه .

وقد خاطب الله في القرآن ، البشرية جميعاً إلى يوم القيامة ، بلا تقييد بزمان دون زمان أو مكان دون مكان، وجاء كتابا مفتوحا يخاطب جميع العقول ، لا في عصر النزول   بل ممتداً لجميع العصور، ولم يأت القرآن بشيء يخالف العقل السليم، ولم يأت بشيء يؤخر الإنسان، وإنما أتى بما يرقى بعقل الإنسان ، في كل مجال من مجالات الحياة ، في حدود ما أحله الله ، ومن يطبق القرآن ويعمل به ، ينل خير الدنيا والآخرة  وقد صرح بذلك البروفسير –إيرفنج- الأستاذ بجامعة –تنسي الأمريكية- حينما وقف مخاطباً للمسلمين فقال: تعلَّموا الإسلام وطبقوه ، واحملوه لغيركم من البشر تنفتح أمامكم الدنيا، ويدين لكم كلُّ ذي سلطان، أعطوني أربعين شاباً ، ممن يفهمون هذا الدين ، فهماً عميقاً ، ويطبقونه على حياتهم ، تطبيقاً دقيقاً، ويحسنون عرضه على الناس ، بلغة العصر وأسلوبه، وأنا أفتح بهم الأمريكيتين " نقلاً عن قضية التخلف العلمي والتقني في العالم الإسلامي للدكتور زغلول النجار. أما من قال إن القرآن لا يستطيع مواكبة التطورات في كل عصر، لأنه نزل على مجتمع بدائي، فيرد عليه سيد قطب قائلاً: " إن شريعة ذلك الزمان ، الذي نزل فيه القرآن ، هي شريعة كل زمان، لأنها بشهادة الله ، شريعة الدين الذي جاء للإنسان، في كل زمان وفي كل مكان ، لا لجماعة من بني الإنسان ، والله الذي خلق الإنسان ، وعلم من خلق ، هو الذي رضي له هذا الدين ، المحتوي على هذه الشريعة، فلا يقول : إن شريعة الأمس ليست شريعة اليوم ، إلا رجل يزعم لنفسه أنه أعلم من الله ، بحاجات الإنسان  وبأطوار الإنسان ". في ظلال القرآن .

إن القرآن كتاب الله ، الذي أنزله لهداية البشر، وتذكيرهم وإنذارهم ، وتبشيرهم وإخراجهم ، من ظلمات الضلال والمعاصي  إلى نور الهدى والطاعات ،  قال الله تعالى:﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَالبقرة 2  وقد تضمن القرآن الكريم التشريع الرباني ، الذي شرعه الله لبني البشر  وتعبدهم بالعمل به ، والتحاكم إليه ، قال   تعالى:﴿ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ الأعراف3 . وقد تضمن كل ما يحتاجه البشر، في دينهم ودنياهم، وما يحقق مصالحهم، قال  تعالى:﴿ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍالأنعام 38. وإذا كان الغرب يملك اليوم زمام العلم والتكنولوجيا ، والتقدم المادي ، ويقيم حضارته على أساسها ، بعيداً عن المبادئ والقيم والأخلاق، فإننا بالإسلام ، نملك ما هو أثمن من ذلك، نملك غذاء الروح والفكر، الذي تفتقده الحضارة الغربية  ونملك به ، أسس وقواعد ديمومة الدول  وسر بقائها، ولكن المشكلة هي: كيف نعرض شريعتنا، وكيف ندعو لقيمنا، وكيف نحاور بالتي هي أحسن ، هناك اختلاف  بين سلوكنا ، وبين مبادئنا ، وهذا ما يعيق دعوتنا ، ويؤخر مسيرة أمتنا ، لأننا في أمس الحاجة لتطبيق مبادئ الإسلام ، على أنفسنا  قبل أن نقدِّمها للغير، حتى ننجح في حوارنا مع الغرب والشرق، ومن واجبنا اليوم في علاقتنا مع الغرب ، أن نكون مؤثرين لا متأثرين، وفاعلين وصانعين للأحداث لا مستقبلين، حتى نعيد لأمتنا ، وجهها الحضاري والإنساني ، ودورها الايجابي المشرق، هذا لأن صلاحية دين الإسلام لكل زمان ومكان ، أمر مسلَّم به عند العقلاء ، فضلاً عن شهود الأدلة الشرعية عليه ، فهو خاتمة الأديان ، وهو الذي ارتضاه الله لنا ، قال تعالى : ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا المائدة 3 ، فكيف يحتاج الناس إلى غيره مع تمامه ؟ أم كيف يرجون الهدى في سواه ، ولا دين بعده ؟ وإن القرآن الكريم كتاب هداية وإرشاد للعباد  وليس كتابا لذكر عجائب الدنيا ، لأنه منهج لتقويم حياة الناس ، على أساس الرابطة بينهم ، وبين ربهم، قال سيد قطب في الظلال:" وإني لأعجب لسذاجة المتحمسين لهذا القرآن ، الذين يحاولون أن يضيفوا إليه ما ليس منه ، وأن يحملوا عليه ، ما لم يقصد إليه ، وأن يستخرجوا من جزئيات ، في علوم الطب والكيمياء والفلك وما إليها ، ليعظموه بهذا ويكبروه! والقرآن كتاب كامل في موضوعه، وموضوعه أضخم من تلك العلوم كلها ، وإن كل محاولة لتعليق الإشارات القرآنية العامة ، بما يصل إليه العلم ، من نظريات متجددة متغيرة أو حتى بحقائق علمية ، ليست مطلقة   تحتوي أولاً على خطأ منهجي أساسي ، كما أنها تنطوي على معان ثلاثة ، كلها لا يليق بجلال القرآن الأولى: الهزيمة الداخلية التي تخيل لبعض الناس ، أن العلم هو المهمين والقرآن تابع " . إن كتاب الله شامل كامل ويصلح في كل زمان ومكان ، ولا يعني ذلك أنه قد حوى جميع جزئيات الكون ، بل إنه تضمن أصول كل الأشياء وكلياتها ، وترك أمر هذه الجزئيات للعقول، قال الإمام الغزالي:" فتفكر في القرآن ، والتمس غرائبه لتصادف فيه مجامع علم الأولين والآخرين   وإنما التفكر فيه  للتوصل من جملته إلى تفصيله ، وهو البحر الذي لا شاطئ له ". وأخيراً : إن من جواهر القرآن ، أن الإسلام مؤهل بكل المقاييس  لمواجهة تحديات العصر الحديث، ومؤهل للتعاون باستمرار ، مع كل القوى المحبة للسلام ، والتقدم في العالم ، من أجل خير الإنسان وسعادته ، في كل زمان ومكان.

 

 

 

 طريق النصر

إننا نعيش في أيام أصبحت الأمة الإسلامية ومقدراتها مقصد الطامعين  فما هي طريق النصر عليهم ؟ وكيف ننتصر ؟ ومن هم جنود النصر ؟ ومن يقودنا ؟ إذا علمنا أن الدعوة إلى الله   لا تزال فارغة في خارطة العالم    فإذا قادها المسلون ، أحسنوا إلى الإنسانية ، وإلى أنفسهم والمؤمنون وحدهم في هذا العالم ، من يصلحون لقيادته ، لأنهم أصاحب عقيدة لا تزول ولا تتحوَّل ، ولأن المؤمن يحمل في جنبه قلباً يفيض حناناً ورحمة بالبشر ، دائم الحنين إلى ربه ، شديد الشوق إلى جنته ، لا يبالي أوقع عليه الموت أم على الموت وقع ، فهو إذن معقل الإنسانية ، ومنتهى الرجاء وأمين الله في الأرض ، وخليفة الأنبياء ، ولأن الله وعد بنصر المؤمن بهذه الصفات  فقال تعالى : } وكان حقاً علينا نصر المؤمنين {الروم 47 .

فما المطلوب من المسلمين حتى يكون لدعوتهم تأثيرها هذه الأيام   ويتوفر فيهم أهم شرط من شروط النصر، وهو الإيمان ، كما كان المسلمون في صدر الإسلام ؟ فقد كانت كلمة الإسلام التي كانوا يتلفظون بها ، ذات حقيقة ثابتة  والتي تحولت هذه الأيام ، إلى ألفاظ مجردة ، ونطق فارغ ، ولذلك لا نرى لها تأثيراً في حياة الأمة ، نرى من  يتوجهون إلى الله ، يطلبون أن يمنحهم النصر المبين ، والاستخلاف والتمكين ، كما منحه لأجدادنا السابقين ، وبذلك نخدع أنفسنا ، لأننا لا نتأسى بهم ، فقد كانوا أصحاب جدٍ وكانت كلماتهم وأفعالهم تمثل حقيقة الإسلام ، بينما نحن متجردين عن هذه الحقائق ، لقد تمثلوا حقيقة الإسلام في كل ميدان ، ففي معركة اليرموك كان المسلمون بضعة آلاف   أما الروم فقد كان عددهم يبلغ أكثر من مائتي ألف ، فإذا بنصراني كان يقاتل تحت لواء المسلمين يقول : ما أكثر الروم وأقل المسلمين ، فيقول خالد : " ويلك أتخوفني بالروم ؟ إنما تكثر الجنود بالنصر وتقل بالخذلان لا بعدد الرجال .. " ، فلماذا كان خالد مطمئناً ؟ ولماذا لم يشغل خاطره هذا العدد الهائل من جنود الروم ؟ لأنه كان مؤمناً بالله واثقا بنصره ، وكان يعلم أنه على الحقيقة ، وأن الروم صورة فارغةٌ عن الحقيقة ، وكان يعتقد أن الصورة مهما كثرت ، لا تقدر أن تقاوم حقيقة الإسلام ، وهكذا كان المسلمون شجعاناً أقوياء ، لا يهابون العدو ، ولا يخافون الموت  أتى رجلٌ من المسلمين يوم اليرموك وقال للأمير : إني قد تهيأت لأمري  فهل لك من حاجة إلى رسول الله e ؟ قال نعم تقرئه عني السلام وتقول : يا رسول الله إنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا . فهل يصدر هذا الكلام إلا من شخصٍ يوقن أنه مقتولٌ في سبيل الله  وإذا حصل له هذا اليقين ، فما الذي يمنعه من استقبال الموت ؟ وما الذي يحول بينه وبين الشهادة ، هكذا كان أصحاب رسول الله e لا يثبت لهم العدو فواق ناقةٍ عند اللقاء . روي أن هرقل لما انهزمت الروم قال لهم : ويلكم أخبروني عن هؤلاء القوم الذين يقاتلونكم أليسوا بشراً مثلكم ؟ قالوا : بلى . قال : فأنتم أكثر أم هم ؟ قالوا بل نحن أكثر منهم أضعافا في كل موطن  قال : فما بالكم تنهزمون ؟ فقال شيخٌ من عظمائهم : من أجل أنهم يقومون الليل ، ويصومون النهار ، ويوفون بالعهد   ويأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر  ويتناصحون بينهم ، ومن أجل أننا نشرب الخمر ، ونزني ، ونركب الحرام وننقض العهد ، ونغضب ونظلم ، ونأمر بالسخط ، وننهى عما يرضى الله ، ونفسد في الأرض . فقال أنت صدقتني .

إن نظرة إلى واقعنا نجد أن نصيب صورة الإسلام في حياتنا أكثر من نصيب حقيقته ، وهذا سرُّ مصابنا وهزيمتنا ، إننا نؤمن جميعاً أن الآخرة حق  ، والجنة حق ، والنار حق ، والبعث بعد الموت حق ، ولكننا لسنا حاملين لحقيقة هذا الإيمان   كأصحاب رسول الله e ومن تبعهم بإحسان . الذين عندما سمع أحدهم رسول الله e يقول : قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض ، رمى بما معه من التمر وقال : لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه ، إنها لحياةٌ طويلة ، وقاتل حتى قتل . لأن الجنة كانت عنده حقيقة لا يشك فيها .     ففي تاريخنا المعاصر فضحتنا صورة الإسلام في كل معركة وحرب ، لأن الذنب ذنبنا ، عندما عقدنا الآمال الكبار، بالصورة الضعيفة ، فخّيبت رجاءنا ، وكذبت أمانينا ، وخذلتنا في الميدان ، ويتكرر الصراع بين صورة الإسلام ، وشعوب العالم وجنوده   ففي كل مرّة تنخذل وتنهزم الصورة   ويعتقد الناس أنه هزيمة الإسلام وخذلانه ، حتى هان الإسلام عند بعض الناس ، وزالت مهابته في قلوبهم ، متناسين أن حقيقة الإسلام لم تتقدم إلى ساحة الحرب منذ زمن طويل ، ولم تنازله هذه الدول المعتدية ، وان الذي يبرز في الميدان هو صورة الإسلام لا حقيقته ، فتنهزم الصورة أمام الواقع ونولي الأدبار .

لذا على كل مسلم أن يعلم أن وعد الله بالنصر والفتح في الدنيا ، والنجاة والغفران في الآخرة ، محصورٌ في حقيقة الإسلام ، وذلك في قوله تعالى :}ولا تهنوا ولا تحزنوا وانتم الأعلون إن كنتم مؤمنين {آل عمران 139جاء الخطاب للمؤمنين ، واشترط الإيمان لعزة المسلمين والعلو في الأرض . وقد أكد ذلك في آية أخرى فقال تعالى : } إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد {غافر 51 . وكل وعد من الله بالنصر في القرآن   اشترط أن يكون في المسلمين حقيقة الإيمان ، وإن أكبر مهمة مطلوبة للأمة ، هي الانتقال من صورة الإسلام إلى حقيقته ، بذلك تستطيع الأمة أن تذلل كل عقبة ، وتهزم كل قوة ، وتأتى بعجائب وآيات من الإيمان والشجاعة والإيثار ، يعجز الناس عن تعليلها ، كما عجزوا من قبل ، عن تعليل حوادث الفتح الإسلامي ، كما على الأمة أن تعلم   أن النصر والخذلان من عند الله   فعندما نقرأ قول الله تعالى : } إن ينصركم الله فلا غالب لكم { نجد المقابل } وإن يخذُلْكم فمنذ الذي ينصُرُكم من بعده {آل عمران 160 . إذن  للنصر قوانين وسنناً ، فإذا أخذنا بالأسباب التي أمرنا الله بها على قدر الاستطاعة ، فلا ينبغي أن نقارن عددنا بعدد أعدائنا ، ولا عدتنا بعدتهم   لأن الله لا يكلفنا أن نقابل عددنا بعددهم أو عدتنا بعدتهم ، بل طالبنا أن نعد ما استطعنا فقال سبحانه  وتعالى : } وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة { فالله يريد أن يصحب ركب الإيمان معونة المؤمن بالله ، أما لو كنا متساوين معهم في العدد والإعداد  لكانت القوة تقابلها قوة ، فتكون الغلبة للأقوى ، ولكن الله يريد أن يكون العدد قليلا ، وتكون العدة أقل   وعند اللقاء نتوجه إلى الله ، بما قدرنا عليه ، وبالأسباب التي مكننا منها   ونؤمن بأن الله مولانا ، يعيننا على أعدائنا ويمدنا بمدد من عنده قال تعالى : } ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم { . فعندما ننصر الله نضمن نصر الله لنا   أما كيف نعرف أننا ننصر الله ؟ نعرف ذلك عندما ننتصر ، فمن بنصر الله ينصره ، قانون جاء بصيغة الشرط والجزاء ، في قوله تعالى: } إن ينصركم الله فلا غالب لكم {.

 

 

 

 

 

عاقبة الإفساد  

لقد أنزل الله منهجاً لحياة الناس ، فبذل المفسدون كل ما في جهدهم ، لإفساد هذا المنهج ، بل تآمروا ضده ، وادعوا أنهم مؤمنون به ، ليطعنوا الإسلام من داخله ، وقد تنبه أعداء الإسلام إلى أن هذا المنهج ، لا يمكن أن يتأثر بطعنات الكفر ، بل يواجهها ويتغلب عليها ، لأنه ما قامت معركة بين الحق والباطل إلا انتصر الحق ، وتنبهوا إلى أن هذا المنهج لا يمكن أن يهزم ، إلا من داخله ، وذلك لا يمكن إلا باستخدام المنافقين في الإفساد   الذي يمكنهم من تفريق المسلمين ، فظهرت العلمانية واليسارية وغيرها ، وغلفوها بغلاف إسلامي ليفسدوا في الأرض ، ويحاربوا منهج الله ، وإذا طلب منهم أن يمتنعوا عن الإفساد  ادعوا أنهم لا يفسدون ، ولكنهم يصلحون   مع أنهم في الحقيقة مفسدون ، لماذا ؟ لأن في قلوبهم كفراً وعداءً لمنهج الله ، وإعراضاً عن المنهج ، الّذي رسمه الله عزّ وجلّ لصالح البلاد والعباد ، فأصبحنا نعاني من الشقاء والشرّ والفساد ، بدلا من السعادة والخير والصلاح قال تعالى: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ﴾ . ولذلك استغلت الوظائف العامة للمصالح الخاصة ، وظهرت الخيانة بين أفراد المجتمع ، وانتشر الغش  والاعتداء على أرزاق الناس وممتلكاتهم ، في منطق يعتمد قَلْب الحقائق ، وتزييف الأمور وطَمْس الحق، وتزيين الباطل!  فترى المفسدين يرون الحقَّ باطلاً، والباطلَ حقًّا ، والإيمان كُفرًا والكفر إيمانًا، والنصر هزيمة ، والهزيمة نَصْرًا  والعُرْي فَنًّا، والفنَّ عُرْيًا، والذلَّ عِزًّا والعِزَّ ذُلاًّ ولسان حالهم يقول كما قال سيدُهم في الإفساد وقُدْوَتهم في الباطل: ﴿ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ﴾ غافر  29. وقد نهى الله عن الفساد ، وتتابعت رسُل الله وأنبياؤه ، ينهَون عنه في الأرض ، قال تعالى : ﴿ وَٱبْتَغِ فِيمَا ءاتَاكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ ٱلْفَسَادَ فِى ٱلأرْضِ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُفْسِدِينَ ﴾ القصص 77 . وجاء الإسلام  يدعو إلى الخير ، وينهى عن الشرّ والفساد﴿ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى ٱلأرْضِ بَعْدَ إِصْلَـٰحِهَا ﴾الأعراف 56   

ولا صلاح في الأرض ، لا يكون إلا بدين الإسلام ، ولا عجب أن كان الإفساد في الأرض بعد إصلاحها من أعظم الإفساد وأقبحه، وأشده إيغالاً في الشر ، ولذلك اعتُبر من الكبائر الموبقات المهلكات ، التي توعد الله من اقترف منها شيئاً ، بأليم عقابه، وبينها رسول الله في الصحيح الثابت من سننه كالسحر وقتل النفس التي حرمها الله إلا بالحق، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات، وعقوق الوالدين ، وشهادة الزور والزنا، وشرب الخمر، وتعاطي المخدرات والسرقة، وقطيعة الرحم، وأكل أموال الناس بالباطل، وطلب الرشوة أو أخذها ، والفساد الإداري في الأجهزة والإدارات المختلفة  وكذلك الاعتداء على حقوق الآخرين ، بسرقة أو نحوها، واحتكار المواد الغذائية ، وخاصة الضروري منها ، وأشد ذلك إيلاما ، ما يفعله الظلمة اليوم ، من القتل والهدم والتشريد والحصار الذي لم يستثن شيخاً كبيراً، ولا شاباً  ولا طفلاً صغيراً، وغير ذلك من الموبقات ، التي يوبِق بها المرءُ نفسه، فتنتقص من إيمانه، ويغدو باقترافها مطية للشيطان ، يسوقه إلى حيث شاء من سبل الشرور ، ومسالك الغواية ويطمس بصره عن البينات، ويعمي بصيرته عن الهدى، ويزين له عمله، ويمد له في غيه، ويحسّن له عوجه، حتى يرى حسناً ، ما ليس بالحسن فيحسب أن ما هو عليه من الإفساد في الأرض ، هو الصلاح حقاً بلا ريب، شأن أهل النفاق ، الذين أخبر الله عن حالهم بقوله : ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى ٱلارْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ ﴾البقرة11. وإذا كان الفساد في الأرض إنما يقع فيها بما كسبت أيدي الناس ، كما قال سبحانه : ﴿ ظَهَرَ ٱلْفَسَادُ فِى ٱلْبَرّ وَٱلْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى ٱلنَّاسِ ﴾الروم 14 ، لذا فإن علاجه ورفعه ، لا يكون إلا بما تكسبه أيدي الناس لأن الله لا يغير ما بقوم ، حتى يغيروا ما بأنفسهم ، ولا يتم ذلك ، إلا إذا تاب الناس إلى ربهم ، والتمسوا رضوانه ، وعبدوه حق العبادة ﴿ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى ٱلأرْضِ بَعْدَ إِصْلَـٰحِهَا وَٱدْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ مّنَ ٱلْمُحْسِنِينَ ﴾ الأعراف 56 . هناك جهات موجَّهة   لا تحب الطُّهْر في الاعتقاد ، ولا في الحياة الاجتماعية، فنَحَرَوا الحياء والعِفَّة ، بسكين الحرية المغشوشة، وطَعَنَوا السعادة بِخِنْجر الغَلاء والثراء، وضربوا العِزَّة والكَرَامة ، بمدْفَع الذُّلِّ والاستبداد! وما أحبُّوا الطُّهْر الاقتصادي  فطَحَنَوا الشعوب والأمم ، بِرَحى الرِّبا والاحتكار! وما أحبُّوا الطُّهْر السياسي، فأقصوا شَرْعَ الله، وحَارَبَوا عباد الله ، وحَرَمَوا الشعوب من عَدَالة الإسلام تحت ستار الإرهاب   وراحوا يشجعون كل فساد وفرقة بين المسلمين ويبطنون العداء للإسلام وأهله ، ويروجون للشائعات والأراجيف ، والأباطيل التي يقصدون بها ملء القلوب ، من الفتن والمصائب ، وشحْنها بالأحقاد والبغضاء على  الأمة ، فراحوا يستغلون كل حدث، ليوظفوه في سبيل ضرب الأمة ببعضها ، في مؤشر لكثرة المبطلين، وضعف الخيرين ، والأمة التي يسري فيها الفساد ، ولا تستنكر، ليست خليقةً بالبقاء، لأن الناس إذا رأوا الظالم ، ثم لم يأخذوا على يديه ، أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده،  وإذا ترك الناس كما يطال الإفساد ليطال منهج الله ، فإن ذلك يسبب الخلل في النظم والقوانين ، كما يطال الإنسان في نفسه وفي وجدانه، ومشاعره وحاجاته الجسدية والروحية ، وفي أفكاره فيسممها، وفي روحه ا فيدمرها، وفي عقله فيخربه ، وفي قلبه فيقسو ويموت، وفي أخلاقه فينحرف بها عن خط الإسلام ، ولعل أكثر ما يعزّز موقع الفساد أن يتولى المفسدون ، مواقع السلطة أو يمتلكون الصلاحيات ، مع غياب الرقابة أو المحاسبة ، وإلى هذا أشار القرآن الكريم عندما قال:﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ ﴾ البقرة 204 . ولا فرق، بين أن تكون السلطة   سياسية أو دينية. فقد قال رسول الله عليه وسلم : ( اثنان إذا صلحا صلحت الأمة وإذا فسدا فسدت الأمة: العلماء والأمراء ) . أليست سلطة الفتيا هي واحدة ، من هذه المسؤوليات التي تتحمّل المسؤولية عما يجري اليوم، من تعطيل للعقول وتخديرها ، وقسوة القلوب وفظاعة المواقف والأفعال ، وصولا إلى الفساد الأكبر ، وهو استباحه دماء الناس الأبرياء  كما نشهد في واقعنا ، وتطالعنا به الفضائيات يومي ،ا وتزودنا به ونسمعه في الأخبار، لذا فنحن مدعوين إلى الوقوف أمام ظاهرة تسميم العقول والأفكار ، وتوريط ضعيفي العقول في ضرب استقرار الأمة الإسلامية، وندعو بأن يهدي الله صناع القرار ، ومن حمّلهم الله مسؤولية مواجهة المفسدين ، وسماهم المصلحين   الذين خفتت أصواتهم ، خشية أن يروا متلبسين بالإصلاح  ، أو بقول كلمة الحق     فكم نحن بحاجة إلى رفع صوت الإصلاح ، إذ لا يجوز السكوت ، لأن الساكت عن الحق شيطان أخرس ، ولا نجاة لنا إلا بالسعي نحو الإصلاح  : ﴿ وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون ﴾ وقد ذكر الله في القرآن ، خبر الأقوام الذين أفسدوا في الأرض فنزل بهم البلاء، وقد حذرنا الله أن نسلك مسلكهم، وبين لنا ما ينتظرهم من العذاب   فقال تعالى: ﴿ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ .

 

 عاقبة اليأس

 إن القرآن يضع اليأس في مرتبة الكفر ويقرن القنوط بالضلال، قال تعالى:﴿ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ ﴾5الحجر  وإن الضعف الذي يصيب الأمة ، إنما جاء من حصول الإحباط واليأس ، الذي استولى على القلوب ، فأدى إلى الإفراط في الحديث ، عن جوانب القصور والتفريط  والقنوط من الإصلاح، وقبول الضعف كواقع لا بديل عنه، فهو داء يزرعه العاجزون عن الإصلاح ، بين أفراد الأمة خدمة مجانية لأعدائها ، يساعدهم الإعلام   في زرع هذا الداء ، عندما يتحدّث للمستمعين والمشاهدين ؛ بانتفاء المصائب التي تعاني منها الأمة ، وتضليل فكرهم عن أصول المصائب ومصادرها، ونشر ثقافة الوهن وحب الدنيا، والتصالح مع الضعف     على حساب المبادئ ، استجابة للضغوط المعادية للإسلام ، وعلاج المصائب التي تعاني منها الأمة ، بمبدأ اليأس من علاجها وترويض الأمة ، بعقلانية التعايش معها   ويساعد على ذلك ، أصحاب القلوب القاسية ، الذين يزرعون اليأس في القلوب  لأنهم يلهثون وراء الشهوات ، ويتفاخرون بتحصيل الملذات ، فإذا أصابتهم الشدة والبلاء والخوف، طغت على تفكيرهم الماديات، وأصابهم الفزع ، فلا ثقة عندهم بدين، بل تنطمس عندهم معالمُ النور، ولا يزيدهم النظر في حالهم ، إلا ضيقًا وبؤسًا ويأسًا ، يجعلهم لا يتوجهون إلى الله بالخضوع والتضرع، لأن قلوبهم القاسية تأبى سلوك سبيل الطاعة ، والرجاء فيما عند الله، قال الله عنهم : ﴿ فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُون ﴾ الأنعام 43. وتعلّقهم اليائس بالدنيا ، يجعلهم يقيسون الأحداث بمقياس دنيوي ، ويزنون الأمور بميزانها، ويتوقعون الأحداث في المستقبل بما جرت عليه عوائدها المادية القريبة وهذا ما يطمس بصيرة اليائس ، فيهلك بالظن الخاسر لمستقبل هذا الدين وأهله، ويخفي في نفسه اليأس من انتصار الدين ، ويبحث عن أعذار تخفي ما في قلبه ، من تعظيم الدنيا وحب نعيمها ، وقوة الارتباط بها . وإن تعلّق اليائس بالهوى في هذه الدنيا  يسهل عليه ، سلوك سبيل الهوان والذل  واستمراء الواقع المرّ، والتخلي عن إصلاحه، واليأس من تغييره، بل يصل به الأمر ، إلى ازدراء الجهود الإصلاحية  وهذه ثمرة من ثمرات اليأس المُرَّة ، التي يتجرعها اليائسون، لإنهم يتحدثون عن حجم المصائب والنكبات ، لكنهم  يُهربون  من ميدان العمل والإصلاح؛ بحجة أن الإصلاح لابد له من جهود ضخمة ، لا طاقة لهم بها، وقد يصل بهم الحال إلى تثبيط المصلحين ، الساعين  لبيان الحق قال تعالى : ﴿ وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ الأعراف ،164 ، إنهم يحرصون على بثِّ اليأس  وتزهيد الناس في الأعمال الجادة ، لأدنى قصور أو خسارة ظاهرية يُشاهدونها قال تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ ﴾آل عمران 156 ، إننا نستغرب من اليائسين   حين يطلبون من عدوهم حلَّ مشكلاتهم  ويُحققون له ما يرضيه ، ويتعايشون مع خططه وتصوراته ، وقد قال فيهم : ﴿فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ ﴾المائدة  52 ، إنه حلٌّ رخيص وجاهز، لا يحتاج إلى مزيد من الجهد والعناء، بل إنهم يجعلون الحل العقلاني الأمثل، والتخطيط الثاقب ، الذي يقي الأمة نزاعات مُدمرة ، وصراعات جارفة، بالمحافظة على وضع الأمة الحالي  أما أن يفكروا في السعي إلى مستوى أعلى لحال الأمة؛ فهو عندهم ضرب من الجنون ونوع من التطرف ، وتناسوا رصيد الأمة العقدي والفكري ، والتاريخي المليءٌ بينابيع الأمل والتفاؤل التي لا تجف .  

يفيضُ من أملٍ قلبي ومن ثقةٍ  لا أعرٍفُ اليأسَ والإحباطَ في غَمَمِ

اليأسُ في ديننا كُفْرٌ ومَنْقَصةٌ   لا يُنبِتُ اليأسَ قلبُ المؤمنِ الفَهِمِ

فالله سبحانه خلق الخلق ، وكتب المقادير   يدبر الأمر، لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه ، هذه العقيدة التي فجرت في نفوس صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم آمالاً ، فسعوا إلى تحقيقها ، فلم يُرهبهم تهديد، فغيروا الدنيا ، وسادوا بها   وكانوا لمن بعدهم ، مصدر إلهام وعزّ ، يزرع الأمل، وينشر النور، ويُبدد اليأس.

 والمؤمن ألذي يرضي الله ، ويتوجه إليه ويسأله الصبر، ويستمد منه العون، لا يتسرب إليه اليأس ، لأنه على نور من الله  يرقب النصر القادم ، الذي وعد الله عباده وعدًا لا يُخلفه في قوله : ﴿ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾الروم  47 ؛ ومن أحلى ينابيع الأمل ، وأقواها عند المؤمن ، يوم يدفعه إيمانه نحو العمل لدينه ليمكن له ، قال تعالى : ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ  بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾النور55 ، فلا ييأس المؤمن ، عند نزول البلاء ولا ينهار ، حين يواجه الكروب لأن وقوع البلاء ، يجعل المؤمن مترقبًا للشدائد ، مستعدًا لها ، ومدركًا أن مقدرها هو القادر على دفعها، قال سبحانه : ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ﴾البقرة214،  قال ابن القيم رحمه الله :" والحق منصور وممتحن ، فلا تعجب   فهذي سنة الرحمن ، وليس هذا الوعد بنزول البلاء ، مدخل لليأس والخنوع   وترقب الإخفاق، وتوالي المحن ، بل على العكس من ذلك، في الابتلاء حكم عظيمة وثمرات كبيرة ، اقتضت حكمة الله أن لا تحصل إلا به. ففي طياته منح ، لا يعلمها إلا الله " وفي التاريخ ينابيع أمل ، وأمثلة وعبر،  تجعل النفس تثق بنصر الله ، وقد تمر عجلة التاريخ ، على جيل كامل أو أجيال ، فيدركون أول الأحداث ، ولا يدركون آخرها، وهذا ما يجعل الإنسان يستبطئ النصر، فقد عاش نوح ينتظر الفرج تسعمائة وخمسين عامًا ، وفتح رسول الله  مكة بعد إحدى وعشرين سنة مضت على البعثة، وهو نبي مؤيد بالوحي، بل إن كنوز فارس والروم واليمن ، لم تظفر بها الأمة إلا بعد وفاته صلى الله عليه وسلم ، إنه درس من دروس التاريخ ، قال تعالى : ﴿ حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ﴾يوسف110وإن التاريخ لينادي اليائسين ، ليتفكروا وينظروا  كم دولة قويت من بعد ضعف! وكم من أخرى ضعفت من بعد قوة قال تعالى : ﴿الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ  يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴾الروم فعجلة التاريخ ،تسير وفق سنين ربانية لا تتخلف. وفي التاريخ أحداث مؤلمة ومصائب مرت على أقوام مضوا، فكأن التاريخ ينادي كل مصاب ومنكوب: إن مع العسر يسرًا، وإن بعد الكرب فرجًا ، ولا عجب ، أن يحرِّم الإسلام على أتباعه اليأس من روح الله ، قال تعالى حكاية عن يعقوب:﴿وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾يوسف87، فعلينا أن نحارب اليأس والقنوط من أنفسنا، وأن نُبعِد الهم والغم ، ما استطعنا ، وأن نبتسم للحياة ، ونبتهج فيها بغير إسراف؛ حتى تزداد حياتنا ، إشراقاً وقوة ، ونعيش السعادة والسرور في هذه الدنيا ، قال الشافعي :

سَـهِرَتْ أعيـنٌ ونامتْ عيـونُ  فـي أمـورٍ تكـونُ أو لا تكونُ

فادْرَأِ الهَمَّ ما استطعتَ عن النَّفــسِ فَحُـمْلانُكَ الهمومَ جُـنونُ

إنَّ ربَّاً كفـاكَ بالأمـسِ مـا كان سـيكفيكَ في غدٍ مـا يكـونُ

 والله قدّر ما كان، وما يكون، وما سيكون وما هو كائن إلى يوم القيامة، فلماذا نُتعِب أنفسَنا   ونعيش حالة اليأس؟! ولماذا لا نتوقّع الأمل ونعيشه كما عاشه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، لأن الإنسان الذي تكثر عليه الهموم  ويشعر باليأس في حياته ، وبالفشل في كل ما يُقْدِمُ عليه ، كأنه يحفر قبره بيديه، أما المؤمن فلا ييأس من رحمة الله تعالى ، وأن يسعى لتغيير الحال إلى أحسن حال يقول الشاعر:

ما بين طَرْفَةِ عـينٍ وانتباهَتِها   يُحَوِّلُ اللهُ من حالٍ إلى حالِ

فعلينا أن نحسن الظن بالله ، القادر على تغيير أحوالنا، ونطرد اليأس والكسل، ونعمل بجدٍّ حتى نحقق ما أراده الله منا، وما كلّفنا به ، وما خَلَقَنَا من أجله ، ﴿ وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ﴾ .

 

 

لا بد للإسلام أن يسود 

إن الصراع  الذي تعيشه الأمة ، مهما امتد أجله ، والمعاناة والفتنة ، مهما استحكمت حلقاتها ، فإن العاقبة للمتقين، ولكن ذلك يحتاج إلى صبر، واستعانة بالله صادقة، ولا ينبغي أن يساور المتقين القلق ، وهم يصبرون على الضراء، ولا يخدعهم أو يغرهم تقلب الذين كفروا في البلاد ، فيظنوه إلى الأبد ، وما هو إلا متاع قليل، ثم يكون الفرج والنصر ، وقد ذكر الله نصره للحق والأنبياء والمرسلين فقال تعالى:﴿ ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين ، إنهم لهم المنصورون ، وإن جندنا لهم الغالبون ﴾ ولا ندري على يد أي جيل ، يرفع الله شأن هذه الأمة ، قال عليه السلام : (مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره ) صحيح الجامع، صحيح .  لكن سنة الله ، كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرساً يستعملهم فيه بطاعته إلى يوم القيامة ) صحيح الجامع، حديث حسن . وإذا عرفنا أن الأصل العلو والسيادة والتمكين للإسلام ، فلا نستيئس من ضعف المسلمين ، حينا من الدهر، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الإسلام يعلو ولا يعلى)صحيح الجامع، حديث حسن فالأمل باق، وامتداد سلطان المسلمين مستمر بإذن الله ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بشر ببشريات تذهب كل يأس، وتدفع كل قنوط ، وتريح قلب فاقد الأمل ، بالتمكين لهذا الدين ، فقال صلى الله عليه وسلم : (بشر هذه الأمة بالسناء والدين ، والرفعة والنصر والتمكين في الأرض...) والجهاد مستمر إلى يوم القيامة والطائفة الظاهرة على الحق ، لا يضرها من خذلها، وهي مستمرة حتى يأتي أمر الله، وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم : ( لن يبرح هذا الدين قائما، يقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة ) رواه مسلم . والمقياس عند الله ، غير مقياس البشر، فقد يجعل الله من الضعف قوة   وكما نرى القوة اليوم ، بيد أعدائنا ، والغلبة لهم علينا ، فلا ننسى أن الله لن يرضى لعباده المؤمنين دوام الذلة ، واستمرار القهر كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الميزان بيد الرحمن يرفع أقواما، ويضع آخرين ) صحيح الجامع صحيح . ولابد أن يرفع الله عباده المؤمنين ، بعد أن وضعهم ، إذا رأى منهم صدق السعي لمرضاته ، ولئن مرت الأمة بفترات ضعف  فلا ننس أنها تقادير الله ، الذي يَقْدِر على إعادة عز ضاع، واسترجاع سيادة مضت  وشأن البشر الصعود والنزول، كما في الحديث:( مثل المؤمن مثل السنبلة، تميل أحيانا وتقوم أحيانا )صحيح الجامع، صحيح ، فلا بد للأمة أن تقوم يوما ما، وتلك سنة كونية  وهذا اليوم آت لا محالة ، كما مضت سنة الله في الأمم ، ولابد لليل أن ينجلي  ويمضي قدر رب العالمين ، في أن تكون العاقبة للمتقين ، العاقبة التي يشير إليها كل شيء من حولنا ، على الرغم من جميع الفتن المحيطة بنا ، ولا يجوز أن يتطرق الشك إلى قلوبنا ، بسبب ما نراه من حولنا ، من الضربات الوحشية ، التي تكال لطلائع الجيل المسلم في كل مكان ، إن الذي يفصل في الأمر، ليس قوة الضربات التي تكال للإسلام ، إنما هو قوة الحق ، ومدى الصمود للضربات ، لأن الإسلام أصلب من أن تفلح في معالجته ، هذه الضربات الوحشية ، لأن المستقبل لهذا الدين ، أراد أعداؤه أم لم يريدوا ، لأن عنصر القوة كامن في طبيعته ، وفي بساطته ووضوحه وشموله    وفي رفض التلقي إلا منه ، ورفض الخضوع إلا له ، وفي الاستعلاء بأهله ، كالوقوع تحت سلطان المتسلطين ، ومن أجل هذه الخصائص في الإسلام ، يحاربه أعداؤه هذه الحرب الماكرة ، لأنه يقف لهم في الطريق  يعوقهم عن أهدافهم الاستعمارية ، وعن الطغيان والتأله في الأرض ، كما يريدون ! ومن أجل هذه الخصائص ، يطلقون عليه حملات القمع والإبادة ، والتشويه والخداع والتضليل ، ومن أجل هذا يريدون أن يستبدلوا به قيمًا أخرى ، وتصورات أخرى   

هذه هي حقيقة المعركة ، وهذا هو دافعها الأصيل ، إنها الحقيقة التي لابد أن تستقر في ذهن كل مؤمن ، أن يعتقد اعتقادًا جازمًا ، لا يتطرق إليه أدنى شك ، أن النصر لهذا الدين ، مهما تكالبت عليه قوى الأرض لقوله تعالى : ﴿ يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون، هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ﴾  لنتذكّر صراع الأنبياء مع أقوامهم ، ولمن كانت الغلبة ؟ وقوله تعالى : ﴿ إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ﴾. وإن هذه الحقيقة التي قررها القرآن ،لم تغفلها أيضًا السنة الصحيحة ، فقد ثبت في الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله إياه بعز عزيز أو بذل ذليل عزًا يعز الله به الإسلام وذلاً يذل به الكفر) وإذا أراد المشككون من المنافقين ، أن يزيلوا هذه الحقيقة من قلوب المسلمين ، واستمع لهم من استمع ، وصدّق كلامهم من صدّقه   فلينظروا إلى المذابح ، والتشريد الذي يتعرض له المسلمون ، هل أخمدهم ؟ هل قضى عليهم ؟ هل أوقف المد الإسلامي ؟ لقد قُتل مئات وألوف تحت القمع الصليبي والصهيوني والعلماني ، فإذا بالقاعدة تتسع بعد كل مذبحة ، وأصبح المسلم الواعي أكثر صلابة ، وأشد بأسًا ، وأكثر وعيًا وتصميمًا على المضي في المشوار الطويل ، ورغم  الواقع المرير ، فقد يكون بابا للنصر من عند الله ، وما أهونه عند الله قال الله  تعالى : ﴿ الذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ ونحن نسمع صيحات البعض وتخوفهم نسأل : ألسنا مسلمين ألسنا مؤمنين بنصر الله ، لعباده الموحدين هب أن ما يجري في مخيلات البعض حقيقة  أليس هذا متوقعا من الأعداء وأذنابهم ثم أليس كل شيء بقدر الله عز وجل؟ ألسنا نؤمن أن الإسلام لا يعمل وحده ، إنما يعمل من خلال البشر، الذين يؤمنون به  وإن المسلمين اليوم ، وهم ينظرون إلى إخوانهم الذين يواجهون الفتنة في دينهم    ثم لا تذرف لهم دمعة ، ولا يتحرك لهم ساكن ، بل يتخاذلون عن نصرة إخوانهم في العقيدة ، هؤلاء إن لم يفيقوا من غفلتهم  وينفضوا التراب عن رؤوسهم ، فإن الله   قادر على أن يستبدل قومًا خيرًا منهم قال تعالى :﴿ وإن تتولوا يستبدل قومًا غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ﴾ ومما ينبغي أن يتقرر في الأذهان ، أن الثقة بنصر الله عند الفتن ، لا تجدي ، إذا تقهقر المسلمون ، وخذلوا دينهم ، ولن يُنْصَروا ، ولو كانت الدنيا كلها معهم ، لأن الله ليس معهم ، ولو نصروا الله في أنفسهم فسينصرهم ، ولو كانت الدنيا كلها ضدهم  إن الثقة بنصر الله ، عند مواجهة الفتن ، والتمكين لأعداء الله عز وجل ، إنما يجري بمقتضى السنن الربانية : ﴿ وتمت كلمة ربك صدقًا وعدلاً لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم ﴾  ومن هنا فإن على الذين يستبعدون انهيار الحضارة الغربية ، وهي تملك هذا القدر الهائل من أدوات التمكين ، نحيلهم إلى أكبر انهيار في التاريخ ، لأكبر قوة طاغية  وهي قوة الاتحاد السوفيتي ، الذي انهار والغرب دوره في الطريق ، ولن تمنعه قوته المادية ، ولا الحربية ولا السياسية ، عن مصيره المقدر في سنة الله ، وإذا انهارت الحضارة الغربية ، فإن البديل هو الإسلام  فهل يعي المسلمون ؟ وهم يواجهون الفتن من الكافرين ، هل يعون هذه الحقيقة الربانية ، والسنة الإلهية ؟ وهل يعون أيضًا أن الغرب نفسه بدأ يعترف بأن مصيره إلى الهاوية ، ما لم يغيّر من حالته التعيسة  ومصيره الشقي المنكود ، حتى قال أحدهم في تعليق له ، على ما يجري في أمريكا من فساد أخلاقي : " أنا لا أعتقد أن الخطر الأكبر الذي يهدد مستقبلنا ، يتمثل في القنابل النووية أو الصواريخ الموجهة آليًا   ولا أعتقد أن نهاية حضارتنا ، ستكون بهذه الطريقة ، إن الحضارية الأمريكية ستزول وتنهار، عندما نصبح عديمي الاهتمام   وغير مبالين ، بما يجري في مجتمعنا ، وعندما تموت العزيمة على إبقاء الشرف والأخلاق  في قلوب المواطنين "  نعم إن هتافاتٍ كثيرة من هنا وهناك ، تنبعث من القلوب الحائرة  وترتفع من الحناجر المتعبة ، تهتف بمنقذ من الفتن ، وتتلفت على مُخلِّص ، وتتصور لهذا المخلِّص ، سماتٍ وملامح معينة ، تطلبها فيه ، وإن هذه السمات ، وتلك الملامح لا تنطبق إلا على الإسلام ، فهل يعود المسلمون اليوم إلى دينهم ، ليدركوا به هذه الحقيقة الربانية العظيمة ، التي سطرتها آيات القرآن ، وأوضحتها سنة رسولنا عليه السلام  ؟! فبعد أشد الأوقات ظلمة ، يطلع الفجر  وحين تشتد الكربات ، يقترب الفرج   وحين يتملك النفوس اليأس ، من شدة العسر وتأخر النصر ، ومعاندة المكذبين ومحاربتهم ، يمن الله بالروح والتنفيس عن المؤمنين ، والتمكين لهم كما قال الله تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ﴾ يوسف:110

 

 ملحمة حلب

إن العين لتدمع ، وإن القلب ليحزن على الأحداث الدموية ، التي تعصف بحلب   من النظام وروسيا ،الأكثر اجراماً ، ضد أهالي حلب ، حتى إن المرء لا يقدر على رؤية حجم المأساة ، والدماء البريئة التي تسفك ، في محاولة للسيطرة على حلب  لكونها ثاني أكبر المدن السورية ، ومركز إمداد المعارضة ، ولتحجيم المعارضة وإضعافها ، ضربوا المستشفيات ، والمدنيين بوحشية ، لم يشهد لها التاريخ مثيلا ، أمام تخاذل المسلمين ، ودول العالم أجمع  وصمت مميت من قبل الأمم المتحدة  والمنظمات العالمية والحقوقية ، وغض الطرف عما يرتكب من مجازر، بحق الإنسانية ، في وقت كثرت فيه الاجتماعات الدولية  المتعلقة بالوضع السوري، بدءاً من جلسات مجلس الأمن الدولي ، الذي بقيت قراراته حبراً على ورق، مما دفع ال"واشنطن بوست" في افتتاحية لها ، إلى انتقاد تخاذل الغرب ، والمجتمع الدولي ، تجاه ما يحدث في حلب ، فقالت الصحيفة : إن القصف الذي تعرض له مستشفى القدس في حلب الذي تموله منظمة أطباء بلا حدود  والصليب الأحمر الدولي، وأوقع العديد من الضحايا من المدنيين ، من بينهم أطباء وممرضين ، فلم يكن مجرد حادث عرضي  ولا لمن روجوا لاتفاق وقف إطلاق النار  لأن النظام يتحدث ، عن نيته لاسترداد الجانب الشرقي لمدينة حلب ، الذي تسيطر عليه المعارضة السورية. 

إن القتل في سوريا ، جعلنا نألف الموت  ونتعايش مع طقوسه اليومية، كأنما صار جزءا من حياتنا اليومية ، وحتى ما عادت صور الدمار تؤرقنا ، وما صور الجثث والأشلاء. تفزعنا ، لأن هذه الحرب أصابت مشاعرنا بالتبلد ، والسكوت على الدماء التي تراق ، وتلك جريمة وخيانة ، قال اهل السلف: "اذا دخل رجل قرية وكانت تراق فيها الدماء ، وتنتهك فيها الحرمات ، ثم تكلم عن الصلاة والصيام فقد خان الله ورسوله صلى الله عليه وسلم" .

إن التضحيات العظيمة ، التي تقوم بها الفصائل المدافعة عن حلب ،  والتي تعدت آلاف الشهداء والجرحى ، ومئات البيوت المهدمة، وعشرات المساجد المدمرة والخراب الشديد ، الذي طال كل أنحاء حلب، فلم يستثن منها ، مؤسسة ولا هيئة، ولا محلاً ولا دكاناً، ولا سوقاً ولا مدرسة ، ولا مستشفى ، ولا حديقةً ، في حربٍ دمويةٍ وحشيةٍ، يشهد العالم كله على ضراوتها  ويقر بعنف القصف المفرط في تسعيرها وإضرام نارها، وتوسيع دائرتها.

إن العالم يشاهد هذه الجرائم ، دون أن تكون له كلمة واضحة وصريحة ، باستنكار ما تقوم به الطائرات الروسية والنظام ، ضد السكان المدنيين العزل، الذين يستهدفهم في بيوتهم والشوارع، وفي المساجد والمدارس فيقتلهم شر قتلة، ويمزق أجسادهم، ويبعثر أشلاءهم، ويدمر بيوتهم، بينما يتفرج قادة العالم الحر على الصور، ويتابعون الأحداث ويعقبون عليها ،بأن على المعارضة أن توافق على ما يملى عليها من شروط . فكان لا مفر من المقاومة ، ولا تأخر عنها، ولا تمنع عن خوض القتال من أجلها ، لأنها لا تسمح لأحدٍ أن يجهضها أو يفشلها، فقد لا يجود الزمان  عليها ، بظروفٍ مناسبة  وشروطٍ مواتية وإرادة موحدة.

إن ما تقوم به المعارضة ، وبقية الفصائل   إنما هو ثورةٌ حقيقية، ومعركةٌ شاملة ، قدموا فيها الكثير، وضحوا بالعزيز الغالي ، فما منهم إلا وأصابته الأحداث بشظيةٍ ، ومنهم المكلوم والجريح، والمصاب والحزين، أما وقد اختاروا طريق القتال ، وقطعوا شوطاً كبيراً فلا تراجع ، ولا استجابة لدعوات الهزيمة والانكسار، ولا للداعين إلى الهدوء والدعة والسكينة والهدنة، بحجة أن الضحايا كثر وأن العدو ماضٍ في سياسته ، ومصرٌ في عدوانه، وأنه لن يتراجع عن غيه ، بل سيوسع دائرة العدوان، وسيزيد من   عملياته العسكرية، فإذا كان العدو وهو الغاصب المحتل، والقاتل الظالم، مصرٌ على خطيئته ومتمسكٌ بجريمته، فهل يضعف أصحاب الحق ويتنازلون، وهل يشعرون بالتعب ويتراجعون ، لا ، لأن المصاب جلل والخسائر عظيمة ، والكل صامت، ومن الأنظمة من يتآمر، ولكنهم اقتربوا من أهدافهم  ، فليس بعد القتل قتلٌ آخر  وليس بعد الدمار دمارٌ آخر، إنما بعده نصرٌ وحرية  ،وتحقيق أهداف، وتسجيل انتصارات ، وهناك آلام ، وكلنا موجوع ومتألم، وحزينٌ وبائس ، نترقب ونتوجس ونتابع ونقلق، ونحسب الدقائق والساعات وننتظر متى يتوقف القصف ، ويغيب شبح الموت، ويرحل غراب الخراب ، ولكن لا تراجع الآن ، لأن التراجع مصيبةٌ كبيرة   وخسارة عظيمة، وإذا كان النصر صبر ساعة، فإن تحقيق الأهداف ، يلزمه صبر ساعةٍ أخرى، إذ المعتدي يتألم ويتوجع ويشكو ويئن، ويخسر ويفقد  ويتضرر    وقد فقد حياته الطبيعية، ولم يعد يستطيع ممارسة ما اعتاد عليه ، ومهما كان الرد ضعيف ، فإنه يقلق ويخيف ، ويؤدي الغرض، ويحقق النتائج، ويصل إلى المراد والمطلوب، فلا عودة ، ولا تراجع إلى الواقع الذي كان ، ولا بد من استمرار المعركة التي تمضي بصبر الشعب وتحمله، وتقوى بتشجيعه وتحريضه، وتتواصل بتصميمه وإرادته، وليت الأمة العربية والإسلامية تناصرهم وتؤيدهم، وتساندهم في مطالبهم وشروطهم، فهم وإن كانوا صامدين في الميدان، وأشداء في القتال ، وصُبُرٌ في الحرب ، وثابتين عند اللقاء والنزال ، إلا أنهم في حاجةٍ إلى محركاتٍ سياسية     تحسن الاستفادة من الصمود والصبر وتوظف الفوز والظفر ، إلى نصرٍ سياسي  إذ لا قيمة لغلبةٍ عسكرية ، دون أن يكون لها على الأرض وبين الناس سياسة ذكية تقطف وتوظف، وتقود إلى الحريةٍ والاستقلال ، وإلى العزة والكرامة ، وأن لا يرضوا عن ذلك بديلاً، ولن يقدموا تنازلاً ذليلا   

إن ما يؤلم ، أن نرى من يبارك لبشار انتصاراته على شعبه ، فتبا لهكذا انتصارات وتبا لكل حاكم يحكم شعبه بالسياط ، وتبا للذي ركع ، أمام الروسي وعساكره   ومجوس إيران وشبيحته ، الذين هتكوا الأعراض ، والزعامات من حولهم لا يحركون ساكنا ، لأنهم آلات تآمر على شعوبهم   وإلا فماذا ينتظرون ؟ والنيران والخراب ينتظرهم من  مدينة وراء مدينة ، ودولة وراء دولة تسقط ، ولا أحد يحرك ساكنا ، لكِ الله يا حلـب ..فقد أصاب العرب ..كثيرٌ من العطــب ..ولن يروا عن كثـب ..دماءك التي تنسكـــب .. فماذا ينُتْظر ويُرْتقـــب ..ممن يدّعون بأنهم عرب .. ألم يَحِن الأوان ويقتــــرب ..لتتحرك الأقدام وتنتصــب ..وتثور الكرامة وتلتهـــــــب .. ويا عار علينا من كثرة الكذب ..بأن ندَّعي أننا نملك نخوة العرب ..فمن لكي غير الله يا حلب  من يداوى جراحا غمرها جبن العرب ..وزاد جراحها السكوت من غير سبب.. ونقول لكل ساكت  انصروا إخوانكم قبل أن يفوتكم النصر؛ لأنه لا بد آت لا محالة  ولن يبقى النظام الظالم ، إنها سنة الله في الطغاة والظالمين ، فاتقوا الله ، وثقوا بنصر الله، واصبروا وصابروا وعليه توكلوا، ﴿ إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ﴾ .

 

 

 

 

 

 

 

من لبواكينا؟

قال الأصمعي: بَكيْتُ الرجل وبَكَّيْتُهُ   كلاهما إذا بكيتَ عليه. وبُكىً وبُكَاءً: دمَعت العَيْنُ حُزناً. عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بنساء عبد الأشهل يبكين هلكاهن يوم أحد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( لكن حمزة لا بواكي له..) أخرجه ابن ماجه وأحمد وغيرهما قال الألباني: حسن صحيح.

والذي كان يرمي إليه النبي صلى الله عليه وسلم فيما قاله هو: أن حمزة رضي الله عنه ليس له كثير قرابة في المدينة ، فكان صلى الله عليه وسلم مشفقا عليه من ذلك لشدة حبه له ، والمسلمون اليوم لا بواكي لهم في هذا العالم الظالم ، ألا ترون أن ضحايانا لا تحصل ، على اهتمام الإعلام العالمي  عندما تُرتكب جريمة ضدنا؟ أم أن الإنسانية تراجعت لدى الغربيين ، فلم يعودوا يهتموا بضحايا المسلمين ، قدر اهتمامهم بضحاياهم، أم أن ضحايانا لا تستحق   اهتمام الإعلام ، كما اهتم بضحايا باريس  وأن الذين يُقْتَلوا بدمٍ بارد ، ليسوا بحاجة إلى من يشعر بمأساتهم ، فلماذا هذا التناقض والازدواجية في المواقف الدولية  إزاء الأحداث ، ها نحن نرى العالم بأجمعه   شرقه وغربه ، قد وقف مستنكرا مدينا ، ما جرى في باريس ، بينما يمر مقتل أطفال المسلمين ، ظلماً وعدواناً دون استنكار  وها هم رؤساءُ العالم ووزراؤهم ، تداعوا إلى القيام بمظاهرة ، تغطيها أشهرُ فضائيات العالم ، احتجاجاً على ما جرى في باريس بينما لم تتعالَ التنديدات ، بجرائم إسرائيل وروسيا في سوريا وفلسطين ، ولم يركّز الإعلامُ العالمي ، أضواءه وكاميراته ، على ما يجري ، لأن دماء المسلمين  رخيصة   لا تتطلب هذا الاهتمام العالمي ، أم أن  الإنسانية لم تعد تعني عند الغرب ، سوى التعاطف مع قتلى باريس، إنه تعاطفٌ انتقائي عنصري فاضح ، يتوجّه فقط إلى بني جنسهم ، أو دينهم ، إذا تعرّضوا لأي اعتداء، فتقوم الدنيا ولا تَقعُد ، وتُحْمَّل المسؤولية للمسلمين ، ويُدفعون إلى تقديم الاعتذارات ، عن جرائم غيرهم ، بشكل مهين، أما حين يتعلق الأمرُ بضحايا مسلمين  قُتلوا من قبل مسيحي أو يهودي ، فلا تعاطف ، ولا من يقدّم اعتذاراً ، أو احتجاج أو فتح تحقيق ، ويحُمّل الإسلامُ المسؤولية، ويقوم الإعلام بالتبريرات اللازمة  وهنا نقول : لماذا لا تكون التغطية الإعلامية ، لقتلانا وشهدائنا في وفلسطين وسوريا والعراق ، ولماذا لا يتداعوا ، من أجل قتلانا وشهدائنا ، الذين تُهْدم المنازل على رؤوسهم ، وتجرف مزارعهم ، وتقتلع أشجارهم، وهم صامدون  لا بواكي لهم  ولم يجدوا من يقف حداداً من أجلهم  أليست هذه مذلة وانهزامية  يعيشها المسلمون ، حين يطلب منهم أن ينسوا قتلاهم وشهداءهم الأبرياء ، الذين نسمع عنهم ، في كل يوم ، وكأنه برنامج يومي  نستفتح به يومنا ، حتى لم يعد الاهتمام  لحرمة دماء المسلمين ، ولا لقتل أطفالهم ونسائهم ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، ماذا دها أمتنا ؟ التي صار الذبح فيها  مجرد مقطع للمشاهدة اليومية ، يمر على العيون والقلوب ، دون حراك ولا بكاء ، حتى إن المرء ليقول : كم من الدماء ينبغي أن تُسفك حتى تتحرك نخوة العالم من حولنا  إن كان عنده نخوة ورجولة ؟ وإذا لم تكن عند العالم نخوة ، فأين نخوة العرب والمسلمين ، ولماذا يصمتوا وكأن على رؤوسهم الطير ؟ ولماذا هانت عليهم دماء المسلمين ؟ ولماذا تواطأوا وتخاذلوا ؟ أما علموا أن حرمة الدم واحدة عند الله ﴿ من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ﴾ ألا لعنة الله على صمتهم الجبان ، وخذلانهم الرخيص ؟ أما علموا أن ما يحدث في سوريا وفلسطين والعراق ، مجزرة وجريمة ، يتحرك لها وجدان كل من عنده ضمير، أو ذرة من إنسانية ؟ ألا فتعساً لكل الخونة الجبناء  الذين ما وقفوا مع إخوانهم ، ولا نصروهم ولا ساندوهم ، ولا أطلقوا الرصاص دفاعاً عنهم ، ولقد أحسن القائل :

أطلقْ رصاصك لن تزحزحني  عن عفتي وثبات إيماني

أغراكَ بي أني بلا سندٍ     يقتص لي وسكوت إخواني

ما معنى التباكي على سلامة إسرائيل ، بينما الفلسطينيون ، لا بواكي لهم ، وكأنهم مجرد قطيع لا عتب على إسرائيل إن قتلتهم

عذرا فلسطين قد ذلت قوافينا ماعاد ينفع دمع من بواكينا

ماعاد ينفع أقوالٌ مكررة    بتنا نكرر لم ننقذ فلسطينا

إن السياسة التي تمارسها القوى النافذة في المجتمع الدولي ، هي سياسة الكيل بمكيالين أو ازدواجية المعايير ، وهي تمثل قمة النفاق السياسي ، الذي يستمر، مادام أن هناك مصالح وحروبا ، وأقوياء وضعفاء  وشراء وبيع ذمم. ومادام الوضع العربي غير مستقر، فإن الآلاف يقتلون في ظل الصمت العالمي ، والتعتيم الإعلامي ، وفي ظل عدم اهتمام المسلمين بما يحدث لإخوانهم  وعلى مسمع المنادين بحقوق الإنسان   فأين هم مما يحدث ، من القتل والمجازر المروعة التي لا يمكن مشاهدتها من بشاعتها ، يُقْتل صهيوني واحد ، فتقام الدنيا لأجله ولا تقعد ، بينما تباد أمة بأسرها والعالم ساكت يتفرج ، يرافقه تعتيم إعلامي  لما يعاني المسلمون ، من المجازر الفظيعة التي ترتكب في حق المسلمين ، الذين لا ذنب لهم إلا أنهم قالوا ربنا الله ، لم يبكهم أحد ولم ترصدهم وسائل الإعلام ، ولم تخرج من أجلهم التظاهرات ، ولم تستنكر بشاعة الإجرام الذي يتعرضون له ، ولا يمكن للمجتمع الدولي، أن يبقي على صمته المتحيز  أمام ما يسجله التاريخ ، من  مواقف المقاومة وشجاعتها ، وأمام صرخات الضمائر الحية  التي يغزو صداها شوارع العالم ومنتدياته الحرة  حالٌ لن يدوم لأولئك الذين ظَلموا واستكبروا  وعتوا في الأرض عتوا كبيرا ﴿وسيعلم الذين ظَلموا أي منقلب ينقلبون، صدق الله العظيم ﴾ ولن يبق الحال كما هو ، على الذين تجرعوا  كأس العذاب والظلم ، عقودا من الزمن ونسجوا من آلامهم وأحزانهم وصبرهم ،  أكفانا  يعدونها يوم نصرهم الموعود ، على أعدائهم قال الله تعالى : ﴿ وكان حقا علينا نصر المؤمنين ﴾ .

 

 

الظلم يولِّد الانفجار

قالوا في المثل " كثرة الضغط تولِّد الانفجار " لكل جسم مقدرة محدودة لمقاومة الضغط وتحمله   والشعوب تشبه الأجسام في مدى استعدادها لتحمل الضغط الذي تتم ممارسته عليها ، من الاضطهاد والحرمان والإذلال ، وأساليب القهر والعذاب وعندما يشتد الضغط والظلم ، ويصبح غير قابل لتحمل المزيد فإن ذلك يؤدي إلى الانفجار .  

والمزيد من الضغط على الشعوب ، يؤدي إلى الانتفاضة والثورة ، ومن قديم الزمان كانت الشعوب

 تثور على الظلم والاستبداد ، ففي التاريخ العربي القديم ، قام بنو أسد ب (ثورة) ضد ملكهم حُجر بن عمرو الكندي، والد امرئ القيس الشاعر الجاهلي المشهور، وقتلوه؛ وذلك لقسوته وشدته في معاملته لهم ، ومن يقرأ معلقة عمرو بن كلثوم ، يجد فيها معاني الثورة والتمرد على الظلم وسياسة الاستعباد ، التي كان ينتهجها عمرو بن هند ملك الحيرة ، ثورة أدت إلى قتل ابن كلثوم  الملك   فخرج وهو يردد :

   إذا ما الملك سام الناس خسفاً أبينا أن نقر الظلم فينا

كما يذكر التاريخ ثورة بني شيبان على الفرس في معركة ذي قار ، بسبب ظلم الفرس لهم ، وثورة سيف بن ذي يزن في اليمن ؛ كانت عبارة عن انتفاضة في وجوه الأحباش ، لما كانوا يمارسونه على اليمن من قهر وظلم ، أدى إلى الإطاحة بهم وأبعادهم عن اليمن . وفي العصر الحديث قامت ثورات وانقلابات ، بسبب القهر والظلم الذي عانت منه الشعوب ، ففي فرنسا انتفض الشعب الفرنسي واقتحم الباستيل ، وحطم أبوابه وجدرانه، وغير مجرى التاريخ الفرنسي، وفي أمريكا الثورة التي عرفت بحرب الاستقلال الأمريكية وهي أول الثورات العارمة في التاريخ الحديث ، هذا الانفجار الذي  جعل بريطانيا تتراجع عن موقعها؛ كإمبراطورية عظمى .