خطب الجمعة

خطب الجمعة

خطب الجمعة

آثار الذنوب والمعاصي

  إن ارتكاب المعاصيَ له آثار سيئة  على حياة الفرد والجماعة ، لأنّ قوام الحياة وصلاحها إنما هو في الطاعة والاستقامة على أمر الله والتقيد بمنهجه ، وإن الانحراف عن منهجه وعدم طاعته له آثار سيئة منها : نسيان العلم وذهاب الحفظ ، ويا لها من عقوبة ما أقساها على أهل العلم وطلبته ، وذلك أن العلم نور يقذفه الله في القلوب العامرة بطاعته ، والمعصية ظلمة قد علاها حب الشهوات ، ولذلك لما جلس  الإمام الشافعي بين يدي الإمام مالك ورأى بوادر الذكاء والنجابة بادية عليه ، وأعجبه وفورُ عقله وكمال حفظه قال له ناصحا :"إني أرى الله قد ألقى على قلبك نوراً فلا تطفئه بظلمة المعصية " . والشافعي رحمه الله هو القائل :

شكوت إلى وكيع سوء حفظي     فأرشدني إلى تـرك المعاصي

وقـال اعلم بـأن العلـم نورٌ     ونور الله لا يهدى لعاصـي

وقد يتساءل إنسان فيقول: إن فلاناً من الناس قد أُعطيَ حفظا واستحضاراً على فجوره الذي عُرف به في الناس فكيف ذلك؟! إننا نجد الجواب واضحاً في قوله تعالى : ] وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱلَّذِي ءاتَيْنَـٰهُ ءايَـٰتِنَا فَٱنْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ ٱلشَّيْطَـٰنُ فَكَانَ مِنَ ٱلْغَاوِينَ  وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَـٰهُ بِهَا وَلَـٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى ٱلأرْضِ وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ ٱلْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث [ الأعراف 175 .  

يقول الإمام ابن القيم معلقاً: "ففي الآية دليل على أنه ليس كل من آتاه الله العلم قد رفعه به ، إنما الرفعة بالعلم درجة فوق مجرد إتيانه " فكم من فاجر كان حظه من العلم قيل وقالوا  ليكون ذلك حجةً عليه عند الله، دون حقيقة العلم التي تورث الخشية والإنابة .

ومن أعظم آثار المعاصي وأخطرها على العبد الوحشةُ التي تحدثها المعاصي بين العبد وربه ، واستثقال الطاعات ، واستمراء الفواحش ، والاعتيادٍ عليها ، كما تضعف في القلب تعظيم الله وكبرياءه قال ابن القيم رحمه الله : " فإن عظمة الله تعالى وجلاله في قلب العبد تقتضي تعظيم حرماته ، وتعظيم حرماته تحول بينه وبين الذنوب ، والمتجرئون على معاصيه ما قدروا الله حقّ قدره ، وكيف يقدره حق قدره أو يعظمه ويكبره ؛ ويرجو وقاره ، ويجلّه من يهون عليه أمره ونهيه ؟ هذا من أمحل المحال  وأبين الباطل ، وكفى بالمعاصي عقوبة أن يضمحل من قلبه تعظيم الله جل جلاله ، وتعظيم حرماته ، ويهون عليه حقه "  فحياة المرء الحقيقية إنما هي حياة الطاعة ، والشعور بأنه خلع عنه ربقة العبودية للخلق ، وآوى إلى ظلال العبودية الحقة وقد وجد برد الطاعة والإنابة ، وقد أعجبني قول أحد الصالحين: "إنه لتمرّ بالقلب لحظات أقول فيها : إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي خير عظيم ". إنّ في الدنيا جنة لا يدخل جنة الآخرة من لم يدخلها ، إنها جنة الطاعة والعبودية التي يُحرم منها العصاة الفجرة .

ومن آثار المعاصي الحيرة والشقاء وتمزّق القلب في شعاب الدنيا ، وإتباع الشياطين المتربصة على أفواه السبل المنحرفة عن سبيل الحق روى البخاري من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم  خطا مستقيما في الأرض ثم خطَّ خطوطا عن يمينه وشماله ثم قال: ( هذا سبيل الله ، وهذه السبل ، وعلى كل سبيل منها شيطان يدعو إليها) ثم قرأ : ] وَأَنَّ هَـٰذَا صِرٰطِي مُسْتَقِيمًا فَٱتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ [ الأنعام 153 .  ومنها تسليط الأعداء وذهاب القوة ونزع الهيبة من قلوب الأعداء ، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم  قال : ( بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له  وجعل رزقي تحت ظل رمحي ، وجعل الذلة من الصغار على من خالف أمري , من تشبه بقوم فهو منهم ) .

والتاريخ خير شاهد على عجيب تأثير المعاصي في الأمم ، لقد كانت الأمة الإسلامية   أمة موفورة الكرامة ، عزيزة الجانب  مرهوبة القوة ، لكنها أضاعت أمر الله وأقْصت شريعته من حياتها ، فصار أمرها إلى إدبار وعزها إلى ذل ، ولولا أنها الأمة الخاتمة لأصبحت تاريخاً دابراً تحكيه الأجيال . وليس الذي حل بنا ويحل ظلماً من الله كلا وحاشا ، فهو القائل في الحديث القدسي الصحيح: ( يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا ) وإنما هي السنن الربانية النافذة التي لا تحابي أحداً ] إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ [ الرعد11 وقال تعالى : ] ذَٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ [ الأنفال 53 . روى الإمام أحمد في مسنده من حديث ثوبان مرفوعاً: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة على قصعتها ، قلنا: يا رسول الله، أمن قلة منا يومئذٍ؟ قال: أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل  تنـزع المهابة من قلوب عدوكم ، ويجعل في قلوبكم الوهن ، قالوا: وما الوهن؟ قال : حب الدنيا وكراهة الموت ) .

إننا اليوم نئن تحت وطأة الذلّ المسلّط علينا ، وكثير من المسلمين لا يزالون غافلين عن سبب البلاء الذي بيّنه رسولنا  في غير ما حديث صحيح ، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إذا ضنَّ الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعينة ، وتبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله، سلط الله عليهم ذلاً لا يرفعه حتى يراجعوا دينهم) رواه أبو داود وأحمد .

ويقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه : " إننا كنا قوماً أذلة فأعزنا الله بهذا الدين، فإن ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله " . من هنا كانت البداية ، ومن هنا يكون البدء ، ومن تركِنا لديننا كانت بدايةُ رحلة الذلِّ والضياع في تاريخ الأمة الإسلامية ، ومن الرجوع إلى ديننا وتوبتنا إلى ربنا يكون البدء إذا أردنا العودة إلى العزة والشرف المفقود .

 ومن الآثار ظهور الأوجاع الفتاكة وارتفاع البركة من الأقوات والأرزاق.

عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يا معشر المهاجرين، خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن : ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى أعلنوا بها إلا ابتلوا بالطواعين والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولا نقص قوم المكيال والميزان إلا ابتلوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان ، وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ، ولولا البهائم لم يمطروا ، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوا فأخذوا بعض ما في أيديهم ، وما لم تعمل أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم ) رواه ابن ماجه وهو صحيح السلسلة الصحيحة 106 . هذه بعض آثار المعاصي ، وهذه بعض ثمارها ، فهل من تائب منيب ] قُلْ يٰعِبَادِىَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ  [ الزمر 53 .

 

 

 

 

الإنصاف في إصدار الأحكام

قال تعالى : } فاعرض عن من تولّى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم ، إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى {  

وقال r : ( لا يرمي رجل رجلاً بالفسق أو الكفر إلا ارتدعليه ، إن لم يكن صاحبه كذلك ) رواه البخاري .   
 إن اتهام المسلم بأمر منكر بدون دليل من الكبائر ، والتحدث به بين الناس من الغيبة التي حرمها الله ، وشبهها بمن يأكل لحم أخيه ميتاً قال تعالى : } ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكمأن يأكل لحم أخيه ميتا { .

والله سبحانه لم يجعل العصمة إلا للكتاب والسنة وما أجمعت عليه الأمة ، فلا ينبغي أن نتعامل مع أي جماعة على اعتبار أن كل ما يصدر عنهم حق لا يجوز مخالفته ، ولا التخلي عنه ، بل يجب أن يكون شعارنا كل يؤخذ من قوله ويردّ إلا رسول الله r  ومع الأسف فإن هذا الداء فتك بالساحة الإسلامية  وشتت شمل الدعاة ، ومزق صفوفهم ، وكم من رويبضة نال من الأخيار الأبرار ، وملأ الآفاق ضجيجاً وعويلاً ، وكم من خبر قُلبت حقيقته ، أواختلق اختلاقاً ، وما آفة الأخبار إلا رواتها ،  ولا يغرّنك بعض من دخل في صفوف الملتزمين وطلبة العلم من دعاة الفرقة وأهل الفتنة ، فإنما هم مطايا الشيطان وركائبه ، وكم من إنسان يسمع الأمر فيفهمه على غير وجهه  ثم يشيعه على وجه آخر ، وعند البحث والاستقصاء تجده هراء وتفاهات ، فالذين يثيرون الخلاف ، ويسعرون ناره في غيهم سادرون ، وفي تيههم ماضون ، وما علموا أن الأصل في المسلم الخير ، واجتناب اتهام النيات ، والحكم على ما خفي من المقاصد والغايات ، وأن الغلو في الدين سيمة الجهلة    وأصحاب الأهواء، وأهل النفاق كجماعة التكفير والهجرة .  الذين تجاهلوا أن نزعة التشدد ليست من الإسلام في شيء  بل إن الإسلام بريء من الغلو والعنف والتكفير، وما يثيره بعض الجاهلين ، وأهل الأهواء من أن العنف والغلو والتشدد صادر عن منهج الدعوة ، فهو باطل قطعا ، والمتأمل لواقع أكثر  أصحاب التوجهات التي يميل أصحابها إلى الغلو والعنف يجد أنهم يتميزون بالجهل وضعف الفقه في الدين، وضحالة الحصيلة في العلوم الشرعية ، والحكم في الأمور بلا فقه ، ومواجهة الأحداث بلا تجربة ولا رأي ، مما يعود على المسلمين بالضرر البالغ في دينهم ودنياهم ، وهذا يتنافى مع مقاصد الشريعة، وما أمر الله به وأمر به رسول الله r من تحقيق العدل ونفي الظلم والابتعاد عن مظاهر السخط والتذمر ، والحقد والتشفي في النفوس ، وغرس الغل على العلماء والحط من قدرهم .

 ولهذا لا يجوز للمسلم أن يتكلم في غيره إن احتاج إلى ذلك إلا بالعلم والعدل والإنصاف ، وإقامة العدل والإنصاف خلق تواصى به الأنبياء عليهم السلام , وبه وصف الله عز وجل نبيه r وجعله من أصول رسالته فكان عليه السلام يدعو الله بهذه الكلمات: ( وأسألك كلمة الحق في الرضا والغضب ) .

 ووصى الله تبارك وتعالى المؤمنين بالعدل وإنصاف الآخرين  وإن كانوا ألد أعدائهم فقال } يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على إلا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى { المائدة 8 .

ومنهج أهل السنة والجماعة هو الأصل في كل ما يلزم المسلم لصلته بالله أوصلته مع الناس , وهذا المنهج الذي يستمد شرعيته في الفهم والاستدلال من الكتاب والسنة ؛ فكل من كان أقرب إلى هذا المنهج فهو الأقرب إلى الحق . ومن تطبيقات هذا المنهج الإنصاف في الحكم على الآخرين , ولو كان مخالفاً في الدين والاعتقاد , أو المذهب والانتماء , وقبول الحق إذا جاء به أحد منهم , فليس من العدل رد الحق لكون صاحبه على خطأ أو باطل , فهما أمران غير متلازمين . قال معاذ بن جبل رضي الله عنه : " اقبلوا الحق من كل من جاء به   وإن كان كافرا ً أو فاجرا ً , واحذروا زيغة الحكيم , قالوا : كيف نعلم أن الكافر يقول الحق ؟ قال : على الحق نور " .

 علينا أن نلزم أنفسنا بما ألزمنا الله به من العدل والإنصاف   فالعدل منهج شرعي في كل شيء , لذا ينبغي للمسلم إذا وصف غيره ألا يُغفل المحاسن لوجود بعض المساوئ , كما لا ينبغي أن يدفن المحاسن ويذكر المساوئ لوجود عداوة أو شحناء بينه وبين من يصفه , فالله تعالى أدبنا بأحسن الأدب وأكمله بقوله } ولا تبخسوا الناس أشياءهم { وحين نجد من يذم غيره ويذكر مساوئه فقط ، ويغض الطرف عن محاسنه , فإن ذلك يرجع إلى الحسد والبغضاء , أو إلى الظنون والخلفيات والآراء المسبقة , أو إلى التنافس المذموم بين المتقاربين في الفضائل ، وقد ذكر ابن تيمية رحمه الله قاعدة ذهبية , استخلصها من مجمل نصوص الكتاب والسنة فقال : " إذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر , وبر وفجور ، وطاعة ومعصية , وسنة وبدعة , استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير , واستحق من المعاداة والعقوبة بحسب ما فيه من الشر "  

 فما أحوجنا إلى استصحاب هذه القاعدة في تقويمنا للأشخاص والأفكار ، لكل من ينتسب إلى هذا الدين , فكل من تصدى للعمل والدعوة والجهاد في هذا الدين نزنه بميزان هذا الدين الذي لا يعرف الشطط ولا التطفيف ولا الميل , ومن هنا ندرك أننا لسنا أمام مواقف مطلقة ولا أحكام مسبقة , فطالما أجهزت المواقف المرتجلة على روح الحقيقة , وأصابت من مبدأ الولاء والبراء مقتلاً .

ولذلك اعتُبر الإنصاف علامة من علامات الإيمان , قال عمار بن ياسر رضي الله عنه : " ثلاث من جمعهن فقد جمع  الخير الإنصاف من نفسك , وبذل السلام للعالم , والإنفاق من الإقتار " يقول ابن القيم : " وقد تضمنت هذه الكلمات أصول الخير وفروعه , فإن الإنصاف يوجب عليه أداء حقوق الله كاملة , وأداء حقوق الناس كذلك , وأن لا يطالبهم بما ليس له  ويعاملهم بما يحب أن يعاملوه به , ويحكم لهم وعليهم بما يحكم لنفسه وعليها , ويدخل في هذا إنصافه نفسه من نفسه , فلا يدعي لها ما ليس بها , ويُنميها ويرقيها بطاعة الله تعالى وتوحيده وحبه وخوفه " ،  والإنصاف يستجلب مودة الآخرين   ويثبت ما كان منها بين الإخوة , يقول الأحنف بن قيس : " الإنصاف يثبت المودة " . أما الظلم والجهل وسوء القصد فهو الطريق إلى التنازع والفرقة والقطيعة بين أهل المنهج الواحد   بل بين ذوي الرحم الواحد

ولم تزل قلة الإنصاف قاطعة    بين الرجال وإن كانوا ذوي رحم

وفي سير ة النبي r وصحابته وسلف الأمة وعلمائها الشواهد الكثيرة ، الدالة على قيامهم لله بالشهادة أحسن قيام  وإعطاءهم كل ذي حق حقه , فلم يكن انتماء أحد أو مكانته لتحول دون أن ينزل منزلته , ويذكر ما فيه من محاسن وميزات . فقد قال النبي r كلمته في لبيد بن ربيعة الشاعر وكان وقتئذِ كافراً : أصدق كلمة قالها شاعر " ألا كل شيء ما خلا الله باطل "   وكان بإمكان النبي r أن يثني على شعر بعض أصحابه المملوء حكمة وإيماناً ونصرة لدين الله , غير أن الإنصاف والالتزام بالحق وإعطاء كل ذي حق حقه ، أبى إلا أن يقول كلمته تلك في شاعر كافر لم يسلم بعد , بل نرى في القصة نفسها أن أصحاب النبي r سلكوا المسلك نفسه في إنصاف الآخرين  فعندما أنشد لبيد شطر البيت الأول ( ألا كل شيء ما خلا الله باطل ) قال عثمان بن مظعون رضي الله عنه  : صدقت   وعندما ذكر شطر البيت الثاني ( وكل نعيم لا محالة زائل ) قال : كذبت , نعيم الجنة لا يزول .

 وعلى منهج النبي r في إنصاف الآخرين وإقامة العدل سار الصحابة رضي الله عنهم في خصومهم وأعدائهم , فضلاً عن إخوانهم , فعندما قاتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه الخوارج وقاتلوه ثم قتلوه , قال له بعض أصحابه : أمشركون هم ؟ , قال : من الشرك فروا , فقالوا : أمنافقون ؟ قال : إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً , فقيل : فما هم يا أمير المؤمنين , قال : إخواننا بغوا علينا , فقاتلناهم ببغيهم علينا " فهل بعد إنصاف أمير المؤمنين من إنصاف ؟  

فمن يتكلم بغير علم فهو مخالف للكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح مخالف لقوله تعالى } : ولا تقف ما ليس لك به علم { الإسراء 36 . ومن يتكلم عن غيره بظلم وجور فقد خالف قوله تعالى : }  ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا { المائدة 8 .  والكلام في الآخرين بدون علم أو بظلم وهوى ، سبب لكثير من تفرق القلوب وحدوث الشحناء والتباغض والحسد , وكل هذا سبب في الفشل وذهاب الريح وتسلط الأعداء .

إن السبب في ذلك كله راجعٌ إلى الخلل في التربية وأسلوب التلقي , وغياب المنهج النبوي في تقييم الأشخاص والأعمال   فما غاب هذا المنهج إلا كان البديل ، الاتهام وسوء الظن وغمط الحقوق والتثبيط ، وجروح نفسية يستعصي علاجها  ونوع مذموم من السلوك فتكون النتيجة كما قال الله تعالى :  } كلما دخلت أمة لعنت أختها { الأعراف 38.

 

 

 

 

الانتخابات النيابية

إن ديننا الإسلامي دين نظام وجماعة منظمة في كل أمورها ، وكما قال الفاروق عمر : " لا إسلام بلا جماعة  ولا جماعة بلا إمارة ، ولا إمارة بلا طاعة " والرسول صلى الله عليه وسلم يقول في شأن أقل جماعة تختط لها طريقاً: ( إذا كنتم ثلاثة فأمّروا أحدكم ) أميركم الذي يقودكم ، ويقضي شأنكم ويجمع أمركم إذا اختلفتم ، أما كيف يؤمّرونه إنه باختيار أحدهم ، والاختيار هو انتخاب ، أمّا كيف ينتخبون فلم يُبيّن لنا آليّة ذلك ، بل تركه لهم بتداول الأمر وممارسة التشاور ، ثم اختيار الأمير سراً أو جهراً ، وهذا دليل على مشروعيّة آليّة الترشيح والانتخاب بالتصويت : سواء بالانتخاب السري أو العلني أو ترشيح أحدهم نفسه  وموافقتهم له أو ترشيح أحدهم لأحدهم وموافقتهم عليه   والمشاركة في المجالس المنتخبة مثار خلاف وجدل فيما يتعلق  بمشروعيتها  لأن هذه المجالس تعني في النظام الديمقراطي حكم الشعب للشعب ، فكان الأصل عدم جواز الدخول فيها ، لأن التشريع من أهم أعمالها ، ومن التشريع ، سن القوانين التي تُلزَم بها السلطتان التنفيذية والقضائية . وبما أن مصداقية التشريع ومرجعيته يجب أن يستند إلى دليل شرعي منبثق من العقيدة الإسلامية ، فقد اختلفت الآراء في الحكم الشرعي للانتخابات ، فمنهم من أجاز ومنهم من قال بعدم الجواز . 

يقول فضيلة الشيخ فيصل مولوي نائب رئيس المجلس الأوربي للبحوث والإفتاء : الانتخابات وسيلة معاصرة لمعرفة رأي الناس في اختيار ممثليهم الذين ينوبون عنهم في المسائل التشريعية ، وفي اختيار الحكومة وإعطاء الثقة لها أو نزعها منها ، ووجهة النظر الشرعية فيها تنبثق من أن المسلم الذي يعيش في أي مجتمع كان سواء كان هذا المجتمع إسلاميا خالصا أو غير إسلامي وفيه أقليات إسلامية ، فالمسلم إذا تخلف عن مثل هذه المشاركة فقد قصّر في القيام بواجبه الشرعي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه ) والتغيير باللسان لا يعني تغييرا فعليًا ، إنما يعني إنكار المنكر .

 وبما أن هذه الأنظمة موجودة ونحتكم إليها بالفعل ، فهل يجوز للمسلم أن يشارك ويدخل في هذه المجالس التشريعية 

أفتى الشيخ الألباني بعدم جواز الترشيح للدخول في المجالس النيابية ، معللاً ذلك بأنها مجالس تحكم بغير ما أنزل الله ، وبأن النائب قد يفتتن في دينه ويتنازل عن الحق   يقول ذلك من باب أنه خلاف الأولى ، بدليل أنه يرى أن الشعب المسلم ، عليه أن ينتخب المرشحين (الإسلاميين) فقط إذا تقدَّم إلى الترشيح مَن يُعادي الإسلام ، ويتضح ذلك في جوابه على الأسئلة المقدمة إليه من جبهة الإنقاذ الجزائرية : عندما قال: "ولكن لا أرى ما يمنع الشعب المسلم إذا كان في المرشحين مَن يُعادي الإسلام ، وفيهم مرشحون إسلاميون فننصح- والحالة هذه- كل مسلم أن ينتخب من الإسلاميين فقط ، مَن هو أقرب إلى المنهج الصحيح ، وإن كنت أعتقد أنَّ هذا الترشيح والانتخاب لا يحقق الهدف المنشود ، ولكن من باب خلاف الأولى  باب تقليلِ الشر ، أو من باب دفع المفسدة الكبرى بالمفسدة الصغرى كما يقول الفقهاء".

والقول بمشروعية الدخول إلى المجالس التشريعية والوصول إلى الولايات العامة عن طريق الانتخاب ، هو قول كثير من علماء السلفية المعاصرين والسابقين ، وفيما يلي بعض آراء أهل العلم الذين أيدوا المشاركة ورأوا فيها صالح العباد والبلاد :  فهذا العلامة الشيخ السعدي يقول في تفسيره (تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان) عند قوله تعالى: ﴿قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ﴾ هود91. إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أصول ديننا الإسلامي، ووسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تتنوع وتختلف باختلاف الزمان والمكان   وإن إعانة المرشح الصالح في الانتخابات ، وإقصاء الفاسد عن ذلك من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر  فعلى المترشح أن يتقي الله في المسئولية المناطة به ، وفي الأمانة التي يحملها ، وعلى الناخبين أن يراعوا توافر الشروط الشرعية في المرشح وعلى ضوئها يكون التأييد أو الإقصاء   وإن تقديم المرشح نفسه من خلال برنامجه الانتخابي خلاف الأولى وليس محرماً ، كما أن الانتخاب أو التصويت هو أمر بمعروف ونهي عن المنكر، وشهادة ينبغي أن تقوم بالحق ، وأن يكون فيها تقوى الله سبحانه وتعالى  أما وقد جاء في هذه الوسائل ما يقدم فيها المرء نفسه ويذكر للناس ما يعرف ببرنامجه أو ما يريد أن يفعله لهم  وقد تكون هناك صور أخرى أنسب أو أوجه منه ، فإنا نقول : هذه الصورة في ذاتها ليست محرمة ، وإن كانت النصوص قد يكون فيها ما يدل على أن هناك ما هو أولى   إلا أن قول الله سبحانه وتعالى في قصة يوسف عليه السلام : ) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ( يوسف 55.   فيه إشارة إلى أن من وجد في نفسه كفاءة لأمر يرى أنه يحقق فيه للمسلمين مصلحة فلا بأس أن يتقدم له ، وأن يذكر ما عنده فيه ، فإن يوسف عليه السلام لما علم ما علم من شأن الرؤيا التي أراه الله إياها ورأى أن للناس مصالح وهو قادر عليها قال: ) اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ ( فطلب الولاية وكذلك بين ما لديه من قدرات فقال: ) إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ( ومن هنا فإن الجمع بين هذا وهذا يرجى أن يكون واضحاً ، وأنَّ ذكر ما يعمله الإنسان أو ما عنده من علم ، إنما هو باب من الأبواب التي فيها اجتهاد بين الجواز أو المنع عند بعضهم  أو رؤية غير ذلك أولى ، لكن الأمر المهم في وجوب ذلك أو جوازه ، هو أن لا يكون مظنةً أو مدخلاً إلى الغرور والاغترار ، والإعجاب بالنفس والاستكبار ، أو طلب الشهرة بين الناس ونسيان المقصد الأعظم ، وهو أنه يريد أن يقوم بواجب وأن يؤدي أمانة وأن يتحمل مسئولية ، وأن يكون وكيلاً عن الناس في تحقيق مصالحهم . فلا يلتفت المرء عن مثل هذا لمثل ذاك  فإن من فعل فإنه أساء   وأخطأ ، ولذلك ينبغي أن ندرك أن من يتصدى لذلك  فإن عليه أن ينتبه إلى الأمانة ، فإن كل مسئولية صغرت أو كبرت فهي أمانة وينبغي أن نتذكر قول الله تعالى : ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( الأنفال 27. وأن يعلم أن الأمانة العظمى ومثلها الأمانات الأخرى مسئول عنها قال تعالى: ) إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (الأحزاب 72 . وأن ندرك أيضاً أنه يؤدي واجبه ، وأنه بعد ذلك مسئول بين يدي الله سبحانه وتعالى عما استأمنه الله عليه وعما ولاه الله إياه كما قال صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)   وكذلك أن يدرك المسئولية وأنها عظيمة ، وأن الله سبحانه وتعالى قال : ) كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ( المدثر 38 . أي : مرتهنة بعملها إن أحسنت أعتقت نفسها وإن أساءت أوبقت نفسها ، كما قال صلى الله عليه وسلم: (كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها) إما أن يعتقها من النار ومن العذاب بأن يؤدي الواجب ويحفظ الأمانة ، ويقوم بقدر استطاعته بما ينبغي عليه القيام به، وإما أن يفرط فيوبقها ويلجمها بالإثم ويستحق بذلك العقاب .

فنظام الانتخاب أو التصويت في نظر الإسلام شهادة للمرشح بالصلاحية ، ويجب أن يتوفر في صاحب الصوت ما يتوفر في الشاهد من العدالة والثقة والمسؤولية فالصوت الانتخابي أمانة والله سيسأله أحفظ الأمانة وقام بحقها أم ضيع وفرط وخان ؟ سيسأله إذا أعطى صوته لهذا ومنعه عن هذا ، لِمَ منح ولِمَ منع ؟ لأن صوته ربما يحدّد مصير قضيّته، ومستقبل أمته .

 أما بالنسبة للناخب أن يكون الاختيار ، مبنياً على أساس إسلامي ومنهج قرآني وهدي نبوي ، لأن انتخاب من لا يصلح مع العلم بذلك تُعَد من شهادة الزور وهي من أكبر الكبائر كما جاء في الحديث الشريف قال عليه السلام: (أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ثَلَاثًا قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الْإِشْرَاكُ بِاللَّه وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا فجلس فَقَال: أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ قَالَ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ) . وأن يكون الأرضى لله تعالى لأن انتخاب من لا يصلح خيانة : لما جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من وَلَّى على عصابة رجلاً وهو يجد من هو أرضى لله منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين ) ثم تأتي بعد ذلك الكفاءة من العلم والخبرة بالمنصب الذي سيتولاه ، وقد استنتج العلماء هذين الشرطين من قوله تعالى : ) إن خير من استأجرت القوي الأمين ( قال السعدي في تفسيره : أي : القوة والقدرة على ما استؤجر عليه ، والأمانة فيه بعدم الخيانة . وهذان الوصفان ينبني عليهما الإنجاز في كل من يتولى أمراً من الأمور في إدارة أو غيرها ، فإن الخلل يكون بفقدهما أو فقد أحدهما  وأما باجتماعهما فإن العمل يتم ويكمل ، فلابد من أن ننظر إلى من يقدر وإلى من يظن أنه يستطيع أن يقوم بالمهمة على وجه حسن ، وأن ننظر إلى ديانته وأمانته وصدقه وإخلاصه فيما نرى وفيما نجتهد ؛ لأن من لا يقصد وجه الله عز وجل ويخلص له قد يُفتن وقد يَفتن   وقد ينصرف إلى حظ نفسه  وقد يغلب مصالحه   وقد يضيع أمانته ويفرط في مسئوليته .  وهذا الاستنباط من الآية الكريمة على القاعدة الفقهية "ارتكاب أخف الضررين " فلئن يسعى المسلمون ليكون لهم شركة في الحكم مع الكفار يصونون بذلك أعراضهم وأموالهم ويحمون دينهم ، خيرًا ولا شكَّ مما أن يعيشوا تحت وطأة الكفار بلا حقوقٍ تصون شيئًا من دينهم وأموالهم ، وهذا النظر والفهم هو ما ارتضاه وأفتى به شيخ الإسلام ابن تيمية ولا شكَّ أنَّ هذا هو الفهم والفقه الذي لا يجوز خلافه ، فالمسلم إذا خير بين مفسدتين عليه أن يختار أدناهما إلى أن يأذن الله سبحانه وتعالى برفع المفسدة كلها ويكون للمسلمين حكمهم الخالص الذي لا يُشركهم فيه غيرهم ، ولا يخالطهم فيه سواه .

 وهـذا ما أفتى به الشيخ عبد العزيز بن باز ، بأنه يشرع الدخول إلى المجالس الانتخابية من أجل إحقاقِ الحق   والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى  وقد نقلت فتواه مجلة لواء الإسلام العدد الثالث سنة 1989م  ونقلها عن المجلة الشيخ مناع القطان في كتاب (معوقات تطبيق الشريعة الإسلامية) وقد جاءت جوابًا لسائل يسأل عن شرعية الترشيح لمجلس الشعب ، وحكم الإسلام في استخراج بطاقة انتخابات بنية انتخاب الدعاة والإخوة المتدينين لدخول المجلس فأجاب سماحة شيخنا قائلاً : "إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى )  لذا فلا حرجَ في الالتحاقِ بمجلسِ الشعبِ إذا كان المقصود من ذلك تأييد الحق ، وعدم الموافقة على الباطل لما في ذلك من نصر الحق ، والانضمام إلى الدُعاة إلى الله . كما أنه لا حَرَجَ كذلك في استخراج البطاقة التي يُستعان بها على انتخابِ الدُعاة الصالحين ، وتأييد الحق وأهله ، والله الموفق" .  وبهذا أيضًا أفتى الشيخ محمد صالح العثيميين شفاهةً لعددٍ كبيرٍ من الإخوة طلاب العلم الذين سألوه عن حكم الترشيح للمجالس النيابية ، فأجابهم بجواز الدخول وقد كرر عليه بعضهم السؤال مع شرح ملابسات الدخول إلى هذه المجالس ، وحقيقة الدساتير التي تحكم وكيفية اتخاذ القرار فكان قوله في ذلك"ادخلوها أتتركوها للعلمانيين والفسقة ؟   وهذه إشارة منه إلى أن المفسـدة التي تتأتى بعدم الدخول أعظم كثيرًا من المفسدة التي تتأتى بالدخول إن وجدت .

وقال الشيخ يوسف القرضاوي : بأن الإسلاميين من قديم شاركوا في الانتخابات ورشحوا أنفسهم ولم يفوِّتوا فرصة إلا وانتهزوها وفي الجزء الثالث من كتابه «فتاوى معاصرة» (ص 425) أجاب على سؤال وجه إليه حول جواز المشاركة في حكم غير إسلامي ، والمقصود هنا نظام في بلد إسلامي لا يلتزم بالتطبيق الكامل للشريعة الإسلامية ، فقال إن الأصل ألا يشارك المسلم إلا في حكم يستطيع فيه أن ينفذ شرع الله ، فيما يوكل إليه من مهام الولاية وألا يخالف أمر الله تعالى ورسوله  الذي يجب أن يخضع لهما بمقتضى إيمانه . وإذا كان الأصل تحريم التعاون مع الذين ظلموا ، إلا أن هناك حالات يخرج فيها عن الأصل لاعتبارات يقدرها الشرع قدرها ، ومن الاعتبارات التي وجدها الشيخ القرضاوي مسوغة للخروج على ذلك الأصل ، بأن تقليل الشر والظلم مطلوب بقدر الاستطاعة   وان العلماء أقروا بارتكاب أخف الضررين أو أهون الشرّين دفعاً لأعلاهما ، إلى جانب أن الضرورات تبيح المحظورات، ثم إن سنة التدرج التي هي من سنن الله في خلقه ، تقتضي أن يبدأ الشيء صغيراً ثم يكبر . واشترط توفر عدة شروط في مثل تلك المشاركة ، أولها أن تكون حقيقية وليست وهمية ، حتى لا يصبح الطرف المسلم مطية لغيره ، وألا يكون النظام موسوماً بالطغيان والعدوان على حقوق الإنسان ، إذ المفترض في هذه الحالة أن يقاوم المسلمون ذلك الوضع لا أن يكونوا عوناً له ، وأن يكون للمسلم حق معارضة ما يخالف الإسلام أو التحفظ عليه . وأخيراً اشترط الشيخ أن يقدم المسلمون تجربتهم في هذا الصدد بين الحين والآخر، لكي يتحققوا من أن المشاركة حققت مصلحة للمسلمين أو قللت ضرراً، ولم تتسبب في مفسدة من أي نوع .

أما موضوع شراء الأصوات وهل يجوز للمرشح نفسه للمجلس النيابي أن يشتري أصوات الناخبين بقصد الفوز في الانتخابات على منافسيه في المنطقة الانتخابية  وهل يجوز بيع هذه الأصوات من قبل الناخبين إلى المرشحين بمبلغ معين لأجل الإدلاء بأصواتهم إلى المرشحين ؟

فقد أجابت الهيئة العامة للفتوى بوزارة الأوقاف الكويتية : بأنه لا يجوز للناخب أخذ مبلغ من المال أو هدية مقابل إدلاءه بصوته لأي مرشح لأن التصويت أمانة بمقتضاها يختار الأكفأ ، ليقوم بما أسند إليه خير قيام وقد ورد في الحديث الصحيح أن النبيصلى الله عليه وسلم قال ( إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة ، فقيل وما تضييعها ؟ قال : إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة ) ولذلك فعلى الناخب أن يختار من يعتقد أنه أقوى من غيره وأكثر أمانة ولا يجوز له شرعًا أن يختار الأضعف أو الأقل أمانة لمجرد قرابة أو مصلحة خاصة يحصل عليها منه  وأن المرشح الذي يقدم هدايا هو راشٍ وغير أمين ويعتبر هذا كافيا لعدم انتخابه... والله أعلم . والرشوة قتل لكرامة الإنسان وعزته ، فهي استرقاقٌ بعد حرية  وذل بعد عزة  ومهانة بعد رفعة ، وبعد هذا كله فالراشي ملعون والمرتشي ملعون متوعد بالنار والعياذ بالله لقول الرسول صلى الله عليه وسلم ( لعن الله الراشى والمرتشى والرائش الذى يمشى بينهما )  فهذه المعصية وهذا المنكر أصبح وللأسف يروج له عبر مبررات باطلة وحجج واهية ، حتى أخذ البعض يسوغ كل هذا الأمر فتارة يسمونها هدية وتارة مساعدة وتارة مكافأة ، ونحن نعلم أن المنكر يبقى منكرًا ولو غيرت أسماؤه قال صلى الله عليه وسلم : ( ليشربن أناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها ) رواه احمد وابو داود فتغيير اسم الخمر لا يغير من حرمة هذا المنكر شيئا وهكذا الرشوة فتغيير اسمها لا يغير من حقيقتها شيئا  ، فقد أصدرت الأوقاف الكويتية فتوى أكدت فيها حرمة قيام أي من المرشحين "بإغراء الناخبين لانتخابه بالمال أو أية منفعة أخرى"  مؤكدة أن ذلك يعد "رشوة منهيا عنها وملعونا من اقترفها". كما أكدت الفتوى على عدم جواز قيام المرشح بأخذ عهد أو ميثاق أو قسم علي الناخب بأن يعطيه صوته .

ومن المنكرات القبيحة التي تحصل أيام الانتخابات ، ما يقوم به بعض الناس من الحلف والقسم على إعطاء الصوت لرجل معين أو جعل المصحف أداة لتأكيد القسم   وهذا من اتخاذ آيات الله هزواً وجعل الرب جل وعلا عرضة لأمور دنيوية تافهة ، فالله عز وجل شأنه عظيم  والحلف به في كل صغيرة وكبيرة ليس من تعظيم الله  ولا هو من حفظ اليمين التي أمر الله بها في قوله: ) واحفظوا أيمانكم ( المائدة 89 . 

 

 

 

 

 

الثقة بالله وكيف نبني الثقة فيمن حولنا

 الثقة  أعظم باعث لاستقرار النفس وثباتها وهدوئها ، فالإنسان لا يختار صديقاً يماشيه ويؤاخيه ويسليه ويواسيه ، إلا إذا وثق به واطمأن إليه ، ولا يختار زوجة يبث إليها شكواه وآماله وآلامه   إلا إذا وثق بها واطمأن إليها ، ولا يخبرك أحدٌ بهمومه وأحاسيسه ، إلا إذا وثق بك واطمأن إليك .

إن كل إنسان يستطيع أن يميز بين من يثق به ومن لا يثق به  ويستطيع أن يقارن بين من يقدر الأمور ، ويزنها بميزان صحيح   وبين من لا يستطيع ذلك  .

فالثقة مطلب أساسي من مطالب الحياة ، فلولاها ، لما صحت أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولما قبلت الشهادات وحررت العقوبات ، ولضاعت الحقوق وسلبت الممتلكات ، ولحصلت الخصومات ، وتفرقت الجماعات .

 ولولا الثقة لما أخبر الولد والده بما يتعرض له من مشكلات أو مضايقات ، ومن كان من أهل الثقة بالله ، تراه دائماً هادئ البال ، ساكن النفس إذا ما تعرّض لابتلاء ، لأنه يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه ، ولسان حاله ] قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [ التوبة51 . والثقة بالله هي خلاصة التوكل على الله ، وهي قمة التفويض إلى الله قـال تعـالى : ] وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [ غافر44 .

إنها الاطمئنان القلبي الذي لا يخالطه شك ، والتسليم والاستسلام المطلق لله عز وجل ، إنها كما قال شقيق البلخي : " أن لا تسعى في طمع ، ولا تتكلم في طمع  ولا ترجو ولا تخاف دون الله سواه ، ولا تخشى من شيء سواه ، ولا يحرك من جوارحك شيئاً دون الله " يعني في طاعته واجتناب معصيته   وقال بعض السلف : " صفة الأولياء ثلاثة : الثقة بالله في كل شيء ، والفقر إليه في كل شيء ، والرجوع إليه من كل شيء"  

وها هو إبراهيم عليه السلام يضع زوجته وابنه في واد غير ذي زرع ، في صحراء خالية لا ماء ولا طعام ولا جيران ، واثقاً بأن الله لن يضيعهم ، فتقول زوجته يا إبراهيم لمن تتركنا ؟ لمن تدعنا يا إبراهيم ؟ فلم يجب فقالت : يا إبراهيم! ءآلله أمرك بهذا ؟ فأشار : نعم ، قالت : إذا لن يٌضيعنا ، إنها الثقة .     

وها هي أم موسى التي لقنها الله تعالى بقوله : ]وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [ القصص 7 . فلولا ثقتها بربها ، لما ألقت ولدها وفلذة كبدها في تيار الماء  .

 وتتجلى هذه الثقة عند موسى عليه السلام  ، لما انطلق ومن معه من بني إسرائيل ، هارباً من كيد فرعون ، وقد تبعهم فرعون وجنوده بغياً وعدوناً ، فقال قوم موسى وهم خائفون    إنا لمدركون ، فرعون وجنوده من خلفنا ، والبحر من أمامنا  لكن موسى عليه السلام الواثق بالله وبمعية الله ، أراد أن يبعد الخوف عن قومه ، لتحل مكانه السكينة والطمأنينة ، فأجاب بلسان الواثق : ] كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء62 . إن معي ربي يساعدني ويرعاني ويحفظني ولن يسلمني ، فما كان جزاء هذا الثقة العظيمة ؟ كان الفرج من الله تعالى : ] فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [ الشعراء  63.

ونجى الله موسى وبني إسرائيل من كيد فرعون  . 

وقد تجلت هذه الثقة بالله في سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فقد كان سيد الواثقين بالله وهو في الغار ، والكفار بباب الغار ، عندما قال أبو بكر : يا رسول الله ! والله لو نظر أحدهم تحت قدمه لرآنا   فقال صلى الله عليه وسلم  بلسان الواثق بالله : يا ابا بكر ! ما ظنك باثنين الله ثالثهما ، لا تحزن إن الله معنا ، وعندئذ تنجلي قدره الله ، فيرد قوي الشر والطغيان ، بأوهى الأسباب ، بخيوط العنكبوت . وها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقن الأُمة درساً في الثقة بالله ، وهو يقول لابن عباس : ( احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله  واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله تعالى لك . وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء ، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك   رفعت الأقلام وجفت الصحف )  رواه الترمذي .

 وفي رواية غير الترمذي: ( احفظ الله تجده أمامك ، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك ، وما أصابك لم يكن ليخطئك  )  فالمسلم الواثق بالله يُوقن بأنّ الله لن َيتركه ولن يُضيعه ، ولو تخلى عنه كل من في الأرض ، فثقته بما عند الله أكبر من ثقته بما عند الناس  .

قيل لإبراهيم بن أدهم : ما ِسرّ زهدك في هذه الدنيا فقال أربــع : علمت أن رزقي لا يأخذه أحد غيري ، فاطمأن قلبي ، وعلمت أن عملي لا يقوم به أحد سواي فانشغلت به  .

وعلمت أن الموت لا شك قادم ، فاستعديت له  ، وعلمت أني لا محالة واقف بين يدي ربي ، فأعددت للسؤال جواباً .

وقال عامر بن قيس : ثلاث آيات من كتاب الله استغنيت بهن على ما أنافيه  ، قرأت قول الله تعالى : ] وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ [ الأنعام17. فعلمت وأيقنت أن الله إذا أراد بي ضر ، لم يقدر أحد على وجه الأرض أن يدفعه عني ، وإن أراد أن يعطيني شيئاً ، لم يقدر أحد أن يأخذه مني ، وقرأت قوله تعالى : ] فاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ [البقرة 152. فاشتغلت بذكره جل وعلا عمّا سواه ، وقرأت قوله تعالى : ]وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ [ هود6 . فعلمت وأيقنت وازددت ثقة ، بأن رزقي عند الله ، لن يأخذه أحد غيري  .  

ومن أنواع الثقة الثقة بثواب الله ، فالمسلم يعتقد أن أي خطوة يخطوها في سبيل الله ، وأي تسبيحه أو تحميده أو صدقه أو أي حركة يتحركها لعز الإسلام ، فسيكتب الله له الأجر على ذلك  : ] ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ  [ التوبة120.

وإذا كنا واثقين كل الثقة فيما عند الله من جزاء وجنة ونعيم   فلماذا لا نعمل لننال ذلك الجزاء . قال الربيع بن خيثم: " إن الله تعالى قضى على نفسه ، أن من توكل عليه كفاه ، ومن آمن به هداه ، ومن أقرضه جازاه ، ومن وثق به نجّاه ، ومن دعاه أجاب له دعاه " وتصديق ذلك في كتاب الله : ] وَمَن يُؤْمِن بِٱللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [ التغابن 11 . وقوله تعالى : ] وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [ الطلاق 3 . وقوله : ] إِن تُقْرِضُواْ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَـٰعِفْهُ لَكُمْ [ التغابن 17 وقوله : ] وَمَن يَعْتَصِم بِٱللَّهِ فَقَدْ هُدِىَ إِلَىٰ صِرٰطٍ مّسْتَقِيمٍ [ آل عمران:101 وقوله : ] وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [ البقرة 186.

ذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم قصة أوردها البخاري في صحيحه ،  تؤكد ضرورة الثقة المطلقة بالله ، والاعتماد عليه وحده ، والاعتصام به في كل ما يصيبه ، إنها قصة رجل يُقرض أخًا له مالا ً,  وهذا المقرض يقدم ماله في ظرف صعب ، حيث لا شاهدَ ولا كفيل من الناس , ولكنه مع ذلك يقدم ماله راضيًا ،  ثقةً بالله  شاهدًا وكفيلا . روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : ( ذكر رسول  صلى الله عليه وسلم رجلاً من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يُسلِفَه ألفَ دينا ر فقال: ائتني بالشهداء أشهدهم قال : كفى بالله شهيدًا قال : فأتني بالكفيل قال : كفى بالله كفيلا قال : صدقت ، فدفعها إليه إلى أجل مسمى ، فخرج في البحر فقضى حاجته , ثم التمس مركبا يقدم عليه في الأجل الذي أجّله ، فلم يجد , فاتخذ خشبة فنقرها , فأدخل فيها ألف دينار وصحيفة منه إلى صاحبه , ثم زجج موضعها ، ثم أتى بها إلى البحر ، ثم قال : اللهم إنك تعلم أني تسلّفت من فلان ألف دينار ، فسألني شهيدا  فقلت : كفى بالله شهيدا   فرضي بك شهيدا , وسألني كفيلا فقلت : كفى بالله كفيلا  فرضي بك كفيلا , وأني جَهِدت أن أجد مركبا فلم أجد  وإني استودعتكها ، فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه , ثم انصرف ، وهو في ذلك يلتمس مركبا يخرج إلى بلده   فخرج الرجل الذي كان أسلفه ، ينظر لعل مركبا قد جاء بماله , فإذا بالخشبة التي بها المال , فأخذها لأهله حطبا , فلما نشرها وجد المال والصحيفة , ثم قدِم الذي كان أسلفه   فأتى بألف دينار وقال : مازلت جاهدا في طلب مركب لآتيك بمالك ، فما وجدت مركبا قبل الذي أتيت فيه قال : هل كنت بعثت إليّ بشئ ؟ قال : أخبرك أني لم أجد مركبا قبل الذي جئت فيه قال : فإن الله تعالى قد أدى عنك الذي بعثت في الخشبة فانصرَف بالألف دينار راشدًا  ) .

 أما كيف تبني الثقة فيمن حولك ، زوجتك ، أبناؤك   إخوانك  ، أخواتك ، أنت بحاجة أن تجعل منهم أفرادا نافعين لدينهم وأمتهم ، فلا بد من خطوات لبناء الثقة بينك وبينهم    الأولى : علّقهم بالله ، فمن تعلق بشيء وُكل إليه ، وما أعظم أن يوكل الإنسان إلى ربه ، وعلّمهم كيف يحسنون التعلق بالله  وذلك بالفزع إليه  ، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما ، وكان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة ، وكان إذا همّ بالأمر صلى لذلك الاستخارة .

 الثانية : اشحذ همّتهم ، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ك يا عمر ! ما رآك الشيطان سالكاً فجّاً إلا سلك فجّاً آخر  ، وهكذا صار عمر الأمير والخليفة الملهم ، وفي يوم بدر ، فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ، وعندما قال صلى الله عليه وسلم : من يقاتلهم وله الجنة فقال عمير : بخ .. بخ إنها لحياة طويلة حتى آكل هذه التمرات .

 الثالثة : عزز جانب النقص فيهم ، روي أن عبد الله بن مسعود الفتى النحيل والصحابي الجليل وهو يصعد على شجرة  فتتلاعب الريح بساقيه ، فيضحك بعض الصحابة من دقّة ساقيه   فيقول صلى الله عليه وسلم : أتضحكون من دقة ساقيه ؟ والله إنها عند الله أثقل من جبل أحد ، يريد أن يعلمنا كيف نعزز جانب النقص فيمن حولنا ، خصوصاً إذا كان النقص نقصاً فطريّاً جبليّاً ، عزّزه بما يكمله ، فرسول الله  صلى الله عليه وسلم لا يريد أن يخبرنا أن وزن ساقي ابن مسعود أثقل من جبل أحد ، لمجرد أنها هي ساقا ابن مسعود   إنما يريد أن هذه الساقين تغبرت في سبيل الله ، فثقلت في ميزان الله ، وقد اخبرنا الرسول  صلى الله عليه وسلم أن النساء ناقصات عقل ودين   لكنه صلى الله عليه وسلم يعزّز هذا النقص الفطري بقوله : ( إذا صلت المرأة خمسها ، وصامت شهرها ، وحصنت فرجها ، وأطاعت زوجها ، قيل لها : ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئت ) إنه تكميل وتعزيز ، لتكون أكثر ثقة بنفسها ، حين تتعامل مع معطيات الحياة .

 الرابعة : احترم جهدهم ، فلا تتجاهل أو تحقّر ولكن احترم وقدّر ، فقد روي أن شابين فتيين وهما يختصمان عند رسول الله  صلى الله عليه وسلم أيّهم قتل أبا جهل فيطلب صلى الله عليه وسلم سيوفهما فيرى عليها آثار الدماء فيقول : كلاكما قتله ، ويوصي عائشة رضي الله عنها   يا عائشة ! لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة ، إنه احترام جهود الآخرين مهما قلّت ، فهي تبعث في قلوب الآخرين الثقة فيما يقدمون ويعطون .

 الخامسة : كلّف بالمستطاع ، حتى لا يصاب من حولك بالإحباط أو الفتور ، فاعرف قدراتهم وإمكاناتهم ، ثم اختر المناسب في المكان المناسب ، وفي الوقت المناسب لتجد من حولك أكثر ثقة في إبداعهم .

سئل نابليون : كيف استطعت أن تولد الثقة في نفوس أفراد جيشك ؟ فأجاب : كنت أرد على ثلاث بثلاث ،  من قال لا أقدر قلت له : حاول ، ومن قال لا أعرف قلت له : تعلم   ومن قال مستحيل قلت له : جرّب .  
السادسة : ثق بهم ليكونوا أوثق بأنفسهم ، امنحهم ثقتك وحسن ظنك بهم ، فلا تعاملهم بالشك والريبة وتأويل الأفعال وصارحهم ولا تزين لهم ، واستر عيبهم ولا تفضحهم   وانصحهم وصارحهم بأخطائهم مصارحة الحريص المشفق  من غير تشهير أو تحقير أو إذلال ، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ما بال أقوام ، وصارحهم بحبك فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إذا أحب أحدكم صاحبه فليأته في منـزله ، فليخبره بأنه يحبه لله عز وجل ) .

السابعة : علّمهم كيف يبدعون كيف ينجزون ، كيف يتخلصون من مشاكلهم ، وجّه وانصح وساعد  .

وينشأ ناشئ الفتيان منّا    على ما كان عوّده أبوه

لنتعلم من أصحاب الخبرة والتجارب ، نأخذ منهم الصواب ونترك الخطأ ، ولنحذر ممن يثق الناس بهم لزخرفة كلامهم ونفاقهم ، وهم في الحقيقة ليسوا موضع ثقة ، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم  قال : ( كيف أنت يا عبد الله ابن عمر ! إذا بقيت في حثالة من الناس قد مرجت عهودهم وأماناتهم ، واختلفوا وصاروا هكذا ؟  وشبك بين أصابعه قال: فكيف يا رسول الله ؟ قال : تأخذ ما تعرف ، وتدع ما تنكر ، وتقبل على خاصتك ، وتدع عوامهم ) رواه احمد .   

 

 

 

 

 

الثعالب من البشر

زعموا أن الثعلب أراد مرّة أن يختطف عنقوداً من العنب  فأحس بالعجز عنه فارتد وهو يقول : إنه حامض ،  ومن أمثال العرب التي يوردها الجاحظ في (الحيوان) إشارة إلى الثعلب في قولهم "أدهى من الثعلب"  .

 إن تحقير الشيء الذي لا يستطاع إدراكه ، شيمة الطبائع الخسيسة في البشر ، وهو الذي أوحى إلى المشركين قديماً أن يطعنوا في المؤمنين ، وأن يستهينوا بقيمة الدين الذي اعتنقوه قائلين : ) لو كان خيراً ما سبقونا إليه ، وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم ( الأحقاف 11 . أي أنه عنب حامض .

هذه الثعلبية متفشية بيننا تفشياً واسعا ، ما إن يحدث أمر ما حتى تجد نظرات البرود تحوم حوله ، فهذا يهز كتفيه استخفافا  وذاك يغمز ويلمز ، ولولا أن عظائم الأمور تندفع بقوتها الذاتية لماتت في هذه الأجواء الخانقة .

ليت شعري ، لماذا المكابرة ؟ وماذا يخسر الناس إذا أعطوا كل ذي فضلٍ فضله ؟ لا شيء ، لكن اضطراب مقاييس الكفاية عندنا ، أدى إلى فوضى في التقدير تركت طابعها في أعمالنا وأخلاقنا ، فالذين يحترمون الثوب القصير لا يفتحون عيونهم على غيره ، وبهذا تتوارى الحقائق في أكفان المظاهر المادية الصغيرة ، ونتيجة ذلك فإن كفايات كثيرة تموت في هذه البيئات الحاقدة ، ونتيجة أخرى لا تقل شرّاً هي : أن القاصرين والمقصّرين يفسح لهم المجال الذي خلا من أصحابه الجديرين به   والويل لأمةٍ يتقدم فيها أغبياؤها ، ويتأخر فيها أذكياؤها ، ما أسوأ الغض من ذوي المواهب وقلة الاكتراث بهم ، من قديم الزمان شعر المتنبي بأولئك المزاحمين المهازيل فقال ساخطاً عليهم :

أفي كل يومٍ تحت ضبني شويعرٌ   ضعيفٌ يقاويني قصيرٌ يطاولُ ؟

لساني بنطقي صامت عنه عادل وقلبي بصمتي ضاحكٌ منه هازل

وما الكبر دأبي فيهم غير أنني     بغيضٌ إلى الجاهل المتعـاقل

 وإذا كان لغمط الحقوق مجال بين الطامعين في الدنيا   والمتكالبين عليها ، فإنه ينبغي أن يكون المتدينون أبعد الناس عن سؤ التقدير وقلة الإنصاف ، لأن أول معالم المجتمع المتدين ، أن لا يجحد فضلاً ولا ينقص حقا ، ومن هنا يُخْرج الرسول صلى الله عليه وسلم من نطاق المؤمنين من مردوا على النكران فقال : ( ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه ) .

إننا لو حللنا البواعث التي تدفع على الاستهانة بالفضلاء  والتطاول على الأكفاء ، لما وجدنا إلا المشاعر نفسها التي دفعت ابن آدم إلى قتل أخيه ، والتي دفعت إبليس على احتقار آدم ، والتي لا تزال تدفع كل مهووس في عقله أو دينه على أن يرفع خسيسته على حساب ذوي العقل والدين ، وهي مشاعر لا قرار معها لإيمان في قلب ، ولا قرار معها لتدين في مجتمع . 

وإن هؤلاء يذكرونني بالحطيئة شاعر الهجاء ، الذي بسط لسانه بالأذى في أعراض المسلمين حتى عوقب بالسجن ، وقد كان الشتم عنده غريزة كامنة فيه ، تدفعه إلى التهجم الدائم ، فإذا هاجت فيه هذه الطبيعة ولم يجد من يسبه ، غدا على امرأته يقول لها :

أطوف ما أطوف ثم آوى   إلى بيت قعيدته لكاع

فإذا فرّت امرأته ولم يجد من يسبه عاد إلى نفسه ، ينظر إلى المرآة ويقول :

أرى لي وجهاً قبح الله خلقه    فقبح من وجه وقبح صاحبه

إن أصحاب هذه الطباع مرضى ، وربما كانت طينتهم من النوع الكلبي ، الذي إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث  وإذا وقع الإنسان لسوء الحظ بينهم ، فكما يقع الطارق الغريب أمام بيتٍ لا أنيس فيه ، ما إن يقرع الباب حتى يقضم رجله كلبٌ عقور ، يزعمون أنهم من الدعاة إلى الله ) ولو نشاء لأريناكَهم فلعرفْتَهُم بسيماهُم ، ولتعرفنَّهم في لَحْنِ القول ( محمد 30 . قومٌ يتمنون وقوع الخطأ من الناس ، ظاهر أمرهم الغضب لحدود الله   أما باطنه فالتنفيس عن الحقد البغيض ، يضخمون التوافه ويتاجرون بالخلافات ، ويتلمسوا العيوب ، مع أن الخلافات عند ذوي الأمزجة السليمة لا تثير حقدا ، كما كان أئمة المذاهب ، فهذا أبو حنيفة يرى أن القراءة وراء الإمام حرام  ويرى الشافعي أن القراءة وراءه واجبة ، ومع أن الأمر يتعلق بأهم أركان الدين ، فما فسّق أحدهما الآخر ، ولا أهاج عليه الدنيا ، لأن كلاهما نظيف الطبع عالي الإيمان .

أما أصحاب الطبيعة الحطيئية فقد شغلوا الناس بالخلاف في فروع العبادات ، عن سياسة الحكم والمال ، وعن علاقة الأمة بغيرها ، وكيف تقدر على أداء رسالتها العالمية ، كل ما يربطهم بالإسلام قراءة لا فقه فيها ، وعبادةٌ لا عمل معها ، وما علموا أن الانشغال بهذا الخلاف ، ليس إلا لتضليل المسلمين عن رسالتهم الكبرى ، وتجاهلوا أن الأحكام الشرعية أعز وأسمى من أي قضية تحتمل القيل والقال ، والأخذ والرد ، ولم يتورعوا عن كثرة اللغط في قضايا العقيدة والشريعة ، فضلوا وأضلوا ، وإلا ما معنى الاحتجاج على الكيفية التي أباحها الشرع في أداء العبادات ، ولماذا الاحتجاج على ابتلاء الله ، إذا علم أن ابتلاء الله رحمة ، وما يحتج على ذلك إلا صاحب طفولة جريئة ، أو تطفل قبيح على ابتلاء الله ، وإن هؤلاء الذين امرض قلوبهم الجدلُ والتطاول ، آبى كل الإباء أن اكترث بهم .

إن الله أصلح الأرض بما وضع لها من سنن ، وأنزل فيها من وحي ، فلماذا يحاول بعض الناس إفسادها بالفوضى والتسيب ) والله لا يحب الفساد ( ولماذا يمضي الكثيرون من المفسدين في طريق الغواية ، يستحسنونها ويستريحون إليها ، ويعتقدون أن لهم وجهة نظر جديرةٌ بالتسليم ، أرى الواحد منهم يكفر بخصومه ويغالي بفكرته ، ويحقر ما عداها ، يعمل ليزحزح غيره ولا يتزحزح البتة ، وما علم أن من يشتغل بالغير لا يكون إلا واحداً من اثنين : إما منافق لا إيمان له ، وإما مغفلٌ لا عقل له  أضف إلى ذلك بأنه اتصف بصفة الخصوم الحاقدين ، الذين إن وجدوا خيراً دفنوه أو لحظوا شرّاً أذاعوه ، وإن استطاعوا إدارة خصومتهم على غير قانون من خلق أو شرّ فعلوه . يزعمون أنهم أهل الدين ، وفي قلوبهم غلٌ على العباد ورغبةٌ في إشاعة السوء عنهم ، فقههم معدوم ، وتعلقهم بالقشور والسطحيات   غالباً ما يكون على حساب الأركان والأساسيات في الدين   وهذا يدل على عدم الرسوخ في فقه الدين ، والميل إلى التضييق والتشديد ، والإسراف في القول بالتحريم ، مع تحذير القرآن والسنة والسلف من ذلك ، وحسبنا قول الله تعالى : ) ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام   لتفتروا على الله الكذب ( النحل 116 . كان السلف لا يطلقون الحرام إلا على ما علم تحريمه جزما ، فإذا لم يجزم بتحريمه قالوا : نكره كذا أو لا نراه ولا يصرّحون بالتحريم ، أما المبالون في الغلو ، فهم يسارعون إلى التحريم دون مبالاة ، ولا عجب إذا رأينا منهم من يتمسك بحرفية النصوص ، دون تغلغل إلى فهم فحواها ومعرفة مقاصدها ، خذ مثلاً الحديث الذي رواه أبو داود عن عبدالله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ثلاثة لا يقبل الله منهم صلاة : من تقدم قوماً وهم له كارهون ... ) جاء في عون المعبود شرح أبو داود ج2-ص303 ، قيد ذلك جماعة من أهل العلم بالكراهة الدينية لسبب شرعي ، أما الكراهة لغير الدين فلا عبرة بها وقال الخطابي : يشبه أن يكون الوعيد في الرجل ليس من أهل الإمامة .

وروى الترمذي عن الحسن قال : سمعت أنسَ بن مالكِ قال : ( لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثةً : رجلٌ أم قوماً وهم له كارهون ... ) جاء في تحفة الأحوذي شرح الترمذي ج2 – ص344 ، وهم كارهون لأمرٍ مذمومٍ في الشرع ، وإن كرهوا لخلاف ذلك فلا كراهة ، وقال ابن مالك : كارهون لبدعته أو فسقه أو جهله  أما إذا كان بينه وبينهم كراهة عداوة بسبب أمر دنيوي فلا بكون له هذا الحكم ، جاء قومٌ وأخذوا بظاهر الحديث دون الالتفات إلى المقاصد والمصالح ، ويا ليتهم فهموا بأننا إذا لم نرد الأحكام إلى عللها ، فإننا سنقع في تناقضات خطيرة ، نفرّق بها بين المتساويات ونسوي بها بين المختلفات ، وليس هذا هو العدل الذي قام عليه شرع الله . إن ضعف البصيرة عند هؤلاء راجع إلى أنهم لا يسمعون لمن يخالفهم في الرأي ، ولا يقبلون الحوار معه ، وكثيرٌ منهم لم يتلق العلم من أهله والمختصين بمعرفته ، وإنما تلقاه من الكتب مباشرة ، دون أن تتاح له فرصة المراجعة والمناقشة ، والأخذ والرد واختبار فهمه ، ولكنه قرأ وفهم واستنبط ، وربما أساء القراءة والفهم والاستنباط وهو لا يدري . إن الإسلام منهج متكامل للحياة ، يضع لها الإطار والمعالم والحدود التي تضبط سيرها ، وتقيها من الانحراف أو السقوط أو الضياع ، فلا بد من الالتزام بالإسلام كله وقد ذم الله الإلتزام ببعضه فقال : ) أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من فعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب ( البقرة 85 . ولا بد لكي يكون المجتمع مسلما من الرضى بحكم الله ورسوله في كل شؤون الحياة ، وهذا هو مقتضى عقد الإيمان قال تعالى : ) فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ... ( النساء 65  .

 

 

 

 

 

 

 

                التدافع بين الحق والباطل                                                            قال تعالى: ] ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثير[40 الحج .                                        اإن كل الأماكن التي يعبد فيها الله ، معرضة للهدم رغم قدسيتها ، لا يشفع لها في نظر الباطل أن يذكر فيها اسم الله  ولا يحميها إلا دفع الله الناس بعضهم ببعض أي دفع حماة العقيدة لأعدائها   الذين ينتهكون حرماتها ويعتدون على أهلها   فالباطل قبيح لا يكف ولا يقف عن العدوان ، إلا أن يُدفع بمثل القوة التي يصول بها ويجول ولا يكفي الحق أنه الحق  ليوقف عدوان الباطل ، بل لابد من قوة تحميه وتدفع عنه وهي قاعدة كلية لا تتبدل ، مادام الإنسان هو الإنسان ، والإسلام مع هذا لا يعد القتال غاية لذاته ، ولا يأذن به إلا لغاية أكبر  بل إن السلام هو غاية الإسلام كما تقرر آيات كثيرة في القرآن   ولكنه السلام الذي لا اعتداء فيه ، فلا ظلم ولا بغي ولا عدوان   وإن الوقوف في وجه الباطل ومقاومته ، سواءً كان عدواناً خارجياً أو تسلطاً داخلياً ، هو أمر مطلوب شرعاً لا جدال فيه   إلا أنّ هذه المقاومة تأخذ أشكالاً متعددة ، طبقا للواقع المبطل من ناحية ، وتبعا لقدرات الواقع الإسلاميّ على المقاومة من ناحية أخرى . وتأتي هذه المقاومة في الشريعة تحت أبواب عدة  كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والدعوة إلى الجهاد لدفع المعتدي ، فكلها طرق تؤدى إلى إصلاح الواقع وتقويمه   والجهاد فرض إذا احتلت ديار الإسلام ، وعلى كلّ مسلم المشاركة فيها بأي شكل كان ، لأن الجهاد واجب محتوم   وقدر مرسوم لا فكاك منه ، فخيار الجهاد ضرورة عند القدرة عليه قال تعالى: ] انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم [ التوبة                                                                     فجهاد المعتدي مشروع في الإسلام ، وإن جرّت الحرب ما تجرّ على أبنائها من أهوال وخسائر وقد قال شوقي:                                                                الحرب في حقّ لديك شريعة   ومن السموم الناقعات دواءُ                                                    والشّر لا يندفع إلا بالقوة ، وأهله لا يرتدعون إلا بها ، كما قال شوقي:                                                              والشرّ إن تلقَه بالخير ضقت به  ذرعا وإن تلقه بالشرّ ينحسمِ                      فلابد من خوض خيار المقاومة المسلحة ضد المحتلّ ، وهو ديدن البشر منذ بدء الخليقة ، يبغي القوى على الضعيف ، فيثور الضعيف على القوى ،  ولا يزال الصراع قائما حتى ينتصر أحد الفريقين ، إما أن يستسلم الضعيف فيهلك ، وتتبدل ثقافته ووجوده كله بثقافة المعتدى ووجوده ، ويصبح خبرا بعد عين  وتتحاكى به الأمم التالية في أخبار التاريخ ، وإما أن يستسلم القوى لإصرار المقاومة وثباتها ، وتكون حربه عليه حسرة وندامة ، ويصبح الضعيف قوياً بعد ضعفه ، وتبقى ثقافته وحضارته تكافح على وجه الأرض ، وهكذا حديث الدنيا وتداول الأيام .                                                        وفي التاريخ عبرة وعظة ،  والدهر والزمان متقلبان لا يثبتان  والأيام دول ، يوم لك ويوم عليك ، والدعوات الصادقة لا تهزم أبداً .                                                           ا تالله ما الدعوات تهزم بالأذى  كلا وفي التاريخ بَرُّ يميني                            لقد عرف التاريخ فرعون الذي سام المؤمنين من بني إسرائيل سوء العذاب ، فقتل أبنائهم واستحيى نسائهم ، وجعلهم شيعاً وتهددهم بأن يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ،  ولكنه ذهب إلى غير رجعة ، وصار في خبر كان ، ونجاه الله ببدنه ليكون لمن خلفه آية ، وكذلك يفعل الله بالمجرمين على مر الزمن ، والظالمون على مر الأيام يمرون ولا يثبتون ، يَعْلُونَ ولكنهم في الأرض لا يدومون ، وإن شئت فاسأل التاريخ   ينبئك عن هامانَ وقارونَ وعادٍ وثمودَ وأصحابِ الرَّسِّ وقرونٍ بعد ذلك كثيراً ، ذكر الله خبرهم فقال : ] فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [ .                                                                                أين الظالمون بل أين التابعون لهم  في الغي ثم أين فرعون وهامان                    أين من دوخوا الدنيا بسطوتهم وذكرهم في الورى ظلم وطغيان                  هل أبقى الموت ذا عز لعـزته   أو هل نجا منه بالسلطان إنسان                 لا والذي خلق الأكوان من عدم الكل يفنى فـلا إنس ولا جان          وقد تعلمنا من الشريعة المطهرة أن الله يستطيع أن ينصر أوليائه   ويهلك أعدائهم دون حرب ، لكن الله يريدهم أن يأخذوا بأسباب النصر ، وأنه سبحانه جعل لكل ظالم موعداً لهلاكه  فقد روى مسلم عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ] إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُمْلِي لِلظَّالِمِ فَإِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ [  ثُمَّ قَـرَأَ    ]  وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [ . ونحن على يقين منذ أن المستقبل لهذا الدين  وأن الأيام القادمة لن تكون إلا لأتباع دين محمد صلى الله عليه وسلم ، وعلينا ألا نيأس   ولا نخشى من الغيب ، ولا نخاف من الغد ، لأنَّ الدنيا وأيامها كلها بيد الله تعالى الذي وعد المؤمنين فقـال : ] وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا[ .                                            سنعيش على هذا الأمل وسنحيى على هذا اليقين ، وأن لا نقرّ للمحتلين بملكية أرضنا ، وللغاصبين بمشروعية الغصب والقتل والتدمير ، وألا نوقعَ على ذُلِّنَا أبداً ولو وصلنا إلى حدٍ نعيشُ فيه نقبضُ على الجمرِ ونحفرُ في الصخرِ ، ونعاكسُ التيارَ  لنُعلِّم   الأمةَ أنَّنَا أبناء الأمة التي وعدها الله بالنصر ، أما الداعون لليأس، المنادون للإحباط والقنوط ، فهؤلاء لن يصنعوا بإحباطهم الحياة ، ولن يعمروا بيأسهم الدنيا ، وسيعيشون في الزوايا والقباب والبيع ، يشابهون الذين جعلوا من دينهم قال تعالى : ]  رَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِم [ .                                                      لقد قضت إرادة الله بوجود الطائفة التي تتصدى للباطل وأهله في الدنيا كلها ، وهي التي توقظ الأمة ، كلما أخلدت على النوم ، وتعلِّم الأمة بأن لا تيأس وتستسلم للواقع المر ، الذي يعاني منه المسلمون .                                                  لا يأسَ مهما غرقنا في مآسينا    وأمعنَ الكفرُ ذبحاً في ذرارينا                        لا يأسَ فاليأسُ كفرٌ في عقيدتنا  وما ارتضينا سوى الإسلام ديناً                 سنظلُّ أسداً وإنْ قُصَّتْ مخالبُنَا    ولو جرى بدمِ الثوارِ وادينا                     إنَّ ما يحدث الآن يجب أن يزيدنا إيماناً بأن الله أَذِنَ للمسلمين  أن يستعيدوا قوتَهُم لكي يواصلوا رسالتَهُم بإخراج العالم كله   من عبادة العباد إلى عبادة الله تعالى ، وأن الله سيجعل لنا مما نحن فيه فرجاً ومخرجاً ، وليبلغنَّ هذا الدينُ ما بلغَ الليلُ والنهارُ بإذن الله تعالى ، فقد روى الإمام أحمد في المسند بإسنادً صحيح عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ( لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَلَا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ وَذُلًّا يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ ) .                                  فهذا الدين دين الله تعالى، والله ناصر دينَه ومعزٌّ نبيَه ، وقد قضى الله تعالى أنْ يكونَ دينُه هو الغالب ، وأنَّ تكون شريعتَهُ هي الظاهرة ، فقال سبحانه : ] هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ [  إن ما يجري في غزة من عدوان إسرائيلي سافر كان موضع متابعة من الإعلام الإسرائيلي ، فمراسل «هآرتس» للشؤون العربية، تسفي برئيل، كتب تحت عنوان «السكوت علامة الرضا» فاضحاً هذا الموقف، فبرئيل يرى أن الردود التي قالت :  إن حماس أعطت إسرائيل الذريعة للشروع في حرب غزة ، وأن الهجوم على غزة هو أكثر من رد على نار الصواريخ   فقد فُسر ذلك في إسرائيل كإسناد لمواصلة الهجوم على غزة . كما أن الردود الفاتره وعدم الرد المدين حتى الآن ، يدل على أن الهجوم على غزة ، رغم دمويته وقسوة الصور التي عرضتها وسائل الإعلام العالمية- يتم التعامل معه عربياً على أنه حرب على حماس الإرهابيه كما يقولون ليس إلا ، هكذا فهم الإعلام الإسرائيلي المواقف الرسمية ، في حين أن المسئول الإسرائيلي لا يحتاج لقراءة «هآرتس» ومراسلها برئيل، ليفهم جوهر المواقف الرسمية ، لأنه بكل بساطة مطلع بصورة مباشرة ، على حقيقة تلك المواقف  .                                                 إلا أن غزة على محدودية مساحتها وإمكاناتها ، ورغم جراحها أثبتت أن هذه الأمة عظيمة وقادرة على التحدي ، فـإسرائيل رغم فداحة الجريمة التي ارتكبتها في غزة، ومع كل إمكاناتها العسكرية ، ازدادت قناعة بعد عدوانها بأنها بإزاء معضلة لا تملك لها حلاً ، أو بحسب تعبير كبير محللي «يديعوت حرونوت» ناحوم برنياع.. بأن إسرائيل أمام الاختيار بين الطاعون أو الكوليرا ، بعدما برهنت حماس قدرتها على الصمود   وعلى إطلاق الصواريخ رغم احتلال الطائرات الإسرائيلية لسماء غزة بصورة كاملة ، والأخطر قدرتها على القتال ، وقد اعترفت إسرائيل  ببسالة غزة وشراسة مقاتليها .                                                                   لقد أصبح كل مواطن عربي يعيش وقائع حصار غزة وكأنه داخله ، وينفطر حزناً وغضباً وهو يتابع أخبار ضحايا الحصار من المرضى ، خاصة الأطفال والشيوخ والنساء وكأنه أقرب الناس إليهم . لذلك لم يكن ممكناً أن تمر جريمة الحصار كما مرت جريمة الاحتلال في 1948 وغيرها من الجرائم ، ولم يكن ممكناً كذلك أن تكون ردود الأفعال إزاءها نمطية ، لأن هناك احتلالاً تجب مقاومته ، وأنه حتى وإن أطلقت صواريخ المقاومة على إسرائيل ، فإن المسؤول عنه هو الاحتلال الذي يرفض تقديم أدنى تنازل للشعب الفلسطيني . وقد تمخض عن هذا الحصار دلالات لا يمكن أن يخطئها العقل ، وأولى هذه الدلالات هي أن مواقف معظم القوى الدولية المؤثرة  ما زالت كما كانت إزاء جرائم إسرائيل الأولى ، إما التواطؤ أو الصمت أو على أحسن الفروض الاستنكار والإدانة اللفظيان ، دون أدنى عمل مؤثر ، يردع المجرم عن الاستمرار في جريمته . وهكذا تثابر هذه القوى بدأب على سياسة المعايير المزدوجة  وتواطؤها يشكل غطاء ممتازاً يمنع الإعلام حتى من مجرد التغطية الإعلامية التي يستحقها حدث ضخم بهذا الحجم . ولا نسمع من هذا الإعلام  غير كلمة واحدة هي : نتفهم حاجة إسرائيل الأمنية التي تدفعهم إلى مثل هذا الرد . أو هذا هو الرد الطبيعي على إطلاق الصواريخ . أو يقولون: العالم كله متفق على مكافحة الإرهاب ، أو هذا دفاع عن النفس مشروع ، في الوقت الذي يقرّون بأن مقاومة المحتل في كل شرائع العالم  أمراً مدعوماً ومشروعاً من أمريكا في كثير من البلدان ، فلماذا أمريكا قلقة من معاناة الشعب في دارفور ، وليست قلقة من المذابح اليومية في غزة ؟ أليست هذه الازدواجية في التعامل  ثم لماذا لا تتوحد الأمة ، أمام الرضى والدعم الدولي غير المحدود لإسرائيل   وهم يرون في اجتياح غزة تخليصا لإسرائيل من الصداع الغزاوي المزمن ، المتمثل بحماس وقوى المقاومة الأخرى!!  ويا ويح أمة يعصف بها الموت اليومي.. فمن لم يمت منها بصاروخ يموت كمداً وصمتاً وغبنا!! ويا ويح أمة عجبت من صبرها الأمم ، على ما يجري من استنـزافٍ لطاقتها البشرية واستنـزافٍ لمعنوياتها وتحملها ، إنه مخطط لئيم شرير ينبغي أن تقف له الأمة بحزم كبير ، وإلا فإنه الشر المستطير  الذي لا ندري إلى أين سينتهي شره وشرره ، ويخطئ من يظن أن الصمت الشعبي العربي على ما يجري في غزة يعبر عن عدم اكتراث أو عدم رغبة باقتلاع كل المجتمع الاستيطاني الإحتلالي في فلسطين ، ويخطئ من يقلل من تلك الرغبة المتأججة ، بعدم القبول بالوجود اليهودي الذي يظن أنه يستطيع بالإرهاب ، أن يخيف من اهتدوا إلى طريق المقاومة ،  ولذلك يحاول أن يعاقب عامة الناس ، لا المقاومين فحسب ، بطريقة إجرامية لدرجة يظن أنها سوف تدفعهم للضغط على المقاومة وإيقافها  والدارس لتاريخ الشعوب والأمم التي يرد فيها المحتل على المقاومة الناجحة ، بحملات العقاب الجماعي . يجد أنه لو كان هذا الأسلوب ناجحاً ، لما تحرر شعبٌ ولما انتصرت مقاومة  ولبقيت الشعوب ترزح في أغلال العبودية منذ آلاف السنين . وإن تصاعد العقاب الجماعي كان وما يزال حجة على من يمارسه  لا على من تمسك بخيار المقاومة . لذلك يخطئ من يتوقع أن الإرهاب الصهيوني ، سيقف دون وجود قوة توقفه  وفي التاريخ الحديث ما يدل على صدق ذلك ، فهتلر لم يكف عن حروبه بالكلام الحسن ، ولا بمزيد من الأراضي للترضية  وهذه نتائج هتلر ونازيته المصدّرة لنا ، وهي أشر من كل نازية في التاريخ ، فكان  من العار على الذين حاربوا النازية قديما  أن سلحوا وأيدوا نازية اليوم ، التي تمارس هجماتها البشعة  بكافة الأسلحة على سكان غزه ، وكل يوم تخرج لنا صور الضحايا والشهداء والجرحى ، ومشاهد التدمير والتخريب! حتى أن المرء ليقف أمام هذه الصور والمشاهد والأحوال   مذهولا يتساءل من يطيق ما يطيقون ؟ ففي كل زاوية من زوايا غزة ، وفي كل بيت شهيد أو جريح أو أسير ، وفي كل بيت يتيم أو أرملة أو مسكين ، قصة وحكاية ، فربما فقدوا الكثير من مظاهر الحياة التي نحرص عليها ، ولا يمكننا العيش بدونها ، إلا أنهم ملكوا الدنيا كلها ، فقد أسروا هواهم وأصروا على البقاء في أرضهم   ورغم القتل والتدمير والحصار ، ملكوا العزة والكرامة والبطولة والشجاعة ، والثبات والإقدام والتضحية في سبيل الله   وإن من أسرار ثباتهم وما يرونه من أحداث يومية ، لا تنقل لنا ولا نسمع عنها ، أكتفي بذكر إحداها ، فمبنى الشرطة الذي كان مقراً للسلطة السابقة    يقابله مبنى منهار ، وبالسؤال عنه أجاب الجميع ، بأنه كان مقراً للقوة التنفيذية  الذي قصفته طائرات الاحتلال ، بينما لم تطلق رصاصة واحدة على مبنى الشرطة الذي يقابله ، والذي  يفصل بينهما خمسة أمتار فقط  فكانت نتيجة القصف شهيدان فقط ، أتدرون لماذا ؟ لأن الصاروخ الأول لم ينفجر ، فكان رسالة إنذار للمجاهدين ، أما الصاروخ الثاني فقد فجر السور الخلفي للمبنى   ففتح مخرجاً للمجاهدين هربوا من خلاله للمزرعة الواقعة خلف المبنى ، أما الصاروخ الثالث والرابع فقضى على كل ما تبقى من المبنى   لتكون الحصيلة نجاة أكثر من 60 من رجال التنفيذية وقادتها .                                                             إن السكوت عن الظلم , والتخلف عن نصرة المظلوم , أو مساواة الجلاد بالضحية جريمة قد يعجل الله تعالى العقوبة عليها   لذا فإن كلّ مسلم ملزم بقدر من هذه المقاومة لما ورد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم  الذي رواه البخاري : ( رجلٌ جاهد بنفسه وماله ) أو باللسان توجيها وتصحيحاً وإرشاداً ، ببيان الحق وفضح الباطل ، فكلاهما مطلوب شرعاً ، ومقاومة التبديل المتعمد لمنهج الله وسنة رسوله الله صلى الله عليه وسلم  ثم الصبر على هذا الدرب  لازم لبلوغ المراد ، مهما بُذل فيها من أرواح ، فهي أرواح شهداء أحياء عند ربهم يرزقون ، ومهما تلف فيها الغالي والثمين ، فالضائع هو ما لم يبذل في هذا الطريق ، والباقيات الصالحات هي خير عند الله ثوابا وخير عُقباُ ، لك الله يا فلسطين.اللهم وحد المسلمين وانصرهم على أعداء الدين واجعلهم أهلا للنصر والتمكين اللهم آمين .

 

الخلل في التعامل مع القضايا الإسلامية

 كيف نستطيع خدمة قضايانا الإسلامية ؟ وكيف نستطيع أن نخدمها بالطريقة الصحيحة التي تجعلنا نكسب ثقة الناس الذين نتحدث معهم ونخاطبهم ، وتجعلنا نستطيع أن نربط الناس بها ربطاً صحيحاً ؟ إن ذلك يكون بحمل أفكار الإسلام ، وما استطاع الغرب أن يغلبنا ، إلا لانحطاط تفكيرنا وجهلنا ، وعدم فهمنا لأفكار الإسلام . وقد استطاع أن يضللنا ويغزونا بفكره ومن ثم بجيوشه . ولن يعود لنا عزنا ومجدنا ، وتحررنا من ظلم المستعمر إلا بعودتنا إلى الإسلام وأفكار الإسلام  .

إن هناك ناساً أرجو الله تعالى أن لا نكون منهم ، هم على الآرائك متكئون ، وللشاي والقهوة يشربون ، ولأخطاء إخوانهم المسلمين يتسقطون ، وعن زلاتهم يبحثون ، ولعيوبهم يتصيدون ، فإذا وقعوا عليها فإنهم يسرون بها ويفرحون  ويغدون بها ويروحون ، ويشيرون بها ويلوحون ، وكأنما عثروا على كنـزٍ ثمين ، أو على نصرٍ مبين!! فهذه مصيبة كبرى    لأنه ليس من الاحترام ، أن تتعامل مع من نخالفه بالتهم التي نلصقها به ، كما نجد الكثيرين ممن يقولون : هذا تابع لهذه الجهة أو لتلك الجهة ، فليس من المصلحة أن نتعامل بأساليب الاتهامات المتبادلة ، ولا أن يتم التعامل عن طريق الغمز واللمز في حل المشكلات ، لأن هناك ما هو أهم ، فأمام المسلمين آفاق واسعة للحوار والأخذ المسلمين محاصرون في كل بلادٍ يرفعون فيها راية القتال والجهاد والعطاء ، والاتفاق على القضايا المختلف فيها ، ويكفي أن  وأن عدوهم أقوى منهم وأكثر عدداً وعدة ، وأنه مدعومٌ من الدول القوية ، مما يدعو المسلمين أن يتناسوا كل ما يمكن تناسيه من الخلافات ، وعلى أقل تقدير -إن لم يكن بينهم تناصرٌ وتعاملٌ- فلا أقل من أن يكون بينهم تنسيقٌ يحقن الدماء   وأن توجه أفواه البنادق والمدافع إلى صدور الأعداء.  ولهذا جاء التحذير من التهاون بدماء المسلمين في قوله تعالى : ] وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً [ النساء:93.  هذا وعيدٌ شديد يدل على أن دم المسلم غالي عند الله عز وجل ، وإنها لكارثة كبرى أن يتهاون الناس فيه ، ونحن نعلم أن دماء المسلمين استحلت في أماكن كثيرة ، وفي بلادٍ كثيرة ، وعبر قرون من التاريخ . استحلت عن طريق التأويل ، أي أن الذي يقتل  يعتقد أنه بذلك يخدم الإسلام  وأنه يزيل عقبة من طريق الدعوة إلى الله ، ومن طريق انتصار المسلمين وتغلبهم على عدوهم ، مع أنه ينبغي للإنسان أن يضبط نفسه برادع الخوف والوجل من الله عز وجل ، وأن يتذكر يوم يقف بين يدي الله تعالى موقفاً صعباً ، فيسأل فيه عن دم أُريق بغير حق ، فلا يكون عنده جواب.

 ومن الناس من يُعِّظم شخصاً حتى يعتبره مجدد القرن، وحجة الزمان ، وفريد العصر ، وحجة الله على عباده ، وأنه الذي لا يأتي الزمان بمثله أبداً ، ويبدأ يضفي على هذا ما لا يحق له أن يقوله فيه ، وقد يأتي إنسان آخر لنفس الشخص ، فيضع من قدره ، حتى تشك هل بقي أصل التوحيد عنده ؟ وهل هو من أهل القبلة والملة؟! لشدّة الإفراط في ذمه والقدح فيه وتقبيحه والوقيعة فيه . فلماذا لا يكون عندنا أنصاف حلول ، ولماذا لا نقول : فلان رجل فاضل ، وفيه خير وصلاح ، واستقامة   وهو مجتهد ، ولكن أخطأ في ما اجتهد وما حالفه الصواب  ولماذا نرفع الشخص فوق قدره ، أو أن ننـزله دون قدره ومنـزلته .  فتجد أن كثيراً من الناس إما أن يغلو أو يُفرط  ويضع من صفات المدح ما لا يليق ، أو يُفرط ويسرف ، فيضع من النقائص والعيوب ما لا يليق أيضاً ، وما علموا أن كلمة واحدة يقولها الإنسان لو مزجت بماء البحر لمزجته ، يهوي بها في النار سبعين خريفا ، وهو لا يلقي لها بالا ، من سخط الله تعالى عليه ، ومن هنا كان من أصناف عباد الرحمن ] وإذا مروا باللغو مرّوا كراما  [ الفرقان 72 . وإن من أخص أوصاف المؤمنين المفلحين ]والذين هم عن اللغو معرضون [ المؤمنون 3 . وإن كلمة من كلمات الخير تملأ صحائف حسنات الإنسان   وكلمة في مقابلها تسوّد صفحاته بالسيئات والعياذ بالله ، قال الإمام الغزالي " إنك تستطيع أن تبني بكلمة قصراَ في الجنة  ومن ضيع قصراِ أو كنـزاَ من الكنوز ليأخذ مكانه حصاة ، فقد خسر خسراناَ مبينا " .

إن المؤمنين الفالحين لا يقيمون معارك جانبية تافهة ، من أجل أمورٍ لا تسمن ولا تغني من جوع ، لأنهم مشغولون بآخرتهم  ومشغولون بهموم أمتهم ومآسيها ( ومن لا يهتم بأمر المسلمين فليس منهم ) رواه الطبراني . فما أحوج المسلمين إلى النظرة المعتدلة  التي يأمر الله تعالى بها! فالله عز وجل يأمر بالعدل والإحسان   قال تعالى] : وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا [المائدة:8   فهذه هي السنة الشرعية الواجبة ، أن تعدل في حق الشخص  أو القريب والبعيد ، وتحرص قدر المستطاع ، ألا تأخذك العزة بالإثم ، وألا تحب فتسرف في المدح ، أو تبغض فتسرف في القبح والذم ، بل أن تكون وسطاً معتدلاً قال تعالى:  ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ [ النساء:135. فلم لا تجعل قلبك متألهاً للحق  تعشق الحق حيثما كان ، ولا تتعصب لغيره ، فأحب الناس إليك لا مانع أن تقول: فيه عيب وهو كذلك ، وأبغض الناس إليك لا مانع أن تقول: عنده حسنة وهو كذلك . ولكننا للأسف نرى من الناس أناساَ إذا أقبلوا على شيء أقبلوا عليه بكليتهم ، وإذا أعرضوا عنه أعرضوا عنه بكليتهم ، فتعاملهم مع الأشياء نستطيع أن نصفه بأنه تعامل عاطفي ، ليس تعاملاً بالشرع وبالعقل ، وبالحكمة ، بل هو تعامل بالعاطفة ، وحتى من الناحية العاطفية هو تعامل غير سليم ، فتجد الواحد منهم الذي يبالغ في الحب ، غالباً ما ينقلب الأمر إلى أن يبالغ في البغض ، وفي حديث علي رضي الله عنه، الذي جاء مرفوعاً وموقوفاً  عند الترمذي أنه رضي الله عنه كان يقول: ( أحبب حبيبك هوناً ما ، عسى أن يكون بغيضك يوماً ما ، وأبغض بغيضك هوناً ما، عسى أن يكون حبيبك يوماً ما ) وهذه حكمة فالحب إذا كان باعتدال   وبدون إسراف ، فإنه يستمر ويدوم ويثمر   لكن إذا كان حباً جارفاً مسرفاً فإنه يتحول إلى بغضاء ، وهذا معروف فإنك تجد العاطفة -كما يقال- متقلبة   فإذا كان الإنسان ممن إذا أحب أسرف ، تجد أنه ممن إذا أبغض أسرف  وتجد أن هذا الحب قد يتحول في كثير من الأحيان إلى بغضاء.

ومن الناس من يتنصل من المسئولية بإلقاء التبعة على الآخرين  فتجده لا شعورياً ، عندما يرى منكراً في الشارع ، ما يخاطب نفسه ويقول : كيف أزيل هذا المنكر؟ مجرد أن يرى المنكر ينطلق بصورة عفوية ويقول: أين فلان ؟ أين جهاز الهيئات ؟ أين المشايخ ؟ أين العلماء والدعاة ؟ وينسي دوره ؟ وهل الإسلام نـزل لغيره !! أليس هو واحد من المسلمين ، أما كان عليه أن يشعر أنه مسئول مثلما غيره مسئول ، وبدلاً من أن يقول : أين فلان وعلان؟ وما دور الجهة الفلانية ؟ وما دور العالم الفلاني؟ ينبغي أن يوجه السؤال إلى نفسه: ما دوري أنا ؟ وماذا فعلت أنا ؟ لا بد أن يكون تفكيره تفكيراً علمياً عملياً  تفكيراً إيجابياً ، وليس سلبياً همه التنصل من المسئولية ، ويلقي بالتبعة على غيره .

إن الدين ليس لفئة معينة ، إنه للجميع ، وإن القرآن نـزل للجميع ، وخاطب الناس كلهم فقال تعال : ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [ البقرة:104 وقال:  ] يَا أَيُّهَا النَّاسُ [ البقرة:21.  فأنت من الناس وأنت -إن شاء الله- من الذين آمنوا ، ويجب أن تقوم بدورك ، لأن التهرب من القيام ببعض الأعمال ، هو من صور التنصل والتهرب من المسئولية  وعندما نتكلم عن هذا الخلل في التفكير الذي نجده في كل فرد ، سواءً كان فرداً ذا مسئولية خاصة ، علمية أو رسمية ، أو مسئولية دعوية ، وقد تجد الأخطاء نفسها موجودة حتى قي البيت ، فنحن نتربى على هذه الأخطاء ، ونتعامل معها بصورة عفوية ،  فهذه العفوية والبساطة  ، وأخذ الأمور -كما يقال- بالبركة ، والتي كثيرا ما يصاب بها المسلمون ، فيكون نتيجة لذلك أخطاء في مواقفهم وفي تصرفاتهم ، وفي أعمالهم ، أياً كانت هذه الأعمال   بسبب عدم قدرتهم على إدراك حساسية المواقف ودراستها بشكلٍ جيد ، فمثلاَ الساحة الإسلامية اليوم تكاد أن تخلو من الإمكانيات العلمية والعملية والدعوية ، والمسلمون بحاجة إلى هذه الإمكانيات ؛ حتى يصلوا إلى المستوى الذي يكونون جديرين فيه بنصر الله عز وجل لهم ، وبحاجة إلى وقت وإلى جهود جبارة في كافة المجالات ، وبحاجة إلى التربية الإيمانية الصادقة ، وإلى تصحيح العقيدة وتصفيتها وترسيخها في النفوس   وبحاجة إلى بناء العقليات الناضجة المتعقلة ، البعيدة عن الاندفاع والهيجان والتقلب ، وإلى الاندفاع في كل مجال للبناء والإصلاح والتعمير ، وإلى كل مجال من مجالات الحياة المحتاجة إلى أعداد كبيرة تجند لخدمة الإسلام والمسلمين . وبحاجة إلى الدعوة إلى الالتزام بالكتاب والسنة ، وتصحيح المفاهيم بحيث يكون  الإطار العام ، الذي ينطلق منه المسلمون إلى كل مكان   والأمة بحاجة وهي تمد يدها إلى ربها لينصرها أن تقيم أحكامه  لبلوغ الأمل الذي نصِحُّ به من علة ، ونكثُر به من قلة ، ونعتز به من ذلة ، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم لعملية التجديد هذه في المفاهيم والعودة بالناس إلى الفهم السليم للإسلام كلما اعتراه الفهم الخاطيء أو القاصر بقوله : ( إنّ الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها أمر دينها)  .

 

 

 

الطـريق إلى القلوب

 إلى كل من يحبُ أن تشيع الألفة والمحبة ، والخير والبر والمعروف والإحسان بين المسلمين ، وإلى من يسعى إلى تعميق روابط الأخوة الإسلامية ومعانيها ، وإلى تحقيق ما نص عليه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) متفق عليه . إلى هؤلاء اخترت هذا الموضوع لأننا بحاجة إلى التعامل المهذب والاحترام المتبادل ، بحاجة إلى أن نظهر محاسن  عقيدتنا لنصبح قدوات لبعضنا، ومفاتيح خير لغيرنا ، بحاجة إلى أن نكسب قلوب بعضنا بصدق التوحيد وحسن المعاملة وجميل الأخلاق ، لنذوق طعم الإيمان ، ولنعرف حقيقة الإسلام  بحاجة إلى أن نكسب القلوب ليس بالمجاملة ولا بالمداهنة ولا بتمييع ديننا ولا بتمزيقه ولا بالتنازل عن المبادئ والأهداف ، وإنما بمكارم الأخلاق ، بحاجة إلى كسب القلوب لا من أجل الدنيا ومتاعها ، ولا من أجل أنفسنا وإظهار محاسنها وتواضعها ، ولا من أجل تملق الناس وطلب محامدهم وثنائهم ، إنما من أجل ربنا تعبدا وتقربا إلى الله واتباعا لحبيبنا وقدوتنا صلى الله عليه وسلم فقد كان أحسن الناس خلقا  ولكسب حب وقرب نبينا يوم القيامة كما قال صلى الله عليه وسلم : (إن من أحبكم إلى وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة   أحاسنكم أخلاقا) حسنّه الترمذي ، وتطبيقا لتعاليم شرعنا وآداب ديننا قولا وعملا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وخالق الناس بخلق حسن) ، وشوقا للجنان وتثقيلا للميزان يوم أن نلقى الله كما أخبر صلى الله عليه وسلم : ( فأكثر ما يُدْخل الناس الجنة تقوى الله وحسن الخلق ) صححه الترمذي وقال غريب. وتخلقا وتأدبا وإيمانا ، فأكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا ، ونحن بحاجة إلى تطبيع نفوسنا على محاسن الأخلاق ، إخلاصا لوجه الله وطلبا لرضاه ، فهي عبادة عظيمة ، وإن العبد ليبلغ بحسن خلقه أعظم الدرجات عند الله . وهنا لا بد من التنبيه إلى أن الأخلاق ليست من مقومات المجتمع بل هي من مقومات الأفراد   لذلك لا بد أن يراعى في تقويم الفرد ، وجود العقيدة والعبادات والمعاملات والأخلاق ، بل إن الأمر الأساسي في الأخلاق ، أن تكون مبنية على العقيدة الإسلامية ، وأن يتصف المؤمن بها على أنها أوامر ونواه من الله تعالى . ولذلك لا قيمة لمن أخلاقه حسنة وعقيدته غير إسلامية ، أو من كانت أخلاقه حسنة ولكنه غير قائم بالعبادات .

وقد اخترت هذا الموضوع لكثرة شكاية الناس بعضهم من بعض . وليكون رسالة إلى كل مسلم ومسلمة ، وإلى من يحب أن يرى الألفة والمحبة بصحبة الصالحين ، وإلى من يتمثل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء) الترمذي وهو صحيح  ويردد قوله صلى الله عليه وسلم : ( اللهم أهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت وأصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت) صحيح مسلم.

فهذا أحسن الناس خلقا والذي أثنى الله عليه بقوله: )وإنك لعلى خلقٍ عظيم (    كان يدعو الله ويتضرع إليه أن يعينه على تهذيب نفسه ويتحلي بأحسن الأخلاق   لأهميتها وصلتها الوثيقة بالإيمان والعقيدة .

 وقد جاء في النصوص ما يدل على حرص هذا الدين على نشر المحبة والمودة . ومن يتتبع سيرة النبي صلى الله عليه وسلم يجد أنه كان يلازم الخلق الحسن في سائر أحواله   وخاصة في دعوته إلى الله تعالى، فأقبل الناس عليه ودخلوا في دين الله أفواجا ولقد أحسن القاثل  

 كلُ الأمور تزول عنك وتنقضي     إلا الثنـاءُ فإنـه لك باقـي

ولو أنني خـيرتُ كلَ فضيلةٍ        ما اخترت غير محاسن الأخلاقِ

أوصى رجلاً بنيه فقال : " يا بني عاشروا الناس معاشرة إن عشتم حنوا إليكم  وإن متم بكوا عليكم " . ويا أخي إنما الدنيا حديث فإن استطعت أن تكون منها حديثا حسنا فأفعل، لإننا بحاجة إلى من يجسدون مبادئ الإسلام في سلوكهم  ويترجمون فضائله وآدابه في حركاتهم وسكناتهم ، وكم نخطئ عندما نحكم على الآخرين بمجرد النظر للظاهر ، وإننا نظلم أنفسنا ونظلم الآخرين عندما نحقد عليهم ونتخوف منهم ، ألم نقرأ قول الله تعالى : ) وقولوا للناس حسنا (. وقوله صلى الله عليه وسلم : ( خير الناس أنفعهم للناس ) . وإن فضائل ومكارم الأخلاق كثيرة ، يمكن أن تملك بها القلوب ، كالابتسامة وهي أسرع سهم تملك به القلوب وهي مع ذلك عبادة وصدقة: ( فتبسمك في وجه أخيك صدقة ) كما في الترمذي. والبدء بالسلام فإنه سهم يصيب سويداء القلب ليقع فريسة بين يديك ، وهو أجر وغنيمة فخيرهم الذي يبدأ بالسلام   والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق) . وعند مالك بالموطئ أنه صلى الله عليه وسلم قال: (تصافحوا يذهب الغل ، وتهادوا تحابوا وتذهب الشحناء) . وبذل المعروف وقضاء الحوائج له تأثير عجيب في استمالة القلوب صوره القائل :

أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم     فطالما أستعبد الإنسانَ إحسانُ

وبه تملك محبة الله عز وجل كما قال صلى الله عليه وسلم : ( أحبُ الناس إلى الله أنفعهم للناس) كما أن إحسان الظن بالآخرين والاعتذار لهم ، من أيسر الطرق وأفضلها للوصول إلى القلوب ، وإياك وسوء الظن بهم ، لأنه من لوازم الحقد الذي أهاب الإسلام بالناس أن يبتعدوا عنه ، وقد اعتبر الإسلام إعلان المحبة والاعتذار من علامات الإيمان ، ومن أعظم الطرق للتأثير على القلوب ، وهو ما أكده صلى الله عليه وسلم : (لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا ، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم ؟ أفشوا السلام بينكم) رواه مسلم . وقال ابن المبارك:" المؤمن يطلب معاذير إخوانه والمنافق يطلب عثراتهم  ".

 وهنا أتسائل هل الاستقامة مظهر فقط؟ أم هي حسن تعامل مع فئة من الناس فقط؟ أم أنها سلوك وحسن تعامل مع الناس في كل شيء وفي جميع الأحوال قال صلى الله عليه وسلم : ( أعظم ما يُدْخِل الناس الجنة تقوى الناس وحسن الخلق) أخرجه الترمذي وابن ماجة. قال ابن القيم في الفوائد : (جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين تقوى الله وحسن الخلق في هذا الحديث لأن تقوى الله يُصلح ما بين العبد وبين ربه وحسن الخلق يُصلح ما بينه وبين خلقه ، فتقوى الله توجب له محبة الله ، وحسن الخلق يدعو الناس إلى محبته) .

فلماذا ننظر بعين واحدة ونقع على الجروح فقط ؟ ولربما شكا منك الناس  فأنت تشكو وفي الوقت نفسه تُشكى. وما أجمل أن يعذر بعضنا بعضا ، وأن نعفوا عن الزلات ونستر السيئات ونشهر الحسنات ، فإن التناصح  والتغافر يطفئ نار الفرقة والاختلاف ، وعامل الناس جميعا على أنهم بشر يصيبون ويخطئون ، فغُض الطرف وتغافل وأصبر .

    فليس الغبي بسيد في قومه    لكن سيد قومه المتغابي

  إن العقل والحكمة والمعرفة بطبائع الأمور تقتضي تقبل الميسور من أخلاق الناس، والرضا بالظاهر من أحوالهم ، وعدم التقصي على سرائرهم ، أو تتبع دخائلهم ، كما تقتضي قبول أعذارهم   والغض عن هفواتهم ، وحملهم على السلامة وحسن النية . وإذا وقعت هفوة أو حصلت زلة فليس من الأدب وليس من الخلق الحسن ، المسارعة إلى هتكها ، والتعجل في كشفها ، فضلا عن التحدث بها وإفشائها . لقد قيل : اجتهدوا في ستر العصاة فإن ظهور معاصيهم عيب في أهل الإسلام . فكيف يسمح المسلم لنفسه أن يتشاغل بالبحث عن العيوب ورجم الناس بها ؟ بل لعله قد يخفي ما يعلم من صالح القول والعمل .

وهل وظيفة المسلم أن يلوك أخطاء الناس ويتتبع عثراتهم  ويتعامى عن  حسناتهم   وكأنه لا يعرف ولا يرى إلا كفة السيئات ؟ أليس في عيوبه ما يشغله  عن عيوب الناس ؟ ألا يعلم المسلم أن الافتراء على الأبرياء جريمة ، يدفع إليها الكره الشديد ، ولما لها من أثرٍ شديدٍ في تشويه الحقائق ، عدها الإسلام من أقبح الزور   روت عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه ( أتدرون أربى الربا عند الله ؟ قالوا الله ورسوله أعلم ، قال فإن أربى الربا عند الله استحلال عرض أمريء مسلم ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم) والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبينا ( أبو يعلى .

ولا شك أن تلمس العيوب للناس وإلصاقها بهم عن تعمد يدل على خبث ودناءة وقد وتب الإسلام عقوباتٍ عاجلة لبعض جرائم الافتراء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من ذكر امرأ بشيء ليس فيه ليعيبه به حبسه الله في نار جهنم حتى يأتى بنفاد ما قال فيه) وما دام الذي قاله بهتاناً ، فكيف يستطيع أن يثبت عند الله باطلا ؟ وكيف يتنصل من تبعته ، إن الذي لا يجد بالناس شرّاً فينتحله لهم انتحالا ويزور عليهم تزويرا إنه لأفاّك صفيق قال تعالى : ) إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذابٌ أليمٌ في الدنيا والآخرة ( النور 19 .     

  إنه لا يمكننا التأثير على نفوس الناس أبدا وكسب قلوبهم إلا بتلمس الخير فيهم والحرص على مكارم الأخلاق معهم يقول صلى الله عليه وسلم : ( إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم ، ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخُلق ) أخرجه البزار بسند حسن . وانظر للناس فما كرهته فيهم من أخلاق فأبتعد عنه ، فإنهم يكرهون منك ما تكرهه منهم ، لأن المسلم الناصح شفوق بإخوانه ، رفيق بهم ، يحب لهم الخير كما يحبه لنفسه ، ويجتهد لهم في النصح كما يجتهد لنفسه . أما الفظ القاسي صاحب القلب الغليظ ، فقد قضت سنة الله أن ينفر الناس منه فلا تقبل منه دعوة، ولا يسمع منه توجيه، ولا يرتاح له جليس ) فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم ( آل عمران 159. وعلى قدر ما يمسك الإنسان نفسه، ويكظم غيظه، ويملك لسانه تعظم منـزلته عند الله وعند الناس.

وعلى قدر ما يتجاوز عن الهفوات، ويقيل من العثرات.. تدوم مودته ويأنس الناس به. ( إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم ولكن تسعوهم بأخلاقكم ). يسعهم منكم بسط المحيا وطلاقة الوجه.

 

 

 

                    عداء الكفار لدين الله        

قال تعالى : ] ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا [ البقرة 217. إن عداوة الكفار للمؤمنين قائمة إلى أن تقوم الساعة ، وصراع الحق والباطل باق إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها  لأنهم لا يريدون للإسلام أن يحكم المؤمنين بالعدل ويعطي كل ذي حق حقه ، فاجتهدوا في محاربة الدين ورد الحق بالباطل   وما علموا أن الدين باق والله متم نوره ولو كره الكافرون   قال تعالى : ] يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولوكره الكافرون ، هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون [ الصف 7-9 . إنهم يريدون أن تقف أمم الأرض في الكفر صفاً واحداً :] ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء [ النساء 89 .  وقد أخبر الله عن شدة عداوتهم للمسلمين بقوله :] ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم [ البقرة 105 . وهم وإن نطقت ألسنتهم بالموادعة ، فإن قلوبهم تأبى إلا الغدر والكيد للإسلام وأهله :]  كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلاً ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون [ التوبة 8 .

وقد بين الله بالنص الصريح أن طاعة الكفار مهما كانت فهي سببٌ للهلاك والخسارة وأن طاعته سبحانه هي سبيل العز والنصر والتمكين كما قال سبحانه : ] يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين بل الله مولاكم وهو خير الناصرين [ آل عمران 149. ولا يجوز الاعتماد عليهم ، أو الركون إليهم لأنهم أعداء للمسلمين  كما قال سبحانه : ] ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون [ هود 113 .  وقد حذرنا الله من اتخاذهم أولياء من دون المؤمنين ، فإن خاف المسلمون شرهم جاز اتقاء شرهم بالظاهر ، مع بغضهم بالباطن كما قال سبحانه : ] لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير [ آل عمران 28 .

لقد حذرنا منهم لأنهم  وراء كل عمليات العدوان على هذه الأمة ؟ بل لقد أصبح الغرب الكافر يرصد واقع المسلمين بشكل دؤوب ويعد الدراسات والأبحاث لمواجهة ما يسمى بالتطرف ، وما يفعل ذلك إلا لغرض خبيث ، هو محاربة الإسلام وحملة دعوته للحيلولة دون عودته إلى واقع الحياة .

وإن الناظر في منطقة العالم الإسلامي اليوم يراها تعيش واقعا غير عادي من السوء ، ويرى أهلها يعيشون في سجن كبير ، وتحت وطأة محاربةٍ شرسة للإسلام كنظام للحياة والدولة والمجتمع   ومحاربة الدعاة الذين يعملون لإيصاله إلى موقع الحكم والتطبيق ، مما اثر على إرادة الناس   وعلى مقدرتهم على الحركة ، وعلى التعبير عن آرائهم وأفكارهم . وقد أعلنوا العداء الصريح للإسلام كنظام للحياة ، واخذوا يحاربونه ويحاربون حملته والعاملين لإعادته إلى الحياة .

وقد اشتدت محاربتهم هذه  بعد أن برز الإسلام على الساحة كعامل سياسي يتطلع إليه المسلمون ليتخلصوا به من واقعهم السيئ ، فوصموه بأنه دين إرهاب وقتل ، ووصموا حملته بأنهم قتلة وإرهابيون ومتطرفون ، ليثيروا عداء الشعوب له ولحملته ، بل تعدى الأمر إلى محاربة مجرد اسم الإسلام ، ومجرد اسم المسلمين ، لأنهم يؤمنون بالعمل بالإسلام والتمسك بأحكامه ،  فكانت ألفاظ التطرف والمتطرفين والإرهاب والإرهابيين، والاعتدال والمعتدلين ، التي شهروها في وجوه المسلمين العاملين بالإسلام وللإسلام  وقد صرفوا هذه الألفاظ عن دلالتها والمعاني التي وضعت لها ، عن خبث وسوء نية ، فجعلوا من ينكر على الطواغيت ظلمهم وحكمهم متطرفا ، مع أن الرسول اعتبره مجاهدا روى أبو امامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله : ( أعظم الجهاد كلمة حق تقال في وجه سلطان جائر) وفي رواية لعبد الله بن مسعود : ( لتأخذن على يد الظالم ، ولتأطرنه على الحق أطرا ) وتمام الرواية عن حذيفة ( أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه فتدعونه فلا يستجاب لكم ) . ومن جهة أخرى فإن التطرف ليس له دلالة شرعية ، لان هذه اللفظة لم ترد في النصوص الشرعية ، ولم يستعملها فقهاء الإسلام ، وقد اعتبر الفقهاء من يزيد في عدد ركعات الفرائض  أو يطوف طواف العمرة عشر أشواط ، أو يوجب على نفسه لبس الخشن من اللباس تقربا إلى الله  او يحرم العمل السياسي ويقصر الإسلام على العقائد والعبادات والأخلاق وبعض المعاملات أو يمتنع عن الزواج لأنه يلهي عن العبادة وقيام الليل   كل هؤلاء يعتبرون متطرفين ومتنطعين لأنهم جاوزوا حدود الأحكام الشرعية .

والذي يلتزم أحكام الله تعالى ويبتعد عن نواهيه ويجاهد الكفار ولا يشرع الأحكام من دون الله تعالى ، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر  ويقول الحق أينما كان ولمن كان ، إن من يفعل كل ذلك لا يكون متطرفا أو متزمتا ، وإنما هو معتدل وملتزم بأحكام الله تعالى ، لأن المسلمين ملزمين بالتقيد بأحكام الإسلام ، والإتيان بها كاملة وفق ما شرعه الله لعباده ، دون زيادة فيها أو نقصان ، والوقوف عند حدود الله فيها وعدم تجاوزها ، حتى لو ناقضت مصالحهم وأهواءهم وعاداتهم ، وقوانينهم ودساتيرهم ، فدين الله أحق أن يتبع ، وحدود الله يجب أن تصان ، وأحكام الإسلام يجب أن يدعى لها ، وكل من يقوم بذلك فهو ملتزم ومتمسك ومعتدل ، أما من يخالف هذا فهو المتطرف والمخالف والآثم  : ﴿ تلك حدود الله فلا تعتدوها ، ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون ﴾. والحدود التي أمر الله بالتزامها ونهى عن التعدي عليها ومجاوزتها ، هي أحكام شرعية بينتها الشريعة الإسلامية ، وهي خطاب الشارع المتعلق بأفعال العباد جاءت في القرآن والحديث   وكان فيها الكثير مما يحتمل عدة معان حسب اللغة العربية وحسب الشرع ، لذلك كان طبيعيا وحتميا أن يختلف الناس في فهمها ، وأن يصل هذا الاختلاف في الفهم إلى حد التباين والتغاير في المعنى المراد ، لذلك قد يكون هناك في المسألة الواحدة آراء مختلفة ومتباينة . ولكن العبرة في أخذ الأحكام الشرعية هو صحة استنباطها من الأدلة التفصيلية ، ويكون حينئذ الالتزام بهذه الأحكام اعتدالا واستقامة ، ويكون عدم الالتزام بها تطرفا وتجاوزا لحدود الدين . هذا هو ديننا وهذا هو فهمنا له ، وما عدا ذلك خروج عليه .

 

 

 

طريق الإصلاح

قال تعالى : )  أفمن يمشي مكباً على وجهه أهدى أمن يمشي سوياً على صراط مستقيم ( الملك2    .      

 تصور لنا الآية القرآنية حال الشقي التائه في الضلال الغارق في الكفر ، وقد انتكس قلبه ، فصار الحق عنده باطلا ، والباطل حقا ، الضال عن طريق الله ، المحروم من هداه من أصحاب العقليات الفاسدة ، والنفسيات المريضة  التي لها أهداف التدمير والتخريب والإفساد وغايات الاستعلاء والاستكبار ، والاحتكار وحب السيادة والسلطان ، بخلاف من كان عالماً بالحق ، مؤثراً له ، عاملاً به ، يمشي على الصراط المستقيم ، في أقواله وأعماله وجميع أحواله ، من أصحاب النفسيات الطيبة التي تسلك طريق الإيمان والحمد ، وتسعى وراء تحصيل رضوان الله ، وتعمل من أجل الإصلاح والبناء والتعمير ، والتخلص من العبودية   وبسبب هذا الاختلاف في الطبائع ينشأ الاختلاف على المصالح مما يؤدي إلى المشاحنات والصراع ، الذي يصل أحياناً إلى سفك الدماء  

وما نريده ليس التأكيد على وجود هذا الصراع إنما النظر لبعض المواقف داخل حلبة هذا الصراع ، مثل المروءة والرجولة والشجاعة والجرأة أو عكس ذلك ، مثل الجبن والخوف والتخاذل ، ثم ما هي حقيقة وزن الرجال ؟ حتى نعرف مواقفهم في هذا الواقع المرّ  الذي يحتاج إلى علاج و إصلاح ، ولهذا اتجه الإسلام في جميع محاولاته الإصلاحية إلى النفس ، مستهدفاً تقويمها وتهذيبها ، وإن قول الله تعالى : ) قد أفلح من زكاها (  مصدراً هاماً من مصادر العطاء في هذا المجال ، لأن الآية تشير إلى من طهر نفسه من الذنوب ، ونقاها من العيوب ، ورقّاها بطاعة الله   وعلاّها بالعلم النافع والعمل الصالح ، ولذلك خاطب الله فرعون فقال : ) هل لك إلى أن تزكى ( هل لك في خصلة حميدة ، ومحمدة جميلة ، يتنافس فيها أولو الألباب بأن تزكي نفسك وتطهرها من دنس الكفر والطغيان إلى الإيمان والعمل الصالح ، فبصلاح النفس يصلح الإنسان  وللنفس مسميات جاء ذكرها في النصوص ، فتسمى أحيانا النفس  وأحيانا القلب ، وهي جوهر الإنسان قال صلى الله عليه وسلم ( ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب ) .

وقد تعهد النبي صلى الله عليه وسلم بناء نفوس أصحابه لحمل الرسالة الخالدة ، لتبليغها ، ولأنه صلى الله عليه وسلم يعلم جيدا أن فاقد الشيء لا يعطيه ، فقد أخذ في بناء هذه النفوس ، وإصلاحها  وتزكيتها ، وترسيخ أصول العقيدة وقواعد الفضيلة ومكارم الأخلاق فيها ، حتى إذا ما بنيت الدولة ، انطلقت هذه النفوس المطمئنة ، التي امتلأت بخشية الله ، والتي انتصرت على أهوائها ، في عمارة الكون ، وإصلاح الدنيا   وقيادة أهلها وشئونها ، إلى كل خير وفضيلة ونجاح لقد واجهوا ظلم الجاهلية وطغيانها ، وقسوة الحياة وشظفها  بعزائم من حديد ، وأعلنوا الجهاد على المادية وأدواتها وأنصارها ، ورفعوا راية الإسلام ، ونشروا هدي هذا الدين في أغلب أنحاء العالم ، وجعلوا كلمة الذين كفروا السفلي وكلمة الله هي العليا ، وقد تعهدوا أنفسهم بالإصلاح الدائم ، والرعاية المتتابعة على نفس المنهج الذي رباهم عليه محمد صلى الله عليه وسلم  وترك لهم أصوله ، فكانوا صالحين في أنفسهم ، كما كانوا قدوة صالحة لتابعيهم ، ولمن جاء بعدهم ، بل لكل من اهتدى بكتاب الله تعالى ، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وسيرة صحابته رضوان الله عليهم ، أما اليوم فقد صار هذا الإصلاح لهذه الأمة غاية عزيزة المنال ، غالية الثمن  تحتاج إلى صدق العزم ، وشد الرحال ، وبذل الجهود .

بل صار أمام هذا الإصلاح عقبات وعقبات . يصور لنا الإمام الغزالي بعضاً منها حيث يقول : خلق الله الخلق على أقسام ثلاثة .. قسم ركب فيه العقل فقط ، وهم الملائكة    فهم : ) لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ( التحريم . وقسم ثان : ركب فيه الشهوة فقط ، وهم الحيوانات ، وقسم ثالث : ركب فيه العقل والشهوة معا وهو الإنسان ، ولذا فهو يعيش في صراع بين ما يمليه عليه عقله ، وما تجره إليه شهواته ، فمن غلب عقله على شهواته .. فهو إلى الملائكة أقرب . ومن غلبت شهواته على عقله .. فهو إلى الحيوانات أقرب .

ولهذا : فالإنسان في صراع دائم بين النفس الأمارة بالسوء   وإصلاح حالها ، بين الخطأ والنقصان المركب في طبيعته والصواب الذي يحبه ، والكمال الذي ينشده ، بين ما يمليه عليه عقله ، وما تجره إليه شهواته  .

 إن هذا التردي الذي تعانيه الأمة اليوم راجع إلى التقصير في إصلاح النفس وتعهدها بالرعاية والتزكية ، فتبعت هواها ، وضلت السبيل ، وفقدت صلاح حالها   ومقومات نجاحها ، وضاعت منها مؤهلات الخيرية  وعوملت من الأعداء بلا اكتراث ، وتعرضت حقوقها للافتراس ، إلى غير ذلك من ألوان الخسف والانتقاص.  ولعلاج النفس وتعهدها بالرعاية ، كان الربيع بن خثيم   قد حفر قبرا لنفسه بداره ، وكان يدخله كلما شغلته الدنيا   ويجلس فيه فترة ، حتى إذا ما خشع قلبه ، ورق فؤاده  خرج ، ثم يقول لنفسه يا ربيع ..! لقد خرجت هذه المرة   فاحذر مرة لا تخرج بعدها أبدا ، وإذا كان ذلك عهده مع نفسه ومشارطته إياها إجمالا : فعليه أن يزيد في العهد معها تفصيلا ، بأن يعاهد العين والأذن واللسان والبطن والفرج واليد والرجل ، فهي التي  تقود النفس إلى الخير أو إلى الشر ، إذ هي رعايا خادمة لها  وبها يتم أعمالها وتحقيق مأربها . ثم يستأنف معاهدة نفسه فيما يخص العقيدة وصفاءها ومداخل الشيطان إليها  فيكون على ذكر دائم لله  وتوحيد صادق له سبحانه   في أسمائه وصفاته وأفعاله  يقظا لإبعاد الشيطان ووساوسه وهواجسه ، والانقياد له عن نفسه . وفيما يخص الأخلاق والسلوكيات : يعاهد نفسه على دوام التحلي بفضائل الصفات وكريم العادات ومحاسن الآداب ، والاهتمام بأمور المسلمين جلبا للخير لهم  ودفعا للشر عنهم فيفرح لفرحهم ، ويبذل قصارى جهده في دفع أحزانهم وآلامهم   والانشغال بأمور الدعوة إلى الله  والحرص الدائم على رفع شأن الإسلام وإعلاء كلمته .  ويعاهدها كذلك على التخلي عن مساوئ الصفات ودنيء الفعال ، طاعة لله  وامتثالا لهدي رسوله صلى الله عليه وسلم . وكذلك فيما يخص العبادات والمعاملات .

وهذه المعاهدة مع النفس حقيقة : يحتاج إليها الإنسان  ليحاسب نفسه قبل أن يحاسب ، لأن من طال حسابه لنفسه في الدنيا نجا من أهوال الحساب يوم الحساب  وكلما كثرت محاسبة الإنسان لنفسه : قلت عيوبه  وكثرت ميزاته ، ونجحت خطته في إصلاح نفسه  ولذلك كان عمر رضي الله عنه يقول : " حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوها قبل أن توزنوا ، وتهيؤا للعرض الأكبر )يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية (  

والقرآن الكريم نبه إلى ضرورة هذه المحاسبة للنفس في الدنيا من باب نشدان الكمال ، وإصلاح النفس  وللتدريب على مواجهة مشقات الحساب قبل يوم الحساب ، حيث يقول سبحانه : ) يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد ( .

  فمجاهدة النفس وبذل غاية الاستطاعة في الوصول إلى إصلاح حالها ، تخلصا من العيوب ، واكتسابا للفضائل  وبلوغ أقصى الدرجات في تحقيق ذلك عبر عنه الشاعر بقوله  

يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته       أتطلب الربح مما فيه خسران  

أقبِل على النفس واستكمل فضائلها    فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان

 وهذا أبو الطيب المتنبي يقول :

وإذا كانت النفوس كبارا    تعبت في مرادها الأجسام

ففي النفوس نفوس كبيرة ، ونفوس صغيرة ، نفوس منحطة ونفوس عالية ، نفوس كريمة ونفوس لئيمة ، وهي 

 نفوس أهل الباطل والظلم وهم في استعلاء ظاهرين فوق العباد بظلمهم وجبروتهم ، وتخاذل أهل الاستقامة والصلاح نتيجة الوهن الذي حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : ( الوهن هو حب الدنيا وكراهية الموت ) والخوف والجبن الذي يسيطر عليهم ويأخذ مأخذه فيهم فيتراجعوا عن القيام بالواجب لصالح أصحاب الباطل ، لأن الجبن ما اتصفت به أمة إلا وأفقدها النخوة والرجولة والعزة والكرامة ، وفتح لعدوها سبل الظلم والفساد والعبث بحياة الناس ومصالحهم   فيتلاعبون بها كيفما أرادوا دون معارضة ، بسبب الجبن الذي أفقد الأمة العزة والشهامة وقتل فيها الإحساس بالكرامة ، فوجد الأعداء حظهم فيها ولم نجد من يأخذ على أيدي الظالمين نتيجة الجبن والوهن الذي أمات القلوب   وهو ما حذر الله منه بقوله ) ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون ( هود 113 .

فنحن بحاجة إذن إلى قدر من الحماس نصبه على البرود القاتل الذي ابتلينا به ، في مواجهة القضايا والمصائب التي تحيق بالأمة وتهدد مصيرها ، والأوبئة التي تفتك بها والانحرافات السياسية والاقتصادية التي تهزّ كيانها   والتيارات الثقافية التي غزتها في عقر دارها ، إننا بحاجة إلى صرخات المخلصين لتوقظ النائمين وتحذر الغافلين وترهب المتلاعبين ، نعم نحن بحاجة إلى هؤلاء وأولئك ما دام المعروف ضائعاً والمنكر شائعاً ، وما دام الإسلام يعيش غريباً في أوطانه مضطهداً بين أهله ، وما دامت شريعته معطلة ، وقرآنه مهجوراً ودعاته معزولون عن مواطن التأثير والتوجيه . إننا بحاجة إلى عمل بالإسلام وعمل للإسلام  وذلك بتحمل عبء الدعوة إليه عقيدة وشريعة   ودنيا ودولة ، وحضارة وأمة ، وثقافة وسياسة ، والجهاد في سبيل تمكينه في حياة المسلمين ، حتى يتفق واقع المسلم مع عقيدته ، ويلتقي سلوكه مع ضميره ، وألا نكتفي بالتدين التقليدي : وهو التدين الجزئي الفردي المعزول عن قضايا الأمة الكبرى ، وعن رسالتها في الحياة ومكانتها في  

الوجود ، وإن الذين يقتصرون على ذلك ويحسبون الإيمان والتقوى والاستقامة والصلاح مجرد أداء للشعائر  والإكثار من التسبيح والتهليل والتكبير ، والامتناع عن المحرمات المعروفة من الزنا والسكر ونحو ذلك ، مع تغييب العقل وإهمال العلم وإغفال العمل ، ومجافاة السنن ، وانتظار البركة من السماء ، وقد علموا كما قال عمر بن الخطاب : أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة ، ولو رجعوا إلى ما كان عليه المسلمون الأوائل ، الذين أورثهم الله الأرض ، ومكن لهم فيها وجعلهم أئمة وبدّلهم من بعد خوفهم أمنا ، لعرفوا أنهم لم يحققوا ذلك إلا بالجهد والعلم ، والفكر الدءوب والجهاد الصبور ، هكذا فهموا الإيمان والتقى والاستقامة والصلاح ، فقد وازنوا بين العمل للدنيا والعمل للآخرة ، وجمعوا بين حظ النفس من الحياة   وحق الرب في العبادة  فخدموا الدين بالدنيا ، وأصلحوا الدنيا بالدين) فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة (آل عمران 148 .

إن من السطحية أن نحسب  أننا بمجرد  أن ننادي بالإسلام شعاراً أو نغيِّر بعض المواد القانونية بمواد إسلامية يطلع علينا الصباح وقد حلّت مشكلاتنا ، وشفينا من كل أدوائنا غافلين أن لله في خلقه سننا لا تحابي ، فالله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ، وإن التغيير يحتاج إلى عمل طويل النفس ، وتوجيه متعدد الجوانب متنوع الوسائل ، وإن الإصلاح يحتاج إلى تخطيط مدروس   ورجال يجمعون بين القوة والأمانة ، ويقودون سفينة التغيير إلى بر الأمان  وذلك ليس بالمستحيل إذا صدقت النيات وصحت العزائم   وفي ذلك يكون طريق النجاة والخلاص قال تعالى : ) ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم ( .            

 

      

 

            

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

عوامل هلاك الأمم واندثارها

في كتاب الله بيان للسنن الكونية والقوانين الربانية التي تبين عوامل ولادة الأمم أو الدول ، وسيرها في طريق القوة والنضوج ، وعوامل هلاكها واندثارها بعد القوة وبعد النضوج   وفي كتاب الله من السنن الربانية ما يبين مصير الأمم التي قد خلت من قبل ، وفيه ما يبين مصير الناس والأمم التي ستأتي من بعد ، ولكن قليلون هم الذين يتدبرون كتاب الله ليقفوا منه على هذه السنن وعلى هذه القوانين الربانية التي يأخذ الله عز وجل بها عباده أشخاصاً ودولاً وأمماً ، وجولة في ضمير الزمان وأبعاد التاريخ ، يرينا القرآن طرفاً من سنة الله الجارية التي لا تتخلف ولا تحيد قال تعالى : ) أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة   وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ( الروم 9 .

في الآية دعوة إلى التأمل في مصائر الغابرين الذين مضت فيهم سنة الله ، ولم تنفعهم قوتهم ولم يغن عنهم علمهم ولا حضارتهم  ولقوا ما يستحقون من جزاء . وقد جسد الله لنا سننه هذه في قصة رجل جعل منه وسيلة إيضاح وبيان لذلك ألا وهو : قارون فقد قص الله علينا قصته لنعلم كيف يسوس الأشخاص ويتعامل معهم ، وكيف أن هذا القانون ذاته هو القانون الذي يسوس على أساسه الدول والأمم والجماعات قال تعالى : ) إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ ( لما طلب موسى من قارون زكاة ماله  رفض قارون ودبر له فضيحة ليصرف الناس عنه ، فقد أغرى امرأة بغيا فأعطاها طستاً مليئاً بالذهب على أن تدّعي على موسى وتتهمه  وعندما جاء موسى عليه السلام ليخطب بالناس ويبين لهم الأحكام فقال : من يسرق نقطع يده ، ومن يزني نجلده إن كان غير محصن ، ونرجمه إن كان محصنا ، فقام له قارون وقال : فإن كنت أنت يا موسى ؟ فقال وإن كنت أنا ، وهنا قامت المرأة البغي وقالت : هو راودني عن نفسي ، فقال لها والذي فلق البحر لتقولِن الصدق ، فارتعدت واعترفت بما دبره قارون  فانفضح أمره وبدأت العداوة بينه وبين موسى عليه السلام  وبدأ قارون في البغي والطغيان حتى أخذه الله ، تلك هي هويته : البغي   والبغي : هو أشد أنواع الظلم ، وإذا اجتمع الظلم مع الاستكبار فذلك هو البغي فبغى عليهم ، ومع ذلك يقول الله : ) وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ( . قارون بغى وطغى فلماذا أعطاه الله كل هذه الكنوز ؟ ولماذا مده بمزيد من القوة وبمزيد من العطاء ؟ سؤال يطرحه الإنسان ، والجواب كما هي السنن الإلهية في كتاب الله : ) فذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ   وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ( القلم 44 . هذه الآية هي التي تتضمن الجواب عن هذا السؤال ) فَبَغَى عَلَيْهِمْ (  ثم يقول: ) وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ (  ينبغي أن نقف أمام هذه السنة الربانية ، إن العبد إذا طغى وبغى فإن الشأن في معاملة رب العالمين له أن يمده بالعطاء ، وأن يزيده رفعة   وأن يزيده علواً ، وأن يبسط أمامه الطريق لمزيد من الاستكبار ولمزيد من العتو  وليس من عادة رب العالمين أن يهلك هذا الإنسان الطاغية الباغي إلا بعد أن يصل إلى القمة من تعاليه واستكباره ، هكذا تقول السنن الربانية ، لماذا ؟ ذلك لأن أحداً من الناس ، إذا وقع لايقع على الإنسان الذي يعيش حياة الفقر والمهانة   وحتى يتحقق معنى الوقوع فإن الله يرفعه ثم يرفعه ثم يرفعه حتى إذا وصل إلى القمة عندئذ يدفعه إلى الهاوية ، وصدق الله القائل: ) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ( . من أجل هذا بسط الله لقارون وأمده بمزيد من القوة  وبمزيد من العطاء ، وهذه السنة التي تصدق على قارون تصدق على الجماعات وتصدق على الدول وعلى الأمم أيضاً ، ثم ماذا كان من عاقبة ذلك أرسل الله عز وجل إليه الناصحين ، أرسل إليه المذكرين المنذرين ، قال له قومه : لا تفرح ) إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ، وَابْتَغِ فِي ما آتاكَ اللَّهُ الدّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا ( القصص 76 . لا تنسَ إذ تخرج من هذه الدنيا ما الذي تحمله معك ، اذكر ذلك ) وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ( القصص77 .

فالفساد سبب من أسباب انهيار الأمم ، فإذا تكبرت وطغت وانتشر فيها الفساد عاجلها الله بالعقوبة قال تعالى : ) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (الفجر 6 . ماذا عملوا وما صنعوا ؟ ) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (الفجر 11.  فكانت النتيجة ) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ( الفجر 14. فما هو الفساد والطغيان؟ إنه المصنع الذي يصنع فيه الإرهاب ، فكلما وُجد الفساد أًثمرالإرهاب ، وكلما غاب الفساد لابد أن يغيب الإرهاب الذي يتحدث عنه البغاة والطغاة اليوم قال الله لقارون : ) وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الأَرْضِ ( لم ينهه عن الإرهاب إنما نهاه عن ينبوع الإرهاب ، عن المعمل الذي يُصَنَّع فيه الإرهاب ، وكلمة الفساد : هي الكلمة الربانية الدقيقة المتكررة في كتاب الله ، إنها كلمة تعني : الظلم والطغيان والبغي والاستكبار والاغتصاب ، بل إن كل ما يتعارض ويتناقض مع العدالة فهو جزء لايتجزأ من معنى الفساد ، وإذا استشرى الفساد فانتظروا أن تظهر مظاهر الإرهاب هنا وهناك ، وإذا شعر الناس أنهم ضحايا للفساد والاغتصاب ، وأن حقوقهم بدأت تنتقص أو تستلب ، وأنهم أصبحوا من المستضعفين في الأرض  عندها تتفجر عوامل المقاومة لهذا الفساد ، ومن أجل هذا أرسل الله عز وجل إلى قارون من يقول له : ) وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ( القصص 77. ولم يؤثر هذا النصح في قارون الطاغية ،  وقارون نموذج لطغاة كثيرين مروا في هذه الدنيا ولا يزالون يمرون ) قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي (. لسان حاله لا ينصحني ناصح ولا يذكرني مذكر  إنما نلت هذا الذي نلته بعرق جبينـي وبالعلم  وبالقدرات الحضارية ، وقد جاء هذا البيان الإلهي وكأنه ثوب فصل على قدر واقع الطغاة في كل عصر ، وفي كل زمان ومكان؟ التباهي بالعلم، التباهي بالتقدم التقني . ويأتي الجواب الرباني ليقول له ولأمثاله إلى قيام الساعة :  ) أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً ( القصص 78.  ففي التاريخ الماضي كم وكم من أمم طاغية باغية متعها الله من القوة بما لم يمتع به كثيراً من الناس الذين يعيشون فوق الأرض اليوم   فماذا كانت عاقبة طغيانهم ؟ كانت عاقبة ذلك الهلاك كما قال تعالى : ) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ( هود 102.  

فقد استكبر قارون فكانت العاقبة ) فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (القصص 81 .  فلم لا يعتبر المتجبرون من مصارع الغابرين الذين ذكرهم القرآن الكريم قال تعالى : ) أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات أفلا يسمعون ( إن البشرية تخضع لقوانين ثابتة في نشوئها وضعفها وقوتها ، والقرآن ينبه إلى ثبات هذه القوانين ، ويتخذ من مصارع القرون وآثار الماضين الدارسة الخربة ، يتخذ منها معارض للعبرة والخوف من بطش الله وأخذه للجبارين ، ونظره في عالم اليوم نرى نشوة التحكم الأمريكي وتربعها على صدر عالم اليوم قد بلغ أوجه ، مما يبشر بحتمية انحسار هذا التحكم وزوال سلطانه ، الذي تحول إلى سوط يسوم الشعوب الضعيفة سؤ العذاب والقتل والهوان  وقد بلغ التحدي مداه عندما نصَّبت أمريكا نفسها الحاكم المتفرد بإدارة الكون ، والمتحكم في شؤون الدول والشعوب والأفراد ، إضافةً إلى امتلاكها زمام المبادرة والقرار في شؤون العالم الاقتصادية والمالية ، بعد أن أوجدت المؤسسات الدولية التي استطاعت أن تجعل الدول تقع في فخ المديونية  والعمل على تكريس الظلم والقهر والعدوان . صحيح أن أمريكا تتربع على عرش العالم ، ولكن قواعد هذا العرش قائمة على الجماجم والأشلاء والظلم والقهر ، فاستحقت أن تحمل وسام الكراهية والعار . و في غمرة التبعية المذلة للدول والشعوب لها أصبحت ترى نفسها في موضع السيد المعبود ، إذ لا مجال للاعتراض على القرارات التي تحكم فيها بالإعدام على الشعوب ، فلا تسمح لأن تسأل عما تفعل وهم يسألون ، ونست هذه الإدارة أن الله خص نفسه ولا أحد يعرف ما في نفسه ، إلا أننا نذكر في هذا المقام قوم نوح بالطوفان ، وكذلك فرعون وجنوده بالغرق   وقوم لوط بالزلزال ، وقوم هود بالريح إلى آخر ما ذكره الله في القرآن من ألوان العذاب الذي أنزله بالأمم الكافرة قال تعالى : ) أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلهم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ؟ (.  إنها سنة الله فلا بد من الشدائد ولا بد من الكروب ، حتى لا تبقى بقية من جهد ولا بقية من طاقة ، ثم يجيء النصر بعد اليأس من كل أسبابه الظاهرة ، التي يتعلق بها الناس ، يجيء النصر من عند الله  فينجو الناس من البطش والتعسف الذي يلاقوه من المتجبرين ويحل بأسُ الله بالمجرمين مدمراً ماحقاً ، لا يصده عنهم وليٌ ولا نصير   وإذا كان هذا كائناً بدليل النص القرآني ، فلماذا  تضلل الشعوب ، باتخاذ الأنداد من دون الله ، ولماذا تسلم القيادة لمن يتلقون شرائعهم من أهواء البشر لا من وحي الله ؟ ولماذا هذا الخضوع والخنوع والخوف منهم ومن قوتهم ومكرهم ، الذي سيأخذهم الله به مهما يكن من العنف والتدبير ؟ .

 قال تعالى : ) وقد مكروا مكرهم وعند الله مكْرُهُمْ وإن كان مكْرُهُم لِتَزولَ منه الجبال ( إبراهيم 45 . إن الله محيط بهم وبمكرهم وإن كان مكرهم من القوة والتأثير حتى ليؤدي إلى زوال الجبال ، أثقل شيء وأصلب شيء وأبعد شيء عن تصور التحرك والزوال ، فمكرهم هذا ليس مجهولاً وليس خافياً وليس بعيداً عن متناول القدرة ، فهو حاضر عند الله يفعل به كيف يشاء وصدق الله : ) فلا تحسبن الله مخلف وعدِه رُسُلَه إن الله عزيز ذوانتقام( إبراهيم 46. ومن يشعروا بالفشل والخيبة إذا رأوا قدر الله يبطئ بهم عن الغلب الظاهر والتمكين في الأرض ، ندعوهم لدراسة تاريخ الأمم القوية الغنية ، كيف انتقص الله من قوتها وقدرتها ، فهزمت أمام الحق وأنصاره ، والأمم اليوم ليسوا بأشد مكراً ولا تدبيراً ولا كيدا ممن كان قبلهم ، فأخذهم الله وهو أحكم تدبيراً وأعظم كيداً قال تعالى: ) وقد مكر الذين من قبلهم فلله المكر جميعاً ( الرعد 43.

ما أحوج المسلمين اليوم أن يدركون طبيعة المعركة ، وان يدركوا أن قوى الكفر لا يحاربون المسلمين إلا على العقيدة   مهما تنوعت العلل والأسباب ، وما أحوجهم إلى أن يدركوا أن كل شيء بيد الله ، ينصر من يشاء ولا مقيد لمشيئته   والمشيئة التي تريد النتيجة ، هي ذاتها التي تيسر الأسباب  والعقيدة الإسلامية واضحة في هذه المجال ، فهي ترد الأمر كله إلى الله ، ولكنها لا تعفي البشر من الأخذ بالأسباب التي من شأنها أن تظهر النتائج ، أما تحقيق هذه الأشياء أو عدم تحقيقها فليس داخلاً في التكليف ، لأن مرد ذلك في النهاية إلى تدبير الله . وعندما ترك الأعرابي ناقته طليقة على باب مسجد رسول الله r ودخل يصلي قائلاً : توكلت على الله . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إعقلها وتوكل )أخرجه الترمذي . فالتوكل في العقيدة مقيد بالأخذ بالأسباب ، ورد الأمر بعد ذلك إلى الله الذي ينصر من يشاء  وإن كل مسلم منا يستطيع أن يعرف سبب ما يحل بنا ، إذا ما عرف لمن المقام الأعلى في حياتنا ولمن الطاعة والإتباع والامتثال ؟ فإن كان لغير الله فهم في غير دينه ، وحتى يأتيهم النصر عليهم تفادي ذلك  حتى يأذن الله للأمة الضائعة بمن يرفع راية الجهاد ويعيدها إلى الإيمان ، هذا بلاغ للناس ولينذروا به   وليس لما يفعلونه من أثر ، ولا يمكن بحال من الأحوال أن يعوق بحقيقة وعد الله لعباده المؤمنين بالنصر ، وأخذهم أخذ عزيز مقتدر . لأن الله لا ولن يدع الظالم يفلت ، ولا يدع الماكر ينجو ، ولن يخلف الله وعده ، وسيكون ذلك لا محالة ولو إلى حين ، ولا ندري كيف يتم هذا . ولكن الله أعلمنا بأنه لا  يغيِّر نعمة أو بؤس ، ولا عزاءً أو ذلة إلا أن يغير الناس من مشاعرهم وأعمالهم ، لأن ما يحل بالمسلمين هو نتيجة مترتبة على ما يكون منهم قال تعالى : ) إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم  (الرعد 11.

 

 

 

 

موضوع يشغل أبناء الإسلام وأعداء الإسلام ، ويشغل الخائفين على الإسلام والخائفين من الإسلام،  وبما أن المستقبل غيب فلا يستطيع أحد أن يحكم عليه وعلى ما سيأتي به ، إلا بضروب من التخمين والتكهن وفي أحسن الحالات بضروب من التقدير والترجيح والتقريب ، ومما يساعد على التقدير والتقريب لمجريات المستقبل ومساراته ما نعلمه من سنن الله تعالى التي لا تتبدل ولا تتخلف     { سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا  }  ومن سنن الله أن ما نزرعه اليوم نحصده غدا وما نزرعه غدا نحصده بعد غد ، فكيف نتفاءل اليوم بأن المستقبل للإسلام، وعلى يد من ؟  إن مستقبل الإسلام يتم من خلال الدعاة الذين نذروا أنفسهم خالصةً لله ومن خلال الأيدي المتوضئة ، ومن خلال الجبهات التي تعفرت بطول السجود، ومن خلال القلوب التي اعتصرت بهمّ الإسلام وألمه ، هؤلاء هم الذين يقوم عليهم مستقبل الإسلام . والمسلمون اليوم يعايشون أزمات متلاحقة تضرب في جوانب حياتهم ودولهم بلا استثناء ، ولعل الأزمة التي يعاني منها العالم الإسلامي في حالة مخاض متواصلة يجد متاعبها وآلامها، ويدفع ثمنها، ولكنه لايشهد لها أثراً ولا يبصر لها نهاية .

وفي مثل هذه الحال يغدو التفريط والتساهل في دراسة المستقبل واحتمالاته ، ورسم الخطط المكافئة تفريطاً في الضروريات ، وغفلة عما أوجب الله على العباد من التدبر والنظر والتخطيط، ولعل من أثر ذلك الانشغالات الجزئية بالهموم الخاصة عن هموم الأمة ، ولعل من طريف ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في أوقات الحرج يسائل أصحابه : ( هل رأى أحد منكم رؤيا ؟) والرؤيا الصالحة هي أحد النوافذ إلى قراءة المستقبل إذا كانت على حد الاعتدال والتوسط ، فمن المدهش أن تجد في ظل غياب التفكير الجاد في أمر المستقبل، سواءً كان المستقبل الشخصي للفرد في حياته العملية والاقتصادية والاجتماعية، أو المستقبل العام للأمة ، أن تجد حضوراً مذهلاً للعرافين والمنجمين الذين يفيضون على الناس خليطاً من التجربة العادية، ومن وحي الشياطين، ومن الحدس والبراعة، ومن الخداع والاستغفال  ويتفننون في توظيف المشتركات البشرية التي لا يخلو عنها أحد فيستهوون بذلك السذج والبسطاء، ويخدرون عقول العامة، ويقتحمون حرمة الغيب المصون { قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون } النمل 65 .  وهذا ما تجده في برامج الحظ والأبراج في القنوات الفضائية أو الإذاعات أو الصحف، وهو ما تجده أيضاً في الزوايا المظلمة التي يقبع فيها السحرة ومستخدمو الجن والمشعوذون حيث تذبح الأديان والعقول، وتهدر الأموال بلا حساب .

وللمرء أن يطول عجبه من أمر هذه الأمة في غفلتها عما أوجب الله عليها، وهجومها على ما حرم ، وانتهاك بعض منتسبيها لأستار الشريعة وادعاؤهم ما ليس لهم به علم  غافلين عما تمر به المنطقة  من تحولات ، والتي قد تشهد   أحداثاً جادة، وأزمة مفتوحة لا يعلم إلا الله وحده نهايتها  وإذا كان هذا من الغيب فهو من الغيب الذي جعل الله له مفاتيح تلتمس بدراسة المقدمات والأسباب، وقراءة الواقع في المنطقة ذاتها ، وتحري أهداف السياسة الغربية  والأمريكية خاصة، في مرحلتها المقبلة والعوامل المؤثرة فيها، واستحضار التجارب المشابهة ، فهل يصحو المخلصون من سباتهم ويفطنون لهذا ؟ وهل يستمع المعنيون إلى أصوات الرشد التي تدعو إلى مواكبة الأحداث وتطوير الذات، والامتثال لمخاطبات التغيير الناصحة المشفقة ، في مرحلة من اسوأ المراحل التاريخية التي يمر بها العالم الإسلامي ؟ فالأزمات الماضية لم تكن تصيب الأمة كلها في وقت واحد ، كما هو الحال في هذه المرة، ولم يكن الذل والهوان والضياع يشمل الأمة الإسلامية كلها  كما يشملها في هذه الأيام ، وإذا اعتبرنا نكبة الأندلس مثلاً أسوأ ما مرّ بالمسلمين في القرون الماضية فنكبة فلسطين أسوأ، فعندما تقلص ظلُّ المسلمين في الأندلس كانت الدولة العثمانية قد فتحت القسطنطينية وأصبحت عاصمة الخلافة الإسلامية  وتوغلت بجيوشها في أوربا حتى وصلت إلى فيينا ، بينما حدثت نكبة فلسطين وقد انحسر ظلُّ المسلمين في كل أرض ،  والمذابح تحل بهم في كل مكان ،في العراق , في الفلبين، في الحبشة، في أرتيريا في تشاد في الصومال، في نيجريا، في الصين في الهند  في أفغانستان في الشيشان ، والمؤامرات تُحاك ضد الإسلام والمسلمين من كافة دول الشرك والكفر كلها ، تلك الدول التي تحتل في كل مرة جزءاً من أرض الإسلام  وتستعبد من يبقى فيها من المسلمين ، فهل يفيق المسلمون من غفوتهم ؟ لقد الله تكفّل بإخراج الصحوة الإسلامية إلى الوجود {وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } يوسف22 ، فهي قدر الله الغالب  الذي ستخرج به هذه الأمة – بإذن الله - من حالة الضياع التي تكتنفها  إلى الاستقامة على الطريق وتطبيق منهج الله ، والقيام بدور جديد في حياتها، لتنقذ نفسها مما هي فيه من الذل والهوان ، وتطلق في الوقت ذاته بصيصاً من النور للبشرية الحائرة لعلها تهتدي إلى الطريق ، واسرائيل ودول الكفر يعلمون أن سر قوة المسلمين وانتصارهم يكمن في تمسكهم بإسلامهم ، واعتزازهم بدينهم واعتصامهم بكتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم ، ولذا يعملوا جاهدين في تغييب الإسلام عن المعركة  فقد جاء في صحيفة من صحف اليهود مقالا جاء فيه : "إنّ على وسائل إعلامنا أن لا تنسى حقيقة مهمة، هي جزء من إستراتيجية إسرائيل في حربها مع العرب، وهي أننا قد نجحنا بجهودنا وجهود أصدقائنا ، في إبعاد الإسلام عن معركتنا مع العرب طوال الثلاثين عاماً، ويجب أن يبقى الإسلام بعيداً عن المعركة إلى الأبد، ولذا يجب ألا نغفل لحظة واحدة عن تنفيذ خطتنا في منع استيقاظ الروح الإسلامية بأيّ شكل وبأي أسلوب".

ولم يدخر الأعداء جهداً في إثارة الشعارات القومية والوطنية، فعندما كان هتافنا (أمجاد يا عرب أمجاد) لم تنصرنا أمجاد العرب، لأن مجد العرب ولد يوم ولد محمد صلى الله عليه وسلم، فلولا مبعث محمد عليه الصلاة والسلام لم يكن للعرب إلا المعلقات، والمعارك بين القبائل، وتلك أمورٌ لم تبنِ مجداً، ولم تخلد ذكراً، فلم تسمع بها روما ولا مدائن كسرى، ولكنها سمعت بمحمد وأصحاب محمد لما جاء بالإسلام، الذي جعلهم سادةالدنيا.

لقد انتصر الإسلام، بحسب السنن الجارية لا بسنة خارقة    فمن سنن الله الجارية أن ينتفش الباطل في غيبة الحق، فإذا جاء الحق زهق الباطل: {وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً } الإسراء 81 ، ومن سنن الله الجارية أن يتدافع الحق والباطل ليتم إنقاذ الأرض من الفساد       { وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ } البقرة 251  والناس إن لم يجمعهم الحق شعّبهم الباطل، وإن لم توحّدهم عبادة الرحمن مزّقتهم عبادة الشيطان ، وإن لم يستهويهم نعيم الآخرة ، تخاصموا على متاع الدنيا ، ولذلك كان هذا التطاحن من خصائص الجاهلية الجهلاء ، وديدن مَن لا إيمان له ، فجاء الإسلام  والعرب في الجزيرة آنذاك فرق وطوائف لا تربطهم رابطة ، ولا تجمعهم جامعة ، إلا ما كان من دواعي العيش ومطالب الحياة ، في صورة لا تعدو وحدة قبلية، وعصبية جاهلية، وكانت على التفرق والخصام أقرب منها إلى الوحدة والوئام ، فألّف الإسلام بين قلوب المسلمين على حقيقة واحدة وهي الإيمان بإله واحد ، وجاءت تعاليم الإسلام ومناهجه تقوّي تلك الرابطة، وتدعم تلك الوحدة بما افترض الله عليهم من صلاة وصوم وحج وزكاة، وبما دعاهم إليه من الاعتصام بحبل الله المتين ، ودينه القويم ، والتحلّي بكلّ خلق كريم والتخلّي عن كلّ خلق ذميم فقال تعالى: { وَاعتَصِمُوا بِحَبلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا }آل عمران  103 . فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم – يتحدَّثُ عن المستقبل بصورة إيجابية ، فعندما رأى صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي وهو طفل صغيرٌ، أخذه ، واحتضنه وقبّله ووضعه في حجره ثم قال :( ابني هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) وقال : ( مَثَلُ أُمَّتِى مَثَلُ الْمَطَرِ لاَ يُدْرَى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَمْ آخِرُهُ ) وهنا الإيمان الرباني  الإيمان النبوي الذي يُعْطِينا إيمانًا بالمستقبل، وأنّ علينا أن نقرأ المستقبل قراءةً جيدةً ، وقد قال كثيرٌ من العلماء : " إن علوم المستقبل من فروض الكفايات"، ففي القرآن الكريم مثلًا آيات كثيرة تدعو إلى المسارعة والمسابقة في الخير، وتتحدَّثُ عن بعض الأمور الغيبية، التي تُؤَكِّدُ أهمية قراءة المستقبل والتَّأَمُّلِ فيه ، فقد نزل القرآن الكريم من عند علاّم الغيوب تعالى، فلا عجب إن مزّق حاجز المكان، وحاجز الزمان بماضيه ومستقبله؛ فأخبر الإنسانَ (على لسان نبيّه) عن أمور غيبيّة ساهم المكان والزمان في حجبها وتغييبها عنه، وقصّ عليه قصص الأُمم الغابرة التي فصله عنها حاجز الزمن الماضي، وأنبأه بأمورٍ تَكشّفَ له بعضُها بعد حين، وظلّ بعضُها الآخر ينتظر دوره في التحقّق ، وقد تحدث القرآن عن غيب الماضي وغيب المستقبل حديث الجازم المتأكد ، وإذا بالواقع يوماً بعد يوم يكشف عن صدق كل ذلك كله , كما أيد الله نبيه بمعجزات غيبية عظيمة، فكان يخبر بأحداث ستقع بعد مئات السنين، في زمن لم يكن أحد يتوقع حدوث مثل هذه الأشياء ، مع أن النبي في ذلك الزمن لم يكن متفرغاً لمثل هذه المواضيع، فهو الذي يحمل همَّ الأمة وهمَّ الدعوة، ولديه مهام صعبة جداً في إقناع المشركين بتغيير عقيدتهم الفاسدة، فكانت المعجزة تسير مع سيدنا محمد في كل مكان   ولسنا اليوم في زمن المعجزات ، لأننا بحاجة ماسة إلى التطبيقات   حتى تتم التغيرات { إن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بانفسهم } .  

 

 

 

ماذا ينتظر المسلمون

قال تعالى : ]إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصُمَّ الدعاء إذا ولَّو مدبرين وما أنت بهادي العُمْىِ عن ضلالتهم إن تُسْمِعُ إلا من يؤمنُ بآياتنا فهم مسلمون [ النمل 80 . هل يمكن لعاقل أن يرجو خيراً من الأموات ؟ وهل نتوقع من عالم لا يسمع ولا يرى أن يقدم لنا شيئا ؟ً وإن كانوا يسمعون ويشاهدون فما أدري ماذا ينتظرون ؟ وحتى متى هم صامتون ؟ ولماذا لا يحركهم الجور الذي فشا والعدل الذي عفا . وطغيان اليهود الذي غلا وعتا ؟ وتجاوز كل الحدود وتجرأ على البلاد والعباد ، بل أمعن في الطغيان والعناد .

أما آن لهم أن يخرجوا عن صمتهم غضباً لله ؟ أما يحرِّك ضمائرهم سفك الدماء وانتهاك محارم الله ؟ أما يستفزهم النهب والسلب والتقتيل والتهديد والتشريد ؟ ألا يكفي كل هذا لتحريك هذا العالم وإخراجه عن صمته ؟    

بل إن البلاء الأشد الذي أصيبت به الأمة ، هو عزلها عن العمل بمنهج ربها ودينها ، الذي يدعوها للقيام بواجبها الجهادي ، لتقف في مواجهة قدرها عارية من حافز الإيمان ، فلا تتقي البلاء ولا تدفع عن نفسها المكارة ، فتعثرت في خطاها  وضاعت هويتها الذاتية ، والعدو يعتقل ويفتك ويقتل ، تناسوا الواجب ، وغضوا الطرف عن الخطر الداهم ، والعدو ماض في الاحتلال والاقتحام ، يعدُّ العدة ثم يشن الغارة ، ويستكين ثم ينقض ، يتقدم ونتراجع ، يتوسع ونتقلص ، يزهو علينا ويستهين بنا ، ولو سرنا على منهج ربنا الذي أمرنا بقتالهم ما زها ولا استهان قال تعالى : ]قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصُرْكُمْ عليهم ويَشْفِ صُدورَ قوم مؤمنين [ التوبة 13 .  لقد دلكم الله أيها المسلمون على تجارة تنجيكم من عذاب أليم ، تشرف بكم على الخير والإيمان بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم والجهاد في سبيله ، وجعل ثوابه مغفرة الذنب ، ومساكن طيبة في جنات عدن ، وأخبر أنه يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص ، أما الذين تركوا الجهاد فإن سلموا من سيف العاجلة ، فلن يسلموا من سيف الآخرة ، ولا يهولنكم أيها الأخوة ما ترونه من صبر إخوانكم في فلسطين ، فوالله ما ترون فيهم إلا حمية العرب والمسلمين ، وصبراً تحت راية لا إله إلا الله ، وإنهم لعلى الحق يجاهدون محتسبين ، حتى يحكم الله بينهم وبين اليهود وهو خير الحاكمين .

إن عدائنا لليهود هو عداء مزدوج لا هوادة فيه ، وإنهم يستخفّون بعقولنا ويستهزئون بنا فمنذ سنة 1948 صدرت ألوف القرارات التي تدين إسرائيل   ولكن دون جدوى ، فهم مستمرون اليوم وغداً بالاستهزاء بنا والاستخفاف بعقولنا ، يتباكون على السلم ويفجرون الصراع ، يريدون سلماً بشروطهم هم ، وإلا فهم ماضون دون هوادة في عدوانهم  يحاورون ويداورون ويطاولون ، وفي بقية ما تبقى طامعون ، إلا أن شعب فلسطين أثبتوا للعالم أجمع أنه مهما غلا الثمن وعظمت التضحيات ، ورغم وسائل القمع والتعذيب والاضطهاد ، الذي يمارسه اليهود ضد هذا الشعب الصامد  إلا أنهم فشلوا في ثلم صلابة الإيمان ، في نفوس المجاهدين في فلسطين الذين قرروا أن يموتوا عند مقدساتهم .   

لقد باتت وحدة العمل الإسلامي والتنسيق بين العلماء الدعاة والتشاور بين الجماعات ، من الأمور المطلوبة أكثر من قبل ، وأشد إلحاحا ، لأن معاناة المسلمين وما يلاقونه من عذاب وقهر وإذلال وقتل وتشريد ، والذي يتطلب الوقوف لوضع حد للمعاناة ، وإيجاد مخرج لها ، وللبحث عن أسباب ووسائل التمكين والعزة ، لأن الدموع والآهات والحسرات ليست هي الرد الأمثل على ما اتفق عليه أعداء الإسلام ، على ألا تقوم للمسلمين قائمة ، كما أن التوجه إلى الله بالدعاء لإهلاك الأعداء ، ونحن على ما نحن عليه ، دون اعتماد المنهج الإلهي للتغيير ،  لن يغير من الواقع شيئا   لا يشك أحد أن المستقبل لهذا الدين ، وأنه سيبلغ ما بلغ الليل والنهار ، وأن النصر لأمة الإسلام ، وأن هذا النصر من الله تعالى جعله على أيدي المسلمين أنفسهم وبجهودهم ، وأن ذلك لن يحصل إلا بأخذ الأسباب ، فنحن لسنا أعز على الله تعالى من رسوله الكريم ، إذ أخذ بكافة الأسباب-حين أراد الهجرة من مكة –من رفيق الطريق والزاد و الدابة واستئجار الدليل ، كل ذلك والله قادر على إيصاله إلى المدينة بأقل من طرفة عين ، ولكنها السنن والمدرسة التي يجب أن نتعلم منها ونتلمس خطاها.   

أما التمني وأحلام اليقظة ، فهي لا تنتج إلا حرابا تنحر رقاب المسلمين ، لهذا طلب الشرع الالتزام بأحكام الدين عقيدة وشريعة وسلوكا ، ليتم تطبيقه الفعلي في الحياة ، وندد القرآن بمن يعرف حكم الله ولا يعمل على تطبيقه ، وبمن يدعو الناس إلى دين الله وهو لا يلتزم به ، ويعفي نفسه من ذلك قال تعالى :)يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ، كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون( .

 وفي هذا المجال لا ننكر جهود بعض المخلصين ونداءاتهم من أجل وحدة العمل الإسلامي ورص الصفوف ، رغم ما يعترض ذلك من صعاب ، ولكن النتائج لم تظهر أية مبادرة عملية في هذا الاتجاه ، حيث كثرت الأقوال وقلت الأعمال ، وافتقرت إلى الإعداد والأخذ بالأسباب لقوله تعالى :   ]وأعدوا لهم ما استطعتم [ .

إن المؤامرة أصبحت حقيقة واقعة ، لا مراء فيها، اليهود يعملون جاهدين في إحكام الحصار ، فماذا ننتظر؟ وماذا ينتظر المسلمون ؟  إنه العار الذي لم يرحمنا الله عليه وبه في الدنيا ولا في الآخرة ، والعار والذل لنا ولأبنائنا من بعدنا . فاليهود يعملون ، والعرب صامتون ، والصراع بيننا وبين اليهود ليس صراع أرض وحدود ، ولكنه صراع عقيدة ووجود . فاليهود يحاربوننا من منطلق عقيدتهم المزيفة المحرفة ، أما نحن فقد تركنا العقيدة ، وأبعدنا الإسلام عن ميدان الصراع ، لذا لا ولن ننتصر أبداً طالما ما لم نطبق منهج ربنا ، لأنه لا نصر ولا تأييد من الله إلا بإتباع منهج الله ، وإعلان الجهاد في سبيل الله  من أجل المقدسات في الأرض التي بارك الله فيها ، لأن الغرب واليهود لا يعرفون سلاماً ، ولا يؤمنون به ، بل الحقيقة أنهم يكفرون بالسلام 

الغرب يكفر بالسـلام وإنما      بسلامه المزعوم يستهوينا

الغرب يحمل خنجراً ورصاصة    فعلام يحمل قومنا الزيتونا

نعم ليس لديهم رغبة في السلام ، لكنهم يريدون لنا الاستسلام   ويخدرونا  بوعود كاذبة ، لا تتحقق ولن تتحقق في أرض الواقع   فمن يظن أن اليهود لهم عهد ، أو لهم ميثاق ، لقد نَقَضوا العهود مع الله ، ونقضوا العهود مع الأنبياء وقتلوهم وافتخروا بذلك ، وسجلهم مع أنبيائهم حافل بالتكذيب والإعراض ; حافل بالقتل والاعتداء حافل بتحكيم الشهوات والأهواء .

 والسؤال الذي يطرح نفسه : إذا كان نصر الله للمؤمنين واقع لا محالة  فما الذي يحقق ذلك ، إن ذلك يتعلق بالعودة إلى الله وتصحيح العقيدة والعبادة وتطبيق الشريعة ، وعقد العزم على رفع راية الجهاد في سبيل الله ، والتأسي بأبطال العقيدة والجهاد   من سلفنا الصالح كصلاح الدين ، الذي قال والقدس في قبضة الصليبين : " إن العمر قصير وإن الأجل غير مأمون، وإن ترك المغتصب يحتل شبراً واحداً من بلاد المسلمين، وفي استطاعتنا طرده أمر لا أستطيع أن أتحمل مسئوليته أمام الله " . بهذه القلوب حُرِرَ الأقصى  فالفارق بيننا وبينهم ، أننا نبحث عن الحياة ، وهم كانوا يبحثون عن الشهادة في سبيل الله ولسان حالهم ولست أبالي حين أقتل مسلماً   على أي جنب كان في الله مصرعي

وذاك في ذات الإله وإن يشأ    يبـارك على أشـلاء شلوا ممـزع

 فتطبيق الشريعة وتصحيح العقيدة ، بات من الضروريات حتى لا يكون الإسلام مجرد عنوان أو مجرد راية وشعار ، أو مجرد كلمة تقال باللسان ، والله سبحانه يريد من المسلم ، أن يسلم لمجرد أن الإسلام خير ، لا لأنه سيغلب أو سيمكن له في الأرض ;  وكأن الله سبحانه يعلم ما سيكون على مدار الزمان مع أجيال المسلمين ، وها نحن أولاء رأينا ونرى أن أعداء هذا الدين ، وأعداء الجماعة المسلمة على مدار التاريخ ، أمس واليوم من الذين قالوا إنهم نصارى ، كانوا أكثر عداءً من اليهود ومن الكفار مجتمعين فهؤلاء كهؤلاء قد ناصبوا الإسلام العداء ، وترصدوه القرون تلو القرون ، وحاربوه حربا لا هوادة فيها ، منذ أن اصطدم الإسلام بالدولة الرومانية على عهد أبى بكر وعمر رضي الله عنهما ، وإلى أن كانت الحروب الصليبية ; ثم كانت المسألة الشرقية التي تكتلت فيها الدول الصليبية في أرجاء الأرض ، للإجهاز على الخلافة ; ثم كان الاستعمار الذي يخفي الصليبية بين أضلاعه ; ثم كان التبشير الذي مهد للاستعمار وسانده ; ثم كانت وما تزال تلك الحروب المشنونة على كل طلائع البعث الإسلامي ، في أي مكان في الأرض وكلها حملات يشترك فيها اليهود والنصارى ، والكفار والوثنيون ، وهذا القرآن جاء ليكون كتاب الأمة المسلمة في حياتها إلى يوم القيامة ، وها هو ذا يعلمها ألا يكون ولاؤها إلا لله ولرسوله وللمؤمنين ; وينهاها أن يكون ولاؤها لليهود والنصارى والكافرين ويجزم ذلك بالجزم الحاسم في هذه القضية   ويأمر هذا الدين أهله بالسماحة وبحسن معاملة أهل الكتاب   والذين قالوا إنهم نصارى منهم خاصة ، ولكنه ينهاهم عن الولاء لهؤلاء جميعا ، لأن السماحة وحسن المعاملة ، مسألة خلق وسلوك ، أما الولاء فمسألة عقيدة ومسألة تنظيم ، إن الولاء هو النصرة هو التناصر بين فريق وفريق ; ولا تناصر بين المسلمين وأهل الكتاب ، كما هو الشأن في الكفار ، لأن التناصر في حياة المسلم هو تناصر في الدين وفي الجهاد لإقامة منهجه ونظامه في حياة الناس قال تعالى : ] يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين [. هذا قرار من الله وليس للمسلم أن يقرر غير ما قرره الله فقال تعالى :  ]وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم [ وكلمة الله باقية لا تغيرها الملابسات والظروف والذي يريد أن يكون مسلما ، يجب عليه بعد إقامة كتاب الله في نفسه وفي حياته أن يواجه الذين لا يقيمونه ، ودعوتهم إلى الإسلام من جديد فدعوى الإسلام باللسان أو بالوراثة دعوى لا تفيد إسلاما ولا تحقق إيمانا ، ولا تعطي صاحبها صفة التدين بدين الله ، فدين الله ليس راية ولا شعارا ولا وراثة . إن دين الله حقيقة تتمثل في عقيدة تعمر القلب ، وشعائر تقام للتعبد ونظام يصرّف الحياة ، ولا يقوم دين الله إلا في هذا الكل المتكامل ; ولا يكون الناس على دين الله ، إلا وهذا الكل المتكامل متمثل في نفوسهم وفي حياتهم  وكل اعتبار غير هذا الاعتبار ، تمييع للعقيدة وخداع للضمير  لا يقدم عليه مسلم نظيف الضمير ، وعلى المسلم أن يجهر بهذه الحقيقة ; ويفاصل الناس كلهم على أساسها ; ولا عليه مما ينشأ عن هذه المفاصلة والله هو العاصم ، والله لا يهدي القوم الكافرين ، وصاحب الدعوة لا يكون قد بلغ عن الله ; ولا يكون قد أقام الحجة لله على الناس ، إلا إذا أبلغهم حقيقة الدعوة كاملة ; ووصف لهم ما هم عليه ، كما هو في حقيقته بلا مجاملة ولا مداهنة ، وقد ينظر بعضنا اليوم مثلا ، فيرى أن الأعداء هم أصحاب الكثرة العددية ، وأصحاب القوة المادية   وينظر فيرى أصحاب الوثنيات المختلفة يعدون بمئات الملايين في الأرض ، وهم أصحاب كلمة مسموعة في الشئون الدولية   وينظر فيرى أصحاب المذاهب المادية ، أصحاب أعداد ضخمة وأصحاب قوة مدمرة ، وينظر فيرى الذين يقولون إنهم مسلمون ليسوا على شيء ، لأنهم لا يقيمون كتاب الله المنـزل إليهم فيخيفه عظم الأمر ويستكثر أن يواجه هذه البشرية الضالة كلها ، بكلمة الحق الفاصلة ويرى عدم الجدوى من ذلك ، مع أن واجب صاحب الدعوة ، واجب لا تغيره كثرة الضلال  ولا ضخامة الباطل ، وكما بدأت الدعوة الأولى بتبليغ أهل الأرض قاطبة ، أنهم ليسوا على شيء ، كذلك ينبغي أن تبلّغ وقد استدار الزمان كهيئة يوم بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم وناداه ] يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم [ .

 

 

 

لماذا لا ننتصر؟ ومتى يكون النصر ؟

 

إننا نعيش في أيام أصبحت الأمة الإسلامية ومقدراتها مقصد الطامعين ، فكيف ننتصر ؟ ومن هم جنود النصر المنشود ؟ ومن يقودنا في معركة الخلاص ؟ إذا علمنا أن الدعوة إلى الله هي التي لا تزال فارغة في خارطة العالم  لا تشغلها أمةٌ ولا دعوة ، فإذا قادها المسلون أحسنوا إلى الإنسانية وإلى أنفسهم  والمؤمن وحده في هذا العالم ، هو الذي يصلح للقيادة ، لأنه صاحب عقيدة لا تزول ولا تتحوَّل ، يحمل في جنبه قلباً يفيض حناناً ورحمة بالبشر  دائم الحنين إلى ربه ، شديد الشوق على جنته ، لا يبالي أوقع عليه الموت أم على الموت وقع ، فهو معقل الإنسانية ومنتهى الرجاء ، وأمين الله في الأرض وخليفة الأنبياء  هذا المؤمن بهذه الصفات ، وعد الله بنصره فقال تعالى :{ وكان حقاً علينا نصر المؤمنين } الروم 47 .  فما المطلوب من المسلمين حتى يكون لدعوتهم تأثيرها هذه الأيام   ويتوفر فيهم أهم  شرط من شروط النصر وهو الإيمان  كما كانوا في صدر الإسلام ؟ فكلمة الإسلام التي كانوا يتلفظون بها كانت ذات حقيقة ثابتة ، فتحولت هذه الأيام إلى ألفاظ مجردة ، ونطق فارغ ، ولأجل ذلك لا نرى لها تأثيراً في حياة الأمة ، تم نرى الناس يتوجهون إلى الله أن يمنحهم النصر المبين والاستخلاف والتمكين ، كما منحه لأجدادنا السابقين ، فنخدع بذلك أنفسنا ، لأنهم كانوا أصحاب جدٍ وحقيقة في الدين ، فقد كانت كلماتهم وأفعالهم تمثل حقيقة الإسلام ، بينما نحن متجردين عن هذه الحقائق ، لقد تمثلوا حقيقة الإسلام في كل ميدان ، فقد كان المسلمون في معركة اليرموك بضعة آلاف من المسلمين ، أما الروم فقد كان عددهم يبلغ أكثر من مائتي ألف ، فإذا بنصراني كان يقاتل تحت لواء المسلمين يقول : ما أكثر الروم وأقل المسلمين ، فيقول خالد : " ويلك أتخوفني بالروم ؟ إنما تكثر الجنود بالنصر وتقل بالخذلان لا بعدد الرجال .. " .

 

فلماذا كان خالد مطمئناً ؟ ولماذا لم يشغل خاطره هذا العدد الهائل من جنود الروم ؟ لأنه كان مؤمناً بالله واثقا بنصره ، وكان يعلم أنه على الحقيقة ، وأن الروم صورة فارغةٌ عن الحقيقة   وكان يعتقد أن الصورة مهما كثرت لا تقدر أن تقاوم حقيقة الإسلام وهكذا كان جيش المسلمين شجعاناً أقوياء ، لا يهابون العدو ولا يخافون الموت ، أتى رجلٌ من المسلمين يوم اليرموك وقال للأمير : إني قد تهيأت لأمري فهل لك من حاجة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال نعم تقرئه عني السلام وتقول : يا رسول الله إنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا . فهل يصدر هذا الكلام إلا من شخصٍ يوقن أنه مقتولٌ في سبيل الله ، وإذا حصل له هذا اليقين  فما الذي يمنعه من استقبال الموت ؟ وما الذي يحول بينه وبين الشهادة ، إنهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين كانوا لا يثبت لهم العدو فواق ناقةٍ عند اللقاء . روي أن هرقل لما انهزمت الروم قال لهم : " ويلكم أخبروني عن هؤلاء القوم الذين يقاتلونكم أليسوا بشراً مثلكم ؟ قالوا : بلى . قال : فأنتم أكثر أم هم ؟ قالوا بل نحن أكثر منهم أضعافا في كل موطن . قال : فما بالكم تنهزمون ؟ فقال شيخٌ من عظمائهم : من أجل أنهم يقومون الليل ويصومون النهار ، ويوفون بالعهد ، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويتناصحون بينهم . ومن أجل أنا نشرب الخمر ونزني ونركب الحرام وننقض العهد ونغضب ونظلم ، ونأمر بالسخط وننهى عما يرضى الله ونفسد في الأرض . فقال أنت صدقتني " .

 

إن نظرة إلى واقعنا نجد أن نصيب صورة الإسلام في حياتنا أكثر من نصيب حقيقته  وهذا سرُّ مصابنا وهزيمتنا   إننا نؤمن جميعاً أن الآخرة حق  ، والجنة حق ، والنار حق ، والبعث بعد الموت حق ، ولكننا لسنا حاملين لحقيقة هذا الإيمان ، كأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان . الذين عندما سمع أحدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض )  رمى بما معه من التمر وقال : لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياةٌ طويلة  وقاتل حتى قتل . لأن الجنة كانت عنده حقيقة لا يشك فيها . ففي تاريخنا المعاصر فضحتنا صورة الإسلام في كل معركة وحرب ، والذنب ذنبنا ، لأننا عقدنا الآمال الكبار بالصورة الضعيفة ، فخّيبت رجاءنا وكذبت أمانينا وخذلتنا في الميدان   ويتكرر الصراع بين صورة الإسلام وشعوب العالم وجنودها ، وفي كل مرّة تنخذل وتنهزم الصورة ، ويعتقد الناس أنه هزيمة الإسلام وخذلانه ، حتى هان الإسلام عند بعض الناس ، وزالت مهابته في قلوبهم   متناسين أن حقيقة الإسلام لم تتقدم إلى ساحة الحرب منذ زمن طويل ، ولم تنازله هذه الدول المعتدية ، وان الذي يبرز في الميدان هو صورة الإسلام لا حقيقته ، فتنهزم الصورة أمام الواقع ونولي الأدبار .

 

إن على كل مسلم أن يعلم أن وعد الله بالنصر والفتح في الدنيا ، والنجاة والغفران في الآخرة ، محصورٌ في حقيقة الإسلام وذلك في قوله تعالى : { ولا تهنوا ولا تحزنوا وانتم الأعلون إن كنتم مؤمنين } آل عمران 139 . جاء الخطاب للمؤمنين ، واشترط الإيمان لعزة المسلمين والعلو في الأرض . وقد أكد ذلك في آية أخرى فقال تعالى : { إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد } غافر 51 . وكل وعد من الله بالنصر في القرآن   اشترط أن يكون في المسلمين حقيقة الإيمان .

 

إن أكبر مهمة مطلوبة للأمة هي الانتقال من صورة الإسلام إلى حقيقته ، بذلك تستطيع الأمة أن تذلل كل عقبة ، وتهزم كل قوة ، وتأتى بعجائب وآيات من الإيمان والشجاعة والإيثار يعجز الناس عن تعليلها ، كما عجزوا من قبل عن تعليل حوادث الفتح الإسلامي ، كما على الأمة أن تعلم أن النصر والخذلان من عند الله ، فعندما نقرأ قوله تعالى :{ إن ينصركم الله فلا غالب لكم } . وقد نسأل ما هو المقابل ؟ والمقابل هو  : {وإن يخذُلْكم فمنذ الذي ينصُرُكم من بعده } آل عمران 160 . إن للنصر قوانين وسنناً ، فإذا أخذنا بالأسباب التي أمرنا الله بها على قدر الاستطاعة ، فلا ينبغي أن نقارن عددنا بعدد أعدائنا ، ولا عدتنا بعدتهم   لأن الله لا يكلفنا أن نقابل عددنا بعددهم أو عدتنا بعدتهم ، فقد طالبنا أن نعد ما استطعنا فقال تعالى :{ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة } . فالله يريد أن يصحب ركب الإيمان معونة المؤمن به وهو الله ، أما لو كنا متساوين معهم في العدد والإعداد ، لكانت القوة تقابلها قوة والغلبة للأقوى ، ولكن الله يريد أن يكون العدد قليلا وتكون العدة أقل ، وعند اللقاء نتوجه إلى الله بما قدرنا عليه وبالأسباب التي مكننا منها ، ونؤمن بأن الله مولانا يعيننا على أعدائنا ويمدنا بمدد من عنده قال تعالى : { ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم } . فعندما ننصر الله نضمن نصر الله لنا ، أما كيف نعرف أننا ننصر الله ؟ نعرف عندما تأتي النتيجة بنصرنا   فمن نصر الله نصره الله ، قانون جاء بصيغة الشرط والجزاء  قال تعالى:{ إن ينصركم الله فلا غالب لكم } . وإذا دلت الآية على أنه لا غالب لمن ينصره الله ، فلماذا لا ننتصر ؟   إن من سنن الله الجارية ، أنه إذا عصى الناس أمر الله  واستباحوا محارمه ، وبغوا وظلموا  وابتعدوا عن صراطه المستقيم ، ومنهجه القويم ، أن يجازيهم بسوء أعمالهم قال تعالى :

 

{ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً } فاطر 43 .

 

ومن سنن الله أنه لا يغير نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ، من الانحراف عن المنهج ، وسلوك الطريق الخاطئ ، وتضييع الأمانة . قال تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} الأنفال 53 . إنك لتجد الناس في مجالسهم يخوضوا ويتحدثوا عن حال الأمة الإسلامية   ومآسيها ، ونكباتها   وما أُصيبت به من الهوان والذل .   

 

والسؤال هنا هل سألنا أنفسنا عن سبب ذلك ، أليس ما حل بنا راجع إلى تخاذلنا وضعفنا وتقاعسنا . أم أن هناك شيئاً آخر قد ضيعناه ونسيناه ؟ ثم لماذا تراجع المسلمون وهزموا ، وتقدم غيرهم وانتصروا ؟ ولماذا تفكك المسلمون وانقسموا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون  وأعداء الله يرصون الصفوف ، ويجمعون الجموع ؟ ولماذا حورب الإسلام وأهله ، وفتح الباب على مصراعيه لأهل العلمنة والشر والفتنة وغيرهم ؟ وما هو الطريق الصحيح لتصحيح المسار، ومعالجة الأخطاء ، والرد على الكفار أعداء الله ؟ وإذا علمَ أن الداء منا فلم لا نبحث عن الدواء  ولماذا لا نبحث عن أسباب المصائب التي تحل بالمسلمين ؟ إن ما أصاب المسلمين ما هو إلا بسبب معاصيهم وذنوبهم ومخالفتهم لأوامر ربهم ونواهيه قال تعالى:) وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ( الشورى 30    وإذا كان ما أصابنا بسبب أنفسنا وذنوبنا وتقصيرنا في حق الله ، فإنه من المستحيل أن ننتصر لأننا ضيعنا الله ونسيناه ولا غرابة بعدها أن ينسانا قال تعالى : { وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ } الحشر 19 . وسنن الله لا تتغير ولا تتبدل فقد وعدنا بالنصر وأن يهزم عدونا ، إن نصرناه وجاهدنا لإعلاء كلمته ، وربينا أنفسنا على طاعته   والفرار من معصيته قال تعالى:{إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } محمد 7 .

 

وعد الله المسلمين بالنصر والتمكين ، بشرط أن ينهضوا بتكاليف عقيدتهم التى بينها فى الآيات ، إن قوى الشر والضلال تعمل في هذه الأرض ، والمعركة مستمرة بين الخير والشر والهدى والضلال   والصراع قائم بين قوى الإيمان وقوى الطغيان منذ أن خلق الله الإنسان .

 

والشر جامح والباطل مسلح . وهو يبطش غير متحرج  ويضرب غير متورع  ويمتلك أن يفتن الناس عن الخير إن اهتدوا إليه ، وعن الحق إن تفتحت قلوبهم له إذن لابد للإيمان والخير والحق من قوة تحميه من البطش ، وتقيه وتحرسه من الفتنة .

 

ولم يشأ الله أن يترك الإيمان والخير والحق وحيداً يكافح قوى الطغيان والشر والباطل ، اعتماداً على قوة الإيمان في النفوس ، إذ أن القوة المادية التي يملكها الباطل قد تزلزل القلوب وتفتن النفوس . لهذا لم يشأ أن يترك المؤمنين للفتنة  فأذن لهم في القتال لرد العدوان . وقبل أن يأذن لهم بالانطلاق إلى المعركة أخبرهم بأنه سيتولى الدفاع عنهم فهم في حمايته قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا } . وأنه يَكْره أعداءهم لكفرهم وخيانتهم فهم مخذولون حتماّ  قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ } .

 

وقد حكم لهم بأحقية دفاعهم ، فهم مظلومون غير معتدين قال تعالى : { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا } . وطمئنهم إلى أنه قادر على حمايتهم ونصره إياهم قال تعالى :

 

{ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ } . وأن لهم ما يبرر خوضهم للمعركة لأنهم منتدبون لمهمة إنسانية كبيرة ، مهمة حمل الرسالة ونشر دين الله في الأرض ، التي لا يعود خيرها عليهم وحدهم ، وإنما يعود على المؤمنين كلهم ، لما فيها من ضمان لحرية العقيدة وحرية العبادة . لأنهم مظلومون أخرجوا من ديارهم بغير حق  قال تعالى : { الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ } . وهى أصدق كلمة تقال  وأحق بأن تقال . ومن أجل هذه الكلمة بل من أجل العقيدة التي اعتقدوها كان إخراجهم . فكانت الحاجة إلى الدفع عن هذه العقيدة ، أي دفع حماة العقيدة لأعدائها الذين ينتهكون حرمتها ، ويعتدون على أهلها قال تعالى :{ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا } . فالباطل متبجح لا يكف ولا يقف عن العدوان إلا أن يدفع بمثل القوة التي يصول بها ويجول ، ولا يكفى الحق أنه الحق ليقف عدوان الباطل عليه ، بل لابد من قوة تحميه وتدفع عنه . وهى قاعدة كلية لا تتبدل ما دام الإنسان هو الإنسان .  والذي يفهم من الآيات إن الله يبدأ الإذن بالقتال للذين قاتلهم المشركون   واعتدى عليهم المبطلون ، بأن الله يدافع عن الذين آمنوا ، وأنه يكره المعتدين من الكفار الخائنين  قال تعالى :{ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ } . وقد ضمن للمؤمنين إذن أنه هو الذي يدافع عنهم . ومن يدافع الله عنه فهو ممنوع حتماً من عدوه ، ظاهر عليه  فلم يأذن لهم بالقتال ، ويكتب عليهم الجهاد ؟ ولماذا يقاتلون فيصيبهم القتل والجرح ، والجهد والمشقة ، والعاقبة معروفة ، والله قادر على تحقيق العاقبة لهم بلا جهد ولا مشقة ، ولا قتل ولا قتال ؟ الجواب أن حكمة الله في هذا هي العليا ، وأن لله الحجة البالغة .. والذي ندركه نحن البشر من تلك الحكمة ، ويظهر لعقولنا ومداركنا من تجاربنا ومعارفنا أن الله سبحانه لم يرد أن يكون حملة دعوته وحماتها من  الكسالى ، الذين يجلسون في استرخاء ، ثم يتنـزل عليهم نصره سهلاً هيناً بلا عناء ، لمجرد أنهم يقيمون الصلاة ويرتلون القرآن ويتوجهون إلى الله بالدعاء كلما مسهم الأذى ووقع عليهم الاعتداء ! نعم يجب عليهم أن يقيموا الصلاة وأن يرتلوا القرآن ، وأن يتوجهوا إلى الله بالدعاء في السراء والضراء . ولكن هذه العبادة وحدها لا تؤهلهم لحمل دعوة الله وحمايتها ، إنما هي الزاد الذي يتزودونه للمعركة والسلاح الذي يطمئنون إليه وهم يواجهون الباطل بمثل سلاحه المادي الذي يستطيعونه : { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة } ويزيدون عنه بسلاح التقوى والإيمان والاتصال بالله . لذلك شاء الله تعالى أن يجعل دفاعه عن الذين آمنوا يتم عن طريقهم هم أنفسهم وهم يدفعوا ويدافعوا ، بكل ما أعدوا من قوة لمواجه القوة المهاجمة .

 

والأمة التي تقوم على دعوة الله في حاجة إلى حشد كل قواها واستعداداتها  وتجميع كل طاقاتها ، كي تتهيأ لحمل الأمانة الضخمة والقيام عليها .

 

وإن النصر السريع الهين اللين سهل فقدانه وضياعه . لأنه رخيص الثمن لم تبذل فيه تضحيات عزيزة . ولأن الذين نالوه لم تدرب قواهم على الاحتفاظ به ولم تحشد لكسبه . فهي بالتالي لا تستعد للدفاع عنه ، لذلك جعل الله دفاعه عن الذين آمنوا يتم عن طريقهم هم أنفسهم ؛ ولم يجعله لقية تهبط عليهم من السماء بلا عناء . وإن النصر قد يبطئ على الذين ظُلموا وأُخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا : ربنا الله . فيكون هذا الإبطاء لحكمة يريدها الله .

 

قد يبطئ النصر لأن بنية الأمة المؤمنة لم يتم بعد تمامها  ولم يتم استعدادها  وحشد طاقاتها ، فلو نالت النصر حينئذ لفقدته لعدم قدرتها على حمايته طويلاً ! 

 

وقد يبطئ النصر حتى تجرب الأمة المؤمنة آخر قواها   فتدرك أن هذه القوى وحدها بدون سند من الله لا تكفل النصر . إنما يتنـزل النصر من عند الله عندما تبذل آخر ما في طوقها ثم تكل الأمر بعدها إلى الله .

 

وقد يبطئ النصر لتزيد الأمة المؤمنة صلتها بالله ، وهى تعاني وتتألم وتبذل ، ولا تجد لها سندا إلا الله ، ولا متوجهاً إلا إليه وحده في الضراء . وهذه الصلة هي الضمانة الأولى لاستقامتها على المنهج بعد النصر عندما يتأذن به الله . فلا تطغى ولا تنحرف عن الحق والعدل والخير الذي نصرها به الله .

 

وقد يبطئ النصر لأن الأمة المؤمنة لم تتجرد بعد في كفاحها وبذلها وتضحياتها لله ولدعوتها فهي تقاتل لمغنم تحققه ، أو تقاتل حمية لذاتها ، أو تقاتل شجاعة أمام أعدائها . والله يريد أن يكون الجهاد له وحده وفى سبيله بريئاً من المشاعر الأخرى التي تلابسه . وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل يقاتل حمية والرجل يقاتل شجاعة والرجل يقاتل ليرى . فأيها في سبيل الله فقال : ( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله )  رواه الشيخان .  وقد يبطئ النصر لأن الباطل الذي تحاربه الأمة المؤمنة لم ينكشف زيفه للناس تماماً . فلو غلبه المؤمنون حينئذ فقد يجد له أنصاراً من المخدوعين فيه ، لم يقنعوا بعد بفساده وضرورة زواله ، فتظل له جذور في نفوس الأبرياء الذين لم تنكشف لهم الحقيقة . فيشاء الله أن يبقى الباطل حتى يتكشف عارياً للناس ، ويذهب غير مأسوف عليه من ذي بقية ! وقد يبطئ النصر لأن البيئة لا تصلح بعد لاستقبال الحق والخير والعدل الذي تمثله الأمة المؤمنة . فلو انتصرت حينئذ للقيت معارضة من البيئة لا يستقر لها معها قرار . فيظل الصراع قائماً حتى تتهيأ النفوس من حوله لاستقبال الحق الظافر ، ولاستبقائه ! وقد يبطئ النصر أيضاُ حتى تجرب الأمة السلام العالمي وقرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن ! وحتى تجرب الانقياد تحت رايات علمانية تبعد الإسلام عن المعركة ! من أجل هذا كله  ومن أجل غيره مما يعلمه الله ، قد يبطئ النصر، فتتضاعف التضحيات ، وتتضاعف الآلام . مع دفاع الله عن الذين آمنوا وتحقيق النصر لهم في النهاية . وللنصر تكاليفه وأعباؤه حين يتأذن الله به بعد استيفاء أسبابه وأداء ثمنه ، وتهيؤ الجو حوله لاستقباله واستبقائه قال تعالى:{وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}  فوعد الله المؤكد الوثيق المتحقق الذي لا يتخلف هو أن ينصر من ينصره .. فمن هم هؤلاء الذين ينصرون الله ، فيستحقون نصره ، الذي لا يهزم من يتولاه ؟ إنهم هؤلاء قال تعالى :{الذين إن مكناهم في الأرض – أي حققنا لهم النصر وثبتنا لهم الأمر - أَقَامُوا الصَّلَاةَ - عبدوا الله ووثقوا صلتهم به - وَآتَوُا الزَّكَاةَ - وأدوا حق المال ، وانتصروا على شح النفس ، وتطهروا من الحرص  وكفلوا الضعاف فيها - وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ - ودعوا إلى الخير والصلاح ، ودفعوا إليه الناس - وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ } وقاوموا الشر والفساد وحققوا بهذا وذاك صفة الأمة المسلمة التي لا تبقي على منكر وهى قادرة على تغييره ، ولا تقعد عن معروف وهى قادرة على تحقيقه ، هؤلاء هم الذين ينصرون الله ، إذ ينصرون نهجه الذي أراده للناس في الحياة ، معتزين بالله وحده دون سواه ، وهؤلاء هم الذين يعدهم الله بالنصر على وجه التحقيق واليقين .

 

إنه النصر القائم على أسبابه ومقتضياته والشروط بتكاليفه وأعبائه .. والأمر بعد ذلك لله  يصرفه كيف يشاء : فيبدل الهزيمة نصراً ، والنصر هزيمة ، عندما تختل القوائم  أو تهمل التكاليف : { وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } .

 

إنه النصر الذي يؤدى إلى تحقيق المنهج الإلهي في الحياة . ومن انتصار الحق والعدل والحرية المتجهة إلى الخير والصلاح . وهو نصر له سببه . وله ثمنه . وله تكاليفه . وله شروطه . فلن يعطى لأحد جزافاً أو محاباة ، وإن علينا أن نعرف أن إقامة النصر في الأرض ، وإعادة الخلافة فيها لا يقدم لنا مباشرة على طبق من ذهب بل لا بد من الكلل والتعب  والوصب والنصَّب ، حتى يأتينا نصر الله بعد أن علم منا الصدق في القلوب   والصلاح في الأعمال   والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً .

 

 

 

 

 

لا عزة إلا بالإسلام

] يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه ، فسوف يأتي الله بقومٍ يحبهم ويحبونه ، أذلةٍ على المؤمنين أعزَّةٍ على الكافرين   يجاهدون في سبيل الله ، ولا يخافون لومة لائم [ المائدة 54.

إن المؤمن عزيز على الكافرين بأنه لا يُغلب ، والعزة هنا هي العزة للعقيدة والاستعلاء لراية الجهاد التي يقف تحتها ، وحتى يبقى المؤمن عزيزاً ، لابد أن يجاهد   في سبيل الله ، لتكون كلمة الله هي العليا ، ولا عزة للمؤمن بغير الإسلام ] ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون [.

والمؤمن يعيش هذه الأيّام مواقفَ امتِحان وابتلاء ، وقد أوضح لنا كتاب ربنا الطريق  ، وأوضح لنا أسبابَ القوة وأسبابَ الضعف ، وشخّص لنا الأمراض ، ووَصف لنا العلاجَ ، ليس تقريرًا سياسيًا يتلوّن بألوانِ الأهواء ، وليس بحثًا اجتماعيًا تتعثّر استنتاجاتُه ، ولا تحليلاً نفسيًا تضطرِب إحصاءاته ، ولكنّه كتاب هدايَة ونور ، لا تشوب حُكمَه الشّبهات ، ولا تضِلّ دليلَه الشهوات ، فهو حقُّ اليقين وعين اليقِين وعلمُ اليقين من ربِّ العالمين .

 إنَّ المصيبة إذا ما أُصبنا بنكبة ، أن لا نعرِفَ معنَى النكبة ، ولا نفقهَ أسبابَها ومداها   ثمّ بعد ذلك لا ندري أينَ المخرجُ منها  فالسّنن الربانيّة والنواميس الإلهيّة  ، وما شهِد به تاريخُ الأمّة وتاريخ الأمَم ، تدل على أن الأسباب تتَّصِل بمسَبّباتها ، وترتبِط النتائج بمقدّماتها ، وتعرَف الغايات من وسائلِها ، إنّها نتائجُ محتومة لأسبابٍ معلومة وقد دلت التجارب في الماضي والحاضر   على أن زحف الأعداء لا يوقِفه إلاّ الإسلام ، وميل الميزان لا يعدّلُه إلاّ القرآن ، فلا نصر إلا بالإسلام ، ولا نصر يأتي بغير الإيمان ، ولا إيمان بغير الرجوع إلى الإسلام .  

ولا بد للإسلام من مسلمين ، ولا بد له من مؤمنين ، فالله تعالى يقول لرسوله :   ] هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين  [   ذكرت الصحف أن رجلا أجنبيا درس الإسلام ، فأعجب به   وأعجب بتعاليمه ، فقال كلمة يجب أن نحفظها ونرويها ، ماذا قال ؟ قال : ما أعظمه من دين لو كان له رجال ، دين عظيم ولكنه في حاجة إلى رجال عظماء ، دين قوي ولكنه في حاجة إلى رجال أقوياء .

إن الأمة وهي تتعرض لنكبات قاسية ، تتمثل في الحروب التي تتعرض لها بلاد المسلمين ، والتي لم تضع أوزارها بعد ، والتي تحمِل نُذُرَ سوء أورثت قلقًا ، وولَّدت يأساً ، إنها مدعوة إلى أن تقِف موقفَ تأمّل ونظرٍ في سُنن الله ، وفي تأريخ دينِ الله ورُسله . فقد تكون المِحن والنكبات التي يعاني منها المسلمون    سببًا من أسبابِ اليقظةِ والعودَة لدين الله .

لقد حقق الأعداء قديماً على المسلمين نصراً ماديًّا وعسكريًّا  ولكن لم تُهزَم قِيمهم ولا مبادِئهم، ولم تنهزِم روحُهم ولا إيمانهم ، فتحوّلت الهزيمة إلى نصر بعد حين ، وسرعانَ ما غزت الأعداء ، قِيَم المجتمعِ المسلم ، فأسلم التّتار وهم المنتصِرون  واندَحر الصليبيّون وهم الغالِبون ، كلّ ذلك على أيدِي المسلمين ، وقد كانوا هم المهزومين ، فجند الله هم الغالبون  وقد جاء هذا الوعد بالنصر والغلبة والتمكين ، في قوله تعالى : ] وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلْمُرْسَلِينَ ، إِنَّهُمْ لَهُمُ ٱلْمَنصُورُونَ ، وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَـٰلِبُونَ [ الصافات 171 .  فرسُل الله هم المنصورون ، وجند الله هم الغالبون ، كلمةٌ من الله سبقت ، ووعدٌ من الله لا يُخلَف ، على الرّغم من جميع العوائق ، وعلى الرّغم من كلّ صوَر التكذيب والتّشكيك ، فإن هذه القوى وهذه  الحضارة التي تسود اليوم لا بد أن تبيد   كما سادت الحضارات السابقة وبادت ، لأن الذي يبقى في النهاية عقائد المرسَلين ، لأنها الأظهَر والأبقى والأكمَل . وإنّ هذا متحقِّق في كلّ دعوة لله مخلِصة ، وفي كلّ دعاةٍ لله صادقين   إنها دعوةٌ غالبة منصورة ، مهما رصَد لها الباطل من قوى الحديد والنّار ، وقوى الدّعاية والافتراء ، وقوى الحرب والمقاومة . معاركُ تقوم بين أهلِ الحقّ والباطل ، ولكنّ نتائجَها تختلِف حتى تنتهيَ إلى وعد الله الحقّ ، الذي وعد رسلَه وأولياءه وجندَه ، وهو وعدٌ لا يُخلَف ، ولو قامت في طريقه كلُّ قوى الأرض ، وهو سنّةٌ من الله ماضية ، غيرَ أنَّ هذه السّنن مرهونة بتقدير الله تعال ، يحقِّقها حين يشاء وكيف يشاء ، وقد تُبطئ آثارها الظاهرة بالقياس في أعمارِ البَشر القصيرةِ المحدودة  ولكنّها لا تُخلَف ولا تتخلّف أبدًا ، بل قد تتحقّق في صورةٍ لا يدركها البَشر ، لأنّهم يطلبون المألوفَ من صوَر النّصر والغلبة   ولا يدركون تحقُّقَ السّنّة في صورةٍ غيرِ مألوفة إلاّ بَعد حين . قد يريد البَش‍َر صورةً معيّنة من صُور الغلبة والنّصر ، ويريد الله صورةً أخرى أكمَل وأتمّ وأبقى ، فيكون ما يريد الله ولو تكلّف جندُ الله من المشقّة وطول الأمَد أكثرَ ممَّا ينتظرون قال تعال : ] وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ ٱلشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَـٰتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ ٱلْكَـٰفِرِينَ ، لِيُحِقَّ ٱلْحَقَّ وَيُبْطِلَ ٱلْبَـٰطِلَ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُجْرِمُونَ [ الأنفال 8 .

فالنّاس يقصُرُون معنى النّصر ، في حدودٍ معيّنة معهودةٍ ، قريبة الرّؤى لأبصارهم   فالأزمات مهما اشتدّت ، والخطوب مهما ادلهمّت ، فإنّ دينَ الله سيبقى عزيزًا منصورًا ، بعزِّ عزيزٍ أو بذلِّ ذليل ، والأرض لله يورِثها من يشاء من عباده ، ويَرثُها عباد الله الصالحون . نعم سيبقى دينُ الله عزيزًا ، وستبقى العزّة للمؤمنين  لأن العزة عزّة مبادئ وعزّة قيَم ، لا عزّة جماعات ولا فِئات  فالهزيمة بحقٍّ هي هزيمة الأمّة حين تتخلّى عن قيَمها ، وتبتعِد عن مبادئها ، لأن المنتصِر هي المبادئ والأفكار وليس الأشخاص .

ولتقريرِ هذه الحقيقةِ تأمّلوا قولَ الله عزّ شأنه: ] مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعِزَّةَ فَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ جَمِيعاً [ فاطر10. إنها حقيقةٌ ثابتة ، لا تتغيّر ولا تتبدّل ، حقيقةٌ كفيلة بتعديل القيَم والموازين ، وتعديل الحُكم والتقدير ، وتثبيت المواقف ، وتعديل المنهَج والسّلوك   وضبط الوسائل والأسباب ، وإذا استقرّت هذه الحقيقةُ في قلبِ المؤمن وثبتت في يقينه ورسخت ، وقَفَت به أمامَ الدّنيا كلِّها عزيزًا كريمًا ثابتًا غيرَ متزعزِع وحينئذ لن يحنيَ رأسَه لمخلوقٍ متجبّر ، ولا لعاصفة طاغية ، ولا لحدَث جلَل ، ولا لمصلحةٍ مهما كانت ، لأن الحقّ غايتُه ، والعدلُ مبتَغاه ، والباطل خصمُه ، والظالم عدوّه . ومع هذا الوضوحِ في مبدَأ العزّة فهي ليسَت عنادًا مستكبرًا ، وليست طغيانًا فاجرًا ، وليست اندفاعًا باغيًا ، يخضَع لنـزوةٍ أو يذلُّ لشهوة ، وليست قوّةً عمياء تبطِش بغير حقّ وتسير بغير عَدل .

فالعزّة استعلاءٌ على شهوَة النّفس ، ورفضٌ للقيد والذّلّ   وارتفاع عن الخضوع لغيرِ الله ، بل هي خضوعٌ لله وخشية منه   وتقوى ومراقبة في السّرّاء والضّرّاء ، وفي هذا الخضوع ترتفِع الجِباه ، ومن هذه الخشيَة تمتنع عن كلّ ما يأباه ، ومن هذه المراقبة لا تبتغي إلا رضاه .

 إن العزّة في حقيقتِها ووسيلتِها ، هي في نصر رسالة المرسَلين  وغلبة جندِ الله المخلصين ، أمّا النّتاج الماديّ والمكتشفات في العلوم والتقنيّات والآلات والمخترعات فكلّ ذلك لا انتماءَ له   وميراثٌ لا جنسيّة له ، يستحقّه كلُّ مُجِدّ ، ويناله كلُّ من أخَذ بالأسباب على وجهِها . أمّا الأفكار والمبادئ فهي تراثٌ خاصّ تنهض به الأمّة ، صاحبة الرّسالات ووارثةُ الأنبياءِ .

إنّ حضارةَ الأمم لا تُقاس بالقوى الماديّة وحدَها، ولكنّها تقاس بمبادئها في أخلاقها ونُظُمها ، وإقامةِ العدل واحترام الحقّ ، فالإنسان لا قيمةَ له بجنسه أو عِرقه ، ولكن قيمته بإيمانِه وأخلاقِه وصحّة معتقدِه .

وإنّ لكم من دروسِ أيّامكم هذه في محنتِها وفتنتِها ، ما يجلِّي لكم ذلك كلَّ الجلاء ، لقد نزَع الخصومُ الزّيفَ الذي كانوا يتقنّعون به من قيَمِ التّحضّر ، وموازين العدلِ والإنصاف  وحقوقِ الإنسان ، لقد تجلّت الرّغبة الجامِحة العارِمة في نهبِ الثّروات ، ومحاصرة الأمَم والتحكّم في المصائر ، لقد ظهَر جليًّا أنّ تلك القيَم عندهم كانت انتقائيّة ، والمبادئ كانت دعائيّة  لا تصمُد أمام تحدّيات الأطماعِ وصِراع المصالح والأنانيّات .   

كم في طيّات المِحن من مِنح ، فلعلّ من الخير أن تنبّه كثيرون من المخدوعين من أبناء الأمّة ، فصاروا يراجِعون مواقفَهم  ويتحوّل إعجابُهم بحضارتهم إلى صدمةٍ عنيفة ، فقد أظهرت هذه المحنُ خبايا المنافقين ، ممَّن كان يضمِر للأمّة ودينِها كل كيد ، فكشفتهم هذه الأزَمات .

أليست هذه من بشائر الانتصار ومظاهرِ العزّة؟! لقد أفاق كثيرٌ من المسلمين ، وانجلت عنهم سحُب الغفلة ، لقد بعثت هذه المحَن روحًا كانت قد خبَت أو كادت ، فأصبحت الأمّة تتحدّث بقوّة عن عزّتها وكرامتِها وعن حقوقِها ، رَغم ما تعانيه من البطش والاستضعاف ، لقد بدأتِ الأمّة تنظر بيقظةٍ وتنبّه  إلى الإحساس بخطورَة أعدائِها ، وعِظَم مخطّطاتهِم  .

أما آن للمسلمين أن يتمسكوا بدينهم الحقّ ، وما الحقّ إلا أن يتَّحِد أهلُ الإسلام ، وما الحقّ إلا أن ينبذوا الخلافَ والتخاذل   وما الحقّ إلا أن توزَن الأمور بموازينها ، أما آن للغافلين أن يستيقِظوا ، وعلى المذنبين أن يُقلِعوا ، وعلى القانطين والمستيئسين أن يستبشِروا ويتفاءلوا ، وعلى الطائِعين المستقيمين أن يستقيموا على المنهج قال تعالى: ] يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَىٰ أَعْقَـٰبِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَـٰسِرِينَ بَلِ ٱللَّهُ مَوْلَـٰكُمْ وَهُوَ خَيْرُ ٱلنَّـٰصِرِينَ[ آل عمران 149 .

 إنه لا بدّ للهمّة العالية أن تنال مطلوبَها، ولا بدّ للعزائم المتوثِّبة أن تدركَ مرغوبَها . فالمواقِف مع الأعداء هي مواقف دينٍ ووجود ، لا معارك أرضٍ وحدود ، معارك دين واعتقاد   وليست معاركَ سياسة واقتصاد . لا بدّ من ردّ قضايا الأمّة إلى مدارها الإسلاميّ بكل آفاقه وأعماقه ، لا بدّ من نبذِ كلّ أعلام التبعيّة ورايات الإلحاد ، حتى يتبوّأ الإسلام مكانَه ، ويأخذَ القرآن موقِعَه ، تُرفَع راية القرآن ، وتسير الأمّة بنور كلماتِه   تُرَدّ القضايا إلى خطّها الأصيل ، حتى تصبحَ قوّةً تتأبّى على الوأد والاحتواء والترويض والتّدجين ، إنها القوّة الإسلاميّة التي لا بدّ أن تُستنفَر للذّود عن المقدّسات ، بعد أن أفلَست كلّ الدعوات الادّعاءات . إن على الأمّة أن تنتصرَ لقضاياها ، قبلَ أن تطلبَ من الآخرين الوقوفَ معها ، عليها أن تقِف بكلّ طاقاتها قبلَ أن تناشدَ الآخرين معاونَتَها ، فنصرةُ القضايا واسترداد الحقوقِ لن يتمَّ بجهود يبذلها الأعداء ، إنه لن يتم إلا بإعلان الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين ، والجهاد على كافة الأصعِدة ، جهادٌ بالقلم ، وجهادٌ بالسّياسة ، وجهاد بالنّفوذ  وجهاد بالاقتصاد والمال ، وجهاد بالقوّة والعدّة ، ألا فاتَّقوا الله رحِمكم الله ، واستمسِكوا بكتابِ ربّكم، والزَموا سنّة نبيّكم  ينجزْ لكم ما وعدَكم ، عزًّا في الدنيا ، وحسنَ ثوابٍ في الآخرة  

 

 

الابتلاء بالفقر والغنى

 عن عبد الله بن مسعود قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله قسَم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم   وإنّ الله عز وجل يعطي الدنيا من يحبُّ ومَن لا يحبّ ولا يُعطي الدِّين إلا لمن أحب فمن أعطاه الله الدِّين فقد أحبَّه ) . من الخطأ اعتبار المال والجاه خيراً على الدوام   فالله قد يعطي وقد لا يعطي ، وسواء أعطى أم لم يعط فهو خير في كلتا الحالتين بالنسبة للمستقيم ، أما غير المستقيم فالفقر يكون عنده وسيلة إلى الكفر  لأنه يحرضه على رفع راية العصيان تجاه ربه . 

لذا لا ينظر إلى مجرد الفقر أو إلى مجرد الغنى على أنه مصيبة أو نعمة . فقد يكون الفقر حسب موقعه من أكبر نعم الله تعالى ، وقد اختار الرسول صلى الله عليه وسلم  الفقر بإرادته فقال لعمر رضي الله عنه : ( أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة ؟ والله يبتلى بالغِنى ويبتلى بالفقر            } ونبلوكم بالشر والخير فتنة {  } فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعَّمه فيقول ربى أكرمنِ، وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه –أي ضيَّق عليه رزقه- فيقول ربى أهانن {  والنظرة الإسلاميَّة الحقيقية  لا تعتبر الفقر نعمة، بل تعتبره بلاءً ، ينبغي على الإنسان أن يصبر عليه إذا نزل به ، ولا يجوز أن يجره إلى معصية ، فهو بلاء من البلاءات ولذلك جاء في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستعين بالله من شر فتنه الغنى ومن شر فتنة الفقر، ويُحِّذر من الغنى المُطغي والفقر المُنسي  (كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى) ففقر الفقير لحكمة ، والغنى عند الغني لحكمة ولربما كان المال عند الإنسان أداة بطش وتعدٍ وطغيان ، وربما دعاه المال إلى العصيان ، فحين يمنعه الله    فإنه يرحمه بالفقر لأن الغنى لا يناسبه ، وصلاحه يكون في الفقر ، وفي شيء من الرضى بما قسمه الله له ، وألا يتطلع إلى من أعلى منه في متاع الدنيا ، والمؤمن مطالب أن يعيش في حدود إمكانياته المادية قال تعالى : } لينفق ذو سعة من سعته ومن قُدِرَ عليه رزقه فاليُنْفِق مما آتاه الله  لا يكلِف الله نفساً إلا ما آتاها { الطلاق . وعلى المؤمن أن يقنع بما في مقدوره ، أما إن امتدت عينه إلى فوق مستواه ، فإنه يلجا إلى الدين ، وبعد فترة يأتي من يطرق بابه يطالبه بالدين ، فيجد من مذلة المطالبة أضعاف ما وجد من لذة الصرف ، وقد ينُسي الفقر  الإنسان  ما ينبغي أن يتذكره ، وفى بعض الأحاديث وهي لم تصل لدرجة الصحة ( اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر ) وفي حديثٍ صحيح : ( أعوذ بك من القِلةِ والذِلة )  القلة في المال والقلة في كل شيء وسيدنا علي يقول : "لو تمثَّل لي الفقر رجلاً لقتلته" ويُروى عن أبى ذر أنه قال : "إذا ذهب الفقر إلى بلد قال له الكفر خذني معك" لأن الفقر ممكن أن يؤدي إلى الكفر ،  من أجل هذا يحارب الإسلام الفقر، ويعالجه بوسائل شتى ،  وليس هناك من فضلٍ لأحدهما على الآخر إلا بالتقوى ، فأيهما أعظم إيمانا وتقوى كان أفضل ، فإن استويا في ذلك استويا في الفضيلة قال تعالى : } إن يكن غنيا أو فقيرًا فالله أولى بهما { وقد كان في الأنبياء والسابقين الأولين من الأغنياء من هو أفضل من أكثر الفقراء ، وكان فيهم من الفقراء من هو أفضل من أكثر الأغنياء ، وقد يكون الفقر لبعض الناس أنفع ، والغنى لآخرين أنفع ، كما تكون الصحة لبعضهم أنفع والمرض لبعضهم أنفع ، كما في الحديث الذي رواه البغوي وغيره عن النبي فيما يروى عن ربه تبارك وتعالى ( إن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك ، وإنَّ من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك ، وإنَّ من عبادي من لا يصلحه إلا الصحة ولو أسقمته لأفسده ذلك ، وإنَّ من عبادي من لا يصلحه إلا السقم ولو أصححته لأفسده ذلك ، إنِّي أدبر عبادي إني بهم خبير بصير ) وقد صح عن النبي أنه قال : ( إن فقراء المسلمين يدخلون الجنة قبل الأغنياء ) وفى الحديث الآخر لما علم الفقراء الذكر عقب الصلاة سمع بذلك الأغنياء ، فقالوا مثل ما قالوا ، فذكر ذلك الفقراء للنبي فقال : ( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ) وتضييق الرزق على بعض الخلق له حكمة اجتماعية ، لأن هذا التفاوت يؤدي إلى نوع من التكامل بين عناصر المجتمع ، وتصور لو أن المجتمع كلهم أغنياء مبسوط لهم الرزق فمن سيقوم على خدمتهم ؟ والعبرة في هذه الحياة ليست بالفقر ولا بالغنى   فهذا أو ذاك لا يغني عنك من الله شيئًا  ، إلا إذا كان سببًا في زيادة الإيمان والتقوى ، لأنه المقياس والمعيار المعتبر عند رب العالمين ، والمهم الرضا وعدم التسخط عند المنع ، وقد قيل : من كان رضاه من الدنيا سد جوعته ، وستر عورته ، لم يكن عليه خوف ولا حزن في الدنيا ولا في الآخرة ، سواء جعله اللّه فقيراً أو غنياً أو ذا كفاف إذا اطمأن قلبه على الرضى .  وإذا وجدت الله يرزق هذا ويمنع عن ذلك فتذكر قول الله تعالى : } أليس الله بأعلم بالشاكرين {  وتذكر قول الله تعالى :        }  وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ {  فعليك بالرضا فإنه ملاك الأمر كله ، وعليك أن تقيس الأمور بمقياس أهل الإيمان ن واعلم أنَّ زيادة النعم قد تكون  استدراجًا   قال صلى الله عليه وسلم : (  إذا رأيت الله تعالى يعطي العبد من الدنيا ما يحب و هو مقيم على معاصيه فإنما ذلك منه استدراج ) وخف من شدة العذاب إنْ لم تكن من شاكري النعم قال تعالى : } لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إنَّ عذابي لشديد {  فهو مشغول بشكر نعمة الله عليه ، فيعطي حق المال من زكاة وصدقة ونفقة في سبيل الله تعالى ، فلا يعرف الترف بابه وإن ملك الملايين ، لأنَّه يعلم أنَّ الله سائله عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه ؟ أما هل كثرة المال أمرٌ مطلوبٌ شرعا ؟ عن علي بن أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ  براعي إبل فبعث يستسقيه، فقال : أما ما في ضروعها فصبوح الحيّ ) أي أن اللبن الذي في ضروعها يحلب في الصباح  (وأما ما في آنيتها فغبوقهم).. أي ما يحلب آخر النهار وبالتالي فإنه ليس هناك شيء زائد نعطيك إياه (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم أكثر ماله وولده ، ثم مرّ براعي غنم فبعث إليه يستسقيه، فحلب له ما في ضروعها، وأكفأ ما في إنائه في إناء رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث إليه بشاة ، وقال: هذا ما عندنا   وإن أحببت أن نزيدك زدناك)  (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم ارزقه الكفاف ، فقال له بعض أصحابه: يا رسول الله!.. دعوت للذي ردك بدعاءٍ عامتنا نحبه، ودعوت للذي أسعفك بحاجتك بدعاء كلنا نكرهه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنّ ما قلّ وكفى، خير مما كثر وألهى  ، ثم دعا لنفسه وآله وقال: اللهم ارزق محمدا وآل محمد الكفاف ) . روي أن رجلا فقيرا قد عضه الفقر بأنيابه  فمر ذات يوم في القرية التي كان يعيش فيها ، يستجدى الناس عطاءهم ، فرأى رجلا جالسا بجوار مجموعة من الصنابير بعضها اشتد ماؤه ، وبعضها ماؤه كثير وبعضها ماؤه قليل ، وبعضها ندر ماؤه فلا يكاد يرى منه إلا خيط رفيع ، والبعض الآخر منها مغلقا ، فتعجب من الرجل وطلب منه أن يصلح ما فسد من الصنابير ، وان يغلق ما يمكن غلقه منها ، فقد حزن لإهدار الماء الذي هو سر الحياة  فضحك الرجل واخبره بان هذه الصنابير هي نصيب كل إنسان في الحياة من الرزق ، فسأله الرجل الفقير أين صنبور رزقي إذن .؟ فأشار الحارس إلى واحد بعيد كانت تتساقط منه قطرات من الماء يتباعد بينها الزمن طويلا ، فقال الرجل الفقير : أهذى رزقى ؟ فقال الحارس نعم ، فقال له الرجل الفقير: ألا يتغير ؟ فرد الحارس كل شيء بأمر الله  فهمس الرجل الفقير لنفسه : وقال سأقوم أنا وأحاول تغييره بيدي ، فامسك مقبض الصنبور وحاول أن يديره ، ولكنه الأمر لم يفلح وبقى الصنبور على حاله ، ففكر قليلا وتذكر ملك المدينة فقرر الذهاب إليه يحكى له عن حاله عل الأمر يتغير فيزداد ماء الصنبور بعد أن يحسن إليه الملك ، فذهب وحكى له حكايته ، فاخبره الملك أن يذهب إلى الخزانة ويأخذ منها ما يشاء ، فذهب الرجل إلى خزانة الملك واخذ منها ما يكفيه وشكر الملك وعاد إلى الصنابير ، علها تكون قد تغيرت واشتد ماء صنبوره ، ولكن عجبا وجد الصنبور على حاله فحاول فيه مرة ثانية ولكنه لم يستجب فتركه وذهب ، وهو في الطريق قابله مجموعة من اللصوص سرقوا منه ما كان قد أخذه من الملك ، فقرر في هذه المرة أن يحضر عودا من الحديد عله يستطيع تغيير رزقه بتسليك الصنبور ، حاول ذلك مرارا وتكرارا ولكنه لم يفلح إلى أن علق عود الحديد داخل الصنبور فتوقف ماؤه نهائيا ولم يعد يخرج منه الماء ، فسال الحارس ماذا حدث ، فقال له :قد انتهى رزقك ولم يعد لك اجل ، فسخر الرجل الفقير من الحارس وقال له ما أعلمك أنت بذلك ، سوف اثبت لك أن ما تقوله غير صحيح ، فانا أمامك على قيد الحياة ، فذهب إلى الملك مرة ثانية وحكى له ما حدث فأمره الملك أن يذهب إلى الخزانة ويأخذ منها ما يشاء فتوجه الرجل إلى الخزانة وملا جراباً كبيرا من الذهب والجواهر  ، ونزل على السلم بما نال من رزق وفير ظنا منه انه قد غير مصيره ، فتعثرت قدماه  وسقط من درج السلم فمات  . قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم : (  نفث روح القدس في روعي أن نفساً لن تخرج من الدنيا حتى تستكمل أجلها وتستوعب رزقها، فأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعصية الله، فإن الله لا ينال ما عنده إلا بطاعته ) رواه الطبراني 

وكثيراً ما تكون عاقبة الطمع الهلاك روى الطبري في تفسيره أن سيدنا عيسى صحب يهودي . وكان مع اليهودي رغيفان ، ومع عيسى رغيف   فقال له عيسى : شاركني. فقال اليهودي: نعم . فلما رأى أنه ليس مع عيسى إلا رغيف ندم ، فلما ناما قام اليهودي ليأكل الرغيف ، فلما أكل لقمة قال له عيسى: ما تصنع ؟ فقال : لا شيء ! حتى فرغ من الرغيف كله . فلما أصبحا قال له عيسى : هلم طعامك ! فجاء برغيف ، فقال له عيسى: أين الرغيف الآخر؟ قال : ما كان معي إلا واحد  فسكت عنه عيسى ، فانطلقوا، فمروا براعي غنم ، فنادى عيسى : يا صاحب الغنم ، أجزرنا شاةً من غنمك . قال : أرسل صاحبك يأخذها. فأرسل عيسى اليهودي ، فجاء بالشاة فذبحوها وشووها، ثم قال لليهودي : كل، ولا تكسرن عظماً ، فأكلا  فلما شبعوا، قذف عيسى العظام في الجلد، ثم ضربها بعصاه وقال : قومي بإذن الله ! فقامت الشاة تثغو، فقال: يا صاحب الغنم ، خذ شاتك   فقال له الراعي : من أنت ؟ فقال : أنا عيسى ابن مريم .     قال عيسى لليهودي : بالذي أحيى هذه الشاة بعد ما أكلناها كم رغيفا كان معك؟ فحلف ما كان معه إلا رغيف واحد . فانطلقا ، حتى مرا على كنـز قال اليهودي : يا عيسى، لمن هذا المال ؟ قال عيسى : دعه   فإن له أهلاً ، فجعلت نفس اليهودي تتطلع إلى المال  ولكنه يكره أن يعصى عيسى، فانطلق مع عيسى .  فقال لليهودي أخرجه حتى نقسمه . فأخرجه ، فقسمه عيسى بين ثلاثة، فقال اليهودي : يا عيسى، اتق الله ولا تظلمني   فإنما هو أنا وأنت وما هذه الثلاثة ؟ قال له عيسى : هذا لي ، وهذا لك ، وهذا الثلث لصاحب الرغيف . قال اليهودي : فإن أخبرتك بصاحب الرغيف ، تعطيني هذا المال ؟ فقال عيسى : نعم قال : أنا هو. قال عيسى : خذ حظي وحظك وحظ صاحب الرغيف ، فهو حظك من الدنيا والآخرة ، فلما حمله مشى به شيئاً، فخسف به .  ومر بالمال أربعة نفر ، فلما رأوه اجتمعوا عليه ، فقال اثنان لصاحبيهما: انطلقا فابتاعا لنا طعاماً وشراباً ودواب نحمل عليها هذا المال ، فانطلق الرجلان فابتاعا دواب وطعاماً وشراباً ، وقال أحدهما لصاحبه : هل لك أن نجعل لصاحبينا في طعامهما سماً، فإذا أكلا ماتا، فكان المال بيني وبينك ؟ فقال الآخر: نعم ! ففعلا  وقال الآخران ، ليقم كل واحد إلى صاحبه فيقتله ، فيكون الطعام والدواب بيننا . فلما جاءا بالطعام قاما فقتلاهما  ثم قعدا على الطعام فأكلا منه فماتا.  

إن الرضى بما قسم الله من علامات الإيمان الحق جاء في  الحديث القدسي يقول الله : ( يا ابن ادم خلقت السماوات والأرض فلم أعي بخلقهن أفيعييني رغيف أسوقه إليك ، يا ابن ادم لي عليك فريضة ولك علي رزق فان خالفتني في فريضتي لم أخالفك في رزقك ، يابن ادم وعزتي وجلالي إن لم ترضى بم قسمت لك  لأسلطن عليك الدنيا تركض فيها ركض الوحش في البرية ولا ينالك فيها إلا ما قسمته لك ولا أبالي ) . 

الطريق إلى نبذ الكراهية والبغض

إن الحكم على الشيء فرع عن تصوره ، وحقيقة الكراهية وجوهرها يتمثل في أمور معينة ، قد تصعب الإحاطة بها  ولذلك يقتضي الأمر ضرورة التعرف إلى معنى الكراهية : فهي لغة من مصدر كره ، فيقال كره كراهية ، والكره ـ بالضم والفتح ـ لغتان ، وهو يعني البغض ، فكَّره إليه الأمر، يعني بغضه فيه ·

ويمكن تعريف الكراهية اصطلاحاً : بأنها البغض القلبي  والنفور الذاتي ، والرفض النفساني ، المتمثل في طغيان مشاعر الصدور  والبعد عن شخص معين ، بسبب ظاهر أو خفي ، ولا غرابة في هذا ، لأن من أحب لسبب فإنه بالضرورة يبغض لضده  لأن الحب والكراهية وجهان لعملة واحدة ، ومن ثمَّ يقول الغزالي: "كل واحد من الحب والبغض داء دفين في القلب ، إنما يترشح عند الغلبة ، ويترشح بظهور أفعال المحبين والمبغضين في المقاربة والمباعدة ، وفي المخالفة والموافقة " ·

يؤكد هذا المعنى قول ابن القيم: " يجتمع في القلب بغض أذى الحبيب وكراهته من وجه ، ومحبته من وجه آخر ، فيحبه ويبغض أذاه " وبذا يتضح معنى الكراهية باعتبارها ضد الحب  وبضدها تتميز الأشياء .

فالكراهية شعور بغيض جدا ، وإذا كانت الكراهية بغيضة  فإن الحقد شعور أقبح من أن يوصف ، وإن الكره والمحبة من المشاعر التي جبل عليها الإنسان    فهناك أُناس نقابلهم ونكرههم من أول نظرة ولا نعرف السبب ، ربما لا نرتاح لهم مع أنهم طيبين ، علماً بأن الإنسان الطيب حينما يكره لا يؤذي من يكرهه   وإنما يبتعد عنه ، أما الإنسان الحقود حينما يكره فإنه يؤذي وتزداد كراهيته وحقده ، ويحاول تشويه من يكره قدر الإمكان ، وهذه صفة الإنسان اللئيم حينما يكره ، لا يهنأ له بال حتى يشوه من يكره ، ويبدأ بنشر الأكاذيب حوله   وتضخيم كل ما يصدر منه . وهناك فرق بين الحقود واللئيم  فالحقود يهنأ باله ويرتاح حينما يشعر أنه انتصر على من يكره  مع العلم أنه بالحقيقة انتصر على الطيبة التي بقيت بذاته ليس إلا   أما اللئيم فلا يهنأ له بال مهما فعل شرا .

لا يٌنْكِر إنسان أن هناك من البغضاء والحقد ، ما ينتشر بين الناس لأي سبب من الأسباب ، وهو ما حرمه الله بين المسلمين قال تعالى : ) كونوا عباد الله إخوانا (  فما أحوجنا للعفو والتسامح ، واستخدام لغة الحب والرحمة بيننا ، رحمة بأنفسنا في الدنيا والآخرة ، فعلى أي شيء يكره المسلم أخاه ، أو يحقد عليه وقد أمر الدين بأن يكونوا رحمة لغيرهم من العالمين ، لا شك أن كره المسلم لأخيه هو أشد تنكير للصفة التي جاء بها حبيبنا صلى الله عليه وسلم فلما لا نكون رحماء بيننا ، ثم كيف ندخل الجنة وقلوبنا مليئة بالبغضاء ، وقد نصت الأحاديث النبوية على أنه لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من غل أو بغض ، ولا أدري لماذا يحرص بعض الناس على أن يكرّهوا غيرهم فيهم ؟ وديننا لا يجيز كراهة المسلم لأحد من المسلمين بدون سبب شرعي ، ولماذا يتصرف بعض الناس بشكل يبعث الاستياء والغضب في النفوس ، سواء بحكم العمل أو الحاجة الشخصية  ولماذا لا يتعلّموا   فن التعامل في العلاقات بين الناس ؟ ولم لا يحاولون رسم ابتسامة نظيفة على وجوههم ، ولو لمرة في حياتهم العابسة ؟ ولم لا يحرصون على كسب ود الناس بدل حرصهم على كسب النفور والاستياء ؟! 

عجبا لأمر هؤلاء الناس وعجبا لبراعتهم في إنماء الروح العدائية لديهم ، والأكثر غرابة عندما يقابلون غيرهم بالابتسامات المزيفة ، والترحيبات الكاذبة ، والبراءة المصطنعة ، ويتصرفون في غياب أولئك الغير على عكس ذلك تماما ، ألا يعرف من كان كذلك أن الحياة فانية ، وان الإنسان لا بد وان يصل إلى تلك المرحلة التي يبدأ فيها بمحاسبة نفسه وتأنيبها حتى على اصغر الأشياء في حياته ، صحيح بأن الحياة فيها كل ما هو جميل وغريب أيضا ، وصحيح بأننا قد نصادف العديد من الأدمغة الجافة والقلوب الملوثة ، ولكنني أتساءل متى يدرك العدائيون أن المفعول السحري للابتسامة في وجه من عرفنا ومن لم نعرف ،  يعود علينا بالفائدة في حياتنا وبعد مماتنا ، وهذا سؤال بسيط يستطيع كل واحد منا أن يجد له جوابا ، فنحن نكره الذين يبغضونا ، لأن الميل الطبيعي لدى الإنسان العادي هو أن يصفع من يصفعه ، وان يشتم من يسبه ، وان يجرح من يخدشه ، فإذا استشعر الكراهية والبغضاء ، اعتمل في قلبه إحساس بالنفور ، لا يلبث أن يصبح كراهية مكبوتة أو سافرة . فالكاره يفترض أمورا تزيد في كراهيته ، وتملاه بالخوف والتوجس . لأن الكراهية في اغلبها خوف ينشأ عن سوء الظن  ووسوسة كاذبة وشك مكدر .

وهناك كراهية التنافس ، ومنها ذا الطابع التجاري ، وهي عملة سهلة يتداولها التجار في السوق . فعندما يحس الواحد أن هناك من يشاركه الكسب أو ينافسه في الفوز بمنفعة ما ، فانه سرعان ما يستجمع رصيده من هذه العملة الزائفة  عملة الكراهية وسوء الظن والهواجس ، وكأن الدنيا ضاقت ، وكأن الخير قد شح  وكان بمقدور الإنسان أن يأخذ طعام غيره ، أو يحجب عنه خيراً قدّره الله له  وهناك كراهية الأشرار : فكثيرا ما يقع الإنسان فريسة لكبريائهم ، فيقسموا الناس إلى أخيار وأشرار  ويضعوا أنفسهم في موضع الرضا ، ويضعوا الآخرين في قفص الاتهام . يرون البقع السوداء في حياة الآخرين ، ويغفلوا عما هم فيه من انحراف ، وعندما تتمكن في عقولهم تلك الفكرة الحمقاء ، بأن هناك أناس على درجة عالية من الفضيلة والأخلاق ، وان هناك آخرين يتمرغون في الأوحال ويلطخون وجه الحياة النظيفة ، فإن قضية الأخلاق عندهم تتحول إلى قضية شخصية ، يحولها كبرياؤهم إلى كراهية للآخرين . وحتى لو صدق تقديرهم للناس ، فانه لا ينبغي أن ننس أن الله يدعونا إلى نبذ الشر ، وأنه لا يدعونا إلى كراهية الأشرار ، بل إلى مساعدتهم حتى يستبين لهم الخطأ من الصواب .

كثيرا ما يكره البعض بعضاً لمجرد التفوق في الحياة . لأن النجاح والشهرة والاحترام التي تحيط بالناجحين ، تجعل الآخرين يحقدوا عليهم ويغاروا منهم  ويتمنوا لو استطاعوا تنحيتهم واستلاب مكاسبهم ، هذه الغيرة تولد كراهية عميقة في القلب . وهي تعمل كالمواد الكاوية في إتلاف خلايا الجسم ، وكم من صحة ضاعت ، وأجساد احترقت ، بنار الحسد والبغيضة والكراهية .

هناك أسباب كثيرة تملئ القلوب بالكراهية للآخرين ، فقد يقع الكره دون سبب معلوم . وقد تكون الكراهية عند البعض جزاءاً من جوهر طبيعتهم الشريرة التي تجنح نحو الخطئية والفساد . وربما يجدوا لأنفسهم الأعذار والمبررات لحقدهم  ولكن الحقيقة أن الذي يكره لا يكره إلا لأنه من الأشرار. فالكاره له عين ترى السوء ولا ترى الخير ، وله لسان لا يشهد بفضل الآخرين ، بل يسعى بالغيبة  والنميمة ، ويا ليته عمل بقول القائل : " اقتلع الكراهية من قلب أخيك باقتلاعها من صدرك أولا " . فكيف نقتلع الكراهية من صدورنا ؟ لا سبيل إلى ذلك إلا بإحلال الحب في القلب مكان الكراهية والحقد . فالحب وحده يقتلع الكراهية من صدور الناس ، والله يدعونا إلى الحب والتحابب ، والدفع بالتي هي أحسن ليتحول العدو إلى صديق ، والبعيد إلى قريب ، والخصم إلى رفيق ، وذلك لأن الإيمان يفرض على الإنسان ، أن يختار الأحسن في حركة العلاقات ، كما يريده اختيار الأحسن في حركة الحياة ، ولعل هذا الهدف يحتاج إلى الكثير من الجهد النفسي والفكري والعملي ، الذي يتجاوز الكثير من الضغوط الداخلية والخارجية التي تريده أو تقوده إلى الاستسلام ، إزاء المشاعر الانفعالية والعدوانية لذلك يقول تعالى:) وما يلقاها إلا الذين صبروا (  على مشاعر الحرمان التي يفرضها الانفتاح على الآخرين، في مجاهدة النفس ضد رغباتها الذاتية وضد نزواتها العشوائية ) وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم ( من الإيمان والوعي على كل معاني الخير والإحسان . 

إن وأد ثقافة الكراهية من مجتمعنا ، بحاجة إلى إعادة الاعتبار إلى الآخر وجوداً ورأياً  ، حتى يتسنى للجميع صياغة العلاقة بين الذات والآخر ، على أسس الاعتراف بحق الآخر في التعبير عن وجوده وأفكاره ، بعيداً عن ضغوط الإكراه وموجبات النفي والإلغاء ، روى أن الحجاج بن يوسف الثقفي كان يسبح يوما في النهر فبلغ به الجهد مبلغه واشرف على الغرق فرآه احد الناس فقفز إلى النهر وامسك به وأنقذه ، فقال الحجاج للرجل أتعرف من أنقذت يا هذا فقال : نعم اعرف ، فقال له : لكن يقال انك تكرهني ، فقال الرجل : نعم أكرهك ، فسأله الحجاج : ولماذا لم تدعني اغرق ؟ فرد عليه الرجل  : والله ما أنقذتك رغبه في نجاتك ، ولكن خشيت أن تموت شهيدا فتدخل الجنة .

  فالاختلاف مهما كان حجمه ، لا يُشرع للحقد والبغضاء وممارسة العدوان  بل يؤسس لضرورة الوعي والمعرفة بالآخر . وعياً يزيل من النفوس الأدران والأحقاد والهواجس ، التي تسوغ بشكل أو بآخر معاداة المختلفين مع بعضهم . ومعرفة تضيء كل محطات العلاقة بمستوياتها المتعددة ، وتحول دون إطلاق الاتهامات الجوفاء التي تضرّ ولا تنفع .

وقد جاء النهي عن الإفراط في الحب والبغض عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فعن زيد بن أسلم عن أبيه قال : قال لي عمر بن الخطاب رضي الله عنه : " يا أسلم لا يكن حبك كلفا ، و لا بغضك تلفا ، قلت : و كيف ذلك ؟ قال : إذا أحببت فلا تكلف كما يكلف الصبي بالشيء يحبه ، وإذا أبغضت فلا تبغض بغضا تحب أن يتلف صاحبك ويهلك " . و عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : أحبب حبيبك هونا ما ، عسى أن يكون بغيضك يوما ما ، وأبغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما " وقال أبو الأسود الدؤلي :

وأحبب إذا أحببت حبا مقاربا    فإنك لا تدري متى أنت نازع

و أبغض إذا أبغضت غير مباين   فإنك لا تدري متى أنت راجع

والمقصود الاقتصاد في الحب والبغض ، لأنّ الإسراف في الحب داع إلى التقصير  و كذلك البغض ، فعسى أن يصير الحبيب بغيضا ، و البغيض حبيبا ، فلا تكن مسرفا في الحب فتندم ، ولا في البغض فتأسف ، لأن القلب يتقلب فيندم أو يستحي ، قال بعض الحكماء : " ولا تكن في الإخاء مكثرا ، ثم تكون فيه مدبرا   فيعرف سرفك في الإكثار ، بجفائك في الإدبار " . ويخشى مع ذلك مع فرط المحبة أن يوافقه على باطل ، أو يقصر معه في واجب النصيحة لله عزّ و جل ، و قد تنقلب هذه المحبة إلى بغض مفرط ، و يخشى عند ذلك إفشاء الأسرار ، و ترك العدل والإنصاف ، وعن الحسن قال :" أحبوا هونا و أبغضوا هونا ، فقد أفرط أقوام في حب أقوام فهلكوا ، وأفرط أقوام في بغض أقوام فهلكوا "

إن من حق الأخ على أخيه ، أن يسكت عن ذكر عيوبه في غيبته وحضرته ، بل يتجاهل عنه ، أما ذكر عيوبه ومساويه في غيبته فهو من الغيبة المحرمة ، و ذلك حرام في حق كل مسلم   ولو أنك طلبت منـزها عن كل عيب ، اعتزلت عن الخلق كافة ، ولم تجد من تصاحبه أصلا كما قال النابغة الذبياني :

ولست بمستبق أخا لا تلُمُّه   على شعث أيّ الرجال المهذّب

فما من أحد من الناس إلا وله محاسن و مساوئ ، فإذا غلبت المحاسن المساوئ فهي الغاية ، والمؤمن أبدا يحضر في نفسه محاسن أخيه ، لينبعث من قلبه التوقير و الودّ و الاحترام ، و أما المنافق اللئيم فإنه أبدا يلاحظ المساوئ والعيوب

قال ابن المبارك : " المؤمن يطلب المعاذير ، والمنافق يطلب العثرات "  ما أحوجنا إلى تلك الثقافة التي تدفعنا إلى تجسير الفجوة مع المختلفين مع بعضهم لِتَحُثَّم على التعارف والتواصل   والتفاهم والحوار المستديم ، وتلزمهم باحترام الآخرين ، وإلى تلك المبادرات ، التي تستهدف إزالة كل ما من شأنه أن يسيء إلى علاقة الأخوة ، ويعمق أواصر التلاقي والمحبة ، من أجل الخروج من دائرة التعصب الأعمى إلى رحاب التواصل والحوار ، ومن ضيق التطرف والغلو إلى سعة الرفق والتيسير ، ومن دائرة الجمود المميتة إلى دائرة التواصل من أجل الحق والحقيقة   وإن ديننا يطلب منا الانعتاق من أسر الجمود والتعصب والأنانية القاتلة ، لنتمكن من مجابهة الظروف والتحديات التي تستهدف أمتنا . ولنأخذ بأسباب العدالة في تعاملنا مع الآخرين ، في نطاق الرؤية التي تقول : "عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به "  

إن الإسلام يتحسس النفوس بين الحين والحين ، ليغسلها من أدران الحقد الرخيص ، و ليجعلها حافلة بمشاعر أزكى وأنقى  نحو الناس ونحو الحياة .

في كل يوم وفي كل أسبوع ، و في كل عام تمر النفوس من آداب الإسلام في مصفاة تحجز الأكدار ، وتنقي العيوب و لا تبقي في الأفئدة المؤمنة أي أثار من للضغائن . أما في كل يوم : فقد أوضح الإسلام أن الصلوات المكتوبة لا يحظى المسلم بثوابها   إلا إذا اقترنت بصفاء القلب للناس ، وفراغه من الغش والخصومات ، قال رسول الله  )ثلاثة لا ترفع صلاتهم فوق رؤوسهم شبرا : رجل أم قوما و هم له كارهون ، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط  وأخوان متصارمان) ابن ماجة . وأما في كل أسبوع : فإن هناك إحصاء لما يعمله المسلم  ينظر الله فيه ليحاكم المرء إلى ما قدمت يداه ، وأسرَّه ضميره ، فإن كان سليم الصدر نجا من العثار ، وإن كان ملوثا بمآثم الغضب والحسد والسخط ، تأخر في المضمار قال رسول  الله   :    r   ( تعرض الأعمال في كل اثنين و خميس : فيغفر الله عز وجل في ذلك اليوم لكل امرئ لا يشرك بالله شيئا إلا امرءا  كانت بينه و بين أخيه شحناء فيقول : اتركوا هذين حتى يصطلحا ) مسلم .

و أما في كل عام : فبعد تراخي الليالي وامتداد الأيام ، لا ينبغي أن يبقى المسلم حبيسا في سجن العداوة ، مغلولا في قيود البغضاء ، فإن لله في دنيا الناس نفحات لا يظفر بخيرها إلا الأصفياء السمحاء . ففي الحديث : ( إن الله عز و جل يطلع  على عباده ليلة النصف من شعبان فيغفر للمستغفرين ، و يرحم المسترحمين  و يؤخر أهل الحقد كما هم ) البيهقي .

فمن مات بعد هذه المصافي المتتابعة ، والبغضاء لاصقة بقلبه ، لا تنفك عنه ، فهو جدير بأن يصلى حر النار ، فإن ما عجزت الشرائع عن تطهيره ، لا تعجز النار عن الوصول إلى قراره  وكي اضغانه وأوزاره ، والشحناء التي كرهها الإسلام و كره ما يدفع إليها أو ينشأ عنها هي التي تنشب من أجل الدنيا وأهوائها ، و الطمع في اقتناص لذائذها والاستئثار بمتاعها .

أما البغض لله ،  والغضب للحق  ، والثورة للشرف ، فشأن آخر ، وليس على المسلم جناح في أن يقاطع حتى الموت ، من يفسقون عن أمر الله   أو يعتدون على حدوده وليس عليه من لائمة ، في إن يُكْنّ َ لهم البغضاء ويجاهرهم بالعداء . بل إن ذلك من أمارات الإيمان الصحيح والإخلاص لله وحده .

وقد أمر الله عز و جل أن نجافي أعداءه ، ولو كانوا أقرب الناس إليه : ) يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا آبائكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ، ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون ( التوبة 23 .

و ابتعاد المسلم عمن تسوء صحبتهم أو من يغرون بالتهاون و الهزل واجب وابتعاده عمن أخطأ في حق الله ، عقابا له ، إلى أجل محدود أو ممدود ، لا شيء فيه ، فقد هجر النبي بعض نسائه أربعين يوما . وهجر عبد الله بن عمر ولدا له حتى مات   لأنه رد حكما لرسول الله ، كان أبوه يرويه في إباحة خروج النساء إلى المساجد . أما أن يتلمس المسلم العيوب لأخيه المسلم ، وإلصاقها به عن تعمد فذلك جريمة يدفع إليها الكره الشديد عدها الإسلام من أقبح الزور ، لما روت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : ( أتدرون أربى الربا عند الله ؟ قالوا الله ورسوله أعلم ، قال : فإن أربى الربا عند الله استحلال عرض امرئ مسلم ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ) والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبينا ( أبو يعلى .    

 

 

 

 

 

 

العمل الخيري في الإسلام

 

فعل الخير : هو كلُ عملٍ نافع ٍ للأمة في أمر دينِها ودنياها ، مما يُرضي اللهَ عزَّ وجلَّ  وكل إنسان أوصَلَ ذلك أو سعى إليه , أو عمِلَ للانتفاع بهِ , فهو مِن الصالحين جاء في الحديثِ القدسي : ( إنَّ مِن عبادي مَن جعلتُه مِفتاحاً للخير ويسَّرتُ الخيرَ على يديه , وإنَّ مِن عبادي مَن جعلتُه مِفتاحاً للشر ويسَّرتُ الشرَ على يديه   فطوبى لمَن جعلتُه مفتاحاً للخير مِغلاقاً للشر , وويلٌ لمَن جعلتُه مِفتاحاً للشر مِغلاقاً للخير ) وروى مسلم عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من دل على خير فله مثل أجر فاعله ) وهذا تشجيع عظيم على التعاون على فعل الخير  وروى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة .. الحديث ) وهنا يأتي دور مساعدة المؤمن لأخيه المؤمن بالنظر في سبب الكربة ، فإن كانت من جهة فقره وحاجته ، ساعده حتى يسد حاجته ، سواء أكان من ماله   أو من مساعيه الحسنة ، وإن كانت كربته بسبب مصيبة حلت به واساه وعزاه ، وإن كانت بسبب حاجته على زواج سعى في تزويجه ، أو بسبب حاجته إلى عمل   سعى لتهيئة العمل الملائم له ، أو بسبب حاجته إلى تداوٍ من علة ، سعى له فيما يريد .. وهكذا ، فجزاؤه عند الله بأن ينفس عنه كربة من كرب يوم القيامة ، ولو جمعت كل كرب الدنيا ، لا تعادل بعض كرب يوم القيامة  ونعم الثواب ثواب من ينفس الكرب عن إخوانه المؤمنين في هذه الحياة الدنيا .

 

وعمل الخير له أهميته في الإسلام ، فقد اعتنت الشريعة به عناية بالغة ، لإغاثة الملهوف ومساعدة المحتاج ، دون مقابل مادي ، ابتغاء مرضاة الله ورجاء الثواب عند الله وهو من المقاصد الشرعية ، التي تنحصر في المحافظة على الدين والنفس والنسل والعقل والمال ، والمحافظة على العرض ، وقد جاء في القرآن والسنة النبوية ، ما يأَمْرٌ به أو يرغب فيه ، وفي بعضها نهيٌ عن ضده أو تحذيرٌ منه وجاء في بعضها مدح لفاعلي الخير ، وذم لمن لا يفعل فعلهم ، وفيها ما يثني على فعل الخير في ذاته أو الدعوة إليه والتنافس فيه قال تعالى:{ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }الحج 77 وفي قول الخير قال تعالى:{ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا } البقرة  83 ، وفي الحديث: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت ) . وفي  المسارعة إلى الخير قال تعالى: { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } آل عمران 133 ، كما حرص الإسلام على دفع المؤمنين إلى التسابق إلى عمل الخير فقال تعالى:{ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا } المائدة48، وإلى أن يقوم فريق من الناس بالدعوة إلى الخير لقوله تعالى: { وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ } آل عمران 104 .

 

وقد حرض المؤمنين على عقد النية لعمل الخيرات ، حتى ولو لم تتيسر الظروف لفعله ، فإنهم يثابون على نية فعل الخير ، لحديث أبي كبشة الأنماري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إنما الدنيا لأربعة نفر : عبد رزقه الله مالا وعلما، فهو يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقا، فهذا بأفضل المنازل، وعبد رزقه الله علما ولم يرزقه مالا، فهو صادق النية، يقول : لو أن لي مالا لعملت بعمل فلان، فهو بنيته، فأجرهما سواء، وعبد رزقه الله مالا، ولم يرزقه علما، يخبط في ماله بغير علم  ولا يتقي فيه ربه ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله فيه حقا، فهذا بأخبث المنازل ، وعبد لم يرزقه الله مالا ولا علما، فهو يقول: لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان فهو بنيته ، فوزرهما سواء ) احمد .

 

 وقد رفع الإسلام من شأن عمل الخير ، ولو كان صغيرا لقوله تعالى: { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ } الزلزلة  7 ،  وقال صلى الله عليه وسلم : ( سبق درهم مئة ألف درهم قالوا : وكيف؟ قال: كان لرجل درهمان ، تصدق بأحدهما   وانطلق رجل إلى عرض ماله فأخذ منه مئة ألف درهم فتصدق بها ) وفي هذا صيانة لكرامة من يفعل المعروف القليل   من احتقار الناس لفعله ، ومن هذا القبيل قول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( اتقوا النار ولو بشق تمرة ) البخاري ومسلم .

 

كما يدعو الإسلام إلى التعاون على فعل الخير وتقديم العون للمحتاجين قال تعالى: { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى } المائدة 2 . وجاء في الحديث : ( والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ) . وجاء في النصوص ما يدل على أن ثواب عمل الخير ، كالمجاهد في سبيل الله   إذا  تحرى الحق ، وابتغى وجه الله بعمله لما روي عن رافع بن خديج قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( العامل على الصدقة بالحق  كالغازي في سبيل الله حتى يرجع  )   وما ورد عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدة ، كان لها أجرها بما أنفقت ولزوجها بما اكتسب ، وللخادم مثل ذلك ، لا ينقص بعضهم من أجر بعض شيئا ) .

 

وجاء في القصص والحكم والأمثال والأشعار ما فيه استحثاث الناس على فعل الخير ، وعدم تعجل نتائجه  فإنها آتية ولا ريب ، فإن لم تأت عاجلا فلسوف تأتي آجلا لا محالة ولقد أحسن القائل :

 

من يفعل الخير لا يعدم جوازيه   لا يذهب العرف بين الله والناس

 

ففاعل الخير لن يذهب سعيه سدى ، قصر الزمن أو طال ،  كان مزارعٌ إسكتلنديٌ فقيرٌ يعمل في حقل، فسمعَ صوتَ إستغاثةٍ مِن مُستنقعٍ قريب فذهب إليه فوجد صبياً غارقاً حتى مُنتصفِ جسمِهِ ، وبلا تردد.. أنقذَ الصبيّ ، وفي صباحِ اليومِ التالي، توقّفت عربةٌ أنيقةٌ عند كوخ المزارع   ونزلَ مِنها رجلٌ أنيق، قدّم نفسهُ للمُزارع على إنه والدُ الصبيّ الذي كان على وشكِ الغرق وقال له:  أرغبُ بِمُكافأتكَ على إنقاذِ ولدي ، ولكن المُزارع رفض العرض   رأى الرجل ولداً أمام الكوخ ، وسأله : أهذا ابنك؟ أجاب المزارع : نعم هو ابني ، فعرض الرجل عليه قائلاً : دعني أُوفّر لابنك نفسَ الفُرص التعليمية التي أُوفّرها لابني   قبل المزارع هذا العرض  وقد كبُر الولد ودرسَ في أحسنِ المدارسِ، وتخرّج مِن مدرسةِ (مشفى سانت ماري) وأصبح مشهوراً في كلّ بقاعِ العالم ، أتدرون من هو ؟ إنه العالِم (ألكسندر فيلينغ) مكتشف البنسلين ، وبعد سنواتٍ ، أُصيب الرجل الذي كان على وشك الغرق في المستنقع وهو صغير بمرضِ (ذات الرئة)   فأنقذ حياته البنسلين ، الذي اكتشفه ابن المزارع .

 

فالتعاون على الخير ، مظهر من مظاهر وحدة الجماعة  فقد يستطيع الفرد المساهمة في بعض عمل الخير ، ولا يستطيع القيام بكل العمل ، في حين يستطيع الفرد القيام بما يعجز عنه صاحبه ، ومساهمة كل منهما بما يستطيع  يحقق مبدأ التكافل  ولذلك جعل الإسلام ثواب من ساهم في فعل الخير ، كثوابه فيما لو فعل الخير كله  قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من دل على خير فله مثل أجر فاعله ) مسلم .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

السماحة في الإسلام

 السماحة هي طيب في النفس ، وانشراح في الصدر ولين في الجانب ، وذلة على المؤمنين دون ضعف ومهانة  وصدق في التعامل دون غبن وخيانة، وتيسير في الدعوة إلى الله دون مجاملة ومداهنة، وانقياد لدين الله دون تشدد بها تصفو القلوب قال صلى الله عليه وسلم : ( خير الناس ذو القلب المحموم واللسان الصادق، قيل : ما القلب المحموم؟ قال : هو التقي النقي الذي لا إثم ولا بغي ولا حسد قيل : فمن على أثره؟ قال : الذي يشنأ الدنيا ويحب الآخرة  قيل : فمن على أثره قال : المؤمن في خلق حسن) صحيح الجامع  

إن الغـلـظـة التي نراها في التعامـل بيننا ، ليست من ديننا في شيء ، وإن الجفاء الذي نجده ، يتنافى مع سماحة الإسلام ، لأن المؤمن الحقيقي ،سمح مألوف قال صلى الله عليه وسلم : ( المؤمن يألف ويُؤلف، ولا خير فيمن لا يَألف ولا يؤلف ، وخير الناس أنفعهم للناس) صحيح الجامع . بل إن السماحة هي من أفضل الإيمان قال صلى الله عليه وسلم : ( أفضل الإيمان الصبر والسماحة) صحيح الجامع. وقد امتدحت الأحاديث النبوية السماحة في البيع والشراء والقضاء قال صلى الله عليه وسلم : (إن الله تعالى يحب سمح البيع، سمح الشراء سمح القضاء) رواه الترمذي وهو في صحيح الجامع. وامتدحت السماحة في الدَّيْنِ والاقتضاء قال صلى الله عليه وسلم :( رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى) رواه البخاري . وفي هذا يعلق ابن حجر بقوله : " السهولة والسماحة متقاربان في المعنى ، والمراد بالسماحة ترك المضجرة ونحوها ، وإذا اقتضى أي طلب قضاء حقه بسهولة وعدم إلحاف ، وإذا قضى : أي أعطى الذي عليه بسهولة بغير مطل ، وفيه الحض على السماحة في المعاملة ، واستعمال معالي الأخلاق ، وترك المشاحنة   والحض على ترك التضييق على الناس في المطالبة ، وأخذ العفو منهم " ، وأكثر ما تكون الخصومات في المعاملات المالية ، والمناظرات الخلافية  والملاسنات الكلامية ، وقلّ أن يسلم فيها من لم يتحلّ بكرم الخلق ، وجود النفس  وسماحة الطبع .

وكم نحن بحاجة إلى السماحة في طلب الدَّيْنِ وإنظار المعسرين، والتجاوز عن المعوزين وقضاء حوائج الناس في تواضع وسماحة ، حتى تدركنا رحمةُ الله برحمة خلقه  فإنظار المعسر ، أو التجاوز عن القرض أو عن جزء منه   صورة عظمية من صور الكرم ، وسماحة النفس ، قال   صلى الله عليه وسلم : (كان تاجر يداين الناس ، فإذا رأى معسرًا قال لفتيانه : تجاوزوا عنه ؛ لعل الله أن يتجاوز عنا   فتجاوز الله عنه) رواه البخاري . بل إن توفيق الدنيا والآخرة مرهون بتيسيرك على أخيك المعسر : (من يسّر على معسرٍ يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة) رواه مسلم .

وصاحب السماحة لا يحرص على إيقاع الناس في الحرج   ولا يشغله التفكير بما له ، عن التفكير بما عليه من سماحة مع إخوانه وتقديره لظروفهم ، جاء في الحديث الصحيح : ( أن الصحابي أبا اليسر كان له على رجل قرض ، فلما ذهب لاستيفاء حقه ، اختبأ الغريم في داره ، لئلا يلقى أبا اليسر ، وهو لا يملك السداد ، فلما علم أبو اليسر أن صاحبه يتخفى منه حياء لعدم تمكنه من أداء ما عليه ، أتى بصحيفة القرض فمحاها وقال: إن وجدت قضاء فاقض، وإلا فأنت في حلّ ) رواه مسلم . وبسماحته تلك أخرج أخاه من الحرج الشديد .

ومن السماحة أن نتحمل جهل الجاهل، وفورة الغاضب  لأن الفظاظة ليست من ديننا قال تعالى : ] ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك [ فما أحوجنا إلى هذا الخلق ، في زمن بلغ فيه البغض غايته، ورفع فيه الحسد رايته ، ما أحوجنا إلى السهولة واليسر، والسماحة والتجاوز ، حتى نعيش في هذه الدنيا بهناء، ونكون يوم القيامة سعداء قال صلى الله عليه وسلم : ( من كان سهلاً ليناً هيناً حرمه الله على النار) صحيح الجامع .

والسماحة لها أثر عظيم تنشأ به محبة القلوب ، ومودة النفوس ، وعندما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أحب الدين قال : (الحنيفية السمحة) . إننا بحاجة إلى هذه السماحة بين الأهل والأحباب ، وبين المختلفين من الناس، وبين الأزواج والزوجات، وبين الأبناء والآباء والأمهات    فهي عظيمة في أجرها وثوابها  وفي أثرها ونفعها، دلت عليها المواقف النبوية كما في قصة الشاب الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الزنا ، فنهره الصحابة فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (مه مه ادن مني) فدنا منه الشاب، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : أترضاه لأمك، قال: لا فداءك أبي وأمي يا رسول الله  قال: والناس لا يرضونه لأمهاتهم ثم قال: لأختك  ثم قال: لابنتك ثم قال: لخالتك ثم وضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على صدره ودعا له فقال: اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه وحصن فرجه)  فكان من أثر ذلك أن قال هذا الغلام كما في رواية أخرى : (ما صار شيء أبغض إلى نفسي من الزنا) رواه   أحمد من رواية أبي أمامة . وتتجلى هذه السماحة النبوية عندما سمع النبي صلى الله عليه وسلم في الطواف أعرابيا يقول: يا كريم ، فقال النبي خلفه: يا كريم فمضى الإعرابي إلى جهة الميزاب وقال: يا كريم فقال النبي خلفه : يا كريم فالتفت الإعرابي إلى النبي   وقال : يا صبيح الوجه, يا رشيق القد أتهزأ بي لكوني أعرابيا؟‎ والله لولا صباحة وجهك ، ورشاقة قدك   لشكوتك إلى حبيبي محمد صلى الله عليه وسلم  فتبسم النبي وقال: أما تعرف نبيك يا أخا العرب ؟ قال الأعرابي : لا ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : فما إيمانك به؟ قال : اّمنت بنبوته ولم أره وصدقت برسالته ولم ألقه ، قال النبي : يا أعرابي , اعلم أني نبيك في الدنيا وشفيعك في الآخرة ، فأقبل الأعرابي يقبل يد النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي : مه يا أخا العرب
لا تفعل بي كما تفعل الأعاجم بملوكها, فإن الله سبحانه  
بعثني  ، لا متكبراً ولا متجبراً, بل بعثني بالحق بشيراً   ونذيراً فهبط جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم  وقال له: يا محمد !  السلام يقرئك السلام ، ويخصك بالتحية والإكرام  ويقول لك : قل للإعرابي لا يغرَّنَه حلمنا ولا كرمنا,فغداً نحاسبه على القليل والكثير ، والفتيل والقطمير  فقال الأعرابي: أو يحاسبني ربي يا رسول الله؟ قال : نعم يحاسبك إن شاء ، فقال الأعرابي: وعزته وجلاله, إن حاسبني لأحاسبنه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : وعلى ماذا تحاسب ربك يا أخا العرب ؟ قال الأعرابي : إن حاسبني ربي على ذنبي حاسبته على مغفرته ، وإن حاسبني ، على معصيتي حاسبته على عفوه ، وإن حاسبني على بخلي حاسبته على كرمه ، فبكى النبي صلى الله عليه وسلم  حتى إبتلت لحيته ، فهبط جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم وقال : يا محمد ! السلام يقرئك السلام  ويقول لك : يا محمد ! قلل من بكائك فقد ألهيت حملة العرش عن تسبيحهم ، وقل لأخيك الأعرابي لا يحاسبنا ولا نحاسبه ، فإنه رفيقك في الجنة " .

قد يوسوس الشيطان للمسلم : إنك لو تسامحت وصفك الناس بالعجز ، وظنوا فيك الضعف ، ولأَنَ تُؤْثِرَ أن يقال فيك ما يقال خير لك من الوقوع في الفجور ، بحيث يخشى الناس شرّك ، وقد ورد في الحديث : (يأتي عليكم زمان يُخيَّر فيه الرجل بين العجز والفجور ، فمن أدرك ذلك الزمان فليختر العجز على الفجور) رواه أحمد .

ومما يتنافى مع السماحة الانزلاق إلى الخصومة قال صلى الله عليه وسلم : (أبغض الرجال إلى الله الألدُّ الخَصِم) رواه البخاري . قال ابن حجر في الفتح : " الألدّ : الكذاب  وكأنه أراد أن من يكثر المخاصمة ، يقع في الكذب كثيرًا ، وحين يفتقد المرء السماحة ، تجده ينحدر في أخلاقه ، إلى أن ينجرف إلى التصايح والجدل لأمر يعلم بطلانه قال صلى الله عليه وسلم : ( ومن خاصم في باطل - وهو يعلمه - لم يزل في سخط الله حتى ينـزع عنه ) رواه أبي داود .  

إن خلق السماحة يقتضي من صاحبه المبادرة إلى التنازل  عند الوقوع في أي موقف جدلي ، وقد حُرمت الأمة العلم بميقات ليلة القدر ، وما فيها من الخير الكبير؛ بسبب انعدام روح السماحة بين رجلين من الأمة كما اخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم  (خرجت لأخبركم بليلة القدر  فتلاحى فلان وفلان فرُفعت) رواه البخاري . وكم تُحرم الأمة من البركات والنعم والنصر ، حين تدب الخصومات ، بل إن الصفة الأساسية من أخلاقيات المنافق أنه إذا خاصم فجر كما جاء في حديث البخاري .

 وإن مما يتنافى مع روح السماحة أن يقع الإخوة في جدالات لأمور سياسية ، أو قضايا فكرية ، أو توقعات غيبية ، ثم تجدهم ينفضّون متباغضين بسبب ذلك قال صلى الله عليه وسلم : (ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أُوتوا الجدل) رواه ابن ماجه . ولحث المسلمين على السماحة والتنازل عند الاختلاف ، وعدم الوقوع في مغبة الجدل ، تعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيت في الجنة لمن تنازل : ( أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقـًا) رواه أبي داود . ومن نتائج انعدام روح السماحة أن تتبارى الأمة بألسنتها   فتنقلب إلى أمة كلام ، بدل أن تكون أمة عمل ، وتضيع الأوقات في الشد والجذب والأخذ والرد ، وكل يناصر رأيه ، وكان مما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمته (منعـًا وهات) ، ومما كره لهم : ( قيل وقال ، وكثرة السؤال  وإضاعة المال) رواه البخاري .

 

 

 

التربية الجهادية

لقد جعل الإسلام حراسة الحق أرفع العبادات أجرا ، ولذلك حمل المسلمون في صدر الإسلام وعلى مدار التاريخ وحتى عهد قريب لواء الجهاد ، من أجل إحقاق الحق وإبطال الباطل .

( قيل يا رسول الله ! ما يعدل الجهاد في سبيل الله ؟ قال : لا تستطيعونه ، فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثاً ، كل ذلك وهو يقول : لا تستطيعونه ثم قال : مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله ، لا يفتر من صلاة ولا صيام حتى يرجع المجاهد في سبيل الله ) البخاري .

آمنوا بأن الموت في سبيل الله لإعلاء كلمة الله ونصر دينه هو تكريمٌ إلهي ، حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم حلف يرجو هذا المصير فقال : ( والذي نفس محمد بيده لوددت أن أغزو في سبيل الله فأقتل ، ثم أغزو فأقتل ) البخاري .

ولذلك كانت صيحة الجهاد تستهوي المسلمين ، ولهذا بذل أعداء الله جهوداً كبيرة لشغل المسلمين عن هذه الذروة النبيلة  ليضمن سيطرته على المسلمين دون مقاومة ، فماذا فعلوا لتحقيق ذلك ، لقد عملوا على تكثير الشهوات أمام العيون الجائعة ، وتوهين العقائد والفضائل التي تعصم عن الدنايا  وإبعاد الإسلام شكلاً وموضوعاً عن مجالات الحياة ، وتوهين روابط الأخوة بين المسلمين ، وها نحن نلمس نجاحهم ، إذ لم يستطع المسلمون توحيد صفوفهم ، لصد العدو الذي احتل أرضهم واستباح مقدساتهم ، أتدرون لماذا ؟ لأن المسلمين تحللوا من الإيمان وفرائضه ، والقرآن وأحكامه ، ويوم يرجع المسلمون إلى منهج ربهم ، فإن النصر سيكون حليفهم ، لأن المسلم إذا تسلَّح بسلاح العقيدة ، لأنها لبنة الأساس ، ولا يقبل الله من قوم شريعتهم إلا إذا صحت عقيدتهم ، ولن يكون لنا عز إلا إذا تربينا من جديد على العقيدة ، فمن تربى عليها وقاتل في سبيل الله ، فلن يقف دونه شيء ، أسوق لكم هذه القصة للدلالة على ذلك : روى فيما مضى أن قوماً كانوا يعبدون شجرة من دون الله ، فخرج رجلٌ مؤمن من صومعته   وأخذ معه فأساً ليقطع بها تلك الشجرة ، غَيْرَةً لله وحَميّة لدينه   فتمثل له إبليس في صورة رجل وقال له : إلى أين أنت ذاهب ؟ قال : أقطع تلك الشجرة التي تعبد من دون الله ، فقال له اتركها وأنا أعطيك درهمين كل يوم ، تجدها تحت وسادتك إذا استيقظت كل صباح ، فطمع الرجل في المال وانثنى عن غرضه   فلما أصبح لم يجد تحت وسادته شيئاً ، وظل كذلك ثلاثة أيام   فخرج غاضباً ومعه الفأس ليقطع الشجرة ، فاستقبله إبليس قائلاً : إلى أين أنت ذاهب ؟ قال : أقطع تلك الشجرة ، فقال له إبليس ارجع فلو دنوت منها قطعت عنقك ، فقد خرجت في المرة الأولى غاضباً لله ، فما كان يقدر عليك احد ، أما وقد خرجت للدنيا فلا مهابة لك ، ولن تستطيع تحقيق هدفك .

لقد استمات عدونا في محو الإيمان الخالص وبواعثه المجردة  في نفوسنا ، استمات في تعليق الأجيال بعرض الدنيا ولذة الحياة  استمات في إرخاص القيم الرفيعة ، وترجيح المنافع العاجلة  لأن وجود عبيد الحياة ومدمني الشهوات ، يجعل العدوان سهلاً ولا يلقى مقاومة ، ولصد العدوان لا بد من بناء المجتمع على قواعد الدين وإحكامه ، لأنه السياج الذي يحمينا في الدنيا وينقذنا في الآخرة ، فترك صلاة ما هو إضاعة لفريضةٍ مهمة  وإشباع النـزوة قد يؤدي إلى ارتكاب جريمة ، وهذا وذاك يمثلان في الأمة المنحرفة عن طريق الحق ، انهيار المقاومة المؤمنة   والتمهيد للتسليم للعدوان ، دون رغبة في جهاد أو أمل في استشهاد ، ولعل هذا سرُّ قوله تعالى : } فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا { مريم 59 . كان لكلمة الجهاد إذا ما ذكرت أثراً بعيد المدى ، لأن التربية الدينية ترفض التثاقل إلى الأرض ، والتخاذل عن الواجب وهذه التربية هي التي تفتقر إليها أمتنا ، فتراها تنظر لمن يعانوا في ظل الاحتلال نظرة المتفرج ، لا تهب لنجدته ، ولذلك فنحن بحاجة إلى تربية أجيال صالحة لخدمة الحق ، ورد العدوان عن الأمة .

وعندما تمكن الأعداء من السيطرة على العالم الإسلامي  حرصوا على أن يحولوا بين الأمة وروح الجهاد ، وحاولوا بشتى الطرق على أن لا تربى الأجيال المسلمة على روح الجهاد   فعملوا على تنشئة جيل يبحث عن الشهوات ، ويخلد إلى الأرض   فأصبحت الأمة بهذا الجيل ، جسداً لا تملك أمرها   ولا تحكم يومها ولا غدها ، بل إنها في تبعيتها للغرب أهملت كل ما من شأنه أن يجعلها في مصاف الأمم المصنعة ، لتكون مستهلكة حيث تبيع ثرواتها المعدنية والزراعية ، بأكوامٍ من المواد المستهلكة ، وأدوات الزينة والترف ، مع فقرها المدقع إلى ما يدفع عنها جشع العدو ، ونياته السود في اغتيالها وإبادتها وقد جاء هذا الواقع نتيجةً حتميةً لاتخاذ القرآن مهجورا   ونبذ تعاليمه ، إلا من ممارسة بعض الآثار الدينية السهلة ، بترك اللباب والاهتمام بالقشور ، المتعلقة بالمندوبات والمستحبات  وبعض الاحتفالات ببعض المناسبات ، تعبيراً عن حب الرسول r مع أن حباً غايته احتفال أو صلواتٌ تفلت من الشفتين  مصحوبة بعواطف ، قلما تتحول إلى عمل كبير وجهاد خطير   في وقتٍ يُهمل منهج الله أمرٌ مرفوض ديناً ، إن لم يكن ضرباً من النفاق ، وقد يكون حبهم تمسكاً شديداً ببعض النوافل  وهروباً تاماً من بعض الفرائض ، فحب الله ورسوله يوم يكون لقباً يضفيه عليه الكسالى ، هو حب لا وزن له ، ويوم يكون قراءة لكتابه في مواكب الموت ومجالس العزاء ، فهو حبٌ لا وزن له ولا اثر .

 وإني ألمح في كل ناحية استهانة بالفرائض ، وإيثاراً للسطوح عن الأعماق ، والأشكال عن الحقائق ، فهل بهذا نعيد مجداً تهدّم ، أو نرد عدواً توغل ؟ ومن هذا حالهم ما قدّروا دين الله حق قدره ، ولا غالوا بشرف الانتساب إليه ، عندما ابتلوا بالتقصير فيه ، بل إن فيهم من يريد العيش بعيداً عن رسالته زاهداً في دعوته ، ينأى بنفسه عن ميدان الشرف والسيادة  ومقومات الحق في الدنيا والآخرة . لقد جرب المسلمون الانسلاخ عن دينهم وترك جهاده ، فماذا أصابهم بسبب ذلك   حصد خضراءهم في الأندلس ، فخلت منهم بلاد طالما ازدانت بهم وعنت لهم ، فعرب الأندلس لم يتحولوا عن داره طائعين  ولكنهم أخرجوا مطرودين ، وها هي بلاد المسلمين تتهاوى وتتساقط الواحدة تلو الأخرى ، لتضيف المزيد إلى تعداد الدول الإسلامية المغتصبة بعد الأندلس وها هو الحال يتكرر في فلسطين وأفغانستان والعراق وغيرها ، وما من ملبّ وما من مجيب! ترى هل سكرت أبصارنا؟! أم ضرب على أسماعنا  فلم تعد أنات إخواننا وصرخات أسرى المسلمين تصل إلى أذاننا؟ نرى صور الصواريخ التي تهدم وتقتل ، والجرّافات التي تقتلع الأشجار والمزروعات ، وصور من يئنون ويصرخون من قلة الموارد والزاد بسبب الحصار ، ينادون وامعتصماه ؟  

إن ما أصاب المسلمين من ذل وهوان ، وضياع للديار وتسلط الكفرة الفجار ، لم يكن إلا بسبب ترك الجهاد والقعود عن القتال ، وهذا من العذاب الذي يعد الله به تعالى تاركي الجهاد } إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {  إن الاكتفاء  بالحديث عن فلسطين وأفغانستان وغيرهما لا يكون إلا من الضعفاء والعاجزين ، ورغم أنه حديث يثير الأسى ، إلا أنه حين يصدق ، لا يزيد عن شعارات ، سرعان ما تنطفئ أمام واقعتا الأليم . ولذلك شرع الله القتال لأنه يمثل المعركة الحقيقية بين الحق والباطل ، وبين جند الله وجند الطاغوت}الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ {  وحينئذ... لن يقف أمامنا يهود أو نصارى أو ملاحدة... } وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ   { .

 

 

 

 

 

العنف وحرمة الدم

 

خلق الله الإنسان وكرمه ) ولقد كرمنا بني آدم ( وفضله على كثير ممن خلقه  )ولقد خلقنا الإنسان في أحسن  تقويم ( وجعل حفظ النفس البشرية من الضروريات الخمسة ، وقرر الإسلام لكل جارحة في جسم الإنسان دية أو قصاصا ، واعتبر الاعتداء على النفس من الكبائر فقال : ( اجتنبوا السبع الموبقات ) وقد صانها الله تعالى فقرر حرمتها وحرّم المس بها .

 

وقد أرسى النبي صلى الله عليه وسلم قواعد المجتمع المسلم ، وشدد على حرماته تشديداً عظيماً.

 

ففى الصحيحين من حديث ابن عباس وأبى بكر أن النبى صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم النحر في منى وقال: ( أتدورن أى يوم هذا ؟ ) . فرد الصحابة رضوان الله عليهم  في أدب جماعي : الله ورسوله أعلم ، قال صلى الله عليه وسلم : ( أليس يوم النحر؟ ) قالوا : بلى قال صلى الله عليه وسلم : ( أليس ذا الحجة ؟ ) قالوا : بلى فسألهم  صلى الله عليه وسلم : ( أى بلد هذا ؟ )  قالوا : الله ورسوله أعلم  فقال صلى الله عليه وسلم : ( أليس البلد الحرام ؟ ) قالوا : بلى فقال لهم  صلى الله عليه وسلم : ( إن دماءكم وأولادكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا فى شهركم هذا فى بلدكم هذا ) ثم قال صلى الله عليه وسلم : ( ألا هل بلغت  اللهم اشهد )  وأعادها مراراً بأبى هو وأمى ثم التفت إلى الصحابة وقال : ( فليبلغ الشاهد الغائب ) ثم قال : ( لا ترجعوا بعدى كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ) . إن موضوع الدماء موضوع هامٌ جدا ، لأنه يتعلق بحق الحياة ، وإن أول حق للفرد المسلم على المجتمع المسلم هو حق الحياة ، وهو أعظم حق ضمنته الشريعة الإسلامية للإنسان في الأرض ، ولا ينبغي لأحد البتة أن يسلب هذه الحياة إلا بأمر الله ، في نطاق الحدود التي شرعها، ولا يسلب الروح إلا الله وحده ، ولهذا اعتبر الإسلام سفك الدماء جريمة بشعة تأتى مباشرة بعد جريمة الشرك بالله ، ورغم هذا الإثم الكبير فقد انتشرت في مجتمعاتنا جرائم القتل إما بدافع التناحر على السلطة ، وإما بدافع السرقة ، وإما بدافع الثأر البغيض الأعمى وإما بدافع انتهاك الأعراض أو الاغتصاب ، وكأنهم لم يسمعوا كلام الله فى كتابه الكريم : ) وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ( 93 سورة النساء . وفى صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يُصِبْ دما حراما ) . وكان ابن عمر يقول : " إن من موبقات الأمور التي لا مخرج منها إن أوقع نفسه فيها- الدم الحرام بغير حله " .  وفى الحديث الصحيح الذى رواه أحمد وأبو داود والنسائي  من حديث معاوية رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا من مات مشركا أو قتل مؤمنا متعمداً ) . وفى الحديث الصحيح الذي رواه النسائي من حديث بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( قتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا ) .   بل من أعجب الأحاديث الصحيحة التي قرأتها في هذا الباب ما رواه النسائي والبخاري في التاريخ الكبير وصحح الحديث الألباني في صحيح الجامع من حديث عمرو بن الحمق الخزاعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من أمن رجلا على دمه فقتله فأنا برئ من القاتل وإن كان المقتول كافرا ) . هذه الأحاديث تدل على أن حرمة الدماء عظيمة عند رب الأرض والسماء فمن أجل ذلك جعل الدماء هي أول شئ يقضى فيها بين العباد يوم القيامة كما في الصحيحين عن أبى هريرة أن النبي صلى الله علـيه وسلـم قـال   : ( أول ما يقضى فيه بين الناس يوم القيامة في الدماء ) . فإذا ما وزنت الموازين وتطايرت الصحف وغرق الناس في عرقهم على قدر أعمالهم ، وأتى بجهنم لها سبعون ألف زمام ، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها ، ينادى على القاتل المجرم الذي سفح الدماء بغير حل ، ليقف بين يدي الملك الحق   وينادى على كل قتيل قتله فيتعلق كل قتيل بالقاتل وأعناقهم تسيل دما ، ويتعلقون به وهو يصرخ ويستغيث بين يدي الملك الحق ويقول: يا رب سل هذا فيم قتلنا ؟ فماذا سيكون جواب القاتل ؟  إن ظاهرة العنف بكل أشكالها ، كالعنف الجسدي والاجتماعي، والكلامي  والسياسي ، نجد العنف في الشارع وفي البيوت وقد يكون داخل العائلة الواحدة شجارات عائلية ، أو بسبب خلاف بين أطفال الجيران ، وغير ذلك من الخلافات التي تستعمل فيها السكاكين والمسدسات ، والبنادق والمدافع الرشاشة   كل ذلك لانتهاك حرمة دم الإنسان المسلم ، وقد بدت هذه السلوكيات وكأنها نمط من أنماط حياتنا ، وأصابتنا حالة من الاسترضاء والاستمراء لأشكال الظاهرة وكأننا ماتت فينا النخوة والغيرة وفقد من حياتنا قيمة الإنسان والمفاهيم الإنسانية ،  ولتنبيه الغافلين وإرشاد الغيورين، وتذكير المسؤولين من أفراد ووجهاء وشخصيات وآباء وأمهات حول هذه الظاهرة في مجتمعنا  بكل أشكالها وأنواعها ، نقول لهم بأن أذية الناس بغير حق من اشد الظلم ، وأعظم المآثم التي توعد الله أهلها بالوعيد الأكيد   وتهددهم بالعذاب الشديد ، الذي ذُكر في الأحاديث  فالذي يؤذي الناس بغير حق على خطر من غضب الله ، وعلى خطر من نقمة الله وعلى خطر من سخط الله  والعاقل فينا من رد السيئة بالحسنة ، ودفع العدوان بالإحسان وأزال الأذى بالإصلاح لقوله صلى الله عليه وسلم  : (اتق الله حيثما كنت واتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن ) . ما أحوجنا إلى نبذ الكلمات السيئة من ألسنتنا وحذف العبارات الاستفزازية من قاموس حياتنا ، حتى يعم الأمن بدل الفوضى والحب بدل الكراهية ، والرحمة بدل القسوة  والتلاحم والتكاتف بدل الهجران والقتل والعنف . وعلينا أن نعلم أنه يحرم على المسلم سفك دم أخيه المسلم مهما كانت الأسباب والدوافع لارتكاب الجريمة . والحري بالمسلم أن يعلم قيمة أخيه المسلم  عند الله تعالى ، فلا يدع للغضب بابا مفتوحاً ، ولا للشيطان مدخلا ولا للهوى منفذا ولا للدنيا طريقا توصله إلى كبيرة القتل وكبيرة العنف ، فيلقى الله وقد خسر الدنيا والآخرة . فالويل ثم الويل لمن حمل خاطرا أو نوى نية ، أو قال قولا ، أو عمل عملا استهدف به إيذاء أخيه المؤمن ، لذا على المسلم أن يتقي الله في حرمة أخيه المسلم وان يعتبر المساس به جريمة . لأن دم المسلم عند الله أغلى من الكعبة المشرفة ، فكما أننا نشد الرحال إلى المسجد الحرام والكعبة المشرفة لقصد الزيارة والتشريف والتعظيم  فمن باب أولى أن يشد المسلم رحاله لزيارة أخيه المسلم  ويقطع دابر الهجران والتشاحن ، حقنا للدماء قـال صلى الله عليه وسلم : ( اعف عمن ظلمك وأعط من حرمك ، وصل من قطعك ) . وعلى المسلم أن يتقن هذا الدور الاجتماعي الأخلاقي ليضع حدا لتفاقم ظاهرة العنف ومضاعفة إشكالها وآثارها بين المسلمين .

 

 وقد جاءت التوجيهات النبوية لأخذ الاحتياط والحذر في حمل السلاح ، أو أي حديدة كانت سكيناً أو جنـزيراً أو بلطة في وجه المسلم ، لان التفريط في مثل هذا يؤدي إلى كثير من المشاكل ، وإن الملائكة تلعن من يشير بحديدة في وجه أخيه المسلم ولو كان مازحا ، فكيف بمن كان جادا وقاصدا !!. ورد في الحديث الصحيح الذي رواه النسائي عن ابي بكرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا أشار الرجل على أخيه بالسلاح فهما على جرف جهنم ، فإذا قتله وضعا فيها جميعا ) . وقوله : ( إن الملائكة تلعن أحدكم إذا أشار بحديدة وان كان أخاه لأبيه وأمه ) . وعن أبي هريرة رضي الله عنه : قال : قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم : ( من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة ، لقي الله عز وجل مكتوب بين عينيه : آيس من رحمة الله )  رواه الإمام احمد وزاد ( قال سفيان بن عيينة : هو إن يقول أقـ ، يعني : لا يتم كلمة اقتل، فكيف بمن قتل ) .

 

 من أعان على قتل مسلم بغير حق  ، فإنه محروم من رحمة الله ، ومستحقٌ لعذابه عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قتل بالمدينة قتيل على عهد رسول الله لم يعلم من قتله ، فصعد النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( يا أيها الناس يقتل قتيل وانأ فيكم ولا يعلم من قتله : لو أجتمع أهل السماء والأرض على قتل مؤمن لعذبهم الله  ) . وروى البيهقي والاصبهاني: ( ولو إن أهل سماواته وأهل أرضه اشتركوا في دم مؤمن لأدخلهم الله النار ) . هذا الوعيد الرباني الذي لن يجد له القاتل تبديلا ولا تحويلا  لان حكم الله تعالى لا يقبل المجاملة ولا المداهنة ، لا يقبل الأماني ولا التمييز ، هذه الغيرة الربانية لعبده المؤمن الذي سُلبت حياته بالقتل فكان التهديد والوعيد على قدر ومكانة العبد المؤمن عند الله تعالى . ألا فليفقهوا الذين يعيثون في الأرض فسادا وخرابا  قتلا وإجراما ، بأن الله قادر عليهم وان الله ينتقم لأوليائه ولعباده . وهل يليق بأبناء المسلمين في بيت المقدس وأكنافه أن يكونوا عوناً لتفشي ظاهرة العنف ، ونحن نشاهد كل يوم أحوال الأمة الإسلامية وما فيها من ويلات ونكبات ، ومذابح ومجازر  وأهل الباطل يصولون ويجولون ، إن الأولى بأطراف النـزاع أي نزاع أن يراجعوا أنفسهم ، وأن يتداركوا موقفهم ، وأن لا يحبطوا جهادهم وسابقتهم ، فإن منهم من له بلاء حسن في نصرة الإسلام ، وإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل ، وإن الحق قديم لا يغيره شيء ، والله نسأل أن يردنا وإياهم إليه ردا جميلا ، وأن يرينا الحق حقا وأن يرزقنا إتباعه ، والباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه ، إنه ولي ذلك والقادر عليه . اللهم آمين ، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين . 

 

 

 

 

 

  

 

 

 

فإذ 

عاقبة ظلم الدول

قال تعالى } وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا { الكهف.  

إن الأمم والدول لا يدوم لها سلطانها وملكها مع الظلم والطغيان ؛ لأن من أعظم أسباب زوال الدول وسلطانها وملكها ، الظلم وغياب العدل ، والدول القوية في هذا الزمان  لم تنظر كيف كان عقاب الذين من قبلهم ، وبهذا تكون عدوة نفسها وليس هناك أجهل من دولة يضل سعيها في الحياة وتدمر نفسها ، وهي تحسب أنها تحسن صنعا , فقد حرم الله الظلم والدولة التي تظلم نفسها وتبيح سياسة الظلم هي من حيث لا تشعر تدمر نفسها ، وقد اختارت أمريكا أن تكون على خطى الدول التي أهلكها الله  ، وأزالها من الوجود ، عقوبة لها على محاربتها للإسلام وأهله ، وهاهي إلى جانـب جشعها الربوي العالمي الذي وعد الله تعالى بمحقه ، نرى طغيانها العظيم   والذي بلغ بها أن تسلَّطت على لقيمات المحاصرين وجرَّدتهم من كلِّ صدقة تأتيهم من الدول الإسلامية ، فعملت على تجميد أرصدة الدعم الخاصة بهم ، فجمَّد الله تعالى أموالها ، ودأبت على إغلاق الجمعيات الخيرية الإسلامية ، وملاحقة المتصدِّقين  وتجاهلت العالم وشنت حربها على بلاد المسلمين لنهب ثرواتهم بغياً وظلماً بغير وجه حق ، لذا فالمتوقع بحسب سنة الله في الدول التي خلت من قبلها ، أن يكون هذا بداية الهلاك وبداية النهاية لها .

قال أحد الكتاب الأمريكيين الناصحين في رسالة إلى الرئيس الأمريكي " وعلى الرغم من أننا دوما نصنف المجتمعات الأخرى ، ونصفها بأنها تمثل دول الشر فإننا نحن أنفسنا أصبحنا أكبر دولة للشر , أصبحنا لا نحترم المعاهدات الدولية , ونطأ بأقدامنا المحاكم الدولية , ونوجه ضربات أحادية الجانب لأي جهة نختارها , ونعطي أوامر للأمم المتحدة ولا نقوم بواجباتنا تجاهها , نشتكي من الإرهاب وإمبراطوريتنا هي أعظم دولة إرهابية وجه الأرض " وهذا في تقديري يؤذن بزوال ملكها وسيطرتها قال تعالى : ) قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنـزع الملك ممن تشاء ( آل عمران  .

إن الله مالك الملك بلا شريك وهو يُمَلِّك من يشاء ما يشاء من ملكه ، يُمَلِّكُه إياه تمليك عارية ، يستردها ممن يشاء عندما يشاء وليس لأحد ملكية أصيلة يتصرف فيها على هواه ، إنما هي ملكية معارة له ، خاضعة لشروط المملك الأصلي وتعليماته  فإذا تصرَّف المستعير فيها تصرفاً مخالفاً لشرط المالك ، وقع هذا التصرف باطلا ، وتحتم على المؤمنين رده في الدنيا ، أما في الآخرة فهو محاسب على باطله ومخالفته لشرط المملِّك صاحب الملك الأصيل .

إن الله يؤتي الملك من يقوم به ، ولا ينـزعه إلا ممن فسق عن أمر ربه يقول تعالى : ) لا ينال عهدي الظالمين ( البقرة 124 . فالملك لله سبحانه وتعالى ، ولا يظن إنسان انه ملك شيئاً أو جاهاً في هذه الدنيا بغير مراد الله ، فإذا انحرف العباد فلا بد أن يولى الله عليهم ملكاً ظالماً . لماذا ؟ لأن الأخيار قد لا يحسنون تربية الناس قـال تعالى : ) وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون ( الأنعام 126 . وكأن الله يقول سوف أضع ولاية ظالم أكبر ، على هذا الظالم الصغير لينتقم منه ، فالله هو المتصرف في ملكه ، وحين يخرج الناس عن طاعة الله ، فإن الله يسلط عليهم الحاكم الظالم   ولا يظن ظانٌ أن أحداً قد أخذ الملك غصباً من الله ، إنما الملك يريده الله لمن يؤدب به العباد   وإن ظلم المَلِكُ في التأديب ، فإن الله يبعث له من يظلمه ، ومن رأى ظلم هذا المَلِك أو ذاك الحاكم ، فمن الجائز أن يريه الله هذا أو ذاك مظلوما قال تعالى : ) وتنـزع الملك ممن تشاء (   ينبهنا الله إلى أن هؤلاء المتشبثين بكراسي الحكم ، نسو أن الله قادر على أن ينـزع ملكهم متى شاء . وقف أبو عبد الله آخر ملوك غرناطة بعد انكساره أمام جيوش فرديناند وإيزابيلا على شاطئ الخليج الرومي ، وهي تحت ذيل جبل طارق قبل نزوله إلى السفينة المعدة لحملة إلى إفريقيا ، وقد وقف حوله نساؤه وأولاده وعظماء قومه من بني الأحمر ، فألقى على ملكه الذاهب نظرةً طويلة ، وأنشأ يبكي بكاءً مرّاً ، حتى بكى كلُّ من حوله لبكائه ، وقد أحس هاتفاً يهتف باسمه ، فرفع رأسه فإذا شيخ ناسك متكئ على عصاه ، واقف على باب مغارة من مغارات الجبل المشرف عليه ، ينظر إليه ويقول : نعم لك أن تبكي أيها الملك الساقط على ملكك بكاء النساء ، فإنك لم تحتفظ به احتفاظ الرجال ، لقد ضحكت بالأمس كثير ، فابك اليوم بمقدار ما ضحكت بالأمس ، فالسرور نهار الحياة  والحزن ليلها ، ولا يلبث النهار الساطع أن يعقبه الليل القاتم ، لو أن ما ذهب من يدك من ملك ، ذهب بصدمة من صدمات القدر  ونازلةٍ من نوازل القضاء ، من حيث لا حول لك في ذلك ولا حيلة ، لهان أمره عليك ، أما وقد أضعته بيدك فابك عليه بكاء النادم المتفجِّع ، الذي لا يجد له من مصابه عزاء ولا سلوى ، لي سبعة أعوام انتظر فيها هذا المصير ، الذي صرتم إليه ، وأترقب الساعة التي أرى فيها آخر ملك من ملوك بني الأحمر ، يرحل عن هذه الديار رحلة لا رجعه بعدها ، لأن المُلْك الذي يتولى أمره الجاهلون الظالمون لا دوام له ولا بقاء . وكان مما قاله ... ستقفون غداً بين يدي الله يا ملوك الإسلام ، وسيسألكم عن الإسلام الذي أضعتموه ، وهبطتم به من علياء مجده ، حتى ألصقتم أنفه بالرغام ، وسيسألكم عن المسلمين الذين أسلمتموهم بأيديكم إلى أعدائكم ، ليعيشوا بينهم عيش البائسين المستضعفين ، وسيسألكم الله عن الأولاد الذين سقتموهم إلى ميادين القتال ليقاتلوا إخوانهم المسلمين قتالاً لا شرف فيه ولا فخار "  

وها نحن نرى الأعداء بقوتهم وغطرستهم وباطلهم الذي صنعوه  يحاكمون ويحكمون ويتوعدون رجالاتنا بلا خوف ولا وجل  فلهم الحق أن يفعلوا ما يشاءون ، فقد خلا لهم وجهُ البلاد  وأصبحوا أصحاب القوة والسلطان فيها ، وللسلطان عزٌّ لا يبالي بعهد ولا وفاء ، إنهم يتعاملون مع شعوبنا تعامل الأقوياء مع الضعفاء ، إنه سيف قاطع ، وغلٌّ ملتف على الأعناق  لأنهم الأقوياء ونحن الضعفاء ، فليصنعوا ما يشاءوا ، لأنه الحق الذي خولته لهم قوتهم ، فملكوا علينا مشاعرنا وعقولنا ، حتى لا ندين إلا بما يدينون ، لأنا عجزنا عن أن نكون أقوياء ، فنالنا ما ينال الضعفاء ، ظلمنا أنفسنا وقد تعهد الله أن ييُسَّر الله للظالم من يؤدبه ، قال تعالى : ) وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون( الأنعام 129 .  فإذا أراد الله أن يؤدب ظالماً لا يأتي له بواحدٍ من أهل الخير ليؤدبه ، فالله سبحانه بتكريمه لأهل الخير ، لم يجعل منهم من يكون في مقام من يؤدب الظالم ، إنها إرادة الله أن يجعل أهل الخير في موقف المتفرج ، على تأديب الظالمين بعضهم ببعض ، وعلى مدار التاريخ فقد صنع الظالمون بعضهم في بعض الكثير ، بينما لو تمكن منهم أعداهم الحقيقيون   لرحموهم لأن قلوبهم مملوءة بالرحمة , فكان على الطاغية أو الحاكم المستبد أن لا يظن أنه أخذ الحكم بذكائه أو بقوته ، بل إن الله جاء به ليؤدب الظلمة ، بدليل أنه ساعة يريد الله أن تنتهي هذه المسألة ، فالله بجلاله ينـزع المهابة من قلوب حرّاسه   وبدلا من أن يدافعوا عنه بالبندقية يصوبها عليه ، فلا يظن ظان أن مَلِكا يأخذ الُمْلك قهراً عن الله ، والعباد إذا ظلموا وطغوا  يسلط الله عليهم من يظلمهم وقد قيل   "الظالم سيف الله في الأرض ينتقم به وينتقم منه "   فكأن ما سلَّطه الله على الناس من شر إنما هو نتيجة لأعمالهم ، وقديماً قيل : " وما من ظالمٍ إلا سيبلى باظلم " .   

السماحة في الإسلام

 السماحة هي طيب في النفس ، وانشراح في الصدر ولين في الجانب ، وذلة على المؤمنين دون ضعف ومهانة  وصدق في التعامل دون غبن وخيانة، وتيسير في الدعوة إلى الله دون مجاملة ومداهنة، وانقياد لدين الله دون تشدد بها تصفو القلوب قال صلى الله عليه وسلم : ( خير الناس ذو القلب المحموم واللسان الصادق، قيل : ما القلب المحموم؟ قال : هو التقي النقي الذي لا إثم ولا بغي ولا حسد قيل : فمن على أثره؟ قال : الذي يشنأ الدنيا ويحب الآخرة  قيل : فمن على أثره قال : المؤمن في خلق حسن) صحيح الجامع  

إن الغـلـظـة التي نراها في التعامـل بيننا ، ليست من ديننا في شيء ، وإن الجفاء الذي نجده ، يتنافى مع سماحة الإسلام ، لأن المؤمن الحقيقي ،سمح مألوف قال صلى الله عليه وسلم : ( المؤمن يألف ويُؤلف، ولا خير فيمن لا يَألف ولا يؤلف ، وخير الناس أنفعهم للناس) صحيح الجامع . بل إن السماحة هي من أفضل الإيمان قال صلى الله عليه وسلم : ( أفضل الإيمان الصبر والسماحة) صحيح الجامع. وقد امتدحت الأحاديث النبوية السماحة في البيع والشراء والقضاء قال صلى الله عليه وسلم : (إن الله تعالى يحب سمح البيع، سمح الشراء سمح القضاء) رواه الترمذي وهو في صحيح الجامع. وامتدحت السماحة في الدَّيْنِ والاقتضاء قال صلى الله عليه وسلم :( رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى) رواه البخاري . وفي هذا يعلق ابن حجر بقوله : " السهولة والسماحة متقاربان في المعنى ، والمراد بالسماحة ترك المضجرة ونحوها ، وإذا اقتضى أي طلب قضاء حقه بسهولة وعدم إلحاف ، وإذا قضى : أي أعطى الذي عليه بسهولة بغير مطل ، وفيه الحض على السماحة في المعاملة ، واستعمال معالي الأخلاق ، وترك المشاحنة   والحض على ترك التضييق على الناس في المطالبة ، وأخذ العفو منهم " ، وأكثر ما تكون الخصومات في المعاملات المالية ، والمناظرات الخلافية  والملاسنات الكلامية ، وقلّ أن يسلم فيها من لم يتحلّ بكرم الخلق ، وجود النفس  وسماحة الطبع .

وكم نحن بحاجة إلى السماحة في طلب الدَّيْنِ وإنظار المعسرين، والتجاوز عن المعوزين وقضاء حوائج الناس في تواضع وسماحة ، حتى تدركنا رحمةُ الله برحمة خلقه  فإنظار المعسر ، أو التجاوز عن القرض أو عن جزء منه   صورة عظمية من صور الكرم ، وسماحة النفس ، قال   صلى الله عليه وسلم : (كان تاجر يداين الناس ، فإذا رأى معسرًا قال لفتيانه : تجاوزوا عنه ؛ لعل الله أن يتجاوز عنا   فتجاوز الله عنه) رواه البخاري . بل إن توفيق الدنيا والآخرة مرهون بتيسيرك على أخيك المعسر قال صلى الله عليه وسلم : (من يسر على معسرٍ يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة) رواه مسلم .

وصاحب السماحة لا يحرص على إيقاع الناس في الحرج   ولا يشغله التفكير بما له ، عن التفكير بما عليه من سماحة مع إخوانه وتقديره لظروفهم ، جاء في الحديث الصحيح : ( أن الصحابي أبا اليسر كان له على رجل قرض ، فلما ذهب لاستيفاء حقه ، اختبأ الغريم في داره ، لئلا يلقى أبا اليسر ، وهو لا يملك السداد ، فلما علم أبو اليسر أن صاحبه يتخفى منه حياء لعدم تمكنه من أداء ما عليه ، أتى بصحيفة القرض فمحاها وقال: إن وجدت قضاء فاقض، وإلا فأنت في حلّ ) رواه مسلم . وبسماحته تلك أخرج أخاه من الحرج الشديد .

ومن السماحة أن نتحمل جهل الجاهل، وفورة الغاضب  لأن الفظاظة ليست من ديننا قال تعالى : ] ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك [ فما أحوجنا إلى هذا الخلق ، في زمن بلغ فيه البغض غايته، ورفع فيه الحسد رايته ، ما أحوجنا إلى السهولة واليسر، والسماحة والتجاوز ، حتى نعيش في هذه الدنيا بهناء، ونكون يوم القيامة سعداء قال صلى الله عليه وسلم : ( من كان سهلاً ليناً هيناً حرمه الله على النار) صحيح الجامع .

والسماحة لها أثر عظيم تنشأ به محبة القلوب ، ومودة النفوس ، وعندما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أحب الدين قال : (الحنيفية السمحة) . إننا بحاجة إلى هذه السماحة بين الأهل والأحباب ، وبين المختلفين من الناس، وبين الأزواج والزوجات، وبين الأبناء والآباء والأمهات    فهي عظيمة في أجرها وثوابها  وفي أثرها ونفعها، دلت عليها المواقف النبوية كما في قصة الشاب الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الزنا ، فنهره الصحابة فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (مه مه ادن مني) فدنا منه الشاب، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : أترضاه لأمك، قال: لا فداءك أبي وأمي يا رسول الله  قال: والناس لا يرضونه لأمهاتهم ثم قال: لأختك  ثم قال: لابنتك ثم قال: لخالتك ثم وضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على صدره ودعا له فقال: اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه وحصن فرجه)  فكان من أثر ذلك أن قال هذا الغلام كما في رواية أخرى : (ما صار شيء أبغض إلى نفسي من الزنا) رواه   أحمد من رواية أبي أمامة . وتتجلى هذه السماحة النبوية عندما سمع النبي صلى الله عليه وسلم في الطواف أعرابيا يقول: يا كريم ، فقال النبي خلفه: يا كريم فمضى الإعرابي إلى جهة الميزاب وقال: يا كريم فقال النبي خلفه : يا كريم فالتفت الإعرابي إلى النبي   وقال : يا صبيح الوجه, يا رشيق القد أتهزأ بي لكوني أعرابيا؟‎ والله لولا صباحة وجهك ، ورشاقة قدك   لشكوتك إلى حبيبي محمد صلى الله عليه وسلم  فتبسم النبي وقال: أما تعرف نبيك يا أخا العرب ؟ قال الأعرابي : لا ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : فما إيمانك به؟ قال : اّمنت بنبوته ولم أره وصدقت برسالته ولم ألقه ، قال النبي : يا أعرابي , اعلم أني نبيك في الدنيا وشفيعك في الآخرة ، فأقبل الأعرابي يقبل يد النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي : مه يا أخا العرب
لا تفعل بي كما تفعل الأعاجم بملوكها, فإن الله سبحانه  
بعثني  ، لا متكبراً ولا متجبراً, بل بعثني بالحق بشيراً   ونذيراً فهبط جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم  وقال له: يا محمد !  السلام يقرئك السلام ، ويخصك بالتحية والإكرام  ويقول لك : قل للإعرابي لا يغرَّنَه حلمنا ولا كرمنا,فغداً نحاسبه على القليل والكثير ، والفتيل والقطمير  فقال الأعرابي: أو يحاسبني ربي يا رسول الله؟ قال : نعم يحاسبك إن شاء ، فقال الأعرابي: وعزته وجلاله, إن حاسبني لأحاسبنه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : وعلى ماذا تحاسب ربك يا أخا العرب ؟ قال الأعرابي : إن حاسبني ربي على ذنبي حاسبته على مغفرته ، وإن حاسبني ، على معصيتي حاسبته على عفوه ، وإن حاسبني على بخلي حاسبته على كرمه ، فبكى النبي صلى الله عليه وسلم  حتى إبتلت لحيته ، فهبط جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم وقال : يا محمد ! السلام يقرئك السلام  ويقول لك : يا محمد ! قلل من بكائك فقد ألهيت حملة العرش عن تسبيحهم ، وقل لأخيك الأعرابي لا يحاسبنا ولا نحاسبه ، فإنه رفيقك في الجنة " .

قد يوسوس الشيطان للمسلم : إنك لو تسامحت وصفك الناس بالعجز ، وظنوا فيك الضعف ، ولأَنَ تُؤْثِرَ أن يقال فيك ما يقال خير لك من الوقوع في الفجور ، بحيث يخشى الناس شرّك ، وقد ورد في الحديث : (يأتي عليكم زمان يُخيَّر فيه الرجل بين العجز والفجور ، فمن أدرك ذلك الزمان فليختر العجز على الفجور) رواه أحمد .

ومما يتنافى مع السماحة الانزلاق إلى الخصومة قال صلى الله عليه وسلم : (أبغض الرجال إلى الله الألدُّ الخَصِم) رواه البخاري . قال ابن حجر في الفتح : " الألدّ : الكذاب  وكأنه أراد أن من يكثر المخاصمة ، يقع في الكذب كثيرًا ، وحين يفتقد المرء السماحة ، تجده ينحدر في أخلاقه ، إلى أن ينجرف إلى التصايح والجدل لأمر يعلم بطلانه قال صلى الله عليه وسلم : ( ومن خاصم في باطل - وهو يعلمه - لم يزل في سخط الله حتى ينـزع عنه ) رواه أبي داود .  

إن خلق السماحة يقتضي من صاحبه المبادرة إلى التنازل  عند الوقوع في أي موقف جدلي ، وقد حُرمت الأمة العلم بميقات ليلة القدر ، وما فيها من الخير الكبير؛ بسبب انعدام روح السماحة بين رجلين من الأمة كما اخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم  (خرجت لأخبركم بليلة القدر  فتلاحى فلان وفلان فرُفعت) رواه البخاري . وكم تُحرم الأمة من البركات والنعم والنصر ، حين تدب الخصومات ، بل إن الصفة الأساسية من أخلاقيات المنافق أنه إذا خاصم فجر كما جاء في حديث البخاري .

 وإن مما يتنافى مع روح السماحة أن يقع الإخوة في جدالات لأمور سياسية ، أو قضايا فكرية ، أو توقعات غيبية ، ثم تجدهم ينفضّون متباغضين بسبب ذلك قال صلى الله عليه وسلم : (ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أُوتوا الجدل) رواه ابن ماجه . ولحث المسلمين على السماحة والتنازل عند الاختلاف ، وعدم الوقوع في مغبة الجدل ، تعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيت في الجنة لمن تنازل : ( أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقـًا) رواه أبي داود . ومن نتائج انعدام روح السماحة أن تتبارى الأمة بألسنتها   فتنقلب إلى أمة كلام ، بدل أن تكون أمة عمل ، وتضيع الأوقات في الشد والجذب والأخذ والرد ، وكل يناصر رأيه ، وكان مما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمته (منعـًا وهات) ، ومما كره لهم : ( قيل وقال ، وكثرة السؤال  وإضاعة المال) رواه البخاري .

 

 

 

    المجاهدون والابتلاء

قد أمر الله سبحانه عباده المؤمنين أن يعدوا للكفار ما استطاعوا من القوة، وأن يأخذوا حذرهم كما في قوله عز وجل: ] وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ [ الأنفال 60 وقوله سبحانه : ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فانفروا [ النساء 17 وقوله تعالى : ] يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ [  الأنفال 65 . وذلك يدل على وجوب العناية بالأسباب والحذر من مكائد الأعداء، ويدخل في ذلك جميع أنواع الإعداد المتعلقة بالأسلحة والأبدان، كما يدخل في ذلك إعداد جميع الوسائل المعنوية والحسية، وتدريب المجاهدين وتوجيههم إلى كل ما يعينهم على جهاد عدوهم  وقد أطلق الأمر بالإعداد، وأخذ الحذر، ولم يذكر نوعا دون نوع ولا حالا دون حال وما ذلك إلا لأن الأوقات تختلف والأسلحة تتنوع ، والعدو يقل ويكثر ويضعف ويقوى والجهاد قد يكون ابتداء ، وقد يكون دفاعا فلهذه الأمور وغيرها أطلق الله سبحانه الأمر بالإعداد ، وأخذ الحذر ليجتهد قادة المسلمين في إعداد ما يستطيعون من القوة لقتال أعدائهم ، دون النظر إلى ما يصيب المجاهدين ، فما يصيبهم إنما هو ابتلاء ، وقد اقتضت حكمة الله عز وجل أن يبتلى عباده المؤمنين ويمحصهم ويمحق الكافرين ويهلكهم ] وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [ . وما يمر بالعبد المؤمن من مصائب ، إنما هي من الابتلاءات التي يريد الله من ورائها أمراً يجهله كثير من الناس الذين لا يتدبرون ما وراءها من رفع للدرجات، وتكفير للسيئات، وعز في الدنيا ورفعة في الآخرة ، بحيث لو اعتمد الإنسان على علمه وعمله ما استطاع الوصول إليها ، عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لا يزال البلاء بالمؤمن أو المؤمنة في جسده وفي ماله وفي ولده حتى يلقى الله وما عليه من خطيئة) رواه أحمد ، وما يصيب المجاهدين إنما هو من الابتلاء الذي يرفع الله به درجتهم ويعلي به ذكرهم ، فالمجاهدين في فلسطين وغيرها من بلاد المسلمين ، وهم يواجهون ، أقوى قوة في العالم  يعلمون أن طريقهم شائك ، وما ينتظرهم يحتاج إلى الصبر والرضى "إذ ليس في التكليف أصعب من الصبر على القضاء ولا فيه أفضل من الرضى به".

وهم يعلمون أن أمامهم قتل أو أسر أو كسر أو بتر، أما النصر فهو من الله يؤتيه متى شاء ولمن يشاء، ] إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [ .

عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما من غازية أو سرية تغزو فتغْنم وتسلم إلا كانوا قد تعجلوا ثلثي أجورهم، وما من غازية أو سرية تُخفق وتصاب إلا تم أجورهم)  مسلم .

 والقتل أو الأسر من لوازم الجهاد في سبيل الله تعالى، ولا يعني هذا بحال من الأحوال خللاً في نهج الجهاد أو صدق المجاهدين  فما من عبد ادعى الإيمان إلا وأخذ نصيبه من الابتلاء على قدر إيمانه وصدقه مع ربه ] أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [ .

فإصابة بعض المسلمين بالأذى كالأسر أو الضرب يجب أن لا يصيب الآخرين بالضعف والجبن والقعود ،  فهذه هي ضريبة العز والمجد والنصر والتمكين ، والأمة التي تريد الرفعة والمنعة والظهور لا بد لها من تقديم التضحيات الجسام والبطولات العظام ، ومن يريد إعلاء "لاإله إلا الله" لابد له من اقتحام الصعاب وأنشدوا :

ومـا نيل المطـالب بالتمني   ولكن تؤخذ الدنيا غلابا

وما استعصى على قومٍ منالٌ    إذا الإقدام كان لهم ركابا

والقتل والأذى لا يعني نهاية المطاف ، ولا يعني نهاية الجهاد والمقاومة ، فالجهاد ماض إلى يوم القيامة ، والقافلة تسير وما يصيب المجاهدين ، يقوي من عزيمتهم ويشد من أزرهم متسلين بقوله تعالى: ] وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [ وقد أسر وأوذي وقتل في سبيل الله تعالى من هم خير منا حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما أوذي أحد ما أوذيت في الله) رواه أبو نعيم في الحلية وحسنه الألباني . 

والتاريخ الإسلامي مليئٌ بالشواهد والأحداث التي تثبت لنا أن الأمة ما نالت مكانتها الأولى في العالم قروناً طويلة إلا بما قدّمه أبناؤها من تضحيات في سبيل الله ، كما أن التاريخ وشواهده تثبت أيضاً أن الأمة ما وصلت إلى وصلت إليه من الضعف والهزيمة إلا عندما تخاذل أبناؤها بأنفسهم وأموالهم عن نصرة دينهم وعقيدتهم وإخوانهم .

ليس المطلوب أن تقتصر المواقف على الشجب والاحتجاج والبكاء ، فهذه أمور اختصت بها النساء دون الرجال .

كُتبَ القتلُ والقتالُ علينا   وعلى المحصناتِ جَرُّ الذيولِ

بل المطلوب العمل على المساعدة بكافة الطرق والوسائل التي يمكن أن تساعدهم في محنتهم مستجيبين بذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( وما من امرئ ينصر مسلماً في موضع ينتقص فيه من عرضه وتنتهك فيه حرمته إلا نصره الله في موضع يحب فيه نصرته)  أبو داود وقد ورد الحض على الجهاد  في سبيل الله واستنقاذ المستضعفين من الرجال والنساء والولدان في قوله تعالى : ] وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا [ .

إن الفضائيات تنقل لنا مشاهد مثيرة لحمية المسلم، وكرامة المؤمن ولعاطفة الرحمة الإنسانية ، كما نسمع في الأخبار عمن يعانون المحنة في عقيدتهم ، والفتنة في دينهم ، والمحنة في العقيدة أشد من المحنة في المال والأرض والعرض ، لأنها محنة في أخص خصائص الوجود الإنساني ، الذي تتبعه كرامة النفس والعرض وحق المال والأرض .

إن طريق الجهاد محفوف بالمخاطر والابتلاءات ، وقد جرى ذلك على النبي  صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، كما جرى على التابعين من بعدهم وجرى على جيوش المسلمين الفاتحين وقادتهم الميامين فما فتّ ذلك من عضدهم ، وما برر لهم القعود والخنوع والانكسار ، بل لقد دفعهم وقوى عزيمتهم وشد من أزرهم  فهزموا بإذن الله عدوهم ونصروا دينهم  .

وإن المجاهدين في أرض الرباط يفتحون صفحة الجهاد التي طويت في كتاب زماننا هذا ، وينفضون غبار الذل والصغار ويكتبون من جديد على صفحات غدنا المشرق وأسطر عزنا المنشود ، اللهم خذ من دمائنا حتى ترضى .

إن الأمم الحية بإيمانها هي وحدها التي تلجئها المحنة إلى ربها روتنقطع عند الشدة إليه سبحانه ، وكلما اشتدت الأمور ازدادت إيماناً بوعد ربها ونصره ، وصبراً على بلائه وسعياً في جهاد أعدائه .  

إن قضية الصبر والجهاد وحمل الرسالة هي من أكثر التكاليف والابتلاءات والوسائل قدرة على اختبار صدق الإنسان وإخلاصه لله سبحانه، وذلك لما تحتاجه هذه المهمة الصعبة من صبر وثبات وتضحية بالمال والنفس والأهل والراحة ، واستعداد لتحمل التشريد والقتل والتعذيب والأذى والحرب النفسية والدعائية ، والقرآن يصور بعض ذلك في نصوصه ، ويتحدث عن الصبر والجهاد والابتلاء، فيقول سبحانه وتعالى :  ] لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور [ .

 اللهم انصر الأمة وارفع الغمة وحكم شرعك في الأرض  وليكن لسان الحال :

سأثأر لكن لرب وديـن     وأمضى إلى سنتي في يقين

فإما إلى النصر فوق الأنام    وإما إلى الله في الخالـدين

 

 

 

 

 

 

النهي عن اليأس والإحباط

إني لأعجب أن يصيب الإحباط أمةً القرآن كتابها  وحديث رسول الله  صلى الله عليه وسلم سنتها ، ورجال تاريخها ليس لهم مثيل في تاريخ الأمم الأخرى ، رجال لهم الأثر البالغ  على فكر قادة العالم عامة ، وقادة اليهود خاصة  وهذا ما دفع نائب الليكود داني نافيه ، في مقابلة له في الإذاعة الناطقة بلسان المستوطنين اليهود أن يتساءل : لماذا يدعو خطباء المساجد في طول الوطن العربي وعرضه ربهم ، أن يبعث لهم قائداً على غرار صلاح الدين لطرد اليهود  والقضاء على الحركة الصهيونية ، بنفس الطريقة التي تم بها القضاء على الصليبين في الماضي ، وطالب المستشرق اليهودي يهشموع أحد حكومات إسرائيل ، أن تتوجه إلى العالم وعلى الأخص أمريكا للضغط على الدول العربية ، لتنقية مناهجها التعليمية ، وبيئتها الثقافية من كل صلة بصلاح الدين وما يمثله ، وأضاف قائلاً : إن على إسرائيل أن تطالب العرب باستبدال أسماء الشوارع التي أطلق عليها اسم صلاح الدين بأسماء أخرى ، وكذلك أسماء الميادين والمؤسسات ، ووصف إصرار العرب على التمسك بتراث صلاح الدين ، بأنه إصرار على ثقافة العنف ، وكان الجنرال شلوموا باوم يوصف بأنه أسطورة الجيش الإسرائيلي   وكان بن غوريون يعتبره مفخرة الدولة اليهودية ، وكتب عنه شارون بأنه آلة حرب متحركة ، تتجسد في جسمٍ بشري ، وبالرغم من انه خدم 35 عاماً في الجيش ، إلا أنه رفض بإصرار الحصول على إجازة ولو ليوم واحد ، شارك في أكثر من ألف عملية عسكرية ، معظمها خلف مواقع القوات العربية  اشتهر بالقسوة الشديدة في تعامله مع العرب الذين وقعوا في أسره ، وكانت سيرته الذاتية تدرس لطلاب المدارس  وفي ذكرى وفاته  نشر كاتب إسرائيلي في صحيفة معاريف ، أنه لكثرة ما سمع من إطراء على باوم ، قرر التعرف عليه ، بعد تسرحه من الجيش  للتعرف على الدوافع الكامنة وراء معنوياته العالية  وشعوره المطلق بعدالة ما يقوم به  يقول الكاتب : عندما توجهت إلى باول في شقته ، وجدت إنساناً غير الذي سمعت عنه   وجدت شخصاً قد تملكه الخوف ، واستولى عليه الهلع   واستبد به القلق ، وعندما سألته عن السر الذي دفعه لقتال العرب   وحرمان نفسه الراحة لعشرات السنين   إذا به يصمت ، ثم يقوم ويحضر ملفاً كبيراً   فيقلب صفحاته ويقول : هل سمعت عن الحروب الصليبية ؟ هل سمعت عن معركة حطين ؟ هل سمعت عن شخص يدعى صلاح الدين ؟ وعندما قلت له مستنكراً : لكن العالم العربي في أعلى مستويات الضعف في كل المجالات  ضحك ساخراً وقال : لقد كانت أوضاع المسلمين قبل معركة حطين ، تماثل من حيث موازين القوى أوضاع العرب حالياً ، فقد كانت الدويلات العربية ، التي كانت قائمة في ذلك الوقت ، تقوم بدور كلاب حراسة للمالك الصليبية ، وإن مخاوفي جعلتني أحاول رصد الأسباب التي جعلت المسلمين ، يحققون ذلك النصر الأسطوري ، وفق منطق العقل والتحليل العسكري ، وما جعلني أتعلق بالحرب ، هو حرصي على أن أقوم بكل شيء ، من أجل عدم تهيئة الظروف ، لمولد صلاح الدين من جديد ، وفي مقابلة صحفية مع شارون   عندما سئل كيف تسير الأمور في إسرائيل ؟ أجاب وهو مهموم ليس على ما يرام  وقال : اخشي من ظهور صلاح الدين من جديد بين المسلمين  لأنه نشأ في مثل هذه الظروف .               

وإني لأعجب أن تقنط أمة يخاف أعدائها ، أن تسير على نهج سلفها   وهي تملك من الثروات والمقدرات ، التي لا يملكها أعدائها ، وإني لا أتصور أمةً تؤمن بالله ربا   والقرآن نهجاً ودستورا ، أن يجد اليأس إليها سبيلا  وكيف تقنط أمةٌ يدعوها القرآن إلى التفاؤل، وحسن الظن   وانتظار الفرج ، وأن تستبشر بالخير ، وتطمئن بما قدره الله ، وتنتظر الفرج من الله عز وجل ، الذي نهى الله عن اليأس والقنوط ، مهما كانت الظروف والمصائب   حتى إن القرآن يضع اليأس في مرتبة الكفر، ويقرن القنوط بالضلال قال تعالى: ] وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ [ 56   الحجر . لكنها أصبحت حقيقة مشاهدة  وواقع لا ينكر ، ضاع فيه الأمل والحلم ، فخضعت الأمة خضوعاً مذلاً ، في حين يرجى لها الانتفاض  وركعت ركوعاً مخزياً ، في حين يرجى لها القيام ، فلماذا صارت إلى هذا المصير ؟ في تقديري أن ذلك راجع إلى تفريط المسلمين بدينهم   وابتعادهم عن منهج ربهم ، وتعاونهم على التخطيط لمستقبل أمتهم مع أعدائهم ، وقد اهتموا بالسنن والمندوبات والمستحبات ، وأهملوا الفرائض والواجبات ، أضف على ذلك ، ما تبثه القنوات الفضائية من الإباحية  والمجاهرة بكل فسق ومجون وانحلال ، وإهمال لمشاعر الأمة التي عاشت قروناً تحترم كل قانون وأدب إسلامي قال تعالى : ] وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا [

وقد انعكس هذا على الواقع الاقتصادي ، الذي يعاني من الانهيار  والديون المتراكمة ، والسيطرة الهائلة للاقتصاد الأجنبي على معظم مقاليد الأمور في البلاد الإسلامية  وهذا ما أوجد في نفوس كثير من المسلمين  إحباطاً ويأساً يشعرون معه أن القيام من جديد ، إن لم يكن صعباً  فهو من ضروب المستحيل ، ناسين أن اليأس من رحمة الله   جريمة في حد ذاتها ؛ فلا يجوز لأنه من صفات الكفار  والذين لا يعرفون حقيقة دين الله ، بل إن القرآن يقرر أن اليأس من رحمة الله كفر بالله قال تعالى : ] إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ [ 87 يوسف . وأنه لا بد من اتخاذ الأسباب ، ويقرره القرآن ناموساً كونياً لا يتبدل، ونظاماً ربانياً لا يتغير  وسنة من سنن الله ، ولن تجد لسنة الله تبديلاً ، وإن الأيام دول بين الناس، وإن القوي لن يستمر على قوته أبد الدهر ، والضعيف لن يدوم عليه ضعفه مدى الحياة ، فهي أدوار وأطوار، تعترض الأمم والشعوب كما تعترض الآحاد والأفراد ، فمداولة الأيام بين الناس  من الشدة إلى الرخاء ، ومن الرخاء إلى الشدة ، ومن النصر إلى الهزيمة ، ومن الهزيمة إلى النصر ؛ هي من السنن الربانية  قال تعالى : ] وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [ آل عمران140 . وهذه السنة نافذة بحسب ما تقتضيه سنة تغيير ما بالأنفس قال تعالى : ] حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ [ الأنفال 53   وسقوط الأمم  وعدمه مرتبط بهذا التغيير النفسي في مسارها عبر التاريخ والحاضر والمستقبل، وهي سنة ماضية ثابتة لا تتغير ولا تتبدل .

فحين يغير المؤمنون ما بأنفسهم ويستكملون أدوات النصر ، لا يضيرهم تفوق الأعداء عليهم ؛ لأن سنة أخرى تتدخل ، وهي وعد الله بالتمكين والنصر لعباده المؤمنين : ] وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [ الروم 47  وقوله تعالى : ]وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً [ النساء 141 وقوله : ] إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ [ غافر51 . وقد يتأخر ويبطىء نصر الله لحكمة ما ، لكن في نهاية المطاف فهو آت لا محالة قال تعالى : ] حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [110 يوسف . ولم تتخلف هذه القاعدة الربانية -وهي أن النصر لا يأتي إلا إذا اشتد الضيق، وزاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر حتى في الأمم السالفة، فكم من أمة ضعيفة نهضت بعد قعود وتحركت بعد خمود ، وكم من أمة بطرت معيشتها وكفرت بأنعم الله فزالت من الوجود ، وأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون.  

فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلن إعلاناً عاماً للبشرية كلها ويقول : (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، ولا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا فإن لو تفتح عمل الشيطان، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل)رواه مسلم.

ففي هذا الحديث تقوية للآمال، ورفع للهمم ، وحب للقوة والشجاعة وترك للفتور أو انتظار مقتضيات اليأس والإحباط، ودفع محاولة تبرير اليأس والقنوط، فالمؤمن هو الأقوى في كل الأمور: في الإيمان، في العلم والعمل، وفي كل شؤونه، يعد مؤمناً قوياً يستطيع بعون الله- أن يخرج من كثير من المشاكل والأزمات.. لا كما يفعله كثير من ضعفاء الإيمان من تبرير الفشل والكسل ، فالمؤمن القوي يحرص على ما ينفعه دوماً لا يخاف دون الله أحداً.. ثم هو مع ذلك الإقدام قد يصاب بمصيبة.. لكنه لا ييأس ولا يصاب بالإحباط بل يزيد إقدامه، ويقول عن تلك الأقدار والمصائب: قدر الله وما شاء فعل ، فما أعظمها من كلمات لو تدبرهن عاقل.. إنه تفويض للأمور وإرجاع لها إلى باريها..  الله الله بالتفاؤل والأمل، فإن ما ترونه اليوم من كيد أعداء الإسلام ، ليس إلا سحابة سوداء  سوف تنجلي عن قريب.. واعلموا أن ما أصاب الأمة من فتور ، وتركٌ لمسايرة الركب ، إنما جاء من حصول إحباط ويأس استولى على القلوب ، فلا تيأسوا فالنصر قادم ، أما تؤمنوا بقول الله تعالى : ] هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [ 33 التوبة . ويقول صلى الله عليه وسلم : ( والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)  البخاري ومسلم.

إن القرآن ليمد الصابرين الآملين الذين لا يجد اليأس إلى قلوبهم سبيلاً بمعين من القوة ، تتحطم أمامها قوى المخلوقين، وتعجز عن إضعافها والنيل منها محاولة العالمين ، وما يعلم جنود ربك إلا هو..وهل يليق بنا أن نقول : ماذا نصنع ونحن ضعاف وخصومنا أقوياء ؟ وفي صدورنا الأمل الواسع بنصر الله ، ومن ورائه التأييد الإلهي الشامل!! اللهم.. لا.. فأمِّلوا خيراً ، وإياكم والارتماء في مستنقع الذل والهزيمة واليأس من رحمة الله ، اللهم إنا نسألك عزاً للإسلام والمسلمين اللهم آمين .

 

 

 

 

 

 

 

 

حقوق الطفل في الإسلام

لقد اهتم التشريع الإسلامي بأمر الطفل ، وأحاطه بالرعاية  باعتباره رجل المستقبل وذخيرة الغد ، وأن النجاح في تربيتة على القيم والمثل العليا والأخلاق الفاضلة ، يؤدي إلى تكوين أجيال قوية قادرة على العمل والبناء ، وحقوق الطفل في الشريعة الإسلامية كثرة ، خصت الأم والأب ببعضها، وحددت واجباتهم تجاه أطفال بتنشئتهم على أخلاق الإسلام ، وأوجبت عليهم نهجاً وسطاً في التربية  يمنع القسوة والعنف ، ويبتعد عن التدليل الزائد    وخصت الدولة بالبعض الآخر ، بل إن الدولة مسئولة دينياً عن إعالة من لا عائل له ، وقد حرصت الشريعة على نشأة الطفولة في بيئة صالحة ، لذا حرصت على تكوين الأسرة وأوصت باختيار الزوجة الصالحة ذات الدين قال صلى الله عليه وسلم : ( تنكح المرأة لأربع : لمالها ولحسنها وجمالها ولدينها ، فاظفر بذات الدين تربت يداك ) مسلم  ودعا إلى ضرورة تفضيل الرجل الصالح فقال صلى الله عليه وسلم : ( إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فانكحوه إلا تفعلوا تكن فتنةٌ في الأرض وفساد ) الترمذي . وعندما سئل عمر بن الخطاب : " ما حق الولد على أبيه ؟ قال : أن ينتقي أمه ، ويحسن اسمه ، ويعلمه القرآن " . وقد قرر الإسلام حق الحياة لكل طفل قال تعالى : ] ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم [ الأنعام 151 . ووجهت الشريعة الوالدات أن يرضعن أولادهن ، وجعله واجباً دينياً قال تعالى : ] والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة [ البقرة 233 . وأوجبت لهم النفقة ، بل عدها النبي صلى الله عليه وسلم من أفضل النفقات فقال صلى الله عليه وسلم : ( أفضل دينار ينفقه الرجل دينار ينفقه على عياله .. الحديث ) مسلم . وقد روي في الحديث أن رجلاًً من الأنصار توفي وخلف أطفالاً صغاراً ، وكان قد صرف ما يملكه من أموال قبيل موته بقصد العبادة وجلب رضا الله ، مما أدى بأطفاله أن يمدوا يد العوز والحاجة يوم وفاته ، وعندما عرف النبي ذلك قال لقومه : ( ما صنعتم به ! قالوا : دفناه ، فقال : أما أني لو علمته ما تركتكم تدفنونه مع أهل الإسلام ، ترك ولده يتكففون الناس ) وأخرج أبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( كفى بالمرء إثماً أن يُضِّع من يقوت ) . 

وقد أوجب الإسلام على الآباء تعليم أطفالهم ، وهذا ما فهمه على بن أبي طالب من قوله تعالى : ] قوا أنفسكم وأهليكم نارا [ حيث قال : ( علموهم وأدبوهم ) وينقل عن الشوكاني في هذه الآية : علينا أن نعلِّم أولادنا الدين والخير وما لا يستغنى عنه من الأدب ، ثم ذكر قوله صلى الله عليه وسلم :( ما تحل والدٌ ولداً خيرٌ من أدبٍ حسن ) .ويرى ابن القيم : " وجوب تأديب الأولاد وتعليمهم والعدل بينهم حيث يقول : إن من أهمل تعليم ولده ما ينفعه وتركه سدى فقد أساء إليه غاية الإساءة ، وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء وإهمالهم لهم ، وترك تعليمهم فرائض الدين وسنته ، فأضاعوهم صغارا فلم ينتفعوا بأنفسهم ولم ينفعوا آبائهم كبارا ، وكم من والد حرم ولده خير الدنيا والآخرة ، وعرضة لهلاك الدنيا والآخرة ، وهذا من عواقب تفريط الآباء في حقوق الله وإضاعتهم لها وإعراضهم عما أوجب الله عليهم من العلم النافع والعمل الصالح " .

وقد أقرت الشريعة الإسلامية حق الطفل في اللعب وقد أورد علماء الحديث نصوصاً كثيرة في كتبهم تحت عنوان " استحباب التصابي مع الولد وملاعبته " تفيد أن اللعب مع الأطفال من الأمور المستحبة في الشريعة الإسلامية .

كما يعتبر الإسلام المساواة في معاملة الأطفال ذكوراً وإناثا من الأمور المهمة التي تبنى عليها الأسرة ، أسلوب تنشئة أبنائها ، روى الطبراني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( اعدلوا بين أبنائكم )  فالإسلام لم يفرق في المعاملة بين ذكرٍ وأنثى ، وإذا وجد من يميزون بين البنت والولد ، فالسبب يعود إلى البيئة الفاسدة التي رضعوا منها أعرافاً ما أنزل بها من سلطان تتصل بالجاهلية ، وهذا يعود لضعف الإيمان وعدم رضاهم بما قسم الله .

وقد يكون للعبد في البنات خيرٌ في الدنيا والآخرة ، قال صالح بن أحمد : كان أبي إذا ولد له ابنة يقول : " الأنبياء كانوا آباء بنات " ، وقد أنكر الإسلام التمييز بين الذكر والأنثى وأمر بالعدل بينهم، وميز البنت بأن جعلها الله حجاباً للآباء من النار عند حسن تربيتها. فقد روى الإمام أحمد في مسنده، عن عقبة بن عامر الجهني قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( من كانت له ثلاث بنات فصبر عليهن وسقاهن وكساهن من جِدَته ( أي: ماله ) كنّ له حجاباً من النار ) وقال صلى الله عليه وسلم : ( من كان له أنثى فلم يهنها ولم يؤثر ولده عليها أدخله الله الجنة ) .

روى مسلم عن النعمان بن بشير قال : ( انطلق بي أبي يحملني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ! أشهد  أني قد نحلت - أي أعطيت النعمان كذا وكذا - من مالي فقال : أكل بنيك قد نحلت مثل ما نحلت النعمان ؟ قال لا ، قال فاشهد على هذا غيري ، ثم قال : أيسرك أن يكونوا في البر سواء ؟ قال : بلى ، قال : فلا إذن ) وفي رواية أخرى لمسلم ( أفعلت هذا بولدك كلهم قال : لا  قال اتقوا الله واعدلوا في أولادكم ) .

وقد لاحظ المربون أن للأطفال حاجات نفسية لا تقل في أهميتها عن حاجتهم إلى الغذاء وإلى الرعاية الصحية والجسمية ، كالشعور بالأمن والطمأنينة ، والمحبة والعطف

وما أحسن ما قالته فاطمة الأنمارية عندما سئلت :" أي أولادك أحب إليك ؟ فأجابت : هم هم كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها " . كما أن الصغير إذا فقد العطف والمحبة نشأ غير سوي وأصاب صحته النفسية والعقلية والخلقية انحرافا ، وكثيراً ما تكون بداية الشذوذ والانحراف والإجرام .

لقد تعامل الرسول صلى الله عليه وسلم مع عالم الطفل فعمل على بنائه وتنميته وتزكيته وتعليمه بالوسائل التربوية ، التي تستوعب خصائص الطفل على اختلافها ، من بناء عقيدة الطفل إلى تربية سلوكه وخلقه ، إلى تنمية حسه الاجتماعي والنفسي والعاطفي ، والتنويع في وسائل التربية ، بالقدوة تارة والموعظة أخرى ، وبالقصة والعبرة ، وبالترويح والتدريب على المعاني السامية وفقاً لقيم السماء .

من حقوق الأطفال في الإسلام معانقتهم، وتقبيلهم وملاعبتهم، وممازحتهم ( قَبَّلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم  الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس التميمي فقال الأقرع : إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداً، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم  وقال: ( من لا يرحم لا يرحم) رواه البخاري . وفيه أيضاً عن عائشة رضي الله عنها قالت: ( جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: تقبلون الصبيان فما نقبلهم! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أو أملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة ؟ ) .

وكان يأخذ الحسن بن علي و الحسين فيقعدهما على فخذه يلاعبهما ويحملهما ، مما يدل على أن من حق الطفل أن يلعب وأن يلهو، وأن يشبع رغبته في ذلك وكان عليه الصلاة والسلام إذا مرَّ بالأولاد وهم يلعبون ألقى عليهم السلام ووقف ينظر إليهم ، وكان يخاطب الصغير منهم بما يثير اهتمامه منهم فيقول سائلاً الطفل عن عصفوره الخاص ( يا أبا عمير ما فعل النغير ) .

ومن أهم ما ينبغي الاهتمام به والحرص عليه تعويد الأبناء على أداء فرائض دينهم، وتربيتهم عليها منذ وقت مبكر؛ كيلا يَشق الأمر عليهم حين البلوغ؛ ولهذا وجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يَحُثُّ أولياء الأمور على تربية الأبناء على تعاليم دينهم منذ وقت مبكر من أعمارهم، فيقول: ( مُروا أولادكم بالصلاة لسبع سنين، واضربوهم عليها لعشر  وفرقوا بينهم في المضاجع ) رواه أبو داود ، وتدريب الأبناء وتعويدهم على صيام شهر رمضان يندرج تحت هذا الأمر النبوي.

وقد ورد ما يؤكد على عدم غشهم أو الكذب عليهم، جاء في حديث عبد الله بن عامر ، قال: ( دعتني أمي ورسول الله قاعد في بيتنا فقالت: ها تعال أعطيك فقال لها : ما أردت أن تعطيه؟ قالت : أعطيه تمرا فقال لها : أما أنك لو لم تعطيه شيئاً كتبت عليك كذبة ) . فالكذب على الطفل يفقده ثقته بأبويه ، فينصرف عن الاستماع إليهما ويعمد إلى تقليدهما بالكذب.

إن تربية الأولاد أمانة ومسؤولية لابد من القيام بها، لأنهم إذا أضاعوا تربيتهم صغاراً لم ينتفعوا بأنفسهم ولم ينفعوا آباءهم كباراً ،عاتب أحد الآباء ولده العاق فقال الولد: "يا أبت إنك عققتني صغيراً فعققتك كبيراً، وأضعتني وليداً فالمطلوب من الآباء إعانتهم أولادهم على برهم ، مصداقاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم  : "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليعن ولده على بره". وإلا فإنهم سيحاسبوا على عقوق أولادهم كما يحاسب الأولاد على عقوقهم .

جاء أحد الناس إلى عالمٍ من العلماء وقال: أشكو إليك  ابني ضربني على وجهي. قال: أعلمته القرآن؟ قال: لا. قال: أعلمته السنة؟ قال: لا. قال: أعلمته آداب العرب؟ قال: لا. قال: ظنك ثوراً فضربك " ، وما عق الابن أباه إلا لأن الأب عق أباه ، وما علم ابنه برّ الوالدين 

وينشأ ناشئ الفتيان منا  على ما كان عوده أبوه

أسأل الله أن يصلح لنا ولكم الذرية ، وسيكون موضوعنا في الجمعة القادمة خصائص وأهداف تربية الطفل في الإسلام .

  

 

 

 

 

 

 

 

 

خصائص تربية الأولاد في الإسلام

تميزت التربية الإسلامية بخصائص مستمدة من منهج الله  الذي يجعل المسلم يستمد التوجيهات التي تشمل جميع جوانب الحياة من منهج الله ، فتحقق له الحياة الواقعية   من خلال التنشئة الصالحة ، ليكون مسلماً عابداً عاملاً مؤتمراً بأوامر الله ، ومنتهياً بنواهيه تأسياً بقوله تعالى :   ] وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون [ الذاريات 56 . ليربط بين معنى العبودية ، والتصرفات الحياتية ، كالأكل والشرب ، وأن يؤدي الصلاة كاملة ، وان يتبع سنة محمد صلى الله عليه وسلم ، وأن يتعرف على حياة النبي وترسيخ حبه في نفوس الأطفال ليقلدوه ويقتدوا به ، ولا بد للطفل من قدوة في أسرته ووالديه لكي يتشرب منذ طفولته المبادئ الإسلامية   لأن الولد الذي يرى والده يكذب لا يمكن أن يتعلم الصدق ، والذي يرى أمه مستهترة لا يمكن أن يتعلّم الفضيلة ، والذي يقسو عليه أبوه لا يمكن أن يتعلّم الرحمة   لأن الأسرة هي الأساس الذي يبذر في نفس الطفل أول بذرة ، لذا يجب على الآباء والمربين انتهاج الطريق الصحيح لتربية أطفالهم   وقد اهتم الرسول صلى الله عليه وسلم بتربية الأولاد تربية إسلامية صحيحة والأنبياء من قبله كانوا يوصون أولادهم بتقوى الله وتوحيده قال تعالى :] ووصى بها إبراهيمُ بنيه ويعقوبُ يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وانتم مسلمون [ البقرة 132 .

وقد كان جانب العقيدة من أهم الجوانب التي اعتنى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك واضح في تلقينه ابن عباس مبادئ العقيدة الصحيحة عندما قال له : ( يا غلام احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، إذا سألت فاسأل الله   وإذا استعنت فاستعن بالله ..الحديث ) الترمذي . قال ابن رجب " هذا الحديث يتضمن وصايا عظيمة وقواعد كلية من أهم أمور الدين ، حتى قال بعض العلماء: تدبرت هذا الحديث فأدهشني وكدت أطيش لما فيه من الفوائد الجمة التي فيها : اهتمام النبي بتوجيه أمته وتنشئتها على العقيدة السليمة والأخلاق الفاضلة " .  والسنة النبوية مليئة وحافلة بالأحاديث التي تشير إلى موعظة الأبناء والناشئة ، والتي كان لها الأثر الأكبر في تنشئتهم التنشئة الإسلامية الحقة ، وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم الوالدين والمربين ، بتعليم أبنائهم أركان الصلاة وواجباتها ومفسداتها ، وحدد سن السابعة بداية لمرحلة التعليم   وقد أمر بمعاقبة من قصر في صلاته أو تهاون أو تكاسل في أدائها في سن العاشرة فقال صلى الله عليه وسلم : ( مُروا أبنائكم بالصلاة وهم أبناء سبع ، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر  وفرقوا بينهم في المضاجع ) أبو داود . ويجب التأكيد على أن العقاب يجب أن يتلو الذنب مباشرة ، وألا يكون من الخفة بحيث لا يجدي أو الشدة بحيث يشعر بالظلم أو يجرح الكبرياء ، وان تربية الطفل لا يصلح لها إلا ضبط الأعصاب مع التحمل المستمر لحركات الطفل وتصرفاته غير المتزنة ، وهذا ما يراه الوالدان من أشق أنواع التحمل في شؤون الأسرة ، ولكنه من أهم الضرورات لإصلاح تربية الطفل ، واشعر الطفل وأنت تضربه أنك لا تزال تحبه ، وقلل ما استطعت من استعمال الضرب ، ولأن يهابك ويحبك خيرٌ من أن يخافك ويكرهك .

وتعد القصة من وسائل التربية الحديثة ، لأن لها أهمية كبيرة في قوة التأثير إذا ما قورنت بالكلام العادي  كقصص الأنبياء ، وأبطال الإسلام ، وقد أكدت السنة مبدأ الترويح ، لأنه يقوم بدورٍ تربوي مؤثر في تنمية شخصية الأبناء ، ما يكسب الطفل السلوك المقبول اجتماعياً ، وأن يعرف السلوك غير المقبول ، فيتعلم متى يلعب ومع من يلعب ، وقد حرص الإسلام على تدريب الأبناء وتعليمهم العادات الإسلامية ، والأخلاق النبيلة  وأن يتمثلوها في حياتهم ، لأن تكوين العادة في الصغر  أيسر بكثير من تكوينها في الكبر .

ومن القواعد التي وضعها الإسلام في تربية الطفل اجتماعياً تعويده على سنة السلام ، وعبادة المريض ، وحضور مجالس الكبار ، والتدريب على البيع والشراء ، وأدب الطعام والشراب ، والاستئذان ، وتعويده على الصدق  والتحذير من عادة الكذب ، والتعويد على حفظ الأسرار   والأمانة وسلامة الصدر وترك الأحقاد ، كما ينبغي إشعار الطفل بأنه محبوب ، وأنه محل عناية وعطف ، وقد أوجب الإسلام العدل بين الأبناء ، ونهى عن تفضيل بعضهم على بعض ، وكان صلى الله عليه وسلم يستنكر أشد الإنكار عدم العدل فيقول : ( اعدلوا بين أولادكم كررها ثلاثا ) مسلم  

وهناك حقوق ينبغي أن نرشد الطفل إليها ، من أهمها حق الأبوين إذ يجب على المربي أن ينشئ ولده على ذلك البر   ويلقنه إياه ، وإذا تربى الطفل على هذا الحق ، كان من السهل عليه أن يتربى على احترام الجار والكبير واحترام المعلم ، بل واحترام الناس جميعا لأن فضيلة بر الوالدين هي منبع الفضائل .

وينبغي تعويد الإبن على النظافة ، فقد دعا إليها الإسلام  لأن الطفل الذي يريد الصلاة لا بد أن يتوضأ ، ولا بد أن تكون ثيابه نظيفة طاهرة ، وعلى المربي أن يعود الطفل النطق بالأذكار والأدعية المهمة ، وغرس محبة الله في نفسه وتعظيمه وخشيته ، وتعويده على الكلمات الطيبة  وتنمية الطموح لدى الطفل ، كأن يغرس في نفسه بأن يكون عالماً أو طبيباً .

وعلى المربي تربية الطفل على صفات الرجولة ، التي تبدأ من الصغر فلا يقول الإنسان : أنا صغير أو يربي أطفاله على التواكل ، فيقول كلما أسند إليه أمر : صغير صغير فينشأ وعمره أربعين وهو لا يزال صغيراً.. فهذا لا يصح   لأن التربية الصحيحة أن يشعره بالمسئولية من العاشرة  فهذا محمد بن القاسم قد قاد الجيش الإسلامي يوم دخل الهند وعمره خمس عشرة سنة!

 وهذا أسامة بن زيد الذي قاد الجيش لسبع عشرة سنة  وأرسل  صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن وعمره ما يقارب السابعة عشرة سنة ، وقد قال الصحابة لـعمر وكان يدخل عليه ابن عباس وعُمُره ثلاث عشرة سنة فقالوا : كيف تدخل هذا الطفل ؟ وقد كان عمر في مجلس الشورى الذي لا يدخله إلا من بلغ سن الأربعين فما فوق، من أهل بدر  وأهل بيعة الرضوان، وشيوخ الصحابة ، وأسياد الأمة ولا يدخله غيرهم لا من الأعراب ولا من الأطفال إلا ابن عباس ففد  أستثنى وسمح له بالدخول ، قال ابن عباس : " فجمع عمر الناس وقال للصحابة : ما معنى قوله تعالى : ] إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [ النصر:1 ، وهو يلتفت إلى ابن عباس ، يريد أن يريهم ذكاءه ، فقال الصحابة : لا ندري فالله يقول للرسول صلى الله عليه وسلم : إذا جاء النصر والفتح فاستغفر وتب، فسألهم جميعاً فقالوا: لا نعرف إلا هذا ، قال : وأنت يا ابن عباس ؟ فقال معنى الآية: قد اقتربت وفاتك يا رسول الله ، فما دام أن العرب قد أسلمت ودخلت في دين الله فترقب الوفاة أو كما قال ، فقال عمر : والله ما أعلم منها إلا كما تعلم ، ولذلك أدخلوه معهم في مجلس الشورى.

ولما جاء وفد العراق يبايع عمر بن عبد العزيز بالخلافة وكان فيهم شاب صغير جالس، فقام الشاب يتحدث فقال : مرت بنا ثلاث سنوات أما سنة فأذابت الشحم وأما سنة فأكلت اللحم، وأما سنة فدقت العظم ، وعندك مال الله فأخرج ما لله من خزائن الله على عباد الله فقال عمر بن عبد العزيز : يا بني.. اجلس ففي الناس من هو أولى منك بالحديث ، فقال الشاب: يا أمير المؤمنين! لو كان الأمر بالسن لكان في الناس من هو أولى بالخلافة منك أنت:

تعلم فليس المـرء يولد عالمـاً وليس أخو علم كمن هو جاهل 

إن كبير القـوم لا علم عنده   صغير إذا التفت عليه المحافل

فيا ليت المربين يحرصون على تربية أبنائهم التربية الإسلامية الحقة في ضوء الكتاب والسنة ، لأنها النهج العملي والتطبيقي الفعلي لتربية الأطفال ، ومن خلال قوله صلى الله عليه وسلم : ( كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته ) .

 

 

 

 تنظيم العلاقة بين الزوج والزوجة

 

هناك واجبات وحقوق على الأزواج ، لا بد منها لدوام الحياة الزوجية ، أما الزوج فبما جعل الله له من قوامة قال تعالى:{ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ } النساء:34 . وقد استمد الرجل هذا الحق من تفوقه التكويني على المرأة، ولتحمله تكاليف المعيشة الشاقة ، وهي قوامة لا تبيح للزوج التسلط والخروج عن دائرة المسؤولية إلى دائرة التحكم والتعامل القسري مع الزوجة، لأن ذلك يتصادم مع حق المرأة في المعاشرة الحسنة ، الذي أشار إليه القرآن صراحة في قوله تعالى : {وعاشروهن بالمعروف}النساء 19. ولا شك أن الإسلام قد طلب من الزوجة طاعة الزوج في كل ما يرتضيه العقل والشرع ، وما عدا ذلك لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، والإسلام لا يرتضي أن تستخدم هذه القوامة وسيلة لإذلال المرأة، أو الانتقاص من مكانتها . وأما الزوجة فهي شريكة الحياة ، ورفيقة الدرب قال الله تعالى :{ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} الروم 21 . إنها صلة النفس بالنفس  والسكن والقرار والمودة والرحمة ، صلة تحتاج إلى حسن الخلق ، لأن الزوجة تحتقر زوجها الذي يكثر السب واللعن والطعن ، بل لا قيمة لكل ما يقدمه إن كان سيئ الخلق  ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة  : (استوصوا بالنساء خيراً)  أمرٌ من رسول الله لكل زوج ، وقد يبين رسول الله صلى الله عليه وسلم حرمة الزوجة المسلمة ومكانتها في الحديث  الذي رواه مسلم من حديث جابر بن عبد الله وفيه : ( اتقوا الله في النساء؛ فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله) وفي الحديث الذي رواه ابن حبان والحاكم والترمذي وغيرهم بسند صحيح من حديث أبي هريرة  أن النبي  صلى الله عليه وسلم قال: ( أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً ) (وخياركم خياركم لنسائهم) . ومن أخلاق الإسلام وسننه ، إذا دخل الزوج على أهله أن يقول: السلام عليكم ورحمة الله . لما ورد في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره بسند حسن، أن النبي  صلى الله عليه وسلم قال لـأنس رضي الله عنه: (يا بني! إذا دخلت على أهلك فسلم؛ يكن بركة عليك وعلى أهل بيتك) ولأن ذلك يساهم في حل المشكلات بين الأزواج إن جدت     وأن يلقى امرأته إذا دخل عليها بوجه طلق؟ روى الإمام مسلم في الصحيح من حديث أبي ذر أن النبي  صلى الله عليه وسلم قال له : (لا تحقرن من المعروف شيئاً، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق) وأولى الناس بطلاقة الوجه من الرجل هي امرأته لأنها أقرب الناس إليه ، وليس من أخلاق الإسلام وسننه أن يدخل الزوج البيت مكفهر الوجه ، حتى أن  الزوجة   تستجدي منه الكلمة الطيبة، وتتسول منه الابتسامة الحانية، في الوقت الذي تراه مع أهله وأقربائه وأصدقائه وأحبابه لطيفاً ظريفاً، ودودواً لكنه يعامل زوجته بالقسوة والغلظة  وأن أولى الناس بهذه الملاطفة هي الزوجة رفيقة الدرب وشريكة الحياة  فأولى أن يخاطبها بأرق الكلمات، وأجمل العبارات التي تسعد قلبها  فالكلمة الطيبة صدقة ، فما ظنك إن كنت ستتصدق بهذه الكلمة على أقرب الناس إليك ، كما جاء في الصحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم : (اتقوا النار ولو بشق تمرة   فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة) فالزوج المؤمن لا يخاطب امرأته بكلمات جارحة نابية ، ولا يتصيد الخطأ الصغير من أجل أن يجعل منه مشكلة كبيرة  ليعنف ويوبخ  وشتان بين زوج يداعب زوجته ويقول لها: إن النساء رياحين خلقن لنا وكلنا يشتهي شم الرياحين ، وبين زوج عبوس يقول لامرأته: إن النساء شياطين خلقن لنا ، نعوذ بالله من شر الشياطين ، وليعلم الأزواج أن الحياة الزوجية ليست مكاناً للطعام والشراب، والاستمتاع الجسدي فحسب وإنما هي لبناء أسرة البيت باعتباره مثابة وسكن  تنبت في كنفه الطفولة    وتمتد منه وشائج الرحمة وأواصر التكافل ، يكون الزوج فيها عوناً لزوجته على طاعة الله سبحانه ، ويا حبذا لو أطلق يدها لتنفق في سبيل الله ، ولا حرج على الإطلاق إن أخبرها بأنه قد سامحها لو أنفقت شيئاً من ماله في مرضاة الله سبحانه ، ويا حبذا لو جلس مع امرأته في أماكن جميلة ، ليقضي معها وقتاً جميلاً  وأن يكون عوناً لها على طاعة الله سبحانه وتعالى، ففي الحديث الذي رواه أبو داود وابن ماجة بسند صحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى فأيقظ امرأته -يعني لتصلي معه- فإن أبت نضح في وجهها الماء) ليكون عوناً لها على طاعة الله، كما يجب أن تكون هي الأخرى عوناً له على طاعة الله عز وجل .

 

وينبغي على الزوج  الإنفاق على الزوجة لأنه حق من أعظم حقوقها، ولا ينبغي على الزوج أن يقصر في هذا الحق حتى لا يقع في الإثم لقوله صلى الله عليه وسلم : (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت) ولأن الزوجة تبغض من كل قلبها الزوج البخيل، ولو كان صاحب منصب أو جاه ، ولينفق الزوج بلا إسراف ولا تقتير، وبلا إفراط أو تفريط لقوله تعالى:{ لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ - يعني من ضيق عليه رزقه - فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً } الطلاق 7 . والنبي  صلى الله عليه وسلم يخبرنا بأن النفقة على الزوجة صدقة ، لما في الصحيحين من حديث أبي مسعود البدري : ( إذا أنفق الرجل نفقة على أهله يحتسبها فهي له عند الله صدقة )  وروى البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (دينار أنفقته في سبيل الله ودينار أنفقته في رقبة، ودينار أنفقته على مسكين  ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها عند الله أجراً دينار أنفقته على أهلك)  .

 

ومن حقوق الزوجة على زوجها: حق الفراش ، ذكره من كان أشد حياءً من العذراء في خدرها ، وما دام أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ذكره فنحن نذكره بدون أدنى حياء أو خجل  وهو حق من أعظم الحقوق الزوجية ، لذا ينبغي أن يكون اللقاء فيه لقاء مودة ورحمة ، يتطيب كلٌ من الزوجين للآخر لقوله تعالى : { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ } البقرة 228 . وكان ابن عباس يقول: " إني لأحب أن أتزين لامرأتي كما أحب أن تتزين لي امرأتي " فكما يحب الزوج أن تتطيب وتتزين له زوجته فمن حقها عليه أن يتزين ويتطيب هو الآخر لها.

 

والعجب كل العجب من إهمال المرأة لنفسها في بيتها بحضرة زوجها، وإفراطها في الاهتمام بنفسها وإبداء زينتها عند الخروج من بيتها، حتى صدق فيها قول من قال: قرد في البيت وغزال في الشارع ، وعلى الزوجة أن تعلم أن زوجها أحق الناس بزينتها وجمالها ، وأن عليها   أن تمكنه من نفسها كلما أراد ذلك  إلا في الحالات الاستثنائية الطبيعية التي تمر بها ، يقول صلى الله عليه وسلم  :

 

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن من خير نسائكم الولود الودود، الستيرة العزيزة في أهلها الذليلة مع بعلها -اي المتواضعة والمتحببة لزوجها رغم انها كانت عزيزة في اهلها- المتبرجة لزوجها الحصان عن غيره -اي التي تتزين في مظهرها وتتجمل في ملبسها لزوجها فقط اما مع الرجال المحارم فهي الرزنة في اقوالها وافعالها الممتنعة والمحصَنة او العفيفة مع غيره- التي تسمع قوله وتطيع أمره - اي لا تكون ندا معاندا له وعنصرا مخالفا لأراءه واقواله- وإذا خلا بها بذلت له ما أراد منها -اي مطاوعة له عند خلوتها به-  ثم قال: ألا اخبركم بشر نسائكم ؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال : شر نسائكم الذليلة في أهلها العزيزة مع بعلها - اي التي تتعزز على زوجها رغم انها كانت ذليلة عند اهلها-  العقيم الحقود التي لا تتورع من قبيح، المتبرجة إذا غاب عنها بعلها، وإذا خلا بها بعلها تمنعت منه تمنع الصعبة عند ركوبها - اي تمنعت كالدابة الصعبة الوحشية او المتنفرة التي تنفر ممن يريد ركوبها - ولا تقبل منه عذرا ولا تغفر له ذنبا - أي لا تسامحه وتقبل عذره عند خطئه او تقصيره ولا تنسى سيئاته معها- ، صححه الألباني في "صحيح الجامع الصغير " برقم : (3330) , وفي " السلسلة الصحيحة " برقم: (1849).

 

فالمرأة عليها الصلاح والانقباض في غياب زوجها والرجوع إلى الانبساط  وأسباب اللذة في حضوره وقد ورد في الأحاديث ما يحذر المرأة من الابتعاد عن فراش الزوجية ، وأن الملائكة تلعنها حتى تعود إلى زوجها ، لهذا قال صلى الله عليه وسلم : ( والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشه: فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء ساخطاً عليها حتى يرضى عنها ) وقال: ( إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه، فأبت أن تجيء، فبات غضبان، لعنتها الملائكة حتى تصبح )  لهذا على الزوجة الاهتمام بهذا الحق والاستجابة لزوجها ، خاصة في هذا العصر الذي ينتشر فيه الإغراء والتبرج ، فما يراه الرجل سواء في المنزل أو في الشارع أو في الأسواق من تبرج للنساء  يثير  الشهوة عنده ، وقد نبه إلى هذا صلى الله عليه وسلم بقوله ( إن المرأة تقبل في صورة شيطان، وتدبر في صورة شيطان فإذا رأى أحدكم امرأة فأعجبته فليأت أهله ، فإن ذلك يرد ما في نفسه ) وليس للزوجة أن تنشغل عن هذا الواجب ولو بأي أمر من الأمور لقوله صلى الله عليه وسلم : ( إذا الرجل دعا زوجته لحاجته، فلتأته وإن كانت على التنور )  أي وإن كانت تخبز على الفرن.

 

وعلى الزوجة أن تحترم زوجها وتطيعه وأن تسهم بدورها في عقد المودة والمحبة معه يقول صلى الله عليه وسلم : ( لو جاز لأحد أن يسجد لأحد غير الله  لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها ) وهكذا قدس الإسلام هذه الطاعة وهذه العلاقة بين الزوجين ، لذا يتوجب على الزوجة أن تكون لطيفة المعشر مع الزوج ، تخاطبه بعبارات تدخل السرور على قلبه ، خصوصا عندما يعود من العمل خائر القوى مرهق الأعصاب ، وأن تستقبله والبشر في وجهها، وتعرض خدماتها عليه ، لتنال رضاه ( فطوبى لامرأة رضي عنها زوجها ) كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم .

 

فللزوج إذن حق القوامة، وحق التمكين أو الاستمتاع  وحق الطاعة في الحدود المشروعة ، وليس للزوجة أن تخرج من بيتها بدون إذن زوجها ، وأن لا تعمل عملا يضيع عليه كمال الاستمتاع حتى لو كان ذلك تطوعا بعبادة لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يحل لامرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه ، ولا تأذن لأحد في بيته إلا بإذنه ) وقد جعل رسول الله  صلى الله عليه وسلم رضى الزوج عن زوجته من أسباب دخولها الجنة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة ) .

 

وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه أبو هريرة : ( إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحصنت فرجها، وأطاعت زوجها، قيل لها: أدخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئت)  ومما يؤسف له أن الكثير من الزوجات يقمن بالصلاة والصيام وغير ذلك من أعمال البر لكنهن يهملن طاعة الزوج. مع أن الله عز وجل الذي أمر بالصلاة والصيام ، هو سبحانه الذي أمر الزوجة بطاعة زوجها والعمل على رضاه ، لذلك ينبغي عليها أن تحرص على رضا زوجها ولا تهمل حقوقه ، وعلى كل فالزوجة الصالحة هي التي تفهم ذلك جيداً، وتتصرف على ضوء هذا الفهم، وتخشى الله في زوجها. فتكون ممن قال الله فيهن : { فَٱلصَّٰالحاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظاتٌ لّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ ٱللَّهُ } النساء 34  أي أن النساء الصالحات  مطيعات لله ولأزواجهن، حافظات لغيبتهم إذا غابوا  فيحفظن أنفسهن، ويحفظن أموال أزواجهن حتى يعودوا.

 

ومن الحقوق الزوجة أن يكون الزوج أميناً على أسرار البيت ، وإلا فإنه يكون من شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة، كما يقول النبي عليه السلام في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم : ( إن من شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته   وتفضي إليه ، ثم ينتشر سرها) وهذا من أقبح صور الخيانة أن يفشي الرجل سر امرأته .

 

ومن الحقوق الغيرة المنضبطة لقوله صلى الله عليه وسلم  : (إن من الغيرة ما يحبه الله، ومنها ما يبغضه الله)، فأما الغيرة التي يحبها الله سبحانه فالغيرة في ريبة، لأنها غيرة لها أسباب صريحة وأدلة واضحة ، وأما الغيرة التي لا يحبها الله سبحانه وتعالى فالغيرة في غير ريبة والتي تبنى على الظن والأوهام والشكوك ، لأنها تخرب البيوت، وتدمر الأسر، وقد يتهم   الزوج زوجته بأبشع التهم ، لذا لا بد أن تكون الغيرة منضبطة، بلا إفراط أو تفريط ؛ حتى تستمر الحياة وتظل بيوت المسلمين مستورة .

 

ومن حق الزوجة إن أخطأت واعتذرت أن يقبل الزوج عذرها ويعفو عنها لتستمر الحياة. 

 

ومن الحقوق: أن تكرم أهله وأقاربه خصوصاً الوالدين: فعليها برهما وإكرامهما، تقديراً لزوجها واحتراماً له ، وما يذكر من الخلاف الواقع بين أم الزوج وبين الزوجة هو أمر مستغرب ، وهو من كيد الشيطان وإغوائه لإفساد الحياة الزوجية ، وحمل الزوج على عقوق والديه .

 

وعلى الزوجة أن تتحمل وتصبر وأن تبتعد عن إثارة المشاكل مع أم زوجها ، وتجنب الشكوى إلى الزوج من والدته، حتى لا تفسد بيتها، وعليها أن لا تضع زوجها في خيارات صعبة مثل: التضحية بأمه أو بزوجته ، وعليها أن تعلم أن الأم هي أم ، وهي أم واحدة ولا يمكن استبدالها حتى ترضى الزوجة .

 

وعلى الزوجة أن تقرب بين زوجها وأهله بدلاً أن تفرق بينهم، لأن عدم تقديرها لأهله وإبعاده عنهم جريمة تعاقب عليها الزوجة في الدنيا والآخرة، ويكفي في هذا قول النبي : ( ليس منا من لم يجل كبيرنا ) ليس منا من لم يوقر كبيرنا، وعلى الزوج أن يكون في هذا رجلاً وأن لا تسيطر عليه المرأة فتوقعه في عقوق والديه، ويكفيه قول النبي ( لا يدخل الجنة عاق) .

 

ومن الطاعة للزوج أن لا تطيع أحداً في معصيته ولو كان أبويها ، لأننا نسمع أن بعض الزوجات يطعن أمهاتهن في معصية أزواجهن، ويؤذين أزواجهن بناءً على توصيات الأمهات ، وهذا حرام ولا يجوز أبداً ، حرام على الأم أن تحرض ابنتها على زوجها طالما كان الزوج متقياً لله فيها وحرام على الزوجة أن تطيع أمها أو أي أحدٍ في معصية زوجها، دونما مبرر شرعي ، يقول ابن تيمية : " المرأة إذا تزوجت كان زوجها أملك لها من أبويها، وطاعة زوجها أوجب وقال: "لا يحل لها أن تطيع واحداً من أبويها في طلاقه، إذا كان متقياً لله فيها" . وعلى الأزواج الالتزام بحسن المعاشرة ، والاحترام ومقابلة الإحسان بالإحسان ، فالمرأة هي الرقة واللطافة أولاً وأخيراً ، لأنها ذوق وتربية ، وبها تدوم المحبة  وقد أنذر الرسول صلى الله عليه وسلم من كفران العشير ونكران الإحسان فقال صلى الله عليه وسلم : ( رأيت أكثر أهل النار النساء ، قالوا لم يا رسول الله ؟ قال : بكفرهن قيل يكفرن بالله ؟ قال : يكفرن العشير ويكفرن الإحسان ، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئا قالت : ما رأيت منك خيراً قط ) البخاري . والمعاملة بالحسنى من طرف الزوجة   دليل واضح على حسن تربيتها، وعلى استقامتها وصلاحها ، عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم  أنه كان يقول: ( ما استفاد المؤمن – بعد تقوى الله عز وجل – خيراً له من زوجة صالحة إذا أمرها أطاعته، وإن نظر إليها سرته، وإن أقسم عليها أبرته، وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله) وهكذا يربط الإسلام الزوجة بالزوج ، والزوج بالزوجة ، ثم يربطهما بالبيت وبحياة البيت ، ثم يربطهما بالدين وبالدنيا وبالآخرة معا ن لأنهما أساس البيت  وأساس الحياة في البيت ، ومربيا الأولاد ، ولذا فهما أساس الجيل ، وأساس المجتمع  ، ولكلٍ منهم مسئوليته قال صلى الله عليه وسلم : ( كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته  الأمير راع ، والرجل راع على أهل بيته ، والمرأة راعية على بيت زوجها ، فكلكم راعٍ وكلكم مسئولٌ عن رعيته ) البخاري . 

 

 

 

مصائب الأمة

 قال  صلى الله عليه وسلم : (إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك الله أن يعمهم بعقابه) رواه أحمد في مسنده . واجب المسلمين قادة وزعماء وعلماء وغيرهم ، واجبهم الاهتمام بكل مصيبة تحل أو نكبة تقع ، واجبهم تذكير الناس وبيان ما وقعوا فيه ، وأن يكونوا القدوة الصالحة في العمل الصالح، والبحث عن مسببات غضب الله ونقمته ، والبحث عن العلاج والإصلاح ، لأن هداية العالم وحكمة الوالي وصلاحهما من أهم المؤثرات في الرعية (فكلكم راع وكل مسئول عن رعيته) وإذا استمرأ المسلمون المعاصي ولم ينكرها من بيده الأمر والحل والعقد ، يوشك أن يعم الله الأمة بغضب منه، وإذا وقع غضب الله وحلت نقمته فإن ذلك يشمل المحسن والمسيء نعوذ بالله من ذلك قال تعالى: ﴿ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً  ﴾ .  والحديث عن مصائب الأمة ، حديث يطول ، فهل نتحدث عن مصاب الأمةٍ وهي تئن من ضربات الأعداء ؟ أم نتحدث عن مصاب الكثيرين منهم وهم يموتون جوعاً وعرياً، وفقراً، على حين أنهم أغنى الأمم وأكثرها أموالاً وأولاد ؟ أم نتحدث عن مصاب هذه الأمة حين يقتل بعضها بعضاً، ويسفك بعضها دم بعض؟! أم نتحدث عن مصيبة هذه الأمة حين تفارق دينها وتجهل حدود ما أنـزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم ؟ فحين نقرأ في الأخبار، أو نسمع عن بعض المصائب، لو أردنا أن نتحدث عنها لعجزنا لأن الواقع يكون أحياناً أكبر من الكلمات  .

جاء في بعض التقارير في الصومال أن أعداداً غفيرة من الناس، تقف طوابير عند إحدى المنظمات، لماذا؟ لأجل أن تسجل أولادها وأطفالها في قوائم الراغبين في السفر إلى أوروبا وأمريكا، حتى يجدوا الحياة المطمئنة هناك وهم أطفال ، وقطعاً سوف يتخرج هؤلاء قُسساً ورهباناً ومنصرين، ثم يعودون إلى الصومال بأسماء نصرانية ويحملون الصليب بيد، والإعانة بيدٍ أخرى .

وليس الوضع في إريتريا بأحسن حالا ففي السودان وحدها أكثر من مليون ونصف لاجئ إريتيري، منهم سبعمائة ألف في المعسكرات، في أوضاع في منتهى الفقر لا يجد الواحد منهم إلا ما يسد رمقه، أو يستر سوأته وعورته .

وفي فلسطين، نجد ألوان الاضطهاد الذي يلقاه المسلمون على يد اليهود، الذين هم أشد الناس عداوةً للذين آمنوا  وحدث ولا حرج عما يدور في العراق وأفغانستان ، بل إنك لتجد في كل بلدٍ مصيبة، وفي كل منطقة كارثة، وفي كل ناحية نكبة ، كما انك لتجد ما يضحك ويبكي  فتجد أغلى إنسان وأرخص إنسان ، فالمسلم الحق أغلى إنسان عند الله عندما يعمل لتحكيم شرع الله ، وهو أرخص إنسان عند الأعداء الذين لم يحركوا ساكناً على مليوني إنسان، غادروا أرض البوسنة والهرسك إلى مكان لا يعلمونه، ولا يغضب على مئات الألوف ممن هم في معسكرات الاعتقال، ولا يغضب لعشرات الألوف الذين سحقتهم الدبابات وقتلوا في حرب الشوارع، ولا يغضب أيضاً لتلك الأعداد الغفيرة ممن ماتوا في المجاعات، لماذا؟ لأنهم مسلمون ، وحتى عند بعض المسلمين نجد المسلم لا يحظى باهتمامهم كما تحظى به البهائم ، وقد سمعنا أن من الدول الإسلامية من دفعت إعانات ومساعدات، لبعض حدائق الحيوانات في لندن ، بل إن من المسلمين من هان على نفسه ، فأصبح لا يرى نفسه شيئاً ولا يري نفسه أهلاً لشيء لا يعمل، ولا يتكلم ولا يشارك  ولا يناقش  ولا يُفكِّر ولا يسمع ولا يبصر، فتجد من المسلمين يقول: لماذا أسمع الأخبار؟ أنا لست حاكماً كي أتصرف، فدع الناس وما هم فيه، لماذا أسمع وأزعج نفسي؟!  فأنا لا أستطيع أن أقدم ولا أؤخر؟!  والأمور خربانة، وليس باليد حيلة والشكوى إلى الله وهكذا ، فقد أصبحنا نخشى من الدول العظمى، ونخشى من خصومنا وأعدائنا  ونخشى من اليهود والنصارى، ولا نخشى الذل ، ولذلك عاملتنا الأمم الغربية بالمنطق نفسه ، فرأت أن هذه الأمة التي قبلت الذل والخضوع، والخنوع هي أمةٌ جديرة بألوان الاضطهاد ، وقد أصبحت بالفعل سوقاً لنشر ثقافات الغرب ، ونظرياته ومبادئه واهتماماته ، وإنك لتجد العلمانية قد أصبحت ديناً يدين به قطاع عريض ، وهم ينادون بفصل الدين عن الحياة ، ومن لم يقع في فخ العلمانية ، فإنه يقع في شرك الإباحية الغربية ، هناك تقارير غربية تتكلم الآن عن جوعٍ في البلاد الإسلامية ورد فيها : إن العالم الإسلامي كما هو بحاجة إلى الإغاثة في مجال المساعدات المادية ، فهو أيضاً بحاجة إلى الإغاثة والمساعدة فيما يتعلق بنقل تعاليم المسيح إليهم .

 أضف إلى ذلك وكما نعلم بأن بلاد المسلمين هي أغنى مناطق العالم ، هي في التصنيف من أفقر مناطق العالم  مع أنها أغنى مناطق العالم بالثروات كالبترول وغيره، وأغنى مناطق العالم بوجود المنافذ المهمة والمواقع الحساسة: الجوية، والبرية، والبحرية، والمضايق التي يحتاج إليها العالم  وأغنى مناطق العالم بالكثافة العددية والبشرية، ومع ذلك فهي أفقر مناطق العالم ، وإنه لمن المبكي أن تعلم أن الغرب يوزع خيرات المسلمين على المسلمين، فهذه الإغاثات التي تنقلها الأمم المتحدة -مثلاً- إلى الصومال من أين هي؟ هل هي من كد جبينهم، ومما عملت أيديهم، كلا. إنها بعض ثروات وخيرات المسلمين التي استطاع الغرب بخبرته ، وذكائه وسياسته ، أن يمتصها في بنوكه ومصانعه ، وفي ميزانياته، وفي وزارات دفاعه واقتصاده ، ثم يجعل جزءاً يسيراً منها إلى البلاد الإسلامية المنكوبة ، وهذا الجزء اليسير، إنما يستخدمه الغرب لتنصير المسلمين ، وشراء ذمم ضعفاء الإيمان منهم ، ولعلك تعجب أكثر حينما تعلم أن هناك أموالاً جمعها المسلمون في مساجدهم ، وبلادهم  فقامت منظمات صليبية بتوزيعها على المسلمين أيام الفيضانات أو الزلازل ، أو أيام المجاعات سواءً في بنجلادش أو في كشمير أو في البوسنة والهرسك وغيرها ، وأعجب من ذلك أن الغرب يتكلم عن -صندوق التنمية- صندوق دولي للتنمية يقوم بمساعدة الدول الفقيرة  أو الدول النامية ، أو دول العالم الثالث كما يسميها، وهذا الصندوق أمواله من البلاد الإسلامية ، وبالذات من دول الخليج العربي ، والذي يقوم بإدارته ، هي أمريكا، وتوزعه على المناطق الفقيرة  وهذا يذكرني بنكته قيل : "إن رجلاً مغفلاً، جاء إلى أحد الأغنياء الأذكياء، فقا ل الغني له يا فلان: إنني سمعت أن هناك منطقة في الصحراء المحيطة بنا، يوجد فيها الكمأ فأريدك أن تذهب لتلتقط الكمأ مناصفةً بيني وبينك ، فهزَّ الفقير رأسه وذهب موافقاً وركب حماره ، وفي أول يوم ذهب إلى تلك المنطقة ، فأصبح يبحث في الأرض  ويلتقط الكما، وذهب إلى التاجر فقسمه بينهما مناصفة أعطاه نصفه وأخذ النصف، وفي اليوم الثاني ذهب الفقير إلى المنطقة نفسها، وبدأ يلتقط الكمأ من الأرض ، ففي الطريق وهو راجع أصابته صحوة ، فهز رأسه وقال: الحمار حماري، وأنا أنا، والأرض لله ، والمطر من الله ، وأنا أعطي هذا التاجر نصف ما أجمع ، فهذا ليس بالعدل فألقى ما التقطه ، ورجع بلا شيء  لماذا؟ لأنه يريد أن يحرم هذا التاجر من هذا الكمأ .  وهذا فعلاً ما يقع  فصندوق التنمية العالمية يُنفقُ عليه المسلمون وتديره الدول الغربية ليخدم مصالحها في بلاد المسلمين وبأموال لمسلمين  وإذا ما اطلعت على الدراسات والتقارير لمجامع البحوث والدراسات العلمية ، فأنك لا تجد أي شعب في العالم يعاني ما يعانيه المسلمون، وإذا ما تساءلنا : أين توجد المجاعة ؟ وأين توجد عملية التصفية العرقية؟ وأين يوجد الحصار الاقتصادي على شعب بأكمله ؟ وأين يوجد الفقر؟ إنه في دول غالبها إن لم يكن كلها دولٌ إسلامية فالوقت الذي فيه للمسلمين نصيب الأسد من هذه المآسي، فإن المحزن والمؤلم ، أن الذين يُظهرون تبني قضايا المسلمين والدفاع عن حقوقهم ، هم من النصارى والكفار، وأي خيرٍ في أمة يتولى عدوها مساعدتها والدفاع عنها ، يُصاب المسلمون في أي بلد فلا يعلن الدفاع عنهم إلا منظمات حقوق الإنسان، ومنظمات العدل، والمنظمات الدولية الإنسانية في أوروبا وأمريكا وغيرها، التي هي في غالبها إن لم تكن كلها منظمات نصرانية ، فليس للمسلمين فيها أي وجود فيها ، لقد أصيب المسلمون بالجبن والخوف والتمزق، فأصبح المسلم لا يشعر بمصاب أخيه ولو شعر به فإنه لا يملك الشجاعة والجرأة بأن ينادي بإنصاف أخيه المسلم ، وإذا أردنا أن نعرف السبب فيما صرنا إليه ، فإنا نجد ذلك في قوله تعالى: ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾ الشورى30  وقوله: ﴿ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ آل عمران 165 وقوله تعالى: ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ  ﴾النحل112 . وغيرها من آيات في كتاب الله تعالى الناطقة التي لا تحتاج إلى تفسيرٍ أو بيان، وخلاصة هذه الآيات أن كل ما أصاب الناس من مصائب دينية أو دنيوية ، فهي من عند أنفسهم .   وما الذي أوصل المسلمين إلى هذه الحال التي يألم لها كل مسلم ، إنه ضعف الإيمان في النفوس ، وانشغال أكثر المسلمين بالدنيا ومتاعها ، وبضعف الإيمان ضعفت شوكتهم وقوتهم ، فطمع فيهم أعداءهم ، وتوالت النكبات عليهم ، حيث أُبعد المسلمون من أجزاء من الأرض التي فتحها الإسلام ، واحتل الأعداء كثيرًا من أقطار المسلمين بجيوشهم ، وغزوا تلك الأقطار بكل ألوان الفساد، وأبعدوا الشريعة الإسلامية عن الحكم واستبدلوا بها قوانين من صنع البشر، ثم تآمروا وأسقطوا الخلافة الإسلامية ، وأثاروا الفرقة بين أقطار المسلمين، وغرسوا الكيان الصهيوني في قلب الأمة الإسلامية؛ ليضعفها ويمزقها ، ويتوسع على حساب أرض الإسلام .

ولمّا أعرض الناس عن تحكيم الكتاب والسنة والتحاكم إليهما ، واعتقدوا عدم الاكتفاء بهما ، عرض لهم فسادٌ في فِطَرهم وظلمةٌ في قلوبهم ومَحْقٌ في عقولهم ، وجعل الله تعالى بأسهم بينهم ، فها نحن نرى بأس المسلمين فيما بينهم تفرق إلى جماعات ، وأحزاب وتكتلات : ﴿ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ﴾ الروم 32 .

أيها الأخوة : إن الأمن والأمان لا يكون إلا في ظل شرع الله ، وفي تحقيق شريعة الله ، ولا يكون إلا في الإسلام الذي أنزله الله تعالى ، وما عوقب المسلمون بهذه العقوبات إلا لأنهم فرّطوا في تمسكهم بهذا الدين ، وعصوا الله تعالى، ووالله ثم والله إذا تمسك المسلمون بشرع الله وطبقوه في حياتهم ومجتمعاتهم ، فإنهم سيظفرون بكل سعادة وهناء ، والله تعالى وعد كل من آمن واستقام على شرعه بالحياة الطيبة كما قال تعالى : ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ النحل97 .

 

 

واجب العمل للدين

إنه الواجب الذي ينبغي أن لا نمل من طرحه وتكراره ليبقى حاضراً في واقعنا ، ولا يغيب عن بالنا ، في الوقت الذي حملناه بضعف ، لأننا نعاني من أزمة ضعف الإيمان  نبحث عن الجهود المخلصة في هذه الأمة ، فإذا هو لا يتناسب مع عددها ، متناسين أن الله أمرنا أن نحمله ونأخذه بقوة ، فإذا نحن كما وصف رسولنا صلى الله عليه وسلم غثاء كغثاء السيل .

واجبنا أن نواجه الحرب ضد الإسلام ومنهجه ، كما كانت هذه القضية واضحة محسومة في عقيدة سلفنا الصالح ، الذين كانوا يضحون بأنفسهم من أجل نصرة الحق ودحض الباطل ، فكانوا لا يخافون في الله لومة لائم ليقولوا للناس : إن الموت في سبيل الله خير من الموت ذلاً وجبنا  

إن إحياء الأمة من مواتها ، وبعثها من غفوتها ونومها  وحمل هذا الدين والسعي به والجهاد في سبيله ، هو من سمات المخلصين من هذه الأمة ، ولعل مواقفهم الخالدة تكون إحياءً للغافلين ، وعزاءً لمن ضحوا بأرواحهم في سبيل إعلاء هذا الدين ، دين الله ، ليعلموا أنه قد سبقهم أقوام على الطريق نفسه .

وعظ ابن الجوزي المستضيء بالله فقال له : يا أمير المؤمنين ! إذا تكلمتُ خفت منك ، وإن سكتُّ خفت عليك ، فأنا أقدم خوفي عليك من خوفي منك ، لمحبتي دوام أيامك ، وأنكم أهل بيت مغفورٌ له ، وقد كان عمر بن الخطاب يقول : إذا بلغني عن عالم ظالم أنه قد ظلم الرعية ، ولم أغيره فأنا الظالم ، يا أمير المؤمنين كان يوسف عليه السلام لا يشبع في زمان القحط ، لئلا ينسى الجياع ، وكان عمر يضرب بطنه عام الرمادة ويقول : قرْقري إن شئت أو لا ، والله لا شبعتِ والمسلمون جياع    لقد ترتب على هذه الموعظة أن أطلق المستضيء المحابيس   وتصدق وأشبع الجياع .       

وجاء في طبقات الشافعية أن العز بن عبد السلام طلع إلى السلطان في يوم عيد ، فشاهد العسكر مصطفين بين يديه وما فيه من الأبهة ، وقد خرج على قومه في زينته على عادة سلاطين مصر ، وأخذت الأمراء تقبل الأرض بين يديه ، فالتفت الشيخ إلى السلطان وناداه : يا أيوب ! ما حجتك عند الله إذا قال لك : يا أيوب ألم أُبوئ لك ملك مصر ، ثم تبيح الخمور ؟ فقال هل جرى هذا ؟ قال نعم   الحانة الفلانية تباع فيها الخمور ، وغيرها من المنكرات  وأنت تتقلب في نعمة هذه المملكة – ناداه بأعلى صوته  والعساكر واقفون – فقال السلطان يا سيدي هذا ما أنا عملته ، هذا من زمان أبي ، فقال أنت من الذين يقولون : ] إنا وجدنا آبائنا على أمة [ الزخرف 22 . فما كان من السلطان إلا أن أغلق الحانة .

 إن العمل للدين ليس مؤقت بوقت ولا محدد بزمان ولا مكان ، لأن أنبياء الله ورسله ، ومن السائرون على أثرهم ما نسوا دعوتهم ، حتى في آخر لحظات العمر ، فقد ماتوا وبقي المنهج الذي أُرسلوا بالدعوة إليه .

 إن كل مسلم ينبغي أن يكون عاملاً للدين ، مهما كان عليه ، ومهما كان فيه من خطئ ، ومهما اعتراه من تقصير ، فينبغي أن لا يضيفَ إلى أخطائِه خطاءً أخر وهو القعود عن العمل للدين ، كما ينبغي ألا يضيف إلى ذنوبه ذنبا آخر ، وهو خذلان العاملين للدين ، فلما لا يستثيرنا عمل أهل الباطل لباطلهم ، ولم لا يستنفرنا عمل أهل الدنيا لدنياهم ، وأهل المال لمالهم ، ألسنا مطالبين بأن ننصر دين الله ونقيمه ، ألا نعلم أن العمل لإقامته أمانة وميثاق ، أخذه الله على كل مؤمن تصله دعوة الإسلام ] وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لما ءَاتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ [ .  

ألا نعلم أن المسلمين لا يكونون على شيء يعتد به من أمر الدين حتى يقيموا منهجه ، وإن ادعاء الإيمان ، أو حب الله والرسول ، دون نصر الدين بالعمل لإقامته ، لا قيمة له شرعا ، لأن كل من يؤمن بالله ورسوله ويدين بالدين الحق ، فإنه لا يترك العمل لإقامة حكم الله في الأرض ، فما جاء الدين من عند الله إلا لينفذ في دنيا الواقع ، وليتبعه الناس ، وأن لا يبقى مجرد شعور وجداني في ضمائرهم ، أو مجرد تهذيب روحي في أخلاقهم ، أو مجرد شعائر تعبدية في محاريبهم ومساجدهم، أو مجرد أحوال شخصية في جانب واحد من جوانب حياتهم ، بل جاء كلاًّ لا يتجزأ ، جاء دعوة للمنحرفين والغافلين عنه   ودعوة للمتمسكين به لبعث هممهم ، وتعريفهم طريق العمل وفقه الدعوة ، وتبصيرهم بواقع المسلمين الحاضر المؤلم ، والعمل على انتشال الأمة من تيهها الذي تهيم فيه   وإلا ذاقت الويلات ،  لبعدها عن منهج الله ، لقد استمرت كلمات الداعين من كل جيل ، لا يسوغون لأحدٍ أن يقعد ويعتزل عن الدعوة إلى الله ولو أكثر العبادة 

حسبوا بأن الدين عزلة راهب    واستمرءوا الأوراد والأذكارا

عجباً أراهم يؤمنون ببعضه      وأرى القلوب ببعضه كفارا

والدين كان ولا يزال فرائضاً    ونوافـلاً لله واستغفـارا

والدين حكمٌ باسم ربك قائمٌ   بالعدل لا جوراً ولا استهتارا

إن الإسلام اليوم أحوج ما يكون إلى جماعة من الدعاة الذين يعرفون واجبهم في هداية الناس ، وإن الأرض لا تقدس أحدا ، وإنما يقدس العبد عمله كما قال سلمان : " إنما تقدسنا الدعوة والمرابطة عليها في ديار الإسلام "  فالداعية الصادق تظل هيبته الإيمانية في تصاعد ما تصاعدت هيبته لله ، وكم من المتكلمين بالإسلام ترفعه الدعاية ، فإذا عاملته وجدته جاف القلب والروح ، فما بمثل هؤلاء تنتصر الدعوة ، لأن دين الله ليس راية ولا شعارا ، إنه حقيقة تتمثل في الضمير ، وفي الحياة على حدٍ سواء  وتتمثل في عقيدة تعمر القلب وشعائر تقام للتعبد  ونظامٌ يصرّف الحياة ، وكل ما عدا ذلك فهو تمييع للعقيدة وخداعٌ للضمير .

وليعلم المثبطون للدعاة ، أن مائة ألف صحابي حضروا حجة الوداع ، لم يدفن في المدينة منهم إلا عشرة آلاف   أتدرون أين ذهب الباقون ؟ إنهم فهموا معاني الشهادة والتبليغ للرسالة ، وانطلقوا في الآفاق يمتطون خيولهم وجمالهم ، ينشرون دعوة الله ، ويبلغونها للعالمين ، أدركوا رسالتهم للعالم  ولم يكتفوا بالجلوس في بيوتهم ومساجدهم ، يقيمون نصف الدين ويتركون النصف الآخر ، وكان من آخر ما قاله أبو بكر قبل وفاته : " ولا تشغلنكم مصيبةٌ وإن عظمت عن أمر دينكم ووصية ربكم " وفي هذا أسوة للدعاة الذين يريدون الآخرة ويعملون لها ، ويعيشون بالإسلام وللإسلام إلى يوم لقاء ربهم ] يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم [ الشعراء 88 .   

 

 

أثر خوف الله في حياة المسلم

إنّ الخوف من الله فرض على كل أحد، ولهذا عُلِّق على الإيمان ، فمن كان مؤمناً حقَّاً خاف الله سبحانه قال تعالى: ] فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [ آل عمران 175 . وقال : ] وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [ .  البقرة40 . فالخوف الذي دعا إليه سبحانه في هذه الآيات   هو الخوف القائم على مراقبة الله ، والخضوع لأمره  وترك المحرمات خوفاً منه وتعظيماً له ، وهذا  يستلزم الرجوع إلى الله ، والاعتصام بحبله وقد قيل : "الخوف سوط الله يقوِّم الشاردين عن بابه".  

 قال الإمام أحمد : " من كان بالله أعرف كان منه أخوف ، فكل واحد إذا خفته هربت منه إلا الله عز وجل ، فإنك إذا خفته هربت إليه قال تعالى : ] ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين [ . ويكون الخوف محموداً ، إذا حال بين صاحبه ويبن محارم الله عز وجل ، فلا يتعامل بالربا ، ولا يأكل مالا حراما   ولا يشهد زورا ، ولا يحلف كاذبا، ولا يخلف وعدا   ولا يخون عهدا ، ولا يغش في المعاملة ، ولا يمشي بالنميمة، ولا يغتاب الناس ، ولا يترك النصيحة والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، ولا يزني   ولا يتعاطى محرما ، ولا يقصّر في الصلاة ، بل يجب أن يصلي ، لأن الخوف من الله : أن يجدك حيث أمرك ويفتقدك حيث نهاك قال تعالى : ] أقيموا وجوهكم عند كل مسجد [ لأن في الصلاة سجود   والخوف من الله فيه ، يحرق وجود الشيطان ، لأنه يتصاغر ويولول ويقول : يا ويلي أُمِر هذا بالسجود فسجد ، وأُمرت بالسجود فلم أسجد ، بل إن الخوف من الله في قلب المؤمن ، يعصمه من فتنة الدنيا ، وبدونه لا تصلح الحياة ، قال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه : ( وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين وأمنين : إذا خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة ، وإذا أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة ) رواه أبن حبان في صحيحه   كثير من الناس لا يريدون أن يعملوا ، ولا يريدون أن يتذكروا خوف الله  معتمدين على عفو الله وستره ، وما علموا أن اعتمادهم على هذا مرّة بعد مرّة ، قد يكون استدراجا من الله لهم قال الله تعالى :  ] سنستدرجهم من حيث لا يعلمون [ الأعراف 182 .  كان السلف الصالح  يخافون ويبكون ، حتى قال الله تعالى عنهم : ] ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا [ . وقال صلى الله عليه وسلم : (حرمت النار على عين دمعت أو بكت من خشية الله) . وما كانوا يخافون ويبكون ويتضرعون ، نتيجة تقصير أو عصيان أو كثرة الذنوب ، بل كانوا يخافون أن لا يتقبل الله منهم ، فلم لا ترتجف قلوبنا من الخوف تأسياً بهم   فلسنا أشرف ولا أزكى من رسولنا صلى الله عليه وسلم ، فقد كان إذا ذكرت النار يهتز قلبه ، وكان صدره كأزيز المرجل ، وكان عمر بن عبد العزيز إذا مرّ بآية من آيات النار ، شعر أن لفح جهنم في أذنيه ووجهه . 

وما دام العبد مستشعراً روح الخوف من الله ، فإن قلبه يظل عامراً بالإيمان واليقين ، ولذلك قالوا : "إذا سكن الخوفُ القلوبَ ، أحرق مواضع الشهوات منها ، وطرد الدنيا عنها ". قال ابن رجب : " القدر الواجب من الخوف ، ما حَمل على أداء الفرائض واجتناب المحارم ، فإن زاد على ذلك ، بحيث صار باعثاً للنفوس على التَّشمير في نوافل الطاعات والانكفاف عن دقائق المكروهات ، والتَّبسُّط في فضول المباحات ، كان ذلك فضلاً محموداً ".

فمن خاف الله عز وجل وخاف حكم الله فيه    ونهى نفسه عن هواها، وردها إلى طاعة مولاها فمصيره إلى الجنة قال تعالى : ] وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [ النازعات 40 وقال سبحانه : ] وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [ الرحمن 46 . وقال صلى الله عليه وسلم : ( ثلاثٌ منجيات: خشية الله تعالى في السرِّ والعلن، والعدل في الرِّضا والغضب  والقصد في الغنى والفقر. وثلاثٌ مهلكات: هوىً مُتَّبع، وشحٌّ مُطاع  وإعجاب المرء بنفسه ) البزّار والبيهقي 

فما أحوجنا اليوم إلى الخوف من الله ، لأن وازع الخوف إذا انعدم أو ضعف في النفوس ، فإنها تنتهك الحرمات، وتفعل الكبائر والموبقات ، وبذلك تفشو الرذيلة ، وتنعدم الفضيلة ، لأن الخوف يدفع لفعل الطاعات، والكف عن المحرمات .

إذَا ما خَلَوْتَ الدَّهْرَ يوماً فَلا  تَقُل خَلَوْتُ ولكن قُل عليَّ رَقيبُ

وَلا تحسـبَنَّ اللهَ يغفـلُ ساعَـةً  وَلا أنَّ ما تُخفِي عليهِ يَغيبُ

فالخوف من الله سمة المؤمنين ، وآية المتقين ، قال تعالى : ] وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ [ الرعد 21 .  وهو درجة عظيمة تدل على قوة الإيمان ، قال عمر بن عبد العزيز : "مَن خاف الله ، أخاف الله منه كل شيء   ومن لم يخف الله ، خاف من كل شيء".

وخوف الله تعالى هو الذي حجب قلوب الخائفين عن زهرة الدنيا ، وعوارض الشبهات ، وقوة مراقبة المرء لربه ، ومحاسبته لنفسه ، بحسب قوة معرفته بجلال ربه ، والخوف من وعيده .

إذا مـا الليل أظلم كابـدوه  فيسفـر عنهمُ وهـمُ ركوع

أطار الخوف نومهمُ فقاموا  وأهل الأمن في الدنيا هجوعُ     

عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم : ( دخل على شاب وهو في الموت ، فقال: كيف تجدك ، قال : أرجو الله يا رسول الله ! وإني أخاف ذنوبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن  إلا أعطاه الله ما يرجو وأمَّنه مما يخاف) رواه الترمذي وابن ماجه .

وقد ذكر الله تعالى في كتابه آيات كثيرة تدل على عِظَم شأن الخوف ، وأنه لا بد منه للمؤمن في حياته الدنيا؛ لكي يصل إلى رضا الله تعالى وجنته ، لأنه كلما زاد خوف العبد من ربِّه ، زاد عمله ، وقل عُجْبه، وقلت معصيته ، وكلما قلَّ خوف العبد من ربِّه ، نقص عمله ، وزاد عجبه ، وكثرت معصيته لذا يجب على الإنسان تنمية الخوف من الله في قلبه لأنه صفة بارزة من صفات عباد الله الصالحين  لا غنى لهم عنها ، في إقبالهم على الله تعالى ، فتراهم يؤدون حقوق الله ، وهم خائفون وجلون من عدم قبولها ، فكانوا أحرص الناس على طاعة ربهم والمسارعة إلى رضاه ، والبعد عن معصيته ، والفرار من سخطه وغضبه ، ومع ذلك يخافون من عدم قبول أعمالهم ، لأن الخوف من الله دليل كمال الإيمان وحسن الإسلام عندهم ، وخشيته في السر والعلن من صفاتهم ، لذا مدحهم الله وأثنى عليهم فقال: ] إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُون  وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُون [ المؤمنون 57 . وعن هذه الآية سألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ! قولُ الله : ] وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [ أهو الذي يزني  ويشرب الخمر ويسرق ؟ فقال: لا يَا ابنة الصِّدِّيق، ولكنَّه الرَّجل يصوم ويصلي ويتصدق ، ويخاف أن لا يُقبل منه". فمع كونهم يخشون ربهم ويؤمنون بآياته ، ولا يشركون به شيئا ، ويؤدون طاعته ، فإنهم يخافون عدم قبوله لهم ، عند الرجوع إليه ، ولقائهم له . فمن يخاف الله تعالى يتقيه ، ورد في الحديث : ( مَنْ خاف أدلج ، ومَنْ أدلج بلغ المنـزل ) من أدلج :  يعني- سرى في الليل ، وصل إلى مكان يأمن فيه . فكذلك مَنْ خاف من عذاب الله ، ابتعد عن أسبابه ، فيتَرَكَ المعاصي والمحرمات ويفعل الطاعات . قال الحافظ بن حجر في الفتح :" إن الخوف من المقامات العلية ، وهو من لوازم الإيمان قال الله تعالى : ] وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [ آل عمران 175 وقال الله تعالى : ] فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ [ المائدة44 وقال الله  تعالى: ] إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [ فاطر 28 وقال صلى الله عليه وسلم : ( أنا أعلمكم بالله وأشدكم له خشية ) وكلما كان العبد أقرب إلى ربِّه ، كان أشد له خشية ممن دونه   وقد وصف الله تعالى الملائكة بقوله : ] يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [ النحل50 والأنبياء بقوله : ] الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ [ الأحزاب 39 . وإنما كان خوف المقربين أشد ؛ لأنهم يطالبون بما لا يطالب به غيرهم ، فيراعون تلك المنـزلة " .

 

 

 

 

التجارة الرابحة

قال تعالى : ] يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم ، تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله [الصف 52 .

نداء من الله باسم الإيمان ، يدعو إلى التجارة الرابحة  ويحرض على الجهاد في سبيل الله ، وقد جاء الخطاب    بأسلوب الترغيب والتشويق ، لأن المؤمن لا يطيق أن يعيش في عالم بلا إيمان ، ولا يطيق أن يقعد بلا جهاد لتحقيق عالم يسوده الإيمان ، فلا مفر من الجهاد لإقامة منهج الله وحراسته في الأرض ، لأن الجهاد في سبيل الله ذروة سنام الإسلام، ورتبته في أعلى شعب الإيمان ، به تعلو الكلمة وتعز الأمة، وتصان الحرمات، وتحمى الديار ويطرد الأعداء ، به يتم إقرار الحق في نصابه ، ويرد البغي والظلم والطغيان ، ويكافح الشر والكيد والعدوان  إنه التجارة المنجية، والصفقة الرابحة، والبضاعة المبشرة  يحوز أهله المخلصون من المنازل أرفعها، ومن المكانة أعظمها  ومن الدرجات أعلاها، فهم الأعلون في الدنيا والآخرة .

لقد حظيت فريضة الجهاد في هذا الدين بالعناية والاهتمام، وإننا لنجد عشرات الآيات الكريمة والأحاديث الصحيحة ، تحث على الجهاد وترغب فيه، وتبين ما لأهله من الأجر والمثوبة في الآخرة ، وتنذر بالوعيد الشديد على من ركنوا إلى الدنيا، وتثاقلوا إلى الأرض، وعطلوا هذه الفريضة ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من مات ولم يغز، ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق ) مسلم 

لقد أصم المسلمون أذانهم عن الآيات والأحاديث التي ترغب في الجهاد وتحث عليه ، ورضوا أن يعيشوا هذا الواقع المرير ، فرضوا من الإسلام باسمه ، ومن الجهاد بكلمته ، وأصبحت كلمة الجهاد ، مثل كلمة دين الدولة الإسلام ، بل إنها لا تحصل على هذه المرتبة ، لأنها أُلغيت في مؤتمر دكار من قاموسهم ، فاستبعدوه بحجة عدم قدرتهم على مواجهة أعدائهم ، وأصبح عندهم الجهاد كلمة تاريخية ، لا روح فيها ، تكتب فيها الأبحاث   وتؤلف الكتب ، وتزين بها الخطب والبيانات ، علماً بأن وقع كلمة الجهاد وتأثيرها ، لا يكون إلا برفع راية الجهاد من قبل الحاكم أولاً ، لأن إجماع العلماء والفقهاء منعقد على أن الجهاد يناط إعلانه بالحاكم ، وعندما تخلى المسلمون عن رفع راية الجهاد ، أصبح الإسلام يضرب بقوة ، وبيد من حديد ، ودماء المسلمين تسيل بغزارة  والضاربون لا يخشون قصاصا ، لأن المسلمين ابتعدوا عن منهج ربهم ، وتركوا الجهاد في سبيل الله ، فسلط الله عليهم ذلاً لن ينـزعه ، حتى يرجعوا إلى دينهم ، وأصبح حالهم كما قال الشاعر :

نهارك يا مغرور سهوٌ وغفلةٌ     وليلك نومٌ والردى لك لازمُ

وشغلك فيما سوف تكره غِيّهُ  كذلك في الدنيا تعيش البهائمُ

لقد مات عند الكثير من الناس الشعور بالذنب ، والشعور بالتقصير ، حتى ظن الكثير منهم أنهم على خير عظيم  بمجرد القيام ببعض الأركان والواجبات ، وظنوا أنهم حازوا الإسلام كله ، ونسوا الذنوب والمعاصي التي ارتكبوها صباح مساء ، فتركوا الواجبات ، وفعلوا المحرّمات ، فضلاً عن الكبائر والموبقات ، ناسين أن العذاب ينتظرهم ، إن لم يتوبوا ويرجعوا عن غيِّهم 

أما والله لو علم الأنامُ    لِمَ خلقوا لما غفلوا وناموا

لقد خلقوا لِمَا لو أبصَرَته عيون قلوبهم تاهوا وهاموا

مماتٌ ثم قبرٌ ثم حشرٌ        وتوبيخٌ وأهوالٌ عظامُ

لقد تبلد الإحساس فماتت القلوب ، فما عادت تحس بذنب ولا تقصير ، ولا بما يصيب المسلمين من قتل وتهجير ، وما عاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذا أهمية قال صلى الله عليه وسلم : ( ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون على أن يغيروا عليه فلا يغيروا إلا أصابهم الله بعذاب من قبل أن يموتوا ) أبو داود .

 كثيرٌ من الناس إذا ما تحدثت معهم عن أوضاع المسلمين قالوا : ما لنا ولهم ، متجاهلين قوله صلى الله عليه وسلم : ( من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم ) ومتناسين أن أمة الإسلام عانت قديماً ظلم الصليبين ، الذين عاثوا في الأرض فساداً من نهب وقتل ، يروي التاريخ أن الناس في بغداد لمّا سمعوا ما حل بالمسلمين ، هالهم ذلك وتباكوا  فنظم أبو سعد الهروي كلاماً قُرئ في الديوان وعلى المنابر   فارتفع بكاء الناس، وندب الخليفة الفقهاء للخروج إلى البلاد   ليحرضوا الناس على الجهاد فساروا في الناس فلم يفد شيئاً ، وقد وصف الشاعر الحال يومها فقال :

أحل الكفر بالإسلام ضيماً    يطول عليه للدين النحيبُ

فحقٌ ضائعٌ وحما مباحٌ       وسيفٌ قاطعٌ و دمٌ صبيبُ

وكم من مسلمٍ أمسى سليباً  ومسلمةٍ لـها حرمٌ سليبُ

أمورٌ لو تأملهن طفلٌ         لطفّل في عوارضه المشيبُ

أتسبى المسلمات بكل ثغر    وعيش المسلمين إذاً يطيب

فقل لذوي البصائر حيث كانوا  أجيبوا الله ويحكم أجيبوا

وقد روي أن الشعراء والخطباء ، استمروا يستثيرون الهمم ولكن بلا جدوى ، وذكرت المصادر التاريخية صوراً أقبح من تقاعس بعض أولئك ، الذين تولّوا مقاليد الأمور في تلك الفترة ، أمام الفظائع التي ارتكبها الصليبيون ، وقد روي أن جمع أحد الوفود ، كيساً كبيراً مليئاً بالجماجم وشعور النساء والأطفال ، ونثروها بين يدي أحد السلاطين ، فكان جوابه لوزيره : دعني أنا في شيء أهم من هذا ، حمامتي البلقاء لي ثلاثة أيام لم أرها .

لقد عاصر المسلمون من فقدوا رشدهم ، وناموا في فراش اللهو ، وهل سقطت الدولة الإسلامية مراراً إلا لوجودهم  يذكر التاريخ أنه كان للمسلمين وجود في الأندلس ولكنهم حرموا منه ، وها هو أحدهم يقول :

إبك مثل النساء ملكاً تولى   لم تحافظ عليه مثل الرجال

وها هو شاعر يقول في قصيدة رثاء للأندلس :

أعندكم نبأ عن أهل أندلس    فقد سرى بحديث القوم ركبان

كم يستغيث بنا المستضعفون وهم أسرى وقتلى فما يهتز إنسان

وها هم أهل بغداد الذين هالهم ما فعل الصليبيون بالمسلمين في بلاد الشام ، يشربون نفس الكأس ، فقد ذكر التاريخ أن هولاكو دخل بغداد وقتل أكثر من مليون من أهلها ، لماذا ؟ لأن المسلمين كانوا أهلاً للهزيمة ، ولما صلحت أحوالهم واصطلحوا مع الله ، ثأروا لأنفسهم مما حل بهم ، فهزموا التتار كما هزموا الصليبين من قبل   ودخلوا القسطنطينية وجعلوها عاصمة الإسلام .

ولما عُرِف عن المسلمين حبهم للجهاد ، وتحملهم للتضحيات الجسام ، كي يحق الحق ويبطل الباطل ، فقد كبحوا جماح المعتدين ، وردوا فلولهم من حيث جاءت  لأنهم آمنوا بأن الإسلام ، جعل حراسة الحق ، من أرفع العبادات أجرا ، ولولا يقظتهم وتفانيهم ما بقي للإيمان منار ( قيل : يا رسول الله ! ما يعدل الجهاد في سبيل الله ؟ قال : لا تستطيعونه ، فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثا   كل ذلك وهو يقول : لا تستطيعونه ، ثم قال : مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفتر من صلاة ولا صيام ، حتى يرجع المجاهد في سبيل الله) البخاري . ولئن كان الموت من اكبر المصائب ، إلا أنه بالنسبة للمجاهدين بداية تكريم إلهي ، حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم حلف يرجو هذا المصير

 ( والذي نفس محمد بيده لوددت أن أغزو في سبيل الله فاقتل ، ثم أغزو فاقتل ، ثم أغزوا فاقتل ) البخاري . 

لقد بذل الأعداء جهوداً كبيرة ، لإبعاد المسلمين عن هذه المعاني ، وقتلها في النفوس ، ليضمن السيطرة على البلاد الإسلامية وثرواتها دون مقاومة ، وذلك بتكثير الشهوات   وتوهين العقائد والفضائل ، التي تعصم عن الدنايا    وإبعاد الإسلام موضوعاً عن كل مجال ، فرأينا من تحلل من الإيمان وفرائضه ، والقرآن وأحكامه ، كما استمات في إرخاص المثل الرفيعة ، وترجيح المنافع العاجلة ، وقد كان ذلك تمهيداً لمرور العدوان الباغي ، دون رغبة في جهاد أو أمل في استشهاد .

إن المسلمين وإن تباعدت أقطارهم إخوة في العقيدة تربطهم رابطة الإيمان، وتجمعهم عقيدة الإسلام، كالجسد الواحد وكالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً، وإن واجب الأخوة الإسلامية يقتضي أن يهتم المسلم بأمر إخوانه المسلمين، يتابع أخبارهم، ويشاطرهم آلامهم وآمالهم، ويؤدي ما استطاع من جهد ووقت ومال لتحسين أوضاعهم، وإصلاح أحوالهم .

لقد دلنا ربنا على التجارة الرابحة ، التي فيها النجاة من العذاب الأليم ، والفوز بالجنة فقال : ] ومساكن طيبة في جنات عدن [ يا لها من تجاره رابحة بكل المعاني   تجارة مدتها سنوات معدودة ، قد يبخل فيها الإنسان بأن يجاهد بماله أو بنفسه أو بالاثنين معا ليضمن حياة أبدية كلها نعيم مقيم ، فالمكاسب الأخروية تفوق كل الأوصاف ، وتفوق كل المقادير ، الم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجنة فيها ما لا عينين رأت ولا أذنا سمعت ولا خطر على قلب بشر.

والمؤمن بالله ورسوله ، يكون حريصاً دائماً على معرفة الأعمال التي يرضى عنها الله ورسوله، فالصحابة رضوان الله عليهم كانوا حريصين على ذلك كل الحرص فقد كانوا يسألون عن أحب الأعمال إلى الله عز وجل حتى يلتزموا بها ، عن ابن عباس رضي الله عنه: أن الصحابة الكرام قالوا لو نعلم ما هي أحب الأعمال إلى الله لعملناه فنزلت هذه الآية الكريمة :] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [ الصف 13 .  

نعم هذه هي التجارة الرابحة وهل هناك تجارة أربح من المتاجرة مع الله عز وجل. فالتجارة مع الله عز وجل رابحة دائماً ،  وليس فيها خسارة ، إنها التجارة مع خالق هذا الكون مع الله الذي أنعم علينا بكل هذه النعم حيث قال تعالى : ] إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُور [ فاطر 29 وأول أركان هذه التجارة الرابحة هو الإيمان بالله ورسوله ، ومن باب حرص الله على عباده ، على الالتزام بهذه التجارة استخدم الله عز وجل أسلوب الخبر الذي يتضمن الأمر فقال تعالى : ] تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [ أي آمنوا بالله ورسوله ، وجاهدوا في سبيل الله  على وجوب وسرعة الامتثال ، وكأن المخاطب قد امتثل بهذا الأمر ، فالآية تذكر المؤمنين بإيمانهم   وتؤكد لهم فضل الإيمان والثبات عليه ، وفي نفس الوقت تطلب ممن لم يؤمن ، سرعة الإيمان والامتثال لله عز وجل في جميع أعماله ، وقد ربط الله عز وجل العمل بالإيمان  فالإيمان بالله ، هو الدافع الحقيقي الذي يدفع المؤمنين للالتزام بالأحكام الشرعية ، وجعل العمل ثمرة الإيمان حيث قال تعالى : ]إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً [ الكهف 107 وهذا ما فهمه الصحابة الكرام ، فكان الدين عندهم إيمان يتلوه العمل ، وقد صدقوا في الاثنين ، وما قصروا في أي منهما ، فاستحقوا ثناء الله عليهم حيث قال الله تعالى : ] رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ [ .

 

 

 

وعد الله بالتمكين لدينه

عندما نناقش أوضاع المسلمين ، يتكلم البعض عن هذا الواقع بصورة تزرع اليأس في النفوس ، مع إن الواجب الشرعي يحتم عليهم بعث الأمل في النفوس ، وتعليق القلوب بالله وتوضيح سنن الله الكونية في خلقه ، مع تشخيص الداء وطلب الدواء وإرشاد الأمة إلى الأخذ بأسباب التمكين ، ومعرفة شروطه، فالسيرة النبوية تحدثنا أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو محاصر في المدينة من قبل الأحزاب كان يبشر الصحابة بوعد الله لهم بتملك كنوز كسرى! إنها الثقة بنصر الله ، وعدم الانهزام أمام الواقع.

وهناك رغم ما يبدو مثيراً للإحباط واليأس والقنوط   هناك من المبشرات في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ما يدعو للاستبشار بتحقيق وعد الله ، بالتمكين لدينه في الأرض ، فما من مرة سارت هذه الأمة على نهج الله    وحكّمته في كل أمورها ، إلا تحقق وعد الله بالاستخلاف والتمكين ، وما من مرة خالفت منهج الله إلا تخلفت وذلت واستبد بها الخوف ، وطمع بها الأعداء .

والتمكين في الأرض لأمة الإسلام ليس مستحيلا كما يصور البعض ، إن حققت الأمة شروطه وبذلت أسبابه والمؤمن الصادق يوقن بوعد الله بوراثة الأرض قال تعالى: ] وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء 105 ، وبصدق بشرى رسول الله صلى الله عليه وسلم للأمة بالثناء والتمكين فقال صلى الله عليه وسلم : ( بشروا هذه الأمة بالسناء والرفعة والنصر والتمكين في الأرض ) رواه احمد .   وقد وعد الله تعالى عباده المؤمنين أن يمكن لهذا الدين في الأرض ، وأن ينصر هذا الدين وأهله ، وأن يجعله عزيزاً قوياً لا تغلبه قوة ، ولا يعلوه دين قال تعالى : ] وعد الله الذين آمنوا منكم ، وعملوا الصالحات  ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم ، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم ، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً ، يعبدونني ولا يشركون بي شيئاً ، ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون [ النور55 . وعبثاً يظن أهل الباطل أنهم قادرون على القضاء على هذا الدين الذي ارتضاه الله لعباده  رغم جهودهم الجبارة وكيدهم ومكرهم على مدى الزمان ، ولقد صور الله تعالى محاولاتهم اليائسة لضرب هذا الدين ، بصورة تبين مدى ضعفهم في مواجهته ، ومواجهة هذا الحق الذي جاء من عند الله فقال تعالى : ] يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا إن يتم نوره ولو كره الكافرون   هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون [ التوبة 23 .

إن أهل الكتاب لا يقفون عند حد الانحراف عن دين الله   وإنما يعلنون الحرب على دينه ، ويريدون إطفاء نور الله في الأرض المتمثل في هذا الدين ، وفي المنهج الذي يصوغ على وفقه حياة البشر ] يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم [ فهم محاربون لنور الله ، سواء بما يطلقونه من أكاذيب ودسائس وفتن ، أو بما يحرضون به أتباعهم وأشياعهم على حرب هذا الدين وأهله ، والوقوف سداً في وجهه ، ولكن الله سيتم نوره ] ويأبى الله إلاً أن يتم نوره ولو كره الكافرون [ وهو الوعد الحق من الله   الدالّ على سنته التي لا تتبدل ، في إتمام نوره بإظهار دينه ولو كره الكافرون ، وهو وعد تطمئن له قلوب الذين آمنوا ، فيدفعهم هذا إلى المضي في الطريق ، ويفهم من الآية الوعيد للكافرين وأمثالهم على مدار الزمان ، ويزيد السياق في هذا الوعيد وذلك الوعد توكيداً : ] هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ، ولو كره المشركون [ فقد ظهر دين الحق ، في الأرض كلها قبل مضي نصف قرن من الزمان ، ظهر في إمبراطورية كسرى كلها ، وفي قسم كبير من إمبراطورية قيصر ، وظهر في الهند وفي الصين ، ثم في جنوب آسيا في الملايو وغيرها ، وفي جزر الهند الشرقية ( أندونيسيا )  وما يزال دين الحق ظاهراً على الدين كله-حتى بعد انحساره السياسي عن جزء كبير من الأرض التي فتحها وبخاصة في أوروبا وجزر البحر الأبيض . وانحسار قوة أهله في الأرض كلها ، بالقياس إلى القوى التي ظهرت في الشرق والغرب في هذا الزمان .

فدين الحق ظاهراً على الدين كله ، من حيث هو دين   فهو الدين القوي بذاته ، القوي بطبيعته ، الزاحف بلا سيف ولا مدفع من أهله ! لما في طبيعته من استقامة مع الفطرة ، ولما فيه من تلبية لحاجات العقل والروح  وحاجات العمران والتقدم ، وحاجات البيئات المتنوعة  من ساكني الأكواخ إلى سكان ناطحات السحاب! وما من صاحب دين غير الإسلام ، ينظر في الإسلام نظرة مجردة من التعصب والهوى ، حتى يقر باستقامة هذا الدين وقوته ، وقدرته على قيادة البشرية قيادة راشدة ، وتلبية حاجاتها ] وكفى بالله شهيداً [ وقد تحقق وعد الله في الصورة السياسية الظاهرة قبل قرن من الزمان بعد البعثة المحمدية . ووعد الله ما يزال متحققاً في الصورة الموضوعية الثابتة ، وما يزال هذا الدين ظاهراً على الدين كله في حقيقته . بل إنه هو الدين الوحيد الباقي القادر على العمل والقيادة في جميع  الأحوال ، ولعل أهل هذا الدين هم وحدهم ، الذين لا يدركون هذه الحقيقة ! فغير أهله يدركونها ويخشونها ، ويحسبون لها في سياستهم كل حساب ، وما تزال لهذا الدين أدوار في تاريخ البشرية يؤديها ، ظاهراً بإذن الله على الدين كله تحقيقاً لوعد الله   الذي لا تقف له جهود العبيد ، مهما بلغوا من القوة والكيد والتضليل ! وفي القرآن الكريم الآيات الحافزة للمؤمنين المخاطبين بها على حمل الأمانة التي اختارهم الله لها بعد أن لم يرعها اليهود والنصارى . وكانت تطميناً لقلوبهم وهم ينفذون قدر الله ، في إظهار دينه الذي أراده ليظهر ، وإن هم إلا أداة ، وما تزال حافزاً ومطمئناً لقلوب المؤمنين الواثقين بوعد ربهم ، وستظل تبعث في الأجيال القادمة ، مثل هذه المشاعر حتى يتحقق وعد الله مرة أخرى في واقع الحياة بإذن الله .  

فقد وعد الله المؤمنين بالنصر والتمكين في الأرض ، بل وكتبه على نفسه ، وجعله حقاً عليه أن يؤيد المؤمنين وينصرهم ، ويقف إلى جانبهم .. ذلك بأنهم يمثلون الحق المنـزل من الله عز وجل ، والله تعالى ينصر الحق وأهله  وينتقم من الباطل وأهله قال تعالى :] ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون [ الصافات 171 فالوعد واقع وكلمة الله قائمة   وقد استقرت جذور العقيدة في الأرض ، وقام بناء الإيمان   وعلى الرغم من التنكيل بالدعاة والمتبعين ، وقد بقيت عقيدة الإسلام ، تسيطر على قلوب الناس  وعقولهم    وما تزال على الرغم من كل شيء ، هي الأظهر والأبقى  في هذا العالم ، وكل المحاولات التي بذلت لمحوها   وتغليب أية فكرة أو فلسفة أخرى عليها ، باءت بالفشل   وحقت كلمة الله لعباده المرسلين ] إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون [ هذه بصفة عامة ، وهي ظاهرة ملحوظة في جميع بقاع الأرض ، في جميع العصور . وهي كذلك متحققة في كل دعوة لله ، يخلص فيها الجند  ويتجرد لها الدعاة . إنها غالبة منصورة مهما وضعت في سبيلها العوائق ، وقامت في طريقها العراقيل . ومهما رصد لها الباطل من قوى الحديد والنار ، وقوى الدعاية والافتراء ، وقوى الحرب والمقاومة ، وإن هي إلا معركة تختلف نتائجها ، ثم تنتهي إلى الوعد الذي وعده الله لرسله ، والذي لا يخلف ، ولو قامت قوى الأرض كلها في طريقه . الوعد بالنصر والغلبة والتمكين ، فقال تعالى مؤكداً هذا الوعد :] إن الذين يحادّون الله ورسوله أولئك في الأذلين ، كتب الله لأغلبن أنا ورسلي . إن الله قوي عزيز [المجادلة 20  وهذا وعد الله الصادق  الذي كان ، والذي لابد أن يكون ، على الرغم فيما قد يبدو أحياناً من الظاهر ، الذي يخالف هذا الوعد الصادق . والذي وقع بالفعل ، أن الإيمان والتوحيد قد غلبا الكفر والشرك . واستقرت العقيدة في الله في هذه الأرض   ودانت لها البشرية ، بعد كل ما وقف في طريقها من عقبات الشرك والوثنية ، وبعد الصراع الطويل مع الكفر والشرك والإلحاد ، وإذا كانت هناك فترات عاد فيها الإلحاد والشرك إلى الظهور في هذا العصر ، فإن العقيدة في الله هي التي  ستسيطر بعون الله ، وإن غيرها من العقائد إلى زوال مؤكد ، لأنها غير صالحة للبقاء   والبشرية تهتدي في كل يوم إلى أدلة جديدة تهدي إلى الاعتقاد في الله ، والتمكين لعقيدة الإيمان والتوحيد فقال تعالى بصيغة الجزم :] إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد [ غافر 51. ووعد الله قاطع جازم ، وعندما يشاهد الناس أن المؤمنين فيهم من يسام العذاب ، وفيهم من يستشهد ، وفيهم من يعيش في كرب وشدة واضطهاد ، يسألون أين وعد الله لهم بالنصر في الحياة الدنيا ؟ ويدخل الشيطان إلى النفوس من هذا المدخل ، ويفعل بها الأفاعيل ! لأن الناس يقيسون الأمور يظواهرها . ويغفلون عن قيم وحقائق كثيرة في التقدير   فهم يقيسون بفترة قصيرة من الزمان ، وحيز محدود من المكان ، وهي مقاييس بشرية صغيرة . فأما المقياس الشامل ، فيعرض القضية في الرقعة الفسيحة من الزمان والمكان ، ولا يضع الحدود بين عصر وعصر ، ولا بين مكان ومكان ، ولو نظرنا إلى قضية الاعتقاد والإيمان في هذا المجال ، لرأيناها تنتصر من غير شك . وانتصار قضية الاعتقاد هو انتصار أصحابها ، فليس لأصحاب هذه القضية وجود ذاتي خارج وجودها ، وأول ما يطلبه منهم الإيمان أن يفنوا فيها ويختفوا هم  ويبرزوها ! والناس كذلك يقصرون معنى النصر على صورة معينة معهودة لهم   قريبة الرؤية لأعينهم ، ولكن صور البصر شتى ، وقد يتلبس بعضها بصورة الهزيمة عند النظرة القصيرة   فإبراهيم عليه السلام وهو يلقى في النار ،لم يرجع عن عقيدته ولا عن الدعوة إليها ، أكان في موقف نصر أم في موقف هزيمة ؟ ما من شك - في منطق العقيدة - أنه كان في قمة النصر وهو يلقى في النار ، كما أنه انتصر مرة أخرى وهو ينجو من النار . هذه صورة وتلك صورة   وهما في الظاهر بعيد من بعيد ، أما في الحقيقة فهما قريب من قريب ! وما النصر ؟ وما الهزيمة فهو ما سنوضحه إن شاء الله .

 

 

 

غلبة الدين وقهر الرجال

وردت عبارة قهر الرجال في حديث أخرجه أبو داود في سننه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : دخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد يوماً ورأى رجلا من الأنصار يقال له أبو أمامه فقال له صلى الله عليه وسلم : مالي أراك جالسا في المسجد في غير وقت صلاة ؟ فقال : يا رسول الله همٌ نزل بي وديون لزمتني ، فقال صلى الله عليه وسلم : ألا أعلمك كلمات إن قلتها أذهب الله همّك ، قال قلت : بلى يا رسول الله قال : قل إذا أصبحت وإذا أمسيت ، اللهم إني أعوذ بك من الهّم والغم ومن العجز والكسل وأعوذ بك من الجبن والبخل وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال ) 

القهر : الغلَبة والأخذ من فوق ، وقهر الرجال في قول كثير من العلماء : ما يصيب الإنسان من هم وغم بغلبة انتُصر عليه بها ، وهو يعلم أنه على الحق وخصمه على الباطل ، وغلبة الدَّين وقهر الرجال اللذان استعاذ منهما النبي صلى الله عليه وسلم ونستعيذ بالله منها جميعاً، هما أشد ما يمكن أن يصاب به الإنسان ، يقال : إن لقمان الحكيم قال في وصاياه: وحملت الأثقال كلها فما وجدت شيئاً أثقل من الدين فلا أشد من الدين، ولا أسوأ على قلوب الرجال الشرفاء؛ أهل النبالة والكرامة من أن يأتيه صاحب الدَّين وهو بين الناس ثم يقول: متى تعطيني؟ .

 أما قهر الرجال فهو مرّ ، وإن من أَمَر الأشياء الظلم والقهر، كأن يواجهك شخص ويقهرك ، ويظلمك بشيء واضح لك كالعيان، ولكنك مقهور لا تستطيع أن تتصرف تجاهه، نسأل الله أن يعيذنا وإياكم من ذلك.  

 والدين كما قيل هم باليل وذل بالنهار .. يفقد العاقل رشده .. وينتزع بين الأصحاب وده .. بل ويؤلبهم ضده  فيا من أثقلك الدين فكدرك  وأرقك فأسهرك   وأهانك فقهرك . كلمات من مشكاة النبوه ، تفك   بإذن الله قيدك .. وتحفظ عند الناس عهدك  ( اللهم اكفني بحلالك عن حرامك، واغنني بفضلك عمن سواك ) وكلمات تقولها عند النوم :كما في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا آوى إلى فراشه كان يقول : (الـلهم رب السموات والأرض ورب العرش العظيم ، ربنا ورب كل شيء ، فالق الحب والنوى ، منزل التوراة والإنجيل والقران ،أعوذ بك من شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته ، أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء ، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء ، وأنت الباطن فليس دونك شيء  اقض الدين عنا وأغننا من الفقر ) . ومن الأدعية التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوا بها ربه دفعاً لخصاصة ( اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر ، وأعوذ بك من الفقر ، لا إله إلا أنت ) ثلاث مرات صباحاً ومساءاً

والرّجل لا يقهره إلا الرِّجال الأشداء ، وإذا قُهر الرَّجُل من قبِل الرِجال فإن قلبه يَحمِل الغيظ والحقد . وقد ورد في الأمثال " قهر الرجال يهد الجبال " هذا المثل يُضرب في توصيف القهر الذي يحصل للرجال بأنه من شدته وسطوته يهد الجبال ، ولذا قيل تعوذوا من قهر الرجال .

لأن القهر يولد الحقد ، ويفقد الحُب ويسلب الراحة  ويمرض العقول ويخل بالشعور ويضعف الإدراك ويقلب الموازين ، والإحساس بالقهر   هو الشعور الذي يجعل الإنسان يحس بالألم والعذاب ، وقمة القهر أن تضطرك الحياة لمصاحبة عدوك ، وقمة القهر أن يشعر الإنسان بالظلم ويستسلم للظالم ، وقمة القهر أن ترى غيرك يتباهى بقتل مشاعرك   ولذلك كان الصحابة يتعوذون من : قهر الرجال وفتنة المسيخ الدجال

وفي هذا المجال بين ابن خلدون أثر القهر على نفس الفرد والمجتمع فقال:"ومن كان مُرَبَّاهُ بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك، أو الخدم سطا به القهر، وضيق على النفس انبساطها، وذهب بنشاطها، ودعاه إلى الكسل وحمل على الكذب، والخبث؛ وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفا من انبساط الأيدي بالقهر عليه، وعَلَّمَهُ المكر والخديعة لذلك وصارت له هذه عادة وخلقا، وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمرن…وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل، فانقبضت عن غايتها، ومدى إنسانيتها، فارتكس وعاد في أسفل السافلين " . ولما يترتب على القهر من الكبت الذي يفسد الخلق والطبع   ويثير في المرء دواعي التمرد على القيم الاجتماعية ، جاء النهي في القرآن الكريم عن قهر اليتيم ، لأن القهر والكبت يجعل شخصية الإنسان ميالة إلى العنف، والاعتداء انتقاما للذات ممن قهره .ولذلك حذر الله من نتائج هذا القهر عن طريق النهي عنه فقال : ] فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ [ ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يحسن إلى اليتيم ويبره ويوصي باليتامى خيرا . 

 

 

 

عالمـية الإسلام

 لقد بدأت عالمية الإسلام منذ اللحظة الأولى لبعثة النبي صلى الله عليه وسلم فالإسلام عقيدة لا يختص بها شعب ، أو مجتمع أو بلد   بل هو دين للناس جميعا ، بغض النظر عن العنصر أو الوطن أو اللسان ، ولا يعترف بأية فواصل وتحديدات جنسية أو إقليمية أو زمنية ، فهو عام في المكان والزمان . جاء في تفسير القرطبي في قوله تعالى : ] تبارك الذي نـزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً [ الفرقان1.  المراد بالعالمين هنا الإنس والجن ، وها هو صلى الله عليه وسلم يخبر قومه قائلاً: ( والله الذي لا إله إلا هو إني رسول الله إليكم خاصة وإلى الناس عامة ) ولأن النبي صلى الله عليه وسلم رسولاً للجن والإنس ونذيراً لهما ، وأنه خاتم الأنبياء ، أمره الله أول ما بعثه أن يصدع بالحق ، بين عشيرته أولاً ، ولتتسع دائرة التبليغ والإنذار ، إلى أن تصل مباشرة إلى أسماع كل من يستطيع أن يسمعه ، أو يرسل من ينوب عنه في تبليغ ما جاء به من الله تعالى ، ولتحقيق ما كلف به من تبليغ رسالته لجميع الناس ، فبدأ النبي صلى الله عليه وسلم يرسل كتبه إلى كل حاكم حوله ، فأرسل إلى فارس وإلى الروم وإلى مصر  وإلى كل بلد يمكن أن يكون فيها من يستطيع تلبية الرسالة ، وما كتاباته صلى الله عليه وسلم إلى ملوك العالم في عهده إلا دليلاً قاطعاً على عالمية رسالته .

وقد أتى الإسلام بتشريعاته وأحكامه ، في كل شؤون الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، وقد جاءت هذه الأحكام لمعالجة شؤون الناس جميعا ؛ مسلمين وغير مسلمين ، كما جاءت لتقضي على التفرقة بين الناس ، وحل النـزاعات الإقليمية أو الطائفية أو العنصرية أو القبلية أو الوطنية ؛ لأن الإسلام لا يفرق بين أبيض وأسود ولا بين جنس وآخر ، وقد حارب العصبية والعنصرية والطائفية ودعا الناس إلى رابطة واحدة هي رابطة العقيدة الإسلامية وهذا واضح في قول الله تعالى :  ] يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [ الحجرات13.    

وقد أخذ الخلفاء والمسلمون من بعده صلى الله عليه وسلم يمدون هذه الرسالة حيث تنقلوا ، فكانوا وهم يحطمون جبروت الاستعمار ، متجردين لله ، وكانت حياتهم مع بعضهم البعض ، ومسالكهم مع الآخرين ، سببا في دخول بقية الأمم في الإسلام ، حتى أصبحت في مقدمة الأمم المتعصبة له والمدافعة عنه ، فكان منها العلماء والفقهاء  الذين حملوا لواء التدريس في البلاد الإسلامية ، ومضت إلى أن بلغت عهدنا الحالي ، ولو تركنا نصرته والعمل له  فسوف يأتي الله بقوم آخرين ، يعملون لرفعة هذا الدين  ونصرته قال تعالى : ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [ المائدة54 وقال تعالى : ] وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [ محمد 38 .

إن عالمية الإسلام ستبقى إلى قيام الساعة ، ولا بد أن يسيطر على العالم  قال تعالى : ] هو الذي أرسل بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون [ الصف 9 . ثم يخبرنا الله أن الكفر مهما كان قوياً   ومهما كانت أعداده كثيرة ، ومهما كانت أسلحته ماضية ، يخبرنا الله أن لا نهتم لذلك فقال تعالى : ] لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض ومأواهم النار ولبئس المصير [ النور 57 . فلن يغلبوا الله ، وقال الله تعالى : ] وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة [ آل عمران 55 . معنى هذا أن عبودية البشر كافة لله   وأن هذه العقيدة ظاهرة فوق غيرها إلى يوم القيامة   يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث طويل ( ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل ، عزاً يعز به الإسلام ، وذلاً يذل الله به الكفر ) أحمد . وفي حديث أخر ( مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خيرٌ أم آخره ) الترمذي   

وقد يسأل سائل : كيف نوفق بين هذه الأحاديث  والأحاديث التي تتحدث عن غربة الإسلام وضعفه ؟

أن الخط البياني لخط الإسلام خط متعرج ، لا يرتفع باستمرار ولا ينخفض باستمرار ، إنه يرتفع وينخفض  وإن الإسلام بين مد وجزر ، حتى في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم  فالله نصر المسلمين في بدر ، وهزمهم في أحد قال تعالى : ] وتلك الأيام نداولها بين الناس [ آل عمران 140 .     وكذلك إلى قيام الساعة ، سننتصر وننهزم ، وننتصر وننهزم ، وسيكون الإسلام غريبا في بعض الأوقات ، ثم يأنس ويعتز ويقوى ، ثم يستوحش لضعف الناصر وجهل العامل ، وما إلى ذلك ، ثم تذهب هذه العلل ، وتنقشع هذه الغُمم ، ويعود الإسلام قوياً عزيزا ، وهكذا إلى قيام الساعة ، ولكن الكلمة الأخيرة للإسلام كما قال تعالى : ] وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة [ آل عمران 55 .وإذا كنا نمرُّ في أيام ضعف ، والأعداء ينالون منا ، فإن السبب ليس من الأعداء لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها   وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها ، وأعطيت الكنـزين الأحمر والأبيض ، وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسَنة بعامَّةٍ ، وأن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ، وإن ربي قال : يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد ، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بِسنة بِعامَّة ، ولا أسلط عليهم عدّواً من سوى أنفسهم ، فيستبيح بيضتهم ، ولو اجتمع عليهم من أقطارها ، حتى يكون بعضهم يهلك بعض ، ويسبي بعضهم بعضا ) مسلم في الفتن . نعم إن أعدائنا لا يضربوننا بأيديهم ، بقدر ما يضربوننا بأيدينا نحن   فالفرقة بين العرب والمسلمين حقيقة موجودة ، وستبقى حتى يعودوا إلى الإسلام ، وحتى تكون للقرآن مكانته العملية ويوم يطبق منهج الله .  

إن أي دارس للتاريخ يعلم أن العرب ينتصرون حين يعودون إلى ربهم ، ويرجعون إلى دينهم ، ويتمسكون بشرائعهم ، وإن الرباط الذي يربط بين المسلمين ويمنع تفككهم هو الدين ، وليعلم المسلمون أن راية الإسلام هي وحدها التي تجمع الشمل ، وتوحد الصفوف ، في وقت ازدادت جراحاتهم ، وشعر أعداء الإسلام بأن الإسلام سينتهي أو كاد ، ولما تعالت الصيحات بوجوب العودة إلى الدين والتمسك به ، أخذت المؤامرة ضد الإسلام طريقاً آخر ، بأن لا مانع من العودة إلى الإسلام ، ولكنه إسلام يمكن التخلص من نصوصه ، بل وأكثر من ذلك ، يريدون منا أن نرتد عن ديننا ، وأن نتنازل عن بلادنا ، أما الارتداد عن الدين فلأنهم يحاربوننا على هذا الدين منذ أن ظهر ، وأما التنازل عن البلاد   فلأن خيراتها كثيرة ، وكنوزها موفورة ، والطاقات فيها لا تكاد تنتهي ، وأمام هذا الواقع لا خيار لنا ، إما أن نتمسك بالإسلام ، فننجوا وننجح ، وإما أن نهمله فنخسر دنيانا وآخرتنا . 

والدارس للتاريخ الإسلامي يرى أن العقيدة الإسلامية والمبادئ الإسلامية ، مكنت المسلمين الأوائل ، من أن ينجحوا في تحمل عبء الحكم ومسئولياته ، ونجحوا في حمل الدعوة إلى العالم ، وهذا يجعلنا في الوقت الحاضر أن نتطلع إلى مستقبل الإسلام باطمئنان ، فنحن أكبر منهم قوة وأكثر عددا ، إذا استكملنا ما تفوقوا به علينا    وهو الاستمساك بالدين ، والاعتصام بحبل الله المتين    والالتفاف حول راية لا إله إلا الله ، أمكننا أن نستأنف دورهم في قيادة العالم ] وقل اعملوا فسيرى الله عملكم [  

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

سنة الله في أخذ الكافرين والظالمين

دعانا الله تعالى في كثير من آياته إلى السير في الأرض ، لمعرفة سنته تعالى في أخذ الكافرين والظالمين ، وذكّرنا بمصارع الغابرين ، والأقوام السابقين . ليبين لنا أن هذه هي سنته في أخذ الكافرين في كل زمان ومكان ، مهما عظمت دولتهم  وقويت شوكتهم ، لأنهم لما نسوا الله تعالى هانوا عليه فأهلكهم   ومضت قصصهم عبرة لكل متجبر وظالم ، وبقيت آثارهم عظة لكل من له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ، حتى يعلم المؤمن أن أهل الباطل مهما بلغت قوتهم ، وصالوا وجالوا فلن يعجزوا الله تعالى ، وأنه لهم بالمرصاد ، وما هو بالإهمال لهم بل هو الإمهال والإملاء ، حتى يحين أجل الله وموعده بأخذهم وإهلاكهم وزوالهم وذهابهم .

أما إن إهلاك الكافرين والظالمين سنة من سنن الله تعالى فهذا مقرّر في قوله تعالى : ] ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ، فهل ينظرون إلاّ سنَّةَ الأولين ، فلن تجد لسنة الله تبديلا ، ولن تجد لسنة الله تحويلا [ فاطر 43 . وأما دعوة الله تعالى لنا بالسير في الأرض ، والنظر في حال الأمم السابقة التي أهلكها الله ففي   قوله تعالى : ] أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبةُ الذين كانوا من قبلهم ، كانوا هم أشدَّ منهم قوةً وآثاراً في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق [ غافر21 . وقوله تعالى : ] أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة   وآثاراً في الأرض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون [ غافر 82 . في هذه الآيات : دعوة إلى التأمل في مصائر الغابرين ، فسنة الله هي سنة الله في الجميع . وسنة الله حق ثابت يقوم عليه هذا الوجود ، والله تعالى قد يملى للقرية الظالمة ويمهلها ، ثم يأخذها بعذاب من عنده ، كما فعل الله ببعض القرى السابقة حينما كذبوا برسلهم ، وفي هذا ما يطمئن قلوب المؤمنين ، كما طمأن الله رسوله الكريم من قبل بقوله تعالى : ] وإن يُكذِّبوك فقد كذَّبت قبلَهم قومُ نوح وعادٌ وثمودُ ، وقومُ إبراهيم  وقومُ لوط ، وأصحابُ مدين ، وكُذِّب موسى ، فأملَيتُ للكافرين ثم أخذتهم ، فكيف كان نكير ،فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمةٌ فهي خاويةٌ على عروشها وبئرٍ معطلةٍ وقصرٍ مَّشيدٍ، أفلم يسيروا في الأرض فتكونَ لهم قلوبٌ يعقلون بها أو آذانٌ يسمعون بها ، فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوبُ التي في الصدور [ الحج 41.

هذا نموذج من الواقع التاريخي . نموذج يعرض ويفسر كيف يتعرض الناس لبأس الله ، وكيف تكون عاقبة تضرعهم له  وكيف يمنحهم الله الفرصة بعد الفرصة ، ويسوق إليهم التنبيه بعد التنبيه ، فإذا نسوا ما ذكروا به ، ولم توجههم الشدة إلى التوجه إلى الله والتضرع إليه ، ولم توجههم النعمة إلى الشكر والحذر من الفتنة ، وكانت فطرتهم قد فسدت الفساد الذي لا يرجى منه صلاح ، وكانت حياتهم قد فسدت الفساد الذي لا تصلح معه للبقاء . فحقت عليهم كلمة الله . ونزل بساحتهم الدمار قال تعالى : ] ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك  فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون ، فلولا أن جاءهم بأسنا تضرعوا ، ولكن قست قلوبهم ، وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون [ . ولقد عرف الواقع البشري كثيراً من هذه الأمم  التي قص القرآن الكريم على الإنسانية خبر الكثير منها ، قبل أن يولد " التاريخ " الذي صنعه الإنسان ! فالتاريخ الذي سجله بنو الإنسان حديث المولد ، لا يكاد يعي إلا القليل من التاريخ الحقيقي للبشر على ظهر هذه الأرض ! وهذا التاريخ الذي صنعه البشر حافل - على  قصره - بالأكاذيب وبالعجز والقصور عن الإحاطة بجميع العوامل المنشئة ، والمحركة للتاريخ البشري ، والتي يكمن بعضها في أغوار النفس ، ويتوارى بعضها وراء ستر الغيب ، ولا يبدو منها إلا بعضها . وهذا البعض يخطئ البشر في جمعه ، ويخطئون في تفسيره ، ويخطئون أيضاً في تمييز صحيحه من زائفه - إلا قليلا - ودعوى أي إنسان أنه أحاط بالتاريخ البشري علماً  وانه يملك تفسيره تفسيراً " علمياً " ، وأنه يجزم بحتمياته المقبلة أيضاً ، إنها أكبر أكذوبة يمكن أن يدعيها إنسان ! ومن عجب أن البعض يدعيها ! والأشد إثارة للعجب أن البعض يصدقها ! ولو قال ذلك المدعي : إنه يتحدث عن (توقعات) لا عن (حتميات) لكان ذلك مستساغاً .. ولكن إذا وجد المفتري من المغفلين من يصدقه فلماذا لا يفتري ؟ وما علم أن الله يقول الحق ، ويعلم ماذا كان ولماذا كان . ويقص على عبيده- رحمة منه وفضلا - جانباً من أسرار سنته ، ليأخذوا حذرهم ويتعظوا وليدركوا كذلك ما وراء الواقع التاريخي من عوامل كامنة وأسباب ظاهرة ، يفسرون بها هذا الواقع التاريخي تفسيراً كاملاً صحيحاً ، ومن وراء هذه المعرفة يمكن أن يتوقعوا ما سيكون  استناداً إلى سنة الله التي لا تتبدل .. هذه السنة التي يكشف الله لهم عنها ، وجاء في الآيات القرآنية تصوير وعرض لنموذج متكرر لأمم شتى .. أمم جاءتهم رسلهم فكذبوا ، فأخذهم الله بالبأساء والضراء ، في أموالهم وفي أنفسهم ، وفي أحوالهم وأوضاعهم ، ليرجعوا إلى أنفسهم ، لعلهم تحت وطأة الشدة يتضرعون إلى الله ، ويتذللون له ، وينـزلون عن عنادهم واستكبارهم  ويدْعون الله أن يرفع عنهم البلاء بقلوب مخلصة  فيرفع الله عنهم البلاء ، ويفتح لهم أبواب الرحمة .. ولكنهم لم يفعلوا ولم يلجأوا إلى الله ، ولم يرجعوا عن عنادهم ، ولم ترد إليهم الشدة وعيهم ، ولم تفتح بصيرتهم ، ولم تلين قلوبهم . وكان الشيطان من ورائهم يزين لهم ما هم فيه من الضلال والعناد : ]ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون [ . والقلب الذي لا ترده الشدة إلى الله ، قلب تحجر ومات ، فلم تعد الشدة تثير فيه الإحساس ، ولم يرجع عما زينه الشيطان من الإعراض والعناد .. وهنا يملي الله لهم ويستدرجهم بالرخاء : ] فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبوب كل شيء . حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة ، فإذا هم مبلسون ، فقطع دابر القوم الذين ظلموا ، والحمد لله رب العالمين [ نفهم من الآية أن الرخاء ابتلاء آخر كابتلاء الشدة  وهو مرتبة أشد وأعلى من مرتبة الشدة ! والله يبتلي بالرخاء كما يبتلي بالشدة  يبتلي الطائعين والعصاة سواء ، فالمؤمن يبتلى بالشدة فيصبر ، ويبتلى بالرخاء فيشكر ، ويكون أمره كله خير وفي الحديث : ( عجباً للمؤمن إن أمره كله خير وليس ذلك لأحد إلاّ للمؤمن ، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له ) مسلم .

لقد كان لتلك الأمم من الحضارة ، وكان لها من التمكين في الأرض ، وكان لها من الرخاء والمتاع ، ما لا يقل - إن لم يزد في بعض نواحيه - عما تتمتع به البشرية اليوم ، أمم مستغرقة في السلطان والرخاء والمتاع ، مخدوعة بما هي فيه ، خادعة لغيرها ممن لا يعرفون سنة الله في الشدة والرخاء ، هذه الأمم لا تدرك أن هناك سنة ، ولا تشعر أن الله يستدرجها وفق هذه السنة . والذين يدورون في فلكها يخدعهم إملاء الله لهذه الأمم  وهي لا تعبد الله أو لا تعرفه ، وهي تتمرد على سلطانه    تعيث في الأرض فساداً ، وإذا كان الله قد رفع عذاب الاستئصال بعد بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهناك ألوان من العذاب باقية ، فالعذاب النفسي ، والشقاء الروحي ، والشذوذ الجنسي والإنحلال الخلقي ، الذي تقاسي منه البشرية اليوم ، ليكاد يغطي على الإنتاج والرخاء والمتاع ، وليكاد يصبغ الحياة كلها بالنكد والقلق والشقاء ! ذلك إلى جانب الطلائع التي تشير إليها القضايا الأخلاقية السياسية ، التي تباع فيها أسرار الدول  وتقع فيها الخيانة للأمم ، في مقابل شهوة أو شذوذ ، وليس هذا إلا بداية الطريق .. وصدق رسول الله r لما قال : ( إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا - على معاصيه - ما يحب فإنما هو استدراج ) ثم تلا : ] فلما نسوا ما ذكروا به أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون [ رواه ابن جرير وابن أبي حاتم . غير أنه ينبغي التنبيه إلى أن سنة الله في تدمير (الباطل) أن يقوم في الأرض (حق) يتمثل في (أمة) ثم يقذف الله بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق   فلا يقعدن أهل الحق كسالى ، يرتقبون أن تجري سنة الله بلا عمل منهم ولا كد ، فإنهم حبنئذ لا يمثلون الحق ، ولا يكونون أهله ، وهم كسالى قاعدون ، والحق لا يتمثل إلا في أمة تقوم لتقر حاكمية الله في الأرض، وتدفع المغتصبين لها ] ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض [ فلا تغرنكم قوة الباطل ولا صولته ، فإنه لا يعجز الله تعالى الذي يقول : ] ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغرنك تقلبهم في البلاد ، كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم   وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه ، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب [ غافر4 . إنه مصير الكافرين على مر الزمان ، إذا ما أصروا على كفرهم   وعلى تكذيبهم بالرسالة ، وعلى مواجهتهم للحق ، فهي سنة ثابتة متكررة لا تتغير ولا تتبدل قال تعالى : ] ألم نهلك الأولين   ثم نتبعهم الآخرين ، كذلك نفعل بالمجرمين ، ويل يومئذ للمكذبين [ المرسلات 16 وقال تعالى] أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمّر الله عليهم وللكافرين أمثالها [ محمد 10 .

 

دور الشباب في الحياة

إننا نعيش في عصر تدور المعركة فيه على مستقبل الإسلام وقتله ، وإن الخطوة الأولى للنصر ، أن يعرف المسلمون هذه الحقيقة ، وأن يقاتلوا دونها وأن يعرفوا أن مستقبل الإسلام ، بحاجة إلى شباب يؤمن بأن مستقبلنا مرتبط باصطلاحنا مع الله ، وعودتنا إلى الإسلام ، وتطبيقنا لتعاليمه ، شباب يؤمن بالله ويحرص على مرضاته ، شباب يريد أن يؤدي واجبه طلباً لرضا الله ، شباب يؤمن بأن الأمة التي تبني مستقبلها على التسول السياسي والاجتماعي ، لا تصلح للحياة ، لأن مستقبل الأمة الإسلامية  لا يصنعه إلا المسلمون .

إن الشباب في كل أمة عماد نهضتها، وفي كل نهضة سر قوتها ، وهم الأساس الذي تُبنى عليه الحضارات وهم المستقبل الواعد ، والأمل القادم ، وقد اعتنى الإسلام بالشباب عناية فائقة ؛ فحرص على إبعادهم عن كل رذيلة ، وحثّهم على التمسك بكل فضيلة وذلك حين أوصاهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( يا معشرَ الشبابِ من استطاع منكم البَاءَة فليتزوج؛ فإنه أغَضُّ للبصرِ وأحَصَنُ للفَرْجِ، ومن لم يستطعْ فعليهِ بالصوم فإنه له وِجَاء ) رواه البخاري . كما حثّهم على ملء أوقاتهم بكل مفيد لهم ولأمتهم ، فقال صلى الله عليه وسلم : ( لا تزول قدم ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يُسأل عن خمس : عن عمرهِ فيما أفناه ، وعن شبابهِ فيما أبْلاه وعن ماله من أين اكتسبهُ وفيم أنفقه ، وماذا عمل فيما علِم ) رواه الترمذي . ووجههم إلى طاعة الله وعبادته فقال صلى الله عليه وسلم : ( سبعةٌ يُظِلُهُمُ الله في ظِلِهِ يومَ لا ظلَ إلا ظله:... وشابٌ نشأ في طاعةِ الله...) رواه البخاري.

لقد نظر الإسلام إلى الشباب نظرة خاصة ، فحبب إليهم العفة ، وفي قصة الشاب الذي أتى النبي صلى الله عليه وسلم ليستأذنه في الزنا ، خير دليل على ذلك ، فما نهره ولا زجره ولا ضربه ، وإنما ناقشه وحاوره حوارا عقليا هادئا وهادفا ، انتهى إلى اقتناع الشاب بأن الزنا فاحشة ، لا يرضاها أحد من الناس لأمه ، ولا لأخته ، ولا لبنته ، ولا لعمته ، ولا لخالته ، و هو في كل ذلك يسأل ، والشاب هو الذي يجيب مقررا هذه الحقائق ، ولمَّا تيقن باقتناعه دعا الله تعالى له  فبغض الله إليه هذه الفاحشة النكراء .

إن نجاح كل نهضة ، يرجع إلى مقدار ما يبذل فيها الشباب من جهود ، وإلى مقدار ما ارتبط بها من آمالهم وأعمالهم ، فهم طليعة الثائرين على الفساد والاستبداد ، لأنهم أقدر على المخاطرة والتضحية  لأن الشاب إن سجن ، لم يجزع على أسرة يعولها   وإن قتل ، لا تبكه امرأة أيم ، ولا ولد يتيم ، ولخفة حمله من هذه الناحية ، يكون سريع الاستجابة لنداء الواجب ، شبابٌ لا تغتاله الأعراض الطارئة مهما اشتدت وطأتها ، شبابٌ لسان حالهم لا بأس أن نموت أو نسجن فدى مبادئنا ، شبابٌ لسان حالهم : الجهاد سبيلنا ، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا .

وقد ورد في القرآن ما يدل على دور الشباب في التغيير ففي قوله تعالى : ] سمعنا فتى يذكرهم [ في سياق الثناء على سيدنا إبراهيم عليه السلام ، وكيف فعل بأصنام القوم الكافرين، وقوله تعالى : ] إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى  [ وقد عبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن حبه للشباب فقال :( نصرني الشباب ) وثبت عن أبي سعيد الخدري : " أنه كان إذا رأى الشباب قال : مرحباً بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم  أوصانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نوسع لكم في المجلس ، وأن نفهمكم الحديث ، فإنكم خلوفنا وأهل الحديث بعدنا " وكان عبد الله بن مسعود إذا رأى الشباب يطلبون العلم قال :" مرحباً بكم ينابيع الحكمة " .     

ولم لمرحلة الشباب من مكانة في حياة الأمة ، فقد قيل : إن فترة الشباب أخصب مراحل العمر  وأجدرها بحسن الإفادة ، وعظم الإجادة ، ولهذه الفترة حسابها الخاص عند الله تعالى ، لأنها مرحلة القوة ، فالإنسان يبدأ وبه ضعف الطفولة  وينتهي وبه ضعف الشيخوخة ، وقد قرر القرآن الكريم ذلك قال تعالى: ] الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفاً وشيبة [ الروم 54 . هذه القوة بين ضعفين جعلت لفترة الشباب حساباً خاصاً ، جعلت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن خمس : عن عمره فيما أفناه ، وعن شبابه فيم أبلاه   وعن ماله من أين اكتسبه ، وفيم أنفقه ، وماذا عمل فيما علم ؟ ) رواه الترمذي . وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتني بالشباب الذين وهبوا الله أعمارهم وكرسوا له قواهم ، واستطاعوا أن يكونوا قذائف الحق ، التي دمر بها الباطل ، واستطاعوا أن يكونوا طلائع الفجر ، الذي طلع على الدنيا بحضارة الإسلام  فأغناها روحياً ومادياً ، ولما ظهر هذا الشباب المؤمن حول محمد صلى الله عليه وسلم بدأ الإسلام يؤدي رسالته تأدية رائعة ، بهم مضى الإيمان في طريقه ، فهم العمدة في تحقيق النصر للأمة ، والمعتمد عليهم بعد الله في الأزمات ، هم الذين آتاهم الله تعالى القوة في كل شيء ، والفتوة في كل أمر ، بهم تحي الأمم  وبهم ترتفع الرايات وبهم تصنع الحياة وتعمر الدنيا .    

 وقد أدرك أعداء الإسلام اهتمام الإسلام بالشباب فعملوا جاهدين ، للسيطرة على الشباب ، عن طريق تغريبهم عن دينهم ، حتى تسهل السيطرة عليهم  وبحثوا عن وسائل تعينهم ، على تحقيق هذه الغاية   بنشر وسائل اللهو والفساد ، عن طريق الفن الهابط الذي يدغدغ مشاعر الشباب ، ويثير غرائزهم من جهة ، والى نشر المخدرات بأنواعها المختلفة بين شباب الأمة من جهة أخرى .

فقد أدركوا أهمية دور الشباب في حياة الأمة لما أعطاهم الله من القوة البدنية ، والقوة الفكرية ، ما يفوقون به كبار السن ، وإن كان كبار السن يفضلونهم بالسبق والتجارب والخبرة، إلا أن ضعف أجسامهم في الغالب ، وضعف قواهم ، لا يمكنهم بما يقوم به الشباب الأقوياء ، ومن هنا كان دور شباب الصحابة ، الدور العظيم في نشر هذا الدين ، تفقهاً في دين الله ، وجهادًا في سبيله ، وقد حفظوا لهذه الأمة ميراث نبيها وبلغوه ، فقد قاموا بواجبهم تجاه دينهم وأمتهم ومجتمعهم ، الذي لا تزال آثاره باقية إلى اليوم ، وستبقى بإذن الله ما بقي الإسلام.

إن واجب الشباب هذه الأيام ، أن لا يتركوا الباطل يمر دون نكير ، لأن الأمة التي يخرس صوت الحق بين  شبابها ، وتتوارث الصمت المعيب ، هي أمة تسير في طريق الذلة والمهانة ، ومن حق حياة الأمة أن تخلو من ذلك ، ويكون من أولى أولوياتها ، أن تنصح الهازلين ، بأن عقبى اللعب بمصير الشعوب ، ستقع على أم رأسهم ، وأن جرأتهم على أمتهم إن نجوا من عقابها ، وإلا فسيؤخذون بها أولاً وآخرا ] فأخذه الله نكالَ الآخرةِ والأولى ، إن في ذلك لعبرةً لمن يخشى [ النازعات 25 . 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ثمرة مراقبة الله

 إن مراقبة الله : هي دوام علم العبد وتيقنه ، باطلاع الله تعالى على ظاهره وباطنه ، وأنه ناظر إليه، سامع لقوله رقيب عليه ، قال تعالى: ]إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [ ومراقبة الله وخشيته هي التي منعت نبي الله يوسف عليه السلام عن المعصية لما راودته امرأة العزيز ] وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ [  ومراقبة الله هي التي دفعت البنت حينما أمرتها أمها أن تغش اللبن الذي تريد بيعه للناس فقالت: يا أماه ألا تخافين من عمر؟ فقالت لها أمها: إن عمر لا يرانا فقالت البنت: إن كان عمر لا يرانا فرب عمر يرانا ، وقد سمعها عمر فأعجب بها ، وسأل عنها ثم زوجها أحد أبنائه ، فكان من نسلها عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد ، ويمرُ عمرُ بامرأة أخرى تغيبَ عنها زوجها منذ شهور في الجهاد في سبيل الله عز وجل ، وإذا بها تنشد وتحكي مأساتها :

تطاول هذا الليل وازور جانبه  وأرقنـي أن لا حبيب ألاعبـه

فوالله لولا الله لا رب غيـره   لحرك من هذا السريري جوانبه

 وأعرابية أخرى يراودها رجل على نفسها كما أورد ابن رجب، ثم قال لها: ما يرانا أحد إلا الكواكب ، فقالت: وأين مكوكبها يا رجل؟ أين الله يا رجل؟ أتستخفي من الناس ولا تستخفي من الله وهو معك إذ تبيت ما لا يرضى من القول ، ومراقبة الله هي التي دفعت راعي الغنم أن يقول لعمر عندما قال له : بعني شاة من هذه الغنم؟ فقال:إنني مملوك ، فقال له عمر :قل لسيدك أكلها

 

الذئب..قال الراعي:فأين الله؟! فبكى عمر ثم غدا إلى المملوك فاشتراه من مولاه وأعتقه..وقال:أعتَقَتْك في الدنيا هذه الكلمة ، وأرجو أن تعتقك في الآخرة.

فكل هذه الخصال السامية تجدها في أولئك الذين جعلوا المراقبة من بالهم..وهى صفات عزيزة نادرة كندرة هذه الصفة:"صفة المراقبة" .

إن مراقبة الله تعالى تكشف تأمر المتآمرين ، فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين ، فهذان رجلان من قريش هما صفوان بن أمية وعمير بن وهب ، جلسا يجران أحقادهما ، تحت جدارِ الكعبة ، فتذاكرا قتلى بدر فقال صفوان : والله ما في العيش بعدهم خير ، وقال له عمير: صدقت والله لولا دينُ علي لا أملك قضاءه ، وعيالُ أخشى عليهم الضيعة بعدي   لركبتُ إلى محمد حتى أقتله فإن لي عنده علّة أعتل بها عليه ، أقول قدمت من أجل إبني هذا الأسير ، فاغتنمها صفوان وقال : علي دينُك أنا اقضيه عنك، وعيالُك مع عيالي أواسيهم ما بقوا ، فقال له عمير: فأكتم شأني وشأنك لا يعلم بذلك أحد ، قال صفوانُ: أفعل   فقام عمير وشحذ سيفَه وسمَه ، ثم انطلقَ إلى المدينة ، فلما وصل إلى هناك أناخَ راحلته على بابِ مسجد رسول الله  صلى الله عليه وسلم متوشحاً سيفه ، فرآه عمر وقال : عدو الله ، والله ما جاء إلا لشر ، ودخل عمر على رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بخبره ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أدخلُه عليّ   ودخل به عمر على النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بحمالة سيفه في عنقه ، فلما رآه  صلى الله عليه وسلم قال لعمر: أرسله يا عمر ، ثم قال ما جاء بك يا عمير. وكان له أبنُ أسير عند رسولِ صلى الله عليه وسلم  قال : جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم ، فقال صلى الله عليه وسلم : فما بالُ السيفِ في عنقك؟ قال: قبحها اللهُ من سيوف وهل أغنت عنا شيئاً  فقال  صلى الله عليه وسلم وقد جاءه الوحيُ بما يضمرُه عمير، أصدقني يا عمير ما الذي جاء بك؟ قال: ما جئت إلا لذاك ، فقال صلى الله عليه وسلم : بل قعدت أنت وصفوان في الحجر فذكرتما أصحاب القليب من قريش ثم قلت له: كذا وقال لك: كذا وتعهد لك بدينك وعيالك، واللهُ حائلُ بيني وبينك ، قال عمير: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله ، هذا أمرُ لم يحضُره إلا أنا وصفوان، فواللهِ ما أنبأك به إلا الله ، فالحمد لله الذي هداني للإسلام ،يقول عمر : " والذي نفسي بيده لخنزيرٌ كان أحب إليّ من عمير ، حين طلع علينا ، ولهو اليوم أحبُّ إليّ من بعض ولدي " ، جاء ليقتلَ النور ويطفىء النور، فرجعَ وهو شعلةُ نور اقتبسَه من صاحب النور صلى الله عليه وسلم ، واسمعوا لهذه القصة في زمن مضى لتعلموا ثمرة المراقبة لله عز وجل، رجل اسمه نوح بن مريم كان ذي نعمة ومال وثراء وجاه، وفوق ذلك صاحب دين وخلق ، وكان له ابنة ذات منصب وجمال ، وخلق ودين ، وكان معه عبد اسمه مبارك ، لا يملك من الدنيا قليلاً ولا كثيراً ولكنه يملك الدين والخلق، ومن ملكهما فقد ملك كل شيء ، أرسلَه سيده إلى بساتين له ، وقال له : اذهب إلى تلك البساتين واحفظ ثمرها وكن على خدمتها إلى أن آتيك ، مضى الرجل وبقي في البساتين ، وجاءه سيده ليستريح في تلك البساتين ، فجلس تحت شجرة وقال: يا مبارك، ائتني بقطف من عنب ، فجاءه بقطف فإذا هو حامض  فقال: ائتني بقطف آخر إن هذا حامض ، فأتاه بآخر فإذا هو حامض  قال: ائتني بآخر، فجاءه بالثالث فإذا هو حامض ، كاد أن يستولي عليه الغضب ، وقال: يا مبارك أطلب منك قطف عنب قد نضج وتأتني بقطف لم ينضج   ألا تعرف حلوه من حامضة ؟ قال : والله ما أرسلتني لأكله وإنما أرسلتني لأحفظه وأقوم على خدمته ، والذي لا إله إلا هو ما ذقت منه عنبة واحدة ، والذي لا إله إلا هو ما راقبتك، ولا راقبت أحداً من الكائنات، ولكني راقبت الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء   فأعجب سيده به وبورعه وقال: الآن أستشيرك والمؤمنون نصحة، والمنافقون غششة، والمستشار مؤتمن ، فقد تقدم لابنتي فلان وفلان من أصحاب الثراء والمال والجاه، فمن ترى أن أزوج هذه البنت؟ فقال مبارك: لقد كان أهل الجاهلية يزوجون للأصل والحسب والنسب ، واليهود يزوجون للمال ، والنصارى للجمال ، وعلى عهد رسول الله  صلى الله عليه وسلم يزوجون للدين والخلق ، وعلى عهدنا هذا للمال والجاه ، والمرء مع من أحب، ومن تشبه بقوم فهو منهم ، أي نصيحة وأي مشورة؟ نظر وقدر وفكر فما وجد خيراً من مبارك ، قال: أنت حر لوجه الله ، أعتقه أولاً ، ثم قال : لقد قلبت النظر فرأيت أنك خير من يتزوج بهذه البنت  قال: اعرض عليها ، فذهب وعرض على البنت وقال لها: إني قلبت ونظرت وحصل كذا وكذا، ورأيت أن تتزوجي بمبارك ، قالت: أترضاه لي؟ قال: نعم ، قالت: فإني أرضاه ، فكان الزواج المبارك من مبارك  فكانت ثمرة هذا الزواج  أن حملت وولدت طفلاً أسمياه عبد الله ، لعل الكل يعرف هذا الرجل ، إنه عبد الله بن المبارك المحدث الزاهد العابد ،  إنه ثمرة مراقبة الله غز وجل في كل شي ، أما والله لو راقبنا الله حق المراقبة لصلح الحال، واستقامت الأمور.

إذا ما خلوت الدهرَ يوماً فلا تقل  خلوتُ ولكن قل علي رقيبُ

  ولا تحسـبنَ اللهَ يغفـلُ سـاعةً   ولا أن ما تخفيه عنه يغيبُ

فالمؤمن يشعر بالمراقبة الإلهية في سره ونجواه ، وفي هذا من الترغيب والترهيب ما يدفعه إلى الطاعة ويمنعه من المعصية  

] فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ  [ أي: المطلع على سرائرهم وضمائرهم ] وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [ علما وسمعا وبصرا، فعلمك قد أحاط بالمعلومات وسمعك بالمسموعات، وبصرك بالمبصرات، فأنت الذي تجازي عبادك بما تعلمه فيهم من خير وشر ، ترى أحوالهم وتعلم أقوالهم وتحصى أعمالهم ، ولا يخفى عليك شيء من سرائرهم .

إنه لا واعظ أعظم من المراقبة  فراقب الله في أفعالك وأقوالك ، واعلم أن الله رقيب عليك ، يروي التاريخ قصة شاب كان أيام التتار ، يريد أن يستقيم ولا يستطيع.. فذهب إلى عالم وقال له: أنا سمعت حديث النبي  صلى الله عليه وسلم عندما قال له رجل دلني على قول في الإسلام لا أسأل عنه أحد بعدك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( قل آمنت بالله ثم استقم ) فسأل الشاب العالم كيف أفعلها ؟ فقال له: إذا أويت إلى فراشك قبل أن تنام فردد في نفسك مراراً حتى يأخذك النوم : الله ناظري، الله مراقيبي، الله شهيد علي ، ورددها حتى تنام ، فإذا استيقظت لتبدأ يومك ، فرددها حتى تخرج من بيتك ، أراد العالم بذلك أن يستقر هذا المعنى في ذهن الشاب ليلاً ونهاراً ثم قال له العالم: رددها في يومك ما استطعت، وائتني بعد سنة لتقول لي ماذا فعلت ، ولكنه بعد لقائه بالعالم تغيرت أحواله ، يقول: فكنت إذا هممت بمعصية أُردد الله ناظري ، الله مراقيبي، الله شهيد علي، وكنت إذا فعلت خيراً أقول الله ناظري، الله مراقيبي، الله شهيد عليّ   وكنت أتغير يوماً بعد يوم، ومضت سنة ولم يرجع إلى العالم ، ورأى رؤية ، أنه تاه في الصحراء وجلس على صخرة يبكي ، فإذا بكوكبة من الفرسان يتقدمهم رجل أبيض جميل، فلما رآه يبكي نزل عن فرسه وأخذه واسنتهضه وضغط على صدره وقال: قم يا محمود طريقك إلى مصر من هاهنا ستملكها وستهزم التتار. فكان الشاب هو قطز الذي استيقظ بعد هذه الرؤية وذهب إلى العالم الجليل العز بن عبد السلام الذي قال له: ستكون رؤية خير، وفعلاً تحققت الرؤية .

كثيراً ما يتجرأ الإنسان إذا كان وحيداً غائباً عن أعين الناس على أمور لا يتجرأ عليها أمامهم ، قد يبتعد الإنسان عن المعاصي والذنوب إذا كان يحضره الناس وعلى مشهد منهم، لكنه إذا خلا بنفسه، وغاب عن أعين الناس، أطلق لنفسه العنان،  واقترف السيئات، وارتكب المنكرات،  فما أعظم كفر من تجرأ على معصية الله لاعتقاده بأن الله لا يراه ، وما أشد وقاحته، وأقل حياءه إن كان يعلم اطلاعه عليه وتجاهل قوله تعالى : ] يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور [ وما علم أن منزلة المراقبة من منازل ] إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ  [ وأنها بالنسبة للعبد دوام علمه  وتيقنه باطلاع الحق سبحانه وتعالى على ظاهره وباطنه ، واستدامته لهذا العلم  واليقين بذلك هي المراقبة ، التي هي ثمرة علمه بأنَّ الله سبحانه   رقيب عليه  ناظر إليه ..سامع لقوله ..مطلع على عمله ..ومن راقب الله في خواطره ؛ عصمه الله في حركات جوارحه ، قال أحدهم : والله إني لأستحي أن ينظر الله في قلبي وفيه أحد سواه   وقال ذو النون : علامة المراقبة ..إيثار ما أنزل الله ..وتعظيم ما عظَّم الله   وتصغير ما صغَّر الله ، وقال الشافعي : أعزّ الأشياء ثلاثة  الجود من قلة ..والورع في خلوة وكلمة الحق عند من يُرجى أو يُخاف ، وقالوا : أعظم العبادات مراقبة الله في سائر الأوقات ، وقال بعضهم: ليس الخائف من بكى فعصر عينيه إنما الخائف من ترك ما اشتهى من الحرام إذا قدر عليه .

اعلموا أيها المسلمون أن من راقب الله تعالى في أفعاله وأقواله   كان من أهل الإحسان ، وأهل الإحسان هم الذين قال الله تعالى عنهم : ] للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يَرْهَقُ وجوهَهُم قَتَرٌ ولا ذِلَّةٌ أولئك صحاب الجنةِ هم فيها خالدون [  يونس 26 .

 

 

 

 

تكاليف النصر وأعباؤه

إن للنصر تكاليفه وأعباؤه في ذات النفس وفي واقع الحياة   ويمكننا أن نتعرف على هذه التكاليف وهذه الأعباء من خلال  الوقوف عند قوله تعالى: ] ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ، الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، ولله عاقبة الأمور  [الحج 41 .

فوعد الله المؤكد الذي لا يتخلف هو أن ينصر من ينصره فمن هم هؤلاء الذين ينصرون الله ، فيستحقون نصر الله  القوي الذي لا يهزم من يتولاه ؟ إنهم : ] الذين إن مكناهم في الأرض [ فحققنا لهم النصر،  وثبتنا لهم الأمر ] أقاموا الصلاة [ عبدوا الله ، ووثقوا صلتهم به   واتجهوا إليه طائعين خاضعين مستسلمين ] وآتوا الزكاة [ أدوا حق  المال ، وانتصروا على شح النفس، وتطهّروا من الحرص ، وكفلوا الضعاف فيها والمحتاجين ] وأمروا بالمعروف [ دعوا  إلى الخير والصلاح، ودفعوا إليه الناس ] ونهوا عن المنكر [ قاوموا الشر والفساد، فحققوا بهذا وذاك صفة الأمة المسلمة ، التي لا تبقي على  منكر وهي قادرة على تغييره، ولا تقعد عن معروف وهي قادرة على  تحقيقه ، هؤلاء ينصرون الله ، بنصرون نهجه الذي أراده للناس  في الحياة ، معتزين بالله وحده دون سواه ، هؤلاء هم الذين يعدهم الله بالنصر على وجه التحقيق واليقين   والأمر بعد ذلك لله ، يصرفه كيف شاء ، فيبدل الهزيمة نصرا ،  والنصر هزيمة، عندما تهمل التكاليف: ] ولله عاقبة الأمور [  فلا يعطى النصر  لأحد جزافاً أو محاباة ولا يبقى لأحد لا يحقق غايته ومقتضاه ، وهذا ما يشير إليه قوله  تعالى: ] وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في  الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا. يعبدونني لا يشركون بي شيئاً. ومن كفر  بعد ذلك فألئك هم الفاسقون [ النور  55 وحقيقة الاستخلاف في الأرض ؟ إنها ليست مجرد الملك والقهر والغلبة والحكم ، إنما هي  استخلاف بشرط استخدامه في الإصلاح والتعمير والبناء ، وتحقيق المنهج الذي رسمه الله للبشرية كي تسير عليه ، استخلاف على العمارة والإصلاح، لا على الهدم  والإفساد ، استخلاف لتحقيق العدل والطمأنينة، لا للظلم والقهر .  

 فما من مرة سارت الأمة على نهج الله ، وحكمت هذا النهج في  الحياة ، وارتضته في كل أمورها ،  إلاّ تحقق وعد الله بالاستخلاف والتمكين والأمن ، وما من مرة خالفت عن هذا النهج إلاّ تخلفت وذلّت، وطُرد دينها من الهيمنة على البشرية، واستبدّ بها الخوف، وتخطفها الأعداء ، والله تبارك وتعالى قد جعل هذه الأمة خير الأمم وأخرجها إلى الناس لتقوم بدورها، وتنهض بتبعاتها وتكاليفها قال تعالى: ] كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، وتؤمنون بالله [ آل عمران110. وهذا ما ينبغي أن تدركه الأمة المسلمة، لتعرف حقيقتها وقيمتها، وتعرف أنها أُخرجت لتكون طليعة، ولتكون لها القيادة، بما أنها هي خير أمة ، والله يريد أن تكون القيادة للخير لا للشر في هذه الأرض ،  ومن ثم لا ينبغي لها أن تتلقى من غيرها من الأمم ، إنما ينبغي دائما أن تعطي هذه الأمم مما لديها ، وأن يكون لديها دائما ما تعطيه من الاعتقاد الصحيح ، والنظام الصحيح، والخلق الصحيح   والعلم الصحيح ، وهذا هو واجبها ، أن تكون في مركز القيادة دائما ، وأن تكون لها القوة التي تمكنها من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع الإيمان الذي يحدده المعروف والمنكر: ] تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله [ فلا بد من الإيمان أيضا ليملك الدعاة إلى الخير، الآمرون بالمعروف، الناهون عن المنكر، أن يمضوا في هذا الطريق ، ويحتملوا تكاليفه ، وهم يواجهون طاغوت الشر والشهوة ، زادهم وعدتهم الإيمان   وسندهم هو الله ، وكل زاد سوى زاد الإيمان ينفد   وكل سند غير سند الله ينهار قال تعالى : ] هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله  وكفى بالله شهيداً [ الفتح 28. فقد ظهر دين الحق قبل مضي نصف قرن من الزمان ، وما يزال دين الحق ظاهراً على الدين كله-حتى بعد انحساره السياسي عن جزء كبير من الأرض التي فتحها، وبخاصة في أوروبا وجزر البحر الأبيض . وانحسار قوة أهله في الأرض كلها بالقياس إلى القوى التي ظهرت في الشرق والغرب في هذا الزمان .

فما يزال دين الحق ظاهراً على الدين كله ، من حيث هو دين ، فهو الدين القوي بذاته ، القوي بطبيعته ، الزاحف بلا سيف ولا مدفع من أهله ! لما في طبيعته من استقامة مع الفطرة ، ولما فيه من تلبية بسيطة لحاجات العقل والروح ، وحاجات العمران والتقدم ، وحاجات البيئات المتنوعة ، من ساكني الأكواخ إلى سكان ناطحات السحاب! وما من صاحب دين غير الإسلام ، ينظر في الإسلام نظرة مجردة من التعصب والهوى حتى يقر باستقامة هذا الدين وقوته الكامنة ، وقدرته على قيادة البشرية قيادة راشدة ، وتلبية حاجاتها النامية المتطورة في يسر واستقامة ] وكفى بالله شهيداً [ .

  وقد تحقق وعد الله الحق في الصورة السياسية الظاهرة قبل قرن من الزمان بعد البعثة المحمدية ، ووعد الله ما يزال متحققاً في الصورة الموضوعية الثابتة ، وما يزال هذا الدين ظاهراً على الدين كله في حقيقته . بل إنه هو الدين الوحيد الباقي قادراً على العمل والقيادة ، في جميع  الأحوال ، ولعل أهل هذا الدين هم وحدهم الذين لا يدركون هذه الحقيقة اليوم ! فغير أهله يدركونها ويخشونها ويحسبون لها في سياستهم كل حساب ، وما تزال لهذا الدين أدوار في تاريخ البشرية يؤديها ، ظاهراً بإذن الله على الدين كله تحقيقاً لوعد الله ، الذي لا تقف له جهود العبيد ، مهما بلغوا من القوة والكيد والتضليل ! وجاءت الآيات القرآنية حافزاً للمؤمنين المخاطبين بها على حمل الأمانة التي اختارهم الله لها ، وما تزال حافزاً ومطمئناً لقلوب المؤمنين الواثقين بوعد ربهم ، وستظل تبعث في الأجيال القادمة مثل هذه المشاعر حتى يتحقق وعد الله مرة أخرى في واقع الحياة بإذن الله قال الله تعالى : ] ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون [ الصافات171.

فوعد الله واقع وكلمتة قائمة  متحققة في كل دعوة لله  يخلص فيها الجند ، ويتجرد لها الدعاة ، إنها غالبة منصورة مهما وضعت في سبيلها العوائق ، وقامت في طريقها العراقيل ، ومهما رصد لها الباطل من قوى الحديد والنار   وقوى لدعاية والافتراء ، وقوى الحرب والمقاومة   وإن هي إلا معركة تختلف نتائجها ، ثم تنتهي إلى الوعد الذي وعده الله لرسله ، والذي لا يُخلف ولو قامت قوى الأرض كلها في طريقه ، إنه الوعد بالنصر والغلبة  والتمكين قال تعالى : ] إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا [ .

 

 

 

أين وعد الله بالنصر

في القرآن الكريم عشرات الوعود الربانية، التي يعد فيها سبحانه وتعالى عباده المؤمنين بوعود، تبشرهم وتطمئنهم بنصر الله وتمكينه لهم، إلا أن فهم كثير من الناس لهذه الوعود يشوبه الخلل في الفهم والتصور، فينظر إلى هذه الوعود كأنما هي بشارات ، بأن الله سيخوض المعركة بالنيابة عنهم، ناسين أن تلك الوعود لا تعمل عملها إلا بشروط ومقدمات ، فوعد الله بهزيمة الذين يكفرون ويكذبون وينحرفون عن منهج الله ، قائم في كل لحظة ، ووعد الله بنصر الفئة المؤمنة قائم كذلك في كل لحظة . وتوقف النصر على تأييد الله الذي يعطيه من يشاء حقيقة قائمة وسنة ماضية لم تتوقف ، وعلى الفئة المؤمنة أن تطمئن إلى هذه الحقيقة  وتثق  بالوعد الرباني ، وتعد للأمر عدته ، وتصبر حتى يأذن الله ، ولا تستعجل ولا تقنط إذا طال عليها الأمد ، المغيب في علم الله ، المدبر بحكمته  المؤجل لموعده الذي يحقق هذه الحكمة : ] إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار [ وقبل أن نسأل : أين وعد الله للمؤمنين بالنصر في الحياة الدنيا علينا أن نؤمن بأنه وعد من الله قاطع ، وحكم من الله جامع ، إذا استقرت حقيقة الإيمان في نفوس المؤمنين ، وتمثلت في واقع حياتهم منهجا للحياة ، ونظاما للحكم ، وتجردا لله في كل حركة ، وعبادة لله في الصغيرة والكبيرة ، حينها لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا  والدارس للسيرة النبوية والتاريخ ، يجد أن الهزيمة لا تلحق بالمؤمنين , ولم تلحق بهم في تاريخهم كله ، إلا وهناك ثغرة في حقيقة الإيمان ، إما في الشعور وإما في العمل ، ومن الإيمان أخذ العدة ، وإعداد القوة في كل حين بنية الجهاد في سبيل الله ، وتحت راية لا إله إلا الله  وبقدر هذه الثغرة تكون الهزيمة الوقتية ، ثم يعود النصر للمؤمنين   ففي أحد مثلا  كانت الثغرة في ترك طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وفي الطمع في الغنيمة ، وقد بيَّن الله تعالى أن الهزيمة ما لحقتهم إلا بمعصيتهم لله ] أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [ آل عمران   فهو سبحانه وتعالى قدير على نصركم   وعلى خذلانكم، فلما عصيتم قدَّر الله سبحانه لكم الخذلان ، الذي من أعظم أسبابه معصية الله تعالى ، وهي سبب الخلاف والتنازع، كما أنها سبب الفشل والهزيمة ، أما الطاعة فهي سبب التآلف واجتماع الكلمة   وهي سبب النصر والظفر .

وفي غزوة حنين كانت الثغرة في الاعتزاز بالكثرة والإعجاب بها 

ولو ذهبنا نتتبع كل مرة تخلف فيها النصر عن المسلمين في تاريخهم ، لوجدنا شيئا من هذا ، نعرفه أو لا نعرفه  ، أما وعد الله فهو حق في كل حين ، وأما المحنة فقد تكون للابتلاء  والابتلاء إنما يجيء لحكمة ، وهي استكمال حقيقة الإيمان  ومقتضياته من الأعمال .

 والهزيمة في أي معركة لا تكون هزيمة ، إلا إذا تركت آثارها في النفوس ، يأساً وقنوطا ، أما إذا بعثت الهمة ، وكشفت عن طبيعة العقيدة وطبيعة المعركة ، فهي المقدمة الأكيدة للنصر الأكيد ، ولو طال الطريق ، وحين يقرر النص القرآني : أن الله  ] ولن يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا  [فإنما يشير إلى أن الروح المؤمنة هي التي تنتصر ، والفكرة المؤمنة هي التي تسود  والنص القرآني إنما يدعو الجماعة المسلمة إلى استكمال حقيقة الإيمان في قلوبها ، تصورا وشعورا ، وفي حياتها واقعا وعملا  وليس بيننا وبين النصر في أي زمان وفي أي مكان ، إلا أن نستكمل حقيقة الإيمان ، ونستكمل مقتضيات هذه الحقيقة في حياتنا وواقعنا كذلك ، ومن حقيقة الإيمان أن نأخذ العدة ونستكمل القوة ، ومن حقيقة الإيمان ألا نركن إلى الأعداء   وألا نطلب العزة إلا من الله .

ووعده الأكيد للمؤمنين بالنصر , هو الوعد الذي يتفق تماما مع حقيقة الأيمان وحقيقة الكفر في هذا الكون ، فالإيمان صلة بالقوة الإلهية التي لا تضعف   والكفر انقطاع عن تلك القوة وانعزال عنها ، ولن تملك قوة محدودة مقطوعة منعزلة فانية , أن تغلب قوة موصولة بمصدر القوة في هذا الكون جميعا ، إلا عندما يتحول الإيمان إلى مظهر ، عندها فإن حقيقة الكفر تغلبه   لأن حقيقة أي شيء أقوى من مظهره .  ومتى عصى المسلمون ربهم ، أظهر عليهم الكافرين   وقد بينت الآيات القرآنية ، أن المؤمنين منصورون غالبون قاهرون لعدوهم  مهما كانت قوة العدو وعدده وعدته ، ومهما اختلت موازين القوى لصالح الكفار إذا كان المؤمنون صادقين عاملين بما يجب عليهم   تاركين لما نُهوا عنه ، وقد أخذوا من أسباب القوة ما كان في طاقاتهم ووسعهم ، ولم يقصّروا في امتلاك القوة التي يمكنهم امتلاكها   وقد قال الله تعالى مبيناً ذلك : ] وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ [ الصافات 173. والآيات في ذلك كثيرة ، وكان عمر بن الخطاب يُوصي الجيش إذا خرج للجهاد بطاعة الله فيقول : "إنكم لا تنتصرون على عدوكم بعددٍ ولا عدة ، وإنما تنتصرون بطاعتكم لله ومعصيتهم له ، فإذ تساويتم في المعصية غلبوكم بالعدد والعدة". ويبين ابن رواحة أن المسلمين لا ينتصرون على عدوهم بعدد أو عدة ، وإنما ينتصرون بطاعة المسلمين لله   ومعصية الكافرين له ، ويقول عندما استشاره زيد في لقاء الروم بعد أن جمعوا جموعاً كثيرة في مؤتة : " لسنا نقاتلهم بعدد ولا عدة والرأيُ المسير إليهم " ، إنه الجيل الذي زلزل عرش كسرى وقيصر ، وفتح البلدان والأمصار ، مع أنهم كانوا قلة في العدد والعتاد، ولكنه الإيمان الذي يصنع المعجزات  ، قال تعالى :

] فأيدنا الذين أمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين [   الصف14. وعندما سأل هرقل ملك الروم جنوده عن سرِّ هزيمتهم  مع أن عددهم يفوق بكثير عدد المسلمين، ومعهم من العدة والعتاد ما ليس للمسلمين أجابه أحدهم: "لأنهم يصومون النهار ويقومون الليل، ويحبون الموت كما نحب نحن الحياة". وقد يتأخر ويبطؤ نصر الله لحكمةٍ ما، لكن في نهاية المطاف فهو آتٍ لا محالة : ] حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [يوسف 110.

 

 

انتصار الحق على الباطل

من معالم الصراع بين الحق والباطل "انتصار الحق على الباطل في نهاية الصراع" بعد أن يتراوح المؤمنون في هذا الصراع بين النصر والهزيمة ، ويطول البلاء على المؤمنين، ويشتد الكرب.  يتمخّض عن هذا كله انتصاراً واضحاً ، وساحقاً للحق وأهله  على الباطل بكل أشكاله وألوانه ، فينصر الله الضعفاء من المؤمنين ، ويمكّن لهم في الأرض ، ويعز الله جنده  ويثبّت أولياءه ، ويُعلي الله كلمته ، ويرفع رايته ، ويهزم أعداءه   ويجعل الدائرة عليهم ، والهزائم تلاحقهم في كل مكان ، وفي أثناء ذلك ، يسقط الطغاة ، ويكثر بعد ذلك أتباع هذا الدين  وتنتشر الفضيلة  ، وتحارب الرذيلة ، ويعمّ الخير، ويزول الشر . ويعيش الناس في ظل هذا الدين في مأمن وسلام ، بعد أن ذاقوا الخوف والجوع والحروب والويلات ، والقرآن الكريم بيّن هذا في آياته : بوسائل مختلفة ، وأساليب متنوعة وطرقاً متعددة  فتارة بآية قرآنية صريحة، وتارة أخرى بإشارة قرآنية خفية ، وفي موضع بقصة قرآنية ، وفي موضع أخر بمثلٍ قرآني ، ومن الواقع والتاريخ نماذج متعددة ، وصوراً جليّة تكشف عن هذه الحقيقة مما لا يترك مجالا للشك في عدم وقوعها  ، بل هو اليقين الثابت  والحق الجازم ، والسنة الجارية ، بل هو وعد الله ، والله لا يخلف الميعاد ، فنصر الله قادم ، وفرجه قريب ، وما بعد العسر إلاّ اليسر ، وما بعد الضيق إلاّ الفرج .

إن واقع المسلمين اليوم ، وما يتعرضوا له من محن وابتلاءات   وضيق وكرب ، يتطلب البحث عن العلاج الذي يخفف الآلام   ويلملم الجراح ، ويواسي المستضعفين ، وفي القرآن الكريم الزاد المعين على ذلك ، وفيه من آيات التثبيت ما يجعل البلاء قُربة يتعبد الله بها ، فالقرآن نورٌ وضياء ، ودستورٌ ومنهاج ، وأملٌ وحياة ، يبعث النفس على الاستعلاء على الباطل مهما عَظُم وتجبر ، جاء في كثير من الآيات القرآنية تقرير انتصار الحق على الباطل ، بل أمر الله رسوله الكريم أن يعلنها واضحة صريحة بقوله تعالى : ] وقل جاء الحق وزهق الباطل ، إن الباطل كان زهوقا [ الإسراء 81 . بهذا السلطان المستمد من الله ، أعلن مجيء الحق بقوته وصدقه وثباته ، وزهوق الباطل واندحاره وجلاءه ، فمن طبيعة الصدق أن يحيا ويثبت ،  ومن طبيعة الباطل أن يتوارى ويزهق ] إن  الباطل كان زهوقا [ حقيقة يقررها بصيغة التوكيد ، وإن بدا للنظرة الأولى أن للباطل صولة ودولة ، فالباطل ينتفخ وينفش ، لأنه باطل لا يطمئن إلى حقيقة  ومن ثم يحاول أن يموه على العين ، وأن يبدو عظيماً كبيراً ضخماً راسخاً ، ولكنه هش سريع العطب زاهق ] إن الباطل كان زهوقا [ لأنه لا يحمل عناصر البقاء في ذاته إنما يستمد حياته الموقوتة من عوامل خارجية ، فإذا تخلخلت تلك العوامل  تهاوى وانهار . أما الحق فمن ذاته يستمد عناصر وجوده . وقد تقف ضده الأهواء ، وتقف ضده الظروف ، ويقف ضده السلطان ، ولكن ثباته واطمئنانه يجعل له العقبى ، ويكفل له البقاء ، لأنه من عند الله الذي جعل " الحق " من أسمائه وهو الحي الباقي الذي لا يزول . فالباطل زاهق ومن ورائه  الشيطان   ومن ورائه السلطان . ووعد الله أصدق وسلطانه أقوى . وما من مؤمن ذاق طعم الإيمان ، إلا وذاق معه حلاوة الوعد   وصدق العهد . ومن أوفى بعهده من الله ؟ ومن أصدق من الله حديثاً ؟ وبمثل هذا التوجيه الرباني ، يأمر الله نبيه أن يلقي هذه الحقيقة قذيفة في وجه الباطل وأهله ، إذ يقول الله تعالى : ] قل إن ربي يقذف بالحق علاّمُ الغيوب ، قل جاء الحق وما يُبديءُ الباطلُ وما يعيد [ سبأ49 . أي فهذا " الذي جئتكم به الحق . الحق القوي الذي يقذف به الله ، إنه تعبير مصور مجسم  متحرك . وكأنما الحق قذيفة تصدع وتنفذ ولا يقف لها أحد في طريق ، يقذف بها الله عن علم ، ويوجهها على علم ، ولا يخفى عليه  هدف ، ولا تغيب عنه غاية ، ولا يقف في وجه الحق الذي يقذف به معترض ، فالطريق أمامه مكشوف ليس فيه مستور ! جاء هذا الحق في صورة من صوره ، في الرسالة المحمدية ، وفي قرآنها ، وفي منهجها المستقيم . قل : جاء الحق . جاء بقوته ، جاء باستعلائه وسيطرته ] وما يبديء الباطل وما يعيد [ قد انتهى أمره . وما عادت له حياة   وما عاد له مجال   وقد تقرر مصيره ، وعرف أنه إلى زوال ، إنه الإيقاع المزلزل  الذي يشعر من يسمعه أن القضاء المبرم قد قضى ، وأنه لم يعد هناك مجال لشيء آخر يقال ، وإنه لكذلك . فمنذ جاء القرآن استقر منهج الحق واتضح . ولم يعد الباطل إلا مماحكة أمام الحق الواضح الحاسم الجازم . ومهما يقع من غلبة مادية للباطل في بعض الأحوال والظروف ، إلا أنها ليست غلبة على الحق . إنما هي غلبة على المنتمين إلى الحق . غلبة الناس لا المبادئ . وهذه موقوتة ثم تزول . أما الحق فواضح بين صريح  . وبمثل هذا التقرير يقول الله تعالى :] بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق [ الأنبياء 18 . إذاً " هذه هي السنة المقررة   فالحق أصيل في طبيعة الكون ، عميق في تكوين الوجود . والباطل منفي عن خلقة في هذا الكون أصلاً ، طارئ لا أصالة فيه ، ولا سلطان له ، يطارده الله ويقذف عليه بالحق فيدمغه . ولا بقاء لشيء يطارده الله ، ولا حياة لشيء تقذفه يد الله فتدمغه ! ولقد يخيل للناس أحياناً أن واقع الحياة يخالف هذه الحقيقة التي يقررها العليم الخبير . وذلك في الفترات التي يبدو فيها الباطل منتفشاً كأنه غالب ، ويبدو فيها الحق منـزوياً كأنه مغلوب . وإن هي إلا فترة من الزمان ، يمهد الله فيها ما يشاء ، للفتنة والابتلاء . ثم تجري السنة الأزلية الباقية التي قام عليها بناء السماء والأرض ، وقامت عليها العقائد والدعوات سواء بسواء ، والمؤمنون بالله لا يساورهم الشك في صدق وعده ، وفي أصالة الحق في بناء الوجود ونظامه ، وفي نصرة الحق الذي يقذف به على الباطل فيدمغه ، فإذا ابتلاهم الله بغلبة الباطل حيناً من الدهر ، عرفوا أنها الفتنة ، وأدركوا أنه الابتلاء   وأحسوا أن ربهم يربيهم ، لأن فيهم ضعفاً أو نقصاً ، وهو يريد أن يعدّهم لاستقبال الحق المنتصر  ، فيدعهم يجتازون فترة البلاء   ليستكملون فيها النقص ويعالجون فيها الضعف ، وكلما سارعوا إلى العلاج ، قصّر الله عليهم فترة الابتلاء  وحقق على أيديهم ما يشاء . أما العاقبة فهي مقررة :] بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق [ والله يفعل ما يريد ، بل جعل الله تعالى انتصار الحق على الباطل من محض إرادته تعالى  ولا راد لحكمه وقضائه فقال تعالى:] ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ، ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون [ الأنفال 7 ، وقوله تعالى :] ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون [ يونس 82 ، وقوله : ] ويمحق الله الباطل ويحق الحق بكلماته ، إنه عليم بذات الصدور [ الشورى 24 . وهذا كله موقوت بأمر الله : ]   فإذا جاء أمر الله قضي بالحق  وخسر هنالك المبطلون [ غافر 78. آيات تقرر بوضوح إرادة الله في انتصار الحق على الباطل ، وأن الحق أصيل وغالب ، وأن الباطل ضعيف طارئ ، لا أصل له ولا أساس ، وأن الله وراء المعركة القائمة بين أهل الحق وأهل الباطل ، الذي يقودها بإرادته ، ويحكم في نهايتها بانتصار الحق على الباطل ، وبهذا تطمئن النفوس ، وتهدأ الضمائر ، ويزول الشك ، ويحل محله اليقين ، فالله مع أهل الحق ، ينصرهم ويؤيدهم ، ويعينهم ، ولا ينسى عباده ، ولا يتخلى عنهم ، بل يقف إلى جانبهم ، فيحق الحق ويبطل الباطل ويمحوه ، حتى لا يعود له أثر ولا وجود.

إن معركة المصير التي قضى الله أن لا تَخْبُوَ نارُها ولا تخمد جذوتها ولا يسكن لهيبها، بل تظلُّ مستعرةً حتى يرث الله الأرض ومن عليها، هي معركة الحق مع الباطل والهدى مع الضلال والكفر مع الإيمان. وإن هذه المعركة في واقعها انتفاضةُ الخير أمام صولةِ الشر ، في كل صوره وألوانه، في كل زمان ومكان مهما اختلفت راياته وكثر جنده وعظم كيده وأحدق خطره ، وهي لذلك ليست وليدةَ اليوم بل هي فصولٌ متعاقبة موغلةٌ في القدم ، يرويها الذكر الحكيم، تبصرةً وذكرى للذاكرين، وهدى وموعظة للمتقين ، ومِن سننِه جلّ وعلا أنَّ الحقّ والباطلَ في هذه الدنيا في صراعٍ دائم مستمِرّ، ليستبينَ مَن هو صادقُ الإيمان قويّ اليقين ، مِمّن يعبُد اللهَ على حرف، فإن أصابه خيرٌ اطمئنَّ به ، وإن أصابته فتنةٌ انقلبَ على وجهِه خسر الدنيا والآخرة .

ومِن تلك السنن أن ابتلى عبادَه المؤمنين ؛ بأعدائِهم ليظهرَ مَن كان صادقًا ثابتًا على الحقّ يقول الله تعالى : ] وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ ٱلْمُجَـٰهِدِين َ مِنكُمْ وَٱلصَّـٰبِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَـٰرَكُمْ [ محمد31 ويقول الله تعالى: ]وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَـٰكِن لّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [ محمد 4 ويقول : ] مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِيَذَرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيّبِ [آل عمران 179. ومِن سننِه تعالى أنّ هذا الدينَ سيظلّ إلى أن يرِث الله الأرضَ ومن عليها ، خاتمة الأديانِ كلِّها، فعنه r قال: (ولا تزال طائفةٌ من أمّتي ظاهرين على الحقّ، لا يضرّهم من خذلهم ولا مَن خالفهم حتى يأتيَ أمر الله وهم على ذلك ) . فأيّ قوةٍ مهما عظُمت على وجه الأرض لن تستطيعَ  القضاء على هذا الدّين قال تعالى: ] إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَـٰفِظُونَ [ الحجر 9  وقال تعالى : ] يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفْوٰهِهِمْ وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَـٰفِرُونَ [ الصف 8 . فكم تعرَّضت الأمّة لحملاتٍ من أعدائها على اختلاف القرون ، ولكن لا يزال هذا الدينُ ظاهرًا قويًّا، مَن تمسَّك به ودعا إليه ورفع رايتَه فالعزُّ والتوفيق من الله له قال تعالى: ] إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ ٱلأَشْهَـٰدُ [ غافر51  وقال:] وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَـٰلِبُونَ [ الصافات171 وما على المؤمنِ أن يأخذَ بأسباب النّصر والتمكين، حيث يقول تعالى : ] وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُ [ الحج40 ويقول : ] يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ [ محمد 7 .  

 

 

أمثلة لانتصار الحق على الباطل

ذكر القرآن قصصاً تدل على انتصار الله لعدد من أنبيائه ورسله ، في معرض مواجهتهم لأقوامهم ، وما لا قوه في سبيل دعوتهم من المصاعب والأذى ، وهذه القصص مفادها العظة والعبرة ، وهي دروس يستشف منها المسلم ما يعينه على مواصلة المسير ، مهما اشتد عليه البلاء ، فله في الأنبياء مَثَلٌ وقدوة ، وله في قصصهم عظة وعبرة  وهي قصص يتبين من خلال العرض القرآني لها ، كيف تدخلت يد القدرة الإلهية ، لانتصار هؤلاء الرسل وكيف نجو من أذى أقوامهم ، فقد ذكر الله تعالى في كتابه الكريم قصة نوح عليه السلام ، وبينت الآيات مدى الجهد الذي بذله في تبليغ رسالة ربه إلى قومه ، وما لاقاه في سبيل دعوته ، كما ذكرت الآيات نهاية هذا الجهد النبوي انتصار الله لنوح عليه السلام ولمن آمن معه ، وإهلاكه  للكافرين قال تعالى : ] كذبت قبلهم قومُ نوح  فكذَّبوا عبدَنا وقالوا مجنونٌ وازدُّجر ، فدعا ربه أَني مغلوب فانتصر ، ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيوناً فالتقى الماء على أمر قد قُدِر وحملناه على ذاتِ ألواح ودُسُرٍ   تجري بأعيننا جزاءً لمن كان كُفِر [ القمر9.

إن المسلمين من أتباع نوح عليه السلام ، وتذكر بعض الروايات أنهم اثنا عشر ، كانوا حصيلة دعوته في ألف سنة إلا خمسين عاما ، قد استحقت أن يغير الله لهم المألوف من ظواهر هذا الكون ، وأن يجري لهم ذلك الطوفان الذي غمر كل شيء وكل حي وقتها في الأرض   وأن يجعلهم وحدهم هم وارثي الأرض بعد ذلك ، وبذرة العمران فيها والاستخلاف من جديد ، لأن وجود البذرة المسلمة أمر عظيم في ميزان الله تعالى ، وشيء يستحق منه سبحانه أن يدمر الجاهلية وأرضها وعمرانها وقواها ومدخراتها جميعاً ، كما يستحق منه سبحانه أن يرعى هذه البذرة ، حتى تسلم وتنمو وترث الأرض وتعمرها من جديد! إنهم يستحقوا أن يسخر الله لهم القوى الكونية الهائلة ، وليس من الضروري أن تكون هي الطوفان . فما الطوفان إلا صورة من صور تلك القوى ] وما يعلم جنود ربك إلا هو [ وما على هذه الفئة المؤمنة إلاّ أن تثبت وتستمر في طريقها ، وأن تعرف مصدر قوتها وتلجأ إليه ، وأن تصبر حتى يأتي الله بأمره ، وأن تثق أن الله لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء . وأنه لن يترك أولياءه إلى أعدائه ، إلاّ فترة الإعداد والابتلاء  ومتى مرَّت هذه الفترة ، فإن الله سيصنع لها ويصنع بها في الأرض ما يشاء .

فلا ينبغي لأحد يواجه الجاهلية بالإسلام ، وأن يظن أن الله تاركه لقوى الكفر ، كما أنه لا ينبغي له أن يقيس قوته الذاتية إلى قوى الكفر ، فيظن أن الله تاركه لهذه القوى حين يستنصر به فيدعوه : ] أني مغلوب فانتصر [  

إن القوى في حقيقتها ليست متكافئة ولا متقاربة ، وقوى الشرك والكفر تملك قواها ، ولكن الداعي إلى الله يستند إلى قوة الله ، والله يملك أن يسخر له بعض القوى الكونية - حينما يشاء وكيفما يشاء -  فيدمرها ، وقد تطول فترة الابتلاء لأمر يريده الله ، فنوح عليه السلام لبث في قومه ألف سنة إلاّ خمسين عاماً ، قبل أن يأتي الأجل الذي قدره الله ، ولم تكن حصيلة هذه الفترة الطويلة إلاّ اثني عشر مسلماً .. ولكن هذه الحفنة من البشر كانت في ميزان الله تساوي تسخير تلك القوى الهائلة والتدمير على البشرية الضالة جميعاً ، وتوريث الأرض لتلك الحفنة الطيبة لتعمرها من جديد .

إن عصر الخوارق لم يمض ! فالخوارق تتم في كل لحظة - وفق مشيئة الله - ولكن الله يستبدل بأنماط من الخوارق أنماطاً أخرى ، تلائم واقع كل فترة ومقتضياتها ، وإذا كانت أغلب العقول لا تدرك هذه الخوارق ، فإن الموصولين بالله يرون يد الله دائماً ، ويلامسون آثارها المبدعة ، وما عليهم إلاّ أن يؤدوا واجبهم كاملاً ، بكل ما في طاقتهم من جهد ، ثم يدَعوا الأمور لله في طمأنينة وثقة   وعندما يُغلبون ، عليهم أن يتوجهوا إلى الله بالدعاء كما توجه نوحٌ عليه السلام  : ]فدعا ربه أني مغلوب فانتصر [  ثم ينتظروا فرج الله القريب . وانتظار الفرج من الله عبادة   وعلى هذا الانتظار مأجورون .

 وجاء في القصص القرآني كيف نجى الله تعالى نبيه إبراهيم - عليه السلام - ورد كيد الكافرين ، بل وألحق بهم الخسارة في الدنيا والآخرة ، وكيف تحقق وعد الله لعباده المخلصين ووعيده لأعدائهم المكذبين : ] فأرادوا به كيداً فجعلناهم الأسفلين [ وأين يذهب كيد العباد إذا كان الله يريد ؟ وماذا يملك أولئك الضعفاء من الطغاة   إذا كانت رعاية الله تحوط عباده المخلصين ] وقالوا حرّقوه [ ولكن كلمة أخرى قد قيلت ، فأبطلت كل قول ، وأحبطت كل كيد   ذلك أنها الكلمة العليا التي لا ترد : ] قلنا : يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم [  فكانت برداً وسلاماً ، كيف ؟ : ] إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له :كن يكون [ . فلا نسأل .كيف لم تحرق النار إبراهيم ، والمشهود المعروف أن النار تحرق الأجسام الحية ؟ فالذي قال للنار : كوني حارقة . هو الذي قال لها : كوني برداً وسلاماً . وهي الكلمة الواحدة التي تنشئ مدلولها عند قولها كيفما كان هذا المدلول  مألوفاً للبشر أو غير مألوف ، وما علينا إلا أن نؤمن بأن هذا قد كان لأن صانعه يملك أن يكون ، أما كيف صنع بالنار فإذا هي برد وسلام ؟ وكيف صنع بإبراهيم فلا تحرقه النار ، فذلك ما سكت عنه النص القرآني لأنه لا سبيل إلى إدراكه بعقل البشر المحدود ، وليس لنا سوى النص القرآني من دليل ] يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم [ وإن هي إلا رمز للكلمة التي تبطل كل قول  وتحبط كل كيد ، لأنها الكلمة العليا التي لا ترد .

وقد ذكر الله تعالى -في مواضيع كثيرة من كتابه- قصة موسى عليه السلام ، فقص الله علينا قصته منذ ولادته  ونشأته ، ثم دعوته لقومه ولفرعون ، وما منّ الله به عليه   ومن آمن معه ، بالنجاة من فرعون وجنوده ، ثم ما لحق فرعون وجنوده من الغرق والهلاك ، وكذلك ما منّ به على بني إسرائيل - بعد ذلك - من التمكين في الأرض  والاستخلاف فيها ] إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم ، إنه كان من المفسدين ،ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلَهم أئمةً ونجعلَهُمُ الوارثين ، ونمكنَ لهم في الأرض ونُريَ فرعون وهامان وجنودَهُما منهم ما كانوا يَحْذَرون [ القصص  1-6. والطغاة تخدعهم قوتهم وسطوتهم ، فينسون إرادة الله وتقديره ، ويحسبون أنهم يختارون لأنفسهم ما يحبون   ويختارون لأعدائهم ما يشاءون .ويظنون أنهم على هذا وذاك قادرون .

وقد تعرض رسولنا صلى الله عليه وسلم لما تعرض له الأنبياء والرسل السابقين من الأذى والابتلاء ، وصبر على ذلك كله    ولما أرادت قريش أن تتخلص من الرسول صلى الله عليه وسلم وتقضي على دعوته ، عندها تدخلت يد القدرة الإلهية للانتصار لرسوله صلى الله عليه وسلم، حتى وصل إلى المدينة المنورة بسلام  تحت حفظ الله ورعايته ، وفي ذلك مثل للمؤمنين في كل زمان   وللدعاة إلى الله ، ليعلّمهم أن الله معهم ، يؤيدهم  وينصرهم ، وإن فقدوا كل أسباب العون والقوة ، وفي بيان هذا يقول الله تعالى : ] إلاّ تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ، ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول صاحبه ، لا تحزن إن الله معنا ، فأنزل الله سكينته عليه  وأيده بجنود لم تروها ، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى  وكلمة الله هي العليا ، والله عزيز حكيم [ التوبة (40)  

  ذلك حين ضاقت قريش بمحمد ذرعاً ، كما تضيق القوة الغاشمة دائماً بكلمة الحق ، لا تملك لها دفعاً ، ولا تطيق عليها صبراً ، فائتمرت به وقررت أن تتخلص منه  فأطلعه الله على ما ائتمرت ، وأوحى إليه بالخروج  فخرج وحيداً إلاّ من صاحبه الصديق ، لا جيش ولا عدة  وأعداؤه كثر ، وقوتهم إلى قوته ظاهرة .  

ذلك مثل على نصرة الله لرسوله ولكلمته ، والله قادر على أن يعيده على أيدي قوم آخرين ، غير الذين يتثاقلون ويتباطأون. وهو مثل من الواقع إن كانوا في حاجة بعد قول الله إلى دليل !  وهكذا تجلت قدرة الله في نصرته لأنبيائه ورسله ، مما قصه الله تعالى علينا في كتابه الكريم  والتي تلقي في النفس المؤمنة ، ظلال الطمأنينة والثقة والتثبيت ، في زمن اليأس والعجز والضعف ، وهذه هي حكمة ذكر قصص الأنبياء والرسل في كتاب  الله  كما ذكر الله تعالى لرسوله بقوله:] وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك ، وجاءك في هذه الحقُّ   وموعظةٌ ، وذكرى للمؤمنين [ هود 120 . كان هذا القصص يتنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلمفي مكة . والقلة المؤمنة معه محصورة بين شعابها ، والدعوة الإسلامية مجمدة فيها   والطريق شاق طويل ، لا يكاد المسلمون يرون له نهاية ! فكان هذا القصص يكشف لهم عن نهاية الطريق  ويأخذ بأيديهم وينقل خطاهم في هذا الطريق .

 إن القرآن لا يتفتح عن أسراره إلا للعصبة المسلمة التي تتحرك به ، لتحقيق مدلوله في عالم الواقع . لا لمن يقرأونه لمجرد التبرك ! ولا لمن يقرأونه لمجرد الدراسة الفنية أو العلمية ، ولا لمن يدرسونه لمجرد تتبع الأداء البياني فيه !

إن هؤلاء جميعاً لن يدركوا من هذا القرآن شيئاً يذكر . فإن هذا القرآن لم يتنـزل ليكون مادة دراسة على هذا النحو ، إنما تنـزل ليكون مادة حركة وتوجيه .

إن الذين يواجهون الجاهلية الطاغية بالإسلام الحنيف  والذين يجاهدون البشرية الضالة لردها إلى الإسلام من جديد ، والذين يكافحون الطاغوت في الأرض ليخرجوا الناس من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده ، إن هؤلاء وحدهم هم الذين يفقهون هذا القرآن ، لأنهم يعيشون في مثل هذا الجو الذي نزل فيه ، ويحاولون المحاولة التي كان يحاولها من تنـزل عليهم أول مرة  ويتذوقون في أثناء الحركة والجهاد ما تعنيه نصوص القرآن   لأنهم يجدون هذه المعاني ممثلة في أحداث ووقائع ، وهذا وحده جزاء على كل ما يصيبهم من آلام ، لا بل إنه لفضل من الله كبير ] قل فبفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون [ .  

 

 

 

الهجرة دروس وعبر

اعتبر المسلمون الهجرة بداية تاريخهم في هذه الحياة ، ولم يكن هذا التصرف إلا فقهاً منهم في دينهم ، وقد كانت الهجرة انتقال نفسي  وانتقال روحي وانتقال فكري  كانت ثورة على الظلم والفساد  وانطلاقاً من الحياة الضيقة المضطهدة ، إلى عالم أفضل تزدهر فيه كلمة الحق   وتعلو مشيئة الله .

عبرت الهجرة عن بطولة الإيمان ، التي اكتملت في نفس النبي صلى الله عليه وسلم والذين معه الذين ضحوا بالأهل والمال والولد والأسرة في سبيل العقيدة ، فحققوا قوانين النصر في أنفسهم وفي تنظيمهم ، فأمدهم الله بالقوة ، وأنزل عليهم السكينة ، وأيدهم بجنود لم يروها ، هؤلاء المؤمنون هم الذين أعطوا الهجرة بأعمالهم الخالدة روح الخلود ، فعلّموا الأجيال كيف ترجح المبادئ بكل ما توزن به من مآرب أو متاعب ، وكيف تتخطى كل ما يعوقها من صعاب  ولو أدرك المسلمون من التأريخ الهجري هذا المعنى السامي ما اضطربت أحوالهم ، فلا هم الذين حرصوا على الحياة لدينهم ، ولا هم الذين ماتوا دون أن ينال أعداؤهم منهم 

تعلمنا من الهجرة أن الباطل مهما حشد من قوة ، ومَلَك من سلاح فهو مندحر في النهاية ، لأن الله يأبى أن ينصر الباطل ، ويذل أولياءَه الذين تسلحوا بسلاح الإيمان  وهذا يمنحنا درساً ينبغي أن نستوعبه في نضالنا المعاصر  وهو أن نصبر ونعرف أن النصر مقترنٌ بالصبر ، وألا نرهب الباطل أو نيأس من النصر ، لأن حقنا واضح  وسلاح الإيمان أقوى سلاح ، بهذا نكون قد عرفنا طريقنا   ومن عرف طريقه وصل إلى هدفه من أجل هذا يجب علينا ألا نساوم أو نفرط أو نستسلم لأعدائنا ، وأن نلتزم المنهج الذي التزمه رسول الله صلى الله عليه وسلم لننتصر ، كما انتصر بإيمانه وصموده ، وأن نعلم علم اليقين ، أن حقنا المقدس لا ينال إلا بالجهاد. 

لقد كانت هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، هجرة قلوب وأرواح ، قبل أن تكون هجرة جسومٍ وأشباح ، وبذلك صارت درساً معلماً ورائدا ً لأرباب الشجاعة والصدق  والوفاء والحق ، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها  

في هذه الذكرى ينبغي أن نوثق الربط بين الهجرة والعقيدة   الهجرة التي لولاها لما كان للإسلام وجود عالمي  ينسف بالحق المنتصر إرادة الجبابرة الظالمين ، ويضع حداً لمأساة القهر والظلم والتخلف ، التي تردت فيها البشرية ، ويهيئ للمستضعفين في أرض الله ، حياة كريمة تنقلهم من عبادة العبادة العباد إلى عبادة الله .

إن من الدروس المستفادة من ذكرى الهجرة ، أن الحق لا بد أن ينتصر مهما طال عليه الأمد ، ومهما قل مساندوه   وأن الباطل لا بد مندحر  مهما تبجح وعلا في القوة وكثر مشايعوه ، وأن النصر مع الصبر ، فما تعجل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا كف عن الدعوة إلى ربه ، ولا تسرب اليأس إلى فلبه ، في وقت قل فيه المعين وعز النصير .

كما نتعلم من ذكرى الهجرة أن الإعداد المادي والروحي عنصر أساسي لتحقيق النصر ، فقد رتب رسول الله صلى الله عليه وسلم رحلة الهجرة ، ورسم سبيلها  وخطط بالمعرفة الذكية والعقل المستنير وسائلها وغاياتها ، ووضع الخبرات البشرية في وضعها المناسب ، وجعل الخطة سرّية ، كما اعتمد على عنصر المفاجأة ، فلم يترك ثغرة للعدو ينفذ من خلالها ، حتى إذا أتم الإعداد   اتجه إلى ربه يطلب الإمداد ، فالتقى الإمداد بالإعداد ، على أمر قد قُدر  فجاء نصر الله والفتح ، إنه درس من دروس الهجرة ، يُساق إلى المتواكلين الذين ينتظرون من الله ، أن يُقدِّم لهم كل شيء   وهم لم يقدموا شيئا . 

لقد كانت الهجرة تعبيراً صادقاً ، عن طبيعة الإيمان في النفوس ، وعندما ترتقي النفوس وتسمو بالطهر والإيمان  تتحقق لها الهجرة المعنوية التي تهيب بالمسلمين أن يعيشوا حياةً إسلامية ، تتحقق فيها فضائل الإسلام وآدابه  وتطبق فيها شريعة الله .

وعندما ترتفع النفس المؤمنة فوق الشهوات والآثام  وتتحول بالإيمان إلى طاقة بناءة ، فإنها بذلك تحقق معنى الهجرة النفسية . هجرة الانتقال الصاعد من السيئ إلى الحسن ، ومن الشر إلى الخير ، ومن الفساد إلى الصلاح  ومن الرجس إلى الطهر ، ومن حياة الظلام والخطيئة ، إلى حياة النور والإيمان ، بحيث تظل هذه النفس المؤمنة    ثائرة على الهبوط والإسفاف ، جانحة إلى رفض الواقع المهين  

إن لكل عضو من أعضاء المؤمن هجرة ، فاليد مثلاً تهاجر من البطش والإيذاء إلى المعاونة والمصافحة ، واللسان يتحول من الثرثرة الفارغة  وتمزيق الأعراض ، إلى القول السديد ، والحديث المفيد ، والعين تنتقل في رحلة معنوية من الترصد لمناظر الفتنة والسوء ، إلى رؤية الحق والخير والجمال ، والتطلع في أسرار الكون والحياة ، لتصل إلى المعرفة الحقة ، والقلب يهجر الحقد والحسد والأثرة ، إلى حسنات الحب والخير والمودة والإيثار ، والعقل يدَع التفكير السيئ ، إلى بناء عالم مؤمن كريم .

وإلى هذه الهجرة التي تعبر بحق عن روح الإيمان وتدعم وجوده ، وتحيله إلى سلوك طاهر ، وحياة نظيفة يشير النبي صلى الله عليه وسلم بقوله ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده   والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه ) هجرةٌ من الذنوب والسيئات والشهوات والشبهات ومجالس المنكرات .

إن الوفاء لذكرى الهجرة ، يقتضينا أن نعمل على إيقاف الانهيار في أنفسنا لنتحول إلى مسلمين حقيقيين ، فنكون أداة للتغيير كما أراد لنا رب العزة ] كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر [  

ولن يتغير وضعنا ولن يحدث التغير في حياتنا ، ولن نأخذ مكاننا في قيادة امتنا ، وقيادة العالم ، إلا يوم نصعد بأنفسنا ونهاجر بقلوبنا وضمائرنا ، إلى مستوى حملة الرسالة الأوائل ، إيماناً وصدقاً وعلماً ووعيا وجهاداً وبذلاً   إن هذه الذكرى تدعونا لأن نجسد الإيمان في حياتنا ، فما يجوز أن يصبح القرآن نظرية تدّرس ، بل يجب أن يتحول إلى مبادئ تُغرس  فالنفوس الطيبة تنقل المعاني القرآنية من قلب المصحف إلى قلب الحياة  ليصبح القرآن بها حياةً تمارس ، وواقعاً يعيشه الأفراد والجماعات .        

ويا ليت المسلمين في هذه الذكرى يعرفون قيمة التضحية في سبيل الحق ، أو ليتهم يعرفون معنى الجهاد في سبيل الواجب ، إذاً لكان للإسلام شأن غير هذا الشأن   وحال غير هذا الحال ، بل ليت المسلمين يهجرون أهوائهم وشهواتهم ، ولذائذهم ورغباتهم ، كما هجر السابقون أموالهم وأوطانهم لله ، مؤمنون بأن جنسيةَ المسلمِ ووطنِه هي عقيدتُه ، وأن المسلمُ تبعًا لهذا المبدأ ، لا يَهِنُ ولا يستكين ولا يقبل الذلَّ ، ولا يقبلُ  الضعفَ    ] وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [ .

 

 

النجاة من النار

قال تعالى :] يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذابٍ أليم ، تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله .. [  

هذه وصية وإرشاد من الله تعالى لعباده المؤمنين   لأعظم تجارة ، وأجل مطلوب ، وأعلى مرغوب  يحصل بها النجاة من العذاب الأليم ، والفوز بالنعيم المقيم وقد أرشدنا رسولنا صلى الله عليه وسلم إلى الطريقة التي نتقي بها النار حيث قال صلى الله عليه وسلم (من أستطاع منكم أن يتقي النار فليتصدق ولو بشق تمرة ، فمن لم يجد فبكلمة طيبة)رواه أحمد ومسلم ، فالإنفاق في سبيل الله والصدقة على الفقراء والمساكين والأرامل تعتبر من أفعال الخير العظيمة ، التي تقي مصارع السوء وتقي من النار ، وقد أمر الله المسلمين بالتصدق والإنفاق  فقال تعالى : ( يا أيها الذين أمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلةٌ ولا شفاعةٌ والكافرون هم الظالمون) البقرة 254 .

وهذا من لطف الله بعباده ، حيث أمرهم بتقديم شيء مما رزقهم ، ليكون لهم ذخراً وأجراً ، في يوم يحتاج فيه العاملون إلى مثقال ذرة من الخير ، وحتى من لم يجدوا ، فقد أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتصدق ، فقال r  : ( على كل مسلم صدقة ، فقالوا يا نبي الله ! فمن لم يجد ، قال يعين ذا الحاجة الملهوف ، قالوا فإن لم يجد ، قال : فليعمل بالمعروف وليمسك عن الشر ، فإنها له صدقة ) البخاري ، وأكد لنا صلى الله عليه وسلم أن الصدقة في الدنيا تطفئ غضب الرب ، وتقي من ميتة السوء - أي أنها تقي المسلم من الخاتمة السيئة - فقال صلى الله عليه وسلم : ( إن الصدقة تطفئ غضب الرب ، وتدفع ميتة السوء )رواه الترمذي وحسنه . ومع ذلك فإن هذه الصدقة لا تنقص من مال المتصدق شيء ، مهما كان مقدارها فقد روى الترمذي عن أبى كبشة الأنماري أن رسول صلى الله عليه وسلم قال : ( ثلاثة أقسم عليهن وأحدثكم حديثاً فاحفظوه : ما نقص مال من صدقة, ولا ظُلم عبد مظلمة فصبر عليها إلا زاده الله بها عزا, ولا فتح عبد باب مسألة ، إلا فتح الله عليه باب فقر ) , وقال صلى الله عليه وسلم :  ( ما من يوم يصبح العباد فيه ، إلا وملكان ينـزلان فيقول أحدهما : اللهم أعط منفقاً خلفاً  ويقول الآخر : اللهم أعط كل ممسك تلفاً ) رواه مسلم

وهناك أعمالٌ تنجي من النار ، جعلها الله أسباباً للمغفرة والعفو والرضوان ، منها : الصبر على موت ثلاثة من الولد ، قالr  : ) من دفن ثلاثة من الولد حرّم الله عليه النار ) الطبراني وصححه الألباني . ومنها : من عال ثلاث بنات أو أخوات ، وأحسن إليهن لما روت عائشة أن رسول r قال : ( ليس أحد من أمتي يعول ثلاث بنات أو ثلاث أخوات ، فيحسن إليهن إلا كن له ستراً من النار ) رواه البيهقي وصححه الألباني . ومنها : من دافع عن أخيه المؤمن وهو غائب قال صلى الله عليه وسلم : ( من ذبّ عن عرض أخيه بالغيبة ، كان حقاً على الله أن يعتقه من النار ) رواه أحمد وصححه الألباني .

ومنها : من صلى أربعين يوماً في جماعة يدرك التكبيرة الأولى فقد روى أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من صلى لله أربعين يوماً في جماعة ، يدرك التكبيرة الأولى كتب له براءتان : براءة من النار وبراءة من النفاق ) رواه الترمذي وحسنه الألباني . ومنها : من حافظ على صلاة الفجر والعصر قال صلى الله عليه وسلم : ( لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس ، وقبل غروبها ) رواه مسلم  . ومنها : فعل المعروف قـال صلى الله عليه وسلم :

( لكل معروف صدقة ) فالجزاء الذي وعد الله به صانع المعروف ، وفاعل الخير مع الخلق ، هو أمر يرخص عنده كل غالٍ ، روى أبو هريرة أن رسول الله r قال : ( من يسر على معسر ،  يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ) رواه ابن ماجه . ومما يغفر الذنوب وينجي من عذاب الآخرة ، ما روى حذيفة أن رسول الله r قال : ( تلقت الملائكة روح رجل ممن كان قبلكم ، فقالوا: أعملت من الخير شيئاً ؟ قال : لا ، قالوا: تذكر ، قال : كنت أداين الناس   فآمر فتياني أن ينظروا المعسر ، ويتجوزوا عن الموسر ، قال : قال الله : عز وجل تجوزوا عنه ) رواه البخاري وفي رواية عند مسلم ( فقال الله أنا أحق بذا منك   تجاوزوا عن عبدي ) .

فاصنعوا المعروف ، تنالوا مغفرة الله تعالى ، وتدخلوا جنته ، وأحسنوا إلى عباد الله , وأدوا إليهم حقوقهم الواجبة والمستحبة ، حتى يحسن الله إليكم , وييسر لكم أموركم , ويفرج عنكم كربكم في الدنيا والآخرة ، قال زيد بن علي بن حسين : " ما شيء أفضل من المعروف إلا ثوابه وليس كل من يرغب فيه يقدر عليه ، ولا كل من قدر عليه يؤذن له فيه فإذا اجتمعت الرغبة والقدرة والإذن ، تمت السعادة للطالب والمطلوب منه " وكان يقال : اصنع المعروف إلى كل أحد ، فإن كان من أهله فقد وضعته في موضعه ، وإن لم يكن من أهله ، كنت أنت من أهله . وقال الشاعر :

ولم أر كالمعروف أما مذاقه  فحلو وأما وجهه فجميل

 وقيل : من زرع معروفا حصد خيرا ، ومن زرع شرا حصد ندامة ، وقال ابن المبارك :

يد المعروف غنم حيث كانت   تحملها شكور أو كفورففي شكر الشكور لها جزاء    وعند الله ما كفر الكفور

وقد قيل : ليس للأحرار ثمن إلا الإكرام ، فأكرم حرا تملكه ، وقال المتنبي :

إذا أنت أكرمت الكريم ملكته  وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا

وقيل : دواء من لا يصلحه الإكرام الهوان    وأنشدوا:من لم يؤدبه الجميل    ففي عقوبته صلاحه

ولذلك قالوا : فعل الخير مع الأشرار تقوية لهم على الأخيار ،  ولا ينبغي أن يحرم الخير أهله ، ولا ينبغي أن يحرم الخير حقه ، فإن وضع الخير في غير محله فهو ظلم للخير كما قيل : لا تمنعوا الحكمة أهلها فتظلموهم ، ولا تضعوها في غير أهلها فتظلموها   وقال علي رضي الله عنه : " كن من خمسة على حذر ، من لئيم إذا أكرمته ، وكريم إذا أهنته   وعاقل إذا أحرجته ، وأحمق وفاجر إذا مازجته "  

إن في الاستقامة على أمر الله بمراد الله لوجه الله  نجاة من النار ، لأن الاستقامة جزء لا يتجزأ من أركان الإيمان ، لما تبنيه في نفس العبد من ثبات لأركان الإسلام ، فهي طريق المؤمنين ونهج الصالحين بها يسدد العبد ويقارب ، فيكسب الحسنات   ويفعل الطاعات ، بها تقال العثرات وتمحى الزلات  

ويوسع للعبد المؤمن في رزقه ، ويغدق الله عليه الخيرات ، قال تعالى : ] وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً [ 16 الجن .

 

بها يقبل الله العمل ، و يمحو الزلل قال الله تعالى : ]  إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنـزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم بها توعدون [ .

إنّ الاستقامة والثبات عليها أمر لا مناص منه للمؤمن  خصوصاً في زمن التقلبات والأهواء والفتن ، وفي زمن المساومة على دين الله تعالى ، إنها أفضل سلاح يستطيع المؤمن من خلاله أن يتخطى هذه العقبات   التي تقف في طريقه ، وتعترض سبيله ، وحينئذٍ لا يضره من خالفه ، ولا من خذله ، حتى يأتي أمر الله  إن الاستقامة كلمة جامعة ، معناها الثبات على شريعة الله ، كما أمر الله ظاهراً وباطناً ، وهي تتعلق بالأقوال والأفعال ، والأحوال والنيات   فالمستقيم على دين الله ، يكون ثابتاً على الحق لا يزيد ولا ينقص ، ولا يبدل ولا يغير ، بل يكون معتدلاً مقتصداً ، لا يشدد ولا يتساهل ، وعن سفيان بن عبد الله رضي الله عنه قال : قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسال عنه أحداً غيرك ، قال : ( قل آمنت بالله ثم استقم ) رواه مسلم . 

هذا الحديث يبين المنهج الصحيح الذي فيه نجاه العبد ويتلخص في صحة الإيمان ، وسلامة المعتقد   والالتزام بشرع الله ، وموافقته ظاهراً وباطناً .

فلا يكون الإنسان مستقيماً على دين الله بمجرد قوله أمنت بالله لقوله تعالى : ] ومن الناس من يقول آمنا فإذا أُوذي في الله جعلَ فتنَةَ الناسِ كعذابِ الله [ العنكبوت 10 . فإذا أوذي بضرب أو أخذ مال ليرتد عن دينه ، جعل ذلك صاداً له عن الإيمان والثبات على دين الله ، فينحرف عند أدنى محنه ، ويضل عند أدنى شبهه  ويستسلم عند أول شهوه ، أولئك الذين يقولون ما لا يفعلون , دينهم ما تهواه أنفسهم , وما يوافق رغباتهم  متجاهلين أن الدين ليس بالأقوال والأماني ، بل هو إيمان   وتصديق واستسلام ، وقول وعمل ، بذلك يحصل للعبد ما وعده الله به ، من خصال الكرامة قال تعالى : ] إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا [ فصلت30 .

  

 

 

الكيد للإسلام وأهله

قال تعالى : ] يُرِيدُون َلِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْكَرِهَ الْكَافِرُونَ [ الصف 8 .

قديماً وقف بنو إسرائيل في وجه الدين الإسلامي وقفة العداء والكيد والتضليل , وحاربوه بشتى الوسائل  حربا ، لم تضع أوزارها حتى اليوم .

حاربوه بالاتهام ، والدس والوقيعة ، والتآمر مع المنافقين تارة ومع المشركين تارة ، وحاربوه بالإشاعات الباطلة والأكاذيب ، واستطاعوا أن يقضوا على دولة الخلافة ، آخر مظهر من مظاهر الحكم الإسلامي ، وإذا كان للباطل جولة ، فإن للحق جولات ، فقد جاء في كتاب الله من البشائر ما يشير إلى ضعف كيد الكافرين وضلال سعيهم  الذين يكيدون للإسلام وأهله ، ويبذلون جهوداً كبيرة لحرب المسلمين في عقيدتهم وإفساد دينهم ، في حين أن المسلمين غافلون عما يكاد لهم ، ويراد بدينهم  قال تعالى: ] إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون [ فكم من المليارات أنفقت ولا زالت تنفق للصد عن سبيل الله ، وتنحية دين الله ، وتنصير عباد الله ، وكم من المليارات أنفقت للحركات التبشيرية ، وكم أنفقوا لتدمير كيان الأسرة المسلمة  وإشاعة الرذيلة ، عن طريق القنوات الفضائية ، وعن طريق الأفلام والمسلسلات الفاجرة ، والصور الخليعة الماجنة ، والقصص الهابطة ، وعن طريق شبكات الإنترنت ، فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون ، والمتأمل في قول الله تعالى: ] إنهم يكيدون كيداً وأكيد كيداً فأمهل الكافرين أمهلهم رويدا [ وقوله عز وجل :]  ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين [ يرى أنه مهما كادوا لدين الله ، ومهما بذلوا لمحاربته ، فالله لهم بالمرصاد ، ففي كل مرّة يكيدون للإسلام ، يعود الإسلام أقوى مما كان في نفوس أتباعه ومحبيه ، لأنه الدين الوحيد الذي يملك أسباب البقاء والقوه ، على الرغم من كل حملات   الكيد والتنكيل ، لأنه الدين الذي لا يمكن أن تطفئه الأفواه , وإن خيل للطغاة الجبارين ، المصنوعين على أعين الصليبيين واليهود ، أنهم بالغو هذا الهدف البعيد ! لقد جرى قدر الله أن يظهر هذا الدين , فكان من الحتم أن يكون : ] هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [ وشهادة الله لهذا الدين بأنه دين الهدى ودين الحق ، هي الشهادة ، وهي كلمة الفصل التي ليس بعدها زيادة .

ولقد تمت إرادة الله ، فظهر هذا الدين على الدين كله ، ظهر في ذاته كدين , فما يثبت له دين آخر في حقيقته وفي طبيعته ، فقد ظهر هذا الدين قوة وحقيقة ونظام حكم ، على الدين كله ، وما تزال لهذا الدين أدوار في تاريخ البشرية يؤديها , ظاهرا بإذن الله ، على الدين كله تحقيقا لوعد الله ، إن التدخل المباشر في شئون المسلمين ، وزرع الفتنة بين قادتهم ، أدى إلى تفرقهم ، لأنهم يعرفون جيداً أن القادةَ الذين رفعوا راية الجهاد ، ودانتْ لهم الممالك  التي لم تخضع لهم ، لكثرةِ عددهم أو قوةِ عُدَّتهم   وإنما خضعت لعظمة دينِهم ، وقوةِ إيمانهم وشدةِ تماسكهم واتحادهم ، حتى إنَّ رابطةَ الإيمانِ عندهم ، كانت أقوى من رابطةِ النَّسَب ، بل إنهم كانوا إذا اختلفوا على أمر من الأمور ، لا يتركون فرصةً لعدوٍهم ، ليضربَ مسلماً بمسلم أو أخاً بأخيه فهذا معاويةُ بن أبي سفيان ، يضربُ لنا أروعَ الأمثالِ في ذكاءِ المؤمنِ ويقظتِهِ ووعيِهِ ، وعدم استجابتهِ لإغراءاتِ أعداءِ الإسلام ، وذلك حين أرادَ هرقلُ أن ينتهزَ فرصةَ الخلافِ الذي كان بينه وبين عليِّ بن أبي طالبٍ ، حيثُ أرسلَ إليه هرقلُ يقول: يامعاويةُ : لقد علمتُ ما كان بينَك وبينَ صاحبِك، فإن شئتَ أرسلتُ إليك بجيش قوي ، يأتي لك بعليٍّ مُكبَّلاً بالأغلال بين يديك!.
وما كان لمعاويةَ أنْ يُخْدَعَ ، ولا أن يستعين بكافرٍ على مسلمٍ، فلم يقبلْ هذا العَرْضَ ، بل لقَّنَ هرقلَ درساً لا يُنْسى حيث بيَّن له أن أمةَ الإسلام ، لا يَفُتُّ في عَضُدِها خلافٌ بين أخوين، فالكُل يدٌ واحدةٌ على من سواهم حتى وإن اختلفوا فيما بينهم، فماذا قال معاوية ؟ إنه أرسل رداً إلى هرقلَ أفقدَهُ صوابَه   أرسل إليه يقول: من معاويةَ بنِ أبي سفيان إلى هرقلَ أما بعد : فأنَا وعليٌّ أخوانِ ، كُلٌّ منَّا يرى أن الحق له، ومهما يكن من أمرٍ ، فما أنت بأقربَ إليَّ من عليٍّ، فاكففْ يا هرقلُ عنَّا ، خُبْثَكَ وشَرَّكَ ، وإلا أتيتُ إليك بجيشٍ جَرَّارٍ، عليٌّ قائدُه ، وأنا تحتَ إمْرَةِ عليٍّ ، حتى أُمَلِّكَهُ الأرضَ التي تحتَ قدميكَ!.  

هكذا كانوا في إيمانِهم وذكائهِم وترابطهِم ، حتى استحقوا أن يصفهم الله تعالى بقوله ] مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [ فلماذا لا  نتَشَبَّهُ بهم إنْ لم نكن مثلَهم ، إنَّ التَشَبُّهَ بالرِّجالِ فَلاحُ .

أما آن لنا أن نُفِيقَ بعد هذه المصائب التي نزلتْ بأمتنا ونتنبَّه إلى ما قاله أحدُ أعداءِ الإسلامِ ، يحذر قومه من قوة هذا الدين ، رغم تضَافُرِهم عليه حيث قال: أنا لا أجهل أنَّ أمة الإسلام اتخذت القرآنَ مهجوراً  وأنها فُتِنَتْ بالمال كغيرها من الأُمم ، ولكني أخاف أنَّ قوارعَ العصر ستوقظُ هذه الأمةَ وتردُّها إلى شريعة محمد، إني أحذركم وأنذركم من دين محمد حامي الذِّمَار وحارسِ الذِّمَمِ والأعراض، دينِ الكرامةِ والشرفِ، دينِ الأمانةِ والعفافِ، دينِ المروءةِ والبطولةِ، لا يفرق بين مالك ومملوك، ولا يُؤْثِر سلطاناً على صعلوك، يُزَكِّي المالَ من كُل دَنَسٍ فابذلوا جُهدَكم أن يَظلَّ هذا الدينُ مُتوارياً عن أعْينِ الناس!. أرأيتم كيف يعرف أعداءُ الإسلامِ مواطنَ القوةِ في ديننا ؟ وكيف يخططون لإضعافِ هذه القُوَى ، ونحن المسلمين عن كل ذلك غافلون ؟.

 إن الحكومات والمنظمات التنصيرية في الغرب ترصد ميزانيات مالية ضخمة لوقف المد الإسلامي  ومواجهة تيار الأسلمة ، الذي استطاع اختراق الخارطة الأوروبية بقوته الذاتية ، ومعجزته القرآنية     فترى محاولات تشويه الإسلام ، تنطلق في أماكن متعددة ، وترى الصحف الغربية تطلق التحذيرات من الانتشار الواسع لدين الإسلام ، بين النصارى فقد جاء في مقال نشر في مجلة (التايم) الأميركية « ستشرق شمس الإسلام من جديد، ولكنها هذه المرة تعكس كل حقائق الجغرافيا، فهي لا تشرق من المشرق كالعادة، وإنما ستشرق في هذه المرة من الغرب». أما جريدة (الصاندي تلغراف) البريطانية فقالت: «إن إنتشار الإسلام مع نهاية هذا القرن ومطلع القرن الجديد ليس له من سبب مباشر إلا أن سكان العالم من غير المسلمين ، بدؤوا يتطلعون إلى الإسلام، وبدؤوا يقرؤون عن الإسلام فعرفوا من خلال اطلاعهم ، أن الإسلام هو الدين الوحيد القادر على حل كل مشاكل البشرية» وقالت مجلة (لودينا) الفرنسية بعد دراسة قام بها متخصصون «إن مستقبل نظام العالم ، سيكون دينياً، وسيعود النظام الإسلامي على الرغم من ضعفه الحالي، لأنه الدين الوحيد الذي يمتلك قوة شمولية هائلة». وإضافة إلى ذلك يقوم الغرب بتنظيم تنظيم ندوات ومحاضرات ومهرجانات ثقافية ، في العواصم الغربية ، للحديث عن الإسلام والمسلمين ، والجهاد والمجاهدين، ومن أجل تشويه المفاهيم الإسلامية لدى المفكرين والمثقفين في أوروبا وأميركا على وجه الخصوص ، مما يوجب علينا أن نعمل لمواجهة الحملة الغربية المنكرة على الإسلام، كما يجب علينا أن نعمل للوصول إلى النفوس العطشى من الشعوب الغربية التي اكتوت بنيران الرأسمالية ، وذاقت خواءها الروحي ، وفراغها  الفكري ، لقد أراد الله لنا أن نكون رؤوساً بالإسلام ، قادة برسالته ، فإذا عاودهم الحنين إلى جاهليتهم ، وآثروا الانتماء إلى قوميتهم   فإننا ننذرهم بقوله تعالى : ] إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا [

 

 

 

 

 

 

الساكت عن الحق

قد يهرب أحدنا من ثقل المسؤولية ليتستر خلف مفاهيم واهية مغلوطة ، وضعت في غير موضعها. فيقول ما قاله سيدنا أبو بكر الصديق " من تمام كمال المرء وإيمانه تركه ما لا يعنيه" وآخر يقول : الله يقول : ] ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة [ فآثر الناس جهلاً بمفهوم الآية ، ترك الجهر بكلمة الحق  لأن الآية نزلت في الدعوة إلى الإنفاق في سبيل الله والجهاد ، وأن التارك لذلك يعرض نفسه لهلاك الدنيا والآخرة ، ولا يفهم من الآية النهي عن الجهر بكلمة الحق ، بل جاء في الحديث ما يدل على الجهر بكلمة الحق ، ولو أدى ذلك إلى الاستشهاد  عن ابن عباس قال : قال رسول الله : ( سيد الشهداء حمزة بن عبد المطَّلب، ورجل قام إلى إمام جائر  فأمره ونهاه فقتله ) . وإنما كان هذا النوع من الأمر والنهي أفضل الجهاد وأعظمه؛ لأنه كما قال السِّندي : "جهاد قلَّ من ينجو فيه، وقلَّ من يصوِّب صاحبه بل الكل يخطِّئونه أولاً، ثم يؤدي إلى الموت بأشد طريق عندهم؛ بلا قتال؛ بل صبرًا " وليس غريبًا على الباذلين أنفسهم لله ، أن يقولوا كلمة الحق غير هيَّابين ، وأن يقفوا عند كلمتهم، وأن يموتوا في سبيلها ، لأنه  لا يجوز للمسلم أن يدور مع  الأهواء حيث دارت ، أو يضع في حساباته ضرورة استجابة الناس أو كسب مدحهم ورضاهم أو الخوف من غضبهم  وأن يقول الحق إرضاء لله تعالى وحده ، وإيماناً منه بأنه واجب لابد أن يقوم به ، ولا يخاف في ذلك لومة لائم ، لأن كلمة الحق قد توقظ الغافلين من غفلتهم ، وتشحذ همم المخلصين للقيام بواجباتهم تجاه دينهم ، والأمة بحاجة إلى من يقول في الله كلمة الحق كاملة ، ويذكّرها بدورها الريادي لقيادة البشرية ، في وقت ظن الأعداء أنهم قد نجحوا في تخدير هذه الأمة ، وإسكات صوت الحق فيها  كما أنها بحاجة إلى العمل بقوله تعالى : ] الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللهَ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيباً [ . فالحرب الدائرة بين أهل الحق وأهل الباطل ، تعتبر من أشرس الحروب التي عرفتها البشرية على الإطلاق، ولم تجتمع كلمة الذين كفروا وأشركوا وارتدوا على ضرب الإسلام والمسلمين كما اجتمعت هذه الأيام، لذا نرى أن أتباع الحق   محاربون ومطاردون ومحاصرون ، من كل جانب  ورغم ذلك ، فإنهم يضحون بما هو أرخص لنيل الأغلى، وكل شيء دون الجنة ، فهو رخيص حتى وإن كان ذلك بالنفس والنفيس ، وإن هذه العقيدة هي بمثابة قوة دفع ، تحرك المؤمن تجاه أهدافه ، بحيث لا يستطيع الأعداء ، أن يوقفوه أو يحرْفوه مساره لأنهم عاجزون عن تقديم بديل لهذه الجنة ، سواء في الدنيا أو في الآخرة، ولهذا يبقى المؤمن الصادق قوياً لا يمكن ترويضه ، وغصة في حلق الكافرين لا يمكن التخلص منها، وهذا ما ينبغي التركيز عليه في تربية الأجيال الصاعدة، وربط النفوس بها ، من عدم  السكوت عن قول الحق والرضا بالظلم ، حتى لا تكون الأجيال ، ممن وصفهم الرسول صلى الله عليه وسلم بقولـه : ( الساكت عن الحق شيطان أخرس ) قال صلى الله عليه وسلم الساكت عن الحق ولم يقل ، الرافض لقول الحق  لأن الرافض لقول الحق ، هو من طُلب منه أن يقول الحق ، لمعرفة الطالب بأنه على علم بالحقيقة وشاهد عليها ، ويقرر صلى الله عليه وسلم عدم استحقاق الساكت عن الحق لإنسانيته وآدميته ، فينعته بشيطان أخرس ، وما هو إلا امتداداً لقوله تعالى ] ومن يكتمها فإنه آثم قلبه [ وكاتم الشهادة ، كالساكت عن الحق ، لا يختلف وصفه ورسمه ، وكلاهما في الميزان الرباني ، قد أثم وحمل وزراً  ، ولم يؤد الأمانة التي استودعها الله في آدميته وإنسانيته ، وليس للظالم المستكبر رادعاً لظلمه في مهده ، إلا أن يصرخ الإنسان بقول الحق ، دون اعتبار للنتيجة والمآل ، طالما كان السكوت عن قول الحق ، يمس إنساناً آخر بظلم ، أو يؤدي إلى إفساد عام ، فالظالم سواء كان حاكماً أو سيداً في قومه أو ذا مال ونفوذ أو صاحب مسؤولية ، لا يمكنه بأي حال من الأحوال ، أن يستهين بنظرة الناس إليه  ورأيهم فيه ، وموقفهم تجاهه ، لذا فإنه يكون من  أكثر الناس قلقاً ، وأشدهم انتباهاً لحالهم وتصرفاتهم ، فيتمادون في جبروتهم وطغيانهم خوفاً من أن تسوِّل نفس أحد من أتباعهم أن يقول الحق  أو أن يفشيه بين الناس ، فينفلت زمام الأمر من يده

إن قول الحق محور بقاء الأمة ، ومحور صلاح المجتمع وعموده ، وإن الأخذ على يد الظالم لا يبدأ إلا بقول الحق ، وشهادة الحق ، ورفض السكوت عن الحق  ورفض قبول الظلم والضيم مهما كلف الأمر.

فإن عجزت الأمة أن تقول للظالم (يا ظالم) فقد تودِّع منها ، بحيث لا يرتجى منها خيراً ، ففي حديث أبي بكر الذي في السنن قال رضي الله عنه: أيها الناس إنكم تقرءون قول الله تعالى: ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [ وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم  يقول : إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه ، أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده ) إذا رأوا المنكر وهم قادرون على أن يغيروه فتركوا تغييره ، وهذا يكون سببا لعموم العقوبة ، أن يعمهم الله بعقاب من عنده  سيما إذا كانت المعاصي ظاهرة مشاهدة، فإن العقوبة عليها عامة ، وقد يقول القائل إن مقتضيات المصلحة أن لا يواجه الظالم بحقيقته وحقيقة ظلمه ، ولكن التاريخ والقصص القرآني ، فيه ما يدل على أن السكوت على الظالم وعدم مواجهته بحقيقة أمره  يجعله يتمادى في ظلمه وطغيانه ويزيد من تعسفه وجبروته ، لقد استخف فرعون قومه فأطاعوه  فراح يؤسس لعلاقة ثنائية بينه وبين قومه ، بنيت على الكذب المتبادل ، في حين يعلم كلا الطرفين موقعه من معادلة الكذب ، خافوه على مصالحهم الشخصية  فصدّقوه ولم يَصدُقوه ، وعَرفَ فرعون فيهم هذه الرذيلة فاستغلها ، فكانوا أهون عليه من أن يلقى لهم بالاً أو يأخذ رأيهم في الاعتبار ، فتركوه يورد نفسه موارد الهلاك ، فإذا بهم يكونون معه من الغارقين .

إن قول الحق هو الدواء الشافي لوأد الظلم والطغيان في مهده ، وهو المانع لمتبعي الأهواء من اتباع أهوائهم ، أما كيفية الجهر بقول الحق ، فهذا يتبع مقتضيات المقام والمقال ، وفداحة الظلم وعموم آثاره ومقتضيات رفعه ، لأن السكوت عن الحق يوقع الناس في الفتنة ، وقد ورد في كتاب الله ما يدل على وجوب الجهر بقول الحق وتبيانه فقال تعالى : ] وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ [ ولابد من تنفيذ أمر الله في ذلك، وما أمر الله بذلك إلا لأهميته ، وجاء في القرآن ما يدل على العاقبة المترتبة على كتمان قول الحق فقال الله تعالى : ] إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ) يلعنهم الله لأنهم ما قاموا بأمره وشرعه ] وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [ يلعنهم اللاعنون لأنهم غشوهم وكتموا عنهم البينات والهدى ] إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [ .

لأن الجهر بالحق ، هو طريق التمكين في الأرض وتطبيق شرع الله تعالى فيها ، وهو شرف عظيم لا يعطى إلاّ لمن يستحقه ، ولا يحصل إلا بعد التمحيص والتنقية ، لذلك كان الابتلاء معْبَراً للتمكين في الأرض ، وتطبيق حكم الله فيها .  سأل رجل الشافعي فقال : يا أبا عبد الله ! أيما أفضل للرجل أن يمكّن أو يبتلى ؟ فقال : لا يمكّن حتى يبتلى " .

 

 

وسائل دفع الغربة

 

 

 

 

 

الشهادة في محاربة الظلم

علينا تمني الموت في ساحات الجهاد ، حتى ننجوا من الميتتة الجاهلية ، التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : ( من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات ميتتة جاهلية ) . لذا كان المسلمون يتمنون الموت في ساحات الجهاد وعلى شفة أحدهم :

وذلك في ذات الإله وإن يشأ  يبارك على أوصال شلو ممزع

هكذا مضت سنة الإيمان ، فوصفهم الله بأنهم ] يقتلون ويقتلون [ . كانوا يتمنون الشهادة في محاربة البغي  وبعد أن كان الموت في الميدان عندهم أمنية ، فقد أصبح في هذا العصر الذي نعيش مستبعداً ، مما أطمع أعداء الإسلام في بلاد الإسلام ، لأن هناك قلوباً تطرق إليها الوهن ، الذي وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه حب الدنيا وكراهية الموت ، وإن كنا مسلمين فلماذا الوهن بالإسلام ، وإن كنا رجالاً فإن الرجولة تتطلب منا الجرأة في الحق ، جرأةٌ تفوق جرأة أعداء الإسلام في الباطل ، والرجولة حيث يكون الاستعلاء والاستعباد ، هي الرجولة التي تدفع المسلمين لأن يكونوا ثوارا ، يموتون من أجل العزة والكرامة ، ولا يمكن للشباب الثائر أن ينجح إلا إذا استهتر بالموت وأحبه في ذات الله ، شباب تجدد شباب الإسلام من شبابهم ، شبابٌ أعاد للأمة ثقتها بعدما كادت تنهار  حتى تساءل خصومها : أبقي في أمة الإسلام هذا اللون من الرجولة ، في بلاد عملنا على حرمانها من دروس الرجولة ، وأغرقنا أرضها بالمغريات والمثبطات ، وهل بقي الإسلام قادراً على خلق هذا الشباب التقي النقي ، الذين يعتز الحق بتضحياتهم ؟ شباب نضن عليهم بالموت ، لكن الله لا يضن بهم على الاستشهاد ، كما لا يضن بالشهادة على أمثالهم وهو القائل : ] وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين [ آل عمران 140 . 

لا يضن بالشهادة عليهم لأنهم يجودون بأرواحهم وهم يرفعون ألوية الحق ، عملاً بالنصوص التي تغرس في نفس المسلم رفض الظلم ، والتمرُّد على الظالمين  حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم ليقول في دعاء القنوت المروي عن ابن مسعود : ( نشكرك الله ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يَفجرُك ) البيهقي وابن ابي شيبة . والنصوص التي ترغِّب في القتال لإنقاذ المُضطهدين والمُستضعفين في الأرض بأبلغ عبارات الحثِّ والتحريض فيقول تعالى : ] وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا [ النساء 75 .

وجاء في النصوص ما يدل على الإنكار الشديد على الذين يقبلون الضَّيم، ويرضون بالإقامة في أرض يُهانون فيها ويُظلَمون، ولديهم القدرة على الهجرة منها والفرار إلى أرض سواها، فيقول:] إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا [ النساء 99. حتى هؤلاء العجزة والضعفاء قال القرآن في شأنهم : ] عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ [ فجعل ذلك في مَظِنَّة الرجاء من الله تعالى؛ زجرًا عن الرضا بالذل والظلم ما وجد المسلم إلى رفضه سبيلًا.

وحديث القرآن المُتكرِّر عن المُتجبرين في الأرض   حديث يملأ قلب المسلم بالنقمة عليهم، والإنكار لسيرتهم، والبغض لطغيانهم ، وقد علمنا القرآن أن الاستهانة بكرامة الأمة ، وتملُّق الحكام بالباطل وموالاة أعداء الله ، وأعداء الأمة من دون المؤمنين منكر من أكبر المنكرات ، وتتسع دائرة المنكرات هذه ، لتشمل كثيرًا مما يعدُّه الناس في صُلب السياسة  مما يدعو للتساؤل : هل يَسَع المسلم الحريص على مرضاة ربه أن يقف صامتًا، أو ينسحب من الميدان هاربًا أمام هذه المنكرات وغيرها؛ خوفًا أو طمعًا أو إيثارًا للسلامة ؟ إن مثل هذه الروح ، إن شاعت في الأمة فقد انتهت رسالتها، وحُكِمَ عليها بالفناء؛ لأنها غَدَت أمة أخرى غير الأمة التي وصفها الله بقوله : ] كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [ آل عمران110.

ولا عجب أن نسمع هذا النذير النبوي للأمة في هذا الموقف ، في الحديث الذي رواه أحمد والحاكم والبيهقي : ( إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم: يا ظالم فقد تُوُدِّعَ منهم ) أي فقدوا أهلية الحياة   لذلك فإن المسلم مطالب -بمقتضى إيمانه- ألا يقف موقف المتفرج من المنكر أيًّا كان نوعه ، سياسيًّا كان أم اقتصاديًّا أم اجتماعيًّا أم ثقافيًّا ، بل عليه أن يقاومه ، ويعمل على تغييره باليد إن استطاع، وإلا فباللسان والبيان، فإن عجز عن التغيير باللسان انتقل إلى آخر المراحل وأدناها؛ وهي التغيير بالقلب، وهي التي جعلها الحديث: "أضعف الإيمان". وإنما سماه الرسول صلى الله عليه وسلم تغييرًا بالقلب؛ لأنه تعبئة نفسية وشعورية  ضد المنكر وأهله وحماته   وهذه التعبئة ليست أمرًا سلبيًّا محضًا كما يتوهم ، ولو كانت كذلك ما سماها الحديث (تغييرًا) ، لأن هذه التعبئة المستمرة للأنفس والمشاعر والضمائر ، لا بد لها أن تتنفَّس يومًا ما في عمل إيجابي، قد يكون ثورة عارمة، أو انفجارًا لا يُبقى ولا يذر، فإن توالي الضغط لا بد أن يُولِّد الانفجار، سُنة الله في خلقه  وإذا كان هذا الحديث سمى هذا الموقف (تغييرًا بالقلب) فإن حديثًا نبويًّا آخر سماه (جهاد القلب) وهو آخر درجات الجهاد كما أنه آخر درجات الإيمان وأضعفها، فقد روى مسلم عن ابن مسعود مرفوعًا : ( ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تَخلُف من بعدهم خُلُوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمَن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومَن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومَن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، ليس ذلك من الإيمان حبة خردل ) .

وقد يعجز الفرد وحده عن مقاومة المنكر، وخصوصًا إذا انتشر وقَوِي فاعلوه ، أو كان المنكر من قِبَل الأمراء الذين يفترض فيهم أن يكونوا هم أول المحاربين له، لا أصحابه وحرَّاسه، وهنا يكون الأمر كما في المثل: "حاميها حراميها"، أو كقول الشاعر:

وراعي الشاة يحمي الذئب عنها  فكيف إذا الرعاة لها ذئاب؟!

وهنا تكون الثورة على تغيير المنكر ، واجبًا لا ريب فيه؛ لأنها تعاون على البر والتقوى، ويكون العمل الجماعي -عن طريق الجمعيات أو الأحزاب أو غيرها من القنوات المتاحة- فريضة يوجبها الدِّين كما أنه ضرورة يُحتِّمها الواقع ، وإن ما يقال عنه حرية الحق في التعبير والنقد والمعارضة سلما ، هو حقٌ يَرقى به الإسلام ليجعله فريضة مقدسة يبوء بالإثم ، ويستحق عقاب الله ، من يفرَّط فيها .

وفرق كبير بين (الحق) الذي يدخل في دائرة (الإباحة) أو (التخيير) الذي يكون الإنسان في حِلّ من تركه إن شاء، وبين (الواجب) أو (الفرض) الذي لا خيار للمكلف في تركه ، أو إغفاله بغير عذر يقبله الشرع ، لأن المكلف مطالب بمقتضى إيمانه ألا يعيش لنفسه وحدها، دون اهتمام بمشكلات الآخرين وهمومهم، وخصوصًا المؤمنين منهم، بحكم أُخوة الإيمان لقوله تعالى : ] إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ[  الحجرات10 ولما ورد في الحديث: ( مَن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، ومَن لم يصبح ناصحًا لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم فليس منهم) الطبراني وأحمد  ( وأيما أهل عَرْصَة بات فيهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله وذمة رسوله ) الطبراني والحاكم . وكما أن المسلم مطالَب بمقاومة الظلم الاجتماعي

ومطالَب أيضًا بمحاربة الظلم السياسي، وكل ظلم أيًّا كان اسمه ونوعه، فإن السكوت عنه والتهاون فيه  يوجب العذاب على الأمة كلها؛ كما قال تعالى: ] وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال 25 . وقد ذمَّ القرآن الكريم الأقوام الذين أطاعوا الجبابرة الطغاة وساروا في ركابهم كقوله عن قوم نوح: ] وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا [ نوح 21 . بل جعل القرآن مُجرَّد الركون والميل النفسي إلى الظالمين موجبًا لعذاب الله : ] وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ [ هود 113.

 

      

 

 

ثواب الصبر على مقاومة الظلم

لقد حُرِف المفهوم الإسلامي للصبر هذه الأيام  فصوروه على أنه استسلام للواقع الفاسد، واستسلام للظلم والظالمين ، والسكوت على الضيم والجور  وتحمل الذل، والاستسلام لكل المخططات التي تهدم حياة الإنسان، ومستقبله وقيمه وأخلاقه ودينه  تهدمها لتبني على  أشلائها عروشها وملكها .

بينما نقرأ مفهوم الصبر في القرآن الكريم ، على أنه صبر على مقاومة الظلم ، ومجاهدة الظالمين ومقاومتهم ، صبرٌ على الموت والقتل ، وصبر على الجهاد والاستشهاد ، وليس صبراً على الظلم بدليل أن ذكر الصبر في كثير من آيات القرآن الكريم  ذا دلائل جهادية كقوله تعالى ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [ آل عمران200 . وقال تعالى : ] وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [ آل عمران 146. وقال تعالى : ] قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [ البقرة250 . وهكذا لو استعرضنا ذكر الصبر في القرآن الكريم لوجدنا أن معظم الآيات التي ذكر فيها ، ذا دلائل جهادية، وقتالية  واستشهادية وليس فيها ما يدل على الصبر ظلم الظالمين، وعدوان المعتدين ، كما يتصور من ينشغل بطقوس العبادة  وينعزل عن الساحة الاجتماعية والسياسية ، ولا ينكر المنكر ، ولا يأمر بالمعروف ، إلا في حدود ضيقة ، لبعض العبادات والأخلاقيات  .  

لقد رأت هذه الأمة في تاريخها الطويل من النصر والهزيمة ، ما تراه كل أمة ، ولكن ما تواجهه الآن هو أشدّ من كل ما واجهته ، لأن الأعداء يكيدون لها يساعدهم في ذلك ، الظلمة من أبناء الأمة ، وفي المقابل شعوبٌ دفعها الإيمان بربها ، والتمسك بعقيدتها ، إلى التضحية والبذل ، فاندفع شبابها ليغسلوا بدمائهم صفحة التردد والتخاذل ، والخيانة والانقسام ، شبابٌ إلى جانبهم شيوخٌ بحماسة الشباب ، وإلى جانبهم شبابٌ بحكمة الشيوخ  وإلى جانب الشيوخ والشباب ، نساءٌ يتمتعن برجولة الرجال ، والصغار إلى جانبهم بعزائم الكبار   وكلهم صابراً ومصا برا طلباً للشهادة ، وكلهم يعلم أن الشهادة لا تنال بدون اختبار وامتحان وابتلاء ولم لا ، فقد ابتلى الله الأنبياء والصالحين ، وهم بذلك يتأسوا برسول الله صلى الله على سيدنا محمد وصحابته والتابعين ، ممن أُذوا في سبيل الله ، وبمن وضعت المناشير على أعناقهم ليقولوا كلمة الكفر  فما وهنوا وما استكانوا .

إن ما يلاقيه بعض المسلمين ، من الظلم والبطش  يذكرني بقصة الوالي الذي طغى وبغى ، وشنق وخنق  حتى خلعت خشبة بطشه القلوب ، وقطعت الألسنة فجاءه رجل صالح بموعظة ، جاءه بمسمار أعده وحمله للطاغية ، على أربعة جمال ، حتى بلغ به باب قصر الطاغية ، فأطل فرآه ، وقال متعجبا ، ما هذا ؟ فقال الرجل الصالح : هذا يا مولاي مسمار لتسمّر به الفَلَكْ ، فلا يدور بالمُلك عنك إلى غيرك  ليبقى لك أبدا ، فما سُمِّرََ الفَلَكْ ولا دام المُلْك  فذهب كما ذهب غيره ، وطواه عالم النسيان .

إن المحن التي تصيب الأمة ، ليست هي أولى المحن  وليست بآخرها ، فقد ذكر التاريخ أشدّ منها ، ذكر يوم أن جاء ت جيوش أوروبة ، وقامت في فلسطين لهم دول ، وكان المسلمون على حال هي شرّ مما نحن عليه اليوم ، حتى حسب الضعفاء أن قد طويت راية الإسلام ، كما ذكر يوم رمانا الشرق بجيوش التتر ، نحط على بلدان العالم الإسلامي ، فأبادت ممالك ، حتى بلغ هولاكو عرش الخليفة في بغداد فذبحه ، وترك بغداد خرائب وأطلال ، كما ذكر يوم هزم القرامطة جيوش المسلمين ، وعدوا على الحجاج ، فذبحوهم ذبح النعاج ، فقد ظهر أولئك واختفوا  والإسلام هو الإسلام ، ما ازداد إلا قوة .

لقد علّمنا رسول الله صلى الله على سيدنا محمد كيف نصبر على المصائب وإن تتالت ، والشدائد وإن تعاقبت   وطالبنا أن نعمل على دفعها ، فكان الجهاد في سبيل الله ، وكان بذل المهج والأنفس ، من أجل دين الله وعزته   وكانوا يطلبون الموت ، لتوهب لهم الحياة ، بخلاف من يريدون لنا أن نظل أضعف من أعدائنا وأجهل ، ولا يريدون أن نعد العدة ، ونتسلح بسلاح الإيمان ، ولكن والحمد لله فقد ظهر في الأمة شبابٌ لا يريد أن يذل ، ولا يريد للذل أن يعرف طريقه لهم ، ليعيش كريماً أو يموت شهيدا .

إن منهج الإسلام يربى أتباعه على التمسك بحقوقهم دون التفريط فيها ، ومقاومة من يتعدى عليها بغير حق ، وسن لهذه الحقوق تشريعات وعقوبات على من ظلم وبغى بغير حق ، وجاء في الآيات القرآنية الأمر بمجابهه أولئك الذين يريدون تدمير الإسلام : قال تعالى : ] وان عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ، واصبر وما صبرك إلا باللّه ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون [ النحل126 . وقال تعالى: ] أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [ .

وللوصول إلى عزة الإسلام ، لابد من الصبر ، فقد ذكر ما ينسب لعيسى عليه السلام قوله :" إنكم لا تدركون ما تأملون إلا بالصبر على ما تكرهون " وعن الإمام علي :" الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد " . وقال : " لا يعدم الصبور الظفر وإن طال الزمان " . ونسب إليه قوله : " الصبر سيف لا ينبو ومطية لا تكبو، وضياء لا يخبو " .

 إن من أهداف الصبر في الإسلام ، الصبر على تحمل الأذى في محاربة الظلم، والقضاء عليه ، ومنها  

الصبر على تحمل الآلام والمتاعب في سبيل الوصول إلى الهدف الأسمى ، وهو العبودية المطلقة لله تعالى ورفض كل عبودية لسواه ، بل إن كل حق لا بقاء له بدون الصبر، وقد كان صبر الأنبياء والأوصياء من أهم أسباب بقاء الحق .

 ومن الأمور الجديرة بالتسجيل بالنسبة للصبر في الحرب، قوله تعالى: ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ [

ففي حين يأمرهم بالثبات في الحرب، يأمرهم بأن يذكروا الله كثيراً ، وذلك من أجل أن يبقوا محتفظين بالهدف الأسمى الذي يفترض فيهم السعي إليه وأن يجعلوه نصب أعينهم، ولا يصرفهم الدفاع عن نفوسهم عن ذكر الله تعالى ، وطبيعي: أن كثرة ذكر الله ، تذكرهم بأن الله بيده كل شيء، وأنه هو الذي ينصرهم على عدوهم، وأنه مصدر عزتهم وسعادتهم وأن ذكر الله يقويهم ويدعوهم إلى طاعته، وطاعة رسوله، وأن لا يتنازعوا، وأن يصبروا؛ وأن ذكر الله هو مفتاح النصر في جميع المجالات، ثم الوصول إلى الهدف الأقصى، وهو إقامة دين الحق، ونصر الله : ]إِن تَنصُرُوا الله يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [ .

 

 

  

 

 

 

 

 ابتلاء الله وغضبه

الابتلاء سنة إلهية لا يسلم منها أحد وتشمل الخير والشر،قال تعالى:﴿ ونبلوكم بالشر والخير فتنة ﴾، أي اختباراً وامتحاناً بالنعم والنقم، والصحة والمرض والغني والفقر، والرخاء والشدة، والحياة والموت قال تعالى : ﴿ فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن، وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن ﴾ . أما غضب الله فيكون بعدم توفيق العبد إلى الطاعة ، فيعصي الله ، ويرتكب الجرائم حتى إذا أخذه لم يفلته ، بخلاف العبد الطائع ، فلا يسخط إذا نزل به بلاء أو مكروه ، ومما يؤسف له أن بعض ، ضعاف الإيمان ، إذا نزل به البلاء ، تسخط     ولام خالقه في أفعاله ، وغابت عنه حكمة الله في قدره ، فوقع في بلاء أشد من البلاء الذي أصابه ، وتناسى أن الدنيا  مليئة بالمصائب والرزايا ، والمحن والبلايا، إلى جانب ما فيها من كريم المنح والعطايا   وهي دار شدة ورخاء، وضحك وبكاء تتنوع فيها الابتلاءات، ليعتبر بها المعتبرون ويغتنمها الموفقون، ولايغتر بها المغترون ويهلك بها الهالكون قال تعالى: ﴿ ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون ﴾الأنبياء35.     وقال تعالى : ﴿ فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ﴾العنكبوت3، فكم من الشاكين والباكين؛ الذين يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية ،  فإذا نزلت بأحدهم النازلة ، أو حلت به الكارثة ضاقت عليه المسالك، وترقب أفجع المهالك؛ فضاق صدره، ونفد صبره واضطربت نفسه، وساء ظنه، وكثرت همومه ، وتوالت غمومه، فصد عن الحق، وتعلق بمن لا يملك نفعه ولا ضره من الخلق؛ يأساً من روح الله ، وقنوطاً من رحمته، وذلك هو الخسران المبين في الدارين لأن التعلق بالمخلوقين ، والإعراض عن رب العالمين ، شرك بنص الكتاب المبين قال تعالى:﴿ ولا تدع من دون الله مالا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذاً من الظالمين وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يُرِدْك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم ﴾ يونس 106. أما من آمن بالله ، وعرف حقيقة دنياه، وسلّم لربه فيما قدره وقضاه، فإنه يصبر على الضراء ، ويشكر على السراء ويطيع ربه في الشدة والرخاء، لأنه يؤمن أن الله يبتلي العبد بالخير والشر ؛ ليختبر صبره  فقد صح  عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال:(عجباً لأمر المؤمن؛ إن أمره كله له خير، وليس ذلك إلا للمؤمن، وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له) رواه مسلم . فاستخدامك للسرّاء في طاعة الله ، يكون نعمة ومنحة من الله ، ومكافأة علي طاعتك لله ، وإن كان استخدامك لها في غير طاعة الله  تصبح هذه النعمة بلاء  وإذا ازددت بهذه النعمة اقترابا من الله ، وسخرتها لإعانة المحتاج ، فقد نجحت في الامتحان الإلهي وإن زادتك تكبرا وغلظة ، فقد أخفقت      عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ما يزال البلاء بالمؤمن في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة) الترمذي ، وقال النبي عليه الصلاة والسلام : (إن عظم الجزاء مع عظم البلاء وإن الله تعالى إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط) فكم من محنة في طيها منح ورحمات، وكم من مكروه يحل بالعبد ينال به رفيع الدرجات ، وصدق الله إذ يقول:﴿ إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ﴾ الزمر10.قد يتعجب البعض إذا قلنا أن الألم والابتلاء نعمة ، نعم إنه نعمة لأن الألم تهذيب للنفس ، وتخليص لها من شوائب الدنيا ، التي قد تكون علقت بها ، فإذا نظرت، ستجد الكل مبتلي، فهذا مبتلي في صحته.. وذاك مبتلي بالفقر وضيق ذات اليد.. وذاك ابتلاه الله بفقد الولد أو مرضه.. فلست وحدك المبتلى    فالكل يعاني ويكابد ، من الابتلاء لأنه سنة كونية تتجلى في قوله تعالي: ﴿ لقد خلقنا الإنسان في كبد﴾ أي أن هذا ما قدره الله علي عباده في هذه الحياة ، من التعب والمشقة ، والمعاناة التي تتفاوت من شخص لآخر، ولو علمنا حكمة الله في الابتلاء والجزاء ، الذي أعده للصابرين ، لحُسدوا   على النعيم الذي أعده الله لهم في الآخرة  فمن صبر علي الفقر في الدنيا ، عوضه الله عن ذلك بنعيم دائم لا ينقطع في الآخرة  ومن احترق قلبه لوعة لفقده ولده ، وصبر واحتسبه عند الله ، بني الله له بيتا في الجنة يسمي بيت الحمد ، كما جاء في الحديث القدسي : ( يسأل الله سبحانه ملائكته اقبضوا ولد عبدي ، اقبضوا ثمرة فؤاده فيقولون : نعم يا ربنا ، فيقول تعالى وهو الأعلم بعباده: فماذا قال؟! قالوا: حمدك فيقول:  ابنوا له بيتا في الجنة اسمه بيت الحمد ) .فالابتلاء إذن ، ليس مذموما دائما ، ولا مكروها دائما ، وكيف لا يكون البلاء أو الألم نعمة من الله ، وجزاء من يصبر عليهما الجنة ونعيمها؟! وفي ذلك قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: ( ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذي ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر بها خطاياه ) رواه البخاري . وقد يتخفي البلاء في ثوب النعم ، ويتجلي هذا المعني في قوله تعالي: ﴿ أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ﴾ فالنعم ليست في مطلقها خيرا، بل قد تكون امتحانا من الله لعبده ، ومن نعم الله أن جعل البلاء فرصة للتوبة قبل أن يحل العذاب الأكبر يوم القيامة قال تعالى :﴿  وَلَنُذِيقَنهُم منَ العَذَابِ الأدنَى دُونَ العَذَابِ الأكبَرِ لَعَلهُم يَرجِعُونَ ﴾ السجدة 21 ، والعذاب الأدنى هو نكد الدنيا ، وما يصيب الإنسان من سوء وشر ، وإذا استمرت الحياة هانئة  فسوف يصل الإنسان إلى مرحلة الغرور والكبر ، ويظن نفسه مستغنياً عن الله   فمن رحمته سبحانه ، أن يبتلي الإنسان حتى يعود إليه ، فيكون نزول البلاء خيرٌ للمؤمن ، من أن يُدَّخر له العقاب في الآخرة ،  كيف لا وفيه تُرفع درجاته   وتكفر سيئاته ، قال صلى الله عليه وسلم : ( إذا أراد الله بعبده الخير عجَّل له العقوبة في الدنيا  وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبـــه حتى يوافيه به يوم القيامة ) صححه الألباني في صحيح الترمذي .وقال الحسن البصري رحمه الله :" لا تكرهوا البلايا الواقعة ، والنقمات الحادثة  فَلَرُبَّ أمرٍ تكرهه ، فيه نجاتك ، ولَرُبَّ أمرٍ تؤثره ، فيه عطبك – أي هلاكك "     قيل للإمام الشافعي رحمه الله : أَيّهما أَفضل : الصَّبر أو المِحنة أو التَّمكين ؟ فقال : التَّمكين درجة الأنبياء ، ولا يكون التَّمكين إلا بعد المحنة  فإذا امتحن صبر ، وإذا صبر مكن " فاتقوا الله وأثبتوا على إيمانكم  واصبروا على ما قد تبتلون به ، وأدوا حق الله فيما أعطاكم ، ولا يطغينكم عز ورخاء أو صحة وثراء، ولا تضعفوا أمام الأحداث والشدائد والمضايقات ، فما هي إلا إبتلاء وامتحان ، ثم يأتي فرج الله ونصره ، ومثوبته لمن قام بأمره ، قال عليه الصلاة والسلام :

( إذا رأيت الله يُعطي العَبد مِن الدُّنيا على مَعاصيه ما يُحِبّ ، فإنما هو استدراج ، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : ﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴾ . رواه الإمام أحمد ، وصححه الألباني .

أكل أموال الناس بالباطل

موضوع لا يهتم به الكثيرون ، وما علموا أن أخذ أموال الناس بالباطل من الكبائر    ومن لا يهتم من أين اكتسب المال ، فإنه يخالف منهج الله عزَّ وجل ،  الذي قال :  ﴿وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ ﴾البقرة  188 لا يأخذ بعضكم أموال بعض ، ولا يستولي عليها بغير حق ، وقد اعتبرت الشريعة الإسلامية المال من الضروريات الخمس التي جاءت الشريعة بوجوب حمايته ، بل سعى الشارع إلى المحافظة عليه ، فمنع أخذه بغير حق شرعي ، ولذلك نهى الله  عن أكل الأموال بالباطل، فقال تعالى : ﴿ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ البقرة ١٨٨.قال ابن عباس رضي الله عنه :"هذا في الرجل يكون عليه مال   وليس عليه بينة ، فيجحد المال ، ويخاصم إلى الحكام ، وهو يعرف أنّ الحقّ عليه، وقد علم أنه آثمٌ آكلُ حرام " الدر المنثور ، فالدَّيْنُ أمرُه عظيمٌ ، لتعلُّق حق الغير بذمة المدين، ولو لم يَرِدْ في ذلك إلا قولُ رسول الله صلى الله عليه وسلم  : (يُغفَر للشهيد كلُّ ذنب إلا الدَّين)مسلم ، لكفى ذلك زاجرًا عن إشغال الذمة من غير حاجة ، لذا يحرم على المسلم أن يماطل أو يتأخر في سداد الدين الثابت في الذمة ، وهذا داخل في ظلم الأموال  وهو من الذنوب العظيمة ، التي نهى عنها الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقد نص الفقهاء على أن المماطل فاسق ، ترد شهادته لظلمه وتهاونه بالحقوق. روى البخاري ومسلم وغيرهما عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:( مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ وَإِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ ) أي إذَا أُحِيلَ بِالدَّيْنِ الَّذِي لَهُ عَلَى مُوسِرٍ، فَلْيَحْتَلْ ، وإذا ماطل المدين ، فإنه يحل للدائن أن يشتكيه عند الحاكم ، ويحل للحاكم حبسه حتى يوفيه دينه ، لأنه ظلمه في ماله لقول الرسول صلى الله عليه وسلم  : ( لَيُّ الْوَاجِدِ-أي مطله- يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ )رواه أبوداود. وإذا لم يجد الدائن سبيلا عليه ، أبيح له أن يدعو على المدين لأنه مظلوم ، وقد جعل الشارع   دعوة المظلوم مستجابة ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) متفق عليه.

لذا ينبغي على المؤمن أن يتخلص من حقوق الغير في الدنيا ، ويوفيهم أموالهم قبل أن يقتصوا منه يوم القيامة ، فيأخذوا من حسناته ، فإن نفدت طرحوا عليه سيئاتهم وقد حذّر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك بقوله: ( مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلمَةٌ لأَخِيه ، مِنْ عِرضِهِ أَوْ مِنْ شَيْءٍ ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ اليَوْمَ قبْلَ أنْ لاَ يَكُونَ دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه) رواه البخاري. والمماطل إن نجا من عقوبة الدنيا ، فلن ينجو من عقوبة الآخرة ، وهذا يدل على خطورة الموقف وعظم الحساب فليحذر المؤمن من هذا الأمر أشد الحذر.

 ولو قال قائل : من يضحي أكثر ؟ الشهيد، أم الذي ينفق المال ، ومع ذلك: ( يغفر للشهيد كل ذنبٍ إلا الدين ) من الجامع الصغير: عن ابن عمر ، ورغم أن الشهيد قدم أثمن ما يملك ، لكنه لم ينجو من موضوع الدين  لقوله صلى الله عليه وسلم : ( أعليه دين ؟ ـ قالوا: نعم. ـ قال: صلوا على صاحبكم  فقال أحدهم: عليَّ دينه. فصلى عليه النبي  سأله: أأديت الدين ؟  قال: لا ، سأله مرةً ثانية: أأديت الدين ؟ قال: لا ، سأله ثالثةً: أأديت الدين ؟  قال: نعم ، قال: الآن ابترد جلده ) ، ومن المعلوم أن الذنوب ثلاثة: ذنبٌ لا يغفر وهو الشرك، وذنبٌ لا يترك وهو ظلم العباد بعضهم بعضاً، وذنبٌ يغفر ما كان بين العبد وبين الله ، فمن أكل حقوق العباد، لا تنفعه صلاته، ولا صيامه  ولا حجه ، لأن حقوق العباد  مبنيةٌ على المسامحة ، فلا يجوز أخذها إلا بطيب نفس صاحبها ،  عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم النحر، فقال: (يا أيها الناس، أي يوم هذا؟ قالوا: يوم حرام، قال: فأي بلد هذا؟ قالوا: بلد حرام، قال: فأي شهر هذا؟ قالوا: شهر حرام، قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، فأعادها مرارًا ) رواه البخاري ، اشتمل الحديث على جملة من المحرمات؛ وذكر منها النهي عن أكل الأموال، كما دل على ذلك ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (  كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله وعرضه). هناك من يفرح إذا أخذ أو ظفر بحق أخيه وامتنع عن قضاء دينه واعتبر ذلك ذكاءً ودهاءً وقوة ، إذ لا يهمه أن هذا المال حرام أو حلال ، لكن المهم عنده أنه حصل عليه ، دون خوف من الله  ، ونسي وعيد الله ودعاء المظلومين ، وعذاب قلوبهم المتجهة إلى ربها ، ترفع أكف الضراعة إلى الله ليأخذ حقها ، وينتقم ممن ظلمها فتساهلوا في أمر الدَّين ، وماطلوا في تسديده أو إنكاره أو تناسيه ، وما علموا أن روح المسلم معلقة بدينه إذا مات ، حتى يقضى عنه ، وعندما قدمت جنازة إلى رسول الله  ليصلي عليها قال : (هل عليه دين؟ فقالوا: ديناران، فقال صلوا على صاحبكم ، ورفض أن يصلي عليه، فضمن أبو قتادة الدينارين فصلى عليه الرسول وقال: الآن بردت جلدته)، وقال : (من أخذ أموال الناس ن يريد أدائها أدى الله عنه ومن أخذ أموال الناس ، يريد إتلافها أتلفه الله)، لقد كثرت في المحاكم الخصومات والقضايا والمشكلات بسبب المظالم ، ومن الناس من يعلم أنه هو الظالم ، لكنه يريد الانتصار على خصمه ن وأخذ حقه ، وربما غلب بالحجة ، وقضى له القاضي بمال أخيه ، على نحو ما ظهر له، وعليه أن يعلم أن حكم القاضي ، لا يحل الحرام أو يحرم الحلال ، لأن القاضي ليس له إلا الظاهر بما يسمع من الخصمين وأما الباطن فهو إلى الله الذي يحكم به يوم تبلى السرائر ، ولا يوجد في ذلك اليوم للظالم من قوة ولا ناصر قال عليه السلام : (إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له بنحو ما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار). وقال : (لكل غادر لواء يوم القيامة يقال: هذه غدرة فلان) ، إن هذه القضية الخطيرة  والجريمة الكبيرة ، انتشرت ، فصارت أموال الناس تؤكل بالباطل ، إما عن طريق المحاكم  أو عن طريق الكذب والمكر والاحتيال  والنصب والسلب والسرقة ، والغش والخديعة والتزوير ، صدق فيهم قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة الذي ذكره ابن بطال في شرحه لصحيح البخاري : ( لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لا يُبَالِى الْمَرْءُ بِمَا أَخَذَ الْمَالَ ، مِنْ حَلالٍ أَوْ مِنْ حَرَامٍ )  وقد وردت نصوص كثيرة في التحذير من هذا الأمر والتخويف منه ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : (إِنَّ رِجَالاً يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) رواه البخاري في صحيحه ، وعيد شديد ترجف منه قلوب المؤمنين ، وتطيب به مكاسب المتقين  وتصلح به أعمال الخائفين ، الذين يسعون إلى إبراء الذمم من حقوق المسلمين ، بأن يتحللوا منهم ويرضوهم ، فقال عليه الصلاة والسلام : (من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو من شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم ، إن كان له عمل صالح ، أخذ منه بقدر مظلمته    وإن لم يكن له حسنات ، أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه) . فليحذر المسلم  أن تذهب أعماله الصالحة التي تعب عليها   ويخسرها ، لتعطى للناس الذين ظلمتهم واعتدى على حقوقهم ، سأل الناس عمر بن عبدالعزيز وهو على فراش الموت : ماذا تركت لأبنائك يا عمر ؟ قال : تركت لهم تقوى الله ، فإن كانوا صالحين فالله تعالى يتولى الصالحين ، وإن كانوا غير ذلك فلن أترك لهم ما يعينهم على معصية الله تعالى" فتأمل ، كثير من الناس يسعى ويكد ويتعب ليؤمن مستقبل أولاده ، ظنا منه أن وجود المال في أيديهم بعد موته أمان لهم، وغفل عن الأمان العظيم الذي ذكره الله في كتابه:

( وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ) .

 

 

قراءة لما يجري

إن المستمع للمقابلات التي نشاهدها على شاشات التلفزة بخصوص الحرب الجارية     يلمس موجة من الانهماك في عالم التوقعات ودنيا التأويلات والتفسيرات ، التي تتحدث عن الأحداث ، فبين متمهل مطمئن بأنها ستحسم قريباً ، وبين مبشرٍ بأنها ستستغرق وقتاً طويلاً   ونسمع لكثيرٍ من الآراء والطروحات التي تغلب عليها روح العداء للإسلام  والحقد على المسلمين   والتفاؤل بتحقيق الهدف الذي قامت الحرب من أجله ،  ناسين أن هناك إلهاً وأن هناك ترتيباً آخر قد يفاجئهم .

أما المسلم الحق فالواجب أن تختلف نظرته لهذه الحرب ، فليس من المستبعد أن يكون النصر حليف المؤمنين بالله ، فالفأل الحسن محمود    أقول ليس من المستبعد لأنني اجزم بنصر الله للفئة المؤمنة ، بغض النظر عن العدد أو العدة ، لأن الله وعد المؤمنين بالنصر فقال تعالى :}إن تنصروا الله ينصرْكُم ويثبت أقدامكم { محمد 7  .

ولأن المستقبل للإسلام ، بشرط ألا يكون موقفناً من هذا المستقبل مجرد انتظار استقباله فنحن أمة تؤمن بالغيب ، ولكنها لا تقبع وراء ذلك الغيب مستشرفةً حدوثه وهي في عالم الشهادة والتكليف  لأن الذي يتصور أن يهلك الله أمة الكفر  مكتفياً بالدعاء ورفع الأكف إلى الله بالضراعة ، دون أن يُعد نفسه وغيره لذلك ، فهو واهم وحالم في أحسن الأحوال وظالم في أسوئها ، وقد نبهنا الله إلى هذه القضية فقال تعالى : }ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدّةً ، ولكن كره الله إنبعاثَهُم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين{ . التوبة 46. هؤلاء الذين لا يهتمون بما يعاني إخوانهم في الدين ، كره الله انبعاثهم لما يعلمه من خيانتهم وعدم نصرتهم ، فتخلفوا عن الجهاد كالعجائز والنساء والأطفال الذين لا يستطيعون الجهاد ، ولا ينبعثون له من أرباب الهمم الساقطة والقلوب المرتابة والنفوس الخالية من اليقين   يظنون أنهم يحققون لأنفسهم الخير بالتخلف والقعود عن مشاركة المجاهدين في مراكب الهم والهدم والدم .

نسمع الأخبار ونحن مع القاعدين ، فمرة نتشاءم ومرة نتفاءل ، ومع أن التفاؤل والتبشير بلا عمل ملامة ، والتشاؤم واليأس ولو مع شيء من العمل إدانة ، إلا أن ذلك يبعث على القلق وبخاصة مع تزايد حدّة التحدي والخروج عن الهدف المحدد للحرب .

لقد أعلنوا الحرب على الإرهاب والإرهابيين ، ونحن نراها طالت المرضى والعجزة والمقعدين ، لا بل كافة الناس هناك أجمعين ، وهنا نتساءل : هل صحيح أن كل الإسلاميين بما فيهم النساء والأطفال هم إرهابيين ؟ وما هو المطلوب ؟

إن الذي يظن أن مجرد متابعة الأخبار على الشاشات والإذاعات مع التحسر والتألم لما يجري يعفي من الأثم عند الله ، فذلك لعمري هو القصور في الفهم ، والتهرب من الواقع الأليم ، وأنت تشاهد يا أخي الأخبار على الشاشات ، تصور أن الأم الثكلى التي تراها هي أمك ، أو أن ذلك الطفل أو الطفلة الصغيرة المجروحة الجسد المحروقة الأطراف هي ابنتك ، أو أن ذلك الصغير التائه الزائغ العينين المتعفر الثياب الذي يبحث عن شيء يأكله في أكوام القمامة هو ابنك ، وأن تلك الفتاة المدفوعة بين الذئاب والكلاب هي أختك وأن تلك العجوز المرتعشة الأصابع الضعيفة البصر الرافعة كفيها إلى السماء بالدعاء بعد هدم بيتها وغياب عائلتها هي جدتك أو خالتك أو عمتك ،  ماذا كنت ستفعل ؟ لو أن هؤلاء أهلك مع أنهم في الحقيقة إخوانك وأهلك ، نعم إنهم أهلونا وخذلهم هو خذلان لنا والتخلي عنهم مسؤولية أمام الله ، وبلادنا الهدف المنشود لزعماء الغرب لتحقيق أهدافهم والمتتبع لمسيرة زعماء أمريكا ، يجد أنهم يلجأون إلى المنطقة العربية لتحقيق الانتصارات التي يحتاجونها أمام شعبهم ، والسؤال هنا : لماذا المنطقة العربية ؟

هل لأننا كرماء بطبعنا أو أوفياء لأصدقائنا نتنازل بكرمنا المعهود عن حقوقنا ؟

أم لأننا شعب مغلوب على أمره تفرض عليه الحلول الظالمة ويرضى بها دون تردد أو مناقشة ؟ فقد وصلنا على أرض الواقع إلى درجة من الانهزام ، نقبل التعليمات التي يصدرونها بكل فخر واعتزاز ، مما يدل على الاستهانة بهذه الأمة واعتبارها الجانب الأضعف باللعبة السياسية  الذي تعوَّد قادة أعدائنا تحقيق انتصاراتهم عن طريقه   أضف إلى ذلك مواقفهم المؤيدة لعدونا اللدود إسرائيل ، فهذه أمريكا ممثلة برئيسها الذي يعمل بوحي من شعبها ، تعمل لمصلحة دولة يهود التي احتلت أرضنا ومقدساتنا وشردت أبناء شعبنا وحاصرت وقاتلت ، وما زالت تعمل ليل نهار قصفاً وقتلاً وتدميراً .

والرؤساء الأمريكيين المتقدمين منهم والمتأخرين   لم نلمس منهم موقفاً حازماً لإيقاف عمليات القتل والتدمير ، لأنهم لم يعتلوا كراسيهم إلا بصوت الناخب اليهودي .

لذا فهم مدينون لهم بالولاء من أجل قيام دولتهم   وتحجيم جميع القوى المعارضة لهم لا أقول بالمنطقة فحسب ولكن بجميع أنحاء العالم ، لذا يجب علينا أن نستيقظ من غفوتنا ونؤوب إلى رشدنا ، ونحزم أمرنا ونعرف صديقنا من عدونا ، ونعلن للعالم كله أننا أمة يجب أن تجاهد لإعلاء كلمة الله أولاً   وتدافع عن الحقوق المغتصبة ثانياً ، لأن واجبنا تجاه امتنا لا يحتاج إلى مزيد شرحٍ وبيان ، فطالما تكلمنا بذلك وتكلم الدعاة إلى الله ولكن للأسف صُمَّت الآذان ، فاستمرئنا الهوان و أصابنا الإحباط والخذلان .

تعالوا نقلب دفتر الذكريات وصفحات التاريخ   لننظر سوياً إلى رجال ذلك الجيل الذي عملت فيه الأمة وسادت ، ما أحوجنا إلى رجالٍ أمثالهم يقودون السفينة التي عصفت بها ريح الكفر   وهبت عليها أعاصير الحقد والكراهية للإسلام وأهله ، روى التاريخ أن امرأة قتل أبوها وزوجها وأخوها يوم أحد ، فلما أتاها خبرهم قالت : ما فعل الله برسول الله ؟ قالوا : بحمد الله كما تحبين   قالت : أرونيه حتى أنظره ، فلما رأته صاحت من أعماق قلبها : كل مصيبة صغيرة بعدك يا رسول الله !

إنه الصبر الجميل على قدر الله ، إنه الصبر الذي افتقده كثير من رجال زماننا ، الصبر على تحمل المسؤولية الذي تخرّج منه أولئك الأبطال الأشداء   الذين يثبتون عندما تزل الأقدام ويحتسبون عندما ييأس أصحاب العزائم الخاملة ، فنحن بحاجة إلى رجال كهذه المرأة في صبرها وحرصها ، لا رجالاً خرست ألسنتهم حتى عن كلمة شجب أو إدانة لما يجري لإخواننا مسلمي فلسطين في محنتهم   الذين يلاقون أكثر مما تلاقيه أفغانستان ، وكأن ما يجري توزيع للمهمات لإذلال المسلمين والسيطرة على مقدِّراتهم ، فأمريكا في أفغانستان وإسرائيل في فلسطين لأن ما يفعله اليهود الحاقدون من وحشية وظلم وطغيان وإهانات  محاصرين إخواننا في قراهم ومدنهم ، يُمْطرون ليل نهار بححمم القذائف والنار من الدبابات والمدافع ، في أبشع صور الوحشية والطغيان ، مع تأييد غربي وسكوت عربي ، فأين الجامعة العربية لا بل أين مجلس الأمن والأمم المتحدة وحقوق الإنسان التي تكيل بمكيالين   أرأيتم ما جرى في نيمور الشرقية لأبناء ملتهم من تدابير عاجلة ، وإعلام هائل وتحرك بأسرع وقت ، ولكن من يعرف خفايا الغرب وموقفه من الإسلام وأهله لا يستغرب ذلك   ومما يدمي القلب أن اثنين وخمسين دولة إسلامية مجتمعة أو منفردة لا تفعل شيئاً تجاه إخوان لهم يعتدى عليهم بأحدث ما عرفته التقنية الغربية من السلاح المتطور ، ولا يحركوا ساكناً   مما يدل على أن هناك خللاً في إسلامهم وصلتهم بربهم ، وهذا والله منتهى الذل والهوان ، ويا ليت المسلمين يسلمون بالرغم من كل ذلك من مكر دولهم ، ومحاربتها لكل ما هو إسلامي حتى فاقت في ذلك دول الكفر واليهود .

يخيل لي أن ما يجري من تركيز القصف على محطات الكهرباء والأسواق والمراكز الحيوية في المدن والقرى لتختل مقومات الحياة وتدمر ، حتى يواجه من ينجو من هذا الشعب الشتاء ببرده القارس ، وهم عزل من كل شيء سوى القذائف والصواريخ التي تمطرهم صباح ومساء ، ومن فرّ لا يجدي الملجأ ولا الطعام ، بل ولا أي شيء من مقومات الحياة 

وكل ما أستطيع قوله :                                  عفاءً على الدنيا إذا المرء لم يعش          بها بطلاً يحمي الحقيقة شُدُّه

وأسأل : لماذا يحدث لنا كل هذا ؟ ولماذا المسلمون بالذات تسيل دماؤهم وتُزهق أرواحهم وتُنثر أشلاؤهم ؟ ولا حيلة لي إلا أن أنادي : أيها المسلمون ، أيها النائمون ، ما لكم لا تبصرون ؟ ما لكم لا تنطقون ؟ أي عار بعد هذا تنتظرون ؟.

وأكرر : لماذا أنتم صامتون ؟ أفسحرٌ هذا أم أنتم لا تبصرون ؟ أما يوجد فيكم قوم يتحركون ؟ أو أنكم أصبحتم لا تعقلون ؟

      لقد أسمعت لو ناديت حياً     ولكن لا حياة لمن تنادي

أما الحل فهو كما قلنا مراراً وتكراراً ، يكمن في العودة الصادقة لرب العالمين ، واتباع نهج سيد المرسلين . وعندها ستكون الجولة للإسلام وللإسلام وحده }ويقولون متى هوَ قل عسى أن يكونَ قريباً{.الإسراء 51 .

 

 

   

 

 

جريمة الصد عن دين الله

 

الصد عن سبيل الله ، يدور مع الكفر، حيث دار، ولا ينفك عنه؛ فجميع من وُصِفوا بالصد عن سبيل الله بمختلف فئاتهم ، هم ممن كفروا بالله تعالى، ظاهرا أو باطنا.  وموضوع الصد عن سبيل الله ، يتناول كل الأعمال الموجهة ضد الإسلام، ومنع الناس من قبول دين الله ، كمنهج للحياة والاستقامة على ذلك ، وقد جاء التحذير ممن يصد عن سبيل الله فقال تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ ﴾آل عمران 118. لا أرى تحذيراً من خطر اختراق الأعداء لصفوف الأمة ، في القديم والحديث ، أشد من هذا التحذير الإلهي ، الذي إذا لم تدركه الأمة ، وتعمل على مقاومته ، تكون فريسة مخططات أعدائها ، الذين لا يألون جهدا في العمل على تدميرها. ولهذا جاء النهي عن اتخاذ أولياء وأصفياء ، من غير المؤمنين, لأنهم غالباً ما يطلعون على أسرار من يوالونهم ، ويخونون حقوق الموالاة, بل هم مجتمعون على إيذاء المؤمنين ، بكل السبل, سواء بقوَّتهم وسلاحهم , أو  بألسنتهم ، وإن تظاهروا بغير ذلك من   كراهيتهم للحق وأهله .

 

إن المعركة مع أعداء الدين الإسلامي ، لن تتوقف ، وإن الصراع بين الحق والباطل باق إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها كما قال سبحانه : ﴿ ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ﴾البقرة   217.  فهم لا يريدون للإسلام ، أن يحكم   ويعطي كل ذي حق حقه ، لذلك اجتهدوا في محاربته ، ورد الحق بالباطل    لأنهم يريدون أن نكون مثلهم ، كما قال تعالى : ﴿ ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء ﴾النساء 89  ولكنهم لن يفلحوا ، لأن الدين  باق ، والله متم نوره ولو كره الكافرون .

 

إن الصد عن سبيل الله ، مشكلة قديمةً وحديثةً، وإن أعداء ديننا ، سواء كانوا كافرين ، أو منافقين ، أو أهل كتاب ، فإنهم يتربصون الدوائر، بالإسلام والمسلمين ، ويترصدون المسلمين الصادقين في كل مكان ، ليصدوهم  ويفتنوهم عن دين الله، فهو إذن ، صراع منذ بدء الخليقة ، ومع كل الأنبياء ، وعبر العصور والأجيال ، وحتى يومنا هذا  وسيبقى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها   والصدُّ عن سبيل الله ، جرثومةٌ قديمة، زَرَعها الكفَّار قال تعالى﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ﴾ فصلت 26 ، ومن صور هذا الصد ، أن يُسمى المسلمون اليوم ، بالإرهابيين والمتطرفين  وغيرها من المسميات، لا لشيء ، إلا لكونهم آمنوا بالله ، وجاهدوا في سبيله  والصدُّ عن سبيل الله ، معركة متجدِّدة  وعداوة باقية، وأسلوبٌ متواصاً به، عُودِي به الأنبياء أزمانًا، واشتكى الصالحون منه دهورًا ، قال تعالى : ﴿ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ﴾الذاريات53 . والصدُ سبيل المفسدين وحِيلة المجرمين، باقٍ ما بَقِي للحقِّ صوتٌ وأعوان، ورغم ذلك ، سيبقى الحقُّ ما بَقِي الليل والنهار  روى الإمام أحمد  بسند صحيح عن أُبيِّ بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بَشِّرْ هذه الأمة بالسَّناء والرِّفعة والدِّين والنصر والتمكين في الأرض) فالعِزُّ والرِّفعة وظهور الحقِّ ، هو قَدَرُ الله تعالى لهذه الأُمَّة  ولن يخلوَ عصرٌ ، من عصور أمة الإسلام من طائفة تقوم بالحقِّ وتقول به، ولن يضرّ الدين ، هذا الصد عن سبيل الله ، مَهْمَا طالَ واشتدَّ، لأنَّ الله سبحانه قد اختاره   واصطفاه، ليبقى في الأرض، فقد روى التاريخ أحداثًا وصورًا ،كاد فيها الباطل وزاد، فذهب هو وكيدُه، وبَقِي نورُ الحق ، فقد روى أحداثاً ، في الصدِّ عن سبيل الله ذاق المسلمون فيها ، مواجع وفواجعَ  تفوق ما يعانيه المسلمون هذه الأيام ، لأنها وصلتْ إلى حدِّ التصفية ، حتى دبَّ اليأس في نفوس أهل ذلك الزمان ، يوم سقطت بغداد عاصمة المسلمين ، في عهْد العباسيين ، وقُتل فيها ما يُقارب مليوني مسلم، حتى قال بعض المؤرِّخين عن تلك الحقبة : "لن تقوم للإسلام بعده قائمة".  ولكن أمة الإسلام لن تموت ، وإن الدين لا بد منصورٌ، والحقُّ ظاهر ، فتاريخ الإسلام حافل بالمواجهات ، بينه وبين أعدائه  والمتآمرين عليه ، وفي كل مرة يخرج منتصرا ، قال تعالى : ﴿ إنَّهُم يَكِيدُونَ كيدا  وَأكيدُ كيدا ، فَمَهِّلِ الكَافِرِينَ أَمهِلهُم رُوَيدا ﴾ فقد خاض حرباً ضد التآمر الوثني ، والتآمر اليهودي ، والتآمر الصليبي ، والتآمر المجوسي ، فانتصر الإسلام ، وسقط التآمر والمتآمرون . لأن الإسلام دين الحق ومنهج الحق، وصراعه مع الباطل صراع أبدي شعاره قول الله سبحانه﴿ بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ﴾ وقول الله تعالى : ﴿ وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا ﴾ فكم بذلوا من المليارات ، للصد عن دين الله ، وتنصير المسلمين، وتشويه دينهم! وكم عقدوا لهذه الغاية من المؤتمرات ، فخيَّب الله مسعاهم بل غزاهم الإسلام بنوره وهداياته في بلادهم حتى قال أحد بابوات الفاتيكان ، قولته المشهورة: "هيا تحرَّكوا بسرعة لوقف الزحْفِ الإسلامي الهائل في أوربا". ما يدل على أن الإسلام مستهدف  وأن أعداء الأمة يغيظهم اتباع منهج الله ، فسعوا إلى إذكاء الأحقاد المذهبية لتحقيق ما يصبون إليه ، بأعمالهم الإجرامية ، مستحلين الدماء المعصومة  ومنتهكين حرمة بلاد المسلمين  فتراهم لا يأبهون بإزهاق الأرواح ، ولا يتورعون عن انتهاك حرمات الله ، ولا يعظمون شعائره ، ومن يرى أعمال الصادين عن سبيل الله ، يجدها لا تخدم إلا الأعداء  لأنهم يتحينون الفرص ، التي تكون فيها الأمة ، مشغولة ببناء نهضتها ، ودفع أعدائها ، ليكونوا أداة هدم وتخريب  وإشاعة للفتنة والفوضى ، ولكن الله لهم بالمرصاد ﴿ وما الله بغافل عما يعملون﴾ يسجل عليهم معرفتهم بالحق الذي يكفرون به ، ويصدون الناس عنه ، فقال الله تعالى : ﴿ لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا ﴾ إنها لفتة قرآنيةٌ ذات مغزى كبير  تدل على أن سبيل الله ، هو الطريق المستقيم ، وما عداه عوج غير مستقيم  وحين يصد الناس عن سبيل الله ، وحين يصد المؤمنون عن منهج الله ، فإن الأمور كلها تفقد استقامتها ، والموازينَ تفقد سلامتها ، ولا يكون في الأرض إلا العوج  الذي لا يستقيم ، وظهور الفساد بأشكاله وألوانه ، فساد الفطرة بانحرافها ، وفساد الحياة باعوجاجها ، وفساد في التصور والسلوك والمعاملات  وفساد ما بين الناس من ارتباطات ، وفساد الصادين عن سبيل الله   الذين مع الكفار ، في حربهم الظاهرة والخفية ، ضد الإسلام والمسلمين ، وكثيراً ما نشاهد من يتكلمون ، في وسائل الإعلام المسموعة والمرئية ، باسم الدين  وهم يعيثون في الأرض فساداً ، همزاً ولمزاً ، وغمزاً وسخرية ، وخيانة وتآمرا  تفضحهم أفعالهم وتصرفاتهم ، لأن ظاهرهم ، يخالف باطنهم ، وما ينخدع بهم إلا الجاهلون  لأنهم كما قال تعالى : ﴿ يَاًمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المَعْرُوفِ ﴾التوبة 67. وصدق ابن القيم رحمه الله في وصفهم : "فلله كم من معقل للإسلام قد هدموه، وكم من حصن له قد قلعوا أساسه وخربوه، وكم من عَلم له قد طمسوه، وكم من لواءٍ له مرفوع قد وضعوه... وقال : فلا يزال الإسلام وأهلُه  منهم ، في محنة وبلية، ولا يزال يطرقه من شُبَهِهِم ، سرية بعد سرية ، ويزعمون أنهم بذلك مصلحون ، وقد وصفهم الله بقوله : ﴿ ألا إنهم هم المفسدون، ولكن لا يشعرون﴾  وقال رحمه الله: احذر من عدوين ، هلك بهما أكثر الخلق : صادٌ عن سبيل الله بشبهاته ، وزخرف قوله ، ومفتون بدنياه. لذلك ينبغي التصدي لهم بكل الوسائل الرادعة ، لأنهم خطر دائم  يتهدد معالم الإيمان والدين .

 

 

 

 جريمة الفساد

 إن محاربة الفساد ، من أهداف الإصلاحات الأولى، لأن الفساد هو المصيبة الكبرى في أي مجتمع، يكون  المفسدون فيه فوق المسائلة ، ويترافق فيه الظلم مع الفساد، لهذا عاقب الله بني إسرائيل، لأنهم كانوا إذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ، وإذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وقد جاءت النصوص تحذِّر من الفساد ، وأن الله لا يحب أهل الفساد فقال تعالى : ﴿ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ ﴾البقرة 205 كما حذَّر من الإفساد في الأرض بعد إصلاحها فقال تعالى: ﴿ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا﴾الأعراف56. ودعا الله عباده إلى الاتعاظ والاعتبار بأحوال الأمم السالفة ، وما أحلَّه الله بهم من عواقب وخيمةٍ ، ونهاياتٍ أليمة فقال تعالى:﴿ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾الأعراف103، ونهى   عن اتباع كل مفسد وطاعته؛ قال تعالى:﴿ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ ْالمُفْسِدِينَ﴾الأعراف142، وأخبر الله تعالى أن فساد العباد فسادٌ للأرض والبلاد   قال تعالى : ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾الروم 41 . فالفساد لا يظهر إنما يظهر أثره  ، لذلك يفضح الله أهل الفساد ، فيروا أثار ما عملوا، من فساد في العقائد والعبادات، وفساد في الأخلاق والمعاملات، وفساد في معايش الناس ونقصها ، وحلول الآفات بها، فعم الفقر  ومنع القطر، وقل الزرع، وفساد في الأنفس   والأخلاق ، بارتكاب الموبقات، وانتشار المنكرات، وفساد في المعاملات والعلاقات، فظهر عقوق الأبناء للآباء والأمهات، وعقوق الوالدين لأولادهم، وفشا سوء العشرة بين الأزواج والزوجات، وتسلط الظلمة على الضعفاء ، والساسة على المسوسين، والحاكم على الرعية، كل ذلك بسبب ما عملت الأيدي ، من الأعمال الفاسدة المفسدة ﴿ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا ﴾ فعجل لهم نموذجا من جزاء أعمالهم في الدنيا ﴿ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ عن أعمالهم، ويتوبون إلى ربهم ، بترك السيئات  وعمل الطاعات، لتصلح أحوالهم، في الوقت الذي تكاثر فيه المفسدون   وتعدَّدت راياتهم، وتفننوا في ابتكار صنوف الفساد والإفساد ، في كل الميادين، صفة ملازمة لهم ، لأنهم لا أمانة لهم. ولهذا نراهم يتساقطون في دركات الخيانة ، وغِش الأمة لتحقيق مصالح شخصية ، وما أسهل أن يبيع المفسد دينه ، ويخون أمته! فترى المفسدين يقْلِبون الموازين  ويزيفون الحقائق ويُسمُّون الأمور بغير مسمياتها؛ ويدّعوا أنهم لا يفسدون ، ولكنهم يصلحون ، وأي صلاح في عدم اتباع منهج الله ، ولهذا قال الله تعالى في وصفهم: ﴿ وَإذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ  أَلا إنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لا يَشْعُرُونَ﴾البقرة 11 وإذا نظرنا إلى الواقع الذي نعيش، نرى أن الفساد أدى إلى أكل أموال الناس بالباطل ، والتعامل بالربا، وطلب الرشوة أو أخذها ، والاعتداء على حقوق الآخرين ، بسرقة أو نحوها، واحتكار المواد الغذائية ، وخاصة الضروري منها ، في غياب الرقابة الرسمية والشعبية ، على المستويين الإداري والمالي ، كما يلجأ المُفسدون؛ إلى قَلْب الحقائق، وتزييف الأمور، وطَمْس الحق وتزيين الباطل ، ويرون الحقَّ باطلاً  والباطلَ حقًّا، والإيمان كُفرًا، والكفر إيمانًا  والنصر هزيمة، والهزيمة نَصْرًا ، والذلَّ عِزًّا والعِزَّ ذُلاًّ، فسقطت البلاد في مستنقعات الفساد ، واستضعَف المفسِدون شعوبهم فأسرفوا في التعدي على حرمات الدين  وحقوق المجتمع ، وكرامة الإنسان ، فلا تخلو المؤسسات الخدماتية من الفساد    وحتى الجمعيات الخيرية ، حيث الرواتب الخيالية التي يتقاضاها مدراءها ، وتوظيف أقربائهم وأبنائهم ، على سلم هياكلها الإدارية ، بالإضافة إلى التقارير، التي تتحدث عن الفساد ، في المؤسسات الرسمية ، في ظل الخلل في الأداء الرقابي الداخلي ، وتزايد شكاوي المواطنين ، دون النظر بها، وهو ما يؤشر إلى ترابط منظومة الفساد ، وغياب منظومة النزاهة، وتحالف الجهات المتلاعبة ، بمصير البلاد والعباد   من أجل غايات شخصية ، وتحقيق مكاسب مالية ، بطريقة غير مشروعة، لبعض السياسيين المتورطين بالفساد ، دون أن يحاسبهم أحد ، وهناك من نهبوا الأموال  وهربوا ، ليتمتعوا بها في الخارج ، بعيداً عن الملاحقة القانونية ، واسترداد الأموال المنهوبة ، مما يؤكد الحاجة الماسة إلى الإصلاح الدستوري والقضائي ، لملاحقة الفاسدين ، وتقديمهم لمحاكمات عادلة  وإلا سيجد الفاسدون مئات الثغرات ، في القوانين ، لينفذوا منها, ويمارسوا فسادهم  ويبقى المواطن هو من يدفع الثمن  في حياة لا تطاق ، إذ أفقدونا الأمل في حُلمنا   وأسكنوا اليأس في نفوسنا ، وألبسوا الحزن على وجوهنا ، وقتلوا الفرحة في قلوبنا  وسرقوا السعادة من عمرنا ، لأن الفساد من أسوء الأمراض الخبيثة والمستشرية  والناخرة في المؤسسات ، لسوء استخدام المنصب والسلطة واستغلالها ، من أجل تحقيق مصالح وامتيازات خاصة ، وإن الدعاوى بالقضاء على الفساد ، لا بُدَّ أن تُصَدِّقَها الأعمالُ  بإقامة العدل ، وردع الظالمين والمفسدين ، لأن الله يحفظ الحياة ، بالذين ينهون عن الفساد في الأرض ، لأنهم يعملون على ضوء منهج السماء ، الذي يعود بالخير على مخلوقات الله ، لا على الله ، ألا نقرأ قول الله ﴿ والسماء رفعها ووضع الميزان ، ألا تطغوا في الميزان ﴾ بمعنى تجاوز الحد في الجور والتعدي والفساد ، ومن اعوجاج الميزان  أن يأخذ الفاسد خير الكادح ، ويراه الناس وهو يحيا في ترف ، من سرقة الكادح  فيفعلون مثله ، فيصير الأمر إلى انتشار الفساد ، وينزوي أصحاب المواهب فلا يعمل لأكثر من حاجته ، لأن ثمرة عمله إن زادت ، فهي غير مصونة بالعدالة ، وهكذا تفسد حركة الحياة ، وتختل الموازين وتتخلّف المجتمعات عن ركب الحياة وفي هذا يقول الله سبحانه : ﴿ فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ ﴾هود 116،أي لولا أن كان في الناس بقية من الخير ، وبقية من الإيمان ، وبقية من اليقين ، ينهون عن الفساد في الأرض ، لولا هم لخسف الله الأرض بمن فيها ، ولذلك لم يترك الله الرغبة في إصلاح الناس ، إلى أهوائهم ورغباتهم ، بل رسم لهم طريقاً يسيرون عليه في حياتهم ، وهو ما أرسل به رسله ، وأنزل به كتبه ، فتضمن هذا الطريق  صالح البشرية ، إلى أن تقوم الساعة؛ فلا صلاح ولا إصلاح  إلا باتباع هذا الطريق المرسوم، قال تعالى: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرٰطِي مُسْتَقِيمًا فَٱتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ﴾الأنعام 153 لأن الإصلاح لا يتحقق في الأرض ، إلا أن نتناصح فيما بيننا، وأن نأخذ على أيدي السفهاء، وأن نحرص على طهارة النفوس ، من أدران الذنوب والمعاصي، والبعد عن الحرام بشتى صوره، وأن نرجع إلى الله تعالى، وأن نتوب إليه، وفي ذلك النجاة بإذن الله تعالى في الدنيا قبل الآخرة ، ولا يكون ذلك إلا بتطبيق شرع الله ، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، وإقامة الحدود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴾الحج 41 .  

زمن الرويبضه

أننا نعيش في زمان كثرت فيه الفتن والبلايا وعظمت فيه المحن والرزايا ، ونطق الرويبضات ، زمن قيل للحق باطل   وللباطل حقاً ، وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عما سيقع  في آخر الزمان  في الحديث الذي روي عن أنس بن مالك وأبي هريرة  قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(سيأتي على الناس سنوات خداعات  يُصدَّقُ فيها الكاذبُ، ويُكذَّبُ فيها الصادقُ ، ويُؤتمن فيها الخائن   ويُخوَّن فيها الأمين، وينطق الرُّويبضة)، قيل: وما الرَّويبضة ؟ قال:(الرجل التافه يتكلم في أمر العامة) . التافه : هو الخسيس الحقير . والرويبضة : من انحرف وراء فكر ، لا يجيز لغيره أن يناقشه فيه ، وهو السفيه الذي يتكلم في أمر العامة ، وليس عنده دين ولا عقل ولا حكمة ، يتحدث بلغة أهل العلم والفهم ، وهو في حقيقة الأمر، لا علم لديه ولا فقه ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ( يَخْرُجُ في آخِرِ الزَّمَانِ  قَوْمٌ أَحْدَاثُ الأَسْنَانِ  سُفَهَاءُ الأَحْلاَمِ ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ النَّاسِ ، يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ ، لاَ يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ   يَمْرُقُونَ مِنَ الإِسْلاَمِ  ،كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ  فَمَنْ لَقِيَهُمْ فَلْيَقْتُلْهُمْ ، فَإِنَّ قَتْلَهُمْ أَجْرٌ عِنْدَ اللهِ لِمَنْ قَتَلَهُمْ )أخرجه أحمد والتِّرمِذي وصححه   الألباني في صحيح الجامع .

إن من يطلقون هذا الوصف على من آمن بأن اختلاف وجهات النظر، مأنوس في تراثنا ، مقبولٌ في مسالكنا ، مأجورٌ عند الله سبحانه ، خطأً كان أم صوابا ، هو غيبة ونميمة ، تنم عن حقد دفين ، ومن يطعنون في المسلمين باسم الإسلام ، ويصفون من يقوم بتبيان الأحكام الشرعية بأدلتها التفصيلية ، بالرويبضة التافه ، كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً  يتيهون ويهيمون ، وليتهم عرفوا مدلولها الشرعي ، إنها حجة عليهم ، ديدنهم الكذب ، وشعارهم التدليس، لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة ، إذا رأوا عالماً أو طالب علم ، لا يوافق أهوائهم ، ولَغوا في عرضه  فتارة يتغامزون، ويهمزون ويلمزون ، وهم غافلون عن قول الله لاهون :﴿ وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ ﴾ وقوله:﴿إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُون ﴾  المطففين29. إنه زمن القابض فيه على دينه  ،كالقابض على الجمر ، زمن تصديق الكاذب ، وتكذيب الصادق  وائتمان الخائن ، وتخوين الأمين ، وكأن الدين من قلوب الناس قد انعدم ، والإيمان قد زال منها وانثلم ، ولقد أحسن من قال :

وكم فصيحٍ  أمات الجهلُ  حُجَّتَهُ  وكم صفيقٍ لهُ الأسـماعُ  في رَغَدِ

دار الزمان على الإنسان وانقلبَتْ   كلُّ الموازين واختلَّـتْ بمُســتندِ

أمَّا الذيـن كتـاب الله منهجهمْ        فهُمْ منـابرُ إشــعاعٍ بلا مَـدَدِ

ما ضرَّهم أبداً إسفاف من سفهوا   أو ضرَّهم أبداً  عقلٌ  بدون يــدِ

قال ابن تيمية رحمه الله: " إنما يفسد الدنيا ثلاثة أنصاف : نصف فقيه ، ونصف طبيب ونصف نحوي . فنصف الفقيه يفسد الدين ونصف الطبيب يفسد الأبدان ، ونصف النحوي يفسد اللسان " في زمن الرويبضة يصبح من لا عقل لهم ولا حِلم لديهم ، هم أهل الوجاهة والقيادة والاحترام، ويصبح العقلاء الحكماء الحُلماء هم الغرباء   أولئك التافهون ، الذين تعجبك أشكالهم  وأجوافهم فارغة ﴿ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّده ﴾ في هذا الزمن نرى العجائب ، نرى من يتصدر الناس بلسانه وقلمه ، ليوجه التهم ويصدر الأحكام في أمور تمس الناس عامة ، ولو كان لا يفهم فيها شيئاً ، ورحم الله محمد الغزالي إذ قال : الويل لأمة يقودها التافهون، ويخزى فيها القادرون " فالتافه رغم تفاهته ، قد شحذ لسانه ، وأشهر قلمه ، لا ليتحدث فيما يعنيه، لأن التافهون ، معروفون بقصور فهمهم ، لا يهمّهم أمرُ الدينِ في شيء  لأنهم أصحاب أهواء دنيويّة ، ومصالح شخصية ، يرفعون رايات الجاهليّة ، ويدعون إلى المبادئ الضالّة الهدّامة ، ويحاربون الإسلام بكل الوسائل ، إنّهم أئمّة الضلال الذين ابتليت بهم هذه الأمّة ، وأتباع الأهواء والشهوات ، وقادة الضياع الفكريّ  والانحراف السلوكيّ ، والإفساد الأخلاقيّ في الأرض ، حتى يئس البعض ، من صلاح أحوالها ، ولسان حاله يقول ما قاله شعبة :"عقولنا قليلة ، فإذا جلسنا مع من هو أقل عقلا منا ، ذهب ذلك القليل ، وإني لأرى الرجل يجلس مع من هو أقل عقلا منه فأمقته" . ولقد حرّم الإسلام تحريما شديدا أن يستغل صاحب المنصب  منصبه لتحقيق مصالح ومنافع شخصية  وهذا ما نبه إليه النبي عليه السلام ، في الحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة   قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إذا ضُيعت الأمانة فانتظر الساعة) قال:كيف إضاعتها يا رسول الله ؟ قال : إذا أُسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة). والأمانة تقضي ، بأن نختار للأعمال   أحسن الناس قياما بها ، فإذا أسندت للرويبضات ، فقد ارتكبنا خيانة فادحة  واستنادا إلى مجمل النصوص في هذا المجال ، وإلى القواعد العامة في الشريعة ومقاصدها، ذهب علماؤنا المحققون الصادقون من السلف والخلف ، إلى وجوب اختيار الأكفأ ، في عملية تولية المناصب ، وشدد على أهمية العناية بأمانة المناصب ، بالعديد من الأوامر والنواهي التي إن روعيت ، فسوف تتحقق مصالح العباد والبلاد، من جلب للمصالح والمنافع  ودرء للمفاسد والمصائب ، التي تقع بسبب الخيانة ، وتضييع الأمانة قال تعالى: ﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون ﴾الأنفال   27 . فالأمة التي لا أمانة فيها ، هي التي تهمل أصحاب الكفاءات والخبرات ، ولا تختار لكل عمل أهله ، ولكل ميدان فرسانه ، فإذا قام بالعمل من ليس له بأهل, فالننتظر  الساعة. لإن إسناد الأمور إلى غير أهلها خيانة ، من علامات الساعة ، ونحن مأمورون ، بمدافعة تلك العلامة ، بأن نسعى إلى أن نُسنِد الأمر إلى أهله ، لنحقق بذلك الأمانة في قوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ﴾النساء 58. ومن أعظم الخيانات ، إسناد الأمور إلى غير أهلها، لما في ذلك من الظلم للأكفأ ، لذا أمر الله سبحانه بأداء الأمانة إلى أهلها ، ومن يخالف أمر الله تعالى ،ويتبع هواه ، فهو ممن عناهم الله بقوله : ﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾القصص 50.

 لذا وضع الإسلام أسسا وقواعد لتولي وتقلد المناصب والأعمال، من بينها الأمانة والعلم والكفاءة والمقدرة ، والتفريط فيها بتسليمها للرويبضة ، يُعَد خيانة عظيمة. ولذلك لما سأل أبوذر رضي الله عنه الرسول عليه السلام ، لماذا لا يستعمله ، قال له : ( يا أبا ذر! إنك ضعيف ، وإنها أمانة   وإنها يوم القيامة ، خزي وندامة ، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها )  رواه مسلم. إذاً هناك شرطان لتولية الوظيفة : الأهلية لها، والوفاء بمتطلباتها كما ينبغي  أما الكفاية العلمية أو العملية ، فليست لازمة لصلاح النفس، فقد يكون الرجل رضي السيرة، حسن الإيمان ، ولكنه لا يحمل من المؤهلات المنشودة ، ما يجعله منتجا في وظيفة معينة ، فإذا ملنا  لغيره  لهوى أو رشوة أو قرابة ، فقد ارتكبنا  بتنحية القادر ، وتولية العاجز ، خيانة فادحة  وقد رُويت أحاديث ، تحذر من الخيانة في تولية المناصب للرويبضات ، تحذيراً شديداً وتُرهّب منه ترهيباً مخيفاً، لما روي عن النبي عليه السلام أنه قال :(من استعمل رجلا على عصابة ، وفيهم من هو أرضى لله منه  فقد خان الله ورسوله والمؤمنين) رواه الحاكم في المستدرك    

 

 

زنا العينين

خلق الله الإنسان ، وخلق فيه شهوة الفرج وحدّ لها حدوداً ونظمها ، ونظم لها طريق الحلال ، وحذّر من طريق الحرام ، بل حذّر من القرب من الحرام مخافة الوقوع فيه   لأن َكَثِيراً مِنَ النَّاسِ ممن َقَلَّ حَيَاؤُهُمْ   ينظرون إلى المحرّم ، غَيْرَ مُبَالِينَبماورد في القرآن والسنة النبوية ، من النصوص التي تنهى المؤمن ،ألا ينظر إلى محرّم ولا ينقل القول الفاحش ، ولا يشيع ذلك بين الناس، أخرج البخاري ومسلم عن ابن عباس ، قال : ما رأيت شيئا أشبه باللمم – كل ما دون الزنا- مما روي عن أبي هريرة : ( إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا ، أدرك ذلك لا محالة ، فزنا العينين النظر ، وزنا اللسان النطق ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي -تمنيها واشتهائها الزنا الحقيقي- وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ) ولقد أحسن القائل :

كـل الحوادث مبدأها من النظر     ومعظم النار من مستصغر الشرر

كم نظرة فتكت في قلب صاحبها   فتك الســهام بلا قوس ولا وتر

والعبــد ما دام ذا عين يقلبها        في أعين الغيد موقوف على الخطر

     يسـر مقلته ما ضـر مهجـته     لا مـرحبا بسرور عاد بالضـرر

 وقد أنعم الله علينا بنعمة السمع والبصر   فقال تعالى : ﴿ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ﴾الملك 23، وشكر هذه النعمة ، من أوجب الواجبات   لذا  يتحتم علينا أن نستحي من صاحب هذه النعمة ، وأن نراقبه فيها ، فلا ننظر إلى ما حرّم الله ، وأن نسخرها فيما يرضي الله  

وسوف نُسئل عما رأيناه بأبصارنا قال تعالى

: ﴿ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً﴾ ولما كان إطلاق البصر سببا لوقوع الهوى في القلب ، أمر الشارع بغض البصر، عما عمّا حرّم الله تعالى ، وعن محلّ الشهوة ، لأن قضية الجنس قضية دقيقة ، لأنها شهوة ذات قوة جذب لا يمكن أن ينجو منها الإنسان ، إلا إذا أبقى بينه وبينها هامش أمان، لذلك لم يرد في القرآن آية تنهى عن الزنا ، ولكنها جاءت تنهى عن الاقتراب من الزنا، كإطلاق البصر     ومتابعة الأفلام الإباحية ، فهذه محرمة   لأنها الطريق الموصل إلى الفاحشة ، ولأن إطلاق البصر ، سبب لأعظم الفتن، فكم فسد بسبب النظر من عابد، وكم انتكس بسببه من شباب وفتيات كانوا طائعين، وكم وقع بسببه أناس في الزنى والفاحشة   فالعين مرآة القلب، فإذا غض العبد بصره غض القلب شهوته وإرادته، وإذا أطلق العبد بصره ، أطلق القلب شهوته وإرادته، فيشغله ذلك عن الفكر فيما ينفعه في الدار الآخرة.

فيا أيها الإنسان ، لماذا تتجاهل أن الله يراك أينما كنت ، ويعلم ما تخفي وما تعلن فقال  : ﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ ويا من جلست أمام المشاهد الفاضحة   لترى الرجال والنساء ، يرتكبون الفواحش المغلظة ، بأبشع صورها وأفضح مناظرها   ما تستنكره الفطر السليمة ، والأعراف المستقيمة ، لماذا وأنت تتلذذ بالنظر إلى الأجساد الفاضحة ، تتناسى أن الله جل وعلا من فوقك ، مطلع عليك ، يرى حركاتك وسكناتك ، ويرى عيناك ، وهما تحدِّقان بالفاحشة ، ويرى سمعك وهو يتمتع بأصوات البغايا ، وأنت غافل أو متغافل عن رقابة الله لك ، وشهود الله عليك ومنها جوارحك ، التي ستشهد عليك يوم القيامة ، قال تعالى :﴿ يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية ﴾ يوم تتكلم الجوارح وتشهد عليهم ، قال تعالى : ﴿ حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون﴾ فيخاطب المرء جوارحه ﴿ وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا﴾ ، ﴿ قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء ﴾ فأين استشعار شهود الله عليك ؟! وأين استشعار رقابة الله لك ؟! وأين الحياء من الله ؟! ألا تستحي أن يراك الناس أو أحداً من أهلك ؟! فمن أحق بهذا الحياء   أليس الله أحق بذلك ؟ ألا تذكر اطلاع الله عليك عندما اختفيت عن أعين البشر ؟ لترى تلك الصور ، ألا تتذكر مَنْ لا تخفى عليه خافية ، ولقد أحسن من قال :    

 إذا خَلَوتَ بريبـة في ظُلمةٍ       والنفس داعيـة إلى العصيان

فاستحي من نظر الإله وقل لها   إن الذي خلق الظلام يراني

إن الأمر خطير ، والاستمرار عليه اخطر لأن حكم هذا المشاهد الساقطة والمقززة  محرمه بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإجماع المسلمين، فإن الله جل وعلا ، قد حرم مجرد النظر إلى النساء الأجنبيات أو مخالطتهنَّ ، ولو لم يكن في ذلك شيء من الفاحشة؛ كما قال تعالى:﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ﴾ وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تتبع النظرة النظرة فإن الأولى لك والثانية عليك ) رواه مسلم. فإذا كان هذا النهي عن النظرة العادية ، فإن حكم مشاهدة الأفلام الإباحية ، ولا شك التحريم القطعي ، الذي لا ريبة فيه ، لمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، وإذا كان هذا حكم مشاهدتها ، فكيف بإشاعة هذه الفاحشة بين الشباب ، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ﴾النور .

هذا العذاب للذين يحبون إشاعة الفاحشة بين المسلمين ، فكيف بمَن يقوم ببث ذلك في بيوت المسلمين؟!إنها ولا شك أشد حرمة ، وان عليه وزرها ووزر من عمل بها    قال صلى الله عليه وسلم:( من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً. ومن دعا إلى ضلالة كان عليه وزر من تبعه لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً ) رواه مسلم .

إن مشاهدة الأفلام الإباحية والاستمرار عليها ، يفضي إلى ما هو اشد حرمه  كطلب الجماع فيما حرّم الله ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا ينظر الله إلى رجل أتى امرأته في الدبر) أخرجه ابن أبي شيبه والترمذي وحسنه وللأسف إن كثيرا ممن ابتلي بمشاهدة هذه الأفلام الساقطة ، يشتهي أن يطبق ما يراه فيها، والواقع خير شاهد على ذلك.

 وقد أثبتت الدراسات النفسية ، أن من يشاهد الأفلام الإباحية ، تتأثر نظرته للعلاقة الجسدية ، ولا يحصل على الإشباع الذي يحصل عليه ، من لا يشاهد هذه الأفلام.

كما أن المدمن على مشاهدتها ، ينتهي به الأمر إلى أن زوجته لا تثيره جنسيا ، ولا تحرك شهوته ، وإن كانت أجمل الجميلات   لأنّ الشّيطان يريد أن يُلبس عليه، وأن يضِّله وأن يوقعه في المعصية ، وقد تؤدي إلى انعدام الرّغبة في الزّوجة، وقد يؤدي ذلك إلى طلاقها ، لذا يحرم النظر إلى الصور الإباحية ، سواء كان عن طريق التلفزيون أو المجلات أو غيرها من الوسائل ، وهو من الجرائم المنكرة ، والأخلاق الدنيئة ، ويعظم التحريم ، لأن النظر إلى هذه الصور ، فيه مفاسد كثيرة ، منها تزيين الفاحشة ، وزهد الرجل بامرأته والمرأة بزوجها ، ومن أدخلها إلى بيته أو رضي بها فهو مضيع للأمانة وفيه نوع دياثة والعياذ بالله.

ومن نظر إلى هذه الصور وداوم على مطالعة هذه المواقع قاده ذلك إلى الاستغناء بهذا عن الزواج المباح، أو التقصير في حق زوجته ، وقسوة قلبه،وزهده في الحلال، واشتياقه لمواقعة المحرم ، لأن الرجل الذي يرى هذه الصور والأفلام الإباحية قد لا تعجبه بعد ذلك زوجته فيكرهها وينبذها ويستغني عنها ويشعر باشمئزاز منها ، والخطر أنّها تقود إلى تقويض العلاقات الأسرية بشكل عام، كأنّ يمل الرجل من زوجته . الأمر يبدو واضحا إذا علمنا أن مدمن الخيال و الأحلام و مهما امتلكت زوجته من مقومات الجمال فسيملها ولن تبلغ في درجة إقناعه ما وصلت إليه أولئك النساء اللاتي يراهن في الأفلام ، وقد يغويه الشيطان ، فيبحث عن مصدر آخر للاستمتاع ، ظنا منه أن المشكل يكمن في زوجته ، فيتزوج عليها ، وإن كان ضعيف الدين ، يبحث عن خليلة تطفئ ظمؤه   وهذا خيانة للزوجة ، ولا يدري أنه إن عاشر نساء الدنيا كلها ، فلن يصل إلى الإشباع الذي يبحث عنه ، ولهذا روج أعداء الإسلام وصناع الإباحية هذه الأفلام إلى بلاد المسلمين وأنشأوا قنوات متخصصة في هذا البلاء   لزعزعة استقرار الأسر وتدميرها .

 

 

صلاحية الإسلام لكل الأزمان

يتحدّث الكثير من أبناء المسلمين عن خطورة التحديات المعاصرة ، وصعوبة التغلب عليها ، فقالوا بعدم صلاحية شريعة الإسلام ومنهجه ، في هذا العصر الذي تواجه تحدياته العلمية والحضارية العالم الإسلامي ، وتجاهلوا أن مواكبة العصر لا تكون بمخالفة أحكام الله وشرعه ، وتقليد كل كافر وفاجر، وأن المطلوب إخضاع الواقع لشريعة الإسلام ، لا مسايرته وموافقته  وإن اتهام الإسلام وأهله ، بالجمود والتطرف ، دعوى يرددها أعداء الإسلام فهل يرضى المسلم أن يكون في صفهم؟ ولماذا لا يتدبَّر قول الله تعالى :﴿ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ المائدة 51 ، ولماذا لا يحكِّم عقله في الأمور، ويسأل أهل العلم فيما يستجد، فإن قالوا فيها حكم الله ، فلا يجوز أن يتهم الإسلام ، وما يتهم الإسلام إلا جامد ومتطرف، ومن هذا حاله فقد خلع ربقَة الإسلام وخرج من الملة.

إن الدين الإسلامي ، صالح لكل زمان ومكان؛ وقد سبق في علم الله ، أن رسالة الإسلام هي الخاتمة، والله سبحانه يعلم متغيرات الحياة ، وتبدّل المجتمعات إلى قيام الساعة، وهذا يعني ، أن هذا الدين صالح لكل زمن ، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، والتشريع الإسلامي ، شامل متكامل؛ قال تعالى:﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً ﴾المائدة 3. فلا ينبغي للمسلم ، أن يتنازل عن المحافظة على (أسلمة) الفكر ولا مانع من عصرنة الأسلوب ، لا عصرنة الإسلام. لأن أساسيات الدعوة ، لا تتغير  إنما يتغير الأسلوب ، ليتلاءم مع طبيعة المجتمعات، مع مراعاة اختلاف البيئات   لأن شريعة الإسلام في أصلها ، تناسب كل العصور، وإذا كنا لا نستطيع تطبيق شريعة الإسلام  ،كما طبقها رسول الله  صلى الله عليه وسلم ، فهذا لا يعنى أن الإسلام غير قابل للتطبيق ، في كل زمان ومكان   فتطبيق الشريعة الإسلامية ، كان موجوداً ومطبقاً في الزمن السابق ، وإن عدم التمكن من تطبيقها هذه الأيام ، لا يعنى فشل الإسلام ، ولا يعنى أن الإسلام غير قابل للتطبيق ، مما يدل على أن العيب في المسلمين ، وليس في شريعة الإسلام ، لأن الأصل في أوامر الله وأحكامه ، هو الثبات والبقاء، ولا يملك بشر سلطةً ، فوق سلطة الله، حتى يلغي أحكامه .

وقد خاطب الله في القرآن ، البشرية جميعاً إلى يوم القيامة ، بلا تقييد بزمان دون زمان أو مكان دون مكان، وجاء كتابا مفتوحا يخاطب جميع العقول ، لا في عصر النزول   بل ممتداً لجميع العصور، ولم يأت القرآن بشيء يخالف العقل السليم، ولم يأت بشيء يؤخر الإنسان، وإنما أتى بما يرقى بعقل الإنسان ، في كل مجال من مجالات الحياة ، في حدود ما أحله الله ، ومن يطبق القرآن ويعمل به ، ينل خير الدنيا والآخرة  وقد صرح بذلك البروفسير –إيرفنج- الأستاذ بجامعة –تنسي الأمريكية- حينما وقف مخاطباً للمسلمين فقال: تعلَّموا الإسلام وطبقوه ، واحملوه لغيركم من البشر تنفتح أمامكم الدنيا، ويدين لكم كلُّ ذي سلطان، أعطوني أربعين شاباً ، ممن يفهمون هذا الدين ، فهماً عميقاً ، ويطبقونه على حياتهم ، تطبيقاً دقيقاً، ويحسنون عرضه على الناس ، بلغة العصر وأسلوبه، وأنا أفتح بهم الأمريكيتين " نقلاً عن قضية التخلف العلمي والتقني في العالم الإسلامي للدكتور زغلول النجار. أما من قال إن القرآن لا يستطيع مواكبة التطورات في كل عصر، لأنه نزل على مجتمع بدائي، فيرد عليه سيد قطب قائلاً: " إن شريعة ذلك الزمان ، الذي نزل فيه القرآن ، هي شريعة كل زمان، لأنها بشهادة الله ، شريعة الدين الذي جاء للإنسان، في كل زمان وفي كل مكان ، لا لجماعة من بني الإنسان ، والله الذي خلق الإنسان ، وعلم من خلق ، هو الذي رضي له هذا الدين ، المحتوي على هذه الشريعة، فلا يقول : إن شريعة الأمس ليست شريعة اليوم ، إلا رجل يزعم لنفسه أنه أعلم من الله ، بحاجات الإنسان  وبأطوار الإنسان ". في ظلال القرآن .

إن القرآن كتاب الله ، الذي أنزله لهداية البشر، وتذكيرهم وإنذارهم ، وتبشيرهم وإخراجهم ، من ظلمات الضلال والمعاصي  إلى نور الهدى والطاعات ،  قال الله تعالى:﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَالبقرة 2  وقد تضمن القرآن الكريم التشريع الرباني ، الذي شرعه الله لبني البشر  وتعبدهم بالعمل به ، والتحاكم إليه ، قال   تعالى:﴿ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ الأعراف3 . وقد تضمن كل ما يحتاجه البشر، في دينهم ودنياهم، وما يحقق مصالحهم، قال  تعالى:﴿ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍالأنعام 38. وإذا كان الغرب يملك اليوم زمام العلم والتكنولوجيا ، والتقدم المادي ، ويقيم حضارته على أساسها ، بعيداً عن المبادئ والقيم والأخلاق، فإننا بالإسلام ، نملك ما هو أثمن من ذلك، نملك غذاء الروح والفكر، الذي تفتقده الحضارة الغربية  ونملك به ، أسس وقواعد ديمومة الدول  وسر بقائها، ولكن المشكلة هي: كيف نعرض شريعتنا، وكيف ندعو لقيمنا، وكيف نحاور بالتي هي أحسن ، هناك اختلاف  بين سلوكنا ، وبين مبادئنا ، وهذا ما يعيق دعوتنا ، ويؤخر مسيرة أمتنا ، لأننا في أمس الحاجة لتطبيق مبادئ الإسلام ، على أنفسنا  قبل أن نقدِّمها للغير، حتى ننجح في حوارنا مع الغرب والشرق، ومن واجبنا اليوم في علاقتنا مع الغرب ، أن نكون مؤثرين لا متأثرين، وفاعلين وصانعين للأحداث لا مستقبلين، حتى نعيد لأمتنا ، وجهها الحضاري والإنساني ، ودورها الايجابي المشرق، هذا لأن صلاحية دين الإسلام لكل زمان ومكان ، أمر مسلَّم به عند العقلاء ، فضلاً عن شهود الأدلة الشرعية عليه ، فهو خاتمة الأديان ، وهو الذي ارتضاه الله لنا ، قال تعالى : ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا المائدة 3 ، فكيف يحتاج الناس إلى غيره مع تمامه ؟ أم كيف يرجون الهدى في سواه ، ولا دين بعده ؟ وإن القرآن الكريم كتاب هداية وإرشاد للعباد  وليس كتابا لذكر عجائب الدنيا ، لأنه منهج لتقويم حياة الناس ، على أساس الرابطة بينهم ، وبين ربهم، قال سيد قطب في الظلال:" وإني لأعجب لسذاجة المتحمسين لهذا القرآن ، الذين يحاولون أن يضيفوا إليه ما ليس منه ، وأن يحملوا عليه ، ما لم يقصد إليه ، وأن يستخرجوا من جزئيات ، في علوم الطب والكيمياء والفلك وما إليها ، ليعظموه بهذا ويكبروه! والقرآن كتاب كامل في موضوعه، وموضوعه أضخم من تلك العلوم كلها ، وإن كل محاولة لتعليق الإشارات القرآنية العامة ، بما يصل إليه العلم ، من نظريات متجددة متغيرة أو حتى بحقائق علمية ، ليست مطلقة   تحتوي أولاً على خطأ منهجي أساسي ، كما أنها تنطوي على معان ثلاثة ، كلها لا يليق بجلال القرآن الأولى: الهزيمة الداخلية التي تخيل لبعض الناس ، أن العلم هو المهمين والقرآن تابع " . إن كتاب الله شامل كامل ويصلح في كل زمان ومكان ، ولا يعني ذلك أنه قد حوى جميع جزئيات الكون ، بل إنه تضمن أصول كل الأشياء وكلياتها ، وترك أمر هذه الجزئيات للعقول، قال الإمام الغزالي:" فتفكر في القرآن ، والتمس غرائبه لتصادف فيه مجامع علم الأولين والآخرين   وإنما التفكر فيه  للتوصل من جملته إلى تفصيله ، وهو البحر الذي لا شاطئ له ". وأخيراً : إن من جواهر القرآن ، أن الإسلام مؤهل بكل المقاييس  لمواجهة تحديات العصر الحديث، ومؤهل للتعاون باستمرار ، مع كل القوى المحبة للسلام ، والتقدم في العالم ، من أجل خير الإنسان وسعادته ، في كل زمان ومكان.

 

 

 

 طريق النصر

إننا نعيش في أيام أصبحت الأمة الإسلامية ومقدراتها مقصد الطامعين  فما هي طريق النصر عليهم ؟ وكيف ننتصر ؟ ومن هم جنود النصر ؟ ومن يقودنا ؟ إذا علمنا أن الدعوة إلى الله   لا تزال فارغة في خارطة العالم    فإذا قادها المسلون ، أحسنوا إلى الإنسانية ، وإلى أنفسهم والمؤمنون وحدهم في هذا العالم ، من يصلحون لقيادته ، لأنهم أصاحب عقيدة لا تزول ولا تتحوَّل ، ولأن المؤمن يحمل في جنبه قلباً يفيض حناناً ورحمة بالبشر ، دائم الحنين إلى ربه ، شديد الشوق إلى جنته ، لا يبالي أوقع عليه الموت أم على الموت وقع ، فهو إذن معقل الإنسانية ، ومنتهى الرجاء وأمين الله في الأرض ، وخليفة الأنبياء ، ولأن الله وعد بنصر المؤمن بهذه الصفات  فقال تعالى : } وكان حقاً علينا نصر المؤمنين {الروم 47 .

فما المطلوب من المسلمين حتى يكون لدعوتهم تأثيرها هذه الأيام   ويتوفر فيهم أهم شرط من شروط النصر، وهو الإيمان ، كما كان المسلمون في صدر الإسلام ؟ فقد كانت كلمة الإسلام التي كانوا يتلفظون بها ، ذات حقيقة ثابتة  والتي تحولت هذه الأيام ، إلى ألفاظ مجردة ، ونطق فارغ ، ولذلك لا نرى لها تأثيراً في حياة الأمة ، نرى من  يتوجهون إلى الله ، يطلبون أن يمنحهم النصر المبين ، والاستخلاف والتمكين ، كما منحه لأجدادنا السابقين ، وبذلك نخدع أنفسنا ، لأننا لا نتأسى بهم ، فقد كانوا أصحاب جدٍ وكانت كلماتهم وأفعالهم تمثل حقيقة الإسلام ، بينما نحن متجردين عن هذه الحقائق ، لقد تمثلوا حقيقة الإسلام في كل ميدان ، ففي معركة اليرموك كان المسلمون بضعة آلاف   أما الروم فقد كان عددهم يبلغ أكثر من مائتي ألف ، فإذا بنصراني كان يقاتل تحت لواء المسلمين يقول : ما أكثر الروم وأقل المسلمين ، فيقول خالد : " ويلك أتخوفني بالروم ؟ إنما تكثر الجنود بالنصر وتقل بالخذلان لا بعدد الرجال .. " ، فلماذا كان خالد مطمئناً ؟ ولماذا لم يشغل خاطره هذا العدد الهائل من جنود الروم ؟ لأنه كان مؤمناً بالله واثقا بنصره ، وكان يعلم أنه على الحقيقة ، وأن الروم صورة فارغةٌ عن الحقيقة ، وكان يعتقد أن الصورة مهما كثرت ، لا تقدر أن تقاوم حقيقة الإسلام ، وهكذا كان المسلمون شجعاناً أقوياء ، لا يهابون العدو ، ولا يخافون الموت  أتى رجلٌ من المسلمين يوم اليرموك وقال للأمير : إني قد تهيأت لأمري  فهل لك من حاجة إلى رسول الله e ؟ قال نعم تقرئه عني السلام وتقول : يا رسول الله إنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا . فهل يصدر هذا الكلام إلا من شخصٍ يوقن أنه مقتولٌ في سبيل الله  وإذا حصل له هذا اليقين ، فما الذي يمنعه من استقبال الموت ؟ وما الذي يحول بينه وبين الشهادة ، هكذا كان أصحاب رسول الله e لا يثبت لهم العدو فواق ناقةٍ عند اللقاء . روي أن هرقل لما انهزمت الروم قال لهم : ويلكم أخبروني عن هؤلاء القوم الذين يقاتلونكم أليسوا بشراً مثلكم ؟ قالوا : بلى . قال : فأنتم أكثر أم هم ؟ قالوا بل نحن أكثر منهم أضعافا في كل موطن  قال : فما بالكم تنهزمون ؟ فقال شيخٌ من عظمائهم : من أجل أنهم يقومون الليل ، ويصومون النهار ، ويوفون بالعهد   ويأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر  ويتناصحون بينهم ، ومن أجل أننا نشرب الخمر ، ونزني ، ونركب الحرام وننقض العهد ، ونغضب ونظلم ، ونأمر بالسخط ، وننهى عما يرضى الله ، ونفسد في الأرض . فقال أنت صدقتني .

إن نظرة إلى واقعنا نجد أن نصيب صورة الإسلام في حياتنا أكثر من نصيب حقيقته ، وهذا سرُّ مصابنا وهزيمتنا ، إننا نؤمن جميعاً أن الآخرة حق  ، والجنة حق ، والنار حق ، والبعث بعد الموت حق ، ولكننا لسنا حاملين لحقيقة هذا الإيمان   كأصحاب رسول الله e ومن تبعهم بإحسان . الذين عندما سمع أحدهم رسول الله e يقول : قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض ، رمى بما معه من التمر وقال : لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه ، إنها لحياةٌ طويلة ، وقاتل حتى قتل . لأن الجنة كانت عنده حقيقة لا يشك فيها .     ففي تاريخنا المعاصر فضحتنا صورة الإسلام في كل معركة وحرب ، لأن الذنب ذنبنا ، عندما عقدنا الآمال الكبار، بالصورة الضعيفة ، فخّيبت رجاءنا ، وكذبت أمانينا ، وخذلتنا في الميدان ، ويتكرر الصراع بين صورة الإسلام ، وشعوب العالم وجنوده   ففي كل مرّة تنخذل وتنهزم الصورة   ويعتقد الناس أنه هزيمة الإسلام وخذلانه ، حتى هان الإسلام عند بعض الناس ، وزالت مهابته في قلوبهم ، متناسين أن حقيقة الإسلام لم تتقدم إلى ساحة الحرب منذ زمن طويل ، ولم تنازله هذه الدول المعتدية ، وان الذي يبرز في الميدان هو صورة الإسلام لا حقيقته ، فتنهزم الصورة أمام الواقع ونولي الأدبار .

لذا على كل مسلم أن يعلم أن وعد الله بالنصر والفتح في الدنيا ، والنجاة والغفران في الآخرة ، محصورٌ في حقيقة الإسلام ، وذلك في قوله تعالى :}ولا تهنوا ولا تحزنوا وانتم الأعلون إن كنتم مؤمنين {آل عمران 139جاء الخطاب للمؤمنين ، واشترط الإيمان لعزة المسلمين والعلو في الأرض . وقد أكد ذلك في آية أخرى فقال تعالى : } إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد {غافر 51 . وكل وعد من الله بالنصر في القرآن   اشترط أن يكون في المسلمين حقيقة الإيمان ، وإن أكبر مهمة مطلوبة للأمة ، هي الانتقال من صورة الإسلام إلى حقيقته ، بذلك تستطيع الأمة أن تذلل كل عقبة ، وتهزم كل قوة ، وتأتى بعجائب وآيات من الإيمان والشجاعة والإيثار ، يعجز الناس عن تعليلها ، كما عجزوا من قبل ، عن تعليل حوادث الفتح الإسلامي ، كما على الأمة أن تعلم   أن النصر والخذلان من عند الله   فعندما نقرأ قول الله تعالى : } إن ينصركم الله فلا غالب لكم { نجد المقابل } وإن يخذُلْكم فمنذ الذي ينصُرُكم من بعده {آل عمران 160 . إذن  للنصر قوانين وسنناً ، فإذا أخذنا بالأسباب التي أمرنا الله بها على قدر الاستطاعة ، فلا ينبغي أن نقارن عددنا بعدد أعدائنا ، ولا عدتنا بعدتهم   لأن الله لا يكلفنا أن نقابل عددنا بعددهم أو عدتنا بعدتهم ، بل طالبنا أن نعد ما استطعنا فقال سبحانه  وتعالى : } وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة { فالله يريد أن يصحب ركب الإيمان معونة المؤمن بالله ، أما لو كنا متساوين معهم في العدد والإعداد  لكانت القوة تقابلها قوة ، فتكون الغلبة للأقوى ، ولكن الله يريد أن يكون العدد قليلا ، وتكون العدة أقل   وعند اللقاء نتوجه إلى الله ، بما قدرنا عليه ، وبالأسباب التي مكننا منها   ونؤمن بأن الله مولانا ، يعيننا على أعدائنا ويمدنا بمدد من عنده قال تعالى : } ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم { . فعندما ننصر الله نضمن نصر الله لنا   أما كيف نعرف أننا ننصر الله ؟ نعرف ذلك عندما ننتصر ، فمن بنصر الله ينصره ، قانون جاء بصيغة الشرط والجزاء ، في قوله تعالى: } إن ينصركم الله فلا غالب لكم {.

 

 

 

 

 

عاقبة الإفساد  

لقد أنزل الله منهجاً لحياة الناس ، فبذل المفسدون كل ما في جهدهم ، لإفساد هذا المنهج ، بل تآمروا ضده ، وادعوا أنهم مؤمنون به ، ليطعنوا الإسلام من داخله ، وقد تنبه أعداء الإسلام إلى أن هذا المنهج ، لا يمكن أن يتأثر بطعنات الكفر ، بل يواجهها ويتغلب عليها ، لأنه ما قامت معركة بين الحق والباطل إلا انتصر الحق ، وتنبهوا إلى أن هذا المنهج لا يمكن أن يهزم ، إلا من داخله ، وذلك لا يمكن إلا باستخدام المنافقين في الإفساد   الذي يمكنهم من تفريق المسلمين ، فظهرت العلمانية واليسارية وغيرها ، وغلفوها بغلاف إسلامي ليفسدوا في الأرض ، ويحاربوا منهج الله ، وإذا طلب منهم أن يمتنعوا عن الإفساد  ادعوا أنهم لا يفسدون ، ولكنهم يصلحون   مع أنهم في الحقيقة مفسدون ، لماذا ؟ لأن في قلوبهم كفراً وعداءً لمنهج الله ، وإعراضاً عن المنهج ، الّذي رسمه الله عزّ وجلّ لصالح البلاد والعباد ، فأصبحنا نعاني من الشقاء والشرّ والفساد ، بدلا من السعادة والخير والصلاح قال تعالى: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ﴾ . ولذلك استغلت الوظائف العامة للمصالح الخاصة ، وظهرت الخيانة بين أفراد المجتمع ، وانتشر الغش  والاعتداء على أرزاق الناس وممتلكاتهم ، في منطق يعتمد قَلْب الحقائق ، وتزييف الأمور وطَمْس الحق، وتزيين الباطل!  فترى المفسدين يرون الحقَّ باطلاً، والباطلَ حقًّا ، والإيمان كُفرًا والكفر إيمانًا، والنصر هزيمة ، والهزيمة نَصْرًا  والعُرْي فَنًّا، والفنَّ عُرْيًا، والذلَّ عِزًّا والعِزَّ ذُلاًّ ولسان حالهم يقول كما قال سيدُهم في الإفساد وقُدْوَتهم في الباطل: ﴿ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ﴾ غافر  29. وقد نهى الله عن الفساد ، وتتابعت رسُل الله وأنبياؤه ، ينهَون عنه في الأرض ، قال تعالى : ﴿ وَٱبْتَغِ فِيمَا ءاتَاكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ ٱلْفَسَادَ فِى ٱلأرْضِ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُفْسِدِينَ ﴾ القصص 77 . وجاء الإسلام  يدعو إلى الخير ، وينهى عن الشرّ والفساد﴿ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى ٱلأرْضِ بَعْدَ إِصْلَـٰحِهَا ﴾الأعراف 56   

ولا صلاح في الأرض ، لا يكون إلا بدين الإسلام ، ولا عجب أن كان الإفساد في الأرض بعد إصلاحها من أعظم الإفساد وأقبحه، وأشده إيغالاً في الشر ، ولذلك اعتُبر من الكبائر الموبقات المهلكات ، التي توعد الله من اقترف منها شيئاً ، بأليم عقابه، وبينها رسول الله في الصحيح الثابت من سننه كالسحر وقتل النفس التي حرمها الله إلا بالحق، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات، وعقوق الوالدين ، وشهادة الزور والزنا، وشرب الخمر، وتعاطي المخدرات والسرقة، وقطيعة الرحم، وأكل أموال الناس بالباطل، وطلب الرشوة أو أخذها ، والفساد الإداري في الأجهزة والإدارات المختلفة  وكذلك الاعتداء على حقوق الآخرين ، بسرقة أو نحوها، واحتكار المواد الغذائية ، وخاصة الضروري منها ، وأشد ذلك إيلاما ، ما يفعله الظلمة اليوم ، من القتل والهدم والتشريد والحصار الذي لم يستثن شيخاً كبيراً، ولا شاباً  ولا طفلاً صغيراً، وغير ذلك من الموبقات ، التي يوبِق بها المرءُ نفسه، فتنتقص من إيمانه، ويغدو باقترافها مطية للشيطان ، يسوقه إلى حيث شاء من سبل الشرور ، ومسالك الغواية ويطمس بصره عن البينات، ويعمي بصيرته عن الهدى، ويزين له عمله، ويمد له في غيه، ويحسّن له عوجه، حتى يرى حسناً ، ما ليس بالحسن فيحسب أن ما هو عليه من الإفساد في الأرض ، هو الصلاح حقاً بلا ريب، شأن أهل النفاق ، الذين أخبر الله عن حالهم بقوله : ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى ٱلارْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ ﴾البقرة11. وإذا كان الفساد في الأرض إنما يقع فيها بما كسبت أيدي الناس ، كما قال سبحانه : ﴿ ظَهَرَ ٱلْفَسَادُ فِى ٱلْبَرّ وَٱلْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى ٱلنَّاسِ ﴾الروم 14 ، لذا فإن علاجه ورفعه ، لا يكون إلا بما تكسبه أيدي الناس لأن الله لا يغير ما بقوم ، حتى يغيروا ما بأنفسهم ، ولا يتم ذلك ، إلا إذا تاب الناس إلى ربهم ، والتمسوا رضوانه ، وعبدوه حق العبادة ﴿ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى ٱلأرْضِ بَعْدَ إِصْلَـٰحِهَا وَٱدْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ مّنَ ٱلْمُحْسِنِينَ ﴾ الأعراف 56 . هناك جهات موجَّهة   لا تحب الطُّهْر في الاعتقاد ، ولا في الحياة الاجتماعية، فنَحَرَوا الحياء والعِفَّة ، بسكين الحرية المغشوشة، وطَعَنَوا السعادة بِخِنْجر الغَلاء والثراء، وضربوا العِزَّة والكَرَامة ، بمدْفَع الذُّلِّ والاستبداد! وما أحبُّوا الطُّهْر الاقتصادي  فطَحَنَوا الشعوب والأمم ، بِرَحى الرِّبا والاحتكار! وما أحبُّوا الطُّهْر السياسي، فأقصوا شَرْعَ الله، وحَارَبَوا عباد الله ، وحَرَمَوا الشعوب من عَدَالة الإسلام تحت ستار الإرهاب   وراحوا يشجعون كل فساد وفرقة بين المسلمين ويبطنون العداء للإسلام وأهله ، ويروجون للشائعات والأراجيف ، والأباطيل التي يقصدون بها ملء القلوب ، من الفتن والمصائب ، وشحْنها بالأحقاد والبغضاء على  الأمة ، فراحوا يستغلون كل حدث، ليوظفوه في سبيل ضرب الأمة ببعضها ، في مؤشر لكثرة المبطلين، وضعف الخيرين ، والأمة التي يسري فيها الفساد ، ولا تستنكر، ليست خليقةً بالبقاء، لأن الناس إذا رأوا الظالم ، ثم لم يأخذوا على يديه ، أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده،  وإذا ترك الناس كما يطال الإفساد ليطال منهج الله ، فإن ذلك يسبب الخلل في النظم والقوانين ، كما يطال الإنسان في نفسه وفي وجدانه، ومشاعره وحاجاته الجسدية والروحية ، وفي أفكاره فيسممها، وفي روحه ا فيدمرها، وفي عقله فيخربه ، وفي قلبه فيقسو ويموت، وفي أخلاقه فينحرف بها عن خط الإسلام ، ولعل أكثر ما يعزّز موقع الفساد أن يتولى المفسدون ، مواقع السلطة أو يمتلكون الصلاحيات ، مع غياب الرقابة أو المحاسبة ، وإلى هذا أشار القرآن الكريم عندما قال:﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ ﴾ البقرة 204 . ولا فرق، بين أن تكون السلطة   سياسية أو دينية. فقد قال رسول الله عليه وسلم : ( اثنان إذا صلحا صلحت الأمة وإذا فسدا فسدت الأمة: العلماء والأمراء ) . أليست سلطة الفتيا هي واحدة ، من هذه المسؤوليات التي تتحمّل المسؤولية عما يجري اليوم، من تعطيل للعقول وتخديرها ، وقسوة القلوب وفظاعة المواقف والأفعال ، وصولا إلى الفساد الأكبر ، وهو استباحه دماء الناس الأبرياء  كما نشهد في واقعنا ، وتطالعنا به الفضائيات يومي ،ا وتزودنا به ونسمعه في الأخبار، لذا فنحن مدعوين إلى الوقوف أمام ظاهرة تسميم العقول والأفكار ، وتوريط ضعيفي العقول في ضرب استقرار الأمة الإسلامية، وندعو بأن يهدي الله صناع القرار ، ومن حمّلهم الله مسؤولية مواجهة المفسدين ، وسماهم المصلحين   الذين خفتت أصواتهم ، خشية أن يروا متلبسين بالإصلاح  ، أو بقول كلمة الحق     فكم نحن بحاجة إلى رفع صوت الإصلاح ، إذ لا يجوز السكوت ، لأن الساكت عن الحق شيطان أخرس ، ولا نجاة لنا إلا بالسعي نحو الإصلاح  : ﴿ وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون ﴾ وقد ذكر الله في القرآن ، خبر الأقوام الذين أفسدوا في الأرض فنزل بهم البلاء، وقد حذرنا الله أن نسلك مسلكهم، وبين لنا ما ينتظرهم من العذاب   فقال تعالى: ﴿ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ .

 

 عاقبة اليأس

 إن القرآن يضع اليأس في مرتبة الكفر ويقرن القنوط بالضلال، قال تعالى:﴿ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ ﴾5الحجر  وإن الضعف الذي يصيب الأمة ، إنما جاء من حصول الإحباط واليأس ، الذي استولى على القلوب ، فأدى إلى الإفراط في الحديث ، عن جوانب القصور والتفريط  والقنوط من الإصلاح، وقبول الضعف كواقع لا بديل عنه، فهو داء يزرعه العاجزون عن الإصلاح ، بين أفراد الأمة خدمة مجانية لأعدائها ، يساعدهم الإعلام   في زرع هذا الداء ، عندما يتحدّث للمستمعين والمشاهدين ؛ بانتفاء المصائب التي تعاني منها الأمة ، وتضليل فكرهم عن أصول المصائب ومصادرها، ونشر ثقافة الوهن وحب الدنيا، والتصالح مع الضعف     على حساب المبادئ ، استجابة للضغوط المعادية للإسلام ، وعلاج المصائب التي تعاني منها الأمة ، بمبدأ اليأس من علاجها وترويض الأمة ، بعقلانية التعايش معها   ويساعد على ذلك ، أصحاب القلوب القاسية ، الذين يزرعون اليأس في القلوب  لأنهم يلهثون وراء الشهوات ، ويتفاخرون بتحصيل الملذات ، فإذا أصابتهم الشدة والبلاء والخوف، طغت على تفكيرهم الماديات، وأصابهم الفزع ، فلا ثقة عندهم بدين، بل تنطمس عندهم معالمُ النور، ولا يزيدهم النظر في حالهم ، إلا ضيقًا وبؤسًا ويأسًا ، يجعلهم لا يتوجهون إلى الله بالخضوع والتضرع، لأن قلوبهم القاسية تأبى سلوك سبيل الطاعة ، والرجاء فيما عند الله، قال الله عنهم : ﴿ فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُون ﴾ الأنعام 43. وتعلّقهم اليائس بالدنيا ، يجعلهم يقيسون الأحداث بمقياس دنيوي ، ويزنون الأمور بميزانها، ويتوقعون الأحداث في المستقبل بما جرت عليه عوائدها المادية القريبة وهذا ما يطمس بصيرة اليائس ، فيهلك بالظن الخاسر لمستقبل هذا الدين وأهله، ويخفي في نفسه اليأس من انتصار الدين ، ويبحث عن أعذار تخفي ما في قلبه ، من تعظيم الدنيا وحب نعيمها ، وقوة الارتباط بها . وإن تعلّق اليائس بالهوى في هذه الدنيا  يسهل عليه ، سلوك سبيل الهوان والذل  واستمراء الواقع المرّ، والتخلي عن إصلاحه، واليأس من تغييره، بل يصل به الأمر ، إلى ازدراء الجهود الإصلاحية  وهذه ثمرة من ثمرات اليأس المُرَّة ، التي يتجرعها اليائسون، لإنهم يتحدثون عن حجم المصائب والنكبات ، لكنهم  يُهربون  من ميدان العمل والإصلاح؛ بحجة أن الإصلاح لابد له من جهود ضخمة ، لا طاقة لهم بها، وقد يصل بهم الحال إلى تثبيط المصلحين ، الساعين  لبيان الحق قال تعالى : ﴿ وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ الأعراف ،164 ، إنهم يحرصون على بثِّ اليأس  وتزهيد الناس في الأعمال الجادة ، لأدنى قصور أو خسارة ظاهرية يُشاهدونها قال تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ ﴾آل عمران 156 ، إننا نستغرب من اليائسين   حين يطلبون من عدوهم حلَّ مشكلاتهم  ويُحققون له ما يرضيه ، ويتعايشون مع خططه وتصوراته ، وقد قال فيهم : ﴿فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ ﴾المائدة  52 ، إنه حلٌّ رخيص وجاهز، لا يحتاج إلى مزيد من الجهد والعناء، بل إنهم يجعلون الحل العقلاني الأمثل، والتخطيط الثاقب ، الذي يقي الأمة نزاعات مُدمرة ، وصراعات جارفة، بالمحافظة على وضع الأمة الحالي  أما أن يفكروا في السعي إلى مستوى أعلى لحال الأمة؛ فهو عندهم ضرب من الجنون ونوع من التطرف ، وتناسوا رصيد الأمة العقدي والفكري ، والتاريخي المليءٌ بينابيع الأمل والتفاؤل التي لا تجف .  

يفيضُ من أملٍ قلبي ومن ثقةٍ  لا أعرٍفُ اليأسَ والإحباطَ في غَمَمِ

اليأسُ في ديننا كُفْرٌ ومَنْقَصةٌ   لا يُنبِتُ اليأسَ قلبُ المؤمنِ الفَهِمِ

فالله سبحانه خلق الخلق ، وكتب المقادير   يدبر الأمر، لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه ، هذه العقيدة التي فجرت في نفوس صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم آمالاً ، فسعوا إلى تحقيقها ، فلم يُرهبهم تهديد، فغيروا الدنيا ، وسادوا بها   وكانوا لمن بعدهم ، مصدر إلهام وعزّ ، يزرع الأمل، وينشر النور، ويُبدد اليأس.

 والمؤمن ألذي يرضي الله ، ويتوجه إليه ويسأله الصبر، ويستمد منه العون، لا يتسرب إليه اليأس ، لأنه على نور من الله  يرقب النصر القادم ، الذي وعد الله عباده وعدًا لا يُخلفه في قوله : ﴿ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾الروم  47 ؛ ومن أحلى ينابيع الأمل ، وأقواها عند المؤمن ، يوم يدفعه إيمانه نحو العمل لدينه ليمكن له ، قال تعالى : ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ  بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾النور55 ، فلا ييأس المؤمن ، عند نزول البلاء ولا ينهار ، حين يواجه الكروب لأن وقوع البلاء ، يجعل المؤمن مترقبًا للشدائد ، مستعدًا لها ، ومدركًا أن مقدرها هو القادر على دفعها، قال سبحانه : ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ﴾البقرة214،  قال ابن القيم رحمه الله :" والحق منصور وممتحن ، فلا تعجب   فهذي سنة الرحمن ، وليس هذا الوعد بنزول البلاء ، مدخل لليأس والخنوع   وترقب الإخفاق، وتوالي المحن ، بل على العكس من ذلك، في الابتلاء حكم عظيمة وثمرات كبيرة ، اقتضت حكمة الله أن لا تحصل إلا به. ففي طياته منح ، لا يعلمها إلا الله " وفي التاريخ ينابيع أمل ، وأمثلة وعبر،  تجعل النفس تثق بنصر الله ، وقد تمر عجلة التاريخ ، على جيل كامل أو أجيال ، فيدركون أول الأحداث ، ولا يدركون آخرها، وهذا ما يجعل الإنسان يستبطئ النصر، فقد عاش نوح ينتظر الفرج تسعمائة وخمسين عامًا ، وفتح رسول الله  مكة بعد إحدى وعشرين سنة مضت على البعثة، وهو نبي مؤيد بالوحي، بل إن كنوز فارس والروم واليمن ، لم تظفر بها الأمة إلا بعد وفاته صلى الله عليه وسلم ، إنه درس من دروس التاريخ ، قال تعالى : ﴿ حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ﴾يوسف110وإن التاريخ لينادي اليائسين ، ليتفكروا وينظروا  كم دولة قويت من بعد ضعف! وكم من أخرى ضعفت من بعد قوة قال تعالى : ﴿الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ  يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴾الروم فعجلة التاريخ ،تسير وفق سنين ربانية لا تتخلف. وفي التاريخ أحداث مؤلمة ومصائب مرت على أقوام مضوا، فكأن التاريخ ينادي كل مصاب ومنكوب: إن مع العسر يسرًا، وإن بعد الكرب فرجًا ، ولا عجب ، أن يحرِّم الإسلام على أتباعه اليأس من روح الله ، قال تعالى حكاية عن يعقوب:﴿وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾يوسف87، فعلينا أن نحارب اليأس والقنوط من أنفسنا، وأن نُبعِد الهم والغم ، ما استطعنا ، وأن نبتسم للحياة ، ونبتهج فيها بغير إسراف؛ حتى تزداد حياتنا ، إشراقاً وقوة ، ونعيش السعادة والسرور في هذه الدنيا ، قال الشافعي :

سَـهِرَتْ أعيـنٌ ونامتْ عيـونُ  فـي أمـورٍ تكـونُ أو لا تكونُ

فادْرَأِ الهَمَّ ما استطعتَ عن النَّفــسِ فَحُـمْلانُكَ الهمومَ جُـنونُ

إنَّ ربَّاً كفـاكَ بالأمـسِ مـا كان سـيكفيكَ في غدٍ مـا يكـونُ

 والله قدّر ما كان، وما يكون، وما سيكون وما هو كائن إلى يوم القيامة، فلماذا نُتعِب أنفسَنا   ونعيش حالة اليأس؟! ولماذا لا نتوقّع الأمل ونعيشه كما عاشه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، لأن الإنسان الذي تكثر عليه الهموم  ويشعر باليأس في حياته ، وبالفشل في كل ما يُقْدِمُ عليه ، كأنه يحفر قبره بيديه، أما المؤمن فلا ييأس من رحمة الله تعالى ، وأن يسعى لتغيير الحال إلى أحسن حال يقول الشاعر:

ما بين طَرْفَةِ عـينٍ وانتباهَتِها   يُحَوِّلُ اللهُ من حالٍ إلى حالِ

فعلينا أن نحسن الظن بالله ، القادر على تغيير أحوالنا، ونطرد اليأس والكسل، ونعمل بجدٍّ حتى نحقق ما أراده الله منا، وما كلّفنا به ، وما خَلَقَنَا من أجله ، ﴿ وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ﴾ .

 

 

لا بد للإسلام أن يسود 

إن الصراع  الذي تعيشه الأمة ، مهما امتد أجله ، والمعاناة والفتنة ، مهما استحكمت حلقاتها ، فإن العاقبة للمتقين، ولكن ذلك يحتاج إلى صبر، واستعانة بالله صادقة، ولا ينبغي أن يساور المتقين القلق ، وهم يصبرون على الضراء، ولا يخدعهم أو يغرهم تقلب الذين كفروا في البلاد ، فيظنوه إلى الأبد ، وما هو إلا متاع قليل، ثم يكون الفرج والنصر ، وقد ذكر الله نصره للحق والأنبياء والمرسلين فقال تعالى:﴿ ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين ، إنهم لهم المنصورون ، وإن جندنا لهم الغالبون ﴾ ولا ندري على يد أي جيل ، يرفع الله شأن هذه الأمة ، قال عليه السلام : (مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره ) صحيح الجامع، صحيح .  لكن سنة الله ، كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرساً يستعملهم فيه بطاعته إلى يوم القيامة ) صحيح الجامع، حديث حسن . وإذا عرفنا أن الأصل العلو والسيادة والتمكين للإسلام ، فلا نستيئس من ضعف المسلمين ، حينا من الدهر، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الإسلام يعلو ولا يعلى)صحيح الجامع، حديث حسن فالأمل باق، وامتداد سلطان المسلمين مستمر بإذن الله ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بشر ببشريات تذهب كل يأس، وتدفع كل قنوط ، وتريح قلب فاقد الأمل ، بالتمكين لهذا الدين ، فقال صلى الله عليه وسلم : (بشر هذه الأمة بالسناء والدين ، والرفعة والنصر والتمكين في الأرض...) والجهاد مستمر إلى يوم القيامة والطائفة الظاهرة على الحق ، لا يضرها من خذلها، وهي مستمرة حتى يأتي أمر الله، وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم : ( لن يبرح هذا الدين قائما، يقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة ) رواه مسلم . والمقياس عند الله ، غير مقياس البشر، فقد يجعل الله من الضعف قوة   وكما نرى القوة اليوم ، بيد أعدائنا ، والغلبة لهم علينا ، فلا ننسى أن الله لن يرضى لعباده المؤمنين دوام الذلة ، واستمرار القهر كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الميزان بيد الرحمن يرفع أقواما، ويضع آخرين ) صحيح الجامع صحيح . ولابد أن يرفع الله عباده المؤمنين ، بعد أن وضعهم ، إذا رأى منهم صدق السعي لمرضاته ، ولئن مرت الأمة بفترات ضعف  فلا ننس أنها تقادير الله ، الذي يَقْدِر على إعادة عز ضاع، واسترجاع سيادة مضت  وشأن البشر الصعود والنزول، كما في الحديث:( مثل المؤمن مثل السنبلة، تميل أحيانا وتقوم أحيانا )صحيح الجامع، صحيح ، فلا بد للأمة أن تقوم يوما ما، وتلك سنة كونية  وهذا اليوم آت لا محالة ، كما مضت سنة الله في الأمم ، ولابد لليل أن ينجلي  ويمضي قدر رب العالمين ، في أن تكون العاقبة للمتقين ، العاقبة التي يشير إليها كل شيء من حولنا ، على الرغم من جميع الفتن المحيطة بنا ، ولا يجوز أن يتطرق الشك إلى قلوبنا ، بسبب ما نراه من حولنا ، من الضربات الوحشية ، التي تكال لطلائع الجيل المسلم في كل مكان ، إن الذي يفصل في الأمر، ليس قوة الضربات التي تكال للإسلام ، إنما هو قوة الحق ، ومدى الصمود للضربات ، لأن الإسلام أصلب من أن تفلح في معالجته ، هذه الضربات الوحشية ، لأن المستقبل لهذا الدين ، أراد أعداؤه أم لم يريدوا ، لأن عنصر القوة كامن في طبيعته ، وفي بساطته ووضوحه وشموله    وفي رفض التلقي إلا منه ، ورفض الخضوع إلا له ، وفي الاستعلاء بأهله ، كالوقوع تحت سلطان المتسلطين ، ومن أجل هذه الخصائص في الإسلام ، يحاربه أعداؤه هذه الحرب الماكرة ، لأنه يقف لهم في الطريق  يعوقهم عن أهدافهم الاستعمارية ، وعن الطغيان والتأله في الأرض ، كما يريدون ! ومن أجل هذه الخصائص ، يطلقون عليه حملات القمع والإبادة ، والتشويه والخداع والتضليل ، ومن أجل هذا يريدون أن يستبدلوا به قيمًا أخرى ، وتصورات أخرى   

هذه هي حقيقة المعركة ، وهذا هو دافعها الأصيل ، إنها الحقيقة التي لابد أن تستقر في ذهن كل مؤمن ، أن يعتقد اعتقادًا جازمًا ، لا يتطرق إليه أدنى شك ، أن النصر لهذا الدين ، مهما تكالبت عليه قوى الأرض لقوله تعالى : ﴿ يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون، هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ﴾  لنتذكّر صراع الأنبياء مع أقوامهم ، ولمن كانت الغلبة ؟ وقوله تعالى : ﴿ إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ﴾. وإن هذه الحقيقة التي قررها القرآن ،لم تغفلها أيضًا السنة الصحيحة ، فقد ثبت في الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله إياه بعز عزيز أو بذل ذليل عزًا يعز الله به الإسلام وذلاً يذل به الكفر) وإذا أراد المشككون من المنافقين ، أن يزيلوا هذه الحقيقة من قلوب المسلمين ، واستمع لهم من استمع ، وصدّق كلامهم من صدّقه   فلينظروا إلى المذابح ، والتشريد الذي يتعرض له المسلمون ، هل أخمدهم ؟ هل قضى عليهم ؟ هل أوقف المد الإسلامي ؟ لقد قُتل مئات وألوف تحت القمع الصليبي والصهيوني والعلماني ، فإذا بالقاعدة تتسع بعد كل مذبحة ، وأصبح المسلم الواعي أكثر صلابة ، وأشد بأسًا ، وأكثر وعيًا وتصميمًا على المضي في المشوار الطويل ، ورغم  الواقع المرير ، فقد يكون بابا للنصر من عند الله ، وما أهونه عند الله قال الله  تعالى : ﴿ الذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ ونحن نسمع صيحات البعض وتخوفهم نسأل : ألسنا مسلمين ألسنا مؤمنين بنصر الله ، لعباده الموحدين هب أن ما يجري في مخيلات البعض حقيقة  أليس هذا متوقعا من الأعداء وأذنابهم ثم أليس كل شيء بقدر الله عز وجل؟ ألسنا نؤمن أن الإسلام لا يعمل وحده ، إنما يعمل من خلال البشر، الذين يؤمنون به  وإن المسلمين اليوم ، وهم ينظرون إلى إخوانهم الذين يواجهون الفتنة في دينهم    ثم لا تذرف لهم دمعة ، ولا يتحرك لهم ساكن ، بل يتخاذلون عن نصرة إخوانهم في العقيدة ، هؤلاء إن لم يفيقوا من غفلتهم  وينفضوا التراب عن رؤوسهم ، فإن الله   قادر على أن يستبدل قومًا خيرًا منهم قال تعالى :﴿ وإن تتولوا يستبدل قومًا غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ﴾ ومما ينبغي أن يتقرر في الأذهان ، أن الثقة بنصر الله عند الفتن ، لا تجدي ، إذا تقهقر المسلمون ، وخذلوا دينهم ، ولن يُنْصَروا ، ولو كانت الدنيا كلها معهم ، لأن الله ليس معهم ، ولو نصروا الله في أنفسهم فسينصرهم ، ولو كانت الدنيا كلها ضدهم  إن الثقة بنصر الله ، عند مواجهة الفتن ، والتمكين لأعداء الله عز وجل ، إنما يجري بمقتضى السنن الربانية : ﴿ وتمت كلمة ربك صدقًا وعدلاً لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم ﴾  ومن هنا فإن على الذين يستبعدون انهيار الحضارة الغربية ، وهي تملك هذا القدر الهائل من أدوات التمكين ، نحيلهم إلى أكبر انهيار في التاريخ ، لأكبر قوة طاغية  وهي قوة الاتحاد السوفيتي ، الذي انهار والغرب دوره في الطريق ، ولن تمنعه قوته المادية ، ولا الحربية ولا السياسية ، عن مصيره المقدر في سنة الله ، وإذا انهارت الحضارة الغربية ، فإن البديل هو الإسلام  فهل يعي المسلمون ؟ وهم يواجهون الفتن من الكافرين ، هل يعون هذه الحقيقة الربانية ، والسنة الإلهية ؟ وهل يعون أيضًا أن الغرب نفسه بدأ يعترف بأن مصيره إلى الهاوية ، ما لم يغيّر من حالته التعيسة  ومصيره الشقي المنكود ، حتى قال أحدهم في تعليق له ، على ما يجري في أمريكا من فساد أخلاقي : " أنا لا أعتقد أن الخطر الأكبر الذي يهدد مستقبلنا ، يتمثل في القنابل النووية أو الصواريخ الموجهة آليًا   ولا أعتقد أن نهاية حضارتنا ، ستكون بهذه الطريقة ، إن الحضارية الأمريكية ستزول وتنهار، عندما نصبح عديمي الاهتمام   وغير مبالين ، بما يجري في مجتمعنا ، وعندما تموت العزيمة على إبقاء الشرف والأخلاق  في قلوب المواطنين "  نعم إن هتافاتٍ كثيرة من هنا وهناك ، تنبعث من القلوب الحائرة  وترتفع من الحناجر المتعبة ، تهتف بمنقذ من الفتن ، وتتلفت على مُخلِّص ، وتتصور لهذا المخلِّص ، سماتٍ وملامح معينة ، تطلبها فيه ، وإن هذه السمات ، وتلك الملامح لا تنطبق إلا على الإسلام ، فهل يعود المسلمون اليوم إلى دينهم ، ليدركوا به هذه الحقيقة الربانية العظيمة ، التي سطرتها آيات القرآن ، وأوضحتها سنة رسولنا عليه السلام  ؟! فبعد أشد الأوقات ظلمة ، يطلع الفجر  وحين تشتد الكربات ، يقترب الفرج   وحين يتملك النفوس اليأس ، من شدة العسر وتأخر النصر ، ومعاندة المكذبين ومحاربتهم ، يمن الله بالروح والتنفيس عن المؤمنين ، والتمكين لهم كما قال الله تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ﴾ يوسف:110

 

 ملحمة حلب

إن العين لتدمع ، وإن القلب ليحزن على الأحداث الدموية ، التي تعصف بحلب   من النظام وروسيا ،الأكثر اجراماً ، ضد أهالي حلب ، حتى إن المرء لا يقدر على رؤية حجم المأساة ، والدماء البريئة التي تسفك ، في محاولة للسيطرة على حلب  لكونها ثاني أكبر المدن السورية ، ومركز إمداد المعارضة ، ولتحجيم المعارضة وإضعافها ، ضربوا المستشفيات ، والمدنيين بوحشية ، لم يشهد لها التاريخ مثيلا ، أمام تخاذل المسلمين ، ودول العالم أجمع  وصمت مميت من قبل الأمم المتحدة  والمنظمات العالمية والحقوقية ، وغض الطرف عما يرتكب من مجازر، بحق الإنسانية ، في وقت كثرت فيه الاجتماعات الدولية  المتعلقة بالوضع السوري، بدءاً من جلسات مجلس الأمن الدولي ، الذي بقيت قراراته حبراً على ورق، مما دفع ال"واشنطن بوست" في افتتاحية لها ، إلى انتقاد تخاذل الغرب ، والمجتمع الدولي ، تجاه ما يحدث في حلب ، فقالت الصحيفة : إن القصف الذي تعرض له مستشفى القدس في حلب الذي تموله منظمة أطباء بلا حدود  والصليب الأحمر الدولي، وأوقع العديد من الضحايا من المدنيين ، من بينهم أطباء وممرضين ، فلم يكن مجرد حادث عرضي  ولا لمن روجوا لاتفاق وقف إطلاق النار  لأن النظام يتحدث ، عن نيته لاسترداد الجانب الشرقي لمدينة حلب ، الذي تسيطر عليه المعارضة السورية. 

إن القتل في سوريا ، جعلنا نألف الموت  ونتعايش مع طقوسه اليومية، كأنما صار جزءا من حياتنا اليومية ، وحتى ما عادت صور الدمار تؤرقنا ، وما صور الجثث والأشلاء. تفزعنا ، لأن هذه الحرب أصابت مشاعرنا بالتبلد ، والسكوت على الدماء التي تراق ، وتلك جريمة وخيانة ، قال اهل السلف: "اذا دخل رجل قرية وكانت تراق فيها الدماء ، وتنتهك فيها الحرمات ، ثم تكلم عن الصلاة والصيام فقد خان الله ورسوله صلى الله عليه وسلم" .

إن التضحيات العظيمة ، التي تقوم بها الفصائل المدافعة عن حلب ،  والتي تعدت آلاف الشهداء والجرحى ، ومئات البيوت المهدمة، وعشرات المساجد المدمرة والخراب الشديد ، الذي طال كل أنحاء حلب، فلم يستثن منها ، مؤسسة ولا هيئة، ولا محلاً ولا دكاناً، ولا سوقاً ولا مدرسة ، ولا مستشفى ، ولا حديقةً ، في حربٍ دمويةٍ وحشيةٍ، يشهد العالم كله على ضراوتها  ويقر بعنف القصف المفرط في تسعيرها وإضرام نارها، وتوسيع دائرتها.

إن العالم يشاهد هذه الجرائم ، دون أن تكون له كلمة واضحة وصريحة ، باستنكار ما تقوم به الطائرات الروسية والنظام ، ضد السكان المدنيين العزل، الذين يستهدفهم في بيوتهم والشوارع، وفي المساجد والمدارس فيقتلهم شر قتلة، ويمزق أجسادهم، ويبعثر أشلاءهم، ويدمر بيوتهم، بينما يتفرج قادة العالم الحر على الصور، ويتابعون الأحداث ويعقبون عليها ،بأن على المعارضة أن توافق على ما يملى عليها من شروط . فكان لا مفر من المقاومة ، ولا تأخر عنها، ولا تمنع عن خوض القتال من أجلها ، لأنها لا تسمح لأحدٍ أن يجهضها أو يفشلها، فقد لا يجود الزمان  عليها ، بظروفٍ مناسبة  وشروطٍ مواتية وإرادة موحدة.

إن ما تقوم به المعارضة ، وبقية الفصائل   إنما هو ثورةٌ حقيقية، ومعركةٌ شاملة ، قدموا فيها الكثير، وضحوا بالعزيز الغالي ، فما منهم إلا وأصابته الأحداث بشظيةٍ ، ومنهم المكلوم والجريح، والمصاب والحزين، أما وقد اختاروا طريق القتال ، وقطعوا شوطاً كبيراً فلا تراجع ، ولا استجابة لدعوات الهزيمة والانكسار، ولا للداعين إلى الهدوء والدعة والسكينة والهدنة، بحجة أن الضحايا كثر وأن العدو ماضٍ في سياسته ، ومصرٌ في عدوانه، وأنه لن يتراجع عن غيه ، بل سيوسع دائرة العدوان، وسيزيد من   عملياته العسكرية، فإذا كان العدو وهو الغاصب المحتل، والقاتل الظالم، مصرٌ على خطيئته ومتمسكٌ بجريمته، فهل يضعف أصحاب الحق ويتنازلون، وهل يشعرون بالتعب ويتراجعون ، لا ، لأن المصاب جلل والخسائر عظيمة ، والكل صامت، ومن الأنظمة من يتآمر، ولكنهم اقتربوا من أهدافهم  ، فليس بعد القتل قتلٌ آخر  وليس بعد الدمار دمارٌ آخر، إنما بعده نصرٌ وحرية  ،وتحقيق أهداف، وتسجيل انتصارات ، وهناك آلام ، وكلنا موجوع ومتألم، وحزينٌ وبائس ، نترقب ونتوجس ونتابع ونقلق، ونحسب الدقائق والساعات وننتظر متى يتوقف القصف ، ويغيب شبح الموت، ويرحل غراب الخراب ، ولكن لا تراجع الآن ، لأن التراجع مصيبةٌ كبيرة   وخسارة عظيمة، وإذا كان النصر صبر ساعة، فإن تحقيق الأهداف ، يلزمه صبر ساعةٍ أخرى، إذ المعتدي يتألم ويتوجع ويشكو ويئن، ويخسر ويفقد  ويتضرر    وقد فقد حياته الطبيعية، ولم يعد يستطيع ممارسة ما اعتاد عليه ، ومهما كان الرد ضعيف ، فإنه يقلق ويخيف ، ويؤدي الغرض، ويحقق النتائج، ويصل إلى المراد والمطلوب، فلا عودة ، ولا تراجع إلى الواقع الذي كان ، ولا بد من استمرار المعركة التي تمضي بصبر الشعب وتحمله، وتقوى بتشجيعه وتحريضه، وتتواصل بتصميمه وإرادته، وليت الأمة العربية والإسلامية تناصرهم وتؤيدهم، وتساندهم في مطالبهم وشروطهم، فهم وإن كانوا صامدين في الميدان، وأشداء في القتال ، وصُبُرٌ في الحرب ، وثابتين عند اللقاء والنزال ، إلا أنهم في حاجةٍ إلى محركاتٍ سياسية     تحسن الاستفادة من الصمود والصبر وتوظف الفوز والظفر ، إلى نصرٍ سياسي  إذ لا قيمة لغلبةٍ عسكرية ، دون أن يكون لها على الأرض وبين الناس سياسة ذكية تقطف وتوظف، وتقود إلى الحريةٍ والاستقلال ، وإلى العزة والكرامة ، وأن لا يرضوا عن ذلك بديلاً، ولن يقدموا تنازلاً ذليلا   

إن ما يؤلم ، أن نرى من يبارك لبشار انتصاراته على شعبه ، فتبا لهكذا انتصارات وتبا لكل حاكم يحكم شعبه بالسياط ، وتبا للذي ركع ، أمام الروسي وعساكره   ومجوس إيران وشبيحته ، الذين هتكوا الأعراض ، والزعامات من حولهم لا يحركون ساكنا ، لأنهم آلات تآمر على شعوبهم   وإلا فماذا ينتظرون ؟ والنيران والخراب ينتظرهم من  مدينة وراء مدينة ، ودولة وراء دولة تسقط ، ولا أحد يحرك ساكنا ، لكِ الله يا حلـب ..فقد أصاب العرب ..كثيرٌ من العطــب ..ولن يروا عن كثـب ..دماءك التي تنسكـــب .. فماذا ينُتْظر ويُرْتقـــب ..ممن يدّعون بأنهم عرب .. ألم يَحِن الأوان ويقتــــرب ..لتتحرك الأقدام وتنتصــب ..وتثور الكرامة وتلتهـــــــب .. ويا عار علينا من كثرة الكذب ..بأن ندَّعي أننا نملك نخوة العرب ..فمن لكي غير الله يا حلب  من يداوى جراحا غمرها جبن العرب ..وزاد جراحها السكوت من غير سبب.. ونقول لكل ساكت  انصروا إخوانكم قبل أن يفوتكم النصر؛ لأنه لا بد آت لا محالة  ولن يبقى النظام الظالم ، إنها سنة الله في الطغاة والظالمين ، فاتقوا الله ، وثقوا بنصر الله، واصبروا وصابروا وعليه توكلوا، ﴿ إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ﴾ .

 

 

 

 

 

 

 

من لبواكينا؟

قال الأصمعي: بَكيْتُ الرجل وبَكَّيْتُهُ   كلاهما إذا بكيتَ عليه. وبُكىً وبُكَاءً: دمَعت العَيْنُ حُزناً. عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بنساء عبد الأشهل يبكين هلكاهن يوم أحد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( لكن حمزة لا بواكي له..) أخرجه ابن ماجه وأحمد وغيرهما قال الألباني: حسن صحيح.

والذي كان يرمي إليه النبي صلى الله عليه وسلم فيما قاله هو: أن حمزة رضي الله عنه ليس له كثير قرابة في المدينة ، فكان صلى الله عليه وسلم مشفقا عليه من ذلك لشدة حبه له ، والمسلمون اليوم لا بواكي لهم في هذا العالم الظالم ، ألا ترون أن ضحايانا لا تحصل ، على اهتمام الإعلام العالمي  عندما تُرتكب جريمة ضدنا؟ أم أن الإنسانية تراجعت لدى الغربيين ، فلم يعودوا يهتموا بضحايا المسلمين ، قدر اهتمامهم بضحاياهم، أم أن ضحايانا لا تستحق   اهتمام الإعلام ، كما اهتم بضحايا باريس  وأن الذين يُقْتَلوا بدمٍ بارد ، ليسوا بحاجة إلى من يشعر بمأساتهم ، فلماذا هذا التناقض والازدواجية في المواقف الدولية  إزاء الأحداث ، ها نحن نرى العالم بأجمعه   شرقه وغربه ، قد وقف مستنكرا مدينا ، ما جرى في باريس ، بينما يمر مقتل أطفال المسلمين ، ظلماً وعدواناً دون استنكار  وها هم رؤساءُ العالم ووزراؤهم ، تداعوا إلى القيام بمظاهرة ، تغطيها أشهرُ فضائيات العالم ، احتجاجاً على ما جرى في باريس بينما لم تتعالَ التنديدات ، بجرائم إسرائيل وروسيا في سوريا وفلسطين ، ولم يركّز الإعلامُ العالمي ، أضواءه وكاميراته ، على ما يجري ، لأن دماء المسلمين  رخيصة   لا تتطلب هذا الاهتمام العالمي ، أم أن  الإنسانية لم تعد تعني عند الغرب ، سوى التعاطف مع قتلى باريس، إنه تعاطفٌ انتقائي عنصري فاضح ، يتوجّه فقط إلى بني جنسهم ، أو دينهم ، إذا تعرّضوا لأي اعتداء، فتقوم الدنيا ولا تَقعُد ، وتُحْمَّل المسؤولية للمسلمين ، ويُدفعون إلى تقديم الاعتذارات ، عن جرائم غيرهم ، بشكل مهين، أما حين يتعلق الأمرُ بضحايا مسلمين  قُتلوا من قبل مسيحي أو يهودي ، فلا تعاطف ، ولا من يقدّم اعتذاراً ، أو احتجاج أو فتح تحقيق ، ويحُمّل الإسلامُ المسؤولية، ويقوم الإعلام بالتبريرات اللازمة  وهنا نقول : لماذا لا تكون التغطية الإعلامية ، لقتلانا وشهدائنا في وفلسطين وسوريا والعراق ، ولماذا لا يتداعوا ، من أجل قتلانا وشهدائنا ، الذين تُهْدم المنازل على رؤوسهم ، وتجرف مزارعهم ، وتقتلع أشجارهم، وهم صامدون  لا بواكي لهم  ولم يجدوا من يقف حداداً من أجلهم  أليست هذه مذلة وانهزامية  يعيشها المسلمون ، حين يطلب منهم أن ينسوا قتلاهم وشهداءهم الأبرياء ، الذين نسمع عنهم ، في كل يوم ، وكأنه برنامج يومي  نستفتح به يومنا ، حتى لم يعد الاهتمام  لحرمة دماء المسلمين ، ولا لقتل أطفالهم ونسائهم ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، ماذا دها أمتنا ؟ التي صار الذبح فيها  مجرد مقطع للمشاهدة اليومية ، يمر على العيون والقلوب ، دون حراك ولا بكاء ، حتى إن المرء ليقول : كم من الدماء ينبغي أن تُسفك حتى تتحرك نخوة العالم من حولنا  إن كان عنده نخوة ورجولة ؟ وإذا لم تكن عند العالم نخوة ، فأين نخوة العرب والمسلمين ، ولماذا يصمتوا وكأن على رؤوسهم الطير ؟ ولماذا هانت عليهم دماء المسلمين ؟ ولماذا تواطأوا وتخاذلوا ؟ أما علموا أن حرمة الدم واحدة عند الله ﴿ من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ﴾ ألا لعنة الله على صمتهم الجبان ، وخذلانهم الرخيص ؟ أما علموا أن ما يحدث في سوريا وفلسطين والعراق ، مجزرة وجريمة ، يتحرك لها وجدان كل من عنده ضمير، أو ذرة من إنسانية ؟ ألا فتعساً لكل الخونة الجبناء  الذين ما وقفوا مع إخوانهم ، ولا نصروهم ولا ساندوهم ، ولا أطلقوا الرصاص دفاعاً عنهم ، ولقد أحسن القائل :

أطلقْ رصاصك لن تزحزحني  عن عفتي وثبات إيماني

أغراكَ بي أني بلا سندٍ     يقتص لي وسكوت إخواني

ما معنى التباكي على سلامة إسرائيل ، بينما الفلسطينيون ، لا بواكي لهم ، وكأنهم مجرد قطيع لا عتب على إسرائيل إن قتلتهم

عذرا فلسطين قد ذلت قوافينا ماعاد ينفع دمع من بواكينا

ماعاد ينفع أقوالٌ مكررة    بتنا نكرر لم ننقذ فلسطينا

إن السياسة التي تمارسها القوى النافذة في المجتمع الدولي ، هي سياسة الكيل بمكيالين أو ازدواجية المعايير ، وهي تمثل قمة النفاق السياسي ، الذي يستمر، مادام أن هناك مصالح وحروبا ، وأقوياء وضعفاء  وشراء وبيع ذمم. ومادام الوضع العربي غير مستقر، فإن الآلاف يقتلون في ظل الصمت العالمي ، والتعتيم الإعلامي ، وفي ظل عدم اهتمام المسلمين بما يحدث لإخوانهم  وعلى مسمع المنادين بحقوق الإنسان   فأين هم مما يحدث ، من القتل والمجازر المروعة التي لا يمكن مشاهدتها من بشاعتها ، يُقْتل صهيوني واحد ، فتقام الدنيا لأجله ولا تقعد ، بينما تباد أمة بأسرها والعالم ساكت يتفرج ، يرافقه تعتيم إعلامي  لما يعاني المسلمون ، من المجازر الفظيعة التي ترتكب في حق المسلمين ، الذين لا ذنب لهم إلا أنهم قالوا ربنا الله ، لم يبكهم أحد ولم ترصدهم وسائل الإعلام ، ولم تخرج من أجلهم التظاهرات ، ولم تستنكر بشاعة الإجرام الذي يتعرضون له ، ولا يمكن للمجتمع الدولي، أن يبقي على صمته المتحيز  أمام ما يسجله التاريخ ، من  مواقف المقاومة وشجاعتها ، وأمام صرخات الضمائر الحية  التي يغزو صداها شوارع العالم ومنتدياته الحرة  حالٌ لن يدوم لأولئك الذين ظَلموا واستكبروا  وعتوا في الأرض عتوا كبيرا ﴿وسيعلم الذين ظَلموا أي منقلب ينقلبون، صدق الله العظيم ﴾ ولن يبق الحال كما هو ، على الذين تجرعوا  كأس العذاب والظلم ، عقودا من الزمن ونسجوا من آلامهم وأحزانهم وصبرهم ،  أكفانا  يعدونها يوم نصرهم الموعود ، على أعدائهم قال الله تعالى : ﴿ وكان حقا علينا نصر المؤمنين ﴾ .

 

 

الظلم يولِّد الانفجار

قالوا في المثل " كثرة الضغط تولِّد الانفجار " لكل جسم مقدرة محدودة لمقاومة الضغط وتحمله   والشعوب تشبه الأجسام في مدى استعدادها لتحمل الضغط الذي تتم ممارسته عليها ، من الاضطهاد والحرمان والإذلال ، وأساليب القهر والعذاب وعندما يشتد الضغط والظلم ، ويصبح غير قابل لتحمل المزيد فإن ذلك يؤدي إلى الانفجار .  

والمزيد من الضغط على الشعوب ، يؤدي إلى الانتفاضة والثورة ، ومن قديم الزمان كانت الشعوب

 تثور على الظلم والاستبداد ، ففي التاريخ العربي القديم ، قام بنو أسد ب (ثورة) ضد ملكهم حُجر بن عمرو الكندي، والد امرئ القيس الشاعر الجاهلي المشهور، وقتلوه؛ وذلك لقسوته وشدته في معاملته لهم ، ومن يقرأ معلقة عمرو بن كلثوم ، يجد فيها معاني الثورة والتمرد على الظلم وسياسة الاستعباد ، التي كان ينتهجها عمرو بن هند ملك الحيرة ، ثورة أدت إلى قتل ابن كلثوم  الملك   فخرج وهو يردد :

   إذا ما الملك سام الناس خسفاً أبينا أن نقر الظلم فينا

كما يذكر التاريخ ثورة بني شيبان على الفرس في معركة ذي قار ، بسبب ظلم الفرس لهم ، وثورة سيف بن ذي يزن في اليمن ؛ كانت عبارة عن انتفاضة في وجوه الأحباش ، لما كانوا يمارسونه على اليمن من قهر وظلم ، أدى إلى الإطاحة بهم وأبعادهم عن اليمن . وفي العصر الحديث قامت ثورات وانقلابات ، بسبب القهر والظلم الذي عانت منه الشعوب ، ففي فرنسا انتفض الشعب الفرنسي واقتحم الباستيل ، وحطم أبوابه وجدرانه، وغير مجرى التاريخ الفرنسي، وفي أمريكا الثورة التي عرفت بحرب الاستقلال الأمريكية وهي أول الثورات العارمة في التاريخ الحديث ، هذا الانفجار الذي  جعل بريطانيا تتراجع عن موقعها؛ كإمبراطورية عظمى .

إنه الظلم الذي يولد الانفجار ، الظلم الذي قال عنه الإمام علي : " لا يكبرن عليك ظلم من ظلمك ، فإنما يسعى في مضرته ونفعك ، وليس جزاء من سرك أن تسوءه ، ومن سل سيف البغي قتل به  ومن حفر لأخيه بئرا وقع فيها ، ومن هتك حجاب أخيه ، هتكت عورات بيته ، بئس الزاد إلى المعاد العدوان على العباد ، أسد حطوم خير من سلطان ظلوم ، وسلطان ظلوم ، خير من فتن تدوم ، اذكر عند الظلم عدل الله فيك ، وعند القدرة ، قدرة الله عليك " . وللبعد عن الظلم ، فقد قرر الإسلام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لأنه القطب الأعظم في الدين ، والمهمة التي ابتعث الله لها الأنبياء والمرسلين ، فلو طوي بساط العمل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأهمل العمل به  لفشت الضلالة ، وشاعت الجهالة ، وخربت البلاد  وهلك العباد ، قال الله تعالى : ] ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون [ ولذلك كان من خصائص الاستبداد السياسي ، الكره الشديد لحرية النقد والتوجيه ، ومن خصائص الإسلام التي التزم بها لتقويض أركان الاستبداد ، أن أوجب على كل فرد أن ينتقد الخطأ ، وأن يوجه إلى الخير ، ولذلك فإن المستبدين يخافون من هذا النقد ، الذي جعله الإسلام فريضة ، وبين أن تقرير المعروف وأمر كل إنسان به  وتغيير المنكر ، وزجر كل إنسان عنه ، وتتبع الأعمال بالتصويب والتخطئة ، هو سرّ تفضيل أمة الإسلام على غيرها في قوله تعالى : ] كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر [ آل عمران 110 . إن مرارة الحق تنشأ من كراهية المبطلين له  وحرصهم على إسكات دعاته ، مما يجعل الثائرين على الفساد ، يتعرضون للمطاردة والاعتقال والسجن والتعذيب ، في مقابل فريق يقول : لا قيمة للأمر والنهي ، ممن يئسنا من ائتمارهم وانتهائهم  وأن السكوت أجدى ، متجاهلين أن الإسلام احتاط لضمان الحقوق بكف يد الظالم ، واستنهاض المظلوم ليدفع عن نفسه ، حتى يتم تأديب الظالمين ، وتدعيم المستضعفين ، ولو تواصى أهل الناس بهذه المبادئ  ما قامت ثورة ، ولا سفكت قطرة دم ، ولذلك نبه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ضرورة الوقوف إلى صف المظلوم حتى يندفع الضرّ عنه فقال : ( لا يقفن أحدكم موقفاً يقتل فيه رجل ظلماً ، فإن اللعنة تنزل على كل من حضر حين لم يدفعوا عنه ، ولا يقفن أحدكم موقفاً يضرب فيه رجل ظلماً ، فإن اللعنة تنزل على من حضره حين لم يدفعوا عنه ) الترغيب والترهيب .

كثيراً ما ينسى المستبد أمته ، وما أسرع ما ينسى مثله العليا ، ويهبط عنها ، وما أيسر أن يستخدم سلطانه الواسع في غير ما منح له ، ولكن دين الله يحتم على كل مسلم ، أن يقف في وجه المستبد   ولو تحمل في سبيل ذلك الويل والثبور ، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( ألا إن القرآن والسلطان سيفترقان فلا تفارقوا الكتاب ) . كما أن دين الله ينكر أساليب العنف والقتل ، التي يلجأ إليها المستبدون لاستدامة حكمهم ، واستتباب الأمر لهم ، ولذلك فإن دين الله ، يحرِّم أن يُضرب أو يسفك دم الناس ظلما قال صلى الله عليه وسلم : ( لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق ) كما يحرم التعذيب فيما روى عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من جرد ظهر مسلم بغير حق لقي الله وهو عليه غضبان ) .   

إنا نعوذ بالله من إهمال مهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، واستيلاء المداهنة على القلوب وذهاب الغيرة الدينية .

فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الأساس الأعظم للدين ، ولو أهمل لفشت الضلالة ، وعم الفساد ، وهلك العباد ، واستمر صاحب الظلم أو الكفر أو الفسق في عمله ،ولم يبال بالواعظ والناصح  لذا واجب الأخذ على يديه ، ومعاملته بالشدة وإجراء ما يستحقه من : إقامة حد ، أو تعزير ، أو تهديد ، أو توبيخ ، حتى يقف عند حده ، وينـزجر عن باطله . لأنهم إذا لم يأخذوا على يد الظالم أوشك أن يعمهم الله بعقابه ] فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم [ كيف وباب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد ذهب معظمه ، فما بقي منه إلا رسوم أو مجرد ادعاء  فإنا لله وإنا إليه راجعون .  

إن الظلم جرم عظيم ، ما حلّ في قوم إلا أهلكم وأحل بينهم كل سوء ، وظلم عباد الله ، هو الذنب الذي توعّد الله صاحبه بالنكال والوبال وبالعذاب والأخذ الشديد ، ولا يحسبنّ الظالم أنه بقوته وبطشه سينجو من غضب الله وبأسه، فمن ظن ذلك فقد كابر وكذب بوعيد ربه العظيم .

إن الظالم وإن كان ذا صولة ، وجولة في الدنيا إلا أن الله إنما يمهله لكنه لا يهمله ، فقد صح عن النبي  كما في البخاري ومسلم أنه قال : ( إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ) ثم تلا : ] وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [ .

 

 

 

حال المسلمين هذه الأيام

إن الناظر الحال المسلمين ، يرى المنكر يستعلن   والباطل يتبجح ، والعلمانية تتحدث بملء فيها   والرأسمالية تدع إلى نفسها ، والصليبية تخطط وتعمل بلا كلل ، والفضائيات تشيع الفاحشة وتنشر السوء  كما يرى الناظر النساء كاسيات عاريات ، والخمر تشرب جهارا ، وأندية الفساد تجعل الليل نهارا  ويرى المتاجرة بالغرائز على أشدها من أدب مكشوف ، وأغانٍ خليعة ، وأفلام وتمثيليات ومسرحيات ، مواضيعها ما أنزل الله بها من سلطان  أغلبها تصب حول الحب والزواج والطلاق أو تتعرض لكيفية النصب والسلب ، والغدر والقتل بل إن الكثير من مواضيعها ، يصب في نهر الإغراء بالفسوق والعصيان ، والتعويق عن الإسلام والإيمان كما لا يرى التشريع الذي يجب أن يعبر عن عقائد الأمة وقيمها ، ويعاقب من يجترئ على حماها ، بل يرى التشريع الذي يبارك المنكر ، ويؤيد الفساد   لأنه يستند إلى قوانين من وضع البشر ، قوانين تحلُّ كثيراً مما حرم الله ، وتسقط فرائض الله ، وتعطل حدوده ، كما يرى من يوالي من عاد الله ، ويعاد من وال الله ، ولا يذكر الإسلام إلا في المناسبات تمويها على الأمة ، ويرى الظلم البين والتفاوت الطبقي الفاحش ومن يلعبون بالملايين ، وآخرين لا يجدون الملاليم ، ترى قصوراً تشاد وتنفق عليها عشرات الملايين ، وربما لا تسكن في السنة إلا أيام على حين يموت الملايين في العراء ، لا يجدون من كساء ، يحميهم من حرّ الصيف أو برد الشتاء   تموج خزائنهم بالذهب ، وأرصدتهم في البنوك لا يعلم مقدارها إلا الله ، والناس تشكو جيوبهم الإفلاس ، وهناك من لا يجد ما يشتري من القوت ليسد جوعة أطفاله ، مع أنه لو تبرع ثري من الأثرياء بما يكسبه في صفقة ، أو يخسره في ليلة على المائدة الخضراء ، أو ما ينفقه تحت أقدام شقراء  لأغنى الكثير من الفقراء   ، واشبع الكثير من الجياع  وكسا الكثير من العراة .        

نرى الثروات الضخمة تجمع بل تنهب ، والأموال العامة تسرق بل تغصب ، والرشوة لها سوق بل أسواق ، والمحسوبية قائمة على قدم وساق  واللصوص الكبار يتمتعون بالحرية والتكريم ، بينما اللصوص الصغار يتعرضون للعقاب الأليم .

إننا نرى ما نرى ، لأن الإسلام مغيب عن الساحة  غريب في أوطانه ، منكور بين أهله ، معزول عن الحكم والتشريع ، وعن توجيه الحياة العامة وشؤون الدولة في سياساتها ، واقتصادها وسائر علاقاتها بالداخل والخارج ، وترى من المسلمين من يقصر الإسلام على العلاقة بينه وبين ربه ، لا يتجاوزها إلى العلاقات الاجتماعية ، أو الدستورية أو الدولية  بمعنى أن يكون الإسلام عقيدة دون شريعة ، وعبادة دون معاملة ، وديناً دون دولة ، وقرآناً دون سلطان والسؤال هنا : لماذا يعزل الإسلام عن القيادة للأمة والطرد من موقع التشريع والتوجيه ، وأن يحبس في خبايا الضمائر ، وأن يقتصر على البقاء بين جدران المساجد والزوايا ، وعلى أن يظل في المسجد قصير اللسان ، تحت مجهر المراقبة ، ليس له حرية الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .

هناك فرق بين أن تحيد عن صراط الشريعة وعدلها بدافع من شهوة أو غفلة ، وبين أن تجمدها ولا تعترف أو تقرّ بأن لها السيادة والحكم ، لأنها تمثل كلمة الله العليا ] ومن أحسن من الله حكما ً لقومٍ يوقنون [ . وهناك فرق بين القبول بالقوانين الوضعية كأساس للحكم ، وبين الحكم بما أنزل الله الذي يعرض عنه ولاة المسلمين هذه الأيام  ويرتبطون في ولآتهم للمعسكرات المختلفة ، على الولاء لله ورسوله ، بل إن دول الكفر تحركهم من وراء ستار ، لضرب الحركات الإسلامية التي تطالب بالرجوع إلى الإسلام ، عقيدة ونظام حياة ، وتحارب إسلام الموالد والمناسبات ، الذي يسير في ركاب الطغاة ، ويدعو لهم بطول البقاء ، إسلام الجبرية في الاعتقاد ، والابتداع في العبادة ، والسلبية في الأخلاق ، والجمود في التفكير ، والاشتغال بالقشور في الدين دون اللباب ، لأنهم لا يريدون إسلام القرآن والسنة ، والحق والعدل ، والعزة والكرامة  والبذل والجهاد ، لا يريدونه لأنه يربي أبناء الأمة على أن يكونوا من الذين يبلّغون رسالات الله ويخشونه ، ولا يخشون أحداً إلا الله ، مؤمنين بأن الرب واحد ، ولا محل للخوف إلا منه ، ولا اعتماد إلا عليه ، وها نحن نرى نموذجاً منهم في الساحات يطالبون بالتغيير لا يخافون الموت ولا بطش السلطان 

إن المسلمين مدّعون إلى الدعوة إلى توحيد الله وعبادته ، والتذكير بالدار الآخرة ، وبالقيم الدينية العليا ، والتحذير من الموبقات التي غرقت فيها المجتمعات المتقدمة مادياً ومعنويا ، أما الآداب والمكملات التحسينية في الدين ، فمكانها وزمانها بعد تمكين الضروريات والأساسيات وتثبيتها .

إنك ترى الأمة وقد توالت عليها النكبات ، وأثقلتها الجراحات ، وأقعدتها عن السير العثرات، وهانت من ضعفها ، حتى تجرأ عليها من تجرأ ، وتداعت عليها الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها ، لا من قلة ولكنها غثاء كغثاء السيل .

 إنها الغربة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء ) . لكنها  غربة لمرحلة مؤقتة تمر بها الأمة ،  بل هي مرحلة مفصلية في حياة الأمة ، التي لا بد منها للتغيير ، أياً كان مجاله أو وجهته ، غربةٌ توقظ الوعي ، وتحرك الهمم ، وتطلق الإرادات، ولم يسبق لمجتمع ولا لفرد أن استقام على سَنَنٍ جديدة ، إلا من بعد أن اغترب عن حاله الراهنة ، وهي غربة في انتظار من يمحوها لأنها ليست سوى مرحلة أو محطة في حياة الأمة  ولئن كانت الغربة مقدمة للنهضة ، وجزءاً من قانون التغيير، ومحفِّزاً للهمم والإرادات، إلا أن ذلك مشروط بأن يقترن بالعمل الصالح البنَّاء ، المتفائل بالمستقبل ، لا أن نتعامل مع هذه الغربة باعتبارها قدراً محتوماً ، لا رادّ له ولا مفر منه، بحيث لا يكاد ينفع معه العمل، ولا يُرجى من ورائه أمل   ولو كان الأمر كذلك ، لما كان لعمل الدعاة والمصلحين ، أي داع أو مسوِّغ، وإنما المطلوب أن يُدافَع القدر بمثله، أو كما قال عمر رضي الله عنه: "نفر من قدر الله إلى قدر الله" ، فطوبى للغرباء ، إنهم ليسوا ممن قعد ينتظر الساعة ، ويرتقب أشراطها، ولا هم مجرد  القابضين على الجمر" في عزلة عن الناس أو يأس من الظروف كما يُتصوّر، بل هم على العكس من ذلك كما وصفهم صلى الله عليه وسلم : يُصلِحون ما أفسد الناس ويَصلحون إذا فسد الناس ، فإصلاحهم قائم على التفاؤل بالغد من جهة ، والثقة بنوازع الخير في كل إنسان من جهة أخرى ، لسان حالهم العمل من أجل الإصلاح ، بدلاً من القعود في محاريب اليأس وزوايا البطالة ، إصلاح لا كما يُظَنُّ- وعظاً ساذجاً كسلوك بعض الدعاة ، أو دعوة خجولة، بل هو تحرير للإنسان من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد  والإصلاح الذي يقوم بمهمة كهذه ، لا يمكن إلا أن ينبثق عن وعي عميق ، بكلٍّ من ظروف الواقع  وملابساته من جهة، وآفاقه ومخارجه من جهة أخرى، وقد سبق أن قامت به الرسالة المحمدية في الغربة الأولى ، فأعادت الإنسان إلى رشده، وأطلقته من قيوده، ووضعته وجهاً لوجه أمام دوره ومسؤولياته، فإذا به يغير وجه الدنيا ، ويبني عالماً جديداً أفضل، فانقشعت الغربة الأولى ، عن وجه الإسلام ، وامتد سلطانه السياسي على قلب العالم القديم ، مثلما امتد شعاعه الفكري ، على أبعد من ذلك ، وها هم حملة رسالة التغيير ، يحملون رسالة الإصلاح للناس، ويسعون بها ثابتين واثقين من نصر الله تبارك وتعالى، لا يهمهم أن تتكالب عليها كل القوى، ولا يهمهم أن تكثر المؤامرات التي تحاك لهم ولا يثنيهم البطش والقتل ، ولا ما يتعرضون له من أنواع التعذيب ،  فهم ماضون حتى يبلغ الله بهم أمره، وهم الطائفة الظاهرة الذين لا يضرهم من خذلهم ، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك.

إننا نرى غربة الإسلام في ديار الإسلام ، وفي غير ديار الإسلام، ولكنها ليست الغربة الدالة على القلة والذلة، بل هي الغربة المبشرة بعلو هذه راية الإسلام ، ونصر رسالته ، وهاهم غرباء اليوم  من رواد التغيير ، يجنون من ثمار حراكهم ، ما لم يجنه الجيل السابق ، وإنا لنرجوا من الله أن يؤتي أُكُله ليؤول إلى التمكين ، وإرث الأرض بوعد القرآن الكريم : ] ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون [ وعندها تتحقق العالمية الثانية للإسلام، العالمية التي قال الله تعالى عنها : ] هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا [ .

 

  

 

 

 

 

 

 

متى يستيقظ الغافلون

الغفلة هي التي تحجب العقل عن التفكر في العواقب وتحجب القلب عن استشعار مراقبة الخالق؛ فإذا كان يوم القيامة ، وجد العبد الغافل حصاد عمره جبالاً من الأوزار ، ينأى عن حملها، فبسبب الغفلة وتحت تأثيرها وقعت المعصية ، ونسي أن الله يحصيها عليه  حتى تراكمت وصارت كالجبال!!  فلا تكن أسير الغفلة ، وعد نفسك لساعة الحساب قال تعالى : ﴿ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ ﴾الأنبياء1. والذي يتأمل أحوال الناس في هذا الزمن يرى تطابق الآية تماماً مع واقع كثير منهم ، وذلك  ،بإعراضهم عن منهج الله وغفلتهم عن الآخرة وعن ما خلقوا من أجله، وكأنهم لم يخلقوا للعبادة، وإنما خلقوا للدنيا وشهواتها، فإن فكروا فللدنيا وإن أحبوا فللدنيا، وإن عملوا فللدنيا، فيها يتخاصمون ومن أجلها يتقاتلون وبسببها يتهاونون أو يتركون كثيرأ من أوامر ربهم فترى من يترك الصلاة أو يؤخرها عن وقتها ، من أجل اجتماع عمل ، أو من أجل مباراة ، أو موعد مهم ونحو ذلك !! كل شيء في حياتهم له مكان ! للوظيفة مكان، للرياضة مكان، للتجارة مكان للرحلات مكان، للأفلام والمسلسلات وللأغاني مكان، للنوم مكان، للأكل والشرب مكان، كل شيء له مكان ، أما القرآن وتطبيق منهج الله فليس له مكان ، فانشغلوا براحة أبدانهم وسعادتها في الدنيا الفانية وأهملوا سعادتها وراحتها في الأخرى الباقية.

يا متعب الجسم كم تسعى لراحته     أتعبت جسمك فيما فيه خسران؟!

أقبل على الروح واستكمل فضائلها    فأنت بالروح لا بالجسم إنـسان

ما أحرص الناس على أموالهم ، وما أحرصهم على وظائفهم وصحتهم ، أما دينهم والتفقه فيه وتطبيقه والتقيد به فهي آخر ما يفكرون فيه ، فهم كما قيل:  

نهارك يا مغرور سهو وغفـلة  وليلك نوم والردى لك لازم

وشغلك فبما سوف تكره غبـه كذلك في الدنيا تعيش البهائم مات عند الكثير الشعور بالذنب والتقصير ، حتى ظن الكثير منهم أنه على خير عظيم ، وأن الجنة تنتظره بمجرد المحافظة على ركن من أركان الدين ، ونسي  الذنوب والمعاصي التي يرتكبها  من غيبة أو بهتان أو نظرة إلى الحرام أو شرب لحرام ، أو غير ذلك من المعاصي والمخالفات ، التي يستهين بها ولا يلقي لها بالاً ، ويظن أنها لا تضره شيئاً ، وهي التي قد تكون سبباً لهلاكه وخسارته في الدنيا والآخرة ن وهو لا يشعر ولذلك قال g : ( إياكم ومحقرات الذنوب فإنها إذا اجتمعت على العبد أهلكته ) ناهيك عن ما يرتكبه البعض من كبائر وموبقات ، من ربا وزنا ولواط ورشوة وعقوق وغير ذلك من الذنوب ، وقد غفلوا عن الموت والحساب ، والقبر والصراط، والنار والعذاب، أهوال وأهوال في يوم ذهبت فيه اللذات وبقيت التبعات وانقضت الشهوات ، متاع قليل ثم عذاب أليم :

تا الله لو عاش الفتى في عمره   ألفاً من الأعوام مالك أمره

متلذذاً فـيها بكل نعـيم      متنعماً فيها بنعمى عصره

ما كان ذلك كله في أن يفي  بمبيت أول ليلة فـي قبره

سوف يندم الغافلون أشد الندم ، إذا استمروا في غيهم ولهوهم وعنادهم ، ولم يفيقوا من غفلتهم وسباتهم ويتوبوا إلى ربهم. أما آن لهم أن يعلموا الغاية التي من أجلها خلقوا ؟

أما والله لوعلم الأنـام  لما خلقوا لما غفلوا وناموا

لقد خلقوا لما لو أبصرته  عيون قلوبهم تاهوا وهاموا

ممات ثم قـبرثم حشر   وتـوبـيخ وأهوال عظام

 فيا من تعصي الله إلى متى هذه الغفلة؟ إلى متى الإعراض عن الله؟ أما آن لك تصحو من غفلتك؟ أما آن لقلبك القاسي أن يلين ويخشع لرب العالمين قال تعالى : ﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ ﴾ الحديد16 . أما آن لك أن تسير في قافلة التائبين؟ وإني لك من الناصحين ، باجتناب مسايرة الغافلين قال تعالى: ﴿وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ﴾ ، وأحسن القائل :

إذا ما نهاك امرؤ ناصـح   عن الفاحشات انزجر وانتهي

إن دنيا يا أخي من بعدها   ظلمة القبر وصوت النائحي

لا تساوي حبة من خردل   أو تساوي ريشة من جانحي

فالغفلة صفة ذم ونقص  ، نهى الله عنها عباده وحذر منها ، ونزه نفسه عنها فقال تعالى : ﴿ وَمَا كُنَّا عَنْ الْخَلْقِ غَافِلِينَ ﴾ . وقال تعالى : ﴿ وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ﴾ وبين الله سبحانه ان اهل الغفلة من اهل النار فقال عز وجل : ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ *أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ النَّارُ ﴾. ومِن المحن التي أصابتْ أمَّتَنا في مقتلٍ: الغفلةَ بما تعنيه هذه الكلمة من معانٍ وحقائق، فهي آفةٌ قاتلة، وداءٌ دبَّ في جَسَد الأمَّة الإسلامية فشغلها عن رسالتها وغايتها في هذه الحياة الدنيا، والمتأمِّل في آيات القرآن يرى أنَّ الله سبحانه أنذر وحذَّر مِن هذا الداء المهلِك، الذي أصابَ الأُمم،  فحلَّ بها عقاب الله المعجَّل؛ كما قال تعالى في كتابه لرسوله g : ﴿ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ * لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ يس 7. فهل آن الآوان لأن نفيق من غفلتنا ، ونستيقظ من نومتنا ، ونصحوا من سباتنا ونفتح أعيننا ، ونتحسس لندرك ما يدور بالعالم من حولنا ، قبل أن يفوتنا قطار الزمن وأحسبه قد كاد ، أما آن لنا أن نهب لننفض غبار الذل والوهن والعار عن جبيننا ، لاستعادة كرامتنا المفقودة وتحقيق وحدتنا المنشودة ، ونتوحد ونتجمع حول ديننا الحنيف الذي أكرمنا الله به ، وندرك قولة عظيمة من رجل عظيم من عظماء هذه الأمة  عمر بن الخطاب : " نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فمتى ابتغينا العزة من غيره أذلنا الله "  ألا يكفنا ذلا ومهانة ، والذئب لا يأكل إلا القاصية من الغنم ، أين النخوة والشجاعة والكرامة ؟ أين التكافل والتضامن 

يا ويح أمتنا تساق إلى الردى   ويسومها الخسف الذليل الأرذل

وإذا بساحتها ألمـت نـكبة     يعلـوا صراخ نسائها وتولول

  إلى متى سنطل نجري ونلهث وراء السراب ، ونحن المستهدفون والمظلومون والمقهورون ، أما آن لنا أن نحزم أمرنا ونشد أزرنا ونعتصم بحبل بربنا ) ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم ( أما آن لنا أن نفيق من غفلتنا ونكفر بأعدائنا  ) فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى ( . لقد خلق الله الغافلين واعطاهم الاسماع والابصار والافئدة ، ولكنهم عطلوا هذه الجوارح عما ينفعهم في آخرتهم وعن التأمل والتدبر الموصل للحق ، لذا انزلهم الله منزلة الذي لا يسمع ولا يعقل بل هم يعترفون بذلك يوم القيامة قال تعالى : ﴿ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ . وذكر الله تعالى أن هذا الصنف الذي يعرض على النار يوم القيامة ، هم اولئك الذين غفلوا عن ذكر الله وصارت اعينهم في غطاء من تلك الغفلة قال تعالى : ﴿ وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا *الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا ﴾ولقد أحسن القائل :

وانتبه من رقدة الغفلة فالعمر قليل    واطرح سوف وحتى فهما داء دخيل

لقد أورثت الغفلة طول الأمل، فقست القلوب  وكثر الفسوق والفجور، يقول ابن قدامة يرحمه الله: واعلم أن السبب في طول الأمل شيئان: أحدهما: حب الدنيا، والثاني: الجهل. أما حب الدنيا فإن الإنسان إذا أنس بها وبشهواتها ولذاتها ثقل على قلبه مفارقتها، فامتنع قلبه من التفكر في الموت الذي هو سبب مفارقتها، وكل من كره شيئاً دفعه عن نفسه والإنسان مشغول بالأماني الباطلة، فيمني نفسه أبداً بما يوافق مراده من البقاء في الدنيا، ما يحتاج إليه من مال وأهل ومسكن، فيلهو بذلك عن الموت ، فإذا خطر له الموت في بعض والحاجة للاستعداد له سوَّف بذلك ووعد نفسه بالتوبة بعد أن يفرغ من بناء  الدار، وعمارة هذه الضيعة أو يرجع من هذه السفرة، فلا يزال يسوف ويؤخر إلى أن تتخطفه المنية في وقت لا يحتسبه فتطول عند ذلك حسرته.

السبب الثاني: الجهل، وهو أن الإنسان يعول على شبابه ويستبعد قرب الموت مع الشباب، ولو تفكر المسكين أن مشايخ بلده ، لو عدوا لما كانوا عشرة ولأدرك أنهم إنما قلوا لأن الموت في الشباب أكثر وإلى أن يموت شيخ قد يموت ألف صبي، وقد يغتر بصحته ولا يدري أن الموت يأتي فجأة، ولو تفكر أن الموت ليس له وقت مخصوص ، ولا يبعده الشباب أو تدفعه الصحة واكتمال القوى ، لعظم ذلك عنده واستعد للموت وما بعده.

وحتى لا يكون الإنسان من الغافلين فاليذكر الله ولذلك أمر الله رسوله أن بذكره حتى لا يكون من الغافلين قال تعالى : ﴿ وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ ﴾ الأعراف 205 . وقد امتثل أمر ربه، وكان قدوة الذاكرين وموقظاً للغافلين ، وكان g مستحضراً لذكر الله آناء الليل وأطراف النهار  مذكراً بأهوال يوم القيامة، عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: كان رسول الله g إذا ذهب ثلث الليل قام فقال: "يا أيها الناس اذكروا الله، جاءت الراجفة، تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه".

 قال بعض العارفين : "في القلب قسوة لا يذيبها إلا ذكر الله تعالى". وقال رجل للحسن: "يا أبا سعيد أشكو إليك قسوة قلبي؟ قال: أذبه بالذكر". وإذا كان الذكر شفاء القلب ودواءه، فالغفلة داؤه وشقاؤه . وقد بلغت الغفلة عند بعض الناس إلى حد قول القائل:

فنسيان ذكر الله موت قلوبهم        وأجسامهم قبل القبور قبور

وأرواحهم في وحشة من جسومهم   وليس لهم حتى النشور نشور

وإذا كان الذكر علاجاً للغفلة، فقراءة كتاب الله وتدبر آياته ووعده ووعيده، والاتعاظ بقصصه كفيل بيقظة الإنسان وتذكره، قال تعالى: ﴿ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ﴾ قّ 45. ومن أنفع الأدوية لعلاج الغفلة: المداومة على محاسبة النفس، وحسب العاقل أن يقف في محاسبته لنفسه على قوله تعالى: ﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً ﴾ آل عمران30. وصدق من قال: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا". ومن رحمة الله بنا أن نهانا عن الغفلة وحذرنا منها وتوعدنا عليها قائلاً: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ . أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ يونس7 .  إنَّ الغفلة داء من أخطر ما تمر به الأمة اليوم هذا الداء القاتِل، الذي بدَتْ لنا مظاهرُه في حياة الأمَّة المعاصِرة اليوم، والتي ينبغي عليها أن تتخلَّص منه؛ لتصحوَ من رقادها، وتستبينَ طريقها، حتى لا تؤخَذ على غِرَّة مع الغافلين، سَأَلَ رجلٌ ابن الجوزي: أيجوز أن أفسح لنفسي في مباحِ الملاهي؟ فقال: "عندَ نفسك من الغفلة ما يَكْفيها" وفي الاعتصامُ بالله ورسوله نجاةٌ للأمَّة من طوق الغفلة، وهدايةٌ لها إلى الطريق الصحيح، فلا اعوجاج ولا زيغَ ولا انحراف ولا بِدعَ ولا أهواء قال تعالى  :﴿واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ﴾ .

 

 

 

 

واجب المسلم في مواجهة المحن

 إن الناس يُصبحون ويمسون ، وينامون على وقع الأحداث  والتحولات والتغيرات ، التي تطرأ في كلّ حين ، وفي زمن كهذا نحن في أمس الحاجة إلى أن نتذاكر ، ونتّعِظ ونتواصى بما هو خير  ولعل أهمّ ما يُوصى به المسلمون ، الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر ، والدعوة إلى الله تعالى ونشر الخير، والاجتهاد في تربية الأجيال على الإسلام ،ليكونوا دعاةً إلى الخير قال تعالى : ] وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [ آل عمران 104 فقد جعل مساءلة الحاكم وتغيير المنكر فرضا على كل فرد ، فرض كفاية بإطلاق، وعينيا لمن نصب له ،  حتى يتغير المنكر ويزول الفساد .
وقي زمن الاختلاف واختلاط الأمور، يُوصَى المسلم بكفّ اللِّسان وترك ما لا يعني من قول أو فعل ، قال صلى الله عليه وسلم : ( مِن حُسْن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ) . فهذا عمر بن عبد العزيز يقول في الفتنة بين الصحابة : " تلك دماء طهَّر الله منها سيوفنا، فلا نُخضِّب بها ألسنتنا " ولمّا قُتِل الحُسين بن علي رضي الله عنه، قال رجل للربيع بن خيثـم : ما تقول ؟ قال : ما أقول ؟ إلى الله إيّابهم ، وعليه حسابهم " . فليُمْسِك المسلم لسانه عن مُحبطات الإيمان   ومُبطلات الأعمال  وليصُن سمعه عن تلقي الشائعات واستقبال المُرجفات ، والميل إلى التفكير باليأس والإحباط ، بدلاً من العمل والجهاد ، واستنفار القوى والطاقات ، واستثمار الأحداث لإعادة صياغة والأمة ، وعند الصدام والقتال ضد الحاكم ، وهل هو من الجهاد في سبيل الله ؟ فإن كفر الحاكم فعلاً ، وساندته قوى وأيدته على باطله ، فالقتال في سبيل إزاحته وقتله هو جهادٌ في سبيل الله  لأن الحاكم بالكفر البواح صار من أهل الحرب ، والمسلمون الذين يقاتلون في صفه ، صاروا بغاة ، يستعين بهم من هو من أهل الحرب  فمن يقتل على أيديهم ، إنما يُقْتل في حرب ضد الكافر ، فيكون شهيداً في حكم الدنيا والآخرة ، وتكون هذه الحرب جهاداً في سبيل الله ، أما إذا لم يرتد الحاكم عن الإسلام ، وإنما ارتكب انحرافات ، حُكم عليه معها بخلعه ، فإن تشبث بسلطته وجرى القتال معه ومع أنصاره ، فإن القتال هنا يكون قتال بغاة ، كما قاتل على بن أبي طالب معاوية بعد عزله عن ولاية الشام ، ورفض التنازل عن سلطته ، أما إن كان مغتصباً للسلطة ، فقتاله مشروع  والموت في سبيل ذلك شهادة ، لقوله صلى الله عليه وسلم : ( من قتل دون مظلمته فهو شهيد ) أحمد ومجمع الزوائد . كما جاء في مسند أحمد قول الني صلى الله عليه وسلم ( نعم المِيتةُ أن يموت الرجل دون حقه ) والسلطة هي حق للأمة ، لها أن تقاتل لاسترجاعها -الجهاد والقتال في السياسة الشرعية ج1 140 .

إنه لا أضر على الأمة إذا ما ابتليت ، أن تركن إلى الدعة أو السكوت ، ولا يخفى على أحدٍ ما يَحْدُث  مِنْ دمارٍ شاملٍ  وحصارٍ خانقٍ، وتقتيلٍ جماعيٍّ، وإبادةٍ ساحقةٍ، لا تفرِّق بين صغيرٍ وكبيرٍ، أو بين محاربٍ ومسالم ، دُبِّر لها على مَسْمَعٍ مِنَ العالم  وتحت أنظاره ، بسبب ما أسْمَوْهُ بملاحقةِ الجماعات الإرهابيَّة لإبادتهم واستئصالهم ، ولا مَنْ يُحرِّك ساكنًا لإنقاذهم وتخليصهم من آلات الدَّمار الحاصد للأرواح ، والمخرِّب للعمران ، وصدق القائل :

قَتْلُ رجلٍ في غابة جريمةٌ لا تُغْتَفَر   وإبادةُ شعبٍ بأكمله مسألةٌ فيها نَظَر

والسؤال هنا : ما هو السَّبيل الأمثل لردِّ عدوان المعتدين ؟!

وهذا هو المحكُّ الَّذي تُخْلَطُ فيه الأوراق، وتتباين فيه الحلول، وتكثر فيه الشِّعارات والمبادرات، وتُثَمَّنُ فيه المواقف أو تُبْتَذَل .

وقبل الحديث عن واجبِ المسلم حيال هذه المحنة؛ لابدَّ أن نبيِّن أنَّ قضيَّةَ كل بلد من بلاد المسلمين ، وخاصةً قضية فلسطين ، هي محنةٌ امتحنَ اللهُ بها جميعَ مُسْلِمِي هذا الزَّمان ، ضمائرَ وَهِمَمًا، وأموالاً ومواقفَ ، لأن فلسطينُ ليست لعربِ فلسطين وحدهم ، وإنَّما هي للعرب كلِّهم، بل لجميع المسلمين .

ولستُ أدْرِي سِوَى الإسلام لي وَطَنًا  الشَّام فيه ووادي النّيل سيَّان

وحيثما ذُكِرَ اسمُ الله في بلدٍ        عَدَدْتُ أرجاءه من لبِّ أوطاني

وحتَّى لا نغالط التَّاريخ يجب أن نذكر أنَّ قضية فلسطين حقٌّ مُضَاع ، فرَّط المسلمون في الحفاظِ عليه .

ابْكِ مثل النِّساء ملكًا مُضَاعًا       لم تحافظ عليه مثل الرِّجال

وإنَّ هذا الحقَّ المضاع من أرض فلسطين وقدسِه الجريح؛ لا يُنال   بدون تضحيةٍ أو ثَمَنٍ، ولا يُنال بالضّعف والتَّخاذل، لأن المعتدين المحتلين ، فإنه لا سبيل لوقف زحفِهم ، إلا بإعداد العدة ، ومعالجة الأسباب الَّتي أوصلتنا إلى الضَّعف والاستكانة ، والعمل على إزالتها ومحوها من قاموس مسيرة الأمَّة واتخاذ الأسباب الجالبة للنَّصر والغلبة والعزِّ والتَّمكين ، لأن القضايا العادلة ، والحقوق المشروعة  لا تُنال بالأقلام والأفلام، ولا بالأعلام والإعلام، ولا بالأماني والأحلام ، وإنَّما تُنال بتغيير ما بالنَّفس من اعوجاج وانحرافٍ، وإصلاح العقول ، قبل خوض المعارك والخُطُوبِ ] إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [ .

ولا يخالفُ عاقلٌ إذا قُلْنَا : إنَّ ما حدث ويحدث من تسلُّط الأعداء على آحاد المسلمين وجماعاتهم ، واعتداءٍ على كرامتهم ومقدَّساتهم إنَّما هو بسبب الذُّنوب والمعاصي : ] وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [ 830 . وبسبب الجهل بأحكام الدِّين وتعاليمه، والتَّبعيَّة لأعداء الإسلام، دون النَّظر في المعايير الشَّرعيَّة في المحاكاة والمشابهة ، فاختلَّ عند أكثر المسلمين ميزانُ الولاء والبراء، وغابت معالمه؛ فزادوا الأمَّة فرقةً وتناحرًا، وأَوْقَدُوا بذلك نار العداوة والبغضاء، فلا هم للإسلام نصروا ولا لأعدائه كسروا، بل أعانوا أعداءه على تمزيق شَمْلِه وتفريق كلمته . وساعدوا على تمكُّن روح الانهزاميَّة والشُّعور باليأس والقنوط ، مع أنَّ الله يقول: ] وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [ . لكنهم نسوا أو تناسوا ، أن من واجب كل مسلم أن يعتز بهذا الدين ، وأن يدفع عنه كل ما يراد به من سوء ، وأن يعلم أن الجهر بالحق والتزامه ، من صميم مبادئ الإسلام لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من لم يحمد عدلاً ولم يذم جورا فقد بارز الله بالمحاربة )

إنه ليس من الإسلام ما نحن فيه من جهل وتأخر وهوان ، وليس منه ما ينسب إليه حتى ينال من مكانته ، وما رمي الإسلام بالتهم  وهوجم صراحة إلا عندما تخاذل وتآمر عليه الذين يدّعون الإسلام  فكانوا منفرين لا مبشرين ، بدلاً أن يخلصوا لدينهم ولأمتهم وللناس أجمعين ، ولو كان إيمانهم عن فهم واقتناع ، لأنقذوا أنفسهم وأمتهم من متاهات التخبط والضياع ، ولما كانوا ألعوبةً بيد الأعداء الذي أمِنوا منهم على مصالحهم ومخططاتهم ، وما علموا أن ذلك يتنافى مع حقيقة الإيمان ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو داود ( لا يذوق أحدكم حلاوة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه ما كان ليخطئه وما أخطأه ما كان ليصيبه ) . 

إن ظلم الناس للناس وإعانة الظالم على ظلمه ، والسير في ركابه أمرٌ ينكره الإسلام قال صلى الله عليه وسلم ( من أعان باطلاً ليدحض بباطله حقاً فقد برئت منه ذمة الله ورسوله ) الحاكم . 

والظلم يخرب البلاد ، بقتل أهلها وانجلائهم عنها ، عن ابن عباس أنه قال: "أجد في كتاب الله تعالى أن الظلم يخرب البيوت وتلا قوله تعالى : ] فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [ النمل: 52. وإن أخطر ما يزرعه الظلم ، الاستهانة بكرامة الأمة ، فتصبح غير قادرة على قول الحق ومقاومة الباطل ، لأنها ذليلة ضعيفة ؛ إذ الظلم يورث الذل والضعف ، ولهذا يربِّي الإسلام أمته على شعار : "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً". المستطرف ( ج1 - ص239). ولذلك كان لابد من الإنكار على الظالم أيا كان ونصرة المظلوم ؛ عن قيس قال: قال أبو بكر بعد أن حمد الله وأثنى عليه يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية وتضعونها على غير مواضعها ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ..) المائدة: 105 . وإنا سمعنا النبي  صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه ، أوشك أن يعمهم الله بعقاب) أبو داود . ولا يجوز الاستكانة للظالمين لقوله تعالى : ] وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ [ 39 الشورى . قال القرطبي : " أي إذا نالهم ظلم من ظالم لم يستسلموا لظلمه " وعُد من مات دون حقه من الشهداء ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ( مَن قتل دون مظلمته فهو شهيد ) النسائي  .

ومن سبل الوقاية من الظلم ؛ التحذير من إعانة الظالم على ظلمه  عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ] مَن أعان على خصومة بظلم (أو يعين على ظلم) لم يزل في سخط الله حتى ينزع [ -أي حتى يترك ذلك بالتوبة - ابن ماجة . وعن ابن عباس قال: ( من أعان ظالما ليدحض بباطله حقا ، فقد برئت منه ذمة الله وذمة رسوله ) الجامع الصغير . ولذلك شمل العذاب أعوان فرعون ، ولم ينفرد به فرعون وحده :] فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ [ القصص40. وسمَّاهم ظالمين مع أن فرعون هو الظالم ، ولكنهم صاروا مثله لما أعانوه . وهذا يشمل حتى مَن دعا له كما قال الحسن البصري : "مَن دعا لظالم بالبقاء فقد أحب أن يعصى الله في أرضه" . ومن سبل الوقاية عدم الركون إلى الظالمين بأي نوع من أنواع الركون ، حتى يعجزوا أو يضعفوا عن ارتكاب الظلم ؛ لأنهم لا يرتكبون الظلم إلا بأعوانهم ، وبسكوت أهل الحق عنه ] وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ [ هود 113. قال الزمخشري في التفسير :"والنهي متناول للانحطاط في هواهم والانقطاع إليهم ومصاحبتهم ومجالستهم وزيارتهم ، وذكرهم بما فيه تعظيم لهم".  

 وتحدث القرآن الكريم عن سنة الظلم والظالمين فبين أن الظالمين لا يفلحون في الدنيا ولا في الآخرة ولا تتخلف سنة الله عنهم قال تعالى : ] إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [ الأنعام 135. وبين أن الرعية الظالمة التي يتظالم أفرادها فيما بينهم ، يولى عليهم حاكم ظالم فيكون تسلطه عليهم من العقاب على ظلمهم : ] وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ[ الأنعام 129 . وبين أن الأمة الظالمة هالكة بسبب ظلمها  ] فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [ الأنعام 45.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ما المطلوب في ذكرى الإسراء

تقبل ذكرى الإسراء على بلاد المسلمين ، وهي تتعثر بين الحزن والحياء ، من سوء ما يحل بها من أحداث وأوضاع ، وما تعانيه ممن جعل الحكم قتلاً للناس   ووأداً لحقوقهم ، ووسط هذه المآسي تقبل الذكرى والمسلمون يحتفلون بها على العهد بهم في كل عام   يخطب الخطباء ويتبارى الشعراء فيقول قائلهم :

وأجمل منك لم تر قط عيني     وأحسن منك لم تلد النساء

والغريب أن هذه الأحفال تقام من بعض من إذا حوكموا إلى نواميس الدنيا دانتهم ، وإن حوكموا إلى نواميس الدين أخزتهم ، وإذا كنا لا نتبع الرسول  صلى الله عليه وسلم  فلا ضورة للاحتفال بالذكرى ، لأن من الخير لنا أن نتبع الرسول إن كنا نحبه حقا .

منذ أربعة عشر قرنا حكوا أن أبا هريرة نادى الناس في السوق : " أنتم هنا وميراث محمد يقسم في المسجد " فذهب الناس إلى المسجد ، ثم عادوا يقولون : " ما رأينا إلا أُناساً يقرءون القرآن " قال : " ويحكم وهل ترك محمدٌ ميراثٌ إلا هذا ؟ " ، إذا كان القراء قديماً يتقاسمون تراث محمد في المسجد  ففي هذه الأيام نجد تراث محمد من هداية وملك   تتقاسمه قوى الشر ، وترصد جهدها كله لهدمه وامتهانه ، ثم يأتي من لا يعرفونه ولا يتبعونه  فيقصروا حب الرسول والتأسي به على الاحتفال بالذكريات المتعلفة به .

نعم إن محمداً  صلى الله عليه وسلم  نبي النور والرحمة ، ولست أدري كيف ينتسب إليه شخص مظلم أو أمةٌ مظلمة ، ومن المعلوم أن الذين يفتقرون إلى انوار العلم والفضيلة   والحق والعدل والإيمان ، ليسوا من محمد  صلى الله عليه وسلم في قليل ولا كثير ، ولا يغني عنهم اهتمامهم بالمظاهر والأشكال في هذا الصدد شيئا . إن ظلمات الفوضى والمذلة والجهالة التي تمرّ بها الأمة اليوم ، تجعل النبي  صلى الله عليه وسلم ينظر إليهم فيأسى ، أليس نبي النور ؟ فما للنور وأهل القبور ؟ فما يبالي محمدٌ  صلى الله عليه وسلم عن البراء من أمة ، إلا أن تكون كما عنت الآية القرآنية الكريمة : ﴿ أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مَثَلُه في الظلمات ليس بخارج منها ﴾ الأنعام 122 . نعم إذا عاد المسلمون إلى الحياة الصحيحة ، وانطلقوا تحف بهم انوار الهدى إذا عادوا كانوا أهلاً لخير أمة أُخرجت للناس ، لأن محمداً صلى الله عليه وسلم يحب النور ، ويسأل الله المزيد , ويكره الظلام وينأى بقلبه عنه ، لا أعني ظلام الليل ، إنما ظلام الجاهلية والنفاق ، والانقطاع عن الله وهجر منهج الله ، ولذلك فهو يدع الله فيقول : ( اللهم اجعل في قلبي نورا وفي بصري نورا وفي سمعي نورا وعن يميني نورا وخلفي نورا ) أحمد .

ففي ذكرى الإسراء ندعوا صانعي الأوهام لأنفسهم أن يقتدوا بسيرة هذا الإنسان الجليل محمد g ليروا كيف تجمعت مُثلُ الشجاعة والكرم والبر والإخلاص والصبر والجهاد والمجاهدة ، ليروا كيف تجمعت في مثال واحد ، نفخ الله فيه من روحه ، فجعله بشراً سويا ، ورسولاً نبيا ، ويوم تتعلق العيون بهذا المثل وتحاول التاسي به ، فإنا موقنون بأن العنصر الأصيل في عظمة محمد  صلى الله عليه وسلم هو الرحمة التي تجعلة يتصل بالحياة وفي نفسه عواطف غامرة من الشوق والرغبة في تطبيق سنته والسير على هداه ، رحمة تجعل الشدّة على الكفر مصدرها الغيرة على الإيمان ، والسعي لحمايته من العابثين ، ولذلك وصف الله الني وصحابته فقال تعالى : ﴿ محمدٌ رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم ﴾ الفتح 29 . 

فالدين هو هذه العاطفة الحرة ، اشمئزاز من مسالك الفسقة والظلمة ومحاسبتهم ، وإن أقعدك العجز عن ذلك ، سكنت سكون المقهور ، لا سكون البليد  فقد رأينا من أرهبهم حبروت الظلمة ، فلاذوا بأضعف الإيمان ، ورأوا أن يغيروا المنكر بقلوبهم فحسب ، ومما يدع للأسف أن يكون عمل الكثير من المشتغلين بالدعوة إلى الله ، هو هذا الإنكار القلبي إن سقوط الهمة سيئة فاضحة ، وقد نعى الرسول  صلى الله عليه وسلم على أولئك الساقطين ، أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه ، وإذا سرق الضعيف جلدوه ، كان ذلك مظهراً من مظاهر الجبن أمام الكبار والتطاول على الصغار ، ثم متى كانت نصرة الإسلام تعتمد الخطب في الأحفال ، ما يقال فيها مأمون النتائج ، علماً بأن الدعوة إلى الحق والجهاد تحتاج إلى ألوف مؤلفة ممن يعافون حياة الدعة ويعشقون حياة المخاطر والمجازفات ، قال  صلى الله عليه وسلم  : ( إن الشيطان قعد لابن آدم بطريق الإسلام فقال : تسلم وتدع دينك ودين آبائك ؟ فعصاه ، فأسلم فغفر له ، فقعد له بطريق الهجرة فقال له : تهاجر وتذر دارك وأرضك وسماءك فعصاه فهاجر ، فقعد له بطريق الجهاد   فقال : تجاهد فتقاتل ، فتُنكح المرأة ويقسم المال   فعصاه فجاهد ، قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم : ( من فعل ذلك فمات كان حقاً على الله أن يُدخله الجنة  وإن غرق كان حقاً على الله أن يدخله الجنة وإن وقصته دابته كان حقاً على الله أن يدخله الجنة ) فالإنسان بهذا الوصف الذي تغلّب على وساوس الدنيا وروابط الحرص عليها هو المثل للرجال الذي انتصر الإسلام بهم قديما ، ولا ينتصر الإسلام حديثاً إلا بمثلهم ، أولئك الذين يحكمون بالحق ، فإذا اختلطت الأمور وخيفت المظالم ، قضوا بين الناس بالعدل ، فجاء قضاؤهم العادل نوراً يمحو الظلم والظلام ، أولئك هم المصطفون الأخيار من عباد الله رجال في وقت عز فيه نصراء الحق ، وسخر الدين كما سخرت الدنيا لحراسة الجور والظلم .

إن ترك الباطل يمر دون نكير ، أمر خطير جد خطير ، وليس المهم أن تكسر شوكته بحولك ، فقد تكون ضعيف الحول ، بل المهم إذا رأيت المبطلين سادرين في جرائمهم ، متجاهرين بمناكرهم ، أن تقول عند ظهور عجزك واستحالة مقاومتك ، مقالة العبد الصالح لوط لقومه لما ﴿ قالوا لئن لم تنته يا لوط لنكونن من المُخْرَجين قال : إني لعملكم من القالِين رب نجني وأهلي مما يعملون ﴾ الشعراء 167 أما الذهاب إلى فاعل المنكر ، وإبداء الاحترام له فلا لأن الأمم التي يخرس صوت الحق بين كبارها وصغارها ، وتتوارث هذا الصمت ، أمة لا تستحق الحياة ، ومن حق الحياة أن تخلو منها .    

لنُقبل على الله في ذكرى الإسراء حتى يمن علينا بالرجولة المؤمنة الطاهرة التي تفعل الأعاجيب، وليس هذا على الله بعزيز، هذه الرجولة التي يحتاجها بيت المقدس لتخليصه من الطامعين، الذين لا يرقبون في بقعة من بقاعه ومقدساته، إلاً ولا ذمة ، إنه يهيب بكل مسلم على وجه الأرض ، يحتفل بذكرى الإسراء والمعراج   أو لا يحتفل، أن يفكر وأن يستعد، وأن يعد لإنقاذه مما حل به من هوان وامتهان  حتى يعود حرًا كريمًا ، وإلا فما أقسى الحساب في يوم المآب .

 

 

 

 

 

  

 

 

 أسباب النصر والهزيمة

 قال تعالى : ﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار ﴾ 19 الأنفال ، من كان يؤمن بالله ويؤمن بأن النصر والهزيمة موكلان إلى إرادة فوق إرادة الناس ، ويؤمن أن الله هو الذي يدير المعركة ، وإنما المؤمنون ستار للقدرة ، يريد الله أن يجعل لهم ثواب الجهاد ، وهو الذي يلقى في قلوب الذين كفروا الرعب ، وما دام الأمر كذلك ، فمن أعطى للعدو دبره وتولى ، ومن اعتبر ما يجري في بلاد المسلمين أمرٌ لا يهمه ، فقد استحق من الله العقاب قال تعالى : ﴿ ومن يولهم يومئذٍ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله ﴾ 16 الانفال ، وما علموا أن المؤمن لا تهزمه في الأرض قوة ، لأنه موصول بقوة الله التي لا غالب لها  وأنه أقوى من أي خصم يواجهه ، لأنه يؤمن بإحدى الحسنين ، إما أن يحيا عزيزاً أو أن يموت شهيداً ، هذا حكم الله في القرآن عن المعركة .

أما عن واقعنا فلا ندري ماذا يجري غداً أو بعد غد ولا تتضح لنا الصورة الصادقة عما يجري لتلك الحقيقة التي تٌطمس في الحرب الظالمة ، التي تجري ولا تجد الإجابة الشافية للأسئلة التي تطرح ، فلماذا  يقتل القائد شعبه ، ولماذا يقف المسلمون موقف المتفرج ؟  ألا يسمع المسلمون بكاء المنكوبين واستغاثات المظلومين ؟ أم أن الحس تبلد ، وما عاد له وجود ؟ أم أن اخوة الدين مات في القلوب ، فما عاد لقوله g : (مثل المؤمنين في توادهم و تراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)  وما عاد لأخوة الإيمان في القلوب وجود ، لأن هذه الأخوة ما عادت تحرك الضمائر ، لما يجري لإخوانهم المسلمين الذين الذي ضيق عليهم الخناق ، ودمرت بيوتهم وشردوا ، أم أن هذا الأمر لا يعنيهم أم تناسوا أنهم مسئولين أمام الله  وأن تجاهل ما يجري لا ينجي من عذاب الله ، أم انه عز أن نجد في هذا الزمن نخوة وا معتصماه ، أم أن هناك مسرحية جديده ومأساة آتية وما ندري ما يدبرون وما يكيدون ، وإلا لماذا هذه المواقف الحيادية ؟ ولماذا ترضى الأمة بهذا التقصير ؟ فما يجري ليس مسألة حياة أو موت ، بل إنها مسألة مصير أمة ، وتباً لمن يرى أخاه يموت ولا يمد له العون  وسحقاً لمن يرى باب الجهاد ولا يجاهد .

إن ما جرى و يجري هو امتحان لعزائم الأمة ومدى استعدادهم للتضحية والجهاد ، فالمتخاذلين من هذه الأمة قد سقطوا سقوطاً ليس له نظير ، وضربوا كل رقم قياسي ، وسبفوا كل سابق في التخاذل والجبن  غير سائلين عن مناصرة المجاهدين والمظلومين ، و ضربوا المثل المخزي في التنكر لديتهم والإعراض عن الثواب الذي أعده الله للمجاهدين ، فكانوا عار هذه الأمة ومصدر بلائها ، فماذا نقول وبماذا نتكلم عندما نرى الإعراض عن الجهاد ، ونرى المجافاة للحق ، والمجادلة في الواقع ، ولماذا نمشي وراء من تنكروا لدينهم ، فلم يعد يجدي معهم وعظ ولا إرشاد ، وماذا ينفع القول باللسان ، ولماذا نقعد عن المطالبة بحقنا فلا نناله ، إنها أيام لها ما بعدها   ومصائب تنسي أواخرها أوائلها ، فما جرى ويجري في بلاد المسلمين جناية لدين الله وللأمة ، ومجزرة ظاهرة ومذبحة معلنة لجرائم من جرائم الغاب ، التي ترتكب مع غياب للضمير العالمي ، الذي كفرنا بعدالته ، لأنها عدالة جائرة ، تكبر الصغير من ذنب الشرقي ، وتصغير الكبير من ذنب الغربي ، ترى الشعرة عندنا ، وتعمى عن كبرى الكبائر عندهم  والسؤال هنا ، لماذا نلومهم ونحن الملومين ؟ لجهلنا بوظيفة دبننا ، الذي يضبط مسالكنا وعلاقاتنا على أسس من الحق والقسط ، لأن الدين بالنسبة للإنسان كالغذاء الضروري لوجوده ، والله بشريعته مع المظلوم ضد سطوة الظالم ، ومع أي إنسان ضد أن يصاب في عرضه أو ماله أو دمه ، ولأن الله لم يرد للناس إلا اليسر والسماحة ، إلا أن الناس أبوا أن يستجيبوا لله ورسوله ، وأن يسيروا وفق ، ما رسمه الله لهم ، فزاغت بهم الأهواء ، فوجد من المسلمين من يسلطون أفكارهم الضيقة على الدين ، يمسخون نصوصه ، ويحرفون الكلم عن مواضعه ، يفهمونه ثواباً بلا عمل ، فتنعكس نصوص الدين مشوهة في أفكارهم ، فلا يفهمون منها إلا ما يشتهون    فاستهانوا بمحارم الله ولم يقيموا لها وزناً ، وتعلقوا بأحاديث من الرجاء ، وما علموا أن هذا من الاغترار والأمن من مكر الله ، فنجد من يقول : أليس مصيرنا الجنة مصداقاً لقول رسول الله g : ( من قال لا إله إلا الله دخل الجنة ) رواه البخاري ، فلا يحفظ من السنة إلا ما يظنه عوناً على كسله ، كالمتسول الذي تغيب عن ذهنه آيات القرآن كلها ، فلا يفهم إلا آية واحدة ﴿ من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ﴾ الأنعام160، يقرأ الآية ليستدر بها الأكف لجمع الأموال   ويصرف النظر عن قوله g : ( لا يدخل الجنة قتات ) وقوله : ( ليس منا من غشنا ) وقوله : ( لا يدخل الجنة قاطع رحم ) وغيرها من السنن التي تدل على ما يترتب عليه من واجبات ، ولكنه لا يفهم إلا ما اعتبره حقاً له ، وهو الجنة التي يطلبها بلا ثمن   لأنه يحسن الظن بربه ، وكيف يحسن الظن بربه وهو شارد عنه ، فهان عليه حقه وأمره فأضاعه، وهان عليه نهيه فارتكبه وأصر عليه، وكيف يحسن الظن بربه من بارزه بالمحاربة، وعادى أولياءه، ووالى أعداءه  فهذا ليس من حسن الظن ، لأن حسن الظن مع اتباع الهوى عجز، كما في الترمذي والمسند من حديث شداد ابن أوس عن النبي  صلى الله عليه وسلم قال: ( الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني ) ومع انعقاد أسباب الهلاك لا يتأتى إحسان الظن ، وإن قيل: بل يتأتى ذلك، ويكون مستند حسن الظن على سعة مغفرة الله ورحمته وعفوه، وأن رحمته سبقت غضبه والحق أنهم كذبوا ، فلو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل  ومن أحسن الظن بربه ، فأيقن صدق وعده ، وتمام أمره   وما أخبر به من نصرة الدين والتمكين في الأرض للمؤمنين ، اجتهد للعمل لهذا الدين ، والدعوة إلى الله والجهاد في سبيله بماله ونفسه  يقدم إقدام الواثق بنصر الله ﴿ ولينصرن الله من ينصره ﴾ .  

 

 

 

 

 

 

نحن الملومين لأن منا من يتنصل من المسئولية ويلقي بالتبعية على الآخرين ، فإذا رأى منكراً  تراه يقول بصورة عفوية : أين فلان؟ أين المشايخ؟ أين العلماء والدعاة؟ وينسى دوره ، ويتناسى أن القرآن نـزل للجميع، وخاطب الناس كلهم فقال الله: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ﴾ وهو من الناس  ويجب أن يقوم بدوره   أو يتعلق بقضية المحنة، فإذا قيل له كم أصيب المسلمون! وكم شردوا! وكم قتلوا! وكم سجنوا!  وكم عانوا من الآلام والمصائب والنكبات ، يقول: إنه الابتلاء والامتحان ، إنه سنة الله في خلقه ، نعم هذا صحيح، لكن لماذا ننسى أنفسنا ، فقد تكون سبباً من أسباب هذه المعاناة ،كما قال الله تعالى لنبيه g وأصحابه في معركة أحد: ﴿ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾آل عمران165. فقد تكون المحنة قضاءً وقدراً لرفع الدرجات، وقد تكون بسبب فعلنا ، ومهما كنا على درجة من الصلاح والاستقامة والدين ، فلن نكون كأصحاب محمد g ، وقيادتنا لن تكون كقيادة محمد g ، ومع ذلك قيل لهم : ﴿ قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ ﴾ آل عمران 165. وهذا درس لكل مسلم  أن لا ينسى دوره في رفع المعاناة التي تصيب المسلمين .  

 

 

  

 

     

 

  

 

 

 

 

الرصاص الغادر

 

رأيت جموعاً محتشدة , وصيحات تتعالى ودموعاً تتساقط , فقلت ما هذه الدموع , أهي دموع الفرح أم دموع الحزن؟!

 

انه يوم عرس قتلى الرصاص الغادر , الذي حول أيام العرس إلى أيام عزاء ، انه الموت , الذي حول السعادة إلى حزن وألم , وبدَّل الضحكات ، بدموع وصيحات ؟ انه الرصاص  ذلك الشبح الذي ينْقَضُّ على الإنسان كما ينقض الحيوان المفترس على فريسته, ليغرس مخالبه في جسدها , وبعد ذلك تنتهي الحياة .

 

 إن القتل والإرهاب من أهم الأساليب التي لجأت إليها بعض الأنظمة لتحقيق أغراضها ، باستخدام أبشع أشكال الإرهاب ضد شعوبها ، من طرد وتعذيب وتهديم للمنازل ، وهتك للأعراض وقد اعتمدت الإرهاب فكراً وممارسة ، ولم يكن من المستغرب أن يكون الإرهاب هو السمة البارزة عندها ، فقد برع زعمائها بما لهم من خبرة في هذا المجال ، وتتواصل هذه الممارسات حيث أوغلت هذه الأنظمة في عدوانها على شعوبها فقتلت وهدمت  وحاصرت وأرهبت وصادرت ، وكان رد الفعل أن أشبعها العرب والمسلمون نقداً ، وهي تواصل عملها ويواصلون كلامهم ونقدهم  يقفون عند هذا الحد ولا يتعدونه ، فما العمل ؟

 

لا أحد يستطيع الإحاطة بتفاصيل الجريمة المروعة فالدم يمتد على مساحة البلاد بامتداد الرصاص الغادر  وما ترصده وسائل الإعلام من جرائم وعمليات قتل  ليس سوى جزء يسير من الممارسات البشعة بحق شعوبهم ، وما يروى من قصص دامية ومشاهد تهز المشاعر والقلوب ، ليس على مستوى الاستنكار لما جرى في غيرها من البلاد الأخرى .  

 

إننا على ثقة بأن مطالبهم ستتحقق يوما ، رضي الظالمون أم سخطوا ، وما يؤلمنا أن نرى  أخوة لنا يُذبحون ذبح الخراف بالجملة   أُسر بأكملها، بشيبها وشبابها، وأطفالها ونسائها  تصرخ : نحن ذهبنا فساعدوا مَن بقي منا، حيث يقتل العشرات ، وقد  دُكّت المنازل، والأحياء والمساجد بلا هوادة  قوافِلُ الشهداء وآلاف المشردين ، ومن بقي معرّض للاغتصاب والذُلِ والإهانة،  فلماذا الرصاص ؟ الذي قتل الأسر وشرد الأطفال ، وفي كل يوم نسمع عن مئات الضحايا ، وكأن إزهاق أرواح الأبرياء أصبح عادة يومية يتلهون بها  ،    ولماذا يحصل هذا ؟  يحصل هذا في تقديري لأنها شهادة مزورة تتعافى منها رائحة العنصرية النتنة ، ولأن الأمة من جهة أخرى واقعة في مناخ الفتنة والهزيمة النفسية ، وتربية حواس الذل في الأمة ، والتطبيع على الهزيمة والمنكر وتأليفه للنفوس ، وانعكاس هذا التطبيع على فهم النصوص الداعية إلى القوامة على الحق والتضحية في سبيله والجهاد من أجله وتأويل النصوص الشرعية بما يكرِّس الهزيمة ويوطِّن الفساد ، ويمكن له في الأرض  ويؤذن بتتابع الأزمات وخراب البلاد ، في وقت تتلاعب الدول الكبرى بالقوانين وفقاً لحاجاتها ولإثبات شرعية هيمنتها إذا ما تعرضت لأي اهتزاز  مما هيء الظروف للظلمة أن يمارسوا القتل والتخريب دون رادع ، ولأن الأمة غافلة عما يراد بها من كيد ، وما دامت في غمرة الرجفة ، فعسير إن لم نقل مستحيل أن تدرك واقعها ، وما دام الذي يبرز في الميدان هو صورة الإسلام لا حقيقته  فلا غرابة أن تنهزم الصورة ، وإن اعتقد الناس أنها هزيمة الإسلام وخذلانه ، فذلك لأن الناس تجاهلوا أن حقيقة الإسلام الذي يحتاج  إلى حكومة تمثله تمثيلاً صحيحا ، وتقوم على أساس الدعوة والهداية المستمدة من كتاب الله وسنة رسوله عليه السلام  وغياب الإسلام هو ما يدفع الإنسان لارتكاب الأفعال المشينه والسلوكيات المنحرفة  فعندما يغيب الأيمان بالله عز وجل عن الضمير الإنساني تنطفيء شعلة الحياء التي هي صفة وجدانية إيمانية تعطي الإنسان وقارا وهيبة في مظهره ورزانة في سلوكه ، فالإيمان يدفع إلى نبذ العنف وظلم الآخرين ، ويؤنب صاحبه على ما يقترفه من آثام وما يقوم به من أفعال يذمها ، الله سبحانه ورسوله والمؤمنين ، وإن من شر ما ابتلي به  الناس في هذا ألزمن هو موت الضمير الذي لا يؤنب صاحبه على فعل المنكر .

 

فسوريا لا يجف فيها دم ، وكما يَطَّلع الناس على النشرة الجوية في كل صباح يتسمعون إلى أنباء القتلى في سوريا ، التي يصر ثوارها على تغيير الواقع الأليم الذي يعانونه والذي وصفه الشاعر بقوله : 

 

قد استردَّ السبايا كل منهزم  لم تبق في أسرها إلا سبايانا

 

وما رأيت سياط الظلم دامية  إلا رأيت عليها لحم أسرانا

 

ولا نموت على حدِّ الظّبا أنفاً  حتى لقد خجلت منا منايانا

 

وإذا كانت أمتنا الإسلامية محتاجة إلى شيء ، فإنها أحوج أمم الأرض إلى الإيمان الذي يملأ فراغها   وإلى الحاكم العدل الذي يسوسها ويعمِّر خرابها   ويعمل لمصلحتها .

 

ويخطئ من يقول إن الأمة الإسلامية ستستسلم للذل والخنوع بعد اليوم ، فهذه هي رغبة الكافرين الذين يعملون على إماتة روح الجهاد في الأمة ، وإذا كانت الظروف التي تعيشها الأمة أقوى من طاقاتها ، فلأنها تعيش فترة استسلام وجمود ، تماماً كانتصارات الصليبيين التي كان مرجعها إلى انحلال القوى الإسلامية وتفككها وعدم ترابطها ، فانشغلت بالتوافه من الأمور وابتعدت عن الجوهر  فما عادت لها هيبة ولا كيان ولا وجود ، فأصبح ما يجري لا يحرك عندها ساكنا :

 

كم يستغيث بنا المستضعفون وهم أسرى وقتلى فما يهتز إنسان

 

لماذا التقاطع في الإسلام بينكم       وأنتم يا عباد الله إخــوان

 

ألا نــفوسٌ  أبيّاتٌ  لها همم   أمـا على الخير أنصار وأعوان

 

إن الذين يشكون بعودة الإسلام قوياً بسبب انبهارهم بقوى الدول الكبرى ، وما تملكه من المخترعات المخزونة من أدوات الدمار نسو أن الله يقول :}لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض  {وأنهم لن يغلبوا الله لأنه كما قال تعالى:} والله غالب على أمره{ أما مع من يكون أمر الله ولمن يكون الاستخلاص ؟ فقد أوضحه قوله تعالى : } يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون {  وكلمة وأطيعوا الرسول ، تعني حراسة سنته والقيام عليها والعمل بها ، إنه لا تعويل بعد اليوم على السياسة ولا على الساسة ، وإنما التعويل كله على الأمم ، ولا معول للأمم في جهادها أنفع لها وأصدق من المضي بها إلى تطبيق أحكام الإسلام   لأن الإسلام لا يهزمه الظلمة ولا تهزمه القوى الأجنبية ، التي مهما اشتد ساعدها فإن نارها إلى خمود وثورانها إلى همود ، وما أصيب الإسلام ولن يصاب إلا من داخل أرضه ومن أبناء أمته ، مما يجعلني أشفق على مستقبل هذه الأمة  لأن العداوات العالمية والمحلية في كثير من الأقطار الإسلامية مخيفة ، وإن بقينا على ما نحن عليه فإن المصير مخوف والعاقبة مقلقلة ، وإن استيقظنا وتمسكنا بديننا وتحول إيماننا إلى عمل ويقيننا إلى سيرة تُفْرَضُ على الأمة  عندها يكون النصر بإذن الله . قال تعالى :}ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز{. الحج 39.

 

   

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الذل بين الأمس والحاضر

 قال تعالى :﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ  ﴾ يمكننا أن نفهم من الآية أن فقه الاستضعاف غير مقبول   وأن تعميمه على الأمة بعبارات الذل والهوان مرفوض وغير مقبول وقديماً قال الشاعر :

 لا تسقني ماء الحياة بذلة  بل فاسقني بالعز كأس الحنظل

كم هو بليغ ذلك البيت الذي يصف مدى مرارة حياة الذل وأنها أشد على الإنسان من كأس من الحنظل , إنها أشبه بالموت بل إن الموت للإنسان أشرف منها .

 قد يعيش الإنسان عيشة الذل بعد العز ، يروي التاريخ كيف عاش البرامكة في العصر العباسي عيشة العز ، وما آل إليه حالهم ، كما هو حال عصابة الفساد في العصر الحديث ، ظلم وطغيان وتجبر وتكبر وفساد وانحلال ، واستغلال سلطتهم لسرقة شعوبهم واستخدام وسائل القهر لتكميم أفواههم وكبت حريتهم .

ذكر الذهبي في كتابه الكبائر:  لما حُبس خالد بن برمك وولده قال: يا أبتي بعد العز صرنا في القيد والحب  ، فقال: يا بني دعوة المظلوم سرت بليل غفلنا عنها ، ولم يغفل الله عنها ، ومن الجدير بالذكر أن البرامكة عاثوا في الأرض فساداً وظلما وطغوا وبغوا وتكبروا وتجبروا ، ونهبوا خيرات البلاد  واستولوا على أموال العباد   وأذاقوهم مرارة الذل  وجرعوهم كأس الأسى والظلم .. فكان مصيرهم أن زجوا في غياهب السجن ومعاناة آلامه.

ما كان يخطر ببال خالد البرمكي يوما ً أن ينسحب البساط من تحت قدميه ، ويودع في السجن لذا قال لأبيه: "بعد العز صرنا في القيد والحبس ،  وما كان يخطر بباله يوما ً أن يترك الترف والنعيم والسؤدد والحكم ، ويوضع في القيد والذل فقال:"بعد العز صرنا في القيد والحبس ، ما كان يخطر بباله يوما ً أن يترك عيشة القصور والمبيت على الحرير ، وينام في مكان مظلم بلا غطاء ولا أنيس فقال: " بعد العز صرنا في القيد والحبس .

لقد أعاد التاريخ نفسه معلما ً للأجيال ، أن كل ظالم لابد له من نهاية أليمة ،  ومذكرا ً بسنن الله في كونه ، إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة   ولا يقيم الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة  ، نعم أعاد التاريخ مبشرا  ،ً أن دولة الظلم ساعة ودولة العدل إلى قيام الساعة ، وقد أعاد التاريخ نفسه واعظا ًمصداقاً لقول القائل :

هي الأمور كما شاهدتَها دول   من سرَّه زمنٌ سـاءته أزمانُ

وهذه الدار لا تبقى على أحد   ولا يدوم على حال لها شان

لقد أعاد التاريخ نفسه ، وزج بالكبراء والوزراء في غياهب السجن   لخيانتهم الأمانة ، وغدرهم للعهود   ونقضهم للمواثيق ، من أجل مصالحهم الشخصية   فصاروا في القيد والذل ، بعدما كانوا يأمرون فيطاعون ، من كان يظن أن برامكة العصر الحديث  يودعون السجون ، ومن كان يظن أن من كان حرا ً طليقا ً يتنقل متى شاء ، وإلى أين شاء ، وكيفما شاء ، يصبح مكبلا ً بالحديد  وراء الأسوار العالية والحصون المنيع  ، من كان يظن أن من كان يأمر وينهى ، ويقتل ويشرد ويسجن ويعذب ، يشرب من نفس الكأس التي سقى منها الألوف المؤلفة.  

نسوا  أن الله يمهل ولا يهمل وأنه يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته نسوا أن الله يخذل الظالم وينصر المظلوم ولو بعد حين ، فكم هلكت دول وزالت أمم وتهاوت عروش ، بسبب دعوة مظلوم سرت بليل   وصدق الشاعر إذ يقول :

أما والله إن الظلم شوم   وما زال المسيء هو الظلوم

ستعلم يا ظلوم إذا التقينا  غدا عند المليك من الملوم

لقد ارتكب الظلمة  مآسي ومجازر راح  ضحيتها الآلاف من الأبرياء ، حيث مرغت الكرامة في التراب ، وكبلت الأرواح الكريمة بسلاسل القهر والظلم، وذاقت النفوس الأبية قسوة الذل والمهانة، وهتكت الأعراض ، والأدلة كثيرة والشواهد عديدة والذاكرة غنية بصور ما حدث وما جرى ، والأخبار تتحدث عن حجم المآسي وعمليات التقتيل   وجرائم الإبادة الجماعية ، وقد وصل الأمر بالطغاة   طلب الركوع لصورهم  ، وإلا أدخلوا الرصاص في رؤوسهم ، وهناك من فرض جنوده على المتظاهرين تحوير شهادة الإسلام ، "لا إله إلا بشار"   كاعتداء سافر على قدسية الخالق الأوحد ، فمن يركع لغير الله دخل خانة الكفر حسب تعاليم الإسلام ، الذي يحكمون باسمه ، وما درى الأسد الجريح أن شعبه كسر عليه طوق استئساده ، وقدم أغلى قرابين اللاعودة ، وما عليه إلا أن يبادر إلى إقامة "حفلات العزاء المسبقة قبل أن يتنكر له أقرانه مثلما فعلوا مع ملك ملوك الطغاة .

لقد نسي كما نسى من قبله أن الشعوب المستضعفة لن تبقى كذلك ، بل إن الإمعان في إهانتها واستذلالها هو الذي سيحيها بإذن الله ، وما أجمل قول الشاعر :  

وإذا الذئاب استنعجت لك مرَّة   فحذار منها أن تعود ذئابا

وإن حياة الذل ليست أبدية ما دام هناك إسلام  قال عمر بن الخطاب : "لقد كنا أذلاء فأعزنا الله بالإسلام فإذا ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله "

 

 

 

 

 

المسلمون بين الامتهان والإذعان

لقد وجهت دول الكفر عدوانها ، للإسلام وبلاد المسلمين ، باعتبارهم العدو الأول ، وصار استهداف العالم الإسلامي واحتلاله ، هو محور سياستهم   وأولى الأولويات عندهم ، لسلب نفطه وثرواته   لاستخدامه في السيطرة على كثيرٍ من دول العالم  لحاجة هذه الدول إلى إمدادات الطاقة ، والمواد الخام الضرورية لصناعاتها ، نلمس ذلك مما جاء على لسان رئيس لجنة لاروش للعمل السياسي ، الذي يحذّر من الافتراض الخاطئ حول ماهية أهداف المحافظين الجدد وبوش وتشيني والقوى التي تقف خلفهم. ويقول موضحا : "إن هدفهم هو ليس إخضاع مناطق معينة سياسيا كمستعمرات، بل إزالة جميع المعوقات التي تقف في طريق النهب الحر للكوكب ككل.

وقد تم تكريس فكرة الإبادة باعتبارها سياسة أمن قومي أمريكية ، من قبل مستشار الأمن القومي السابق ، هنري كيسنجر في عهد الرئيس نيكسون.

 ولإعطاء صورة واضحة عن نوايا ومخططات المحافظين الجدد ، نشرت مجلة إكزكتف إنتلجنس  تقريراً كتبه ميشيل ستاينبيرج تحت عنوان : الحرب العالمية الرابعة : لماذا نحارب، ومن نحارب،وكيف نحارب ؟  عُقد الاجتماع برعاية إحدى أكثر الجماعات الصليبية المحافظة الجديدة تطرفا وهي "لجنة الخطر الداهم" حضره وتحدث فيه أبرز منظري المحافظين الجدد وأكثرهم نفوذا داخل الإدارة الأمريكية ، وفي مراكز صنع السياسة في واشنطن   جاء في التقرير : إن الإسلام هو العدو العالمي الجديد الذي يجب أن تتم هزيمته ، من خلال ما يسمونه الحرب العالمية الرابعة ، التي بدأت وتجري الآن حسب وجهة نظرهم . ويقول أيوجين روستو : رئيس قسم التخطيط في وزارة الخارجية الأمريكية      : يجب أن ندرك أن الخلافات القائمة ، بيننا وبين الشعوب العربية ، ليست خلافات بين دول أو شعوب، بل هي خلافات بين الحضارة الإسلامية والحضارة المسيحية ، ويتابع قائلاً: إن الظروف التاريخية تؤكد أن أمريكا إنما هي جزء مكمل للعالم الغربي، في فلسفته ، وعقيدته ، ونظامه ، وذلك يجعلها تقف معادية للعالم الإسلامي   بفلسفته وعقيدته المتمثلة في الدين الإسلامي ، ولا تستطيع أمريكا ، إلا أن تقف هذا الموقف المعادى للإسلام   وإلى جانب العالم الغربي والدولة الصهيونية ، لأنها إن فعلت عكس ذلك فإنها تتنكر للغتها وفلسفتها وثقافتها ومؤسساتها.

 وها هي دول الكفر ، تزحف بمدنيتها ، إلى العالم الإسلامي ، في محاولة مستميتة ، لطمس معالم هويته الذاتية ، وجره إلى تقليد الأنماط الغربية في جميع النواحي الحياتية العقدية والفكرية والاجتماعية والأخلاقية وغيرها يقول الله تعـالى : ﴿ وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء ﴾النساء89 ، فما داموا يودوا أن يكون المسلمون كافرين ، إذن سيقفون في سبيل انتصارهم ، وسيضعون العقبات التي تحول دون ذلك ، مصداقاً لقوله سبحانه : ﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إِيمَـٰنِكُمْ كُفَّارًا حسداً من عند أنفسهم ﴾ البقرة109، فالذي يدعوهم إلى أن يحاولوا رد المسلمين عن دينهم  هو الحسد والإضلال ، فقال تعالى : ﴿ وَدَّت طَّائِفَةٌ مّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ ﴾ آل عمران69 ، إنهم يودون ذلك ، ويسعون إلى تحصيله وتحقيقه بكل ما يستطيعون ، قال تعالى : ﴿ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَـٰتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ ﴾ البقرة217   يعلمنا الله أنهم لن يدخروا وسعاً حتى يردوا المسلمين عن دينهم ، لأن منهج الله لا يخيف إلا الذين يسرقوا عرق وكد غيرهم  ويبذلون كافة الأساليب التي تصرف المسلمين عن دينهم ، إنه  حقد دفين  وخوف رهيب ، يملآن صدور أهل الكفر والعناد  ويدفعانهم إلى محاربة الإسلام ، ومحاولة القضاء عليه وعلى أهله كما أخبر الله تعالى : ﴿ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفْوٰهِهِمْ وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَـٰفِرُونَ ﴾ الصف8 . ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون ، وحديثاً قال قائلهم : " متى توارى القرآن ومدينة مكة عن بلاد العرب ، يمكننا حينئذ أن نرى العربي يتدرج في طريق الحضارة الغربية بعيداً عن محمدٍ وكتابه " ، هذا مكرهم ، وما خفي أعظم ، كما أخبر الله تعالى : ﴿ وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ ﴾ آل عمران118 ، فقد جنّد أعداء الإسلام كل ما وصلوا إليه من اختراع   لحرب الإٍسلام وأهله ، وغزو بلاد المسلمين عقدياً وفكرياً   ليحكموا القبضة عليها ، ويستولوا على مقومات الحياة فيها ، ولسان حالهم قول قائلهم : " كأس وغانية تفعلان بالأمة المحمدية ، أكثر مما يفعله ألف مدفع ، فأغرقوا البلاد الإسلامية في حب المادة والشهوات " فحاصروا بلاد المسلمين بثورة إعلامية  وتقنية اتصال عالمية   وهاجموها بقنوات فضائية شهوانية شيطانية ، إنه سم زعاف  يقضي على الكرامة والعفاف ، وريح عاصف  ومكر قاصف   وهجمة شرسة مستعرة ، تتعرض لها أجيالنا الحاضرة  فتُفجّر غرائزهم ، وتدمر أخلاقهم  وتشيع الرذيلة في صفوفهم ، وتجعلهم هائمين على وجوههم ، يبحثون عن سبيل مشروع أو غير مشروع لتصريف ما أثير من شهواتهم .

وأغرقت أسواق المسلمين بكثير من المحرمات والمنكرات ، ولم تسلم المرأة المسلمة من تلك الهجمة الحاقدة ، فحاربوا حجابها وجلبابها ، وسعوا في إغوائها وإغرائها بما تصنعه دور الأزياء الخليعة  وبيوتات الموضة المنحلّة  ودعوها إلى الاختلاط   وأقلقوها وأهانوها ودنسوها ، وجاءت الدعايات المضللة تدعو المسلمين إلى السياحة والترفيه ، في بلاد الكفر والفجور ، الخادعة للعقول .  

لقد أوثقوا منا الأيدي والأقدام ، وكمموا الأفواه وسفهوا الأحلام ، واخذوا بالتلابيب والأكمام   يبثون إلينا ما يريدون ، ويرسلون ما يرغبون ، أثقلونا بالشائعات ، ولأكاذيب والافتراءات ، فأفسدوا العقول ، وقادوا شبابنا للمجهول ، فقلدوا وما دروا من قلدوا ، وحاكوا وما دروا من يحاكوا ، فأخذوا منه كل ما من شأنه أن يسيء للعقيدة والدين  وتركوا أفضل اختراعاتهم ، وأحسن صناعاتهم   يرسلون إلينا من يدرب جيوشنا ، ومهندسينا  وأطبائنا واقتصاديينا ، ويأخذون مقابل ذلك أموالاً طائلة ، يمكن أن تغيث الملهوفين من المسلمين  والمستجيرين من رمضاء الفقر والفاقة ، ومع ذلك فهم ينقلون لنا أفكارهم ، وشباباً يستقون دينهم الفاسد ومعتقدهم البائد ، ينساقون وراء الترهات والأوهام ، وأضغاث الأحلام ، نلمس هذا جلياً   واضحاً جلياً عبر الشوارع والطرقات ، وفي المقاهي والملاهي ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .

كثيرة هي هموم المسلمين في هذا العصر, متشعبة ومحزنة ومخزية, ولا أخال مسلما صادق الإيمان صالح القلب مهتما بأمر المسلمين , ينفي عن نفسه الإحساس بضغط هذه الهموم على شعوره ووجدانه .

وإذا كان التاريخ وهو وعاء الأحداث والتجارب يحدثنا بأنه لا تكاد تخلو سجلات عصر من العصور المنصرمة دون تسجيل اضطهادات في صفوف المسلمين  وجراحات وآلام قد تحمَّلوها وقاسوا كثيرا من ويلاتها.

 وعصرنا الحالي ورغم الشعارات ، البراقة التي ترفع كاحترام الحريات , وحقوق الإنسان والإخاء   والسلام العالمي وغير ذلك ، حتى فاضت دفاتره بما سجلت ، من معاناة الأمة الإسلامية دون غيرها من الأمم , وما يلقاه أتباع عقيدة التوحيد ، من التنكيل والتآمر ، حتى أصبح تدمير الإسلام وتصفية أهله هدفا استراتيجيا في سياسة اليمين واليسار على حد سواء ، تخطط له أمريكا كما تخطط له روسيا فليست الرأسمالية بأرحم على المسلمين من الشيوعية  ولا أتباع بوذى وعباد البقر بأشفق عليهم من عباد الصليب وأولاد الأفاعي.

إن كل أمم الكفر والإلحاد والشرك ، رغم التناقضات ، والصراعات الموهومة الحاصلة بين صفوفهم , إلا أنهم يدا واحدة ، وفكرا واحدا   وصفا واحدا ، عند الكيد للإسلام والتآمر على أنصاره, وهذه حقيقة لم تغب ولن تغيب عن وعي المسلمين ، ما لم تفتر علاقتهم بكتاب الله الخالد, وما لم يتبلد فهمهم لمحكم آياته وصريح توجيهاته ، ذلك أن القرآن الكريم قد نبه إلى استمرارية الكيد العالمي لأصحاب الحق ، والى ضراوة التآمر الدولي على المؤمنين الصادقين ، وتتنوع وسائل قتال هؤلاء الأعداء للمسلمين ، بهدف رد المسلمين الصادقين عن دينهم إن استطاعوا ، وتكثيف حالات الانقسام  لضرب مفهوم وحدة الأمة ، توصلاً إلى إلغاء وجودها ، الذي يتناول النواحي السياسية والاجتماعية والثقافية ،  عماد الأمة وقوام وجودها   وإن الرد على محاولات الإضلال هذه ، والسلاح الذي نواجهه به هذه المحاولات ، هو التمسك بكتاب الله وسنة نبيه  صلى الله عليه  وسلم قال تعالى: ﴿ فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم * وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون ﴾ الزخرف 43 . وفي ذلك خلود الأمة وبقاء ذكرها وسوف نسأل إن نحن ضيعنا سلاحنا ولم نحسن استخدامه .

 

 

 

 

 

   بين العزة والذلة

العزة : هي الرفعة والبعد عن مواطن الذل والمهانة  فالله يأمرنا أن نكون أعزاء، لا نذل ولا نخضع لأحد من البشر، لأن الخضوع لا يكون إلا لله وحده   فالمسلم يعتز بدينه وربه، ويطلب العزة في رضا الله -سبحانه-، وقد قيل: من طلب العزة بغير طاعة الله أذله الله ، وقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه : كنا أذلاء، فأعزنا الله بالإسلام ، فإن ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله ، وقيل: الذلة لرب العباد عزة، والذلة للعباد ذلة ،  وصدق الشاعر حين شبه التذلل للعباد بالموت، فقال:

من يَهُنْ يَسْهُلِ الهوان عليه   ما لجُـرْحٍ بميِّت إِيلامُ

ومن عزة المسلم ألا يكون مستباحًا لكل طامع، أو غرضًا لكل صاحب هوى، بل عليه أن يدافع عن نفسه وعِرْضِهِ وماله وأهله ، والمسلم يرفض إذلال نفسه، حتى لو قتل في سبيل عزته وكرامته ويبدو ذلك واضحًا في موقف الرجل الذي أتى النبي  عليه السلام فقال: ( يا رسول الله، أرأيتَ إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ فقال الرسول  عليه السلام : فلا تعطِهِ مالك فقال الرجل: أرأيت إن قاتلني؟ فقال  عليه السلام : (قاتلْه فقال الرجل: أرأيتَ إن قتلني؟ فقال  عليه السلام :  فأنت شهيد  فقال الرجل: أرأيت إن قتلتُه؟ فقال عليه السلام : هو في النار ) مسلم . فالمسلم يعيش محتفظًا بكرامته؛ لا يضعف، ولا يلين ولا يتنازل عن شيء من كرامته وعزته من أجل مالٍ قليل، أو عَرَضٍ دنيوي ، ولكي يحافظ المسلم على عزته، ويجعل دينه عزيزًا ، فيعمل ويكد ويتعب حتى تتحقق له القوة، إذ لا عزة للضعفاء الذين يمدون أيديهم للناس ويأكلون بلا تعب  .  

كثير من الناس اليوم يعيشون حياتهم ولا يعنيهم منها إلا طعام يشبِع، وشراب يروِي، ولباس يُتَزَيَّن به ورفاهية ينعمون بها، تراهم يسعون في الأرض ويجدُّون، وماء وجوههم في سبيلها يريقون، وكأنهم لا يعقلون ، وهم  عن كرائم الغايات مُبْعدون، وفي سبل الشهوات يعمهون، وإذا ما دعا الداعي للجهاد فإنهم لا يستجيبون .

لقد اختاروا الذل بعد العز، والهوان بعد الرفعة ، إنهم يؤدون ضريبة الذل من نفوسهم ، وأقدارهم  وسمعتهم ، وكثيرا ما يؤدونها من دمائهم وأموالهم وهم لا يشعرون . بعض النفوس الضعيفة يخيل إليها أن للكرامة ضريبة باهظة، لا تطاق، فتختار الذل والمهانة ، فتعيش عيشة الخائفين قال تعالى   ﴿ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ﴾ المنافقون4 .  يحسبون أنهم ينالون في مقابل كرامتهم قربى ذوي الجاه والسلطان ، حين يؤدون إليهم ضريبة الذل وهم صاغرون، ولكن كم من تجربة انكشفت عن نبذ الأذلاء ، بأيدي سادتهم الذين عبدوهم من دون الله ، وكم من رجل باع رجولته، ومرغ خديه تحت أقدام السادة، وخنع، وخضع، وضحى بكل مقومات الحياة الإنسانية ، وفي النهاية إذا هو رخيص هَيِّن حتى على السادة الذين استخدموه ، يَهْوُونَ من القمة إلى السَّفْح، لا يرحمهم أحد، ولا يترحم عليهم أحد حتى السادة الذين في سبيلهم هَوَوْا من قمة الكرامة إلى سفوح الذل، ومن عزة الحق إلى مَهَاوي الضلال ، وقد شاهدتا الكثير من الرجال الكبار يحنون الرؤوس لغير الله ، يحملون ضرائب الذل ويرتكبون كل كبيرة ، ليرضوا صاحب الجاه أو السلطان، وما درى الذين يخشون عاقبة الكرامة   ويمرِّغُون خدودهم تحت مواطئ الأقدام ، ويخونون أماناتهم، وكراماتهم، ويخونون إنسانيتهم    والتضحيات العظيمة التي بذلتها أمتهم لتتحرر، ما دروا أن التاريخ لا يرحم أمثالهم ، وها هو الواقع الحاضر يشهد ، بأن ضريبة الذل أفدح من ضريبة الكرامة، وأن تكاليف الحرية أقل من تكاليف العبودية، وأن الذين يستعدون للموت توهب لهم الحياة، وأن الذين لا يَرْهَبُون الجاه والسلطان يَرْهَبُهم الجاه والسلطان  ، فكم رأينا أذلاء باعوا الضمائر وخانوا الأمانات وخذلوا الحق ، ثم ذهبوا غير مأسوف عليهم ، ملعونين من الله ، ملعونين من الناس، ورأينا من يأبون أن يذلوا، ويأبون أن يخونوا  ويأبون أن يبيعوا رجولتهم، وقد عاش من عاش منهم كريماً، ومات من مات منهم كريما  ، وها نحن نرى من يستصرخ ويستنصر بالأمة الإسلامية حكومات وشعوباً  ولكن ما من مُجيب يصدق فيهم من قال :   

يا من لذلَّةِ قومٍ بعدَ عزَّتِهِم   أحالَ حالهُمْ جَورٌ وطُغيانُ

بالأمسِ كانُوا مُلُوكاً في منازلهِم  واليومَ هم في بلادِ الكفرِ عُبدانُ

فلو تراهُم حَيَارى لا دليلَ لهم    عليهِمْ من ثيابِ الذُّلِ ألوَانُ

كَم يستغيثُ بنا المستضعفونَ وهُم  قَتلى وأَسرَى فما يهتزُ إنسانُ

لمثلِ هذا يبكِي القلبُ مِن كمدٍ  إنْ كانَ في القَلـبِ إسلامٌ وإيمانُ

والسؤال : ما هو طريق الخلاص ؟ جاء ذلك في الحديث الذي رواه أبو داود وأحمد وغيرهما بإسنادين يقوي أحدهما الآخر، عن النبي  صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد في سبيل الله  سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم). في الحديث بيان للعلاج والدواء فبيع العينة لا من البيوع الربوية التي ابتلي بها كثير من الناس في هذه الأيام ، وقوله : (وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع) أي: انصرفتم عن القيام بواجباتكم الدينية إلى الاهتمام بالأمور الدنيوية، وكسب المال بأي طريق كان، وأخيراً وهو الأهم ، ترك الجهاد في سبيل الله ، فكان العقاب من باب التحذير: (سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم)، وهذا الذل المسلط على المسلمين أمرٌ لا يخفى فقد أصاب المسلمين ما أصابهم قال تعالى : ﴿ فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ﴾النساء160 ، فالله عز وجل لما سلط الذل علينا بظلمٍ منا، فما أوتي المسلمون إلا من قبل أنفسهم حين ركنوا إلى أعدائهم ومالوا إليهم كل الميل مخدوعين بمعسول كلامهم، ومواعيدهم الكاذبة فأضاعوا حقوق المسلمين، تارة باسم السلام ونبذ العنف، وتارة بمحاربة الإرهاب والقضاء على التطرف ، والمسلمون يصدقونهم وينفذون لهم ما يريدون، ناسين توجيهات الله لهم بالحذر منهم قال تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعاً ﴾ النساء71 .  

إنها وصية الله لعباده أن يكونوا حذرين متيقظين من الأعداء الذين يعملون ليل نهار لإضعاف الأمة والحيلولة دون نهوضها وقيامها ، يريدون أن نكون عالة عليهم في كل شيء، فلا يسمحون لنا بالإنتاج والتصنيع الحربي المتطور، إنهم يتحكمون حتى في غذائنا وزراعتنا وتأمين أقواتنا ، ولا عزة لنا إلا بالإعداد والعمل وتطبيق منهج الله قال تعالى : ﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّـهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ۚ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ﴾ فاطر 10 . وقال  صلى الله عليه وسلم : ( وجعل الذل والصغار على من خالف أمري ) صححه الألباني  والمؤمن عزيز بطاعة الله ، اللهم أعزنا بطاعتك، ولا تذلنا بمعصيتك .

 

 

 

 

عاقبة الطغيان

قال تعالى : ﴿ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَليس هناك شيءٌ أسرع لخراب الأرض ، ولا أفسد لضمائر الخلق ، من الطغيان والظلم والعدوان، ولا يكون العمران ،حيث يظهر الطغيان، ولا يعيش صاحبه في أمان  ولا ينعَم بسلام، حياتُه في قلق، وعيشه في أرق ، لأنه يظلم ويجور ، والجَور مسلبةٌ للنعم ، مجلبة للنقم  وقد قيل: الأمن أهنأ عيش، والعدل أقوى جيش .

 فما أعظمَ عصيان الطغاة ، وما أشد استكبارَهم لأن   قلوبهم لا تلين ولا تخشع، ولا تهبط ولا تصدّع، ولو وعظها لقمان ، أو تليت عليها آيات القرآن  ﴿فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ﴾ ، كيف وقد وصلوا إلى الحكم  عن طريق المؤامرات أو الاغتيالات ، فتحكموا في شؤون الناس وأرهبوهم بالتعالي وأذلوهم بالقوة والقهر ، فباتت القلوب تكرههم ، والألسنة تدعوا عليهم ، ويترقبوا 

يوم الخلاص منهم ، ففي عهدهم تفسد الأخلاق   وتسود بضائع الملق والجبن والذل والخنوع والنفاق ما يقتل العزة في الأنفس، والشجاعة في القلوب   وما يعادي التدين الصحيح الذي ينير العقول ويبين الحقوق، ويقيم العدل، ويرفض الظلم، ويربي المؤمنين على قول الحق، ومقاومة الباطل، وبجرئهم على أن يأمروا بالمعروف، وينهوا عن المنكر ، وفي المقابل تجد الطغاة يباركون التدين المغشوش الذي ينعزل بصاحبه عن المجتمع ومشكلاته والأمة وقضاياها، وقد عالج القرآن هذه الظاهرة عندما قص علينا قصة فرعون الذي يمثل قمة الطغيان السياسي  وكيف رد دعوة موسى عليه السلام، ذكر القرآن أن السبب في طغيان فرعون هو قبول الناس لهذا الاستبداد والخضوع اللامتناهي للسلطة، والسكوت عن ظلمها وبغيها، فقال تعالى عن قوم فرعون : ﴿ فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين ﴾ الزخرف 54  إذن هي القابلية للاستبداد، فقد يكون الإنسان في السجن عند نظام فاسد، ولكنه حر في قلبه، لا يتقبل الذل والهوان ، يقول ابن حزم : ( فلو اجتمع كل من ينكر بقلبه لما غُلبوا) ونقول : فكيف لو اجتمع كل من ينكر بلسانه؟.

لقد هلك الطغاة القدامى ، فهل يعتبر الطغاة المعاصرون بهلاكهم  ؟ قال تعالى : ﴿ كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ   وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ  وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ   كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ  فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ ﴾ الدخان  

كَم تَرَكَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمُهُ قَبْلَ مَهلِكِهِمْ فِي أَرْضِهِمْ مِنْ بَسَاتِينَ نَضِرَةٍ ، وَحَدَائِقَ غَنَّاءَ ، وَعُيُونِ ماءٍ جَارِيةٍ وَأنْهَارٍ . وَكَمْ تَرَكُوا مِنْ زُرُوعٍ نَاضِرَةٍ ، وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةٍ ، وَعَيْشٍ رَغِيدٍ كَانُوا يَتَفَكَّهُونَ فِيهِ فَيَأْكُلُونَ مَا شَاؤُوا ، وَيَلْبَسُونَ مَا أَحَبُّوا . فَأَهْلَكَهُمُ اللهُ تَعَالى فِي صَبِيحَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَهكَذَا يَفْعَلُ اللهُ بِالذِينَ يُكَذِّبُونَ رُسُلَهُ ، وَيُخَالِفُونَ عَنْ أَمرِهِ فإِنَّهُ يُبِيدُهُمْ وَيُورِثُ أَرْضَهُمْ قَوْماً آخرينَ ، وَقَدْ كَانَ هؤلاءِ الطُّغَاةُ العُتَاةُ هَيِّنِينَ عَلَى اللهِ ، وَعَلى عِبادِ اللهِ ، إِذْ لَم يَكُنْ لَهُمْ عَمَلٌ صَالِحٌ يُرَفَعُ إِلى السَّماء ، وَلاَ عَمَلُ خَيرٍ في الأَرضِ ، فَلم تبكِ لفَقْدِهِم الأرضُ ولا السَّماءُ    ذهبوا فلم يأس على ذهابهم أحد، ولم تشعر بهم سماء ولا أرض ، قال تعالى : ﴿ فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ ﴾ ..وهو تعبير كما قال صاحب الظلال : يلقي ظلال الهوان، كما يلقي ظلال الجفاء أولئك  الطغاة المتعالون لم يشعر بهم أحد في أرض ولا سماء. ولم يأسف عليهم أحد في أرض ولا سماء  ، كانوا جبارين في الأرض يطأون الناس بالنعال! وذهبوا غير مأسوف عليهم فهذا الكون يمقتهم لانفصالهم عنه، وهو مؤمن بربه، وهم به كافرون! وهم أرواح خبيثة شريرة منبوذة من هذا الوجود وهي تعيش فيه! ولو أحس الجبارون في الأرض ما في هذه الكلمات من إيحاء لأدركوا هوانهم على الله وعلى هذا الوجود كله. ولأدركوا أنهم يعيشون في الكون منبوذين منه، مقطوعين عنه، لا تربطهم به آصرة، وقد قطعت آصرة الإيمان."  

أما سمع الطغاة عن قارون الذي فتح الله عليه الأرزاق وعظمت أمواله، وكثرت كنوزه، وفاضت خزائنه  فعاش في ترف وبذخ، وكبرٍ وبطرٍ، وفخر وخيلاء طغى وتجبّر، تطاول وتمادى، زاد نهمه   وكثر خدمه  وعظم حشمه، حتى ظن أن لن يقدر عليه أحد  فعميت بصيرته، وعظم زهوه، وزاد غروره، ورنت إليه بعض الأبصار، وتمنت الناس مكانه ، فلما بلغ الأمر مبلغه، والفتنة أشدّها  والتمادي منتهاه، حلت العقوبة، وكانت الفاجعة، ونزلت الكارثة  وعظمت العبرة ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ﴾ ، واعجباً من الطغاة ألم يتفكروا في مصائر من قبلهم، أين الأمم السوالف   أين عاد وثمود، أين فرعون والنمرود، أين القياصرة أين الجبابرة، أين كسرى والروم؟ ﴿ ٱلَّذِينَ طَغَوْاْ فِى ٱلْبِلادِ ، فَأَكْثَرُواْ فِيهَا ٱلْفَسَادَ ، فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ ، إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلْمِرْصَادِ﴾ يا ويح الطغاة الفجار ، يظلمون بالليل والنهار، والشهوات تفنى وتبقى الأوزار، كم من الطغاة من تعدى وجار   فواجه المسلمون انتقامه  بعنف ، وتآمره بقُبح  وحرباً شنها بجبروت، يقودها قومٌ لئام، أماطت الأحداثُ عنهم اللثام ، يبطنون الضغائن ، ويحملون مسمومَ الدفائن، ملأوا الدنيا عدواناً، وأشعلوها نيرانا، وأنَّى يُحقِّق هؤلاء سلاماً ! أحداثٌ تُفتعَل وأدوارٌ تُمثَّل وتُنتحَل، إفكٌ وافتراء، واتِّهام وادِّعاء  وغطرسة وغرور، واستبداد وفجور . في عالم تحكمه شريعةُ الغاب ، وسياسات التهديد والإرهاب ، ولغة التحدّي والإرعاب ، مصالح ذاتية ، ونظمٌ أُحاديّة تتعامل معاملةَ السيّد للمسود ، والقائد للمقود سياسةُ مصالح لا قيم ،   لا تحكم بالسويّة، ولا تعدل في القضيّة ، حتى بلغ السيل زُباه، والكيدُ مداه  والظلم منتهاه، والطغيان لا يدوم ، وسيَضمحلّ ويزول، والدهر يدور، وسيعلم الظالمون عاقبة الغرور. أين الذين التحفوا بالأمن والدَّعَة ؟ واستمتعوا بالثروة والسَّعة ، من الأمم الظالمة الغابرة   والممالك الظاهرة القاهرة ؟ لقد نزلت بهم الفواجع وحلّت بهم الصواعق والقوارع، فهل تعي لهم حِسًّا أو تسمَعُ لهم ركزاً؟  ﴿وَكَذٰلِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ ٱلْقُرَىٰ وَهِىَ ظَـٰلِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾.

 

 

 

 

المذابح التي يتعرض لها المسلمون

يتعرض المسلمون لعمليات ذبح وتشريد وإبادة في شتى أنحاء العالم ، حتى أصبح الدم المسلم أرخص الدماء على الإطلاق ، وأصبحت المذابح التي يتعرض لها المسلمون ، تجسد حلقة من حلقات الهيمنة التي تعتبر تحدياً سافراً لكل القوانين والأعراف الدولية وإمعاناً في إذلال  هذه الأمة ، التي بلغ الاعتداء عليها بالقتل حداً جعلها عاجزة عن الدفاع عن نفسها  أمام مواجهة هذا التحدي الذي تجاوز كل الحدود مع عدم القدرة على وضع حد لهذه الفتنة التي تعتبر وصمة عار في جبين الأمة والإنسانية ، وأي فتنة تفوق فتنة القتل الذي يجري تنفيذه على مشهد و مسمع المسلمين والعالم ، تلك الجريمة الشنيعة التي يقصر دونها كل عذاب وعقاب ، ومهما كانت الدوافع والبواعث ، فإن ما  يجري لا يقره شرع ولا قانون إلا قانون الغاب ، ويكفي دليلاً على شناعته أنه يستهدف الأطفال والنساء والشيوخ ، وتعذيب المعتقلين حتى الموت ، والتمثيل بهم ، كما تفعل   الوحوش الضارية والسباع الكاسرة ، مما يدعو للقول بان الإنسانية الحقة بريئة من كل إنسان يتخذ له من الحديد مخلباً ونابا ، وجديرٌ بمن هذا هو شانه أن يلحق بالكهوف والغابات ، ليعيش مع فصيلته من الوحوش ، وليشبع نهمه الخسيس من اللحوم والدماء  وما يجري منتهى الخسة والدناءة والغلظة والفظاعة والوحشية والشذوذ ، أن يفترس الإنسان  في دنيا الإنسانية أخيه الإنسان .

إن من يرتكب هذه الجرائم يكون قد انحدر إلى خسة دونها خسة كل وحش وحيوان ، إنهم أعداء الله والإنسانية والدين ، وقد وصفهم الله بقوله ﴿ كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة ﴾  إنهم يرتكبون جرائمهم ، والأمة تعيش تحت وطأة الضغوط التي يمارسها عليها الأعداء وأعوانهم هنا وهناك ، في بلاد المسلمين  ، وإن كل مسلم يتقاعس عن المشاركة أو العمل لدفع أذى أعداء الله فإنه آثم في حق دينه وأمته ، وإن الله سائله يوم القيامة ومحاسبة حساباً عسيراً ، على تقصيره في نصرة إخوانه المؤمنين ، الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ، هؤلاء الأخوة الذين أصابتهم سهام الغدر والإجرام ، وإن كل مسلم يخون دينه وأمته ، سبيله سبيل أعداء الإسلام ، تجب مقاتلته و ما يجري في أي بلد إسلامي من اعتداء يجب رده وحيثما كان على وجه هذه الأرض ظلم فالأمة المسلمة مكلفة أن تعمل مقاومته ، وعلى تحقيق كلمة الله في الأرض ، لأن الإسلام مكلف بان لا يهادن أي قوة ظالمة على وجه الأرض ، سواء تمثلت هذه القوة بفرد يتجبر على الأفراد والجماعات ، أو طبقة تستغل الطبقات ، أو دولة تستغل الدول والشعوب  هذا هو إسلامنا ، أما ما يعانيه المسلمون في معظم البلدان التي يدير دفة الحكم فيها سلطات لا تدين بالإسلام ، أو مسلمون لا يطبقون أحكام الإسلام  حيث يعاني المسلمون الاضطهاد والظلم والقتل  حيث تُهدرُ كرامة المسلم ويساء إليه ، ولا يكون مرضياً عنه ، إلا إذا تنكر لدينه وعقيدته تنفيذا لسياسة الضغائن الصليبية ، التي تقطر سُمّاً على الإسلام وأهله ، حتى طلعت علينا هذه السياسة بنية مغشوشة ووجه مشئوم ، لبث مكائدها وإشباع ضغائنها ، لتقضي على الإسلام ، وتشوه صورته المشرقة في النفوس ، فهل يدرك المسلمون ما يخطط لهم ، من أعداءهم الذين أدركوا أن أمة الإسلام أمة جهاد وتضحية ، وقوافل الشهداء الذين يسقطون  وصبر الرجال والشيوخ والأطفال على المحن أمام بطش الطواغيت ، أظهر انتهاء حالة الخوف والإحباط في الأمة ، وانتقالها إلى حالة التحدي  والبحث عن مكانها الصحيح بين الأمم ، وأصبح الإيمان بأن خلاصنا مما نحن فيه هو في الإسلام ، وأن كل ما عداه من العقائد والمبادئ والشعارات التي دوخونا بها ، وفرضوها علينا ، لم تثمر إلا الخزي ولم تنجب إلا عملاء وانهزاميين .

إن هدف الكفار يتركز في إبعاد المسلم عن ماضيه وتراثه ودينه ، ليصبح كريشة ضالة تائهة ، حيث استبدلت المباديء الصحيحة بالمساوئ ، والإيمان بالشك ، وبدل الإخلاص للعقيدة والكتاب والسنة  الإخلاص للأنظمة المستوردة ، حتى تحول الصراع مع العدو إلى صراعات بين المسلمين أنفسهم  نتحارب من اجل كل شيء ، عدا الجهاد في سبيل الله لتحرير المقدسات ، وأنفسنا من نير الاستبداد .

نلوك شعارات ونمضغ أوهاماً ، ونجتر باطلاً ، ثم نخلد إلى اليأس القاتل ، نستعيض عن القدرة على مقاومة عدونا ، بالقدرة على مقارعة بعضنا ، فالهمم مقهورة والعزائم مبتورة ، والسيوف مغلولة  والأيدي مربوطة ، فقدنا دوافع الدين ، واضعنا حوافز الإيمان  فجاءت ثورة الناس ، إيذاناً ببدء مرحلة الحكم الجبري ، وبدء مرحلة جديدة ، يتولى ولاة الأمر خدمة الأمة وصيانة كرامتها ، والدفاع عن حقوقها ، بدل  القمع والظلم والإذلال ، الذي عانته منهم الأمة ، فلا يكفي أن يسقط رموز الظلم ، بل لا بد من ترك النظم والأفكار التي كانوا بها يحكمون ويظلمون ، ولا يكفي أن نصلي في ميدان أو نحج إلى مكة بالملايين ، بل لا بد أن نطبق الإسلام بكل أفكاره ومبادئه ، وسيكون ذلك إن شاء الله ، لأنه وعد ووعده الحق ، بأن يظهر دينه وينصره على من عاداه ، وينصر عباده الصالحين المخلصين فقال تعالى ﴿ هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون ﴾ فقد ولى زمن السلب والنهب والفساد ، الزمن الذي  أصيب فيه المحكومون بالفزع والشلل والهروب  ففقدت الألفاظ معانيها ، زمن التظاهر بالإخلاص ولا إخلاص حيث ضاع الجهد بين الضلال والفساد .

إن قضيتنا هي قضية المبدأ ليس إلا ، وإن دول الكفر تلقى بكل ثقلها في دعم الباطل اعتداءاً على الحق والأخلاق والأعراف الدولية فلماذا لا نستجيب لنداء ربنا الخالد فنعد العدة ونقف في وجه عدونا

﴿ يا أيها الذين أمنوا استجيبوا لله والرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وانه إليه تحشرون ﴾ .

 

 

 

 

نصرة المظلوم

إن الإسلام يضع لمعتنقيه مبادئ عظيمة، من شأنها أن تشد على الروابط بين المسلمين ، وتحفظ وحدتهم وتصون كرامتهم، ومن هذه المبادئ  الاهتمام بأمر المسلمين ، اهتمام لا يعني المظهر دون المخبر، ولا يكفي فيه إبداء الشعور الطيب ، دون خطوات إيجابية وعملية ، تعبر عن الاهتمام الفعلي، ولا يكفي من المسلم التألم والتحسر وسكب الدموع مدرارا على ما ينزل بالمسلمين من البلوى والأذى، بل من واجبه أن يرفع الصوت عاليًا مستنكرًا الجرائم التي تنزل بإخوته، مقدما لهم الدعم المادي والمعنوي إسهامًا في رفع كابوس المحنة عنهم ، وحتى يشعر الإخوة المسلمون المنكوبون أن إلى جوارهم من إخوانهم من يشد أزرهم ويرعى فيهم حق أخوة الإسلام، نعم لا يكفي الشعور الطيب في تصوير اهتمام المسلم بأخيه ، فكيف بمن يعرض عن نصرته وهو قادر؟! وكيف بمن يقف موقف المتفرج من الكوارث تنزل بإخوانه ثم لا يكون منه أي محاولة لرد الطغيان وكف العدوان؟! أفلا يكون مؤاخذًا على تبلد إحساسه وشعوره ، وهو يرى مشاهد القتل والتمثيل بالجثث ، ويسمع الكلمات المريرة من المظلومين ، التي امتزجت بطعم الألم والحسرة والخيبة ، والتي تعتبر شاهداً على أعلى صور الخزي والهوان ، يتطلعون وهم يصرخون إلى إخوانهم المسلمين ولسان حالهم ، نسأل أنفسنا ونسألكم  ألسنا اخوة في الدين قد كنا وما زلنا  فهل هنتم وهل هنا ؟ أيعجبكم إذا ضعنا ؟ وهل اجتماعكم ومهلكم تظنوا أنه يرضينا ؟ فلا والله   لأنه لا معنى لقلوبكم معنا ، لأن الدمع لا يشفي لنا صدرا ، ولا يبري لنا جرحا ، فبالله خلوا الشجب واستحيوا ، فقد سئمنا الشجب والردحا ، فلماذا الوقوف موقف الشاهد والمتفرج رغم وضوح الصورة وبشاعة المشهد ، ورغم ذلك فإنه لا استجابة ، وكأنهم يرون مشهداً سينمائياً مؤلما ، أو يسمعون أغنية عاطفيةً مؤثرة ، كالتي أشربوها من قنواتهم ومذايعهم ، ألا فليعلم من يقفون متفرجين على المظلوم، ثم يمصون شفاههم ، ويلوون أعناقهم  ثم ينسحبون غير مكترثين؛ إنما يعرضون أنفسهم للمقت واللعن ، ووالله ما هان المسلمون أفرادًا وأممًا وما استأسد أعداؤهم ، واستباحوا حرماتهم  ونهبوا حقوقهم ، ودنسوا مقدساتهم؛ إلا حين سرت روح التخاذل بينهم، وتنكر بعضهم لبعض، وتحولت مهمة جيوشهم ، بدلاً من التصدي للأعداء في ميادين القتال ، إلى التصدي للمتظاهرين الذين خرجوا ينفثون بعض غيظ قلوبهم ، بصيحات وهتافات  تستصرخ إنقاذ حقوقهم المستباحات  ومذكرين العرب والمسلمين عن خذلانهم لهم بقول ربهم : ﴿ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ الأنفال72 وقوله تعالى ﴿ وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً﴾  النساء 75 . وبالأحاديث التي تدل على وجوب نصرة المظلوم ، والوقوف معه لدفع الظلم عنه ، واسترداد حقوقه، فعن أنس قال قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم : (انصر أخاك ظالما أو مظلوما) قالوا يا رسول الله ! هذا ننصره مظلوما  فكيف ننصره ظالما؟ قال (تأخذ فوق يديه) ،  وعن عبد الله بن عمر أن رسول الله  صلى الله عليه وسلم قال : (المسلم أخو المسلم ولا يسلمه، ومن كان في حاجة مسلم كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كرب القيامة ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة) قال ابن حجر   قوله: (لا يسلمه) أي لا يتركه مع من يؤذيه بل ينصره ويدفع عنه، وهذا أخص من ترك الظلم ، وعن جابر بن عَبْدِ اللَّهِ وأبي طَلْحَةَ بْنَ سَهْلٍ الْأَنْصَارِيَّ قالا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : «مَا مِنْ امْرِئٍ يَخْذُلُ امْرَأً مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ تُنْتَهَكُ فِيهِ حُرْمَتُهُ، وَيُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ، إِلَّا خَذَلَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ. وَمَا مِنْ امْرِئٍ يَنْصُرُ مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ، وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ، إِلَّا نَصَرَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ نُصْرَتَهُ ) أحمد وأبو داود. فالنصرة إذن حق أساسي من حقوق الأخوة ومقتضياتها العملية ، فما عمل المسلمون وما تحركوا لأجلهم  وقد حركوا الأرواح وبذلوها ، أم ما عادت هناك نخوة  أم أنهم فقدوا الشهامة ، وألفوا الذل والمهانة والاستكانة ، أم نسوا أو تناسوا تعاليم دينهم ، التي تحث على روح النخوة والشهامة للدفع والنصرة ، ألا يخشى هؤلاء من سكوتهم عن ظلم الظالمين أن تحل بهم قارعة، أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون؟ ألا يستشعر العرب والمسلمون دولاً وشعوبا حق المسلم على المسلم ؟ أم تناسوا قول رسول الله  صلى الله عليه وسلم : ) من أعان إنساناً في خصومةٍ بباطلٍ لم يَزَلْ في سَخَطِ اللهِ حتى يَرْجِع ) أما علموا أن الإسلام لم يترك فرصة للإفلات من  واجب نصرة المظلوم؛ حيث حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من السلبية والتخاذل فقال :( لا يقفن أحدكم موقفًا يضرب فيه رجل ظلمًا؛ فإن اللعنة تنزل على من حضره حين لم يدفعوا عنه) رواه الطبراني .  ألا يخشى هؤلاء من سكوتهم عن ظلم الظالمين أن تحل بهم قارعة، أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون؟ فليس من المسلمين من لم يهتم بأمرهم فيناصرهم ويذود عنهم ، وملعونٌ ذلك الذي شهد موقفًا يُظلم فيه المظلوم، ولم ينصر أخاه وهو يقدر  جاء في الأثر : " لعن الله من رأى مظلوما فلم ينصره ، ومن أُذل عنده مؤمن وهو قادر على أن ينصره فلم ينصره أذله الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق " وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  : ( "الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا ، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ ) البخاري .  

فالمؤمن لأخيه كالبنيان، يقوّيه ويمنعه من ظلم الظالمين، وبغي الباغين ، وإن نصرة المظلوم فريضة دينية وضرورة حياتية ، وكل مسلم مظلوم في دينه أو في دنياه، أو معتدى عليه في نفسه أو في أهله أو ماله، فهو أهل للنصرة، فعن جابر بن عَبْدِ اللَّهِ وأبي طَلْحَةَ بْنَ سَهْلٍ الْأَنْصَارِيَّ   قالا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ( مَا مِنْ امْرِئٍ يَخْذُلُ امْرَأً مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ تُنْتَهَكُ فِيهِ حُرْمَتُهُ، وَيُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ، إِلَّا خَذَلَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ. وَمَا مِنْ امْرِئٍ يَنْصُرُ مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ، وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ، إِلَّا نَصَرَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ نُصْرَتَهُ ) أحمد وأبو داود.

إن واجب المسلمين أن يقوموا بتطبيق مبدأ الأخوة الإيمانية بمناصرة إخوانهم المجاهدين بأموالهم وأنفسهم وألسنـتهم بالدعاء والقنوت في الصلوات ، والذب عنهم بالكتابات الجريئة في وجه أهل الباطل والنفاق وبذل الجهد بقدر الوسع في نصرة المظلومين قال تعالى : ﴿ وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ ﴾ .

 

 

 

 

 

     

 

     

 

 

   

 

  بين الأمس واليوم

 ذكر ابن كثير في البداية والنهاية ما كتبه ملك الروم إلى حاكم بغداد أمير المؤمنين هارون الرشيد قائلاً : من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب ، أما بعد فإن الملكة التي كانت قبلي أقامتك مقام الرخ ، وأقامت نفسها مقام البيدق ، فحملت إليك من أموالها ما كنت حقيقاً بحمل أمثاله إليها ، وذلك من ضعف النساء  وحمقهن ، فإذا قرأت كتابي هذا فاردد إلي ما حملته من الأموال وافتد نفسك به ، وإلا فالسيف بيننا وبينك .

فلما قرأ هارون الرشيد كتابه أخذه الغضب الشديد حتى لم يتمكن أحد أن ينظر إليه  ولا يستطيع مخاطبته ، وأشفق عليه جلساؤه خوفاً منه ، ثم استدعى بداوة وكتب على ظهر الكتاب : بسم الله الرحمن الرحيم ، من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم . قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة ، والجواب ما تراه دون ما تسمعه والسلام .

ثم شخص من فوره وسار حتى نزل بباب هرقله ففتحها واصطفى ابنة ملكها ، وغنم من الأموال شيئاً كثيراً ، وخرب وأحرق ، فطلب نقفور منه الموادعة على خراج يؤديه إليه في كل سنة فأجابه الرشيد إلى ذلك .

لقد انقلبت الموازين ، وبدلاً من أن نُملي عليهم  أصبحوا يملون علينا ، ففي عصرنا الحاضر كتب رئيس أميركا إلى حاكم بغداد قائلاً : من جورج بوش الابن قائد التحالف الصليبي إلى صدام حسين قائد أم المعارك ، أما بعد : "فإن والدي جورج بوش الأب قد أخرجك من الكويت ذليلاً ، وأبقى على ملكك في بغداد لحاجة في نفسه ، فإذا بلغك كتابي هذا فاعلم أن أيامك في الحكم قد أصبحت معدودة ، وسواء عليك أتعاونت مع فريق المفتشين الدوليين أم لا فإن رأسك مطلوب ، وقصرك مقصوف وجسرك منسوف وسترك مكشوف  وسنرسل حاملات طائراتنا لتذل كبريائك ، وتبيد خضراءك   واعلم أن أصدقائنا قد فتحوا لنا الحدود والممرات والأجواء ، وقدموا لنا كافة التسهيلات كي نقلعك ، ولا خيار أمامك إلا الاعتزال ومغادرة البلاد ، ولنأتينك بجنودٍ لا قبل لك بها ، ولنخرجنك منها" . ولما قرأ صدام الكتاب طلب من كبار معاونيه أن يستجيبوا لقرارات الأمم المتحدة وأن يستقبلوا فرق التفتيش التي تدخل المنشآت والقصور والبيوت دون استئذان ، وأن يعتذروا للشعب الكويتي عن المعاناة التي سببها غزو عام 1990.

ثم بدأ ذلك النور المشعّ ينحسر شيئًا فشيئًا  فعاش أبناء المجتمع في ليال سوداء قائمة، وهم ضعفاء أذلاء، تفرقت الكلمة، وتصدع البنيان وتداعت عليهم الأمم من كل حدب وصوب فذهبت الهيبة، وانهار كيان المجتمع، ولم يكن ذلك عن قلة، ولكن أصبحوا كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم "غثاء كغثاء السيل" فزحف المستعمر من كل مكان، لينهش من هذا الجسم المريض، وبدأ الاستعباد والذل والهوان، كل ذلك حدث عندما هانت الأمة على نفسها، حتى فقد المجتمع الإسلامي ثقته بنفسه، وأصبح الإسلام في نفوس أصحابه ألفاظًا بلا معنى، واتجه شرار المجتمع صوب المستعمر الآثم، يتبعون خطواته حذو القذة بالقذة، كما قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد في مسنده: "ليحملن شرار هذه الأمة، على سنن الذين خلوا من قبلهم، أهل الكتاب، حذو القذة بالقذة". لكنني أريد أن أقول لكم يا قراء، أن ما نعيشه الآن من مذلة وهوان، إنما هو لأننا لم نتبع سنة سلفنا الصالح، فلم نقوم اعوجاج حكامنا. وأقول لكم أيضا، أن الحكام لم يكونوا أقل خطرا من الأعداء، وأن النخبة الخائنة التي نصبها الحكام علينا ما بين كتاب ومفكرين وصحافيين وفقهاء سلطان ،لم تكن هي الأخر أقل خطرا فما بين يسار كافر، ويمين منحل ، وعلماء دين نسوا الله، تشكلت تلك الفئة التي كانت للأمة أشبه بميكروب الجمرة الخبيثة ، تفتك بها ، فلا تنسي ذلك ، وهل بعد هذا الإذلال إذلال ، لقد وصلنا إلى مرحلة مللنا والله فيها قرارات المذلة والمسكنة ، والخضوع للكفار وقوانينهم الجائرة  ألسنا قوم أعزنا الله بالإسلام ، فلماذا نبتغي العزة بغيره ؟ ألسنا بحاجة إلى قرار مثيلٍ لقرار هارون مع ملك الروم ، لقد اشتقنا والله لقرارات العزة والكرامة في ظل حكم الإسلام  وطاعة الله ورسول e ، وإذا كانت العزة الحقيقية لا تكون إلا بالموت فمرحباً به ، لأن الموت في طاعة الله خير من الحياة في معصيته ، ولقد أحسن عنترة العبسي عندما قال :

موت الفتى في عزةٍ خيرٌ له        من أن يبيت أسيرَ طَرْفِ أكحلِ

لا تسقني ماء الحياة بذلةٍ         بل فاسقني بالعزِّ كأسَ  الحنظل

ماءُ الحياة بذلةٍ كجهنمٍ          وجهنمٌ بالعزِّ أطيـبُ منـزلِ

هذا الجاهلي ! فما بالكم بالمسلم الذي يرجو من الله إحدى الحسنيين ، النصر أو الشهادة ؟ لا شك أنه أجدر بالشجاعة  وأولى بالتضحية والإقدام ! أما من لا يرجون لقاء الله فعقابه ينتظرهم جزاء الكذب والتخلف، وإن كانوا يتظاهرون بالإسلام وهم فيه منافقون وماذا يتربص المؤمنون بالمنافقين ؟ إنه عذاب الله أن يأخذهم كما أخذ من قبلهم ، أو يبطش المؤمنون بهم كما وقع من قبل قال تعالى : } قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ، ونحن نتربص بكم أن يصيَبكُمُ الله بعذاب من عنده أو بأيدينا  فتربصوا إنا معكم متربصون  { .

إنهم جبناء يلجأون بكل الوسائل ليأمنوا على ذواتهم وليحققوا أطماعهم ، وإن كان في ذلك ذِلةٌ وصغارٌ لهم ، متناسين أنه لا يذل من يخضع لله ، إنما يذل من يخضع لعباد الله  ولا يصغر من يخشاه  إنما يصغر من يعرضون عنه فيخشون من دونه من عباد الله . قال تعالى : } أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه {      

 

 ما هو المطلوب منا

نحن في هذه الأيام في حاجة إلى وقفة تأمل ننظر فيها إلى حاضر العالم الإسلامي كي نبصر ما نحتاج إليه ، وكي نأخذ العبرة مما يوحي بالعبرة   في الوقت الذي نرى فيه القوى المعادية للإسلام تعربد قريباً منا وبعيداً عنا .

ففلسطين لا يجف فيها دم ، وكما يَطَّلع الناس على النشرة الجوية في كل صباح يتسمعون إلى أنباء القتلى في الانتفاضة ، التي أمدها الله وحده بالقوة . إننا بحاجة إلى أن نتعرف حاضر العالم الإسلامي   الذي ضاق به أحد الشعراء فقال :

قد استردَّ السبايا كل منهزم       لم تبق في أسرها إلا سبايانا

وما رأيت سياط الظلم دامية            إلا رأيت عليها لحم أسرانا

ولا نموت على حدِّ الظّبا أنفاً         حتى لقد خجلت منا منايانا

وإذا كانت أمتنا الإسلامية محتاجة إلى شيء ، فإنها أحوج أمم الأرض إلى الإيمان الذي يملأ فراغها   وإلى الحاكم العدل الذي يسوسها ويعمِّر خرابها   ويعمل لمصلحتها .

يروي التاريخ أن الخليفة المهدي العباسي كان يهتم برعاياه بصورة كبيرة ، وكان محبباً إلى الخاص والعام من رعاياه ، لأنه افتتح أمره بالنظر في المظالم ، والكف عن القتل ، وأمَّن الخائف وانصف المظلوم . وقد روى السيوطي كثيراً من الروايات التي تدل على حرصه على تحقيق مصالح رعاياه ، فروى أنه كان يمر يوماً بموكبه في شوارع بغداد ، فسمع رجلاً ينشد :

قل للخليفة حاتم لك خائن        فخف الإله وأعفنا من حاتم

إن العفيف إذا استعان بخائن         كان العفيف شريكه في المآتم

فأمر المهدي بعزل كل عامل من عمَّاله يتسمى باسم حاتم ، لأنه كان من العسير على المهدي أن يصل إلى حاتم هذا المشكوك فيه ، لقد كان التاريخ الإسلامي ، هو عمل السلطة الإسلامية في تطبيق الإسلام من قبل الخلفاء والحكام .

دخل أبو مسلم الخولاني على معاوية بن أبي سفيان فقال : السلام عليك أيها الأجير ، فقالت له الحاشية : قل : السلام عليك أيها الأمير فقال : السلام عليك أيها الأجير وكررها مرتين   ومعاوية كان لبقاً وذكياً فقال : دعوا أبا مسلم فإنه أعلم بما يقول . فأفهمه أبو مسلم أنه أجير للمسلمين يعمل لمصلحتهم ، وما يستحق أجراً إلا إذا أخلص في عمله وأدى ما عليه ، وعندما طلب أبو ذر من النبي e أن يولّيه عملاً من الأعمال أو منصباً من المناصب قال : ( يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة ، وإنها يوم القيامة خزيٌ وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها ) أي ينهض بجميع الأعباء التي يفرضها المنصب عليه ، فخلف ذلك السلف وتلك الحاشية ، خلف كلهم حاتم وعلى منوال تلك الحاشية ، خيانةً وغشاً وذلاً ومهانة ، أشداء على قومهم أذلاء أمام أعدائهم :

ألقاب مملكة في غير موضعها     كالهرِّ يحكي انتفاخاً صُورة الأسد

وليس بعزيز على الله أن يطرد أمثال هؤلاء ، وأن يحرمهم السلطة التي قصروا بالقيام بواجباتها.  {فأخذهم الله بذنوبهم إن الله شديد العقاب }.الأنفال 52

ولكن قضاء الله من تدمير الظلمة وإنشاء أمم أعدل وأعقل ، يحتاج إلى زمن طويل بمعنى أن ذلك لا يتم بين عشية وضحاها ، فقد يموت قادة ويستشهد مجاهدون ، قبل أن يأتي النصر آخر الأمر ، أما لماذا يطول الزمن ؟ فلأن الله يُنْضِجُ الكمال في نفوس المجاهدين مع طول الزمن ، وفي الوقت نفسه يُنْضِجُ العناد والكفر في نفوس المعاندين والفاسقين مع طول الزمن ، فإذا كوفئ المؤمنون بالنصر ، فبعد أن يبلغوا قمة الخير والكمال ، وإذا كوفئ المجرمون بالعقاب ، فبعد أن يبلغوا قمة الشرّ والفساد .

أما ما هو المطلوب من الأمة حتى تستحق النصر على الأعداء ؟ هناك نداءات شتى للمؤمنين بيَّنها القرآن الكريم منها : أولاً- تحكيم كتاب الله قال تعالى :}فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم{.

ثانياً - عدم التولي يوم الزحف قال تعالى :}يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار{. الأنفال 5 ثالثاً - طاعة الله والرسول وعدم الإعراض عن آيات الله قال تعالى :}يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وانتم تسمعون{. الأنفال 20

رابعاً- الثبات في لقاء الأعداء قال تعالى :}يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون{. الأنفال 45

خامساً- زيادة الإيمان بقراءة القرآن أو سماع تلاوته قال تعالى :}وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون{. الأنفال 2 ، لقد افتُتِحت إذاعات قراءة القرآن ، وكثرت دور تحفيظ القرآن والحمد لله ، ولكن ما قيمة هذه الدور والإذاعات ، إذا لم تحرِّك قراءة القرآن الإيمان المخدَّر الذي يضحك منه أعداء الإسلام . ما قيمة ذلك إذا لم تتحول الآيات إلى مسالك وإلى جهاد وأعمال وهذا أمرٌ لا بد منه ، لأن نهضة الأمم ليست كتباً تقرأ وتحفظ ، لكنها أحوال ومناهج وتطبيقات ، والأمم الهابطة المتأخرة تهتم بالشكل وتهمل الموضوع :

يقولون  الزمــــان به فساد     وهم فسدوا وما فسد الزمان

يخطئ من يقول إن الأمة الإسلامية ستستسلم للذل والخنوع بعد اليوم ، فهذه هي رغبة الكافرين الذين يعملون على إماتة روح الجهاد في الأمة ، وإذا كانت الظروف التي تعيشها الأمة أقوى من طاقاتها ، فلأنها تعيش فترة استسلام وجمود ، تماماً كانتصارات الصليبيين التي كان مرجعها إلى انحلال القوى الإسلامية وتفككها وعدم ترابطها ، فانشغلت بالتوافه من الأمور وابتعدت عن الجوهر ، فما عادت لها هيبة ولا كيان ولا وجود ، فاصبح ما يجري لا يحرك عندها ساكنا :

كم يستغيث بنا المستضعفون وهم    أسرى وقتلى فما يهتز إنسان

لماذا التقاطع في الإسلام بينكم       وأنتم يا عباد الله إخــوان

ألا نــفوسٌ  أبيّاتٌ  لها همم      أمـا على الخير أنصار وأعوان

إن الذين يشكّون بعودة الإسلام قوياً بسبب انبهارهم بقوى الدول الكبرى ، وما تملكه من المخترعات المخزونة من أدوات الدمار ، نسو أن الله يقول :}لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض  {وأنهم لن يغلبوا الله لأنه كما قال تعالى:} والله غالب على أمره{ أما مع من يكون أمر الله ولمن يكون الاستخلاص ؟ فقد أوضحه قوله تعالى : } يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون { النور ، وكلمة وأطيعوا الرسول ، تعني حراسة سنته والقيام عليها والعمل بها ، إنه لا تعويل بعد اليوم على السياسة ولا على الساسة ، وإنما التعويل كله على الأمم ، ولا معول للأمم في جهادها أنفع لها وأصدق من المضي بها إلى تطبيق أحكام الإسلام   لأن الإسلام لا تهزمه القوى الأجنبية ، التي مهما اشتد ساعدها فإن نارها إلى خمود وثورانها إلى همود ، وما أصيب الإسلام ولن يصاب إلا من داخل أرضه ومن أبناء أمته ، مما يجعلني أشفق على مستقبل هذه الأمة ، لأن العداوات العالمية والمحلية في كثير من الأقطار الإسلامية مخيفة ئإن بقينا على ما نحن عليه فإن المصير مخوف والعاقبة مقلقلة ، وإن استيقظنا وتمسكنا بديننا وتحول إيماننا إلى عمل ويقيننا إلى سيرة تُفْرَضُ على الأمة ، عندها يكون النصر بإذن الله . قال تعالى :}ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز{. الحج 39.

   

 

 

 

 

جريمة خيانة الأوطان

إن خيانة الوطن من الجرائم البشعة التي لا تقرها الشريعة الإسلامية ، ويترك لولى الأمر أن يعاقب من يرتكبها بالعقوبة الزاجرة ، لأن حب الوطن فـرض ، والدفاع عنه شرف وغاية ، والخيانة هي كل ما من شأنه أن يمس بوحدة الأمة   وأمن الوطن يقول الله عز وجل: ﴿ إنا أنزلنا عليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولاتكن للخائنين خصيما ﴾ النساء ،كما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الخيانة ليست من أخلاق المسلم: (يطبع المؤمن على كل خلق، ليس الخيانة والكذب) أخرجه السيوطي في صحيح الجامع الصغير عن ابن عمر. ولا يوجد من يحب وطنه ولا يدافع عنه في أوقات الشدة والتصدي للأعداء ودحر الغزاة والطامعين  والدفاع عن الأرض والشرف والعرض ، والوقوف في وجه الطامعين في ثرواته .

إن المؤمن الحق يحب وطنه ويضحي في سبيل وطنه وأمته   وكثيراً ما يتمنى أن يكون في مقدمة من يسطرون بدمائهم الزكية ملاحم خالدة في الجهاد في سبيل الله لإعلاء شأن الوطن واستقلاله ، دون أن يرضى بديلاً عن ذلك ، ومن الناس من يُقْدِمون على خيانة الوطن والأمة وبيع ضمائرهم ، والتعاون مع أعداء الوطن والأمة ، فيعيشون المآسي والمعاناة من خياناتهم  ومن الغش والتدليس، وسرقة الأموال المخصصة للمشاريع التنموية واستغلال الممتلكات العامة والتصرف بها ، متناسين أن حب الوطن من الايمان لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( حب الوطن من الايمان) فليس غريبا ان يحب الإنسان وطنه الذي نشأ على أرضه ، وشب على ثراه ، وترعرع بين جنباته  لكن الغريب ، أن يقبل خيانته    ويبيعه بثمن بخس ، ويكون سببا في كل خطوة يخطوها العدو في أرض الوطن ، وخائنٌ من يدع قدمي العدو تستقر على تراب الوطن وهو قادر على زلزلتها   وهو خائن في أي لباس ظهر وعلى أي وجه انقلب ، ولا يمكن أن ينسى من غدر بالوطن   وخانه سراً أو علناً ، لذلك أجمعت الأمم على اختلاف عقائدها وتوجهاتها، على مقت الخائن لوطنه، علماً أن كل فعل مشين ، يمكن أن يجد الإنسان مبررا لفعله إلا خيانة الوطن   فإنه لا يمكن ان يكون له أي مبرر ، لأن جريمة خيانته لا تغتفر كون المجني عليه هو الوطن   وكل عمل مشين يمكن للمرء أن يجد مبرراً لفاعله، إلا خيانة الوطن لا مبرر لها، ولا شفاعة لمرتكبها، مهما كانت منزلته   فلا شفاعة لمن يبيع وطنه ويتآمر عليه ، وعندما تقع الخيانة فالوطنية كلمة لا معنى لها ، لأن الوطن عندهم ليس ذلك الوطن السليب ، الذي يعاني شعبه ويلات الغزو والعدوان والعمالة ، فما من دين أو عقيدة، يبرر خيانة الوطن ، لأن خائن الوطن يكون مطية لأعداء الله في تنفيذ مخططاتهم ، وما فيها من دمار للبلاد والعباد ، وقد كانت العرب قبل الإسلام ، ترى خيانة الوطن جرماً يستحق صاحبه الرجم ، وليس أدل على ذلك من (أبي رغال) الذي كان الدليل لأبرهة الحبشي لهدم الكعبة وعندما توفي بالطريق دُفن هناك ولا يزال قبره يرجم إلى يومنا هذا بالمغمس بالجمرات ، كذلك ابن العلقمي لعنه الله ، الذي كان دليلاً لهولاكو على بغداد، وتدمير دولة الإسلام ، وكم بيننا اليوم من أبي رغال وابن العلقمي .

والخائن يبقى ذليلاً  ولو وضعوا على رأسه كل تيجان العالم     وجعلوه رئيساً أو وزيراً، وقد ابتلينا ، بكتبة مبادئهم "كسحابة الصيف" يمرون على مصائب الأمة "مرَ السحاب" دون أن يرفَ لهم جفن ، لأن إخلاصهم "أبعد من َمناط الثريا" فأدمنوا على الإدبار، وتمجيد الاستسلام  وتزييف صورة السلام  مستخدمين المصطلحات التضليلية، التي صيغت صياغة ملغومة ، فأطلقوا على قوى الاحتلال اسم "الاستعمار" والأصح من ذلك أن يطلق عليه اسم "الاستخراب" لأن أعمال الغزاة المحتلين ، قائمة على التخريب العام ، وليست قائمة على التعمير ، وقد ابتلينا بمن روجوا الأخطاء فشاعت وأصبحت من المسلمات ، حتى إن الإنسان ليعجب من عقوق اللاهثين وراء الأجنبي، وإن سألت عن  حالهم ، فلا ترى  غير الكذب والتمويه والتضليل   نهجهم  عجيب ، وأمرهم  غريب ، مولَعون بالخلاف ، إذا تعلق الأمر بخْدمة العدو، لا يشبهون الأهل في إخلاصهم   ولا الأعداء في أهدافهم ، وخير وصف لهم : أنهم "مفاتيح الفتن" إذا قويت شوكتهم تسلطوا وظلموا ، يرِّوجون لكل ما هو دخيل ، ويشيدون بالمتآمر والعميل، يطِّبلون للتنازلات ويزمرون للمَماحكات ، يُدينون السلام ، ويَدينون بالاستسلام  يهللون للأباطيل الصهيونية ويلبسونها جلود الحملان  وينددون بالتعاليم الإسلامية  ويصفونها بالرجعية المتخلفة  وكأن بلاد الإسلام مباحة ، بل حق لكل طامع دخيل متآمر محتال من شذاذ الآفاق ، الذين ضاق العالم بهم ، فقذفهم على شواطئ بلاد الإسلام ،كما يقذف البحر زبده الذي يذهب جفاء ، وبدلاً من الإنكار نرى من يقوم بالدعاية للدجل السياسي الذي يُرتكب ، وكأن أمر الوطن والمواطن لا يعنيهم لا من قريب ولا من بعيد ، وإذا ما ثار ثائر أو دافع مدافع عن قضية تهم المسلمين، نجدهم يتهمون الشرفاء بالتطرف والأصولية ، ويتلاعبون بالمصطلحات على هواهم حتى يصبح ُالحق باطلا والباطل حقا والتسليم لكل ما هو دخيل وغريب ، ولا غرابة بذلك على من مات ضميره ، واتهم َمْن يطالب بتحكيم شرع الله   ودين الله الذي لا يقبل من الناس غيره ، بالأصولية والرجعية  فحسبنا الله ونعم الوكيل .   

 

 

الابتلاء والواقع الذي نعيش

قال تعالى :) أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ( . العنكبوت 2

 أخبرنا الله تعالى بأن الحياة الدنيا فيها اختبار وابتلاء وامتحان .

اختبار للإيمان بالله وامتحان لحب الله في القلب وابتلاء للطاعة والمعصية ، والإيمان ليس كلمة تقال ، إنما هو حقيقة ذات تكاليف  فلا يكفي أن يقول الناس آمنا حتى يتعرضوا للفتنة فيثبتوا عليها ويخرجوا منها صافية قلوبهم .

والإيمان أمانة الله في الأرض لا يحملها إلا من هم لها أهل ، وفيهم على حملها قدرة وفي قلوبهم تجرد لها وإخلاص ، إنها لأمانة الخلافة في الأرض ، وقيادة الناس إلى طريق الله وتحقيق كلمته في عالم الحياة  ، ومن الفتنة أن يتعرض المؤمن للأذى ، ثم لا يجد النصرة والقوة التي يواجه بها الطغيان وهناك فتن كثيرة في صور شتى منها فتنة الأهل الذين نخشى عليهم أن يصيبهم الأذى بسببه وهو لا يملك عنهم دفعا ، وقد يهتفون به ليسالم أو يستسلم ، وهناك فتنة الغربة في البيئة والاستيحاش بالعقيدة حين يغرق الناس في تيار الضلالة .

وهناك فتنة من نوع آخر نلمسها هذه الأيام وهي أن نجد أمماً ودولاً غارقةً في الرذيلة رغم تحضرها وغناها ، وأكبر هذه الفتن فتنة النفس والشهوة والرغبة في المتاع والسلطان وصعوبة الاستقامة على صراط الإيمان .

وأشدها وأقساها إبطاء نصر الله عند الإفلات إلى الدعة واتباع خطوات الشيطان   والنفس تصهرها الشدائد فلا يبقى إلا أشدها اتصالاً بالله وثقة فيما عنده من النصر أو الأجر . وقد تكفل الله بانتصار الإيمان والحق ووعد بذلك ، ولا يشك المؤمن بذلك فإن أبطأ فلحكمة مقدرة فيها الخير للإيمان وأهله ، وليس أحد بأغير على الحق وأهله من الله وحسب المؤمنين الذين تصيبهم الفتنة ويقع عليهم البلاء ، أن يكونوا هم المختارين من الله ليكونوا أمناء على حق الله ، وأن يشهد الله لهم بأن في دينهم صلابة فهو يختارهم للابتلاء جاء في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه فإنه كان في دينه صلابة زيد له في البلاء ) . إن الإسلام الذي ساد قروناً من الزمان لا بد وأن يسير على الدرب الذي حدده القرآن قال تعالى :)هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون(

وما رواه الإمام أحمد أن النبي عليه السلام  قال :( إن الله زوى لي الأرض مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها ) . في ذلك دلالة على أن المستقبل للإسلام الذي جاء بأمور ليس لمر الزمن تأثير فيها ولا دخل له في حقائقها ، والزمن خاضع لمشيئة الله والله يريدنا أن نفهم أنه خالق الزمن ، ويخلق لكل حدث ما يناسبه وعلى المسلمين أن يلتمسوا ما يصلح شئونهم في كل زمان ومكان . وما نلمسه من الفرقة بين العرب والمسلمين فهي حقيقة  وستبقى حتى تعود وللإسلام مكانته العملية والتطبيقية ويومئذٍ يفرح المؤمنون بنصر الله ، لأن المسلمين في ذلك اليوم سيعودون إلى الدين . وقوته أكبر من إرادة البشر ، لأنها مبنية على السنة التي أودعها الله في الفطرة وتركها تعمل في النفوس ، وحين يجيء ذلك اليوم ، فماذا يعني في حساب العقائد عمر جيل  من البشر أو أجيال ؟

فليس المهم متى يحدث ، إنما المهم أنه سيحدث بمشيئة الله ، وحين يجيء ذلك اليوم وهو آت إن شاء الله ينصر الله عباده ، واليوم عند الله مختلف بسبب المهمة التي ستقضى فيه أو الأحداث التي ستقع فيه ، وقد شاء الله أن يكون اليوم في الأرض أربعاً وعشرين ساعة ليناسب ذلك حياة الناس وطاقاتهم ، بخلاف اليوم عند الله قال تعالى :) وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون( الحج 47 . وقال تعالى :) تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ( المعارج 4. في الآيتين لفتة قرآنية تعلمنا أن الله يريد منا أن نفهم أنه خالق الزمن ، ويخلق لكل حدث ما يناسبه  فإذا أراد يوماً مقداره ألف عام خلقه ، وإذا أراد يوماً مدته خمسون ألف عام خلقه ، فليس هناك قيود على قدرة الله  ، ويوم القيامة من الأزمنة في هذه الدنيا ، لا نستطيع أن نحدده لأنه غيب عنا ، ولكننا نعرف من القرآن الكريم أن زمن يوم القيامة يتسع لكل أحداثه بحيث لا يؤجل حدث إلى يوم آخر ، ولا يتم حدث باستعجال لأن الوقت قد انتهى ، بل إن الله خلق هذا اليوم بقدر ما سيتم فيه من أحداث بحيث يحشر الناس جميعاً كل في مكانه المحدد ويحاسب الناس جميعاً كل بحسابه . أما لماذا أسماه الله يوماً ؟ ذلك لنعلم أنه ليس له عدَ وأن الحساب لن يتم جزء منه في يوم ويؤجل الباقي إلى الغد ، بل سيظل الحساب مستمراً ومشاهد يوم القيامة تتم دون أن تكون فترة للراحة أو تأجيل  حتى يقضي الله بين الناس كلهم ، وقد يسأل سائل : هؤلاء الخلق منذ عهد آدم بلايين الناس ، كم يستغرق حسابهم ؟ هذا السؤال يضع قيوداً على فهم السائل لقدرة الله ، لأنه أخذ الحساب بمفهوم القدرة البشرية المحدودة ، وقد سئل علي بن أبي طالب رضي الله عنه كيف سيحاسب الله الناس جميعاً في وقت واحد ، قال : كما يرزقهم الله في وقت واحد .

إن الأمة تعيش أزمة تدعو كل عالم ومثقف ومفكر نزيه ، أن يحدد لها مكمن الخطأ والتقصير الذي يثير بعض التساؤلات : هل الأزمة التي تعاني منها الأمة أزمة سياسية ؟ أو فكرية أو ثقافية ؟ أم هي عقائدية ودينية ؟ وكيف المخرج .

لقد مرّت أمتنا منذ البعثة المحمدية وحتى اليوم بمراحل متعددة فقد جاء الإسلام فوحد الأمة ودفعها نحو القيادة والريادة ونشر الإسلام في العالم ، فصرنا بفضل الله قادة العالم وسادته لعدة قرون  ولا يستطيع أحدٌ أن يتجاهلنا ولا يتخطانا ، وأقمنا صرحاً حضارياً لا تزال معالمه ماثلة للعيان ، و أنتجنا ثقافة ما زلنا نتعايش عليها . وبدا العدُّ التنازلي والبعد عن أساس نهضتنا ، فتجمد فكرنا وتحولنا من المضمون إلى الشكل ، ومن القيم والأفكار إلى الأشياء  ففقدنا القيادة بل ضيعنا السيادة في بلادنا . فاجتاحنا الكثير من برابرة العالم ، ابتداءً من الصليبيين الهمج ، إلى المغول البدو وأخيراً جاء الغرب الاستعماري بأساطيله وجنوده وثقافته ، فكانت أكبر ضربة تتلقاها الأمة في حياتها وقبل أن يرحل الاستعمار عن الأرض والعقول والقلوب ، زرع لغماً كبيراً هو إسرائيل ومدها بكل وسائل الاستمرار والتفوق وما يزال يمدها إلى اليوم . وهنا اذكر لكم قضيتين الأولى قديمة والثانية جديدة أما الأولى : في العصر العباسي أوصى المأمون أن يكون الخليفة من بعده المعتصم وليس ولده ، ولما كان المعتصم لم يتعلم جيداً فقد أحاط نفسه بمجموعة من المستشارين على رأسهم ابن أبي الربيع  الذي كتب للمعتصم كتاب سلوك المالك في تدبير الممالك . وكان الشخص الثاني إسحاق بن إبراهيم المصعبي ، وقد طلب إليه المعتصم أن يجيب لماذا نجح المأمون في تعاملاته وخلافته ، بينما لم ينجح المعتصم ؟ خاف المصعبي من غضب المعتصم إن هو صارحه السبب ، فطلب أن يعفيه من ذلك ، لكن المعتصم أصرَّ على رغبته بالحصول على جواب سليم مقنع فقال المصعبي هل أنا آمن من غضبك ؟ فرد المعتصم بالإيجاب . فقال المصعبي بإيجاز : لقد نظر أخوك إلى أصول فاستعملها فأنجب  واستعمل أمير المؤمنين فروعاً فلم تنجب شيئاً ، وهنا قال المعتصم ويحك يا مصعبي ، والله إن ما أعانيه أيسر عليّ من جوابك هذا هذه مشورة عمرها أكبر من ألف عام  .

أما القضية الثانية ، خلال الحرب العالمية تحالف الألمان واليابان والإيطاليون ضد الغرب بما في ذلك أمريكا ، وكانت حرباً قذرة بمعنى الكلمة ، خلت من كل رحمة فدكت المدن وأزهقت أرواح أكثر من خمسين مليونا من البشر ، وجاع وتشرد الملايين ، ونهبت بلاد ومصانع وفرضت غرامات ، وضربت هيروشيما وناكزاكي بقنابل نووية ، وانتهت الحرب بصورة من الدمار لم تعرفه البشرية من قبل ، وخلال سنوات حصلت مفارقة غريبة فقد تقدم المغلوب على الغالب ، وتجاوز المهزوم هزيمته ومن هزمه ، فما سرُّ ذلك ؟ ما حصل في الحرب أن دُمِّر عالم الأشياء  ، أما الإنسان وفكره فقد بقي ، فأقام كيانه مجدداً وتخطى من هزمه ، فقد كان للدول الاشتراكية مجال السبق في إرسال صواريخ إلى الفضاء وتدفقت تكنولوجيات الصناعات المدنية عليها في الغرب ، مما اقلق أمريكا التي أعادت النظر في مناهج التعليم ، وفتحت أبوابها لهجرة العلماء من كل بقاع الأرض ، ولم تسترح حتى أرسلت صاروخاً إلى الفضاء وكان ذلك بالنسبة لها عيداً .

هذا دليل على أن الأفكار هي الضابط لسير المجتمع ، والمانع من تراكم الأخطاء ، ألا ترون أن العالم الصناعي اليوم يهتم جداً بإنشاء مراكز البحث ، ويمدها بكل ما تحتاج .

في الوقت الذي تكاد تنعدم فيه مراكز البحث عندنا ، لقد افتقدت شخصية المسلم منهجيتها ، فعجزت عن معرفة مواطن الخلل كما عجز المسلمون عن درء الفتنة عن الأرض والحيلولة دون الفساد الكبير ، لأنها بحاجة إلى بروز قوامه العدل وشهادة العدل وأمة العدل وهذا منوط إلى حد بعيد بوعي الأمة المسلمة لذاتها ورسالتها لتصويب طريقتها ووعيها بالناس الذين كلفت بالشهادة عليهم قال تعالى : ) يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم ( النساء 135 . وإذا كان من خصائص الأمة المسلمة الشهادة على الناس فإن النكوص والغياب عن هذه الشهادة إضاعة للحق والعدل والأمن وإيذان بالسقوط . والشهادة تتطلب معرفة ، ولا تقبل شهادةٌ من غير معرفة ، والسؤال هنا : هناك اليوم علوم ومعارف أكثر من أن تعد وتحصى ، فما المقصود بالمعرفة هنا ؟ كما ذكر عبد الحميد النجار في فقه التحضر الإسلامي " تعني شهادة العلم في سياق جعل الأمة الإسلامية شاهدة على الناس ، أن تكون هذه الأمة قائمةٌ في عقيدتها وفي عملها على السعي الدائم للعلم بالحقائق وتأسيس الحياة عليها ". وكما ذكر الإمام الغزالي : " بأن ثمة تلازماً قوياً بين علوم الدين وعلوم الدنيا ، فمن تعلَّم علماً واحداً فلا يكفي ، ومن تعلَّم علوم الحياة فقط فلا نصيب له في الآخرة  ومن تعلَّم علوم الدين وجهل علوم الحياة فإن فهمه للدين سيكون ناقصاً " . ولا أقصد بالعلم بالدين العلم المتخصص ، فذلك من نصيب نخبة من علماء الشريعة إنما المقصود قدر مشترك من المعرفة الصحيحة  تشتمل على أصول العقائد ومتطلبات العبادة الصحيحة والأخلاق الإسلامية بعيداً عن التأويلات ، وليس المطلوب علماً نظريا لا يكون له في السلوك نصيب ، فيكون التنظير بواد والعمل والفعل بواد آخر . قال تعالى : ) وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا ( القصص 77

  

        

 

 

 

حال أمة الإسلام

إننا نعاني هذه الأيام من تفرّق الأمة واختلافها فوجد في الأمة من عادى أهل الإيمان ، وتقرّب من أهل الكفر والجحود والنكران ، فقد تشعبت الآراء وتمزقت الأشلاء ورخصت الدماء وتكالب عليها الأعداء ، يوم صُنِف القريب عدواً واتُخِذَ الباغي صديقا ، ويوم والوا الأغراب وتزلفوا على الأبواب وركعوا على الأعتاب ، ويوم  لوح لهم العدو بالعقاب ، قدّموا له الأموال وكل ما لذ وطاب ، وخاصموا الأخوة والأصحاب ورجموهم بتهمة الإرهاب ، ماذا جرى لأمة الإسلام التي لم تعرف تجزئة طويلة الأمد إلاّ في مرحلتين من تاريخها : مرحلة الحروب الصليبية والغزو التتاري  والمرحلة التي تلت الحرب العالمية الأولى عندما فرضت بريطانيا وفرنسا حالة التجزئة   الناجمة عن سايكس بيكو ومؤتمر سان ريمو  مما أدى إلى السقوط في براثن الاحباط والفقر والجهل والقهر والاستبداد والتخلف والاستسلام ، اضف إلى ذلك الهجمات الخارجية الشرسة التي جعلت وضع الأمة  أكثر ضعفا وانصياعا لرغبات ومطامع القوى الكبرى ، حتى أصبح حال الأمة ينطبق عليه القول  : ما لجرح بميت إيلام ، بل فاق وضع الأمة قول الشاعر: لقد هزلت حتى بدا من هزالها***كلاها وحتى سامها كل مفلس   

لقد لحق الأمة الخزي والعار يوم ضاعت فلسطين والعراق وليبيا وسوريا واليمن   وفريق من أبناء الأمة يسرحون ويمرحون ويصرخون ويتباكون، بعد ان نهبت الثروات واستبيحت كما استبيحت الدماء ، وقد انخرطوا في التآمر ، بكل صراحة  مما أدي إلى مزيد من الاحباط ، الذي لا ينقذ الأمة منه إلا أن يقيموا دولة العدل والقسطاس فيما بينهم ، قال تعالى : ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾ 58 النساء وقال : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ 8 المائدة .

 ألا ليت المخلصين من أبناء الأمة أن يعيدوا حساباتهم، فقوتهم مع أبناء أمتهم ، لأن العالم لا يحترم إلا الأقوياء ، وعندما نمتلك القوة ونطبق منهج الله ، ومعها الإرادة ، عندها فقط، سوف يحترمنا العالم ويحترم مبادئنا وقيمنا وثقافتنا وحضارتنا ، وعندها سوف نزرع القيم، ونرعى الوفاء ، عندها تنتشر   بيننا المحبة المودة والرحمة، والسلام والأمن والأمان ، ألا فالنتقي الله في أنفسنا وأولادنا وبلادنا  ولنتكاتف ونعمل على حقن الدماء.

﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ 10الفتح .

 

أهمية الوحدة بين المسلمين

من أكبر المصائب التي تواجه الأمة الإسلامية   الاختلاف والتفرق الذي حذر الله منه فقال : ﴿ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾الأنفال 45. لأن وحدة الأمة من أهم عوامل قوتها ، به تنال مجدها، وتعيش آمنة مطمئنة، وبه تكون مرهوبة الجانب، عزيزة السلطان ، وإن واقع المسلمين اليوم، يشهد بأنهم في غفلة تامة عن أهميتها    فضلاً عن عجزهم عن تطبيقها، أو السعي إليها  فقال قائلهم :

حرموا هداية دينهم وعقولهم    هذا وربك غاية الخسران

تركوا هداية ربهم فإذا بهم      غرقى من الآراء في طوفان

وتفرقوا شيعاً بها نهجهم        من أجلها صاروا إلى شنآن

 ولا همَّ للعالم من حولهم إلا تفريق كلمتهم    والحيلولة دون وحدتهم ، وبث بذور الاختلاف بينهم ، لأن الوحدة من أهم خصائص هذه الأمة لقوله تعالى : ﴿ وَإِنَّ هَاذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ﴾ المؤمنون 51. وقد دلت النصوص على وجوبها  قال تعالى : ﴿ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ ﴾ آل عمران 103. قال القرطبي في التفسير : "فإن الله تعالى يأمر بالألفة وينهى عن الفرقة، فإن الفرقة هلكة، والجماعة نجاة"، والتفرق والاختلاف من أكبر الأسباب التي أدت إلى خذلان الأمة وإخفاقها في التعامل مع قضاياها، والحفاظ على حقوقها  ومفهوم الأمة الواحدة الذي وصفنا الله به ، وأمرنا بتحقيقه ، يكاد ينعدم على المستوى السياسي الرسمي، وضعيف جدا على المستوى الشعبي    ولذلك يستفرد الأعداء بمن شاءوا من المسلمين فيطئون أرضهم، ويسفكون دماءهم، ويدمرون بلادهم، وينهبون ثرواتهم، ويفعلون بهم الأفاعيل والبقية الباقية بين متآمر ممالئ ، وبين متفرج عاجز  من الخارجين على جماعةِ المسلمين ، وتعاليمِ الإسلام بألسنَتهم أو بأقلامِهم أو بالقوة ، ما يُضعِف جماعةَ المسلمين ، الذي حذر الله منه بقوله : ﴿ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا ﴾ الأنفال 46 . وطاعة الله تعالى تتمثّل بالانقياد إلى شرعه وحكمه   والاستسلام لقضائه وقدره ، واتّخاذ الإسلام عقيدةً وعملا وسلوكا ومنهج حياة، وتتمثل باتباع سنته واتباع أمره واجتناب نهيه فقال تعالى : ﴿ فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى  يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ النساء:65   كما تتمثل الطاعة ، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي جعله الله من أخص خصائص الأمة الإسلامية ، فبه نعرف مواطن الخلل فنتجنبها، وبه يحدث التكامل بيننا، وبه نزداد تمسكاً بوحدتنا وعقيدتنا ، قال الله تعالى : ﴿ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ آل عمران110، قال القرطبي رحمه الله عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: "هو القطب الأعظم في الدين، وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين ولو طوي بساطه، وأهمله علمه وعمله، لتعطلت النبوة، واضمحلت الديانة، وعمّت الفترة، وفشت الضلالة، وشاعت الجهالة، واستشرى الفساد، واتسع الخرق، وخربت البلاد، وهلك العباد، ولم يشعروا بالهلاك إلا بعد التناد" .

ومن يقول كلمة الحق ، يبتعد عن مجاملة الأشرار والمفسدين في الأرض والنفاق لهم والتمسّح بأذيالهم والسير على خطاهم وتزيين الشرّ والسوء لهم .

وإذا ما تحقّقت طاعة الله ورسوله على أرض الواقع قولا وعملا ، لا ادعاءً ولا رياء ، بطلت أسباب النزاع والشقاق والخلاف ،  فما يتنازع الناس إلا حين تتعدّد جهات القيادة والتوجيه، وحين يكون الهوى المطاع هو الذي يوجّه الآراء والأفعال والأفكار، فإذا استسلم الناس لله ورسولِه واعتصموا بحبل الله ، انتفت أسباب الفرقة والنزاع قـال تعالى: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا ﴾آل عمران 102 .

كما حذرنا الله من التنازع فقال تعالى : ﴿وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ  ﴾الأنفال 46 ، وحذر الله من أن يؤدي الاختلاف إلى الفرقة كما حدث لمن قبلنا : ﴿وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ﴾ آل عمران 105 .

يقول الأستاذ عبد القادر عودة رحمه الله: «لقد صنع الإسلام للوحدة الإسلامية كل ما يقتضيه التوحيد وأقام الوحدة على دعائم ثابتة ، لا يتطرق إليها الخلل ما دام المسلمون متمسكين بدينهم ، حريصين على طاعة ربهم ، وقد وحَّد الإسلام بين المسلمين جميعًا بما أوجب عليهم من الإيمان برب واحد، والخضوع لإله واحد، وإتباع كتاب واحد، ومشرّع واحد  وبما جعل للأمة الإسلامية على تعدد أفرادها من هدف واحد ، وتفكير واحد ، ومنهج واحد، وبما طبع عليه المسلمين من آداب وأخلاق موحدة وبما جعل للأمة كلها من قبلة واحدة، وسياسة واحدة، وسلوك واحد، وأمر لا يختلف على أصوله اثنان»

وجاءت النصوص تحث المسلمين على الأخذ بكل ما يزيد المحبة بينهم، والنهي عن كل ما يولد البغضاء في صفوفهم، وتأمرهم صراحة بأن يكونوا إخوة، ولا يمكن للمسلمين أن يكونوا إخوة إلا إذا كانوا متحدين، فإن الأخوة ضد الفرقة والاختلاف ، ومن أساليب القرآن والسنة في الدلالة على وجوب الوحدة بين المسلمين النهي الصريح عن الافتراق والاختلاف الذي هو ضد الوحدة والاجتماع ، قال الله تعالى : ﴿ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ الأنفال45.

 في التفسير : لا تختلفوا فتفرقوا وتختلف قلوبكم فتفشلوا، قال الشاعر:

وفي كثرة الأيدي عن الظلم زاجر  إذا حضرت أيدي الرجال بمشهد

وقد أمرَ الله المؤمنين بالجماعة ونهاهم عن الفرقة  والاختلاف قال تعالى : ﴿ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ آل عمران 105  وعن النعمان بن بشير عن رسول الله قال: (الجماعة رحمة، والفرقة عذاب ) .

 ومن أساليب الشريعة في الحث على الوحدة بين المسلمين التحذير من الشذوذ ومفارقة الجماعة، ففي سنن الترمذي عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: خَطَبَنَا عُمَرُ بِالْجَابِيَةِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي قُمْتُ فِيكُمْ كَمَقَامِ رَسُولِ اللَّهِ فِينَا، ثم ذكر خطبة جاء فيها "عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ، وَهُوَ مِنْ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ، مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمْ الْجَمَاعَةَ، مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ، فَذَلِكُمْ الْمُؤْمِنُ".

وعن أبي الدرداء وقال : ( ما من ثلاثة لا تقام فيهم الصلاة إلا وقد استحوذ عليهم الشيطان، فعليكم بالجماعة، فإنما يأكل الذئب القاصية ) . لا يختلف اثنان على أن الوحدة سبيل العزة والنصرة، فهذا معن بن زائدة  يوصي أبناءه عند وفاته بقوله:

كونوا جميعا يا بني إذا اعترى   خطب ولا تتفرقوا آحادا

تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسرا وإذا افترقن تكسرت آحادا

والتاريخ يشهد أن من أهم أسباب سقوط الدول هو التفرق والاختلاف، سقطت الخلافة العباسية بعد أن تفرقت الدول الإسلامية في ذلك الوقت، فنشأت الدولة البويهية، والمماليك، ودويلات الشام، ولم يبق للخلافة العباسية إلا مزع متفرقة متناثرة من العالم الإسلامي، فلما زحف المغول إلى بغداد لم يقف في وجه زحفهم غير أهل بغداد فقط، فأعملوا فيهم القتل حتى قتلوا أكثر من ثمانمائة ألف نسمة، كما قال غير واحد من المؤرخين. وسقطت الدولة الإسلامية في الأندلس بعد أن أصبحت دويلات متفرقة متناحرة، لا همّ لأحدهم سوى التلقب بألقاب الملك والسلطان فقال قائلهم :

مما يزهدني في أرض أندلس   أسماء معتضد فيها ومعتمد

ألقاب مملكة في غير موضعها  كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد

ولم تسقط الدولة العثمانية إلا بعد أن تمزق جسدها إلى أشلاءَ متناثرة، وبعد أن أغرى الصليبيون الجدد  المسلمين بالانفصال عنها، وأحسنوا اتقان العمل بقاعدة: فرِّق تسُد .

وهاهو العالم الإسلامي اليوم منقسم إلى دويلات متناحرة، تعيش على هامش التاريخ، وتتجرع ألوان الهوان ، وما ظفر به أعداء الأمة من سطو واستيلاء لا يرجع إلى خصائص القوة في أنفسهم بقدر ما يعود إلى آثار الوهن والضعف في صفوف المسلمين  فالفرقة تجعل هلاك الأمة بيد أبنائها ، في سلاسل من الحروب في غير معركة، وانتصارات بغير عدو.

إن العالم الإسلامي بتفرقه وتنازعه لا يشكل أي   خوف لأحد، ولكن الأعداء يخشى أن يستيقظ المسلمون من نومهم، فيسارعوا إلى الأخذ بأسباب القوة، والعودة إلى الوحدة ، وتجنباً لذلك فإنهم يحاولون بكل جهد الحيلولة دون عودتهم    إلى سابق عزهم وسالف مجدهم ، فتراهم يعملون جاهدين على تكريس أسباب الفرقة بين المسلمين   مما يوجب على المسلمين أن نكون يداً واحدة، وأن يكونوا إخوة متآلفين على كتاب الله وسنة رسوله  صلى الله عليه وسلم ، كما كان سلف الأمة في سيرهم ودعوتهم إلى الله عز وجل، ومخالفة هذا الأصل ربما تؤدي إلى انتكاسة عظيمة، والتفرق هو قرة عين شياطين الإنس والجن؛ لأن شياطين الإنس والجن لا يريدون لأهل الحق أن يجتمعوا على شيء، بل يريدون أن يتفرقوا لأنهم يعلمون أن التفرق تفتت للقوة التي تحصل بالالتزام بالوحدة والاتجاه إلى الله عز وجل، بدليل آيات الله التي نهت عن التفرق :﴿ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا ﴾ وقوله:﴿ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا ﴾ وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾ .   

 

 

 

بركة الإيمان والتقوى

 البركة: هي ثبوت الخير الإلهي في الشيء؛ فإذا حلت في قليل كثرته، وإن حلت في كثير نفعته ، والبركة مع التقوى مفتاح كل خير، قال تعالى:﴿ ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ﴾ الأعراف96 . وعرف العلماء التقوى: بأن تعمل بطاعة الله، على نور من الله ، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله، على نور من الله، وتخاف عقاب الله ، قيل لأحد الصالحين: إن الأسعار قد ارتفعت ، قال: أنزلوها بالتقوى ، وقد قيل: ما احتاج تقي قط ، وقيل لرجل من الفقهاء الله يقول : ﴿ ومن يتق الله يجعل له مخرجا ، ويرزقه من حيث لا يحتسب ﴾ الطلاق2 ، فقال الفقيه: والله إنه ليجعل لنا المخرج ، وما بلغنا من التقوى ما هو أهله، وإنه ليرزقنا وما اتقيناه، وإنا لنرجو الثالثة: ﴿ومن يتق الله يكفر عنه سيئاتِه وَيُعْظِم له أجرا﴾ الطلاق 5.

فالإيمان والتقوى بابا النعم ، ونقصهما مفتاح النقم  : ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ الأعراف96 وبالإيمان والتقوى تكون البركة ، التي هي خير ونماء واستقرار ورخاء ، تكون مع القليل فيكْثُر ، ومع اليسير فَيُنْتفَعُ به؛ يأتي الرزق ومعه الأمن والصلاح والرضا والقناعة والارتياح، قد نجد إنساناً أعطي من الأموال الكثير الكثير ، فتنزع منه البركة، فيكون المال سبباً لشقاء صاحبه في الدنيا قبل الآخرة ، قد يملك آلاف الملايين ولكنه لا ينتفع بها ، لأن البركة منزوعة منها ، ونجد إنساناً لا يملك إلا مرتبه ن الذي لا يوصله إلى آخر الشهر ، ولكن الله يبارك له في هذا القليل، فيعيش حياة طيبة سعيدة هو وأسرته.

هذا الباب لو أغلقه الله علينا ، وفتح لنا كل أبواب الدنيا، من المال والولد والجاه والسلطان والصحة  فما هو نافعنا بشيء، لأننا سنعاني من الضيق والكرب والشدة والقلق والعناء ، بخلاف ما إذا  فتح لنا أبواب رحمته وبركاته، فإننا سنكون بكل خير، على الرغم من قلة المرتب، وضيق المسكن، وانعدام الولد وضعف الجاه .

قد يسأل سائل ، كيف نحصل على البركة وما الطريق إليها ؟ طريقها واحد لا يتعدد ، والحصول عليه لا يتعثر، إنه طريق الإيمان والتقوى ، أما الإيمان بالله فتصديق ويقين واستسلام ،  وقول وعمل   وعبودية لله رب العالمين، وأما التقوى فهي يقظة واعية ، ومراقبة دائمة ، وحين يجتمع الإيمان والتقوى   وحين تتحقق العبودية لله ، وتسير النفس بما يرضي الله ؛ حينئذ تستحق رضا الله ومحبته؛ وعندها تحفُّها البركة، ويعمُّها الخير ويظلُّها الفلاح. ذكر الشيخ على الطنطاوي : أن شاباً فيه تقى وفيه غفلة ، طلب العلم عند أحد الشيوخ ، حتى إذا أصاب منه حظاً ، قال الشيخ له ولرفقائه: لا تكونوا عالة على الناس ، فإن العالم الذي يمد يده إلى أبناء الدنيا ، لا يكون فيه خير، فليذهب كل واحد منكم وليشتغل بالصنعة التي كان أبوه يشتغل بها، وليتق الله فيها ، وذهب الشاب إلى أمه فقال لها: ما هي الصنعة التي كان أبي يشتغل بها ؟ فاضطربت المرأة وقالت: أبوك قد ذهب إلى رحمة الله ، فما بالك وللصنعة التي كان يشتغل بها ؟ فألحّ عليها، وهي تتملص منه، حتى إذا اضطرها إلى الكلام، أخبرته وهي كارهة ، أنه كان لصاً! فقال لها: إن الشيخ أمرنا أن يشتغل كل منا بصنعة أبيه ، ويتقي الله فيها  فقالت الأم: ويحك أفي السرقة تقوى ؟ وكان في الولد غفلة وحمق ، فقال لها: هكذا قال الشيخ   وذهب يسأل، ويتسقط الأخبار ، حتى عرف كيف يسرق اللصوص ، فأعدّ عدة السرقة ، وصلى العشاء   وانتظر حتى نام الناس، وخرج ليشتغل بصنعة أبيه كما قال الشيخ، فبدأ بدار جاره ، وهمّ أن يدخلها ثم ذكر أن الشيخ قد أوصاه بالتقوى، وليس من التقوى ، إيذاء الجار، فتخطى هذه الدار، ومرّ بأخرى، فقال لنفسه : هذه دار أيتام ، والله حذر من أكل مال اليتيم ، وما زال يمشي حتى وصل إلى دار تاجر غني ، ليس فيه حرس، ويعلم الناس أن عنده الأموال التي تزيد عن حاجته ، فقال: هاهنا، وعالج الباب بالمفاتيح التي أعدها، ففتح ودخل ، فوجد داراً واسعة وغرفاً كثيرة، فجال فيها حتى اهتدى إلى مكان المال، وفتح الصندوق ، فوجد من الذهب والفضة والنقد شيئاً كثيراً، فهمّ بأخذه ثم قال: لا  لقد أمرنا الشيخ بالتقوى، ولعل هذا التاجر لم يؤد زكاة أمواله، لنخرج الزكاة أولاً ، وأخذ الدفاتر وأشعل فانوساً صغيراً جاء به معه، وراح يراجع الدفاتر ويحسب، وكان ماهراً في الحساب، خبيراً بإمساك الدفاتر، فأحصى الأموال، وحسب زكاتها فنحىّ مقدار الزكاة جانباً، واستغرق في الحساب حتى مضت ساعات، وحان وقت الفجر فقال: تقوى الله، تقضي بالصلاة أولاً وخرج إلى صحن الدار ، فتوضأ من بركة ماء فيه ، وأقام الصلاة فسمع ربّ البيت ، فنظر فرأى عجباً: فانوساً مضيئاً! ورأى صندوق أمواله مفتوحاً، ورجلاً يقيم الصلاة فقالت له امرأته: ما هذا ؟ قال: والله لا أدري، ونزل إليه فقال: ويلك من أنت وما هذا؟ قال اللص: الصلاة أولاً ثم الكلام، فتوضأ وتقدم وصلِّ بنا  فإن الإمامة لصاحب الدار ، فخاف صاحب الدار أن يكون معه سلاح، ففعل ما أمره ، والله أعلم كيف صلى، فلما قضيت الصلاة قال له: خبّرني من أنت وما شأنك؟ قال: لص: وماذا تصنع بدفاتري؟ قال: أحسب الزكاة التي لم تخرجها من ست سنين، وقد حسبتها ، وفرزتها لتضعها في مصارفها ، فكاد الرجل يجن من العجب وقال: ويلك ما خبرك ، هل أنت مجنون؟ فخبره خبره كله، فلما سمعه التاجر ، ورأى ضبط حسابه، وصدق كلامه، وفائدة زكاة أمواله ذهب إلى زوجته فكلمها، وكان له بنت، ثم رجع إليه فقال له: ما رأيك لو زوجتك بنتي ، وجعلتك كاتباً وحاسباً عندي، وأسكنتك أنت وأمك في داري ، ثم جعلتك شريكي؟ قال: أقبل ، وأصبح الصباح ، فدعا المأذون والشهود ، وعقد العقد.

هذه قصة يفهم منها المعنى الشرعي للتقوى ، أن تجعل بينك و بين ما حرّم الله حاجز ، بامتثال الأوامر واجتناب النواهي ، والخوف من الجليل والعمل بالتنزيل والقناعة بالقليل ، والاستعداد ليوم الرحيل . ورأينا كيف تخلق بخلق التقوى ، فالتزم بأوامر الله واجتنب نواهيه ، فكان له وقاية من سخطه وعقابه  وفاتحة خير في الدنيا بتسهيل في الأمور ، وتيسير الأسباب قال تعالى : ﴿ ومَن يتق الله يجعل له مخرجًا ويرزقه مِن حيث لا يحتسب ومَن يتوكل على الله فهو حسبه ﴾ الطلاق   

 

 

 

 

لمن بكون النصر

إن الأمة الإسلاميَّة عامة، وبعض الدول التي نالتْها الثورات والمظاهرات خاصة، يبذل فيها حملة الدعوة الإسلامية ، جهوداً مضنية مع التيارات والاتجاهات العَلْمانية والليبرالية، في معركةٍ عَقديَّة وأخلاقية كبيرة، لا انتهاء لها إلا أن يشاء الله بانتصار الحق والعدل ، وقد جعل الله للنصر سُننًا كونية وشرعية تقع بأمره، مع اتِّخاذ الوسيلة المشروعة إليها؛ كما قال تعالى : ﴿ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ الحج 40، فنصْرُ الله لنا متعلِّق بنصر دينه وشريعته، وبذْل الأسباب الموصِّلة، وإعداد العُدة، كما قال تعالى : ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ﴾ الأنفال 60 .

وحتى تستحق الأمة النصر لا بد من تأهيلها لمرحلة القيادة ، وهذا أمرٌ واجب على الأمة ودُعاتها وحَمَلة العلم فيها؛ لأن القيادة والخلافة أمر واقع لا محالة بموعود الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، في الوقت الذي يشاؤه الله تعالى، والذي يعلم فيه بعلمه أن الأمة تستحِقُّ أن تَسود العالم من جديد بمنهج الله وشريعته.

 كما روى الإمام أحمد عن النعمان بن بشير قال : كنا جلوسًا في المسجد، فجاء أبو ثعلبة الخشني فقال: يا بشير بن سعد، أتحفَظُ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمراء، فقال حذيفة: أنا أحفَظ خُطبته فجلس أبو ثعلبة، فقال حذيفة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (تكون النُّبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوَّة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون مُلْكًا عاضًّا، فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون مُلْكًا جَبرية فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكَت) وروى الإمام أحمد عن حذيفة صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ذهبتِ النُّبوة فكانت الخلافة على منهاج النبوة ) وصحَّحه الأرناؤوط، والذي عليه بعض من أهل العلم أن المُلْك الجبريَّ هو هذه الحِقبة الزمنية التي تمرُّ بها الأمة الإسلامية الآن ، وإن الله تعالى سيهيِّئ للأمة الإسلامية طريقًا للعودة لهذه الخلافة الراشدة على مِنهاج النبوة الأولى.

إن التمكين للأمة يكون بإقامة العقائد والشعائر والشرائع التي أمر الله ورسوله بها في جميع مجالات الحياة البشرية، والتمكين لهم بالإعلان عن عبوديَّتهم لله وحده لا شريك له في حُكمه ، في حرية كاملة دون خوف من الطُّغاة أو الظالمين، أو وجَلٍ من أعداء الله المتربِّصين والمنافقين ، وأن يَحكموا الناس بشريعة الله، وأن يرفعوا ظُلْم الظالمين، وفساد المفسدين، وأن يُقيموا ميزان الحق والعدل بين الناس بما أنزل الله تعالى، وأن يَرفعوا عنهم الذُّل والمهانة التي طالما عاشوا فيها سنينَ طويلة، يَذِلون فيها لأعداء الله    ويحكُمون بقوانينِ الظُّلم والجَور بين العالمين.

إن الذين يُحارِبون شريعة الله ومنهجه، وتحريرها من أن تَذِل لغير خالقها وموجِدها، ويتخاذلون عن نصرة الإسلام والمستضعفين في الأرض،  ومجاهدة الباطل وأهله، لا يمكن أن يكونوا من أهل النصر والتمكين ، لأن للنصر والتمكين سُننًا شرعية ، لا يتوصَّل إليها إلا بها، أخرَج أبو داود عن ابن عمر قال: سمِعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا تَبايعتم بالعِينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزَّرع  وتركتم الجهاد، سلَّط الله عليكم ذُلاًّ، لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم). وصدق القائل:

وكان البِرُّ فعلاً دون قولٍ   فصار البِرُّ نُطقًا بالكلامِ

 وقال الرصافي في ديوانه:

مَلأنا الجوَّ بالجَدلِ اصطِخابًا   وكنا قبْلُ نَملؤه هُتافَا

وما زِلنا نَهيم بكلِّ وادٍ      مِن الأقوال نُرسِلها جُزافَا

وإن استعجال بوارق النصر بطريق متلوِّن مع كل موقف، أو بخفض الجناح للمنافقين وأذنابهم ، فيه مخالفة لسنن النصر والتمكين قال تعالى : ﴿ يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ﴾ ص 26 . ما يدل على أن معالم الاستخلاف والنصر والتمكين،لم يتركها الله لأهواء الناس وأذواقهم ، لأن مصلحة الأمة تتمثَّل في تحقيق مناط العبودية لله ، والطاعة لرسوله صلى الله عليه وسلم بالسمع والطاعة  والاعتصام بمنهج إقامة التمكين للطائفة المؤمنة المنصورة في الأرض، وذلك بتحقيق مَناط التمكين الحق، المذكور في كتاب الله تعالى في قوله: ﴿ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ * وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾النور 54 . " وعدهم اللهُ بذلك وقت نزول الآية ، ولم يكن وقتها الاستخلافَ في الأرض والتمكين فيها ، فقام صدْرُ هذه الأمَّة، من الإيمان والعمل الصالح بما يَفوقون على غيرهم، فمكَّنهم من البلاد والعباد  وفتحت مشارق الأرض ومغاربها، وحصَل الأمن والتمكين التام، وهذا من آيات الله العجيبة، ولا يزال الأمر إلى قيام الساعة، ما قاموا بالإيمان والعمل الصالح، فلا بد أن يوجَد ما وعدهم الله، وإنما يسلِّط عليهم الكفار والمنافقين، بسبب إخلال المسلمين بالإيمان والعمل الصالح. ﴿ وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ   فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ الذين خرجوا عن طاعة الله، وفسَدوا، فلم يَصلُحوا لصالح، ولم يكن فيهم أهلية للخير؛ لأن الذي يترك الإيمان في حال عِزِّه وقهْره، وعدم وجود الأسباب المانِعة منه، يدل على فساد نيَّته، وخُبْث طويَّته؛ لأنه لا داعي له لترك الدين إلا ذلك، وقد جاءت النصوص من الله ورسوله تدل على أنه سيجعل أمته خلفاء الأرض، أي: أئمةَ الناس والولاةَ عليهم، وبهم تَصلُح البلاد، وتَخضع لهم العباد، ولَيُبدلَنَّهم من بعد خوفهم   أمنًا وحُكْمًا فيهم ، كما دلت النصوص على أنه لا وعْد من الله بالنصر، إلا مع إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؛ فالذين يمكِّن الله لهم في الأرض ويجعل الكلمة فيها والسلطان لهم، ومع ذلك لا يُقيمون الصلاة ولا يؤتون الزكاة ولا يأمرون بالمعروف، ولا ينهَون عن المنكر - فليس لهم وعْد من الله بالنصر؛ لأنهم ليسوا من حزبه، ولا من أوليائه الذين وعَدهم بالنصر، بل هم حزب الشيطان وأولياؤه،وأن العاقبة لله ﴿ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ ﴾ فمَن سلَّطه الله على العباد من الملوك والحكام والأمراء ، وقام بأمر الله، كانت له العاقبة الحميدة، والحالة الرشيدة، ومَن تسلَّط عليهم بالجبروت، وأقام فيهم هوى نفسه، فإنه وإن حصَل له مُلْك موقَّت، فإن عاقِبتَه غير حميدة، وولايته مشؤومة، وعاقبته مذمومة .

 

 

واقع المسلمين وما كانوا عليه

لقد أكرم الله المسلمين وانعم عليهم بنعمة الإسلام   الذي أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور نصروا كتاب الله فنصرهم ، وصدقوا مع الله فصدقهم وعده، ففتحوا البلاد وأصلحوا العباد وأرهبوا الأعداء، ودانت لها الأمم والشعوب  ودكوا عروش الباطل وصروح الكفر، فدخل الناس في دين الله أفواجاً، والتاريخ خير شاهد على ما قدمه المسلمون في بدر والأحزاب وفتح مكة ؟! وفي اليرموك و القادسية ، وفي حطين و عين جالوت وغيرها من معارك المسلمين؟! يشهد بأي سلاح انتصروا! وبأي قلوبٍ خاضوا المعارك! وهل آن الأوان أن نقارن بين ماضينا العريق وواقعكم الغريق ، لنتأسى بماضينا وننقذ واقعنا ، الذي يتأرجح بين مدٍ وجزر، وبين صحوة وكبوة، وبين يقظة وغفلة، فيوم تتمسك بدينها وتعلي كتاب ربها وسنة نبيها  صلى الله عليه وسلم ينصرها ربها، ويعزها ويذل أعداءها ، ويوم وتغرق في الشهوات ، وتنغمس في الضلالات وتنسى شرع ربها ، ينساها ويتخلى عنها الله ، ويكلها إلى نفسها، ويسلط عليها أعداءها .

ها نحن نعيش الواقع الحاضر ، بأحداثه وآلامه محنٌ متتابعة، وعقائد خاطئة، وأفكارٌ زائفة، وحروبٌ طاحنة، وأحزابٌ متناحرة، وبلادٌ مغصوبة، وحقوقٌ مسلوبة، ودماء مسفوكة، حتى أصبح العالم الإسلامي مسرحاً لكل فتنة ، ومأوى لكل معضلة فكل يومٍ نسمع أحداثاً ضد المسلمين وبلادهم، ضد مبادئهم وقيمهم ومقدساتهم ، حتى أصبح ذلك أمراً مألوفاً عند كثيرٍ من الناس، ومن بتأمل حاضر العالم الإسلامي وواقعه المؤلم ويتابع أخباره ، يجد جوانب متعددة، تحتاج لعلاج جذري ، سواء ما يتعلق بأصول الدين الإسلامي وأسسه ، أو ما يتعلق بنواحي الحياة الأخرى، خاصة   الجوانب التربوية والأخلاقية والتعليمية والإعلامية ، وما يتعلق بأوضاع المسلمين ، ومواجهة الأفكار الهدامة والمبادئ المنحرفة، والقوى المتآمرة ، وبعض الشباب   مأساة الأمة الكبرى ، لتقصيرهم البالغ في خدمة دينهم ، فلا هم أحسنوا تطبيقه ، ولا أحسنوا عرضه     ولولا سهولة تعاليمه ، ورعاية الله التي تحوطه وترعاه لما انتصر كدين ، لكنه هزم كدولة لتقصيرهم ، ويوم كانت للمسلمين دولة ذات خلافة وحضارة ، فقد ملكوا الدنيا قرونا ، حين أخضعها رجال خالدون كأمثال عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وابن عوف وخالد وغيرهم ، وحين أفادوا الدنيا بجهود علمائهم ،كالخوارزمي وابن الهيثم ، وحين انساح  شبابهم في الأرض فاتحين ،  رهبانا بالليل فرسانا بالنهار ، فقال القائل :

مَلكنـا هـذهِ الدنيا قُرونـاً   وأخضَعَها جدودٌ خالـدونـا

وسطَّرنا صحائفَ من ضياءٍ     فما نسيَ الزمانُ ولا نسينـا

وكنُّـا حيـنَ يرمينـا أناسٌ  نُـؤدِّبهمْ أبـاةً قـادريـنـا

وكنَّـا حيـنَ يأخُذنـا ولي   بطغيانٍ ندوسُ لـهُ الجبينـا

تفيضُ قُلوبُنا بالهديِ بأسـاً      فما نُغضي عن الظلمِ الجُفونا

وآلمنـي وآلـمَ كـلّ حـرٍ   سؤالُ الدهرِ: أين المسلمونا ؟

لذا عملوا جاهدين على إنهاء هذه الخلافة  ، وقد روي عن أمير عسير الأمير الحسن بن علي آل عائض  أنه قال لأحد عملاء بريطانيا وقتها " واستطاعت بعبوديتكم لها أن تمزق شمل الأمة  وجعلت كل عبد لها على رقعة من الأرض ، أسمتها وطنا ، وأحاطتها بسور، أطلقت عليه حدودا رسمتها هي ، وألزمت كل صنيعة لها   أن يحمي سوره من جواره، وهي المهيمنة على الجميع، وما من رقعة إلا وهي سجن لأهلها، فلا يخرج منها ولا يدخلها أحد إلا بعلمها ، حتى تضع أنوف أهلها في التراب".

وهاهي الأمة اليوم تدفع ثمن ما ضاع منها من أوطان، وما سكتت عليه من أوضاع ، أوجدها الغرب الكافر في بلادها، وهي لا تدفع ثمنا لذلك مالا ، كما هو الحال مع كل من ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية ، وانتصار الحلفاء، وإنما تدفع أنفسا تزهق ، ودماء تراق، وثروات تستنزف  وكرامة تهدر، وذلا ما بعده ذل ، إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا ، حتى تستيقظ هذه الأمة من سباتها ، وتستفيق من نومها، وتتحرك ثم تندفع فتكون النهضة، وتكون العزة وتكون الكرامة.

وهنا سؤال : من المسئول عما حدث للمسلمين؟ وعلى من تقع مسئولية النهوض بالأمة من كبوتها ؟ إنها مسئولية تقع على عاتق كل منتسبٍ لهذا الدين ليتحركوا في سبيل النهوض بالأمة ، كلٌ في مجال اختصاصه، وحسب قدرته واستطاعته ، وما أتيح له من إمكانات ، ليعيدوا لهذه الأمة مجدها وعزها وكرامتها المفقودة، وأن يعملوا لنصرة دين الله وتحكيم شريعته، وتأييد جنده وحزبه، والمجاهدين في سبيله، وجمع الكلمة وتوحيد الصفوف، ﴿ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ الحج40 .

فيوم نصرنا الإسلام كنَّا سادةَ العالمِ وروَّادَ نهضتةِ  ا فسرت فينا عزةُ الإسلامِ ، وحكمنَا عدولٌ أبرار عادلون أطهار ، فلمَّا أن فقدنا العزَّةَ ، وفقدنا الحكم بما أنزل الله ، ابتلينا بأعدائنا الذين نالوا من عزمنا  وصدونا عن دعوتنا ، وزرعوا العداء بيننا ، مما يدعو للتساؤل : هل الواقع الذي تعيشه الأمة اليوم قدر لا يرد؟ وهل أوضاعها هذه تستعصي على العلاج؟ وهل ما تعانيه  من ذل سيبقى ملازما لها ؟ وهل ستبقى هذه الأوضاع التي أوجدها الغرب الكافر في بلادنا قائمة إلى مالا نهاية ؟ فإذا كان جواب ذلك بالنفي فما هو السبيل إلى تغيير هذه الأوضاع؟ وما السبيل إلى نهضة هذه الأمة لتعود إلى العالم من جديد وتزيل هذه الأوضاع الداخلية والدولية التي وجدت بعد أن غابت عن العالم مدة تزيد عن القرن؟  وإننا إذ نسلط الضوء على الكيفية التي تنهض فيها الأمة، إنما نطرح المبدأ الصحيح الذي لا ينقذ الأمة مما وصلت إليه ومما تعانيه فحسب ، وإنما لننقذ البشرية جمعاء من التعاسة والشقاء اللذيْن آلت إليهما وذلك بالرجوع إلى كتاب الله وسنة نبيه  صلى الله عليه وسلم عندها يكون التغيير ، ويرتفع الظلم الدي تعاني منه الأمة  لأن الظَّالمُ لا يصيرُ ظالمًا إلَّا إن سكتَ النَّاسُ عن ظلمِه ، وإن عصى الناس حكمهم العصاة وإن تابوا حكمهم الأخيار ، والنهضة لن يصنَعها شخصٌ بمفرده ، إنما تصنعها الأمة حين تتجه بحياتها على العقيدة ، وهذا ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه الله تعالى برسالة الإسلام ، فإنه دعا الناس إلى العقيدة الإسلامية ، ولما جمعهم على العقيدة الإسلامية، وجعلهم يتجهون في حياتهم عليها، أخذ الحكم في المدينة، وأقامه على العقيدة الإسلامية، ثم صار يقول: (أُمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاّ الله محمد رسول الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلاّ بحقها) .

 

 

أرباب القول المؤثر والفعل المخرّب

 قال تعالى : ﴿ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ﴾ من حسن منطقهم تطرب لاستماعه، فأجسامهم وأقوالهم معجبة، وليس وراء ذلك من الأخلاق الفاضلة والهدى الصالح شيء  ولهذا قال تعالى: ﴿كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ ﴾ لا منفعة فيها ولا ينال منها إلا الضرر المحض ﴿ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ﴾  وذلك لجبنهم وفزعهم وضعف قلوبهم ، فهؤلاء ﴿ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ حذّر منهم لأن العدو البارز المتميز أهون من العدو  الخفي وهو مخادع ماكر ويزعم أنه ولي ، وخطورة هذا الصنف من الناس ، ترجع إلى دورهم الفعّال في إحداث الفتنة ، وتمزيق الكلمة وبث الكراهية ، فئةٌ تظهر الإيمان ، وتكن العداوة والبغضاء ، كما تكمن خطورتهم في قدرتهم على التلون ، فهم مؤمنون صالحون إذا كان ذلك يحقق لهم مطالبهم ومصالحهم ، وهم علمانيون إذا كان ذلك يحقق لهم بغيتهم وما يريدون ، وهم علماء ومفكرون إذا لزم الأمر ، يكتمون العلم ويخفونه وقت الحاجة ، وهم جهلاء بسطاء أبرياء ، إذا اقترفوا الذنب وارتكبوا المعصية ، وهذا يؤكد لنا أن هذا الصنف من الناس أسوأ من المشركين والكفار ، لقدرتهم على الخداع والتضليل ، فيكون إيذائهم شديدا ، فكم من أنفسٍ مسلمة بريئة أُزهقت بأيديهم ، وكم مِن نفوس مؤمنة رُوّعت وخوفت  وكم من أموال وممتلكاتٍ أُتلِفت، لم يرحَموا طفلاً ولا شيخًا ولا امرأة ، ولم يراعوا أيَّ قِيَم دينيّة وأخلاقية، ولم يبالوا بشرعٍ ولا عقلٍ ولا إنسانية  لسيطرت المصالح المادية والأهواء الشخصية على أغلب مجالات الحياة عندهم ، فانفصل القول عن العمل عندهم ، وتدهورت القيم والأخلاق   وظهرت بطانات النفاق التي استطاعت أن تتبوأ المراكز الحساسة التي تمس حاضر الأمة وتؤثر على مستقبلها ، ومن أهمها وسائل الإعلام ، ومراكز صنع القرار ، ورغم أنه من المعلوم ديناً ، أن المنافق في الدرك الأسفل من النار ، وأن الكذب أصل النفاق   فإنه يوجد بيننا من يكذب وينافق ، ويخون العهد ويضلل الناس ، ورغم إيماننا بأن الله تكفل بالأرزاق وأنها مقدّرةٌ ومكتوبة ، تجد الصراع على الكسب غير المشروع على أشده ، ومع العلم بأن الظلم ظلمات يوم القيامة ، تجد المظالم تمارس ، وإذا كان من المسلم به أن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن ، فإن مهمة تغيير المنكر باليد مطلوبة في المقام الأول من الأمراء ، وإذا كان الجهر بكلمة الحق جهادا ، فإن مهمة التغيير باللسان هي مهمة العلماء ، لكننا في زمن انقلاب الموازين    واضطراب الأمور، لعدم توافق الأقوال مع الأفعال   ورحم الله ابن مسعود فقد قال : «مَن كان كلامه لا يوافق فعله، فإنما يوبّخ نفسه» ، فلا خير في كلام لا تعززه الأفعال ، وقد بين ذلك بأفصح لسان، عثمان بن عفان فقد قال للناس عشية استخلافه: "إنكم إلى أمير فعّال أحوج منكم إلى أمير قوّال"، ولقد صدق القائل   

وإلا أكن فِيكُم خَطِيبًا فإنني   بسيفي إِذا جد الوغى لخطيب

فالإقلال من الكلام  والإكثار من الفعل هو ديدن القادة الحقيقيين ودأبهم؛ ولهذا قالوا: دع أعمالك هي التي تتكلم. ولقد نعى القرآن على اليهود مخالفة أعمالهم منطقهم، فهم يرفعون شعارات البر، وواقعهم الفجور قال تعالى : ﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ البقرة 44 ومثل الصورة التي رسمها المتنبي لمن هجاهم بقوله:

إنّي نَزَلْتُ بكَـذّابِينَ  ضَيْفُهُمُ       عَنِ القِرَى وَعَنِ الترْحالِ محْدُودُ

جودُ الرّجالِ من الأيدي وَجُودُهُمُ  منَ اللّسانِ، فَلا كانوا وَلا الجُودُ

وهذا حال عبيد الأجانب في بلادنا ، فعالهم أعجمية، وأقوالهم عربية  ويتمسحون بالوطنية .

وهنا سؤال : ما هو المطلوب ؟

لقد كرمّ الخالق عز وجل، الإنسان وأمره بالصدق والأمانة والعدل، والوفاء، والبيان والتبيان، وعدم الكتمان، ونهاه عن الكذب والغش والغدر والخيانة والنفاق. يقول تعالي: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ *كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُون ﴾ الصف2. إن الأقوال لن تبلغ أثرها المنشود دون اقترانها بالعمل ، وقد توعد الله من  يأمر بمعروف، ولا يأتيه، وينه عن منكر ويأتيه فقال تعالى‏: ﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ ‏ فقد كبر مقتاً عند الله أن يقول العبد ما لا يفعل‏ ،‏ قال احد الحكماء :أفسد الناس جاهل ناسك، وعالم فاجر  هذا يدعو الناس إلى جهله بنسكه ، وهذا ينفر الناس عن علمه بفسقه ، فقد كان المتقون السابقون يحاسبون أنفسهم، ويخافون من مخالفة عملهم لأقوالهم، قال رجل لابن عباس: "أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر؟" فقال له ابن عباس: "إن لم تخش أن تفضحك هذه الآيات الثلاث فافعل وإلا فابدأ بنفسك"، ثم تلا: ﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ ﴾ البقرة44، وقوله تعالى: ﴿ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾ الصف2 وقوله تعالى حكاية عن شعيب -عليه السلام-: ﴿ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ﴾ هود88 .  

لما دخل الحجاج بن يوسف الثقفي البصرة قال: من سيد البصرة ؟ فقيل له: الحسن البصري، قال: كيف وهو من الموالي ؟! فقيل له: لأن الناس احتاجوا إلى علمه ، وزهد هو عما في أيدي الناس.

نعم، إنه العلم الذي يرفع الله به صاحبه مهما كان شكله أو لونه أو صنعته أو حالته ، إنه سيد التأثير  تأثير موصول بالسماء  تأثير عابر للقرون والأحقاب، إذ لازال الناس يتأثرون بأقوال العلماء الأفذاذ الذين بليت أجسادهم منذ أمد بعيد وما بليت أقوالهم وأعمالهم ، ولا تبدد تأثيرهم ونفعهم.

ويقول الحسن البصري: " يوزن مداد العلماء بدماء الشهداء فيرجح مداد العلماء " ويقول الشاعر:

رضينا قسمة الجبـار فينا  لنا علم وللجهال مال

فعز المال يفنى عن قريب  وعز العلم باق لا يزال

إن أزمة الأمة في هذه الأيام هي أزمة قدوات.. لقد ابتليت أمة الإسلام بأسماء لا مسميات لها، وبألقاب تفتقر إلى مضمون. لذا كثر المتكلمون وقل المؤثرون، ونُمقت العبارات وشُوهت الحقائق.

فنرى من  يحث على التحلي بفضيلة وهو لا يتحلى بها، أو أمر بالتخلي عن نقيصة وهو ملوث بها لا يقابل قوله إلا بالرد، و لا يعامل إلا بالإعراض و الإهمال ، فقوله موضع حيره للبسطاء، ومحل سخرية للعقلاء، يروى عن أسامة بن زيد قال: سمعت رسول الله  صلى الله عليه وسلم يقول: ( يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقتاب بطنه، فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون: يا فلان مالك، ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى، قد كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه ) رواه مسلم

فالحذر الحذر..من مخالفة الأقوال الأعمال. وحذار أن يكون النصح باللسان والقول دون الجنان والعمل

عن عمران بن حصين قال : قال  صلى الله عليه وسلم : ( أخوف ما أخاف عليكم بعدي كل منافق عليم اللسان ) رواه الطبراني في الكبير والبزار . فيجب على كل من يعظ الغير أن يتعظ هو أولاً ثم يعظ ، ويُبصر ثم يُبصّر، ويهتدى ثم يهدى غيره ، ولا يكون دفتراً يفيد ولا يستفيد ، وأن يكون كالمسك يطيب غيره وهو طيب في نفسه، وأن لا يناقض مقاله بفعله، ولا يكذّب لسانه بحاله.

 

 

 

 

الابتلاء نعمة والجهاد عبادة

الابتلاء سنة ربانية وحقيقة شرعية وضريبة دينية يدفعها المؤمن مقابل الأيمان بهذا الدين ،  فليس الإيمان دعوى تُدَّعى أو شعار يرفع ، أو هتافات ينادى بها في الشوارع والميادين .. وليس بطقوس تقام ولا شعائر يؤديها العبد في محرابه فيما بينه وبين ربه فحسب ،   إنه  أمانة الله لبني الإنسان ، وعهد الله إليهم أن يلتزموا به ، وميثاق الله الذي واثقهم به   إنه باهظ التكاليف ، عظيم التبعات ، شديد المسئوليات قال تعالى : ﴿ أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ﴾ .

فالابتلاء اختبار من الله عز وجل ، ليعرف من هو المؤمن المجاهد فى سبيل الله ، قال تعالى : ﴿ (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو اخبارهم ﴾ والمجاهدون من المؤمنين وعباد الله الصالحين ، هم من خيرة عباده وأفضل جنده ، إذا ما اتقوا واخلصوا لله وحده لا شريك له، وما يصيبهم إنما هو من الابتلاء الذي يرفع الله به درجتهم ، ويعلي به ذكرهم ، ولما سئل الإمام الشافعي : "أيها أفضل للرجل أن يُمَكَّن أو يبتلى؟ قال: "لا يمكن حتى يبتلى"، ولعله فهم ذلك من قوله تعالى: ﴿ وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ﴾ آل عمران: 141. فالله يمكن عباده بعد أن يبتليهم ، وتلك حقيقة ينبغي أن يفهمها كل ثائر ضد الظلم والطغيان ، وليكن رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة لثوار سوريا الذين  يُهدَّدون ويُعذَّبون ويقصفُون قال تعالى: ﴿ وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ﴾ وما ينتظرهم يحتاج إلى الصبر والرضى، إذ ليس في التكليف أصعب من الصبر على القضاء ، ولا فيه أفضل من الرضى به  وليعلموا أنه لا بد من  القتل أو الأسر أو الجراح والتعذيب ، عن ابن عمر قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم : (ما من غازية أو سرية تغزو فتغْنم وتسلم إلا كانوا قد تعجلوا ثلثي أجورهم، وما من غازية أو سرية تُخفق وتصاب إلا تم أجورهم) مسلم . قد ينجح الظلمة في الإيذاء والقتل ، فلا خسارة لأنكم بذلك تنالوا إحدى الحسبيين ، وهي إما الشهادة في سبيل الله ، ومن نال الشهادة ، نال الخير كله، ولم يخسر شيئاً، حتى لو فاتته الدنيا كلها ، أو النصر والظفر والتمكين في الأرض.

وأما الأسر فهو من لوازم الجهاد ، فلا بد للمجاهد أن يصبر على شدائد المواجهة ، ويتحمل تكاليفها لأنها ضريبة العز والنصر والتمكين، والأمة التي تريد الرفعة والمنعة والظهور ، فلا بد من تقديم التضحيات الجسام والبطولات العظام ولقد أحسن القائل :   

ومـا نيل المطـالب بالتمني    ولكن تؤخذ الدنيا غلابا

وما استعصى على قومٍ منالٌ    إذا الإقدام كان لهم ركابا

  والتاريخ الإسلامي مليئٌ بالشواهد والأحداث التي تثبت لنا أن الأمة ما نالت مكانتها ، وتربعت على كرسي الإمامة والسبق قروناً طويلة ، إلا بما قدّمه أبناؤها من تضحيات في سبيل الله عزوجل، كما أن التاريخ وشواهده تثبت أيضاً ، أن الأمة ما وصلت إلى هذا الدرْكِ من الضعف والهزيمة ، إلا عندما ضن أبناؤها بأنفسهم وأموالهم وأوقاتهم ، عن نصرة دينهم وعقيدتهم وإخوانهم.

إن الموقف الصحيح الذي يجب أن يقفه كل مسلم  ليس البكاء والنواح والندب ، فهذه أمور اختصت بها النساء دون الرجال وكم أنشدوا :

كُتبَ القتلُ والقتالُ علينا   وعلى المحصناتِ جَرُّ الذيولِ

وإنما الموقف الصحيح الذي يجب أن يقفه "كل من كان في قلبه مثقال حبةٍ من خردل من إيمان"؛ هو العمل على مساعدتهم ، للتخلص من واقعهم الأليم قال صلى الله عليه وسلم : ( ما من امرئ ينصر مسلماً في موضع ينتقص فيه من عرضه وتنتهك فيه حرمته إلا نصره الله في موضع يحب فيه نصرته) أبو داود . كيف لا نعمل على استنقاذ هؤلاء الذين تُرسم صُورهم في مشهد مثير لحمية المسلم، وكرامة المؤمن، ولعاطفة الرحمة الإنسانية ، هؤلاء الذين يعانون المحنة في عقيدتهم والفتنة في دينهم، والمحنة في العقيدة ، أشد من المحنة في المال والأرض والعرض ، لأنها محنة في أخص خصائص الوجود الإنساني ،الذي تتبعه كرامة النفس والعرض ، وحق المال والأرض .

 إن طريق الجهاد محفوف بالمخاطر والابتلاءات، وقد جرى ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، كما جرى على التابعين من بعدهم ، وجرى على جيوش المسلمين الفاتحين وقادتهم ، فما فتّ ذلك من عضدهم، وما برر لهم القعود والخنوع والانكسار، بل دفعهم وقوى عزيمتهم ، وشد من أزرهم، فهزموا بإذن الله عدوهم ونصروا دينهم .

إنهم يفتحون صفحة الجهاد التي طويت في كتاب زماننا هذا، زمان الذل والهوان والخنوع، فجاءت ثورتهم لنفض غبار الذل والصغار ، ويكتبون من جديد على صفحات غدنا المشرق وأسطر عزنا المنشود؛  (اللهم خذ من دمائنا حتى ترضى )

إن الله الذي سن الابتلاء على عباده الصالحين   لقادر على أن يأخذ المسيئين ، الذين يفتنون الناس عن دينهم، وان أبطأ سبحانه في ذلك ، فالخير كل الخير فيما قدّره ﴿ فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيرا ﴾. فأمر هذا الدين بيد الله سبحانه وتعالى ، إن شاء أظهره وقت ما شاء ، وكيف من شاء، فالذي يظن أن بإمكانه الدخول في المعركة والخروج منها منتصراً ، دون أن يدفع ثمن تمسكه بالحق ، والدعوة إليه قد ضل الطريق ، لأن من يسلك هذا الطريق ، عليه أن يعلم أنه قاب قوسين أو أدنى من الابتلاء، ولاشك انه ليس الأول ولا الأخير  فقد أُبتلي الأنبياء والصالحون ، وفي الحديث الصحيح ( أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد له في البلاء ) فهي إذن سنة من سنن الله التي لا تتبدل ، أنه أن لا بد من الابتلاء والتمحيص ، قبل أن يحقق الله النصر والتمكين، كما قال تعالى : ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ﴾ . وليعلم أخوتنا في سوريا ، أنهم إن قتلوا فقتلهم شهادة في سبيل الله، وإن اعتقلوا فاعتقالهم خلوة وعبادة وتفكر، وإن عذبوا فعذابهم تمحيص لهم ورفعة في الدرجات ومحو للسيئات، وإن أخرجوا وهجروا فهي هجرة لله، وأن ذلك كله  من خير إلى خير، كما جاء في الحديث الصحيح (عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذلك لغير المؤمن ، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له).

فامضوا على بركة الله ، فإن هذا هو السبيل الذي يرفع الظلم عنكم  ولا تلتفتوا لمثل هذه العقبات، ولا تجعلوا ما حل بإخوانكم يفت في عضدكم، ولا تيأسوا من روح الله، وكونوا كعباد الله الذين قال تعالى فيهم: ﴿ فمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ﴾  وعلى المجاهدين الصادقين  الذين يلاقون الحرب والعداوة من الظالمين والمستبدين ، أن يقولوا لهم ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم لكفار عصره: (اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ، وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ). أي: اعملوا على طريقتكم وبرنامجكم، وابذلوا جهدكم وطاقتكم في حربنا ، ونحن المؤمنون عاملون على مكانتنا وطريقتنا وبرنامجنا، في الثبات على الحق  والوقوف أمامكم، وإبطال مكائدكم، أنتم تعملون أقصى ما في وسعكم ، ونحن نعمل أفصى ما في طاقتنا.. والأيام بيننا، والمستقبل لنا، والزمن في صالحنا إن شاء الله ، وانتظروا ما سيحل بكم في المستقبل، فنحن منتظرون تحقيق ما وعدنا الله به، من الغلبة عليكم ، ونحن موقنون بحصول ذلك، لأنه وعد الله، والله منجز وعده، لا يخلف الميعاد ‘ وسنتة التي لا تتخلف ، بنصر أصحاب الحق فقال تعالى : (لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ، وَلَنُسْكِنَنَّـكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ﴾ .

وصور الله نهاية المواجهة بين أصحاب الحق وأصحاب الباطل، على أساس قوله تعالى: ﴿ وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ﴾ .

 

 

 

 

 

 

 

التدين الصناعي

التديُّن يعني: الاستقامة والطهرَ والعفاف وغضَّ البصر والبعدَ عن الفجور والخمور والمخدِّرات وأذيّة المؤمنين باللّسان واليد. التديُّن: يقذِف في قلب صاحبِه رقابةً ذاتيّة تجعله لبنةَ بناءٍ  يحرُس الفضيلة ويحافِظ على أمنِ المجتمع، ويحميه من مجرمٍ رذيل أو فكرٍ دخيل. التديُّن: له أثرٌ في السّلوك، يربِّي على الأوبَة الصادِقة والإنابة العاجلة، قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ﴾201  الأعراف ، التدين: هو الالتزام بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم اعتقاداً وقولاً وعملاً. التدين: هو أن يتوافق ظاهر الإنسان مع باطنه على هدي سيد المرسلين. التدين: إحساس داخلي يدفع صاحبه للعمل للإسلام، وشعور داخلي يدفعه لبغض من يحارب الإسلام. التدين: هو أن تأخذ الإسلام كاملاً كما أمر الله ، لأنه دين لا يقبل الانتقائية  ولا العبادات الموسمية. هذا هو التدين  غضب للحق ونفور من الظلم ، وقوة في تحقيق العدل ، أما التدين الصناعي فيكون على شكل عمامة كبيرة ، ولحية طويلة ، مع الابتعاد عن روح الإسلام ، والاحتفاظ بشكله وقلب أوضاعه ، تدين ليس فيه للروح قيمة وللشكل فيه كل قيمة   نجد ذلك واضحاً عند من  اشتغلوا بالخلافات والاعتراضات ، وعند من غدا الدين لديهم تقليدا وحركات وسكنات ، متناسين أن الدين الحقيقي هو روح وعقيدة ، حمله السابقون فسادوا به العالم   وعندما حملنا هذه الأيام صورة الإسلام ، ساد العالم علينا ، وهذا يذكرني بما قاله أحمد أمين : " هل تعرف الفرق بين الحرير الطبيعي والحرير الصناعي   وبين الأسد وصورة الأسد ، وبين النائحة الثكلى وبين النائحة المستأجرة ، وبين السيف يمسكه الجندي والسيف الخشبي يمسكه الخطيب يوم الجمعة ، إذا عرفت ذلك فهو الفرق بين التدين الحق والتدين الصناعي " وعندما قال أحدهم لصديقه : كيف رأيت أصحابي ؟ قال : أرى صلاةً كثيرة وصياما   ولكني لا أرى عليهم نور الإسلام " وسأل رجل الفضيل بن عياض : لم كان كلام السلف الصالح أنفع من كلامنا قال : لأنهم تكلموا لعز الإسلام ونجاة النفوس ورضا الرحمن ، ونحن نتكلم لعز النفوس وطلب الدنيا ورضا الخلق " وحتى الكلام دخلت عليه الصناعة ، قال علي بن الفضيل : " يا أبت ما أحلى كلام أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قال : يا بني أو تدري لم حلا ؟ قال : لا يا أبت قال : لأنهم أرادوا به الله تبارك وتعالى " . وقال أبو ذر لأبيه : ما بال المتكلمين يتكلمون فلا يبكي أحد ، فإذا تكلمت سُمع البكاء من ههنا وههنا ؟ قال : يا بني ليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة " .

إن أكبر مهمة دينية في هذا العصر وإن أعظم مهمة للأمة الإسلامية ، هي دعوة السواد الأعظم للأمة الإسلامية للانتقال من صورة الإسلام إلى حقيقته  والمسلمون الآن هم الذين يمثلون أكبر حجاب يستر محاسن الإسلام عن أعين الآخرين حتى قال أحدهم " الحمد لله الذي عرّفني الإسلام قبل أن أعرف المسلمين " وقد قال محمد راشد في كتاب المنطلق : " إن عصاة المسلمين اليوم ضحية تربية أخلدتهم إلى الأرض أرادت لهم الفسوق ابتداء ، لتستخف بهم الطواغيت انتهاء "

هناك من وقع في الشبهات نتيجة للفهم الخاطئ لقوله تعالى : ﴿ لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ﴾ فلا يقوم من لا فقه له بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ويتودد إلى الناس ، استدلالاً بهذه الآية

ذكر صاحب الظلال أن هذه الآية ، لا تسقط عن الفرد ولا عن الأمة التبعة في كفاح الشر ، ومقاومة الضلال ، ومحاربة الطغيان ، ومن أطغى الطغيان الاعتداء على ألوهية الله ، واغتصاب سلطانه   وتعبيد الناس لشريعة غير شريعته ، وهو المنكر الذي لا ينفع الفرد ولا ينفع الأمة أن تهتدي " .

من المسلمين من يقول : أنا مؤمن بالله ، فإذا حاولت تلمس أثر الإيمان عنده ، لم تجد شيئا ، قال محامٍ نمساوي : " تطوعت لتشويه سمعة الإسلام ، ويشاء الله أن أكون في السلك الدبلوماسي في إحدى الدول العربية ، فلما راجعت القرآن الكريم وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجدت أن المسلمين في واد والإسلام في واد "  قال القرضاوي : " رأينا من ينادي بإسلام على مزاجه ، يبقي من تعاليمه وأحكامه ما يروق له ويحذف ما لا يروق ، يريد عقائد بلا أحكام   وعبادات بدون معاملات ، وسلاماً بلا جهاد  وزواجاً بلا طلاق ، وديناً بلا دولة ، وأحكاماً بلا نظام " . ولقد صدق القائل :

ضحكت وجوه الترهات ولم يزل   وجه الحقيقة في الأنام عبوسا

فليس الدين بترك المحرمات الظاهرة ، بل بالإضافة إلى ذلك القيام بالأوامر المحبوبة لله ، فمن الناس من لا يخطر ببالهم الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة لله ورسوله وعباده ونصرة الله ورسوله ودينه وكتابه ، فهذه الواجبات لا تخطر ببالهم ، وأقل الناس ديناً وأمقتهم إلى الله من ترك هذه الواجبات وإن زهد في الدنيا جميعها ، قال مصطفى السباعي : " لو كبرت قلوب المسلمين كما تكبر ألسنتهم بالعيد لغيروا وجه التاريخ ، ولو اجتمعوا كما يجتمعون في صلاة العيد لهزموا جحافل الأعداء   ولو تصافحت قلوبهم كما تتصافح أيديهم في العيد   لقضوا على عوامل الفرقة ، ولو تبسمت أرواحهم كما تتبسم شفاههم ، لكانوا من أهل السماء ، ولو ضحوا كما يضحون بأنعامهم ، لكانت أيامهم أعيادا ، ولو لبسوا أكمل الأخلاق كما يلبسون أفخر الثياب ، لكانوا أجمل أمة على ظهر الأرض "  إن هذا الدين لا يقوم إلا بجهد وجهاد ، ولا يصلح إلا بعمل وكفاح ، ولا بد لهذا الدين من أهل يبذلون جهدهم لرد الناس إليه ، ولتقرير ألوهية الله في الأرض ، ولإقامة شريعة اله في حياة الناس ، وإقامة الناس عليها ، وإن الإسلام خلُق القرآن ، لا يطغى خلق على خلق ، وإن الشريعة كاملةٌ لا تقبل التجزئة قال تعالى : ﴿ أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض   فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزيٌ في الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب ﴾ .  

أما آن لنا أن نفيق ، فقد كفى غفلةً وإهمالا   وكسلاً وخذلانا ، أما آن لتا أن نبدأ بعمل جاد نغسل به ما مضى ، ونستدرك به ما بقي ، فنقول الحق   ونطلب الحق ونسعى لأجله ، لا نخشى في الله لومة لائم ، هناك الملايين من البشر ، تدب على هذه الأرض   لا تعرف الله تعالى ، ولا تعبده ، ولا تساهم بالعمل لخير هذه الأمة ، لا من قريب ولا من بعيد ، يصدق فيهم قوله تعالى : ﴿ أولئك كالأنعام بل هم أضل ﴾ وهناك الملايين التي تعجز حتى عن إطعام نفسها   وتطالب من الآخرين أن يطعموها ويداووها ، ويبنوا لها مساكن تؤويها ، وهناك الملايين ليس لديهم الاستعداد لعمل شيء .

وفي هذه الأوضاع ، فإن الأمة مدعوةٌ للرجوع إلى الله والمساهمة في العمل للخير دون أن تفلسف كسلها وعجزها وتخلفها ، لأننا في عالم يموج بالأقوياء ، ومن لا يكون قويا بفكره واستقلاله   فإنه يعيش على هامش الأحداث ، وستظل الدنيا محكومة بالأقوى ، فكراً وإنتاجا ً وتحضرا ، ولن يكون فيها مكاناً للكسالى المتواكلين العالة على الآخرين ﴿ أفغير حكم الله يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ﴾ .                  

 

 

أمة الإسلام لا تموت

 إن امتنا خالدة، بخلود رسالتها وقرآنها ، باقية ما بقي الليل والنهار، دائمة ما دام في الدنيا قرآن يتلى وإذا كان القرآن محفوظاً بحفظ الله، فأمة القرآن باقية ببقاء القرآن. وقد تكفل الله تعالى لرسوله الكريم ألا يهلك أمته بما أهلك به أمماً من قبلها، بالعقوبات القدرية والنوازل الكونية، كالطوفان والخسف والمسخ وغير ذلك ، وتكفل له ألا يسلط عليها عدواً من غيرها، يستأصل شأفتها، ويقتلعها من جذورها إلا أن يهلك بعضها بعضاً، ويذوق بعضهم بأس بعض ، وكما تكفل الله لرسوله أن يحفظ أمته من الهلاك الحسي بعذاب الاستئصال، تكفل له بحفظها من الهلاك المعنوي بالاجتماع على الضلال، ففي الحديث ( إن الله لم يكن ليجمع أمتي على ضلالة ) وسر ذلك أنها آخر الأمم، كما أن نبيها آخر الأنبياء  وكتابها آخر الكتب، فليس بعد محمد صلى اللع غليه وسلم رسول ولا بعد القرآن كتاب، ولا بعد الإسلام شريعة، ولا بعد أمة الإسلام أمة ، فإذا اجتمعت أمة من الأمم على الضلال ، لم يكن في ذلك خطر على البشرية، لأنها أمة محدودة المكان موقوتة الزمان، بخلاف الأمة الإسلامية، فلها من عالميتها وخلودها ما يجعلها ممتدة في المكان حتى تعم الشرق والغرب، وممتدة في الزمان حتى قيام الساعة. فلو ضلت كلها لضلت بها البشرية جمعاء، دون أمل في تغيير، إذ ليس معها ولا بعدها من يحمل للناس هداية الله ، لذا فإن عمل العناية الإلهية، أن تظل في هذه الأمة فئة تحيا على الحق وتموت عليه، أمةٌ بمثابة سفينة الإنقاذ، أو جيش الخلاص، تحفظ التوازن وتمسك البناء أن ينهار وفيها جاء قوله تعالى: ﴿ وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ﴾ الأعراف 181 ، وقال رسول الله صلى اللع غليه وسلم : ( لا تزال طائفة من أمتي قائمين على الحق لا يضرهم من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ). هذه الطائفة هي منار السارين، ودليل الحائرين، وقوة المستضعفين، يقومون لله بالحجة  ويدعون إلى الله على بصيرة، ويبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله ، هم الغرباء  الذين يَصلُحون إذا فسد الناس، ويُصلِحون ما أفسد الناس وهم الفرقة الناجية بين الهالكين، المهتدون بين السالكين  الذين يحيون ما كان عليه الرسول صلى اللع غليه وسلم وأصحابه. ومن رحمة الله بالناس أن تبقى فيهم مثل هذه الفئة المختارة الموكلة من الله تعالى، تعلّم من يجهل، وتهدي من يضل، وتذكّر من ينسى قال تعالى : ﴿ فإن يكفر بها هؤلاء، فقل وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين ﴾ الأنعام 89 . ورحم الله أحمد شوقي حين قال:

إن الذي خلق الحقيقة علقماً   لم يُخلِ من أهل الحقيقة جيلا

ومن دلائل الخلود لهذه الأمة، أن الكوارث والنكبات لا تحطمها ولا تقتلها، بل تبعث فيها روح المقاومة والتحدي، فتراها إذا نزلت بها النوازل ، أشد ما تكون قوة، وأصلب ما تكون عوداً، حتى إن الناس ليظنون بها الظنون، ويحسبونها في عداد الهلكى، فإذا هي في فترة وجيزة، تتغلب على عوامل الضعف المحيطة بها، بروح القوة المكنونة في داخلها وإذا بالذين يرقبونها من بعيد أو ينظرون إليها من قريب  يرون انتصاراً بعد انكسار، واجتماعاً بعد شتات، وحياة وحركة بعد جمود أشبه بالموات.  وإذا ما قرأنا تاريخ الأمم عرفنا  أن كل الأمم ماتت واندثرت وأصبحت أثراً بعد عين إلا أمة الإسلام   ، فأين حضارة الرومان؟! لم يبقي منها إلا الأطلال   وأين حضارة الإغريق؟! لم يبقي منها إلا فلسفتها   ومعابدها ، أين حضارة الفرس والفراعنة؟! وأين عاد وثمود وأصحاب الرس، أين التتار وجيوشهم؟! أمم علت ثم هبطت وأصبحت أثرا بعد عين .

ليس غريباً أن ترى أمة ظالمة قد ارتفعت وتكبرت وتجبرت ، ولكنها حتماً لن تخرج عن سنة الله في أرضه وخلقه ، فمصيرها إلى زوال ولن تجد لسنة الله تبديلاً ، إلا أمة الإسلام ، فلو قدر لها أن تموت لماتت يوم مات رسول الله صلى اللع غليه وسلم . ولو قدر لها أن تموت لماتت يوم جاءت جحافل التتار وعصفوا بكل شيء ، ودمروا دولة الخلافة ، ولو قدر لها أن تموت لماتت يوم احتلها الصليبيون ، أمة باقية قد يعتريها الضعف على قدر بعدها عن مصدر قوتها ، ولكن سرعان ما تعود وتنفض عنها غبار الوهن ، وتقوى من جديد ، نعم ستعود أمة الإسلام ، وسيبلغ ملكها ما بلغ الليل والنهار ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها )  وما هذه الصحوة التي نعايشها وانهيار الأنظمة الظالمة ، إلا دليل على ذلك ، ولعل الله سبحانه وتعالى أن يقيم دولة الحق وخلافته في الأرض على إثر ذلك .

والسؤال كيف لنا أن نعود؟ إننا لن نعود إلا بما عاد به الأولون.. فلن يصلح أخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها ، فديننا هو سبب عزتنا ونصرنا وتقدمنا إن ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله، لذا فإن النصر لا يكون إلا بالاستعلاء بالعقيدة والتزام منهج الله في الأرض   والبعد عن الفرقة والدعوة إلى الوحدة ، فقد مرّ المسلمون بفترة كانت أسوء حالا من هذه الفترة في الفرقة والاختلاف.. ولكن شاء الله أن يخرج من بين المسلمين الولاة المخلصين والحكام العادلين   الذين قادوا الأمة إلى طريق النصر كصلاح الدين  فهل من صلاح جديد يبعثه الله من حكام العرب والمسلمين يعيد السيف في يدنا.. ينقاد إلى الله ويقودنا.. يرفع كلمة الله فيرفعه الله.

إن المبشرات التي تؤكد حتمية عودة هذه الأمة للصدارة من جديد ، وإن هذا الذي يحدث للمسلمين ما هو إلا بداية النهاية لعصر الطغيان   وبشارة بقدوم فجر الإسلام، واستعادة النصر الذي وعد الله عباده الصالحين ، يقول الرَسُولُ صلى الله عليه وسلم :  ( تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَاضًّا، فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ الله أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا جَبْرِيّاً، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ" ثُمَّ سَكَتَ ) . إن العالم اليوم يشكو من إفلاس الأنظمة البشرية، ويتجرع مرارة وويلات هذه النظم التي دمرت الإنسانية، وقضت على كل جوانب الخير لديها، ومن أقرب الشواهد على ذلك انهيار الأنظمة الشيوعية واحدةً تلو الأخرى  وسنشهد انهيار الأنظمة الرأسمالية إن شاء الله ، وحقٌّ على الله أنه ما ارتفع شيء إلا وضعه، والدمار قادم بإذن الله لمن على شاكلتهم من الكفر والضلال ومحاربة الإسلام وأهله، فما نراه الآن في العالم وفي عالمنا العربي من تغيرات ليس إلا توطئة وتمهيدا لفجر جديد ، وزوالا لمرحلة الملك الجبري، وخاصة أن الأرض مُلِئَتْ ظلما وجورا وفسادا. وإن النصر قادم لا محالة، والعزة والتمكين قادمان بنا وبغيرنا إلى كل مكان، فلنتشرف أن نكون مِن حمَلَةِ هذا الدين  ورواد هذه الطريق إلى العزة، فكلنا على ثغرة من ثغور الإسلام، فلا يؤتينَّ من قِبَلِك، وصدق الله العظيم: ﴿ وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ ﴾ الرعد 31  ؛ فالعالم اليوم يتطلع إلى المنقذ الذي يخلصه من ذلك، ولا منقذ إلا الإسلام.

 لقد كان النبي  صلى الله عليه وسلم يعجبه الفأل الحسن، وكان   عند تناهي الكرب والشدائد يبشر أصحابه بالنصر والتمكين، وما روى عن صلى اللع غليه وسلم من مبشرات تدل على أن فجر الإسلام قادم لا محالة ، ولكن أمة الإسلام قد تمرض وتعتريها فترات من الركود الطويل  ولكنها بفضل الله لا تموت، وإن الذي يفصل في الأمر في النهاية ليس هو قوة الباطل؛ وإنما الذي يفصل في الأمر هو قوة الحق، ولا شك أن الحق مع أمة الإسلام ، وكما قال سيد قطب في رصيد الفطرة، قال: " يوم جاء الإسلام أول مرة وقف في وجهه واقع ضخم، وقفت في وجهه عقائد وتصورات، ووقفت في وجهه قيم وموازين  ووقفت في وجهه أنظمة وأوضاع، ووقفت في وجهه مصالح وعصبيات، كانت المسافة بين الإسلام يوم جاء وبين واقع الناس مسافة هائلة سحيقة، ولو أنه قيل لكائنٍ مَن كان في ذلك الزمان إن هذا الدين الجديد هو الذي سينتصر لما لقي هذا القول إلا السخرية والاستهزاء والاستنكار!. ولكن هذا الواقع سرعان ما تزحزح عن مكانه ليخليه للوافد الجديد، فكيف وقع هذا الذي يبدو مستحيلاً؟ كيف استطاع رجل واحد أن يقف وحده في وجه الدنيا كلها؟ إنه لم يتملق عقائدهم، ولم يداهن مشاعرهم، ولم يهادن آلهتهم، ولم يوزع الوعود بالمناصب والمغانم لمن يتبعونه، فكيف إذن وقع الذي وقع؟. لقد وقع الذي وقع من غَلَبَةِ هذا المنهج؛ لأنه تعامل مِن وراء الواقع الظاهري مع رصيد الفطرة، إذن معنا رصيد الفطرة  وقبل ذلك كله معنا الله، ويا لها من معية كريمة جليلة مباركة! والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ".

إنه وعد الله، وكلمته قال تعالى : ﴿ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ﴾ الصافات 171 ، إن هذا الوعد المبارك سنة من سنن الله الكونية الثابتة التي لا تتبدل ولا تتغير، وإن هذا النصر سنة ماضية، . هذا أمر لا ينكره من يدرك طبيعة هذا الدين ، وطبيعة هذه الأمة.. كل ما نرجوه أن يعود المسلمون لدينهم   وأن يأخذوه من مصادره الصحيحة لا من مصادر المستشرقين أو المستغربين.. وأن يستمعوا وينصتوا لكلام ربهم ونبيهم ، ولكلام من يثقون بدينهم ويعرفون إسلامهم  لا لدعاة العلمانية والتحرر قال تعالى : ﴿ قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ﴾ .

 

 

الفرق بين أهل الدنيا وأهل الآخرة

لقد تكفل الله تعالى لمن آمن به وعمل صالحاً وجاهد في سبيله ، وسار إليه وسعى له ، أن يزيده من فضله   ويبارك له في عمله ، ويجزيه خير الجزاء كما قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ 69 العنكبوت وقال تعالى:﴿ وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا ﴾ 19 الإسراء، أي مقبولاً ، وقد يكون عمل أهل الدنيا غير مضمون النتائج فليس بالضرورة كل من عمل لطلب شيء في  الدنيا يناله  فكم من إنسان سعى لكسب مال ، فما ازداد إلا فقراً، لاْن الله تعالى يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب كما قال تعالى : ﴿ كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا ﴾20 الإسراء   فهو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر بمقتضى حكمته وعلمه بما يصلح حال الناس قال تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾52 الزمر .

فأهل الدنيا لا ينالون بعملهم إلا الدنيا وما لهم في الآخرة من نصيب كما قال تعالى:﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ ﴾20 الشورى، وأما أهل الآخرة فإنهم ينالون بطاعتهم وعملهم   الدنيا والآخرة ، كما قال تعالى: ﴿ مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾ 52 النساء .

سأل رجل الإمام على رضي الله عنه، أريد أن أعرف نفسي هل أنا من أهل الدنيا أم من أهل الآخرة؟ قال جواب هذا السؤال ليس عندي ، بل عندك. قال الرجل كيف ذلك؟ قال إذا دخل عليك رجلان   أحدهما اعتاد أن يأتي لك بهدية ، والآخر اعتاد أن يطلب منك حاجه أو معونة ، فأنظر إلى أي منهم تبش وترحب.. فإن رحبت بالذي يأتيك بهدية   فأنت من أهل الدنيا ، لأنك تحب من يعمر لك دنياك ، أما إن رحبت بمن اعتاد أن يطلب منك حاجه أو معونة ، فأنت من أهل الآخرة ، لأنك تحب من يعمر لك ما تحب ، والذي يأخذ يعمر لك آخرتك " . لقد نهانا الله أن نكون عبيداً للدنيا، وقد فهم أصحاب النبي سلى الله عليه وسلم ذلك ، فركبوها ولم تركبهم  وعَبَّدوها لله ولم تستعبدهم، وقاموا بالخلافة عن الله فيها بكل ما تقتضيه الخلافة عن الله من تعمير وإصلاح، وكانوا يبتغون وجه الله، ويرجون الدار الآخرة، فسبقوا أهل الدنيا في الدنيا، وأهل الآخرة في الآخرة، والدنيا ، فقد آمنوا بأن الدنيا ونعيمها ما هو بالنسبة للآخرة ، إلا لهو ولعب كما قال تعالى : ﴿ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ الأنعام 32. فمن أراد أن يعيش لهذه الدنيا وحدها ، فإن الله يعجل له خطة من الدنيا حين يشاء، ثم تنتظره في الآخرة جهنم عن استحقاق، مذموماً بما ارتكب، مدحوراً بما انتهى إليه من عذاب: ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا ﴾الإسراء 18. ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها فإنه يلقى التكريم في الآخرة، جزاء السعي الكريم في الدنيا: ﴿ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ﴾ الإسراء 19. وأهل الدنيا والآخرة ، إنما ينالون من عطاء الله وعطاء الله لا يحظره أحد ولا يمنعه: ﴿ كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ﴾الإسراء20.  هناك من اغتر بزخرف الدنيا   فصحبوها صحبة البهائم، وتمتعوا بها تمتع السوائم  وغفلوا عن ربهم، ومعرفة شرعه والعمل به، فهؤلاء يتمتعون في الدنيا قليلاً، فإذا ماتوا فإلى جهنم وبئس المصير : ﴿ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ   مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ ، وأما من يتناول من الدنيا ما يستعين به على ما خلق له، ويجعل الدنيا منزل عبور لا محل حبور  فيبذل جهده في معرفة ربه، وتنفيذ أوامره، وإحسان العمل الموصل للجنة، فهذا بأحسن المنازل عند الله  وهو حقيق منه بكل كرامة ونعيم وسرور كما قال سبحانه:  ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ ﴾ محمد 12.

فعالم اليوم يعتبرون أن الدين لله ، وأن الحياة للناس يفعلون فيها ما يشاؤون، وتؤدي البشرية هذه الضريبة الفادحة، ضريبة الشقاء والقلق، والحيرة والخواء؛ لأنها لا تهتدي إلى منهج الله الكامل الذي لا يفصل بين الدنيا والآخرة بل يجمع، ولا يقيم التناقض والتعارض بين الرخاء في الدنيا والرخاء في الآخرة   فنرى أمماً لا تؤمن ولا تتقي، ولا تقيم منهج الله في حياتها، وهي موفورة الخيرات، كثيرة الإنتاج، عظيمة الرخاء ، لكنه رخاء موقوت ، لأن اتخاذ منهج للآخرة من عند الله، واتخاذ منهج للدنيا من عند الناس، في حياة واحدة، ومجتمع واحد، فإن ذلك يؤدي إلى التصادم المؤدي إلى الهلاك والدمار والاضطراب ، فالرغبة في الآخرة لا تعني إهمال الدنيا وتركها بلا جهد لتحسينها وإصلاحها وتركها للطغاة والمفسدين ، فالدنيا مزرعة للآخرة والجهاد في الحياة الدنيا لإصلاح هذه الحياة، ورفع الشر والفساد عنها، ورد الاعتداء والظلم عن أهلها وتحقيق الخير والعدل للناس جميعاً، هو زاد الآخرة  والمسلم إنما يزاول هذه الحياة الدنيا وهو يعلم أنه أكبر منها وأعلى، ويستمتع بطيباتها أو يزهد فيها وهو يعلم أنها حلال في الدنيا، خالصة له يوم القيامة كما قال سبحانه: ﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ الأعراف 32. ويجاهد المسلم لترقية هذه الحياة، وتسخير طاقاتها وقواها، وهو يعرف أن هذا واجب الخلافة حين استخلفه الله فيها ، ويكافح الشر والفساد والظلم محتملاً الأذى، وهو إنما يقدم لنفسه في الآخرة، إنه يعلم من دينه أن الدنيا مزرعة الآخرة، وأن ليس هناك طريق للآخرة لا يمر بالدنيا، وأن الدنيا صغيرة زهيدة مؤقتة، ولكنها من نعمة الله التي يجتاز منها إلى نعمة الله الكبرى في الآخرة. والله تبارك وتعالى كما اجتبى الرسل، وأرسلهم لهداية البشرية، كذلك هو سبحانه اجتبى هذه الأمة، وأعطاه﴿ كنتم خير أمة أخرجت للناس ﴾ا مهمة الإشراف على الحياة البشرية وقيادتها بدين الله  إنّ هذه الأمة بحاجة إلى وعي لرسالتها، ومعرفة لدورها القيادي، واحترام لقدراتها ومكانتها، فمتى ما عرف الإنسان المسلم أنّه مكلّف بمواصلة مسيرة الأنبياء، وحمل الدعوة الإسلامية إلى العالم أجمع، وهداية الإنسان، يكون قد اكتشف موقعه ودوره الإنساني في الحياة، والذي شخّصه القرآن الكريم، عندما وضع النصّ الآتي على لسان الرسول  سلى الله عليه وسلم : ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ يوسف 108.

 

 

 

 

  بقاء أمة الإسلام

إن الإسلام هو روح الأمة ، حركتها بحركته وبقاءها ببقائه ، وإن الأمم لا تسود إلا بأسباب ولا تنهار إلا بأسباب ، وأن سنن الله لا تحابي أحدا ، ومن تأمل القوانين التي تتحكم في المسارات التاريخية والاجتماعية ، وسخرها لخدمة غاياته ،كان هو المنتصر ، ولو كان فاجرا ، قال ابن تيمية رحمه الله : إن الله ينصر الدولة العادلة ولو كانت فاجرة   ويخذل الدولة الجائرة ولو كانت مؤمنة.

شاء الله سبحانه أن يجعل الأيام دولاً بين الناسقال تعالى: ﴿ إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله  وتلك الأيام نداولها بين الناس ﴾ . وإذا كان من سنة الله أن كل الأمم تموت ، فإن من سننه أن أمة الإسلام ، ما سقطت إلا وكان لها بعد السقوط قيام وما ضعفت إلا وكان لها بعد الضعف قوة، وما ذلت إلا وكان لها بعد الذل عزة ، لأنها أمة شاهدة على غيرها من الأمم قال تعالى : ﴿ وكذلك جعلناكم أمة وسطاً ، لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً ﴾ وقد آن الأوان أن يعلم المسلمون   أن حياة الدول الكبرى ليست حياة نصر بلا هزيمة  ولا حياة عز بلا ذل؟ فهي تعاني مجتمعاً مهللاً مفككاً منحطاً ، يعيش على الرذيلة، ولا يهتم بالفضيحة أهواءه تسيره، ورغباته تحركه، وشهواته تسيطر عليه وتدمره ﴿ لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد، متاع قليل، ثم مأواهم جهنم، وبئس المهاد ﴾ وليعلم كل مسلم أن النصر لا يأتي إلا بعد أشد لحظات المجاهدة قال تعالى: ﴿ حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا، جاءهم نصرنا، فنجي من نشاء، ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين ﴾ وقال تعالى: ﴿ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا، حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه، متى نصر الله ﴾ وقد اقتضت حكمة الله أن يختبر أحبابه وأصفياءه، بأن النصر يأتي في وقت يعلم الله فيه أن خير المؤمنين أصبح في النصر، وليس في انتظار النصر ، روي البخاري عن خباب بن الأرت رضي الله عنه أنه قال: "شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، قلنا له ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعوا الله لنا؟.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لقد كان الرجل في من قبلكم ، يحفر له في الأرض، فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار، فيوضع على رأسه فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله و الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون ) . قال تعالى : ﴿ ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ﴾ فأمة الإسلام تمرض لكنها لا تموت ، في القرن السابع الهجري أصاب الأمة الإسلامية بلاءٌ وكربٌ وكارثةٌ لم يحدث في التاريخ مثيلها منذ خلق الله آدم وحتى عصرنا هذا تلك الأحداث كانت عظيمةً وجسيمه   قال عنها ابن الأثير في كتابه الكامل "لقد بقيت عدة سنين معرضاً عن ذكر هذه الحادثة استعظاماً لها كارهاً لذكرها, فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين، ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك، فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل هذا و كنت نسياً منسياً". تلك الحادثة العظمى هي اجتياح التتار الهمجيين لبلاد الإسلام ، ذلك الاجتياح الذي لم تسطر كتب التاريخ شبيهاً له في شناعته وبشاعته ووحشيته، لقد كان التتار وحوشاً لا مكان للإنسانية في قلوبهم ولقد كانوا يمرون على بعض المدن الإسلامية فيقتلون سكان المدينة كلهم عن بكرة أبيهم ، كانوا يقتلون الأطفال والشيوخ والرجال والنساء ، وكانت الأمة الإسلامية في تلك الفترة تعيش حالة من الضعف والتفكك والفرقه ، بل إن كتب التاريخ تذكر لنا أن بعض الملوك المسلمين كانوا يتعاونون مع التتار ضد بعض الأقاليم الإسلامية ، واستعمل التتار كثيراً من الأدباء والشعراء في الداخل كي يشيعوا في أوساط المسلمين أخباراً كاذبة تصف التتار بأنهم وحوش وأنهم جيوش لا تُهزم أبداً  وأنهم   يأكلون لحوم البشر  فضعفت معنويات المسلمين كثيراً وخارت عزائمهم

فأخذ التتار يجتاحون الأقاليم الإسلامية واحدة تلو الأخرى ، فسيطروا في بادئ الأمر على بلاد المشرق الإسلامي ، وكانت أخبار هذا الاجتياح تصل إلى بلدان العالم الإسلامي الأخرى ، فلم يحرك أحدٌ ساكناً ، وكأن الأمر لا يعنيهم ، فقد سقطت عاصمة الرشيد بغداد ، وسقطت بسقوطها الخلافة العباسية ، التي دامت قرابة خمسة قرون ، وأُهين خليفة المسلمين المستعصم بالله ، وقتل ركلاً بالأقدام  واغتصبت النساء ، واستباح هولاكو ، بغداد أربعين يوماً فأخذ جنوده يقتلون كل حي في بغداد ، حتى وصل عداد القتلى في بغداد إلى مليون قتيل وبعد أن سقطت العراق ، اتجه المغول إلى بلاد الشام فاحتلوها وقتلوا وسفكوا الدماء ولم يتبقى لهم سوى مصر   لقد أصبح لدى المسلمين في تلك السنوات اعتقاد بأن القيامة ستقوم وأن هذه هي نهاية الدنيا وذلك لعظم ما رأوه وعاشوا لحظاته ، ولم يدر في خلد أحد أن جيشاً سيوقف التتار ، إلاّ أن الله هيأ للمسمين رجلاً مخلصاً هو سيف الدين قطز ملك مصر رحمه الله ، فقاد المسلمين في معركة عين جالوت فقلب الله به انتصارات التتار المتتالية إلى هزائم متتالية وأنقذ الله به الأمة الإسلامية من الهلاك ، أردت من هذا السرد التاريخي أن أقارن من خلاله بين حال الأمة في هذه الأيام ، وبين حالها في تلك الفترة ، فقد عاشت الأمة الإسلامية في تلك الفترة ، تفككاً يشبه إلى حد كبير التفكك الذي تعيشه الأمة في هذه الأيام ، كان زعماء المسلمين يتآمرون على بعضهم كما هو الحال في زماننا ، احتلت أراض وبلدان من العالم الإسلامي في ذلك الوقت كما هو الحال في زماننا ، بل إن معظم العالم الإسلامي وقع تحت الاحتلال المغولي ، فقد كثر القتل في ذلك الزمن كما كثر القتل في زماننا ، وقد كان للتتار عملاء في الداخل وأبواقٌ يروجون لهم ويساهمون في إنجاح أهدافهم كما هو الحال في أيامنا هذه .

وإن الهدف من هذا السرد التاريخي ومن هذه المقارنة لنعلم أن الأمة الإسلامية تمر بمراحل ضعف ، وحتى لا يتسرب اليأس إلى القلوب ، لأن الأمة الإسلامية حتماً ستعود إلى المكانة التي يريدها الله ، لتجتمع  تحت لواء واحد كما كانت  إن شاء الله تعالى، وهو ما يخافه أعداء الأمة ، فعملوا جاهدين ، على ضرب فكر الإسلام في نفوس أبناءها ، بإسقاط نظام الأمة السياسي، من أجل هدفين: الأول عدم عودة المسلمين قوة واحدة  والثاني امتصاص ثرواتهم ليستقوي بها عليهم ، لأنه يدرك أن وحدة المسلمين السياسية مرة أخرى من شأنها أن تهدد وجوده وتقطع يده من أن تمتد إلى بلاد المسلمين, لذلك لا يترك سبيلاً لمنعهم إلا سلكه, فتارة يضلل المسلمين بالاستقلال المزعوم هنا وهناك, وتارة يتهم دينهم ليغرقهم بالدفاع عنه ، وتارة يزرع الفتن بينهم ليمعن في تفريقهم, وتارة يضللهم (بالإصلاح) المفروض عليهم على طريقته ، وتارة يتهمهم بالإرهاب   وتارة يهاجمهم عسكرياً في عقر دارهم ويقتلهم بالجملة لإطباق سيطرته عليهم ، مما يؤكد أن الأمة الإسلامية حية ، ولو أن الأمة ميتة, ما ضربها أحد وما هاجمها أحد. وإن هجوم سياسيو الغرب دليل على أنهم يدركون أكثر من غيرهم خطر الإسلام عليهم ، وعلى مبدئهم, فهم يعيشون لمنعه من الانبعاث من جديد في دولة تعمل على تطبيق منهجه , وتصريحاتهم التي تدل على هذا أكثر من أن تحصى في هذا المقام, لأنهم أدركوا أن المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ، بدؤوا بالاستيقاظ الحقيقي من غفلتهم وسباتهم العميق, وأخذوا بالتململ والتحرك الرشيد, والإسلام قادم إن شاء الله ليسود مرة أخرى ، حتى ينقذ البشرية مما هي فيه من شقاء وظلم. والمسألة مسألة وقت حتى يحصل هذا, وهو وإن لم يحصل اليوم ففي الغد إن شاء الله وإن غداً لناظره قريب قال تعالى  :  ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾النور 55.

 

 

 

 

بماذا يعتز المسلم

إذا اعتز المسلم بعقيدته وجاهد في سبيل الله ، لتكون كلمة الله هي العليا ، ارتبط بالله وارتفع بنفسه عن مواضع المهانة ، ولا يعتز المؤمن بغير الإسلام ] ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون [. لأنه لا نصر بغير الإيمان ، ولا إيمان بغير الرجوع إلى الإسلام ، ولا بد للإسلام من مؤمنين ، فالله تعالى يقول لرسوله : ] هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين  [ ذكرت الصحف أن رجلا أجنبيا درس الإسلام   فأعجب به ، وأعجب بتعاليمه ، فقال كلمة يجب أن نحفظها ونرويها ، ماذا قال ؟ قال : ما أعظمه من دين لو كان له رجال ، دين عظيم ولكنه في حاجة إلى رجال عظماء ، دين قوي ولكنه في حاجة إلى رجال أقوياء ، في الوقت الذي تتعرض فيه الأمة   لنكبات قاسية ، تتمثل في الحروب التي لم تضع أوزارها بعد .  

لقد حقق الأعداء قديماً على المسلمين نصراً ماديًّا وعسكريًّا ولكن لم تُهزَم قِيمهم ولا مبادِئهم، ولم تنهزِم روحُهم ولا إيمانهم ، فتحوّلت الهزيمة إلى نصر بعد حين ، وسرعانَ ما غزت الأعداء ، قِيَم المجتمعِ المسلم ، فأسلم التّتار وهم المنتصِرون واندَحر الصليبيّون وهم الغالِبون ، كلّ ذلك على أيدِي المسلمين ، وقد كانوا هم المهزومين ، فجند الله هم الغالبون ، وقد جاء هذا الوعد بالنصر والغلبة والتمكين ، في قوله تعالى : ] وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلْمُرْسَلِينَ ، إِنَّهُمْ لَهُمُ ٱلْمَنصُورُونَ ، وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلْغَـٰلِبُونَ [ الصافات 171 .  فرسُل الله هم المنصورون ، وجند الله هم الغالبون ، كلمةٌ من الله سبقت ، ووعدٌ من الله لا يُخلَف ، على الرّغم من جميع العوائق ، وعلى الرّغم من كلّ صوَر التكذيب والتّشكيك ، فإن هذه القوى وهذه  الحضارة التي تسود اليوم لا بد أن تبيد ، كما سادت الحضارات السابقة وبادت ، لأن الذي يبقى في النهاية عقائد المرسَلين ، لأنها الأظهَر والأبقى والأكمَل . وإنّ هذا متحقِّق في كلّ دعوة لله مخلِصة ، وفي كلّ دعاةٍ لله صادقين إنها دعوةٌ غالبة منصورة ، مهما رصَد لها الباطل من قوى الحديد والنّار ، وقوى الدّعاية والافتراء ، وقوى الحرب والمقاومة . معاركُ تقوم بين أهلِ الحقّ والباطل ، ولكنّ نتائجَها تختلِف حتى تنتهيَ إلى وعد الله الحقّ ، الذي وعد رسلَه وأولياءه وجندَه ، وهو وعدٌ لا يُخلَف ، ولو قامت في طريقه كلُّ قوى الأرض ، وهو سنّةٌ من الله ماضية  غيرَ أنَّ هذه السّنن مرهونة بتقدير الله تعال ، يحقِّقها حين يشاء وكيف يشاء ، وقد تُبطئ آثارها الظاهرة بالقياس في أعمارِ البَشر القصيرةِ المحدودة ، ولكنّها لا تُخلَف ولا تتخلّف أبدًا ، بل قد تتحقّق في صورةٍ لا يدركها البَشر ، لأنّهم يطلبون المألوفَ من صوَر النّصر والغلبة ، ولا يدركون تحقُّقَ السّنّة في صورةٍ غيرِ مألوفة إلاّ بَعد حين . قد يريد البَش‍َر صورةً معيّنة من صُور الغلبة والنّصر ، ويريد الله صورةً أخرى أكمَل وأتمّ وأبقى ، فيكون ما يريد الله ولو تكلّف جندُ الله من المشقّة والضحايا وطول الأمَد أكثرَ ممَّا ينتظرون قال تعال : ] وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ ٱلشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَـٰتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ ٱلْكَـٰفِرِينَ ، لِيُحِقَّ ٱلْحَقَّ وَيُبْطِلَ ٱلْبَـٰطِلَ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُجْرِمُونَ [ الأنفال 8 .

فالنّاس يقصُرُون معنى النّصر ، في حدودٍ معيّنة معهودةٍ ، قريبة الرّؤى لأبصارهم ، فالأزمات مهما اشتدّت ، والخطوب مهما ادلهمّت ، فإنّ دينَ الله سيبقى عزيزًا منصورًا ، بعزِّ عزيزٍ أو بذلِّ ذليل  والأرض لله يورِثها من يشاء من عباده ، ويَرثُها عباد الله الصالحون . نعم سيبقى دينُ الله عزيزًا ، وستبقى العزّة للمؤمنين  لأن العزة عزّة مبادئ وعزّة قيَم ، لا عزّة جماعات ولا فِئات  فالهزيمة بحقٍّ هي هزيمة الأمّة  حين تتخلّى عن قيَمها ، وتبتعِد عن مبادئها ، لأن المنتصِر هي المبادئ والأفكار وليس الأشخاص .

ولتقريرِ هذه الحقيقةِ تأمّلوا قولَ الله عزّ شأنه: ] مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعِزَّةَ فَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ جَمِيعاً [ فاطر10. إنها حقيقةٌ ثابتة ، لا تتغيّر ولا تتبدّل ، حقيقةٌ كفيلة بتعديل القيَم والموازين ، وتعديل الحُكم والتقدير ، وتثبيت المواقف ، وتعديل المنهَج والسّلوك وضبط الوسائل والأسباب ، وإذا استقرّت هذه الحقيقةُ في قلبِ المؤمن وثبتت في يقينه ورسخت ، وقَفَت به أمامَ الدّنيا كلِّها عزيزًا كريمًا ثابتًا غيرَ متزعزِع وحينئذ لن يحنيَ رأسَه لمخلوقٍ متجبّر ، ولا لعاصفة طاغية ، ولا لحدَث جلَل ، ولا لمصلحةٍ مهما كانت   لأن العزّة استعلاءٌ على شهوَة النّفس ، ورفضٌ للقيد والذّلّ وارتفاع عن الخضوع لغيرِ الله ، بل هي خضوعٌ لله وخشية منه ، وتقوى ومراقبة في السّرّاء والضّرّاء ، وفي هذا الخضوع ترتفِع الجِباه ، ومن هذه الخشيَة تمتنع عن كلّ ما يأباه ، ومن هذه المراقبة لا تبتغي إلا رضاه ، لأن العزّة في حقيقتِها ووسيلتِها  هي في نصر رسالة الله وغلبة جندِ الله المخلصين  ومن العزة ألا يكون المسلم مستباحًا لكل طامع، أو غرضًا لكل صاحب هوى، وعليه أن يدافع عن نفسه وعِرْضِهِ وماله وأهله ، والمسلم يرفض إذلال نفسه حتى لو قتل في سبيل عزته وكرامته ، ويبدو ذلك واضحًا في موقف الرجل الذي أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ( يا رسول الله، أرأيتَ إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : فلا تعطِهِ مالك فقال الرجل: أرأيت إن قاتلني؟ فقال صلى الله عليه وسلم : (قاتلْه فقال الرجل: أرأيتَ إن قتلني؟ فقال صلى الله عليه وسلم :  فأنت شهيد  فقال الرجل: أرأيت إن قتلتُه؟ فقال صلى الله عليه وسلم : هو في النار ) مسلم .فالمسلم يعيش محتفظًا بكرامته؛ لا يضعف، ولا يلين ولا يتنازل عن شيء من كرامته وعزته ، من أجل مالٍ قليل، أو عَرَضٍ دنيوي   ولكي يحافظ المسلم على عزته، ويجعل دينه عزيزًا  فيعمل ويكد ويتعب حتى تتحقق له القوة، إذ لا عزة للضعفاء ، الذين يمدون أيديهم للناس ، يأكلون ويتمتعون كما تأكل الأنعام  .  أما آن للمسلمين أن يتمسكوا بدينهم الحقّ ، وما الحقّ إلا أن يتَّحِد المسلمون ، وما الحقّ إلا أن ينبذوا الخلافَ والتخاذل ، وما الحقّ إلا أن توزَن الأمور بموازينها ، أما آن للغافلين أن يستيقِظوا ،  وللمذنبين أن يُقلِعوا ، أما آن للقانطين والمستيئسين أن يستبشِروا ويتفاءلوا ، أما آن للطائِعين المستقيمين أن يستقيموا على منهج الله ، ويجاهدوا في سبيل الله .

إن صراعنا مع الأعداء هو صراع دينٍ ووجود  لا صراع أرضٍ وحدود ، صراع دين واعتقاد   وليس صراع سياسة واقتصاد .   لذا على الأمّة أن تنتصرَ لقضاياها ، قبلَ أن تطلبَ من الآخرين الوقوفَ معها ، عليها أن تقِف بكلّ طاقاتها قبلَ أن تناشدَ الآخرين معاونَتَها ، فنصرةُ القضايا واسترداد الحقوقِ لن يتمَّ بمساعدة الأعداء ، إنه لن يتم إلا بإعلان الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين ، روى البيهقي في شعب الإيمان ج2/ص247,قال:" أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أن الحسن بن محمد بن إسحاق قال سمعت أبا عثمان الخياط يقول سمعت ذا النون يقول ثلاثة من أعمال المراقبة ايثار ما أنزل الله وتعظيم ما عظم الله وتصغير ما صغر الله قال وثلاثة من أعلام الاعتزاز بالله التكاثر بالحكمة وليس بالعشيرة والاستعانة بالله وليس بالمخلوقين والتذلل لأهل الدين في الله وليس لأبناء الدنيا " .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

لماذا تقدم الغرب وتأخر المسلمون

جاء الإسلام ليعلم البشرية كلها ميزان العدل والإنصاف، ويربي أتباعه على اتزان النفس والعقل  وعلى التزام الحق والاعتراف به ، والارتقاء من دركات الظلم والجور إلى مدارج العدل في الرضا والغضب؛ قال تعالى : ﴿ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ المائدة 8   فكان الرعيل الأول من هذه الأمة قممًا شامخة في الانحياز للحق ، ولو كان مع أعدى الأعداء  ومقاومة الظلم والأخذ على يد الظالم ، ولو كان أقرب الأقربين، وكانوا مثالًا عمليًّا لتلك القيم السامية التي جاء بها الإسلام، وتطبيقًا واقعيًّا لأخلاقه الراقية وآدابه السمحة.

جاء في الحديث الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه عن مُوسَى بْن عُلَيٍّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ الْمُسْتَوْرِدُ الْقُرَشِيُّ عِنْدَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: ) تَقُومُ السَّاعَةُ وَالرُّومُ أَكْثَرُ النَّاسِ، فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: أَبْصِرْ مَا تَقُولُ. قَالَ: أَقُولُ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: لَئِنْ قُلْتَ ذَلِكَ إِنَّ فِيهِمْ لَخِصَالا أَرْبَعًا، إِنَّهُمْ لأَحْلَمُ النَّاسِ عِنْدَ فِتْنَةٍ وَأَسْرَعُهُمْ إِفَاقَةً بَعْدَ مُصِيبَةٍ وَأَوْشَكُهُمْ كَرَّةً بَعْدَ فَرَّةٍ وَخَيْرُهُمْ لِمِسْكِينٍ وَيَتِيمٍ وَضَعِيفٍ وَخَامِسَةٌ حَسَنَةٌ جَمِيلَةٌ وَأَمْنَعُهُمْ مِنْ ظُلْمِ الْمُلُوكِ ( . فالحديث يُعطي للأمة درسًا بليغًا في العدل والإنصاف؛ فيذكر خصال الخير في أمة كانت ومازالت  من أعداء أمة الإسلام، وكان بينها وبين المسلمين معارك طاحنة، كان عمرو بن العاص نفسه أحد قادة المسلمين فيها، ورغم ذلك لم تمنعه الدماء والأشلاء من قولة الحق، وذكر محاسن الأعداء، وتلك هي قمة الاستعلاء النفسي والفكري الذي جاء به الإسلام ، هنا يذكر عمرو بن العاص ، في هذه الكلمات الموجزة، خمس خصال أعجبته في أمة الروم، فهم أحلم الناس عند فتنة، والحلم عند المصائب دليل على اتزان النفس، ورجاحة العقل  وهم أسرع الناس إفاقة بعد مصيبة؛ فسرعان ما يتجاوزون صدمة الكوارث والنكبات ويسعون جاهدين في إزالة آثارها وعلاج تبعاتها  وهم أوشك الناس كرة بعد فرة، والمقصود هو التحلي بالشجاعة والإقدام، وشدة البأس في الحرب والقتال، كما أنهم خير الناس لضعيف ومسكين ويتيم، فلهم نصيب وافر في رعاية الفقراء والمحتاجين  وإقامة التكافل الاجتماعي، وهم أيضًا أمنع الناس من ظلم الملوك بما توافقوا عليه من علاقة واضحة محددة بين الحاكم والمحكوم، ومن سياسات راقية في إدارة الدولة، وسياسة الناس بالنسبة لما كان سائدًا في أزمانهم ، لم تكن هذه الخصال في ذلك الوقت غريبة على حس المسلمين، بل كانت أمة الإسلام ساعتها تُعلِّم البشرية تلك المبادئ، وتغرس فيها تلك الخصال، بواقعها العملي قبل توجيهها النظري؛ فعقيدة الإيمان بالقدر التي جاء بها الإسلام  ، تُحفِّز المسلم على مواجهة المصائب بما يناسبها من استعدادات واحتياطات، فرارًا من قدر الله إلى قدر الله، وكم من نكبة حلت بالمسلمين على مر العصور فواجهوها برباطة جأش وسكينة فؤاد؛ فلم تثقلهم الصدمة عن استعادة توازنهم، والوقوف على أقدامهم، واستكمال مسيرتهم الحضارية؟!

وقد جاءت النصوص تدعو المسلمين إلى أن يكونوا جسدًا واحدًا، إذا اشتكى منه عضو؛ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ، ولم تكتف شريعة الإسلام بمجرد الحث والتوجيه، بل وضعت من التشريعات والنظم ما يحفظ حقوق الفئات المحرومة في المجتمع الإسلامي، وجعلت  تلك المسئولية على عاتق الحاكم ، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه في عام الرمادة يأبى أن يدخل جوفه طعام غير الخبز والزيت، وحين تشتكي بطنه يقسم عليها قائلًا: " والله لا تذوقي طعامًا؛ حتى يطعم أبناء المسلمين " وقصته مع الأيتام حين حمل إليهم الدقيق على ظهره  ونفخ الكير بنفسه، وطهي الطعام لهم معروفة ومشهورة ، وأما عن التزام العدل مع الرعية، والنهي عن الظلم، وما تصدع ملك أمة الإسلام  وأفلت دولتها ، إلا حين غاب فيها العدل، وتفشى الظلم بين الناس ، في الوقت الذي صارت فيه دول الغرب قوية مرهوبة الجانب؛ لأنه أخذ بأسباب القوة المادية الدنيوية، في حين باتت دول الإسلام عبارة عن كيانات هزيلة، لا تشغل في ميزان القوة الدولية شيئًا يُذكر ، بينما الغرب يسعى بخطوات واثقة نحو التضامن والاتحاد ، وأمتنا مصرة على عدم التلاقي وتطبيق منهج الله ، متناسية أنها لن تصلح إلا بما صلح به أولها ، وما يمكن للأمة أن تستعيد مكانتها وتصون رسالتها إلا إذا صححت انتمائها وأصغت إلى قوله تعالى : ﴿ وان هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون ﴾ الأنبياء 92 .

إن الناظر إلي بلاد المسلمين يجد أن كثيراً من أبناء المسلمين قد أصابهم الإحباط من واقع المسلمين   ويأسوا من أن تقوم لأمة الإسلام قائمة من جديد   ويعتقدون أن سيادة المسلمين للعالم كانت تاريخاً مضى ، وأن المستقبل قد يكون للشرق أو للغرب   من قبيل اليأس والقنوط ، وقد علق الشيخ الغزالي في كتابه سر تأخر العرب والمسلمين ، على هذه الفئة من الناس فقال " وقد أفزعتنا أن يظهر في صحوتنا الإسلامية المعاصرة رجال أغرار ، لهم قدرة غريبة على نقل الأخطاء ، وتبنيها وبعثرتها في طريق نهضتنا ، وقد استيقنت أن زبانية الاستعمار العالمي يستبشرون بهذا الصنف من الموجهين الأغبياء ، وربما مكنوا لهم ورحبوا بهم ، فليس أسعد لأعدائنا من شعبٍ يَغْتصب قيادته ، سارقُ زعامته ، وليس أسعد له من بيت تديره امرأة جهول ، وليس أسعد من متدينين يستريحون لهذه الأوضاع ، ويحيون في ظلها أنصاف بشر ، ويرغّبون الناس في ذلك على أنه الإسلام " وهنا نتساءل : أليس من العجيب حقاً أن يصيب الإحباط أمة تملك كتاباً مثل القرآن   وحديثاً مثل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن العجيب حقاً أن بيأس شعب له تاريخ مثل تاريخ المسلمين   وله رجال أمثال رجال المسلمين ، ومن العجيب حقاً أن يقنط قوم يملكون ثروات كثروات المسلمين   وكنوزاً مثل كنوزهم ، وكيف تقنط أمةٌ قال ربها في كتابه: ﴿ ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون ﴾ لكنها حقيقة مشاهدة ، وواقع لا ينكر ، في غياب الأمل ، وضياع الحلم، وانحطاط الهدف ، فكانت الأحداث التي زرعت اليأس في القلوب الضعيفة   فخضعت خضوعاً مذلاً حين كان يرجى لها الانتفاض   وركعت ركوعاً مخزياً حين كان يرجى لها القيام.

والسؤال : لماذا صرنا إلى ما صرنا إليه؟!! هذا يرجع إلى  الواقع الذي صنعه المسلمون بأيديهم لما فرطوا في دين الله ، وابتعدوا عن منهج الله ، فعانوا من  الهزائم المتكررة ، والخيانات المستمرة التي  أدت إلى ضياع البلاد والعباد ، وأدت إلى غياب القدوة ، وفقد الثقة في كل من يقود فظهرت ، المجاهرة بكل فسق ومجون وانحلال ، وإهمال لمشاعر الأمة التي عاشت قروناً وهي تحترم كل قانون إسلامي ، وكل أدب إسلامي   وكل عرف إسلامي ، وأصبحنا نسمع عن السرقات والرشوة والفساد ، و الهروب بالمليارات من أموال المسلمين ، وزرع بذور اليأس في قلوب المسلمين ، وإقناعهم باستحالة النهوض من هذه الكبوة التي وقعوا فيها ، مما أدى إلى زيادة التدخل الأجنبي  والذي أثر سلبياً على صناعة القرار السياسي وتعريضه للمزيد من الضغوطات .

فما الخلاص ؟ سأل عبدُ اللهِ بن مالك الفضيلَ بنَ عياض ما الخلاص مما نحن فيه ؟ قال: أخبرني، من أطاع الله هل تضره معصية أحد ؟ قال: لا ، قال: فمن يعصي الله هل تنفعه طاعة أحد ؟ قال: لا  قال: هو الخلاص إن أردت الخلاص ﴿ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ﴾ .

 

 

 

الحكمة من تأخير عذاب  من كفر وظلم

يقف العالم اليوم في منعطف خطير، خطير لما وصل إليه الكفر من عنجهية واستكبار وكفر بالله الواحد القهار، وخطير لما وصل إليه حال المسلمين اليوم من ذلة وفرقة واختلاف ، فما السبب وما المخرج، وما الذي أوصلنا إلى ما نحن فيه من ضروب الذلة؟ وما هو مصير الأمم الكافرة الباغية المتجبرة؟ وهل هي أشد على الله من الأمم التي أهلكها؟ ومتى يصيبها ما أصاب السابقين؟ ، اقتضت حكمة الله عز وجل أن يعجل عقوبة بعض الذنوب في الدنيا، وقد يكون ذلك من باب الاعتبار والاتعاظ بما يصيب العصاة ، كما هو الحال في الظالمين ، وقد يكون تعجيل العقوبة من باب إرادة الخير بالمؤمن لأن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ، أما الكفار  فإنَّ المركزَ الأصيل لعقوبتهم هي الدَّارُ الآخرة، وقد يَظهر شيءٌ منها في الحياة الدنيا لحكمٍ ربَّانيَّة ، إن قاموا بما يَستوجبُ تعجيلَ العقوبةِ في الدُّنيا، كالظُّلم مثلًا، فقد قُوبلوا بأنواع من العقوبات والنَّكبات في حياتهم الدُّنيا قبل الآخرة، وما قَصص الدُّولِ والأمم البائدة المذكورة في القرآن عنَّا ببعيد، قال صلى الله عليه وسلم: ( إِنَّ اللهَ تَعَالَى لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ، قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ: ﴿ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيد ﴾ هود 102 .

وهذا لا يعني بحال من الأحوال ، أن نقف مكتوفي الأيدي أمام ظلم الظالمين وتجبر الكافرين ، ونقول : للبيت رب يحميه ، قال تعالى: ﴿ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ  كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ الحج40، فقد اقتضت حكمة الله تبارك وتعالى أن تكون هناك سنة للتدافع في هذه الحياة الدنيا ؛ بين الخير والشر، بين المؤمنين والكافرين ، يقوم بمقتضاها الكافرون بفتنة المؤمنين عن دينهم بنشر الشبهات والاستهزاء بشرعهم ونبيهم، وهنا يطلب  من المؤمنين أن يدافعوا عن أنفسهم ودينهم وعقيدتهم؛ ولا ينتظروا قصاص الله العاجل ، ممن يظلم ويسيء لدين الله  ونبيه ، وقد ترك الله  الدفاع عن دينه ونبيه وشريعته وقرآنه للمسلمين ، ليدافعوا عن دينهم وعقيدتهم، دون تدخل من السماء؛ وذلك لتفعيل سنة التدافع بين الخير والشر، وليتخذ الله من المؤمنين أولياء وشهداء  بخلاف ما كان عليه الحال قبل بعثته صلى الله عليه وسلم، فعندما جاء أبرهة الحبشى؛ ليهدم الكعبة، قال عبد المطلب جد النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم الذى كان يعبد الأصنام من دون الله: (للبيت رب يحميه) فأراد الله تبارك وتعالى وقد خلت الدنيا من الموحدين وأتباع الرسل ، أن يبين لهؤلاء المشركين أنه -حقًا- للبيت رب يحميه  وليثَّبت هذه الحقيقة في قلوبهم، أرسل الله الطير الأبابيل التي تحمل حجارة من سجيل للقضاء على المعتدى الظالم، أما بعد بعثة النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم  ووجود الموحدين وأتباع الرسل، فقد ألقى الله على عاتقهم عبء حماية الدين والعقيدة ، من كيد الكائدين واستهزاء المستهزئين؛ ليكون هناك دفع ، وليتخذ الله من المؤمنين المدافعين عن شريعته ودينه شهداء ولتتحقق سنة الله في الأرض ﴿ لِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء ﴾ آل عمران140 ، قال ابن كثير : "ذكروا أن رجلاً من جرهم يُقال له: إساف بن بغى وامرأة يقال لها: نائلة بنت وائل ، اجتمعا في الكعبة فكان منه إليها الفاحشة ، فمسخهما الله حجرين فنصبهما الناس قريبًا من البيت؛ ليعتبروا بهما" فالله تبارك وتعالى أبَانَ للناس قبل مبعث النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم عقوبة من يعبث في هذا البيت، وأثبت لهم (أن للبيت ربًّا يحميه) أما بعد بعثته صلى الله عليه وسلم فالحماية ملقاة على عاتق المسلمين؛ ليدافعوا عن دينه وبيته وشريعته فهم خلفاؤه في الأرض ، واليوم نرى مخالفات شرعية من مثل فعل إساف ونائلة بالبلد الحرام، والعناية الإلهية لم تتدخل أبدًا بالمسخ أو الحرق أو العقاب الفوري؛ لأن الله تبارك وتعالى أقام شرعه في الأرض ليقوم المسلمون بتطبيقه وتنفيذه ، وقد اقتضت حكمة الله ، أن يكون هناك شرع  يأمر بالعدل والإحسان ، وينهى عن الظلم والعدوان، وأن يتولى المسلمون الدفاع عن هذا الدين ، بإعداد القوة والضرب على يد المعتدي الظالم، لا أن يقولوا (للبيت رب يحميه).

 وها هي إسرائيل تعيث في الأرض فسادًا، وها هي أمريكا تساعدها في غيها وضلالها ، وهما في الكفر سواء، ومع كفرهم وظلمهم وبغيهم في الأرض لم ينزل الله عليهم صاعقة من السماء، أو يرسل عليهم طيرًا أبابيل ، ترميهم بحجارة من سجيل، لأن الله تبارك وتعالى ، اقتضت حكمته أن يترك تصريف مثل هذه الأمور ، لخلفائه في الأرض من المسلمين الموحدين ، ليعدوا لهم ما استطاعوا من قوة وبأس.

أما أصحاب ثقافة (للبيت رب يحميه) فهؤلاء كُثر في هذه الأمة ، التي أصبحت غثاءً كغثاء السيل ، فلم تعد لهم شوكة ولا يخشاهم أعدائهم .

وأصحاب هذه الثقافة لم يتربوا على القرآن والسنة ولم يعلموا أن نبينا صلى الله عليه وسلم  حثنا على العمل والجهاد  لطلب معالي الأمور وعدم الركون إلى الأحلام الوردية، فقال صلى الله عليه وسلم:  ( اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ ). وهذا النمط من التفكير يختلف تمامًا عما جاء به النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، فقد كان يعمل ويجاهد في الحياة الدنيا، فقد كان يجاهد بنفسه في الغزوات، ويأمر أصحابه بالاستعداد الكامل ، ففي بدر كان صلى الله عليه وسلم يضرب أروع الأمثلة في الجهاد والصبر على قتال المشركين، وفي أُحُدٍ كاد أن يُقتل لولا عناية الله به فما وقف وقال : إن للدين ربًّا يحميه ، بل قال: للدين ﴿ رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا﴾ .

وفى الخندق حفر بنفسه الشريفة مع أصحابه ولم ينتظر حل السماء بل حمل على عاتقه التراب، وجاع واشتد جوعه؛ فعل كل هذا ليُعلِّم أصحابه العقيدة الصحيحة في الدفاع عن الدين بالنفس والمال ، فما قالوا : للدين رب يحميه ، بل كان قولهم: لتكن إحدى الحسنيين؛ إما النصر أو الشهادة.

بهذه العقيدة الحية فتحوا الدنيا ، وخضعت لهم الأرض، أما عقيدة للبيت رب يحميه ، فقد انزوت بالمسلمين في خندق الموت، علماً بأن الكفار يسعدون بهذا النمط من التفكير والتعامل مع الأحداث ، ولا نجاة  منه إلا بالعودة الصحيحة لمنهج القرآن والسنة والعقيدة الصحيحة ، بذلك يدفع المسلمون عن أنفسهم الذل والخنوع ؛ ويحرزوا خيري الدنيا والأخرة.

 وعندما نستعرض تاريخ المخازي والخطايا والأخطاء من طغيان روحي وفكري ومالي وسياسي وعلمي وفساد خلقي وانحراف فكري وسلوكي ومساندة للظلم في جميع ألوانه ، وتخذيل للمصلحين وتخدير للمظلومين ، وصد عن سبيل الله وتشويه لصورة دينه دون رد فعل من المسلمين ، الأمر الذي يغري الطغاة بالاستمرار في طغيانهم ، ظانين أن الأمور ستظل في أيديهم أبدا وأنها غير قابلة للتغيير .

ولكن عبر التاريخ قائمة لمن يريد أن يعتبر وما يعتبر إلا أولو الألباب ، أما الطغاة فمطموسو البصيرة وأني لهم أن يعتبروا ؟ قال تعالى : ﴿ قل انظروا ماذا في السموات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون ﴾ ولكن النفوس تخضع لجبروت الطغيان خوفا وطمعا في أول الأمر ، لان الطغاة يحمون جبروتهم ، بشتى وسائل الحماية ، من ترغيب وترهيب .. ثم تتبلد النفوس من جهة ، ويأخذ الطغيان صورة الأمر الواقع من جهة، فيستقر في الأرض فترة تطول أو تقصر ، فيتخيلون فيها أنهم باقون للأبد ، ولا يمكن زحزحتهم ولا تبديل الأحوال التي مكنت لهم في الأرض .  وعندما تتململ الشعوب ، يلجأ الطغاة إلي جبروتهم  ويستخدمون وسائل الإرهاب ، لوقف تململهم واحتجاجهم ، وتأديب الخارجين ، لكي يكونوا عبرة الآخرين ، وتلك بداية النهاية ، فعندما يشتد الجبروت   تتولد المقاومة المتزايدة له في داخل النفوس  وبمقدار ما يشتد ويمعن في الطغيان ، يحدث الانفجار   ويكون كالطوفان ! فكانت الثورات بكل ما تضمنت من ألوان العنف والبطش والقتل وإسالة الدماء ، تهز النائمين ليصحوا ، وتزيل ما تبلد في نفوسهم ، وتشعرهم أن التغيير ممكن وأن النصر مع الصبر تحقيقا لقوله تعالى : ﴿ واعلم أن النصر مع الصبر ﴾ .

 

 

 

 

سنة التدافع بين الحق والباطل

 الحق هو: الواجب والصحيح والثابت شرعاً اعتقاداً وقولاً وفعلاً ، والباطل ضده ، فهما ضدان يتدافعان فكل حق ضده باطل, وكل باطل ضده حق ، ولا يجتمع الضدان, والتدافع بينهما يعني محاولة غلبة كل منهما للآخر, وهذا يتمثل بمدافعة أصحابهما ، لأنهما اللذان يحملونـها. وهذا التدافع أمر لا بد من وقوعه  فلا يمكن بقاء أحدهـما إلا ويغالبه الآخر. يقول الله تعالى مقرراً هذه السنة الكونية: ﴿ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ﴾ البقرة 251  فمحاولة جمع البشر جميعا على مذهب واحد   وسياسة واحدة ونظام واحد ،كما يروج له النظام العالمي الراهن ، غير ممكن ولا واقع ، لأن الله جل وعلا لم يشأ ذلك ، ولم يرده كونا وقدرا كما قال سبحانه ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾ هود 118 ، فلولا أن الله سبحانه وتعالى يدفع أهل الباطل بأهل الحق ، وأهل الفساد بأهل الصلاح والإصلاح ، وأهل الظلم بأهل العدل ، لغلب أهل الباطل وطغوا في الأرض ، وقد اقتضت سنة الله أن تكون مع الحق تؤيده وتنصره قال تعالى: ﴿ ويمحُ الله الباطل ويحقُّ الحق بكلماته ﴾ الشورى 24 وقال : ﴿ وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا ﴾الإسراء 81 . فأهل الباطل لا يكفيهم بقاؤهم على الباطل ، بل يسعون إلى سحق الحق وأهله ، وصد الناس عنه بالقتال وبذل المال ، وهذا شأن الباطل وقوته ، هذه القوة تدفعه إلى إزالة الحقِّ وأهله بالقوة قال تعالى: ﴿ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ﴾ البقرة 217 ، وإذا كان هذا شأن الباطل وقوته التي تطغيه ، فلابد للحق من قوة تحميه من طغيان الباطل وأهله ، ولهذا أمر الله تعالى بإعداد القوة لإرهاب الباطل ، وأمر الله أهل الحق بالجهاد في سبيل الله بالمال والنفس ، لتكون كلمة الله هي العليا  وكلمة الذين كفروا هي السفلى : ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ ﴾ الأنفال 39   فكان من فضل الله على عباده ، أن شرع الجهاد وأكد عليه ، وشدد في أمره ، وربط الحياة به   وجعل التهلكة في تركه ، ليقوم المؤمنون بالجهاد   لمقارعة المفسدين، وقمع المتسلطين المجرمين ، فأهل الحق حرب على الباطل وأهله في كل زمان ومكان   والله ناصرهم مانصروا الحق .

إن حب السيطرة وتنازع البقاء بين البشر ، يجعلهم متصارعين متدافعين متغالبين . وهذا التدافع في تقديري ، لا يخص المسلمين والكافرين فحسب ، بل يشمل كافة الناس على اختلاف توجهاتهم واعتقاداتهم ، غير أن الصراع الأقوى والتدافع الأبرز ، هو التدافع بين الحق والباطل   وأصحاب الحق وأصحاب الباطل ، وهذا لا مفر منه  لأنهما نقيضان لا يجتمعان، ولأن تطبيق أحدهما يستلزم دفع الأخر وإزالته، لأن كلمة التدافع تعني الإزالة بقوة ، حيث يسعى كل من أهل الحق والباطل إلى تنحية الآخر عن مكانه ومركزه   والغلبة عليه، ولذلك أمر الله المؤمنين بأخذ الحيطة والحذر بالإعداد ، والأخذ بأسباب القوة ، لإرهاب أهل الباطل ، ومنعهم من العدوان قال تعالى : ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ﴾ الأنفال 60 وقد ضمن الله لعباده النصر والغلبة على أهل الباطل ، وحكم على الباطل بالمحق والزوال ، قال تعالى : ﴿ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ ﴾ الشورى 24 .  

وقد بين الله لنا بما يدل على أنه سيوجد في الأمة الإسلامية في كل عصر من يحمل الرسالة , فكلما جاء جيل قيض الله تعالى منهم من يحمل الراية   ويقيم الحجة على أهل عصره فقال تعالى : ﴿ وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ﴾ 181 الأعراف   والاسم الخاص الذي ميز الرسولصلى الله عليه وسلمبه هؤلاء هو : الطائفة المنصورة في قوله صلى الله عليه وسلم: ( لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي مَنْصُورِينَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ ) رواه الترمذي,وابن ماجه وأحمد . يهدون بالحق, وبه يعدلون   وهي الطائفة التي يحاربها الأعداء ، ويضعون في طريقها الأذى , فلا يضرونها إلا بالتعب والجهد قال تعالى : ﴿ لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ ﴾ آل عمران. إن الصراع بين الحق والباطل سنة ربانية، ولولا هذا الصراع ما فرض الجهاد، وما خلقت النار وبئس المهاد، وما وجدت الجنة لخير العباد، ولما نودي يوم التناد: ﴿ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ﴾ الشورى 7  وجيء بالأشهاد. إنه صراع منذ قديم الزمان بين الموحدين والملحدين، وبين المشركين والمسلمين ، بين من يرجون الله واليوم الآخر، وبين من لا يرجون لله وقاراً ، وستبقى سنة الله ماضية ، والظافر: من كان في الحياة على البلاء صابر، والخاسر: من كان لكل حق مكابر

إن أعداء الإسلام يتناصرون بمقتضى العداوة ، وقد يكون بينهم من الخلاف والصراع ، الشيء الكثير   لكنهم حين يواجهون الإسلام يكونون صفاً واحداً  فاليهود والنصارى بينهم عبر التاريخ خصومات طويلة , ومع ذلك كما يقول الله تعالى : ﴿ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ ﴾ المائدة 51 في حرب الإسلام  ومواجهته , فهم حين يكون العدو هو الإسلام ينسون خصومتهم الداخلية  والفرعية  ويوحدون المواجهة ضد الإسلام وأهله , لذلك على حملة الإسلام أن يكونوا أولياء بعضهم لبعض , وأن لا ينشغلوا ببعضهم البعض ، لأنهم بحاجة ماسة إلى أن يجتمعوا تحت راية واحدة ، مهما اختلفت اجتهاداتهم وآراؤهم وبلادهم , فهذه القضايا ليست مدعاة إلى أن يتفرق أهل السنة والجماعة . إلا إذا كان الخلاف خلافا عقدياً ، فهنا لابد من توضيحه , لئلا يلتبس الحق بالباطل على الناس .

هناك حرب إعلامية ضد الإسلام وحملته, حملةٌ تشوه الحق وتلبسه لبوس الباطل، وتلبس الباطل لبوس الحق  بزخرف القول ، قال تعالى : ﴿ شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ﴾ 112الأنعام ، فالآية توضح الجهد الذي يبذله أهل الباطل في تزيين باطلهم, وفى تشويه الحق  ولذلك نجد  الحملة الإعلامية العالمية اليوم ضد الإسلام تسمي المسلمين: بالأصوليين, أو المتشددين أو المتطرفين أو الإرهابيين ، وغير ذلك من العبارات التي تبثها وكالات الإعلام العالمية, وتتناقلها حتى الإذاعات والصحافة في البلاد الإسلامية على أنها عبارات دارجة ، وما تهييج الغريزة والجنس والإثارة ، والأفلام والمسلسلات والمسرحيات ، وغير ذلك من وسائل الهدم والتخريب ، التي تبثها وسائل الإعلام ، والتي تسير في اتجاه زخرفة الباطل وتلبيسه بالحق ، ما يؤكد أن الكلمة من أخطر ميادين الصراع ، فكما أن لكلمة الحق وقع كبير , فإن لكلمة الباطل تأثير كبير, ولذلك فإن أهل الباطل يعملون على زخرفة باطلهم بالعبارات الرنانة والكلمات المعسولة, وما ينخدع بها إلا من قال الله فيهم : ﴿ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ ﴾  113الأنعام   

إن لوسائل الإعلام الأثر البالغ في تغيير مفاهيم الناس وسلوكهم وآراءهم, وهناك الكثير من القضايا الاجتماعية ، استطاع الإعلام أن يغير فيها سلوك الناس ، فقامت صحف ومجلات وكتاب يهاجمون ما أسموه (التقاليد) وهم يقصدون الدين الذي ورثه المسلمون عن آبائهم وأجدادهم ، وينادون بضرورة تحطيمها ، وتخليص المجتمع من أغلالها.. ومما ركزوا عليه تحطيم حجاب المرأة وسترها، وعفافها   ووجوب الاختلاط وإباحة التكشف والعري .

وفي عالم السياسة ، قامت أحزاب تبعد الدين عن مجالاتها ، وتحرم الخوض فيه، وفي عالم الاقتصاد  قامت بنوك ومؤسسات ربوية تتعامل بالربا ، وفي عالم الفكر ، قامت نظريات وآراء وأفكار تسخر من الدين، وتنظر إليه على أنه خرافة وجهل وتأخر .  

 لقد تجلى الصراع في هذا العصر بين الإٍسلام والكفر، فنرى الأعداء يجدون ويشدون، ونرى المسلمين في غفلتهم يعمهون، عن معاينة هذا الصراع، وعن الأخذ بأٍسباب القوة والحذر: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعًا﴾ النساء  71 . إن أخذ الحذر سنة شرعية يأثم المسلم بالتفريط فيها كما أنه سنة كونية أمرنا باعتبارها بل وتسخيرها لخدمة الحق الذي نؤمن  وكما جاء في الحديث : ( الحكمة ضالة المؤمن فحيثما وجدها فهو أحق بها ) الترمذي، وقد أدى غياب هذا الجانب إلى إجهاض الأعمال، واكتشاف الأسرار واختراق الصفوف، وضياع الفرص وذهاب الرجال، ونشر الفتنة ﴿ فاعتبروا يا أولي الأبصار ﴾ الحشر 

 

 

من نحارب ونجاهد

لأجل من نحارب أهلنا وشعبنا وكلنا جياع ؟   لأجل من نحارب وأعداء الله قد عاثوا في الأرض فسادا ، وأهلكوا الحرث والنسل ، لأجل من نحارب  ورائحة الخيانة والخذلان ، والإخلاد إلى الأرض وترك الجهاد في سبيل الله تزكم الأنوف؛ لأجل من نحارب عباداً لله تعالى لا يرضون بالحياة إلا عزيزة كريمة، يرفضون العيش في ظل الإستعباد، شعارهم :

لا تسقني ماء الحياة بذلةٍ  وأسقني بالعز كأس الحنظل

لأجل من نحارب من إذا أذن مؤذن الجهاد؛ جعلوا الدنيا بما فيها من زخرف ومتاع خلف ظهورهم  وحملوا السلاح ، وضحوا في سبيل الله بكل غالي ونفيس ، ضحوا بأسرهم؛ وأسرة الإنسان أعز ما عنده، ضحوا بأموالهم والمال نفيس، ضحوا بالمسكن والمسكن عزيز، وضحوا بأغلى من ذلك كله يوم ضحوا بأنفسهم وشعارهم :

ورؤسنا يا رب فوق أكفنا  نرجوا ثوابك مغنماً وجوارا

لأجل من نحارب من باعوا أنفسهم لله تعالى: ﴿ إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ .

إن ما يجري في بلاد المسلمين ، يحير المتكلم ، حتى لا يدري عما يتكلم وبما يتكلم ، فهل نتكلم عن جراحات المسلمين وما أصابهم من آذى الكفار؟ ﴿ لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ ﴾ . أم نتكلم عن الأعراض التي انتهكت، والأموال التي سلبت، والكنوز التي نهبت؟   أم عن المساجد التي هدمت والأرض التي اغتصبت؟   أم عما يصيب المؤمنين في ديار الإسلام من تسلط الأعداء عليهم وغلبته وأذاه لهم ، أم عن من يتقاعسون عن نصرة إخوانهم ، يقفون مكتوفي الأيدي مكبلين أنفسهم وشعوبهم بما يسمى بالشرعية الدولية ، التي لم ولن تقدم شيئاً أبدا ، لرد         الهجمة الهمجية الإرهابية الحاقدة على المسلمين ؟ ثم ماذا نحن قائلون لربنا سبحانه يوم القيامة إذا سألنا عن ذلك؟ ﴿ أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ* لِيَوْمٍ عَظِيمٍ* يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ المطففين 3.

إن معركة الإسلام والكفر ، معركة محسومة الخاتمة ومعلومة النتيجة قال تعالى ﴿ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ ﴾ ، فلماذا إذن لا نقاتل ونجاهد في سبيل الله ، من غزا ديار المسلمين ، وسام أهلها سوء العذاب، يذبحون أبنائهم ، ويستحيون نسائهم   ولماذا لا نقاتل  من والى الكفار الذين قتلوا العباد وأفسدوا البلاد ، وعاثوا في الأرض الفساد ، ولماذا لا نقاتل من انتهكوا الأعراض ، وصار الحق عندهم باطلا، والباطل حقا ، وهو ما أخبر عنه صلى الله عليه وسلم حين قال : ( يأتي على الناس سنوات خداعات، يُصدق فيها الكاذب، ويُكذب فيها الصادق، ويُؤتمن فيها الخائن، ويُخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة)، قيل: وما الرويبضة؟ قال: (الرجل التافه يتكلم في أمر العامة) رواه أحمد ، لماذا لا نقاتل ونجاهد في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا؛ وقد أمرنا الله بذلك فقال تعالى : ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله ﴾ ، ولماذا لا نجاهد ، والجهاد في سبيل الله من أفضل القربات وأجل الطاعات، بل هو أفضل ما تقرب به المتقربون ، وتنافس فيه المتنافسون، ولماذا لا نقاتل وقد أمر الله نبيه أن يحرض المؤمنين على القتال فقال تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ﴾ ، ولماذا لا نضرب الأعناق كما أمرنا الله القائل : ﴿ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ﴾ ألا فاليحذر الذين اتخذوا المكر سلاحاً والنفاق ملاذا  والذين اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله ، ويحاولون أن يجمعوا بين الكفر والإيمان ، وبين التوحيد والشرك، ويقولون: إنما أردنا إحسانا وتوفيقا، وهم في الحقيقة إنما صنعوا إساءة وتلفيقا ، ألا فليحذروا من مقت الله وغضبه ، ومن عاقبة المكر في الدنيا والآخرة، قال تعالى: ﴿ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾ ، وقد يؤجل الله العقوبة إلى الآخرة يقول عز وجل:﴿ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ﴾القلم 44. يستدرجهم بالنعم على المعاصي التي يفعلونها  فيستر عليهم ولا يؤاخذهم ، فيكون ذلك من أسباب العقوبة في الآخرة ، أو من أسباب عقوبة كبيرة عظيمة في آخر الحياة قبل الوفاة ، ليحذر الإنسان ولا يأمن يقول جل وعلا: ﴿ أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ الأعراف99.

ثم لماذا لا نقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كانت حياته  كلّها جهاد في سبيل الله و عدم الركون إلى الّذين كفروا ، فكيف تركن أمتنا إلى الذين احتلوا أرضنا و نهبوا ثرواتنا وانتهكوا أعراضنا ، وكيف تركن لمن أرادوا أن يربّوا الأمّة على الخضوع إلى القوانين الوضعية ، ويتناسوا فرضية تحكيم الشريعة الربانية ، وكيف نركن إلى الّذين زاغت قلوبهم فنشروا الفتنة والكذب على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فحرّفوا النصوص عن مدلولاتها الربّانية وجعلوا لها بتزويرهم مدلولات طاغوتيه ، فحسبنا الله و نعم الوكيل .

 

 

 

أثر الجهاد في إعزاز الأمة

إن العالم الإسلامي يعاني من الضعف والخذلان  بسبب تخليه عن الجهاد في سبيل الله ، الذي أمر الله به في قوله تعالى: ﴿ انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ﴾ التوبة41 , وجاءت الأحاديث تبين ما أعده الله للمجاهدين في الجنة من النعيم فقال صلى الله عليه وسلم: ( إن في الجنة مئة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض) والحديث عن الجهاد وأثره في إعزاز أمة الإسلام ونصرة دين الله يطول، وقد عرف الإسلام للجهاد عظيم خطره ، وكبير أثره فجعل غدوة أو روحة في سبيل الله خيراً من الدنيا وما فيها  وفضل المجاهدين على القاعدين أجراً عظيما؛ ويكفي أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر في الأحاديث الصحيحة أن الأمة سيصيبـها الذل والصغار ، إن هي تركت الجهاد في سبيله، وأنـه لا يُرفع عنـها لباس الذل والهوان إلا بالعودة الصادقة إلى ممارسة هذه الشعيرة، وتربية الأجيال على معانيها، وطلب معاليها، يقول سيد قطب : "والعذاب الذي يتـهددهم ليس عذاب الآخرة وحده؛ فهو كذلك عذاب الدنيا، عذاب الذلة التي تصيب القاعدين واستغلالها للمعادين، وهم كذلك يخسرون من النفوس والأموال أضعاف ما يخسرون من الكفاح والجهاد... وما من أمة تركت الجهاد إلا ضرب عليها الذل فدفعت مرغمة صاغرة لأعدائها أضعاف ما كان يتطلبـه منـها كفاح الأعداء" ، فلماذا التخاذل والتقاعس عن الجهاد ؟ وهل نحن في غنى عن رضا الله عز وجل وعن النعيم الذي أعده الله للمجاهدين ؟ أم أننا لسنا أهلا للجهاد وخوض المعارك والدفاع عن أراضي المسلمين ؟ أم أن الخوف من الأعداء جعلنا نجبن ونتخاذل فنكون ممن عناهم الله بقوله : ﴿ إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ التوبة39. أم أننا نتجاهل أن الجهاد فرض عين على كل مسلم عندما تحتل بعض البلاد الإسلامية ، التي أهين فيها الإسلام والمسلمون ، وانتهكت أعراضهم ، وقتل أطفالهم وشيوخهم وشردوا من أوطانهم ، أم أننا نخاف الموت ونسينا مقولة أسلافنا " اطلب الموت توهب لك الحياة " وكان قائلهم يقول : 

إِذا سَيدٌ مِنَّا مَضَى قَامَ سَيِّدٌ    قَؤولٌ بِمَا قَالَ الكِرام فَعولُ

ومن قَلَّبَ صَفَحَات التَّارِيخ قُديمُه وحدِيثُه رَأى العَجَب العُجَاب ، فما أن يَمضِي جيلٌ إِلَى دار المُستَقَر, حتَّى يأْتِي غيره ليُذِيق الكُفَّار سَقَرْ ، وَهكذا هي عَجلة النَصر وَالتمكين ، والظفر لِهذهِ الأُمة لا تَتَوَقف ، بل تبقى سائرة على دَرْبِ الكِفاح والنِضَال حَتى يَأذن الله بِالنَصْرِ ، عَجَلَةٌ تُحرِكُها دِماء الشُهَداء, وَأشلاء الأولياء, وتعب وتضحيات الصالحين الأتقياء ، وَمَن أَخَذهُ عَقله القَاصِر إلى تَصوُّرِ أنَّ الجِهادَ سَيتَوَقف بِقتل المسلمين ، فَهوَ عَلى ضَلالٍ مُبين ، كَيف! والله سُبحانه تَكَفَّل بِنَصرِ دِينه وَاظهَارِه ولو كرِه المُشركُون قال تعالى: ﴿ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ ﴾ ألا فليعلم أعداء الله أنَ قَتلَ المسلمين لَم ولَن يُثنيهم عَن المضي قُدُماً في نُصرَهِ هذا الدين ، بل إنَّ قَتلَهم دَليل على صِدقِ أَقوالهم, وَصَفاءِ مَنهَجهم وإخلاصِهِم مَعَ رَبِهم ، وَدِمَاء الشُّهَدَاء  نُور وَنَار  نورٌ: تُنيرُ لَنا طَريق العزة والتمكين ، ونارٌ: تَلْفَحُ أعداء الملة والدين ، تلك هي أمنية المسلم الحق  جهادِ في سبيل الله حَتى يَنصُرَ الله دِينه أو يموتَ دُون هَذهِ الغاية الغالية ، وإذا ترك المسلمون الجهاد في سبيل الله ، وآثروا حياة الدعة والراحة ، وركنوا إلى الدنيا ، أصابهم الذل والهوان ، وفسدت أمورهم   وعرضوا أنفسهم لمقت الله وغضبه . وتعرض الإسلام للضياع ، وطغيان الكفر عليه . ولذلك كان ترك الجهاد من كبائر الذنوب روى أبو داود عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : ( إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ   وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلا لا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ ، كررها ثلاثا ) . صححه الألباني في صحيح أبي داود . وقد صدق رسولنا صلى الله عليه وسلم، فإن الناظر إلى أحوال المسلمين اليوم يرى أنهم قد فرطوا في دينهم تفريطا عظيما  فأكلوا الربا ، وركنوا إلى الدنيا ، وتركوا الجهاد في سبيل الله . فماذا كانت النتيجة ؟ ألزمهم الله الذل في أعناقهم ، فهم يلجؤن إلى الشرق أو الغرب خاضعين ذليلين يطلبون منهم النصر على الأعداء   وما عرف أولئك أن الذل لا يرفع عنهم حتى يرجعوا إلى دينهم كما أخبر الصادق المصدوقصلى الله عليه وسلم.

قال سيد قطب : لقد شاهدتُ في عمري المحدود – وما زلت أشاهد – عشرات من الرجال الكبار يحنون الرؤوس لغير الواحد القهار، ويتقدمون خاشعين، يحملون ضرائب الذل، تثقل كواهلهم  وتحني هاماتهم، وتلوي أعناقهم، وتُنَكِّس رؤوسهم   ثم يُطْرَدُون كالكلاب، بعد أن يضعوا أحمالهم  ويسلموا بضاعتهم، ويتجردوا من الحُسنَيَيْن في الدنيا والآخرة، ويَمضون بعد ذلك في قافلة الرقيق، لا يَحُسُّ بهم أحد حتى الجلاد ". والمصيبة أننا نعرف طريق العزة ولا نسعى إليها ، ولقد صدق القائل

لقد أسمعت لو ناديت حيا     ولكن لا حياة لمن تنادي

ونارا لو نفخت بها أضاءت   ولكن أنت تنفخ في رماد

 فكيف يطيب لنا الأكل والشرب والنوم   والمسلمون يقتلون في كل مكان ، وتنتهك أعراضهم وتداس كرامتهم ، وكيف تطيب لنا الحياة والكفار والأعداء يسرحون في بلادنا ويعيثون فيها فسادا وهم كما قال الله ﴿ لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً ﴾ التوبة10 . وكيف يطيب لنا عيش وهم يقتلون أبنائنا ويحتلوا قدسنا ، كيف يطيب لنا العيش وقد تخلينا عن حق المواساة والنصرة لإخواننا يقول النبيصلى الله عليه وسلم: ( المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يُسلمه ) – أي إلى عدوه  وزاد في رواية ( ولا يخذله ) أي: لا يترك نصرته في موطن يحتاج فيه إلى النصرة والمواساة ( من كان في حاجة أخيه، كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرّج الله عنه كُربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة ) متفق عليه ، فمن صدق الله، وجاهد في سبيله مخلصاً له سبحانه ، وفقه وهداه ، ويسر له سبل الخير والبر، وفتح له أبواب الجهاد والنصر، ومن ظل يضرب كفاً بكف، ويعتذر لقعوده عن نصرة المسلمين ومواساتهم ، بعدم القدرة على فعل شيء فليراجع إيمانه، وليعلم أن فيه خللاً ، لأن الشعور بواجب الإخوة، والقيام بحقوقها منبعه ودافعه هو الإيمان، فكلما كان الإنسان أكثر إيماناً، كان أكثر محبة للمسلمين، ونصحاً لهم ، واهتماماً بشأنهم  وسعياً في مناصرتهم ومواساتهم ، وإذا ضعف الإيمان في النفوس، استحكمت الأنانيات، وعظم حب الذات، وأصبح الإنسان حبيس مصالحه الشخصية  ومنافعه الذاتية ، لا يرى غير نفسه، ولا يشعر بحق إخوانه عليه، ولا يكترث بما يحل بهم من مصائب ونكبات، كأنه لا تربطه بهم رابطة، ولا تجمع بينه وبينهم صلة، وليس لهم عليه حقوق ولا واجبات    لا يهتم بشئونهم، ولا يعلم شيئاً عن أحوالهم، بل لا يريد أن يعلم، فضلاً عن أن يتألم لآلامهم، ويشارك في نصرتهم، ودفع الأذى والظلم عنهم ، ولهذا نجد بعض الناس ممن رقّ دينهم، وضعف إيمانهم، يتأفف ويتبرم، حين يُحدَّث عما يعاني منه المسلمون   ويقول بلسان حاله وربما مقاله: ما لنا ولهم؟ لسنا مسئولين عنهم، ولسنا مكلفين بهم؟ هكذا يتكلم ضعاف الإيمان، وبمثل هذا يتفوهون، كبرت كلمة تخرج من أفواههم لو كانوا يعقلون. أين أخوة الإيمان؟ أين الأمة الواحدة؟ أين الشعور بالجسد الواحد؟ أين البنيان المرصوص الذي يشد بعضه بعضا؟

كم يستغيث المستضعفون وهم   قتلى وأسرى فما يهتزُّ إنسانُ

ما ذا التقاطع في الإسلام بينكمُ   وأنتمُ يا عباد الله إخوانُ

 ألا يعلم هؤلاء المقصرون في حق إخوانهم أن الله ابتلى أولئك بالمصائب ليصبروا ويثبتوا ويجاهدوا  وابتلانا بالنعم لنشكر وننصر، ونعين ونواسي  ونجاهد بأموالنا وألسنتنا ودعواتنا وعقولنا ومشاعرنا؟  ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ﴾، ﴿ ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ ﴾ فالله تعالى قادر على أن يهلك الظالمين في لحظة، ويأخذهم على حين غرة  ولكنه ابتلى بهم أهل الإيمان ، ليعلم المجاهد الصابر من القاعد الخامل، والمؤمن الصادق من الدعي المنافق: ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ﴾ . فصفو العيش لا يدوم، ومتاعب الحياة وأرزاؤها ليست حكراً على قوم دون قوم، وإن حساب الآخرة لعسير، وخذلان المسلم شيء عظيم خطير. ولله در القائل:

 يا راقد الليل مسروراً بأوله  إن الحوادث قد يطرقن أسحاراً

 فقد هان المسلمون أفراداً، وهانوا شعوباً، حين ضعفت فيهم أواصر الأخوة، ووهنت فيهم حبال المحبة والمودة، وقصروا في نصرة بعضهم بعضاً  وقعدوا عن القيام بحقوق بعضهم على بعض  فزالت هيبتهم وديست كرامتهم، وطمع فيهم أعداؤهم، فانتهكت الحرمات ، واستلبت الخيرات  واحتلت الديار ، وحالهم يقول: أكلت يوم أكل الثور الأبيض!! وصاروا يعيشون على هامش الحياة لا قيمة لهم ولا وزن، وأصبح دم المسلم أرخص الدماء، وحماه مباحاً لكل دعي ودخيل.

حين يقتل يهودي أو نصراني ، تقوم الدنيا ولا تقعد  وتتحرك الهيئات والجمعيات الدولية، والمنظمات الأهلية والحقوقية، وتستنفر وسائل الإعلام، ويعبأ الرأي العالمي لاستنكار ما حدث، وللثأر ممن قتل.

أما قتلى المسلمين فلا بواكي لهم، يقتل الألوف   ويشرد الملايين من أوطانهم ، فلا  تكاد تسمع منكراً، أو تجد ناصراً،  وصار الحال كما قال الشاعر:

قتْلُ امرئ في غابةٍ جريمة لا تغتفر  وقتل شعب كامل مسألة فيها نظر

وليس الحال فيما يجري ببلاد المسلمين ببعيد ، فإلى الله نشكو ضعفنا وهواننا على الناس، وإليه نشكو تفرقنا وتسلط بعضنا على بعض.

إننا لا ننتظر من أعدائنا أكثر مما يفعلون بنا، من ظلم وعدوان، وتواطؤ علينا، أو تجاهل لقضايانا  وسكوت عما يفعل بإخواننا  ، فهم أعداؤنا، لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة، ولن يرضوا عنا مهما تنازلنا لهم، وخضعنا لهيمنتهم، وسكتنا عن ظلمهم وابتزازهم، إنهم لن يرضوا عنا إلا أن نترك ديننا ونتبع ملتهم، وصدق الله إذ يقول: ﴿ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ ﴾ إنه لا يرد كيد أعدائنا إلا تمسكنا بعقيدتنا وهويتنا الإسلامية، وأخذنا بأسباب القوة، وتوحيد صفوفنا وأن يكون لدينا ثقة بالنصر، وإرادة قوية تكون عصية على الخنوع والركوع، أبية على الذل والانكسار، وأن نحذر من الركون لهؤلاء الأعداء والثقة بهم، وأن نعلم أنهم وإن أظهروا شيئاً من التعاطف والتأييد أحياناً ، فإنما يفعلون ذلك خداعاً وتمويهاً، وذراً للرماد في العيون، وامتصاصاً لحمية المسلمين وغضبتهم لإخوانهم المستضعفين، وحتى يكون لهم يد في صناعة الأحداث وتوجيهها ، بما يخدم مصالحهم ويحقق أهدافهم ، وذلك بقلب الحقائق، وتشويه الوقائع، فيجعلون الغاصب المعتدي مظلوماً مقهوراً، وعلى استخدام السلاح مكرهاً مجبوراً، وأما الضحية المظلوم فهو مستفز ظلوم، وإذا استغاث أو صاح بقاتله أو حاول الدفاع عن نفسه فهو إرهابي مجرم، وعندما ثار المظلومون على الظلمة   عملوا جاهدين على احتِوَاءَ هَذِهِ الثَّوراتِ ، وتَغْيير مَسَارِهَا ليْسَ أكثَر ، وَقَدْ نَجَحَوا لحَدٍّ بَعيِدٍ حتَّى الآنَ   لأنَّ الذِينَ قَامُوا بالثَّورَات  مَدْفُوعِينَ مِنْ قَهْرٍ ، وظُلْمٍ   ومُصَادَرَةِ أوطَانٍ ، وتَكْمِيمِ أفْوَاهٍ ، غَفِلُوا لِلَحْظَةٍ بِأنَّ الذي ظَلَمَهُم هُوَ نِظَامُ حُكْمٍ فَاسِدٍ ، وليْسَ رَأَسَ النِّظَاِم فَحَسب ، لِهَذَا مَا زَالَت الثَّوْرات تَحْتَاجُ إلى ثَوْرَةٍ ، لأن الرِّضَى بِبِقَاءِ الأَنْظِمَةِ بَعْدَ خَلْعِ رُؤُوسِهَا  ﴿كالتَّي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً ﴾  !

إن قضايا العالم الإسلامي ، ليست قضايا أرض وشعوب، ولكنها قضايا عقيدة ودين، ولا يمكن أن يكون حلها بالمفاوضات والمساومات والاعتراف للعدو بما اغتصب واحتل ، ولكن بالجهاد في سبيل الله، فالجهاد إذًا هو السبيل، ولسنا مسؤولين عن النتائج. فقد أمرنا الله بمجاهدة أعداء الله ورد عدوانهم ولم يطالبنا بتحقيق النصر، فالنصر من عند الله .   

 

 

 

 

دعاة الفتنة

وعن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّ بَيْنَ يَدَي السَّاعَةِ فِتَنًا كَقِطَعِ اَللَّيْلِ اَلْمُظْلِم  يُصْبِحُ اَلرَّجُلُ فِيهَا مُؤْمِناً وَيُمْسِي كَافِراً، وَيُمْسِي مُؤْمِناً وَيُصْبِحُ كَافِراً، اَلْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِن الْقَائِمِ والقَائِمُ خَيْرٌ مِن الْمَاشِي، والمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِن السَّاعِي، فَكَسِّرُوا قِسِيَّكُمْ، وَقَطِّعُوا أَوْتَارَكُمْ، وَاضْرِبُوا بِسُيُوفِكُمْ اَلْحِجَارَةَ ) . صور مرعبة هي مناظر القتل والتّقتيل بين فئتين كلاهما يدّعي الحق ، القاتل يقتل بكل قسوة   والمقتول يلفظ أنفاسه وهو يعلن الشّهادة والناس حيرى أمام ما يروا وما يسمعوا، بأيّ حق قَتل القاتل، وفي أيّ جريرة قُتل المقتول، إنّه زمان الفتن الّذي أمرنا النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام بأن نتعوّذ منه  قالصلى الله عليه وسلم : ( والّذي نفسي بيده ليأتينَّ على النّاس زمان لا يدري القاتل في أيّ شيء قَتل ولا يدري المقتول على أيّ شيء قُتل ) . فتن ذاق الناس فيها الاضطهاد وشربوا الذل والمهانة ، والتعذيب والتنكيل والتقتيل ، من أولئك المتطرفين الذين يمارسون ضغائنهم وحقدهم على إخوانهم ، بعمليات تدل على ما كان محتبسا ومحتقنا في نفوسهم وعقولهم وقلوبهم من حقد وبغضاء   واستهانة بالإنسان وحقوقه الدينية والمدنية والحياتية التي كفلتها له الشرائع السماوية والدنيوية .

" الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها " هذه العبارة يظنها بعض الناس حديثاً، وهي ليست حديثاً ، غير أنها عبارة صحيحة، وحكمة صائبة فهي تمتحن الناس في كل شيء، في دينهم وعقولهم . تمتحنهم في قيمهم وإنسانيتهم، وتمتحنهم في ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم ، الفتنة نائمة فلا ينبغي أن توقظ بصغير الشرر، فكم من عود اشتعل ورُمي جُزافا فأكلت نيرانه البشر والشجر، من المؤلم أن يتحول الإنسان إلى بوق للفتنة وهو يظن أنه يُحسن صنعا ! ومن تدبر الفتن رأى أن سببها الجهل والعصبية والضلال   والتطرف في الدين والفجور والغي في الدنيا، وأنها تقع من أهواء تتبع، وأحكام تبتدع ، ومن فتح لها قلبه قابلته بشرها، فيكون الخلاف  ويكون الصراع بين الحق والباطل ، يوقد نارَها أعداءٌ متربّصون  وكفرةٌ حاقدون ، وجهلةٌ قاصرون، منحرفون عن منهج الحق والعدل ، وهجمة تشتدّ ضراوتها  ويستشري ضررها، ويتفاقم خطرها ، فاختلطت المفاهيم، واختلّت الموازين، فهلك بسببها خلق كثير  وهكذا شأن الفتن إذا عظُمت في الأمة، كما وصفها بذلك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه بقوله: " تبدأ في مدارج خفية، وتؤول إلى فظاعة جلية، فتزيغ قلوب بعد استقامة، وتضلّ رجال بعد سلامة، وتختلف الأهواء عند هجومها، وتلتبس الآراء عند نجومها، من أشرف له قصمته، ومن سعى فيها حطمته، تغيض فيها الحكمة، وتنطق فيها الظلمة  وتثلِم منارَ الدين، وتنقض عقد اليقين، تهرب منها الأكياس، وتدبّرها الأرجاس، تقطَّع فيها الأرحام ويفارَق عليها الإسلام ، ثم يوجّه -رضي الله عنه- بعد ذلك إلى اجتناب الفتن فيقول: فلا تكونوا أنصاب الفتن، وأعلام البدع، والزموا ما عُقد عليه حبل الجماعة، وبُنيت عليه أركان الطاعة واقدموا على الله مظلومين، ولا تقدموا عليه ظالمين واتقوا مدارج الشيطان، ومهابط العدوان " ما أعظمه من وصف بليغ، وبيان دقيق، لحقيقة الفتن وواقعها وما أجلّها من نصائح صدرت من قلبٍ امتلأ إيماناً ويقينا، وبصيرةً وعلماً، ابتُلي بالفتن فخبرها  واصطلى بنارها فصبر عليها، وأبلى بلاء عظيماً في القضاء عليها، وسنّ فيها للأمة سننا باقيات إلى أن تقوم الساعة ، وما تزال الفتن في الأمة تظهر عبر عصور الإسلام بين الحين والآخر، حتى ابتليت أمة الإسلام بما يحدث الآن على الساحة من أحداث وتداعيات، وما أبرزته من فتن تلاطمت أمواجها، ومحنٍ هاجت أعاصيرها، وطال بلاد الإسلام وأهلَ الإسلام منها عظيم الأضرار وبالغ الأخطار، فهي أم الكبائر والجرائم ؛ قال صلى الله عليه وسلم : (بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا أو يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ من الدُّنْيَا قَلِيلٍ ) رواه مسلم وأحمد والترمذي عن أبي هريرة واللفظ لأحمد. نعم يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل عندما يرضى أن يقتل النفس المحرمة بقليل من سحت الدنيا، أو مجاملة لعدو أو صديق ، أو طمعاً في جاهٍ أو منصب يبيع دينه بدنيا غيره ثم لا تبقى الدنيا له ولا لغيره ، وقد قال بعض العقلاء ممن أريد منهم أن يقاتلوا مع بعض الخلفاء والولاة، ممن لا يُقاس بهم أحدٌ من حكام اليوم:

وَلَسْتُ بِقَاتِلٍ رَجُلا يُصَلِّي  على سُلْطَانِ آخَرَ من قُرَيْشِ

له سُلْطَانُهُ وَعَلَيَّ جُرْمِي      مَعَاذَ اللَّهِ من فَشَلٍ وَطَيْشِ

أَأَقْتُلُ مُسْلِمًا في غَيْرِ جُرْم   فَلَيْسَ بنافِعِي ما عِشْتُ عَيْشِي

بالفتنة تتردى الأخلاق، وتُتجاوز الآداب، وتسوء الظنون، وتتحكم الأهواء، بالفتنة تُقطع الأرحام  وتُكتسب الآثام،ويعم الخوف والفقر، وتُسفك الدماء، وتتوقف عجلة الحياة الكريمة، ولا يعيش الناس في ظلها إلا في الذل والخوف والجوع والدماء والأشلاء، وفي ظلها يُحتكم إلى الأعداء، وتُسلم المقاليد للطامعين والمعتدين، إلى غير ذلك من مآسيها وثمارها المرة ، وها هي قد استيقظت وأسفر وجهها الكالح البغيض، وأطلت بقرونها وارتفعت عقيرتها كنعيب الغراب الذي لا يبشر إلا بالشر، ويتحمل مسؤوليتها من أبى المخارج التي ناد بها المخلصون والحريصون على وأد الفتنة ورأب الصدع وإخراج البلاد والعباد من النفق المظلم يتحمل مسؤوليتها من رفضها ووضع العراقيل في طريقها من أجل الهوى وشهوة السلطة والاستعلاء ، يتحمل مسؤوليتها من أشعل فتيل الحرب وضحى بالدماء المعصومة والحرمات المصونة، من أجل نزواته أو نزوات من يحيط به من بطانة السوء.

أما علم دعاة الفتنة أن أعظمَ ما يملكُ الإنسانُ دينَهُ وشرفه، وأن أيامُ الفتنةِ سوقٌ يُباع فيها الدينُ والشرفُ بأبخسِ الأثمان، وأن من يعز عليه دينُهُ وشرفُهُ أن يتجنبَ هذا السوق، ولا يخاطرَ فيه بنفسِهِ أو بدينهِ أو بشرفه؛ وقد جاء التحذير النبوي من الاستخفافِ بالدماءِ المعصومة، بقولِ النبيصلى الله عليه وسلم : ( إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هذا في شَهْرِكُمْ هذا في بَلَدِكُمْ هذا ) رواه مسلم، وقوله صلى الله عليه وسلم: ( كُلُّ الْمُسْلِمِ على الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ ) رواه مسلم، فحرامٌ على المسلم أن يطيعَ أحداً في إيذاء المسلمين أو قتلهم  فالقتل لا يُعذر أحدٌ فيه بإكراهٍ ولا غيره، كما لا يجوزُ لأحدٍ أن يُستأجرَ بالمال ليقوم  بإرهابِ الناسِ وتخويفِهم أو تهديدِهم بالسلاح ، ومن يفعل ذلك يرتكبُ جرائمَ مضاعفة، جريمة الخيانةِ والعمالة وبيع الدين بالدنيا، كما لا يجوزُ استغلالُ الفتنةِ لتصفيةِ الحسابات، أو الأخذِ بالثاراتِ أو لتحقيقِ الأغراضِ والمطامعِ لأي جهةٍ كانت، مدنية أو عسكرية  أو لأغراضٍ شخصيةٍ أو حزبية أو سياسية أو لعصبياتٍ قبلية أو أي نوع من أخلاق الجاهلية،لأن دم الإنسان ليس رخيصا أبدا في ديننا وملتنا تحت أي زعم أو دعوى. فمن قتل نفسا واحدة-بغير حق فكأنما قتل الناس جميعا ، فكيف بمن يحمل وزر دماء كثيرة سُفكت لعنصرية أو طائفية قال تعالى : ﴿ من قتل   نفساً بغير نفس أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ﴾ المائدة 22 .

 

 

  

 

سدنة الإلحاد

الإلحاد بدعة جديدة  ، أسسها أتباع العلمانية   وهي تدعو إلى التسامح والانفتاح على الثقافات الأُخرى ، واحترام حريِّة الرأي والتعبير ، وإلى الهبوط من سموِّ الأخلاق الإسلامية ، إلى حضيضِ الرذائل البهيميِّة ، تحت شعار الحريّة الشخصيّة   وإلى محاربة الفضيلة ، إنها عقيدة ابتدعها من لا يؤمنون برب معبود ، ولا بيوم مشهود ، ولا يدينون بالشريعة الإلهيِّة ، ولا برسول البشرية  غايتهم تزين المنكرات ، وإتباع الشهوات   والكفر بخالق الأرض والسموات .

إنهم فئة ضالة غايتهم هدم الشريعة الإسلاميَّة أو عزلها من الحياة الإنسانية ، وحصرها في المسجد والعبادات الشخصيَّة ، وصد الناس عن التمسُّك بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكرهم لا يفرق بين دين محرف وغير محرف   فكل الأديان عندهم سواء ، يعبدون عقولهم وأهواءهم ، ذكر الله أمثالهم فقال تعالى : ﴿ أَرأَيت من اتخذ إلهه هواه ، أَفأَنت تكون عليه وكيلاً أَم تَحسب أنّ أَكثرَهُم يسمعُون أو يعقلُون إن هُم إِلاّ كالأَنعام بل هُم أَضلُّ سبيلاً ﴾ الفرقان 43. يعتقدون أن منهج الذين كفروا أهدى من منهج الذين آمنوا سبيلا ، فهم كما الله تعالى : ﴿ ويقولُونَ للّذينَ كفروُا هؤلاءِ أَهدى مِنَ الذينَ آمنوا سبيلاً ﴾ فهذا ابن القيم يصف حالهم فيقول : " فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله ، أو يعبدونه من دون الله ، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله ، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله  فهذه طواغيت العالم إذا تدبرتها، وتأملت أحوال الناس معها، رأيت أكثرهم من عبادة الله إلى عبادة الطاغوت "إعلام الموقعين (1/50) ، وإذا ذُكر منهج الله تعالى وأراد الناس شريعته اشمأزت قلوبهم ،وإذا ذُكِر أيُّ منهجٍ آخر ، أو شريعة أخرى ، إذا هم يستبشرون وبه يرحِّبون ولا يتردَّدون قال تعالى : ﴿ وزيَّنَ لَهُم الشَيطانُ أَعمالَهُم فَصَدَّهُم عَن السَّبِيل﴾ العنكبوت 38     

وقد بدأ انتشار الحركات الإلحادية والعلمانية بين المسلمين ، بعد سقوط الخلافة الإسلامية   فنشرت الأفكار التي تعمل على هدم عقائد الأمة   والمثل العليا في نفوس أبنائها ، من الناحية الاجتماعية ، بالإباحية في عاداتها وأخلاقها   وتقليد الغرب في كل مناحي الحياة ، وعملت على استبدال منهج الله بالقوانين الوضعية ، التي لا تزجر مجرما ، ولا تؤدب معتديا ، ولا ترد ظالماً ، وظهرت نظم وأفكار ، نافست فكر الإسلام في نفوس أبنائه ، فنشأ جيل إلى غير الإسلام أقرب، تصدر تصريف أمور الأمة    واحتل مكان الزعامة الفكرية والروحية والسياسية والتنفيذية، لدفع الشعوب إلى ما يريد   

وبدأت أجهزة الإعلام تبث سمومها ضد الإسلام في كل اتجاه والعمل على استبدال العقيدة الإسلامية بعقائد القومية والإلحاد والوطنية الإقليمية، وسلخ الأمة عن دينها ، حتى ظنوا أن المسلمين قد فارقوا الإسلام إلى الأبد، وأن لا عودة له ، ولن تعقد لدولته راية، ولن يرفع لها لواء ، وما علم الذين يريدون فرض الإلحاد على الناس بالسلاح ، وبالقوانين الاستثنائية ، لا ولن يفلحوا ، لأن الشعوب مؤمنة بربها ، وفيّة لدينها ، وهي تأبى أن تجعل زمام أمرها إلا لدى عقل مؤمن ، وضمير يتقي الله ، لأن الإلحاد هدم للعقائد ، ومحو للفضائل ، فقرر سدنة الإلحاد وضع خطط لإفساد الناس وصرفهم عن دينهم ، وإضعاف الروابط التي تصلهم به ، وخلق أجيال فارغة من عقائد الإسلام وتعاليمه، وتشجيع حملة الأقلام الذين ينشرون المقالات الهابطة   والذين يكتبون في كل شيء ، إلا في الإسلام وقضاياه ومطالبه ، وتبني رجالاً يزورون تاريخ الأمة ، ويشجعون الإسلاميين من أرباب البدع المفسدة وتشجيع المفكرين الذين يلمزون الإسلام   ويغمزون أصوله وفروعه ، ودفع العلمانيين لصدارة المجتمع ، ووضع مقاليد الأمور قي أيديهم ، وإبعاد المسلمين المخلصين، فعملوا على هدم كل معتقد ، لأنهم لا علاقة لهم بوحي ولا معتقد ، ولو كان لهم علاقة بوحي ومعتقد ، ما صنعوا الذي يصنعون  فهذا شاعر مسيحي يناجي المسيح :

فيا حملا وديعا لم يخلِّف  سوانا في الورى حملاً وديعا

أحبوا بعضكم بعضاً وعظنا   بها ذئباً فما نجَّت قطيعا

فماذا نعمل إذا تحول سدنة الإلحاد إلى ذئاب يدوسون الشعوب ، ويخمدون أنفاسهم بكل وسيلة ، ثم ما معنى الصياح باسم الشعوب   حين يراد قتلهم وقهرهم وإذلالهم ، وما معنى أن يطعن الدين في صميمه ، وأن يكون الملحد أنظف يداً من أهل الإيمان ، الذين تصدر التعليمات المتجبرة بقتلهم وإبادتهم حين يحتجون  والحيلولة بينهم وبين ما يريدون، وإقصاء عقيدة الإسلام وأفكاره ، التي تزلزل أوضاعهم أن تحكم أو تسيطر ، وليتهم كما قال القائل :

وليت من لم يكن بالحق مقتنعا   يخلي الطريق فلا يؤذي من اقتنعا

 لذلك منذ ولد الإيمان ولد الجهاد معه ، لأنه من المستحيل أن تنتشر الدعوة في ظل دعاة الإلحاد والسطوة والاضطهاد ، ضد من لا ينشدون إلا حرية الكلمة ، ويبدو أن التاريخ يعيد نفسه    فها نحن نرى السكارى بخمرة القوة يقولون للمؤمنين الضعفاء ، لا مكان لكم بيننا ، ما دمتم تطالبون التمسك بمنهج الله ، وكانت النتيجة البطش وتتابع الشهداء ، وتوجيه التهم الكاذبة لمن اعتقل ، وإصدار الأحكام القاسية بحقه ، وأصبح قتل الألف عندهم، كقتل الواحد وقتل الواحد كقتل ذبابة ، قتلوا أضعاف ما قتل الاستعمار والصهاينة ، فئةٌ لا تتقي الله في معاملة من ينكر عليها ارتدادها ، ويريد أن يستبقي الأمة على دينها ، أما علموا أن الأنظمة المرتدة   لها حسابات غير حسابات الأنظمة الكافرة إنها حساباتٌ أقسى ، ولعل من معالم هذه الحسابات   هو الفشل في الدنيا قبل الخزي في الآخرة ، ثم ماذا قدموا لشعوبهم ، أمام تَدَلُّلُ إسرائيل وتذللنا في المحافل الدولية ، سوى الكساد والبطالة والحيرة ، فماذا لو عادوا إلى التمسك بالإسلام   وتابوا عن فتنة الشعوب المكروبة   وإحسان الظن وارتقاب الخير ، ولا إلا أن نقول لهم ما قاله الله تعالى : ﴿ اعملوا على مكانتكم إنا عاملون وانتظروا إنا منتظرون ﴾ هود 121 .        

 

 

 

  

صفات المجتمع القوي

من أهم صفات المجتمع القوي التعاون والائتلاف ونبذ الخلاف ، الذي يؤدي إلى الفشل، وما سقط مجتمع على مر التاريخ إلا بسبب الفرقة والتنازع وهذه حقيقة قرآنية بيَّنها الله بقوله : ﴿ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ﴾ الأنفال46. وجاء النهي عن التفرق والاختلاف في قوله تعالى:﴿ وَلا تَفَرَّقُوا ﴾ 

وعن التنازع والتباغض في قوله صلى الله عليه وسلم : ( لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا- عباد الله– إخوانًا ) متفق عليه . فكيف نجنب المجتمع التنازع والشقاق حتى لا يكون فريسة للأعداء ؟ إنه يتطلب منا معرفة الداء الذي بسببه تسلط الأعداء على مجتمعنا المسلم  وذلك يتمثل في عدم الأخذ بأسباب القوة المعنوية   التي تتمثل في الإيمان والعمل الصالح، والمادية التي تتمثل بإعداد القوة في جميع مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والعلمية والتقنية والاجتماعية ، ويتمثل في الطاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، والاستقامة على المنهج القويم الذي كان عليه صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام ، كما دلت على ذلك نصوص الكتاب والسنة.

 إننا في زمن بات الواحد منا لا يدري ماذا يقول حيث المجازر الدموية في بلاد المسلمين ، والعالم كله يتفرج وكأن الأمر لا يعنيه ، وما أصاب الأمة وما يصيبها ، ما هو إلا نتيجة تخليها عن عزتها وكرامتها ، وطلب المساعدة من أناس لا عهد لهم ولا ميثاق ولا خلاق ، قال الله فيهم :: ﴿ كـُلَّمَا عَـٰهَدُواْ عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ . وتتوالى الأحداث، التي  ينُسي آخرها أولها، ويغطي حديثها على قديمها.

ماذا أقول وقلبي بات يعتصر  بما يدور وما يجري  ينفطر

ماذا أقول وأعماقي ممزقة  والصمت ران كأن الحال يحتضر

ماذا أقول وسمعي ما به صم  والعين تدمى وماء العين ينحدر

 لقد أصبحت أمة الإسلام اليوم "غثاء"  دويلات متناثرة متفرقة،تفصل بينها حدود جغرافية ، وتعلوها رايات" الوطنية والقومية " وتحكمها القـوانين العلمانية ، وتدور بها "الـدوامـات" الـسـيـاسية ، فمـا من يوم تطلع فيه الشمس   إلا ويزداد اليقين بأن هذه الأمة أُصيبت في مقتل   وجوبهت مــن ضعف ن وتخاذلت عن صيحات التحذير ، وآيات النذير ، فالقرآن الكريم   منـهجها الذي يجب أن تـتحاكم إليه ، بين دواعي هلاك الأمم، والفتن وأسبابها ، وجاءت السنة النبوية محذرة من الوهن وأسبابه ، والضمور ومقدماته ، فلم تلتفت لذلك كله ، فقـذف الله فـي قـلــوب المسلمين "الوهن"   فتداعت عليهم الأمم ، وأحاط بهم الأعداء  وصاروا قصعة مستباحة ينهشونها من كل جانب .

علماً بأن هذه الأمة لا تعاني من نقص فـي عدد ولا عدة ، ولا ثروة ولا مقومات ، لكنها في الوزن الدولي لا شيء ، أما حقوقها وكرامتها فمهانة ذليلة   لأنها تخلت عن أسباب النصر والتمـكــين  تخلت عن عزتها وأخلدت إلى الحياة الدنيا وزهرتها   وركنت إلى ما حباها الله إياها من خزائن الأرض وخيراتها ، ولم تحسن الاستفادة من سواعد رجالها وهمم أبطالها ، وتضحيات مجاهديها ، لتسترد حقوقها ، ولم تنتفع بما تدخره من عدد وأسلحة في مواجهة أعدائها ، ولم توظف أدمغة وعقول أبنائها في بناء مجدها ورفعتها ، ففي كل قطر من أقطارها لا يُسمع إلا الأنين ، والصراخ والعويل   حتى أصبح الدم المسلم رخيصاً ، لا يقام لإراقته وزن    وأصبح الواحد منا لا يكاد يغمض عينيه على مذبحة للمسلمين في بلد ما ، حتى يفتحها على أخرى في بلد غيره .

إن العالم الذي يرفع الشعارات البراقة مثل حقوق الإنسان، والشرعية الدولية، والنظام العالمي الجديد  والديمقراطية، قد انكشف زيف شعاراته وكذبها   بسبب صمته ومواقفه السلبية ، عما يرتكب من مجازر  إلا من    شجب أو استنكار أوتصريحات رنانة ، ومواقف صورية وخطوات جبانة ، تصدر على استحياء ممن ولاّهم الله أمر المسلمين ، إلا من رحم الله منهم ، وقليل ما هم ، الذين قادوا شعوبهم إلى التهلكة ، وأغرقوها في التوافه ، ومنعوها أسباب المنعة والقوة ، وجعلوا مقدرات الأمة أدوات هدم لا أدوات بناء ، وقناطر انكسار متتال ، وتفرق وتشرذم   الغني فيهم لا يعرف قيمة سوى للدرهم والدينار  والفقير يلهث خلف بريقهما ، وما دروا أن هذه من علامات التهلكة ، ذكر أبو أيوب الأنصاري أنه حينما حمل رجل من المسلمين على الروم "قال الناس : مه مه ، لا إله إلا الله ، يلقي بأيديه إلى التهلكة ! فقال أبو أيوب الأنصاري : إنما تؤولون هذه الآية هكذا : أن حمل رجل يقاتل يلتمس الشهادة ، إنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار ، لما نصر الله نبيه صلى الله عليه وسلم وأظهر الإسلام قلنا: هلم نقيم في أموالنا ونصلحها ، فأنزل الله تعالى : ﴿ وأَنفِقوا فِي سَبِيلِ اللّهِ ولا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ ﴾ فلم يزل أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتى دفن بالقسطنطينية  فليست التهلكة بالجهاد والإنفاق في سبيل الله ، إنما التهلكة أن تنساق الأمة نحو بيع العينة وتأخذ بأذناب البقر وترضى بالزرع وتأكل ، وتترك الجهاد في سبيل الله ، التهلكة أن يئن عضو من أعضائها فلا يتداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ، التهلكة أن تتخلى الأمة عن كل أسباب القوة فلا يشد بعضها بعضاً ، ولا يؤازر بعضها بعضاً ، التهلكة أن تعرض الأمة عن ربها وخالقها ، وتلجأ إلى مجلس الأمن وتتوسل بأمريكا ، وتـأوي إلى ركن المنظمات الدولية ، طالبة النصرة ، والعون والمساعدة ، وسنة الله التي لا تتغير ولا تـتبدل أن من تعلق بشيء غير الله وكله الله إليه . 

إن هذا الواقع الذي تمر به الأمة ، ليس شراً محضاً لا خير فيه ، بل فيه من الحكم والفوائد الشيء الكثير  كتمحيص الصفوف ومعرفة الصابرين المجاهدين ، من الدخلاء الذين هم غثاء كغثاء السيل.

قال العـز بن عـبـد السلام رحمه الله :  للمصائب والمحن فوائد تختلف باختلاف رتب الناس : أحدها: معرفة عز الربوبية وقهرها.

الثاني : معرفة ذل العبودية وانكسارهـــا ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : ﴿ الَذِينَ إذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إنَّا لِلَّهِ وإنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾، اعترفوا بأنهم ملكه وعبيده ، وأنهم راجعون إلى حكمه وتدبيره ، لا مفر لهم منه ، ولا محيد لهم عنه. والثالثة : الإخلاص لله تعالى ، إذ لا مرجع في رفع الشدائد إلا إليه ﴿ وإن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إلاَّ هُوَ ﴾ .

والرابعة : التضرع والدعاء ﴿ وإذَا مَسَّ الإنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا ﴾ ، والخامسة : تمحيصها للذنوب والخطـايــا : فقد جاء في الأحاديث النبوية أن ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه ، والسادسة : ما في طيها من الفوائد الخفية ﴿ فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً ويَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً ﴾ والسابعة : إن المصائب والشدائد تمنع من الأشر والبطر والفخر والخيلاء والتكبر والتجبر، ولهذه الفوائد الجليلة كان أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمـثـل كالذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم ، وتغربوا عن أوطانهم ، وتكاثر أعداؤهم ، ولم يشبع سيد الأولين من خبز مرتين ، وأوذي بأنواع الأذية ، وابتلي في آخر الأمر بمسيلمة وطليحة والعنسي ، والثامنة : الرضا الموجب لرضوان الله تعالى ، فإن الـمـصـائب تنزل بالبر والفاجر ، فمن سخطها فله السخط ، ومن رضيها فله الرضا أهـ.

إن ما يحدث اليوم في بلاد المسلمين ، على مرأى العالم الغربي ، الذي يدعي التسامح ، ويزعم الديمقراطية ، ويدّعي التمسك بحقوق الإنسان ، في قرن يفترض أن يكون قرن التحضر والمدنية وقرن المواثيق الدولية ، والقرارات الأممية ، فجاء الواقع يكذب ذلك ، دماء تراق وأرواح تحصد   يتحدثون عن السلام بألسنتهم ، ويباشرون الحرب في خططهم واستعداداتهم ، فأين العدل؟ وأين الإنصاف؟ وأين حقوق الإنسان ، من شعوب تعيش التشريد والشتات ، هرباً من القتل والقهر والظلم الذي لا يمكن أن يقيم سلامًا ، أو يولد استقرارا  لأن العدوان لا يولد إلا عدوانا ، والظلم لا يولد انفجارا . وإن العمل من أجل إنقاذ المستضعفين  فريضة شرعية ، وواجب ديني ، يستنهض عزم أبناء الأمة ، لبذل كل الجهود والوسائل لإحقاق الحق ونصرته ، ولا سبيل لإعادة هذا الحق ، قبل العودة الصحيحة للإسلام ، ومن سنن الله أن العاقبة للمتقين وأن الأرض يرثها عباد الله الصالحون ، ومن سننه أيضًا إذا تخلى أهل الإيمان عن إيمانهم فإنه يستبدل قومًا غيرهم قال تعالى : ﴿ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ﴾ .

 

 

 

 

   

   نبني المجد بالدفاع عن الحق   

 الاستبداد أصل لكل فساد ، وأثر سيء في كل واد. يفسد الدين والعقل والمال والأخلاق والتربية. يفسد الطموح والسعي إلى العلى، ويحوله إلى تكبر وتسلط وطغيان. يحول المجد إلى تمجد ، وهو  نقيض المجد  لأن التمجد صفة الإرادات المستبدة ومن يتعاون معها ، من أصحاب الألقاب وحملة النياشين ، من أعداء العدل وأنصار الجور للتغرير بالأمة ، ولما كان المستبد حريصاً على ظلم الناس ، فإنه يستعمل أعواناً من جنسه لتكوين عصابة الاستبداد ، بهذا يكون الناس أعداؤه لظلمه ، ولا يأمن على نفسه وحياته من الثورة ضده للتخلص من استبداده ،  الذي لا يصيب المستبدين وحدهم بل يشمل الدمار ، الأرض والناس والديار , لأن دولة الاستبداد في مراحلها الأخيرة ، تحطم نفسها وأهلها وبلدها قبل أن تستسلم للزوال , وهو ما أدانه القرآن صراحة بإدانة الإسراف والترف قال تعالى : ﴿ وَإذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلك قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفيهَا فَفَسقُوا فيِهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا اَلْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ﴾ . وكأن الناس يدفعوا ثمن سكوتهم على الظلم ، وقبولهم القهر والذل والاستعباد ، وعدم التفكر في معنى قول الله تعالى : ﴿ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَـمُوا مِنْكُمْ خاصَّةً وَاعْلَـمُوا أنَّ اللّهَ شَدِيدُ العِقابِ ﴾ ، فكان من الحِكَم البالغة قولهم: "الاستبداد أصلٌ لكلِّ داء"  لأنَّه يضغط على العقل ويُغالب المجد فيفسده، والمجد : هو إحراز المرء مقام حبٍّ واحترام في القلوب ، وله تأثير في الطبيعة البشرية ، فيرى الحرُّ حريته ، تاج فوق رأسه، لا يطأطأ رأسه من أجل لقمة عيش أو من أجل الابقاء على حياته، لأنه يفضل الموت بمجد على العيش بذلة، وقد قيل : " تموت الماجدة ولا تأكل من بيع جسدها  وهي حرة ، تأبى أن تعيش ببيع شرفها " . وقولهم : خلق الله للمجد رجالاً يستعذبون الموت في سبيله، ولا سبيل إليه إلا بعظيم الهمّة والإقدام والثّبات، تلك الخصال الثّلاث التي بها تقدَّر قيم الرجال .  

فهذا مسئول يقول لقائده عندما قلَّده السيف : "هذا سيف الأمة أرجو أن لا أتعدّى القانون فيكون له نصيبٌ في عنقي". وخرج رجل من مجلس الخليفة الوليد مغضباً يقول: "أتريد أن تكون جباراً؟ والله  إنَّ نعال الصعاليك لأطول من سيفك!. وقيل لأحد الأباة: "ما فائدة سعيك غير جلب الشقاء على نفسك؟". فقال: "ما أحلى الشقاء في سبيل تنغيص الظالمين!". وقيل لأحد النبلاء: "لماذا لا تبني لك داراً؟" فقال: "ما أصنع فيها وأنا المقيم على ظهر الجواد أو في السجن أو في القبر"، وهذه ذات النطاقين (أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها) وهي امرأة عجوز تودِّع ابنها بقولها: "إن كنت على الحقّ فاذهب وقاتل الحجاج حتى تموت".  أي أن مجد الدفاع عن الحق ضد الظالمين والمستبدين ، لهو أرفع مجد يحظى به الإنسان، فإن نجح بمسعاه برفع الظلم فقد حقق العدل، وإن لم يستطع ومات دونه، فيكفيه مجداً أنه ناهض الظلم والاستبداد ، يقول الإمام على من أمضى يومه  في غير حق  قضاه ، أو فرض أداه أو مجد بناه ، أو حمد حصله ، أو خير أسسه ، أو علم اقتبسه ، فقد عق يومه" ويقول عمر الأميري :  " إذا كان للمجد كلمات فكلمة الإسلام من أكبرها مجداً " فالإسلام هو بمثابة نظرية للمجد   يؤهل أتباعه ، تأهيلا جادا  لبناء صروح المجد ، وهذا ما أوضحه الصحابي عبادة بن الصامت للمقوقس عندما قال : " لنا مجد الآخرة إن ظفرتم بنا ، ولنا مجد الدنيا إن ظفرنا بكم ، وما من أحد إلا ويدعو ربه صباحا ومساءا بألا يعود إلى أهله وولده وماله ، وما منا من أحد إلا وخرج ولا يبتغي الرجوع " تلك هي  المعادلة ، إما إلى النصر فوق الأنام ، وإما إلى الله في الخالدين وقد صدق القائل :

   وإنك لن تنال المجد حتى     تجود بما يضن به الضمير  

 بنفسك أو بمالك في أمور    يهاب ركوبها الورع الدثور

نعم إن المجد لا يتم تحقيقه إلا ببذل وتضحية منقطعة النظير . فليس المجد كما قال الشاعر:

لا تحسبن المجد تمرا أنت آكله لن  تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا

 وعلى هذا النحو كانت معالجة الصحابة رضي الله عنهم  للأمور من خلال الجهاد ، والسخاء بالنفس والروح في ذات الله ، وكما قال الشابي:

  ومن لم يحب صعود الجبال  يعش أبد الدهر بين الحفر

 وما طالب الله عبيده بتمجيده ، إلا وقرن الطلب بذكر نعمائه عليهم ، أما المتمجّدين فهم أعداء للعدل أنصار للجور، لا دين ولا وجدان ولا شرف ولا رحمة، وهذا ما يقصده المستبدُّ من إيجادهم والإكثار منهم ليتمكَّن بواسطتهم من أن يغرِّر الأمة على إضرار نفسها تحت اسم منفعتها، وقد يسوقها لحرب اقتضاها محض التجبُّر والعدوان ، أو يُسرف بالملايين من أموال الأمة على ملذاته وتأييد استبداده ، أو يتصرَّف في حقوق لأمة كما يشاؤه هواه باسم مقتضى الحكمة والسياسة . وصدق القائل : " دولة الاستبداد هي دولة البُله والأوغاد "  فالمستبد يؤمن بنفسه قبل أن يؤمن بالله ، ويؤمن بمجده قبل أن يؤمن بمصلحة الأمة ، فيحشد الأتباع حوله ، ويرفض الاستعانة بالكفايات التي لا تدين له بالولاء ، حتى قال الشاعر معبراً عن عواقب حرمان الأمة من الأقوياء فيما تتعرض له من أزمات :

أضاعوني وأي فتى أضاعوا  ليوم كريهة وسداد ثغر

تلك هي طبيعة الرجل الكفء ، كراهية الهوان والتحقير ، فهذا عنترة بن شداد حين هوجمت قبيلته وكان أبوه قد وظفه في الرعي والخدمة ، جاء يطلب منه أن يقاتل ، فقال عنترة مندداً بموقف أبيه : إن العبد لا يحسن الكر والفر ، لكنه يحسن الحلاب والصر ، فقال له والده : كر وأنت حر ، فاسترد مكانته واستعادت القبيلة كرامتها ، فإضاعة الملكات الإنسانية العالية خسارة ، وما ذل الأمة وانهيارها إلا نتيجة إقصاء الكفايات وسط عواصف الهوى والجحود , واستعلاء المستبدين ، وربط الأتباع بهم على أساس المنفعة ، مما أدى إلى تهديم الدين وتخريب الدنيا ، فكان هذا البلاء الذي أصاب الإيمان والعمران ، فأصيب الإسلام من استبداد الحاكمين باسمه ، واستبعاد منهج الله من التطبيق ، الذي لا إيمان إلا به ﴿ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ﴾ .   

 

 

 

 

 

 

 عاقبة التعنت

قرأت في تاريخنا الإسلامي عن مواقف مشابه لواقعنا اليوم؛ فوجدت موقفاً للإمام الحسن بن علي، مشابها   عندما قتل الإمام علي بن أبي طالب على يد أحد الخوارج ، حدث انقسام وفتنة ، فقد بايع أهل العراق ابنه الحسن على الخلافة ، ورفض أهل الشام مبايعته ، ولما رأى الإمام الحسن استعداد أهل العراق مناصرته ، لقتال أهل الشام ، تقدم بمبادرة لحقن الدماء ، فتنازل عن الخلافة لمعاوية ، واشترط عليه أن يحقن دماء المسلمين ، فوافق ، وسمى ذالك العام بعام الجماعة ، لاجتماع كلمة المسلمين فيه ، وحقن الدماء ،  ما أحوجنا اليوم لكي نأخذ لدروس والعبر من تاريخنا الإسلامي ، فنتصرف كما تصرفوا ، أم إن الكرسي والسلطة التي تسيل الدماء من أجلهما يحول دون ذلك ، بل إن الوصول إلى السلطة أوصلنا إلى ما نراه اليوم من مذابح وجرائم ترتكب في حق المسلمين من بني جلدتهم ، طلباً للحكم ، دون مراعاة لدين ولا عرف , فانتهكت الحرمات التي غلظ الله في معاقبة من يقترفها , وعلق في عاتق القاتل ظلما ، جزاء من قتل العالم بأسره   وشدد الله عز وجل في كتابه العزيز على تحريم قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وكذلك شدد على عدم قتل المؤمن بدون وجه من وجوه الحق فقال تعالى :﴿ مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً ﴾ . وهاهو رسول الله صلى الله عليه وسلم يصف للصحابة ما نحن فيه من هرج ومرج وسفك للدماء ، ونزاعات وفتن   فيما رواه ابن ماجه وأحمد وصححه الألباني عَنِ الْأَشْعَرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ( إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ الْهَرْجَ . قَالُوا: وَمَا الْهَرْجُ؟ قَالَ:  الْقَتْلُ قَالُوا: أَكْثَرُ مِمَّا نَقْتُلُ، إِنَّا لَنَقْتُلُ كُلَّ عَامٍ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ أَلْفًا  قَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِقَتْلِكُمُ الْمُشْرِكِينَ، وَلَكِنْ قَتْلُ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَالُوا: وَمَعَنَا عُقُولُنَا يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: إِنَّهُ لَتُنْزَعُ عُقُولُ أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ وَيُخَلَّفُ لَهُ هَبَاءٌ مِنَ النَّاسِ، يَحْسِبُ أَكْثَرُهُمْ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ  وَلَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ) . إن ما نراه اليوم من قتل وسفك للدماء ، يدل على أن هذه الأمة مبتلاة ، روي في صحيح أبي داود : ( أمتي هذه مرحومة ، عذابها في الدنيا : الفتن والزلازل والقتل والبلايا ) . فالذبح شهادة ، والتعذيب كفّارة للسيئات ، ومن قضى من المسلمين في المذابح   ومضى إلى ربه ، فلعلها راحة له من عناء الدنيا   ونعيم عظيم في الآخرة.

إن لملة الكفر ومن والاهم ، في معاداة الإسلام وأهله   وقائع مشهورة ، فإذا كانت لهم القوة والقدرة   سفكوا دماء المسلمين ، فلا دين لهم ولا إيمان ولا رأفة لديهم ولا رحمة ولا شفقة ، إنهم يرتكبون المذابح ، حقدا وانتقاما ، وتهجيرا وإيهاما ، بالقوة والبطش ، والتخويف والحرب ، تلك هي طبيعة ملة الكفر : ﴿ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ﴾  وجه قبيح يعكسونه في معركتهم مع الإسلام والمسلمين ﴿ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ﴾ . هؤلاء الكفرة ومن والاهم جبناء ، يتسلطون على المستضعفين والعزّل وكبار السن والنساء والأطفال     لا يقنعون بجريمة واحدة بل جرائمهم مركّبة : إهانة وإذلال واغتصاب ، وذبح  وحرق وتباهي وإشهار   

إن هذه المذابح التي نسمع عنها ونرى ، توجب الجهاد للدفع قال تعالى : ﴿ وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ ﴾ . كما توجب على أهل الحلّ والعقد النظر في تدبير أمور المسلمين ، وإيجاد الحلول العملية   للوصول إلى سياسة ردع قائمة على القصاص قال تعالى: ﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ﴾ . ووتتطلب توعية المسلمين بما يمكرون ويخططون   قال تعالى: ﴿ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ) حتى لا ينخدع بهم المسلمون ، ولا يأملون منهم شيئا    لأنهم يشاركون في الجريمة ، وعلى أحسن الأحوال يتفرجون ، فماذا يُرجى منهم ؟ وكيف نواليهم ونتقرّب إليهم ونتشبّه بهم.

إن إستراتيجيتهم التي يتصدّى لتنفيذها البعض تحت مسمّى "الربيع العربي"، هي الوجه الحقيقي لـ"خريطة الدم الأمريكية" والتي تقضي  بإغراق الشارع العربي والإسلامي بالدم، بل إن المؤامرة لن تتوقف عند سورية ومصر وتونس وليبيا وفلسطين ولبنان، إنما ستمتد نيرانها لتحرق تركيا وقبلها الخليج العربي بإماراته ومشيخاته .

إن ما يجري في المنطقة ، يدل على رائحة التطرف والتآمر على قضايا الأمة ، والتي تظهر جلية وواضحة من خلال رعاية الثورة المضادة في المنطقة العربية   تحت راية الإسلام السياسي المزعوم ، وللأسف لم ينتبه العرب لذلك ، وأصبحوا في مهب الريح يتسابقون للحصول على مباركة ، من يد ملطخة بالدم العربي، وهي تهدم أساسه حتى تصدع، إذ أعاد الربيع العربي المهيمن عليه من قبل ما يسمى الإسلام السياسي ، ليبيا إلى عدم الاستقرار ، ومصر إلى زمن التناحرات الطائفية وثقافة الإلغاء  والعراق إلى التناحر والاختلاف .

إن ما يحدث ما هو إلا مقدمة للواقع الأسود الذي ينتظر هذه البلدان ، في حال استمرت في إغماض عيونها عما يدبر ويخطط لها من مشروعات التقسيم والتفتيت ، على أسس طائفية ومذهبية ، وليس الحال في تونس بأفضل من جيرانها ، وسوريا تعاني ما تعاني   

إن إستراتيجيتهم تقوم على دعم القوى المتطرفة تحت يافطة "الربيع العربي" وما هي إلا الوجه الحقيقي لـ"خريطة الدم الأمريكية" التي تقضي بإغراق الشارع العربي بالدم، في حروب تختلف عن أسس ومبادئ فن الحرب وتبتعد كل البعد عن السياقات العسكرية المهنية ، ليظهر جيل جديد من الصراع والحرب القذرة ، التي لا تعتمد على المبادئ والقيم الإنسانية ، التي تقرها الشرائع السماوية والقوانين الوضعية ومواثيق ومعاهدات حقوق الإنسان ، واتفاقيات جنيف, التي حددت بنودها دول وحضارات تؤمن بقيمة الإنسان    

لقد جاءت الأحداث الدامية التي طمست معالم الدين , واحتلت ديار المسلمين , وخربت مساجد وجوامع المؤمنين , وملئت بطون المسلمات الحرائر بنجس المتمردين , بطون انتفخت بالحرام , وبطون بقرت بأيدي اللئام وجامعات أشرعت لكل مبيح للحرام! فبحت الأصوات وهي تنادي يا أحرار العالم هل فقئت أعينكم بأيدي الغربيين؟ هل خيطوا براطمكم بركبكم لكي نقول معذورين؟! أم انتهكوا أعراضكم وسبوا نسائكم كما فعلوا بالمسلمين؟ وهل نهبوا أموالكم ، كما نهبوا أموال الفقراء من المساكين؟ ولماذا نرى الغربيين والخونة العلمانيين لكم مسالمين ، ومصافحين ومسرورين؟ أم أن أسمائكم في صحفهم في أضخم العناوين؟! فأين انتم من هؤلاء المستضعفين؟ ألم تروا وتسمعوا كيف يقتل أطفال المسلمين ، باستعمال الكيماوي بأيدي الملعونين ؟  أم أنكم لم تسمعوا عن الرجال الذين ماتوا قهراً من أفعال الحاقدين ، ولا عن  الأسيرات في سجون  العملاء الخائنين . أما نحن فلا نملك إلا أن نقول حسبنا الله ونعم الوكيل وإنا لله وإنا إليه راجعون . 

 

 

 

 

 

 

 ما الذي أوصلنا إلى ما نحن فيه

بعد أن كنا قادة الدنيا وسادتها ، أصبحنا في المؤخرة   لأننا ابتعدنا عن منهج الله ، وما أحسن ما قال الشاعر :

إني تذكرت والذكرى مؤرقة       مجدا تليدا بأيدينا أضعناه

أنى اتجهت إلى الإسلام في بلد  تجده كالطير مقصوصا جناحاه

كم صرفتنا يد كنا نصرفها         وبات يملكنا شعب ملكناه

 فمن أبرز الأسباب التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه فصل الدين عن الدولة ، الذي خطط له الأعداء ، ونجحوا في إبعاد القرآن عن حكم المسلمين ، الذين يعانون من مبطل يريد بالعصا أن يخرس الآخرين   ويقول ما قاله فرعون قديما ﴿ ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد ﴾ غافر 29 . وهذا من أكبر العوائق أمام نهضة الأمة وتقدمها   فقد نهضت الأمة قديما على دعائم الشورى   وكان المبدأ الذي أرسى دعائم الحق عندها " إن رأيتم خيراً فأعينوني ، وإن رأيتم شرّاً فقوموني " وهذا هو لسان الحال في الدول الكبرى هذه الأيام ، ولذلك لا نرى فيها مكاناً للتفرعن والادعاء الأعمى ، الذي يكثر عند أغلب المسلمين الذين يعيشون في غيبوبة التخلف والاستسلام للظلمة والجلادين ، ففقدوا أسباب التمكين في الأرض ، وحفروا خنادق بينهم وبين جماهير الأمة ، فأصبحوا لا يؤتمنون على دين الله ، ولا دنيا الناس ، اضطربت عندهم موازين العدالة  وأعمال القضاء ، وخصوصاً عندما يتصل الأمر  بشخص الحاكم أو أسرته أو أتباعه ، وإذا تكلم أحد عن الحاكم أو الحكومة بما يمسها ، كان الاعتقال أو السجن أو الضرب أو التعذيب ، وقد لا يكون قضاء ولا قضاة  وربما أُلّفَت المحاكم العسكرية التي تنفذ الأوامر الصادرة إليها بعد إجراءات صورية ومخزية   ومنهج القضاء هذا في ظل الاستبداد السياسي   يذكرني بطرفة : قالوا إن جحا جاء إلى أحد الولاة يعرض عليه قضية تخصه ، ساق شكواه على هذا النحو قال : إن لمولاي فيما أعلم ثوراً أحمر ، فأجابه الوالي صدقت ، فما باله ؟ قال : نطح بقرتي فشق بطنها وقتلها على الفور ، فقال له الوالي : وما شأن الوالي بذلك وأي سلطان لي على الحيوان ؟ أتريد أن أعاقب الثور على فعلته ؟ ألا فلتعلم أن دم الحيوان هدر ، فقال جحا : صبراً يا سيدي ، لقد دفعتني العجلة إلى رواية القصة معكوسة ، فإن بقرتي هي التي نطحت ثور مولاي فقتلته ، فقال الوالي ويلك لقد تغير وجه المسألة ، أعد علي القصة لأرى فيها رأيا من جديد " نذكر هذه القصة في الوقت الذي أطاحت الآلام والأحزان بحياة الألوف ، وغدا التلفيق أساس الملك ، فإذا أراد أحد الطغاة أن يتخلص من منافس له ، فليس أسهل عليه من أن يلفق اتهاما ، ويزور أدلة ، وما أكثر شهود الزور   الذين يحلفون بالله ، وهم يحلفون بحياة السلطان  وكم من أبرياء ظلموا بلا ذنب ، وحكم عليم بلا قضاء ، وسجنوا بلا جريمة .  

في كل يوم نسمع قصصا مرعبة عن جرائم ترتكب ، ونساء تغتصب ، ومذابح تقع   وأموال تنهب ، وحقوق تداس بالأقدام   وليس من حق أحد أن يحتج ، لأن التلفيق هو العلم الذي يُرْفع ، لتعلم الدنيا أن العدالة في إجازة ، قالت الضفدع قولاً رددته الحكماء :

في فمي ماء وهل يـن    طق من في فيه ماء

عندما تُحظر حرية القول ، تختفي القدرة على النصح وتظهر الرغبة في الملق ، فيذبل الولاء للمبادئ ، وينمو الولاء للأشخاص ، ومن تخلى عن الولاء لله وحُكمه تخلى الله عنه.

﴿ أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض ﴾

هذا يقتضي أن لا نتهم أي جهة عن سبب ضعفنا وتقصيرنا ، فنحن السبب قال تعالى: ﴿ قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ ﴾ آل عمران 165 ، وقال : ﴿ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ ﴾ آل عمران165 ،  فكل الذي أصابنا ويصيبنا ، ما هو إلا بسبب أخطائنا ، فلا ينبغي أن نحملها للآخرين، فهم أعداء ، وشأن العدو أن يستغل الفرص ، وأن يستفيد من ضعف الطرف الآخر   وإن أكثر قوة أعدائنا ما هي إلا نتيجة ضعفنا وتفرقنا، ولا يجوز أن نبرر تخلفنا بمؤامرات خارجية هذا شأن العدو، والعدو هو العدو، لا يتغير، ولا يتبدل، قال تعالى: ﴿ قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ ﴾ آل عمران 165 في اللحظة التي نؤمن أن الذي يحصل في بلادنا من صنع أنفسنا، من ضعفنا، من تخلفنا، من فرقتنا من تشر ذمنا، من أن بأسنا بيننا ، من اختلافاتنا السخيفة ندرك حقيقة المشكلة وأسبابها. والتغلب على كل أسباب ضعف الأمة يكمن في نفس الإنسان وقلبه وعقله ووجدانه ﴿ قل هو من عند أنفسكم ﴾ فكل مناهج التغيير ومشاريع التقدم التي تقفز على تغيير النفس، وتربية الضمير  وإعادة صياغة الإنسان بالإسلام، هي حرث في البحر، لا يتجاوز أثرها النخبة التي تبشر بها، لانتفاء القبول لها عند الإنسان، الذي هو المقصد الأول والأعظم لهذا التغيير.. وصدق الله العظيم ﴿ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ﴾ .

إننا لا نيأس من عودة هذه الأمة للنهوض ، لأن   اليأس لا يمكن أن يقترن مع الإيمان، ولا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون. فإن هذه المحنة الحضارية التي تأخذ بخناق أمتنا لا يمكن أن تبعث اليأس من التجدد والنهوض والإصلاح ، بسبب الارتباط بهذا الدين الذي تعهد الله بحفظه من الزوال ومن التحريف ، وأمتنا تمرض وتضعف وتتراجع ، لكنها أمة لا تموت، لأنها ضرورة من ضرورات الدين الخالد والشريعة الخاتمة،  فالعدل قادم والنهوض آت لا ريب فيه لأن نهوض أمتنا سنة من السنن ، وإن إعمال هذه السنن رهن بإقامتنا لأسبابها ومقدماتها  فالقوانين - حتى ولو كانت وضعا إلهيا - لا تعمل وحدها .. وإنما لا بد لها من إرادة إنسانية، وفعل يضعها في الممارسة والتطبيق ﴿ وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ﴾ . 

 

 

 

 

متى نسترخص القتل ؟

إن الإنسان خليفة الله في الأرض ، ليؤدى الرسالة التي وجد من أجلها ، وهو الأجدر بحماية حقه في الحياة، لأن في بقائه عزة الدين وصلاح الدنيا ، لذلك كان دم المؤمن معصوما، وكيانه مصونا، لا يجوز الاعتداء عليه ، فقتله كبيرة من الكبائر، وجناية عظمى جعلها الإسلام أقدس عند الله من بيته الحرام  كما دل على ذلك حديث رسول الله صلى الله علي وسلم، وما يجري في هذه الأيام من القتل والدمار وسفك الدماء  ليدل على مدى الاستهانة بحق الإنسان في الحياة .  كان المسلمون أشد فرحا بسيلان دمائهم ، لأنهم كانوا يبذلونها رخيصة في سبيل الله، لإعلاء كلمة الله، رائدهم في ذلك قول الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا، بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ. فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ. يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ لكن دماء المسلمين اليوم تسيل ظلما وعدوانا بسيوف أبناء جلدتهم، وبطش الظلمة المستبدين منهم .

أن بلاد الشام، عقر دار الإسلام ،أرض الملحمة الكبرى، التي  ستكون مقبرة لكل من مكر بها وكاد لها، ولكل من أجرم في حقها وحق المسلمين فيها مرددين قول الله عز وجل: ﴿ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ ﴾    

لا ضير قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار ، فرغم الأحزان الشديدة ، ورغم الآم الكبيرة ، بهذا الكم الهائل من القتل والدمار ، للذين قالوا ربنا الله ، فإننا نستبشر خيرا بما يجري ، فغاية المؤمن الحق غايتان   إما نصر عزيز أو شهادة كريمة ، وحيث أن الموت غاية كل حي مهما طال به العمر ، وامتد به الأجل   فلا أجمل ولا أحلى ولا اعز من أن يقضي المرء شهيدا في سبيل الله ، وحيث أن آلة القتل وأداة الدمار ،، قد طالت الأبرياء الصغار ، فان ذلك بشرى لأهليهم وأقاربهم ، إذ سيكونون طيورا في الجنة ، يأخذون بأيدي آباءهم وأمهاتم إلى نعيمها   حيث لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، من صنوف الإنعام والتكريم .

روى مسلم في الصحيح عن أبي حسان قال: قلت لأبي هريرة: إنه قد مات لي ابنان فما أنت محدثي عن رسول اللهصلى الله علي وسلمبحديث تطيب به أنفسنا عن موتانا، قال: نعم صغارهم دعاميص الجنة – أي صغارها - ، يتلقى أحدهم أباه أو قال أبويه فيأخذ بثوبه أو قال بيده كما آخذ أنا بصَنِفة ثوبك – أي طرفه - هذا فلا يتناهى أو قال: فلا ينتهي حتى يدخله الله وأباه الجنة)   فإذا كان جزاء الموت الطبيعي للطفل الصغير طيرا في الجنة ، يأخذ بيد أبويه إلى نعيمها ، فما بالكم باستشهاد هذا الطفل وقتله بأيدي الطغاة المجرمين  ألا يكون ذلك لنعيم أكبر وسعادة أجمل ، فهذا منطق الأشياء إذ أن الأجر على قدر المشقة ، وأي مشقة أعظم وأشقى من أن يُذْبَحَ طفل بريء ، وتُزْهَقَ روحه ، دونما ذنب ، سوى أنه ينتمي لأبويْن يرفضان الظلم والاستبداد .  

أما علم القاتل أنه قبل أن يقتل أخاه المسلم ، قتل نفسه وذبح عقيدته ، ودمّر إيمانه وأزهق إسلامه   وأعدم إنسانيته ؟ أم علم مَنْ جهّز القنابل لتدمير بيوت المسلمين والمسالمين ، أنه دمّر بيته أولاً ونسف أسرته وقتل أهله ؟ لا ضير فإن عدالة الله في محكمة العدل الكبرى يوم العرض الأكبر ، ستنال منه : ( أول ما يُقضى يوم القيامة بين الناس في الدماء )   ولو تصور القاتل مشهد ضحيته ، وهو يحاكمه عند الواحد القهّار ، يوم ينفخ في الصور ، لما قتل ، وفي الحديث الصحيح: ( يأتي المقتول ظلماً يوم القيامة يحمل رأسه بيده عند الرحمن يقول للقاتل: يا ربي سل هذا فيما قتلني؟ ) أما علم القاتل أن الدماء التي سفكها لن تذهب ، وأن الأرواح التي أزهقها لن تضيع ، وأن الأُسَر التي يتّمها لن تُنسى ، فإلى الله المشتكى ، بعضنا يقتل بعضاً بفتاوى جاهزة ، فجنائز المسلمين تملأ الشاشات ، وصياح ثكلاهم تصم الآذان. فكيف ينام من حملوا السلاح على المؤمنين والمستأمنين والمسلمين والمسالمين، فكم من بريء قتلوه، وكم من عابد ذبحوه، وكم من طفل يتموه  وكم من بيت دمّروه، وكم من مجدٍ هدموه، وكم من عدوٍّ أعانوه؛ فحسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، فيا من حمل السلاح، ولدماء المسلمين أباح، أين تذهب يوم يجمع الله الخلائق في ذاك الساح؟ والله لو فهمت حديث أسامة لقتلتك الندامة، قبل يوم القيامة، قتل أسامة مَنْ شهد أن لا إله إلا الله ، فغضب صلى الله علي وسلم  غضباً شديداً، وزجره وكرر عليه: ماذا تفعل بلا إله إلا الله ، إذا جاءت تحاج عنه يوم القيامة ؟ ويا من أطلق على المؤمنين الرصاص  والله لتذوقنَّ القَصَاص، وليس لك منه مناص، قال رسول الله صلى الله علي وسلم: ( لا ترجعوا بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ) ، نعم ثمن الجنة غالٍ جدا ً  ولن تُنال إلا بالتضحية. يقول الرسول صلى الله علي وسلم : ( ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة ) ألا تشتاقون لريح الجنة؟ ألا تشتاقون لنعيمها؟ ألا تشتاقون لأنهارها وأثمارها؟ فالله لن يسوي بين من قدَّم وضحَّى بكل غالٍ ورخيص لأجل دينه، وبين من ركن إلى الدنيا ورضي بنعيمها ، وقعد عن العمل لشرع الله وإعلاء كلمته، والله سوف نُسأل عن هذه الأيام، بل عن هذه الساعات التي تخاذلنا فيها عن العمل لدين الله ، ونصرة إخواننا في بقاع الأرض. يقول الله سبحانه محذراً لنا: ﴿ قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾. فالله عز وجل لم يترك لأي متقاعس أو متخاذل شبهةً في تقاعسه، فبعض الناس يقولون: إن الله لم يأمرنا أن نخسر أعمالنا، أو نضحي بمساكننا، أو نصاب في أهلنا وأولادنا، فكان هذا التفصيل من الله رداً واضحاً ، وقطعاً للطريق على كل متقاعس ، ولو كانت السلامة من الأذى في دين الله علامة على كرامة الإنسان عند ربه ، لكانت الأنبياء بها أولى.

إن منزلتنا في الجنة تحدد على قدر تضحياتنا لدين الله عزَّ وجلَّ، وما قدمناه لإعلاء كلمته. وبقدر ما تكون شدة الألم الذي نتحمله بسبب دين الله نكون قريبين من الله عزَّ وجلَّ، ومنعمين بجنانه يوم القيامة. فالله عزَّ وجلَّ يقول: ﴿ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا ﴾ تأملوا قوله تعالى: ﴿ وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ ﴾ تلك الديار التي تؤويك وتستقر فيها مع أهلك وتجد فيها الراحة ﴿ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي ﴾ إيذاء بسبب ما قاموا به من الدعوة لدين الله والصراع مع الكفر. ﴿ وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا ﴾ قدموا أغلى ما عندهم لله عزَّ وجلَّ، زهرة شبابهم رخيصة لله عزَّ وجلَّ، فما هي النتيجة وما هو الجزاء لتلك التضحية العظيمة ؟ إنه القسم من الله أن يمحوا لهم الذنوب التي ارتكبوها في حياتهم الدنيا، وأن يكرمهم بدخول جناته ﴿ لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ ﴾ وما أحسن هذا من جزاء !! .

إن ما نحن فيه من الشدة والبلاء، وقطع للأعناق وسفك للدماء، وقتل للأهل والأبناء، ما هو إلا بسبب تقاعسنا عن الإنكار على الظلمة الطغاة سنوات طويلة، وسكوتنا عن الحكم بغير ما أنزل الله ، والقبول بحكم الجاهلية ، التي قال الله جلَّ في علاه فيها:  ﴿ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ . ولأننا ركنا إلى الدنيا ونعميها، وصار همنا الأول هو الطعام والشراب، فقد سلط الله علينا الظلمة ، فتجرؤوا علينا ، وأهانونا وداسوا على كرامتنا ، وأمعنوا في قتلنا وتشريدنا تماماً كما فعل فرعون مع قومه من قبل ، إذ قال الله فيه: ﴿ اسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ﴾ . وليحذر الذين يأخذون الرشوة على دينهم ليتنازلوا عن بعض أحكامه ، إرضاء للغرب وطمعاً في دعمه لهم ، بالغذاء والسلاح. يقول صلى الله علي وسلم: ( خذوا العطاء مادام عطاء، فإذا كان رشوة على الدين فلا تأخذوه ، تحملكم عليه الحاجة والفقر، ألا إن رحى الإسلام دائرة فدوروا مع الإسلام حيث دار، ألا وإن الكتاب والسلطان سيفترقان ، فلا تفارقوا الكتاب، ألا وإنه سيُولَّى عليكم أمراءُ ، يقضون لأنفسهم مالا يقضون لكم  إن اتبعتموهم أضلوكم، وإن خالفتموهم قتلوكم  قالوا : ماذا نصنع يا رسول الله؟ قال:كونوا كأصحاب عيسى، حملوا على الخشب، ونشروا بالمناشير، فو الله لموتة في سبيل الله خير من حياة في معصية ) .

 

 

 

 

 

 

مفهوم النصر والتمكين

إن مفهوم النصر في الإسلام مختلف عن أي مفهوم آخر ، وإني لأعجب ممن يئسوا وارتابت قلوبهم من نصر الله  ، يولون وجوههم قبل عدوهم  ليلتمسوا  منه الحصول على بعض حقوقهم ﴿كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه ﴾ الرعد14 . وما علموا أننا لم ننتصر يوماً بعدد ولا عدة ، وإنما نصرنا بهذا الدين، وعندما تخلى المسلمون عن منهج ربهم لم ينتصروا في معركة قط، ولم يستردوا أرضاً، ولم يستعيدوا حقاً ، رغم كثرة جيوشهم، ورغم صنوف الأسلحة التي كدسوها ، وأنفقوا عليها الأموال الباهظة، وذلك لأننا أبعدنا الإسلام عن معركتنا، وابتغينا العزة بغيره، وخضناها معركة قومية أو وطنية ، وتحت مختلف الشعارات والرايات الجاهلية والعصبية، وطلبنا النصر من غير مصدره فأذلنا الله وخذلنا، وما نزال نتجرع مرارة الهزائم التي تتوالى على الأمة ، وما لم نرجع إلى ديننا، فلن يتغير لنا حال ﴿ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ﴾ الرعد11. فليس النصر أن نقتل الأمريكان ، أو نُطرد جيوشهم  من بلاد المسلمين، ولكن النصر أن لا نكون أذناباً لهم، نهجر كتاب ربنا وسنة نبينا ، ونطبق نُظُمهم وقوانينهم الكافرة، وننادي بديمقراطيتهم ونسير في ركب الشرعية الدولية التي سطروها. النصر أن يطرد  فكرهم ونفوذهم ، النصر أن يُمَكَّن لدين الله فتُطبَّق أحكامه وتُمتثل أوامره وتُتَّقى محارمه، النصر؛ هو انتصار العقيدة، وانتشارها بين الناس ، وانتصار الحق على الباطل ، والصبر على المحن والشدائد ،، النصر مدخر لمن يستحقونه ، ولن يستحقه إلا الذين يثبتون على البأساء والضراء  ويستيقنون أن لا نصر إلا من الله ، وعندما يشاء الله فلله تعالى سنن لا تتغيَّر يحكم بها الكون والحياة والإنسان، منها متطلبات النصر ومسببات الهزيمة. والحكمة من وراء هذه السنن أن تظهر خبايا النفوس، وتبرز معادن الناس من خلال الواقع        لا من خلال أقوال وأمنيات، فتتميّز الصفوف  وتتمحص النفوس، ويُعلم المؤمنون الصابرون فينصرهم الله، يتجلى ذلك في قوله تعالى: ﴿ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله، ألا إن نصر الله قريب ﴾ يتطلعون إلى نصر الله فحسب لا إلى أي حل آخر ، ولا إلى أي نصر آخر لا يجيء من عند الله، لأنه لا نصر إلا من عند الله، النصر إيمان وجهاد، ومحنة وثبات وابتلاء ، وصبر وتوجه إلى الله وحده، واستعلاء بالإيمان وتحد لأمة الكفر مهما عظم كيدها واشتد بطشها، وعدم الانحناء لرياحها وضرباتها المتتالية.

النصر سنة من السنن التي تظهر خبايا النفوس، وتبرز معادن الناس من خلال واقع منظورٍ لا من خلال أقوال وأمنيات، فتتميّز الصفوف، وتتمحص النفوس  ويُعلم المؤمنون الصابرون فينصرهم الله .

النصر شرف، ولن يتنزَّل على قلوب قاسية غافلة  ونفوس مريضة، وأحوال مغشوشة، في أمة تشعبت بها السبل، وتعمقت في أخوتها الخلافات، وتلوّثت بسوء الظن. النصر :   ترسيخ العقيدة وغرس الإيمان؛ لأن الإيمان الصادق ، يزكي النفوس، ويطهر القلوب، فتصلح الحال، ويكتب الله النصر والتمكين للمؤمنين؛ لأن أسباب النصر داخليةٌ في القلوب والنفوس، قال تعالى: ﴿ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ ٱلأَشْهَـٰدُ ﴾ غافر 51.

النصر والتّمكين لا يأتي عفوًا، ولا يكون بتدخل قوى غيبية في المعركة ضد الباطل، بل يحتاج إلى الإعداد الجيد، وامتلاك وسائل النصر. فالله تعالى بإمكانه أن ينصر المؤمنين ، ويهلك أعداءهم دون قتال، إلاّ أنّه سبحانه أراد أن يعلم أمته معنى الإعداد الجيد، فقال تعالى : ﴿ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ﴾ وليس على المؤمنين أن يرهقوا أنفسهم ، بقياس قوّتهم إلى قوّة الأعداء، فوسائل النصر كثيرة، فقد يكون بدب الرعب في قلوب الكافرين، وزرع الثقة في نفوس المؤمنين، لذا عليهم أن يعدوا لمعركتهم عدتها، دون النظر إلى كثرة عدد أو قوة سلاح، وإنما يعدوا لها بكل ما يستطيعون، وما النصر إلاّ من عند الله.

النصر قد يؤخَّر لحكمة يريدها الله، فتظهر باديَ الرأي هزيمة، وقد يُهزم الحق في معركة، ويظهر الباطل في مرحلة، وكلّها في منطق القرآن صورٌ للنصر، تخفى حكمتها على البشر، والمؤمنون غير مطالبين بنتائج، إنما هم مطالبون بالسير على نهج القرآن وأوامره، والنصر بعد ذلك من أمر الله، يصنع به ما يشاء، ﴿ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ وَلِيُبْلِىَ ٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَنًا إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾الأنفال 17.

النصر قد يبطئ لأن بناء الأمة لم ينضج ولم يشتد ساعده، ولأن البيئة لم تتهيأ لاستقباله، ويتأخر النصر لتزيد الأمة صلتَها بالله، وهي تعاني وتتألم وتبذل ولا تجد لها سنداً إلا الله.  

 النصر من عند الله، والعزة كلها من الله، ومن أراد النصر فليطلبه من الله، ومن أراد العزة فليعتز بالله، لذا فمن أسباب النصر زرع الأمل بالتبشير بالوعد الحق، وهو نصر المؤمنين وتمكينهم، ولا نستيئس من ضعف المسلمين حينا من الدهر، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الإسلام يعلو ولا يُعلى» أخرجه أحمد وأخرجه الطحاوي في شرح المعاني  وصحح إسناده الحافظ في الفتح  والألباني في الإرواء . إنه من البُشريات التي تذيب كل يأس، وتدفع كل قنوط  وتثبت كل صاحب محنة، وتريح قلب كل فاقد للأمل من أبناء هذا الدين، قال صلى الله عليه وسلم : ( بشِّر هذه الأمة بالسناء والرفعة والدين والنصر والتمكين في الأرض ) أخرجه أحمد والبيهقي وابن حبان . هذا وعد الله، ووعد الله لا يُخلف، لكنها مسألة التوقيت المقدور والأجل المحدود، ولئن مرّت الأمة بفترات ضعْف فلا ننسى أنها تقادير الله الذي يَقدر على إعادة عزّ ضاع، واسترجاع سيادة مضت.

إن طريق الحق واضح، وأسباب النصر معلومة، ولابد من توفيرها في أنفسنا ابتداء قال تعالى : ﴿ إن نصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ﴾ ولابد من الصبر بلا انكسار ولا تذلل، واستعلاء بالإيمان بلا تكبر خيلاء وانتظار للفرج دون تواكل ، ولا يأس ولا ملل  وعندئذ يحق لنا أن ننتظر نصر الله ، والتمكين لدينه في الأرض ، قال تعالى : ﴿ وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ﴾ .

 

 

 

 

 

أثر الحروب والنـزاعات

يوجد في هذا العالم ، أولياء الله وأولياء الشيطان   كما يوجد فيه أنصار للحق وأنصار للباطل     ولا يجوز إعلان الحرب والجهاد إلا ضد أنصار الباطل وأولياء الشيطان قال تعالى : ﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً ﴾ . والحروب التي خاضها المسلمون لم يشهد لها التاريخ مثيلاً ، بما امتازت به من قلة لإراقة الدماء وذهاب الأنفس ، وبما عكسته على الإنسانية من الخير والسعادة ، إذ لم يزد عدد القتلى في جميع الغزوات والسرايا والمناوشات حتى السنة التاسعة للهجرة ، على ألف وثمانية عشر نفساً ، منهم 259 من المسلمين و 759 من الكفار ، بينما ذكرت التقارير أن القتلى في حروب هذا العصر من عام 1914 – 1918 قد وصل إلى 000,000, 21 ، وقدر المستر مكستن  عضو البرلمان الإنجليزي أن المصابين في الحرب الثانية الكبرى،  لا يقل عددهم عن ، 000 ,000, 50 وقد كلف قتل رجل واحد في الحرب الأولى عشرة آلاف جنيه   أما في الحرب الثانية فقد كلفت نفقات الساعة الواحدة مليون من الجنيهات .

 وقد شهد العالم منذ الحرب العالمية في القرن العشرين, ما يقرب من مائتين وخمسين نزاعا مسلحا دوليا وداخليا بلغ عدد ضحاياها 170 مليون شخص, أي أنه يحدث في كل خمس شهور تقريبا نزاعا مسلحا, ينتج عنه خسائر في الأرواح والممتلكات والمعدات ، بينما كانت الحروب الدينية الإسلامية ، حاقنة للدماء عاصمة للنفوس والأموال وقد كانت الحروب التنافسية في هذا العصر ، مقدمة لحروب متسلسلة ؛ مما دفع المستر لويد جورج بطل الحرب الكبرى ، ورئيس الوزارة الإنجليزية حينئذ إلى القول : " لو رجع سيدنا المسيح إلى العالم لما عاش إلا قليلاً ، إنه سيرى الإنسان لا يزال بعد ألفي سنة مشغوفاً بالشر والإفساد والقتل والفتك  والنهب والإغارة ببني نوعه ، بل إن أكبر حرب في التاريخ قد استغرقت دم جسم الإنسانية ، وأهلكت الحرث والنسل ، حتى أصابت الناس مجاعة ، وماذا يرى السيد المسيح يا ترى ؟ هل يرى الناس يتصافحون كالإخوان والأصدقاء ؟ لا . بل يراهم يتهيأون لحرب أشد هولاً من الأولى وأعظم فتكاً وتعذيباً   يراهم يتسابقون في اختراع الآلات الجهنمية ويبتدعون وسائل التعذيب " .

إن الحروب والعداوات في هذا العصر ما هي إلا لانصراف هذه الشعوب عن عداوة عدوها الحقيقي ونسيانها له ، فالنار تأكل نفسها إن لم تجد ما تأكل ، فلو عرفت الشعوب عدوها لكان ذلك مشغلة لها عن كل حرب وعداوة ، وهذا ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جعل من قبائل العرب المتعادية ، التي كانت تقطر سيوفهم من دمائهم  أمة واحدة ومعسكراً واحداً ن إزاء الكفر وأهل الباطل وحربهم ، استجابة لقوله تعالى : ﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً ﴾ ولما انصرفت الأمة عن عدوها وتشاغلت عن قتاله ومعاداته ،كانت الحروب الداخلية ، والفتن التي غيرت مجرى التاريخ الإسلامي  .

وللأسف فإن الأمة التي رباها الله بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم ليربي بها الناس ،لم تتجاوب مع منهج الله ، فكانت هذه الخلافات التي نشاهد بين الجماعات والدول والشعوب ، والتي  أدت إلى صراعات دامية   وإلى نزاعات سياسية مستمرة ، وبدلاً من الرجوع إلى القرآن الذي شرّفها الله به ، وجعلها أرقى أمم الأرض على الإطلاق ، وبدلاً من اللجوء إلى الحلول المناسبة النابعة من روح الإسلام ، والمعتمدة على أحكام الشريعة الإسلامية ، فإنها تلجأ إلى الدول الخارجية ، لتضع خلافاتها وخصوماتها أمامها تارة  أو لحمل السلاح ضد بعضها البعض تارة أخرى ، مما أدى إلى ضعف المجتمعات والشعوب الإسلامية ، لأنها تخلت عن حبل الله المتين ، الذي أمر الله به في قوله تعالى : ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً ﴾ 103 آل عمران ، فتفرقت كلمتها ومواقفها ، تجاه قضاياها المصيرية ، الأمر الذي أعطى الفرصة للعدو ، أن يستغل تلك التفرقة ، ليفتت نسيج الأمة ، ويسيطر على مقدراتها بكل سهولة   ويبث في جسدها المشاكل والنزاعات ، ودعم المتسلطين على رقاب الناس   والتقصير في أمورهم وما يصلحهم، سأل سيدنا عمر بن الخطاب أحد الولاة: ماذا تفعل إذا جاءك الناس بسارق أو ناهب؟ قال له: أقطع يده، فقال سيدنا عمر للوالي: إذاً إن جاءني من رعيتك من هو جائع أو عاطل فسأقطع يدك، إن الله قد استخلفنا عن خلقه، لنسد جوعتهم، ونستر عورتهم، ونوفر له حرفتهم، فإن وفرنا لهم ذلك تقاضيناهم شكرها، إن هذه الأيدي خلقت لتعمل  فإذا لم تجد في الطاعة عملاً التمست في المعصية أعمالاً، فاشغلها بالطاعة قبل أن تشغلك بالمعصية.

لقد عمل أعداؤنا على استبعاد أصحاب القرار الديني ، فظهرت الدكتاتوريات المتربعة على البلاد الإسلامية والتي أنشأت عدداً من الدول ، التي تستعين بالأجنبي لحمايتها وإدارة مصالحها، وهو ما تبتغيه الدول المستعمرة من أجل فرض الهيمنة العسكرية والاقتصادية على هذه البلدان ، وبقائها تابعة لها في جميع أمورها ، فدعمت العنف الذي يخرج النزاعات من حالة السيطرة ، إلى الحالة الخارجة عن السيطرة ، والخاضعة إلى المؤثرات الخارجية التي تغذيها سلباً.

والسؤال هنا ما هو المطلوب منا ؟ المطلوب من الشعوب الإسلامية أن تعمل من أجل إقامة المجتمع الإسلامي المنشود ، وليكن شعارها ، لحكم الله نخضع ، وبحكم الله نسود ، وعلينا أن نعمل على اتخاذ القرآن دستورا ، حتى لا نظلم أنفسنا ونظلم أمتنا قال تعالى : ﴿ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ﴾ المائدة 45 . كما يطلب  من الدعاة على وجه الخصوص ، العمل على ترسيخ هذا المبدأ ، والترويج للمفاهيم الإسلامية  القائمة على أساس التسامح ، والتعايش ونبذ العنف   وإدخال تلك المفاهيم ضمن المناهج التربوية والتعليمية في البلدان الإسلامية ، والتشجيع على قول الحق ، والابتعاد عن التملق والتعاون مع المعتدي ، وتعميق لغة الحوار، لفض النزاعات التي تقود إلى العنف ، والى حالة من الفوضى التي تقود إلى انتهاكات حقوق الإنسان السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية ، حتى ساد الاعتقاد أن الأصل في العلاقات الدولية ، هو الحرب والاختصام ، وليس الوئام والسلام ويحزن المرء حينما يرى أن معظم هذه النزاعات والحروب تجري بين المسلمين وفى ديارهم ، وقد تكون من فعلهم أو بتدخلات أجنبية وغالباً ما تأتى تحت مظلة تطبيق حقوق الإنسان ، فهل آن الأوان أن نعمل على تربية المسلم على خشية الله وتقواه ، ليكون قادراً على تأدية واجبه بإخلاص وأمانة من أجل إقامة عالم أفضل ﴿ وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ﴾

 

 

 

 

 

 

 

 

أخلاقنا كيف كانت وكيف أصبحت

لقد أصبحت الأخلاق في وضع لا يطاق ، فما بين انتشارٍ لحوادث الخطف والاغتصاب ، إلى الإدمان وتعاطي المخدرات ، إلى تزايد جرائم القتل والتزوير والرشوة والسرقات ، عز الصدق والإخلاص وانتشر الكذب والإفلاس ، وأصبح الحياء عملة نادرة   وغاب التوقير والاحترام داخل الأسر ، فعق الأبناء الآباء ، وأهملت تربية الأبناء ، وتقطعت الأرحام   وأصبح التواصل في الأحلام ، وتطبق القوانين الوضعية بدل الشريعة الإلهية .

كان المسلمون قديماً يحرصون على المبادئ الخلقية السامية ، والخصائص الاجتماعية الفاضلة  وخاصة فيما يتعلق بالأسرة ، فقد كان بر الأبناء للآباء استجابةً لخالق السماء ، وكان حب الأبناء لآبائهم وبرّهم وحرصهم على أداء حقوقهم ، غير مقتصر على حياة الأبوين ، بل كان يستمر إلى ما بعد وفاتهما ، بالبر بأصدقائهما ، والتحبب إلى أولادهم ، عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: ( إن من أبر البر بر الرجل بأهل ود أبيه بعد أن يولي) ، وكان الأبوان مثلاً للنصح والإخلاص في حبهما للأولاد ، وكانا يضحيان في سبيل تثقيفهم وتربيتهم وتعليمهم   وكان ضمير الحر عزيزاً محترماً كدينه وعرضه ، لا يساوم عليه ، ولا يباع بأي ثمن ، وكان الواحد يفضل الموت على كذبة أو خيانة ، يخلص بها نفسه من الموت . فقد كانوا صادقين ، ولم يكن صدقهم واعترافهم بما يعملون ويعتقدون ، مقتصراً على ما يتصل بأنفسهم ، بل كانوا صادقين فيما يتصل بأمتهم ، وكانوا يعدون الكذب وشهادة الزور   رذيلة وإثماً كبيراً . وكانوا قوامين على الحق شهداء لله ، وإذا حكموا عدلوا ، استجابةً لقوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ ﴾ وقوله : ﴿ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ وقوله :  ﴿ وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ﴾  وقوله : ﴿ وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ﴾ . وكانوا يعدون العلم وديعة من الله لا يبيعونه ، ولا يتعاونون به على إثم آثم ، وعدوان معتد ، ولا يرضون أن يستعين به نظام جائر أو حكومة فاسدة  .   قارنوا هذه الروح السامية ، والنفس الكبيرة المتعالية   التي تأبى أن يباع العلم بيع السلع , لأنها تغار على العقيدة والكرامة ، أن تشترى بمال أو منفعة ، بهذا التبذل والإسفاف ، الذي وصل إليه أهل العلم والعقل والصناعة في هذا الزمان , فقد عرض الكثيرون من علمهم وعقلهم وما يحسنونه كالسلع في الأسواق ، يبيعونها ليشتريها من يزيد في الثمن كائناً من كان ، وتجاهلوا أنا أُمرنا أن نعتصم بحبل الله المتين ، ونهينا عن التعاون على الإثم والعدوان في قوله تعالى : ﴿ ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ﴾ فقد أمرنا ألا نساعد على معصية     وأن نكون مع الحق حيث كان ، ولا نخش في الله لومة لائم ، وأن لا نجامل أو نعين على ظلمٍ أو معصية ، لأن من أعان ظالماً سلطه الله عليه ، وقد يكون من أول ضحاياه .  يروي التاريخ أن المنصور الخليفة العباسي ، طلب من ابن طاووس في مجلس أن يناوله الدواة ليكتب شيئاً   فامتنع ، فسأله الخليفة عن سبب امتناعه ، وعدم امتثاله أمره ، فقال : أخاف أن تكتب بها معصيةً فأكون شريكك فيها   ومتعاوناً على الإثم والعدوان ، فقد آمنوا بقوله تعالى :  ﴿ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَان ﴾ أما ترون يا  إخوتي هذا الاحتراس من التعاون على الإثم والعدوان ، وهذا التعفف عن المشاركة في نظام حكم غير صحيح ، والامتناع من أدنى مساعدة لهدف لا يتفق مع مصالح الأمة ، أو يعود على الأمة بالضرر أو فيه غش وخديعة لها .

 إن ما نراه اليوم من التعاون الذي تتمتع به الحكومات الأوربية من بعض المسلمين ، أمرٌ يتنافى مع منهج الله وشريعتة ، فهنالك شبانٌ مسلمون  وكتاب بارعون ، يتولون تحرير الصحف والمجلات   التي تصدرها الحكومات الأجنبية ، لنشر دعايتها في بلاد المسلمين ، وتمويه الحقائق ، ويعملون على نشر دعاية الحكومات الأجنبية ، التي تعيث فساداً بالمسلمين ومقدراتهم ، فإذا كان هؤلاء المتحدثون لا يرضى ضميرهم بما يقولون , فلماذا يتحدثون لصالح تلك الحكومات .

روى التاريخ أن ملكاً من ملوك العرب طلب من الشاعر العربي عبيدة بن ربيعة فرساً له يقال لها سَكاب ، فمنعه واعتذر أن يعطيها بأي ثمن وقال :

أَبَيْتَ اللَّعْنَ إِنَّ سَكابِ عِلْقٌ  نفيسٌ لا تُعارُ ولا تُباعُ

والعِلْق : النفيس من كل شيء ، فماذا لو عاصر هذا الشاعر، هؤلاء الذين يشتغلون في الحكومات الأجنبية  أو يذيعون من محطاتها ، ما لا يرضى به ضميرهم ، ولا يصدقه علمهم ، أو يصدرون صحفاً   أو يؤلفون كتباً على راتب شهري ؛ أذل وأرخص من جواد ذالك الشاعر ، لأنه يعار ويباع ، وذلك لم يكن ليعار ولا ليباع ، أما لماذا يعملون في هذا المجال ، لأنهم فقدوا الضمير ، الذي منحه الله للإنسان ليُحَكّم مواقفه وتفكيره ، ويدله على الخير والشر وكسب الرضا والراحة النفسية ، ولذلكَ ضَربَ اللهُ لذلك مثلاً بيوسفَ -عليه السلامُ- حينما حجَزَهُ ضميرُه عن الانجرافِ وراءَ الهوى وقال: ﴿ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴾ يوسف23 نعم   ينبغي على الإنسان ، عندما يُقْدِم على عمل ما   أن يتذكّر العقوبة التي تترتب على ذلك العمل ، لأن الإنسان إن وجد وسائل الرقابة التزم ، وإلا فإنه سرعان ما يتفلت ويتهرب ، ويتحايل على القانون   وإن شريعة الإسلام ، إلى جانب ما شرعته من أحكام وحدود وعقوبات ، فقد سعت لتربية الفرد المسلم ، على يقظة الضمير ، والخوف من الله ومراقبته ، وطلب رضاه ، حتى إذا غابت رقابة البشر  وهمت نفس الإنسان بالحرام والإفساد في الأرض   تحرك ضميره الحي ، ليصده عن ذلك ويذكِّره بأن هناك من لا يغفل ولا ينام ، يحكم بين عباده بالعدل ، ويقتص لمن أساء وقصر في الدنيا والآخرة فقال تعالى : ﴿ وإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ الانفطار10 . إن المرء لينظر في حياة الناس فيجد عجباً  مشاكل وصراعات ، وتهاجر وتدابرٌ ، وقطعٌ للأرحام  وغمطٌ للحقوق والواجبات ، وتنكر للمعروف على أتفه الأسباب ، بل إنك لتجد من يكون سبباً في شقاء المجتمع ، بسبب سؤ أخلاقه وتصرفاته ، فتجد من يخون أمته ، ويبيع وطنه ، ويدمر مجتمعه ، لأن الضمير عندما يباع أو يغيب من النفوس ، عندها تهمل الواجبات ، وتضيع    الأمانات ، ويقصّر في الحقوق والواجبات ، ويوسد الأمر إلى غير أهله   وتظهر الخيانات ، وتحاك المؤامرات ، وتقدم المصالح الشخصية على مصالح المجتمعات ، فلنحذر من الغفلة وبيع الضمائر ولنتذكر قدرة الله وعلمه ، وما أتعس  عديم الضمير الذي لا يتذكر ، عند انتهاك الحرمات ، فلا يردعه دين ولا خلق ، وإن أظهر من أعمال البر والخير ما أظهر ، فيحرم التوفيق في الدنيا والثواب في الآخرة ، لأن ضميره لم يكن مع الله قال تعالى: ﴿ وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا * يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا ﴾ النساء 107 . أي يستترون من الناس خوفًا من اطلاعهم على أعمالهم السيئة، ولا يستترون من الله تعالى ولا يستحيون منه ، وهو عزَّ شأنه ، معهم بعلمه، مطلع عليهم حين يدبِّرون ما لا يرضى من القول  وكان الله محيطًا بجميع أقوالهم وأفعالهم، لا يخفى عليه   شيء في الأرض ولا في السماء .

 

 

 

 

 

 

 

 

الإسلام طريق الهداية الحقة

لا توجد الهداية إلا في الإسلام، ولا يملك أحداً الهداية وتخليص الناس من الشقاء ، إلا بالإسلام ، لأنه دين السعادة الحقيقية ، فلا شقاء مع الاسلام رغم كل ما يواجهه المسلم في حياته. ولا شقاء إلا بالبعد عن شرع الله و ترك طريقه ،وكيف تشقى وأنت مع الرحمن؟ وقد خاطب الله نبيه ﴿ طه ، مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى ﴾ فإن كان هذا المنهج نزل من   الرحمن الرحيم, فلا ولن يكون سبباً إلا للسعادة و البعد عن الحزن وانشدوا :

وإذا العناية راقبتك عيونها    نم فالحوادث كلهن أمان

والسعادة كل السعادة في التمسك بدين الله قال تعالى : ﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ﴾ أما من يزعم أنه يملك الهداية ، وتخليص الناس من الشقاوة والحيرة ، من أصحاب المبادئ الظالمة الجائرة ، والأديان المحرفة، ومن يدّعون ذلك من اليهود والنصارى ، ورجالِ الفكر والتربية   وعلماء النفس في الشرق والغرب ، نقول لهم ما قاله الله تعالى : ﴿ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى﴾البقرة 120 فلا هداية للبشرية من ضلالها وشقوتها ، إلا في كتاب الله وسنة رسوله عليه صلى الله عليه وسلم واستمداد الهداية من غير دين الله الخاتم ، كفر وضياع  قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ﴾ آل عمران 100 وإذا صُنَّا الحقيقة التي صرح بها الله ربنا ﴿ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى ﴾ نكون وفرنا على أنفسنا جهوداً كثيرة في تلمس الهداية في الكتب السماوية المحرفة، وفي نظريات البشر وأفكارهم المتضاربة المتعارضة، وسرنا في الطريق المرسوم الذي ينبغي أن ندعو البشرية إليه  ونحاكم علومهم وعقائدهم إليه، تلك هي غاية الدعوة ، أن يهيمن الإسلام على هذه الحياة في الحكم والتشريع، والتعليم والتربية والاقتصاد والسلم والحرب، وأن لا نرضى بغير ذلك، وأن لا نساوم أبداً في هذه القضية، فإن استجاب الحكام لهذا فو الله إن في هذا سعادتهم في الدنيا والآخرة ، وإن أبوا إلا الأخرى ، صبرنا حتى يحكم الله بيننا وبينهم  ولكن لا التقاء في منتصف الطريق، ولا تنازل عن شيء من الدعوة ، لأن الله حذرنا من ذلك ونخشى إن فعلنا ذلك أن تمسنا النار، قال الله تعالى محذراً من ذلك: ﴿ وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ﴾ هود 113، وإذا ما طلبوا التقارب بيننا وبين أتباع الديانات الأخرى -وكلنا سمع بمؤتمرات التقريب بين الأديان _ رفضنا ذلك لأنهم لا يرضون منا إلا أن نتبع ملتهم قال تعالى: ﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ﴾ البقرة 120.وقد أوقف النبي صلى الله عليه وسلم ، هذا الانحراف بعنف، وقال فيه كلمة الفصل بلا غموض ولا لبس، روى الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن ثابت قال جاء عمر بن الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! إني مررت بأخ لي من قريظة فكتب لي جوامع من التوراة ، ألا أعرضها عليك؟ قال: فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال عبد الله بن ثابت فقلت له: ألا ترى ما بوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال عمر : رضينا بالله تعالى رباً ، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً، قال: فُسريَ عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال: والذي نفس محمد بيده! لو أصبح فيكم موسى عليه السلام ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم، إنكم حظي من الأمم، وأنا حظكم من النبيين ) .

 وهذا دليل على وجوب رفض ما يسمى بمؤتمرات التقريب بين الأديان التي تعقد في شتى أنحاء العالم، ويحضرها علماء مسلمون يبحثون في الالتقاء والتقارب بين الإسلام والنصرانية  ويبحثون في إزالة سوء التفاهم بين الإسلام والنصرانية، مع أن الواجب رفض هذه المؤتمرات  

لأن من يحدّث نفسه بالجمع أو التقريب بين الإسلام واليهودية والنصرانية ، كمن يجهد نفسه في الجمع بين النقيضين، بين الحق والباطل ، أو بين الكفر والإيمان، ولأن هذه المؤتمرات تضع الإسلام الدين الحق ، والنصرانية الدين المحرف الباطل في مرتبة سواء ،  وهذا مرفوض لأن الإسلام جاء مهيمناً على النصرانية وغيرها من الأديان، وليس هناك مجال للتقريب بين دين محرف مبدل ، وبين الدين الحق ، ومن المفروض أن يقف علمأونا في مجامع النصارى ، لا ليبحثوا في دينهم الباطل؛ وإنما ليقولوا لهم: دعوا هذا الدين المحرف، ودعوا الشرك والكفر بالله   وتعالوا إلى الدين الذي بشر به موسى وعيسى  وهو دين الله الخاتم ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، لأن الله تكفل بحفظه.

إن قبول علماء المسلمين لعقد مثل هذه المؤتمرات  يعتبر انحرافاً يضر بهم وبدينهم وبعقيدتهم، ولا يستفيد منه إلا الذين قالوا اتخذ الله ولداً، لأنهم بذلك يجرونا إلى باطلهم، ويوقعونا في شباكهم  ومما يؤسف له أن المئات من علماء المسلمين قد أموا مؤتمرات البحث في الالتقاء والتقارب بين الإسلام والنصرانية،  وقد يحضر ممثلون مسيحيون مؤتمرات إسلاميه ، كما حصل في المؤتمر الآسلامي الذي عقد في مدينة لاهور في باكستان 1974م، وقد أشاد المؤتمر بالتعاون الإسلامي المسيحي، وهذه المؤتمرات ،لم تكن الأولى ولا الأخيرة ، فقد عقدت قبلها مؤتمرات وبعدها مؤتمرات على النمط نفسه ، وقد تحدث عن شيء من بلايا هذه المؤتمرات ، محمد محمد حسين في كتابه: (حصوننا مهددة من الداخل) عندما كشف عن الزيف والدجل في المؤتمر الإسلامي المسيحي ، الذي دعت إليه إحدى الجامعات الأمريكية ، ومكتبة الكونجرس الأمريكي عام 1953م، ونشرت قسماً من بحوثه مؤسسة (فرانكلين) الأمريكية، كما كشف عن الأهداف الخبيثة لذلك المؤتمر.

إن بعض الذين يؤمون تلك المؤتمرات ، لا يدركون الدسيسة والمكيدة التي أوقعهم أعداؤهم فيها ، وآخرون يعلمون ذلك ، لكنهم يريدون للإسلام والمسلمين شراً، ومما يعصم العبد في تصرفاته وأعماله في حياته الدنيا: أن يكون خائفاً من ربه سبحانه وتعالى، فيراقب الله جل وعلا في أعماله وتصرفاته؛ لأنه يعلم أن الله ينظر إليه ويراقبه ، فيخشى غضبه وانتقامه، ويَحْذَر أن يقابل ربه سبحانه وتعالى بمعصية أو إثم فيستحق عذاب الله سبحانه وتعالى ، إن المؤمن الصالح التقي يراقب الله سبحانه وتعالى دائماً في كل تصرفاته، ولا يراقبه في صلاته وصيامه وزكاته فحسب؛ وإنما يراقبه في كل عمل من الأعمال  وكيف يرجو عاقل يعرف إصرارهم على الباطل وتماديهم فيه ، كيف يرجو التقارب بينهم وبين المسلمين الصادقين قال تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}البقرة 57 بل هم إن لم يكونوا أشد من إخوانهم المشركين كفراً وعداوةً لله ورسوله والمؤمنين ، فهم مثلهم ، وقد قال الله تعالى لرسوله : ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَاْ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴾ الكافرون .  نزلت هذه السورة لحسم هذه الشبهة ، وقطع الطريق على كل محاولة ، نزلت بهذا الجزم ، وبهذا التكرار ، لتنهي كل قول ، وتقطع كل مساومة للتقريب بين منهج التوحيد ، ومنهج الشرك اللذان لا يلتقيان ، ولا يمكن التعاون بينهما ، إلا إذا انتقل أهل الجاهلية من جاهليتهم بكليتهم إلى الإسلام ، قال تعالى : ﴿ ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه ﴾ آل عمران 85.  

  

 

 

 

 

التجارة الرابحة مع الله

إن من أفضل التجارات وأعظمها ما كانت لنيل رضا الله والفوز بعظيم ثوابه ، والنجاة من سخطه وعذابه   تجارةٌ سلعتها الطاعات وثمنها الحسنات ، تجارةٌ يرجونها من عرفوا الله فخشَوه، ومن رقَّت له قلوبُهم، ودمعت من خشيته عيونُهم، ولبيان جزاء المتاجَرة مع الله سبحانه ، نضرب مثلاً ، ولله المثل الأعلى : لو جاءنا خبرُ رجلٍ أعارَ رجُلاً ألف ألفٍ مِن المال على أن يُتاجر بها، ثم يردها إليهِ بعدَ خمسين سَنَة وله ما ربح منها، فأيُّ كرمٍ وعطاءٍ وسخاءٍ   بعدَ هذا ؟ فما بالك وقد استعان المُعارُ على المعير بما أعارَه، فحاربه وجَحَده حقَّه، فأيُّ خِسَّة ودناءة وزيغ بعدَ هذا ؟ ؛ فقدْ وهبَنا الله وأنعم علينا بكلِّ شيء ، وسخَّر لنا كلَّ شيء، واستخلفنا في الأرض  لينظر كيف نعمل، فإذا نحن نعصيه ، وننازعه ملكَه وأمره ونهيه، فمِن كافرٍ به وفاسقٍ وعاصٍ له، وهو يمهلنا وينعم علينا بنِعمه؛ لعلَّنا نتذكر أو نخشى  ولعلنا نرجع إلى الحقِّ ، ونستعمل ما أنعم به علينا في مرْضاته  لتكونَ النِّعمة العظمى والمِنَّة الكُبرى التي بها سعادةُ الدارين الدنيا والآخِرة، يقول تعالى ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ   ﴾ فاطر 29 ، فسبحانه وتعالى وهبَنا ما نتاجر به معه، ثم هو يُعطينا أجر تلك التجارة ، كأحسن ما يكون الأجر والجزاء فهو خيرُ أجر في خير تِجارة، ثم هو يَزيدنا مِن فضله فوق أجورنا، ويضاعف لمَن يشاء، فلو تأمَّلنا عظيم مِنَّته وكرمه، وجزيل عطائه وفضله؛ لعلمنا كم نحن مقصِّرون وكم هو كامِل، ولعلمنا أن ما استحققناه مِن تجارتنا معه ليس حقًّا لنا ابتداءً، وإنما كان بفضله لعلمنا أنه ينبغي علينا ألاَّ نكون إلاَّ في طاعته وعبادته على الدوام، ومن نعم الله علينا رغم عجزنا عن مُوافاته حقَّه، وعجزنا عن شكر ولو نعمة واحدة مِن نِعمهِ التي لا تُعَدُّ ولا تُحصى، وضعْف همتنا إلى الخير ومسارعتنا في الشر، جعل الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضِعف ويزيد، وادَّخر لنا في الجنة ما لا عينٌ رأت، ولا أُذن سمعتْ ولا خطَر على قلب بشَر وجعَل السيئة بسيئةٍ واحدةٍ، ويقبل التوبة ويغفر الذنوب، وبين لنا ما ينجينا من عذابه وسخطه فقال تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ الصف 10، انظروا إلى هذه التجارة العظيمة  وإلى عِظم الجزاء مِن مغفرة وجنَّات تجري مِن تحتها الأنهار ومساكن طيِّبة، إنَّه لجزاء كبير، وفوز عظيم  يتحصَّل عليه المؤمنُ المجاهِد بنفْسه وماله، هذا في الآخرة، أمَّا في الدنيا فيبشر الله المخلصين من عباده بالنصر القريب منه، وإنما قال: ﴿ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا ﴾؛ لأنَّها غير داخلة في الفوز العظيم، وإنَّما هي مِن فوز الدنيا الذي يمتنُّ الله به على عبادِه الباحثين عن فوزِ الآخرة؛ يقول صلى الله عليه وسلم : (مَن كانتِ الآخرة همَّه جعَل الله غناه في قلْبه، وجمَع له شمْلَه، وأتتْه الدنيا وهي راغمة) ، وأنواع المتاجَرة مع الله كثيرة وأوَّلها وأساسها الذي لا تَصلُح إلا به : الإيمان بالله سبحانه ، وبنبيِّه محمَّد صلى الله عليه وسلم ، يقول الله تعالى في الآياتِ التي ذكرْناها مِن سورة الصف: ﴿ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾، فالإيمان هو أصلُ الدِّين، ولا يقبل الله بدونه عملاً، يقول الله سبحانه: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلاَمُ ﴾آل عمران 19  ويقول: ﴿ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ المائدة 5   فجعَل سبحانه وتعالى الإيمان من أولى الأعمال بالوجوب ، وجعله شرطًا في قَبول ما سواه مِن الأعمال، وشرطًا للمتاجرة معه، بل أول الشروط  ويلي الإيمان في المتاجَرة الدفاع عنه، والمجاهدة في سبيلِ الله بالنفس والمال، وهذا مِن لوازم الإيمان  ومِن لوازم الاعتقاد بأيِّ شيءٍ الدِّفاع عنه، والدَّعوة إليه، وكل عمَل ممَّا أمر به أو ندَب إليه الله ورسوله ففعله مِن المتاجرة معه، وكل عمَل ممَّا نهى عنه أو كرهه الله ورسوله، فتركه مِن المتاجرة معه، وكل ما هو وسيلة وسبيل إلى تحقيقِ الإيمان الكامِل ممَّا ذكر في الكتاب والسُّنة، فهو مِن المتاجرة معه سبحانه  غير أنَّ الذي عُيِّنَ في الآية هي الأُسس التي انبنَى عليها الدِّين عندَ نزول القرآن، والتي اقتضتها الحاجةُ أكثرَ من غيرها، وهي بلا شكٍّ أفضلها، يقول الله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ ﴾ فاطر29 ، فذكر الصلاة والزكاة، وكذا كل عمَل في الإسلام ، داخلٌ في مسمَّى التجارة، ويقول سبحانه وتعالى في صِفة هؤلاء المتاجرين معه الرابحين بفضله: ﴿ التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾التوبة 112  فهذه كلها مِن أنواع المتاجرة مع الله، والإيمان من أهمها والجهاد في سبيل الله ذروة سنامها ، حيث تُبذل النفوس لقتال أعداء الله ، يبيع فيها المؤمن نفسه  والله يشتريها والسلعة هي الجنة كما قال صلى الله عليه وسلم : ( ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة )  إنَّه لجزاء كبير، وفوز عظيم  يتحصَّل عليه المؤمنُ المجاهِد بنفْسه وماله ، ففي الآخرة جنات تجري من تحتها الأنهار ، وأمَّا في الدنيا فالنصر القريب ، نقدّم من أجله أنفسنا وأموالنا قال تعالى : ﴿  وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ ذكر أصحاب السير أن الأنصار لما اجتمعوا عند العقبة ليبايعوا النبي صلى الله عليه وسلم بيعة الحرب على أن ينصروه ويمنعوه ، ليسلموا له الحكم في المدينة المنورة ، قال له عبد الله بن رواحه رضي الله عنه: يا رسول الله، اشترط لربك ولنفسك ما شئت. فقال صلى الله عليه وسلم : ( أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً  وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم ، فقالوا: يا رسول الله، وما لنا إن فعلنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم : الجنة قالوا: ربح البيع، لا نقيل ولا نستقيل. فنزل قول الله سبحانه : ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾التوبة 111  قال القرطبيُّ في تفسير هذه الآية: ثم هي بعدَ ذلك عامَّة في كلِّ مجاهد في سبيلِ الله من أمَّة محمَّد صلى الله عليه وسلم إلى يومِ القيامة ، فكل من جاهد في سبيل الله ، فقد باع نفسه لله سبحانه، وكذلك الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، والذين يعملون لنشر دين الله  والذين يعملون على نصرة دين الله عز وجل وإعزازه ، فكل هؤلاء تعمهم الآية وينطبق عليهم أنهم ممن يبيعون أنفسهم لله .

وهذا مِن أعظم الفضل، فقدِ اشترى الله مِن المؤمنين أنفسهم التي وهبَها لهم، ولا فضل لهم فيها ووعَدهم   أن يكون أجرُ هذا البيع وجزاؤه الجنة، فما أهونَ النفسَ وأرخصَها ، إذا كان الثمنُ الجنة! وما أربحَ هذا البيعَ الذي نشتري فيه الباقي بالفاني!  

إن ديننا بحاجة ماسة إلى أمثال هؤلاء ، الذين يبيعون أنفسهم لله ، ويشترون الجنة، وكأن المنادي ينادي: هل من بائع نفسه لله بعمل لإعزاز دينه ولإقامة دولة الإسلام ، التي يطبق فيها شرعه؟ هل من متاجر مع الله تجارة تنجيه من عذاب أليم ، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم؟ هل من متاجر مع الله يعمل لرفعة دينه ونصرة نبيه صلى الله عليه وسلموهل من مشترٍ لجنة عرضها كعرض السموات والأرض؟   فإلى الدعاة الذين يسعون لإقامة دين الله في الأرض  وإلى الذين سبقوا الناس جميعاً إلى مقارعة الظالمين ومواجهة الكافرين ونصرة الدين، إليهم نقول: إن كنتم تخشون الله رب العالمين وتعظمونه، فأروا الله سبحانه وتعالى من أنفسكم ما يرضيه عنكم، وأجيبوا داعي الله فلا تعطوا دعوتكم فضول أوقاتكم  ولا فتات أموالكم، ولا القليل من جهودكم ، وأنتم تطمحون إلى أن نصر الله وطلب رضاه .     

فاعملوا على طلب رضى ربكم واستعدوا للقائه بكثرة الصلاة ، والالتزام بالسنن والنوافل وبقراءة القرآن وذكر الرحمن، وابذلوا جهدكم في العمل لإقامة دولة الإسلام ، عسى الله سبحانه أن يغفر لنا ويرحمنا ويعزنا وينصرنا، واجعلوا استجابتكم للتجارة مع مولاكم، كذاك الأعرابي الذي سمع قوله تعالى : ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّة ﴾  فقال :كلام من هذا؟ فقيل له: هو كلام الله. فقال: بيع والله مربح، لا نقيله ولا نستقيله، فذهب إلى الغزو فاستشهد، وتذكروا أن الله وعد المؤمنين الذين يبيعون أنفسهم بأن لهم الجنة، قال تعالى : ﴿ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيم ﴾ .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

  

 المعاناة التي تعيشها الأمة

 إن ما تشهده الأمة اليوم من تفرق وضعف ، ما هو إلا مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم :( يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها قالوا : أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله ؟ ، قال : بل أنتم يومئذ كثير ، ولكنكم غثاء كغثاء السيل   ولينـزعــن الله المهابة من صدور أعدائكم   وليقذفن في قلوبكم الوهن ، قالوا : وما الوهن يا رسول الله ؟ قال : حب الدنيا وكراهية الموت )رواه أبو داود وهو حديث صحيح . لقد بات الواحد منا لا يدري ماذا يقول ، والمجازر الدموية على أراضي المسلمين ، التي تعدت المقاتلين إلى الشيوخ والنساء والآمنين ، ونالت الأطفال الصغار والرضع  وجاوزت الأرض ، إلى القصف بالطائرات والمقاتلات ، والعالم كله يتفرج وكأن الأمر لا يعنيه. إنها ثمار تخلي الأمة عن منهج ربها  ، ففقدت عزتها وكرامتها ، وتسولت على موائد المفاوضات ،لاهثة وراء سلام مزعوم ، وأمن معدوم ، لا يمكن تحقيقه مع من لا عهد لهم ولا ميثاق ، قال الله فيهم : ﴿كـُلَّمَا عَـٰهَدُواْ عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ .

نرى ونسمع عن مناظر تقشّرُّ لها الأبدان ، ينُسي آخرها أولها، ويغطي حديثها على قديمها.

ماذا أقول وقلبي بات يعتصر      بما يدور وما يجري وينفطر

ماذا أقول وأعماقي ممزقة    والصمت ران كأن الحال يحتضر

   ماذا أقول وسمعي مـا به صمم     والعين تدمى وماء العين ينحدر

إن بلاد المسلمين تشهد أحداثاً مروعة ، وأمة الإسلام غثاءٌ يتداعى عليها الأعداء ، دويلات متناثرة متفرقة،تفصل بينها حدود جغرافية ، وتعلوها رايات  الوطنية والقومية ، وتحكمها القـوانين العلمانية ، وتدور بها الدوامات السياسية  فما من يوم يمر ، إلا ويزداد اليقين بأن هذه الأمة أُصيبت في مقتل ، وجوبهت من ضعف ، وتخاذلت عن صيحات التحذير وآيات النذير ، قي القرآن الكريم ، الذي يبين أسباب هلاك الأمم ، وجاءت السنة النبوية محذرة من الوهن وأسبابه  والضمور ومقدماته ولكنها لم تلتفت لذلك كله .

لقد قذف الله في قلوب المسلمين الوهن ، فأصبحوا أمة تخاف من تكاليف الشجاعة ، فلا تنتصر لحقها ولا تصد الغزاة عن ديارها ، فتداعت عليها الأمم ، وصارت قصعة مستباحة لكل طامع وغاصب ، مع أنها لا تعاني من نقص فـي عدد ولا عدة ، ولا مقومات ولا ثروة ، ومع ذلك فمكانتها الدولية لا تساوي شيئا ، لأنها تخلت عن أسباب النصر والتمكين ، وأخلدت إلى الحياة الدنيا وزهرتها ،ولم تحسن الاستفادة من سواعد رجالها ، وهمم أبطالها وتضحيات مجاهديها لتسترد حقوقها ، ولم تنتفع بما تدخره من عدد وأسلحة في مواجهة أعدائها ، ولم توظف عقول أبنائها في بناء مجدها ورفعتها .

ففي كل قطر من أقطارها لا يُسمع إلا الأنين والصراخ والعويل ، ذبح وقتلٌ وتهجبر ، وصياح وعويل ، فلا نكاد نغمض أعيننا عن مذبحة للمسلمين في بلد ما ، حتى نرى غيرها في بلد آخر ، دون مراعاة ، لشعارات حقوق الإنسان، والشرعية الدولية  التي ينادوا بها ، شعارات لا تعنى بحقوق المسلمين الذي داسته مؤامراتهم ، ومزقته طائراتهم وأسلحتهم الثقيلة ، لدى عملائهم في مواجهة شعوبهم ، الذي خلّف آلاف القتلى والجرحى ، فلا تجد إلا الصمت الدولي ، في مقابل شجب واستنكار   وتصريحات رنانة ، ومواقف صورية ، وخطوات جبانة ، تصدر على استحياء من هنا وهناك ، ممن قادوا الشعوب إلى التهلكة وأغرقوها في التوافه  ومنعوها أسباب المنعة والقوة ، وجعلوا مقدرات الأمة ، أدوات هدم لا بناء ، فأصبح الغني لا يعرف قيمة لغير الدرهم والدينار ، والفقير يلهث خلف بريقهما ، وتلك هي علامات التهلكة ، لأن الأمة تركت الأمة الجهاد في سبيل الله ، وتخلت عن كل أسباب القوة ، فلا يشد ولا يؤازر بعضها بعضاً أعرضت عن منهج ربها ، باللجوء إلى مجلس الأمن والتوسل إلى المنظمات الدولية ، طالبة النصرة والعون   وتناست الأمة سنة الله ، التي لا تتغير ولا تـتبدل بأن من تعلق بشيء غير الله ، وكله الله إليه . فمن السنن الكونية ، أن ما بعد الشدة إلا الفرج  وأن من ظلمة الليل ينبلج الصبح ، وأن هذا الواقع الذي يمر به المسلمون ، ليس شراً محضاً لا خير فيه  بل فيه من الحكم والفوائد ، كتمحيص الصفوف ومعرفة الصابرين المجاهدين .  

ذكر العـز بن عبد السلام أن للمصائب والمحن فوائد تختلف باختلاف رتب الناس :

أحدها: معرفة عز الربوبية وقهرها.

الثاني : معرفة ذل العبودية وانكسارهـــا ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : ﴿ الَذِينَ إذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إنَّا لِلَّهِ وإنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾ اعترفوا بأنهم ملكه وعبيده ، وأنهم راجعون إلى حكمه وتدبيره ، لا مفر لهم منه ولا محيد لهم عنه.

الثالثة : الإخلاص لله تعالى ، إذ لا مرجع في رفع الشدائد إلا إليه ﴿ وإن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إلاَّ هُوَ ﴾ .

الرابعة : التضرع والدعاء ﴿ وإذَا مَسَّ الإنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا ﴾

الخامسة : تمحيصها للذنوب والخطـايــا :( ولا يصيب المؤمن وصب ولا نصب حتى الهم يهمه والشوكة يشاكها إلا كفر به من سيئاته) رواه مسلم.

السادسة : ما في طيها من الفوائد الخفية ﴿ فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئاً ويَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً ﴾ لما أخذ الجبار سارة من إبراهيم عليه السلام كان في طي تلك البلية أن أخدمها هاجر  فولدت إسماعيل لإبراهيم عليهما السلام ، فكـان من ذرية إسماعيل خاتم النبيين ، فأعظم بذلك من خير كان في طي تلك البلية.

السابعة : إن المصائب والشدائد تمنع من الأشر والبطر والفخر والخيلاء والتكبر والتجبر ، ولهذه الفوائد الجليلة كان أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، كالذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم   وتغربوا عن أوطانهم ، وتكاثر أعداؤهم   ولم يشبع سيد الأولين من خبز مرتين وأوذي بأنواع الأذية وابتلي في آخر الأمر بمسيلمة وطليحة والعنسي .

الثامنة : الرضا الموجب لرضوان الله تعالـى فإن المصائب تنـزل بالبر والفاجر فمن سخطها فله السخط ومن رضيها فله الرضا أهـ.

إن ما يحدث اليوم في بلاد المسلمين ما لم يحدث على أيدي أي محتل في تاريخ البشرية كلها   فقد فجّروا الحروب ، وأسالوا الدماء ، وبعثوا الأحقاد ، حرب من الأرض والبحر والسماء   يتحدثون عن السلام بألسنتهم ، ويباشرون الحرب في خططهم واستعدادتهم ، فلا تثير أفعالهم الشنيعة وتجاوزاتهم الرهيبة ، لدى الدول القائمة على رعاية المواثيق ، والمنادية بحقوق الإنسان ، أي تحرك أو تصرف منصف ، لأنها لا تعرف غير سبيل القوة والقهر والظلم ، لذا لا يمكن لها أن تنشيء حقًا أو تقيم سلامًا، لأن العدوان لا يولد إلا العدوان

ولن يتمكن المسلمون من رد العدوان إلا بالعودة الصادقة للإسلام ، فإن من سنن الله أن العاقبة للمتقين ، وأن الأرض يرثها عباد الله الصالحون، ومن سنن الله إذا تخلى أهل الإيمان عن إيمانهم ، فإن الله يستبدل قومًا غيرهم ﴿ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ﴾ . وبالرغم من كل ما نعاني ، فإن النصر قادم لا محالة ، بنا أو بغيرنا لقوله تعالى: ﴿ هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون﴾ ودين الله منصور ﴿ إن لا تنفروا يعذبكم عذابًا أليمًا ويستبدل قومًا غيركم ولا تضروه شيئًا والله على كل شيء قدير ﴾ وسيعلو الحق بنا أو بغيرنا ﴿ يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ﴾ .

وإذا كان الباطل سيزهق بجهودنا أو بجهود غيرنا  فلماذا لا نطلب الخير لأنفسنا ؟ ولماذا لا نكون لبنة في طريق النصر  وسهمًا من سهام الحق ، وأداة لإزهاق الباطل. إننا مطالبين بجمع الكلمة ، وتوحيد الصفوف ، لردع قوى الكفر والظـلم والفساد في الأرض ، وكم نحن بحاجة إلى كتائب مؤمنة ، تصدق مع الله وتمضي في سبيل إعزاز دينه ، ورفع كلمته ونشر العدل في الأرض عندها سينصرنا الله على عدونا ويمكن لنا في الأرض ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾ .

 

 

 

 

 

 

 

 

 الإخلاص في العمل

نحن بحاجة إلى الإخلاص في العمل ، وإنما تبنى الأمم بالأعمال لا بالأحلام والأقوال ، حتى إن الإنسان يستحق منزلته في الآخرة بين الأبرار ، بالعمل الصالح المبني على الإيمان، أو بين الأشرار بالعمل الطالح المبني على الكفر والجحود والنكران.

فالعمل إذن ، هو طريق الرقي في الدنيا وسبيل السعادة في الآخرة، ومع إيمان المسلمين بهذا ، إلا أنهم لا يعملون العمل المناسب ، الذي يدفع الحياة إلى الأمام دفعا   ويرقى بهم في مصاف الأمم   فكان هذا من أسباب ضعف المسلمين في شؤون دنياهم فأصبحوا عالة على غيرهم ، في الكثير من أمور معايشهم ، مما جعل الأعداء يتسلطون عليهم ، ويوجهونهم وفق ما يريدون ، لأن المسلمين لا يعملوا ، ومن يعمل منهم لا يتقن عمله  لذلك ضعفت قيمة العمل ، وقلّ العاملون المخلصون  فانعكس ذلك مستوى الإنتاج ، الذي تدنى وأدى إلى ضعف المسلمين ، وتسلط الأعداء عليهم .

لذلك جاءت الدعوة إلى العمل في قول الله تعالى : ﴿ وقل اعملوا ﴾ لأنه الطريق الوحيد الذي يخلص الأمة من تسلط أعدائها عليها ، فتشعر بكرامتها وعزتها  وتحمل عقيدتها وفكرها ، الذي يعود بالخير على الأمة استجابة لقوله تعالى : ﴿ ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ﴾ ولأن الدعوة بحاجة إلى قوة  أمرنا بالإعداد لها فقال تعالى :﴿ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ﴾ حتى  نقدم هذه العقيدة وندعو إليها من قوة ، أمّا والأمة ضعيفة مهزومة ، أمّا وهي فقيرة مستجدية لفضل غيرها ؛ فإنها لن تحمل فكراً  ولن تدعو إليه ، ولو دعت إليه فلن يقبل منها .

وحتى تتفوق الأمة في مجال الإنتاج والعمل ، لابد من شروط أساسية لتنطلق في ميدان الإنتاج والإتقان أهمها تصحيح الفهم  الخاطئ للناس ‘ بأن الدين لا صلة له بالحياة،  وأنه الدافع للعمل، وتناسوا أن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل؟ ولعل الناس يظنون أن المقصود بالعمل ، العمل الأخروي ، وغاب عنهم ، ما أخبرنا به صلى الله عليه وسلم  : أن من بات كالا من عمل يديه بات مغفورا له  وقوله :اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا ، وقوله : إذا قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة فليزرعها ، وفي هذا دلالة على أهمية العمل في الدنيا ، بل إن العمل في الإسلام عبادة  والمقصرون في أعمالهم ، لا يضرون أنفسهم فقط   بل يضرون غيرهم ، ثم إن القناعة بقيمة العمل والعلم هو الذي يجمع عقول الأمة ويوجهها نحو العمل والإنتاج ، وقد أوصل إهمال هذا الفهم إلى ضعف الأمة ، وطمع الأعداء فيها ، والأمم بحسب ما اعتاد أبناؤها، فإن عودتهم احتمال الشدائد والصبر على المكاره وإتقان العمل، خلقت منهم رجالا يشدون أزرها، وإن اعتادوا الرخاوة والترف والكسل في العمل ، والتهاون في المسؤولية ، كانوا عالةً على الأمة ، ففي مجال تربية الأبناء ، فإن توجيههم إلى ضرورة الاهتمام بقيمة العمل والإنتاج، والتفوق فيه تكاد تكون من أضعف اهتمامات المربين والمدرسين مما جعل حصول الأبناء على الشهادة ، من أغلى الأماني، وأكبر الأحلام ، دون أن يكون لديهم تصوّر لقيمة  العمل ، الذي ينهض بالأمة ، بل إن الكثير منهم ربما لم يسمع طول حياته العلمية ، كلمة تشجيع على التفوق والإتقان في حياته العملية ، بل ربما إن حياته العملية التي سيدخلها ، لا ترتبط أصلاً بالعلم الذي اكتسبه ؛ فأصبحت الشهادة مطلباً مباشراً ، سواءً أنتج صاحبها أم لم ينتج ، فشباب الأمة الآن . لا يشعرون ولا يستشعرون أهمية العمل وقيمته ؛ لأن العمل ليس من الاهتمامات التربوية لا في البيت ، ولا في المدرسة، لا من الآباء ، ولا من المدرسين ، مما أدى إلى عدم اهتمامهم بالإنتاج   بسبب القصور في الإعداد التربوي ، ولن يصلح حالهم ، إلا عندما نصلح الخلل التربوي في البيوت والمدارس ، وفي الوسائل المؤثرة عليها .

أما في مجال العلم بميادين العمل ، الذي نحتاجه فحدث فيه ولا حرج ، في بلاد المسلمين تطغى الدراسات النظرية حتى في العلوم التجريبية ، أما التطبيق ، فله أقل القليل من الوقت ، وله أقل القليل من الجهد ، وله أقل القليل من الاختبار أيضاً   فيتخرج الطلاب من الكليات العلمية ، بحصيلة هزيلة في ميادين التطبيق ، ثم يذهبون إلى العمل الذي يعزلهم عن الميدان في الغالب ؛ فالمهندس يبتعد عن الهندسة ، ويعيش مع الأوراق فقط ، والسؤال هنا : من المسئول عن هذا القصور ؟ نحن المسئولين أولاً ، كما لا ننكر أن لأعدائنا نصيباً في تكريسه بيننا؛ لأن الشركات الأجنبية التي تعيش في بلاد المسلمين ، تستقدم خبراءها ومهندسيها معها ، ولا تتيح لأبناء المسلمين ، إلا المجالات النظرية . بل إن الكثير من شبابنا يخدع نفسه بالأسماء فقط ، ويعيش في المكاتب ، بعيداً عن ميدان العمل الفعلي .

فلا توجه العقول والجهود نحو العمل والإنتاج فتفرقت بين الأهواء والشهوات ، فأصبحت القدوة   لا تشجع على العمل ؛  لأنها من أهل اللهو والبطالة  

فلو سألنا بعض الشباب عن أمله في الحياة ، وماذا يريد أن يكون في المستقبل ، فلن نجد في الغالب إلا آمالاً جوفاء ، يتمنى أن يصبح ممثلاً أو مغنياً ساقطا   أما أن يكون عاملاً منتجا أو مزارعاً ناجحاً . أو عاملاً جاداً أو عسكرياً مكافحا أو تاجرا ناصحا أو طبيباً ماهرا ، فهذه مهنٌ لا تلمّع في الإعلام ، ولا تقدم للشباب . وإن أقصى أمنيات كثير من شباب الأمة ، لا تتجاوز الرياضة أو الفوز في برنامج ذي فويس أو برنامج أرب آيدل في الأم بي سي  . أبهذا تُعدُّ الأمة للعمل ؟ أبهذا يدفع الشباب للعمل ؟ أبهذا تحقق الأمة التقدم في شؤونها ؟ أبهذا نصبح أمة قوية ؟ تساؤلات تجعل توجيه الأمة للعمل مطلباً ملحا ، وغير قابل للتأجيل ، وأن يكون في سلّم الأولويات، وقائمة الاهتمامات ، لأنه أمر لا بدّ منه إن كنا نريد العزّة والقوّة .   

إن الشعور بحاجة الأمة إلى تغيير كثير من أساليبها التي أدت بها إلى هذا الواقع المتخلف ، قد أدركه الكثير من أبناء الأمة الناصحين لها ؛ فقد نادى الكثير من علماء الأمة ومثقفيها ، بضرورة تأمّل واقع الأمة   والعمل على النهوض بها ، ولكن الحال كما نرى اليوم ، فإن الأمة لا تزال في تخلفها وضعفها . فما السبب ؟ إن من أبرز الأسباب، الفرقة والتنافر في أساليب الطرح للنهوض بالأمة . يقول الله تعالى : ﴿ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ، واصبروا إن الله مع الصابرين ﴾ فمن أسوأ ما أصيبت به الأمة الإسلامية في هذا العصر ، ما نجده من كثرة الآراء والأحزاب ، وكثرة التناحر والتقاتل بين تلك الأحزاب ، وبين أصحاب تلك الآراء ، فتبددت جهود الأمة ، كلٌّ يشغل نفسه لإسقاط الآخر ، أو إسقاط آرائه وأساليبه . يبذل كل حزب جهوده   لإسقاط الآخرين ، وإفساد عملهم ، وما علموا أنهم بهذا يفسدون ولا يصلحون ،، فلماذا لا يعمل شباب الأمة على العمل لسد حاجات الأمة ومتطلباتها   بدل استيراد هذه الحاجات من الأمم الأخرى ، وما الذي يمنع مدارس ومعاهد التدريب المهني في العالم الإسلامي  أن تتبادل الخبرات لتخريج العمال المهرة   لسدّ حاجة الأمة ، بدلاً من فتح البلاد الإسلامية لأعداء المسلمين ، وفي تخصصات عادية تجد ما يمكن القيام بها ، أليس من مصلحة الأمة جمع الجهود للعمل المنتج ، والاتجاه الجاد للتعاون ، لتحقيق ما من شأنه أن يحقق انتصار الأمة ، وتحريرها من سيطرة أعداء الإسلام عليها  بسبب سيطرتهم على شؤون دنياهم   فهل نحن فاعلون ؟ أم نحن معرضون عن قول الله تعالى : ﴿ وقل اعملوا ﴾ .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

إننا نحاول أن نتبع الغربيين في كل أمر، ونلهث وراء أعمالهم الدنيوية التي بغيرها تتعثر الحياة، فلماذا نتبعهم في الأفكار والتصورات ولا نتبعهم في الأعمال والإنجازات؟ لقد صار الإنسان عبدا للآلة، مع أن المفروض والمنتظر أن تكون الآلة في خدمة الإنسان، ولعل هذا الذي أ خبرك به بعيدا عن رأيك وفكرك مع أن الأمر واقع بيننا اليوم،  

وإن العمل بجانبيه المادي والمعنوي المبني على الإيمان يجعل أصحابه روادا على طريق الخير للبشرية كلها،  

ويؤثرون على التصورات والقيم، ويجعلون الحياة قحطا حين يقودها الماد يون الذين قست قلوبهم فخلت من الرحمة والشفقة إلا إذا كانت لهم من وراء ذلك مصلحة تذكر.

 

 

 

 

 

 

حاجتنا إلى ما يوحدنا

نحن في هذه الأيام في حاجة إلى وقفة تأمل ننظر فيها إلى حاضر العالم الإسلامي ،كي نبصر ما نحتاج إليه ، وكي نأخذ العبرة مما يوحي بالعبرة ، في الوقت الذي نرى فيه القوى المعادية للإسلام ، تعربد قريباً منا وبعيداً عنا ، وإذا كانت أمتنا الإسلامية محتاجة إلى شيء ، فإنها أحوج أمم الأرض إلى الإيمان ، الذي يملأ فراغها ، وإلى الحاكم العدل الذي يسوسها ويوحدها ، ويعمِّر خرابها ، ويعمل لمصلحتها .

وما أصيب الإسلام ، ولن يصاب ، إلا من داخل أرضه ، ومن أبناء أمته  مما يجعلني أشفق على مستقبل هذه الأمة ، لأن العداوات العالمية والمحلية في كثير من الأقطار الإسلامية مخيفة ، إذ أصبحت الأمة الإسلامية ومقدراتها ، مقصد الطامعين ، وتحولت كلمة الإسلام هذه الأيام ، إلى ألفاظ مجردة ، ونطق فارغ ، ولأجل ذلك لا نرى لها تأثيراً في حياة الأمة   تم نرى الناس يتوجهون إلى الله ، أن يمنحهم النصر المبين ، والاستخلاف والتمكين ، كما منحه لأجدادنا السابقين ، فنخدع بذلك أنفسنا ، لأن أجدادنا كانوا أصحاب جدٍ وحقيقة في الدين ، فقد كانت كلماتهم وأفعالهم تمثل حقيقة الإسلام   بينما نحن متجردين عن هذه الحقائق  ونظرة إلى واقعنا ، نجد أن نصيب صورة الإسلام ، في حياتنا أكثر من نصيب حقيقته ، وهذا سرُّ مصابنا وهزيمتنا وأعدائنا يعلمون ذلك علم اليقين ، أذكر في حوار تم في الجمعية اللبنانية الدولية حول وحدة العرب   مع جورج غالاوي السياسي البريطاني والنائب السابق في البرلمان الإنجليزي ، سُؤِل عن حُلْمه فقال : " أن يكون العرب يداً واحده " فقيل له كيف يكون ذلك بوجود دول عظمى ؟ مثل أمريكا وإسرائيل وبريطانيا ، التي تتحكم بالعرب ، وتسعى دائما للحيلولة دون توحدهم ، فأجاب : " إن بإمكان العرب أن يتحدوا في أي وقت يشاءون ، لكنهم لا يشاءون ، وهنا تكمن المشكلة ، ولدي رسالة أحاول إيصالها منذ أربعين عاما للجمهور العربي وهي : أن الشيء الوحيد الذي يمنعهم من التوحد ، هم أنفسهم   ولا يمكن للولايات المتحدة ، الوقوف في وجه وحدة اللبنانيين ، ولا في وجه الوحدة بين سوريا ولبنان   ولا في وجه الوحدة بين لبنان وسوريا والعراق ، فلا يمكنهم منع العرب من أن يتحدوا ، فالعرب هم وحدهم من يقف في وجه وحدتهم بأنفسهم ، وما داموا يجلسون في المقاهي ، مع أرجيلاتهم ملقين اللوم على الخواجا ، أو على الأتراك والبريطانيين والإسرائيليين والإيرانيين فإنهم سيبقون دوما منقسمين ، وما داموا منقسمين فسيكونون ضعفاء   وما داموا ضعفاء ، فسيسرقون ثرواتهم ، وعليهم أن يفهموا أن الوحدة قوة ، وبإمكانهم التوقف عن التفكير كسنة أو شيعه ، أو كلبنانيين أو سوريين   أو كيساريين أو يمينيين ، أو كمغاربه أو مشرقيين أو خليجيين ، إن بإمكانهم التوقف عن التفكير بهذه الطريقة ، فالعرب ثلاثماية وخمسون مليون إنسان يتكلمون لغة واحدة ، علماً بأننا في أوروبا نتكلم مئة وخمسون لغة ، بينما يتكلم العرب لغةً واحدة  ويعبدون إلها واحداً ، ويقول: تخيلوا القوة التي يمكنهم التمتع بها إن اجتمعوا ، لكن ما داموا متخاذلين ، ويلقون اللوم على الآخرين ، فإنهم لن يتوحدوا أبدا ، وما داموا غير موحدين ، فإنهم سينقسمون ، وما داموا منقسمين ، فسيسرقون أشياءهم ، ولهذا السبب يقومون بهذا ، لا يأبهون إن كانوا سنة أو شيعه ، وتابع قائلاً : في البرلمان الذي أجلس فيه ، هناك ستمائة وخمسون عضوا ، إن سألتهم الواحد تلو الآخر ، عن الفرق بين السنة والشيعة ، فلن يستطيعوا الإجابة ، فلا يهم بالنسبة لهم ، إن كنتم سنة أو شيعه ، ولا يأبهون أن كنتم تصلوا أو تصوموا أو تحجوا ، ولا يأبهون للإسلام ولا للدين ، إنهم مهتمين فقط بتقسيمكم   ومهتمون في جعلكم تتقاتلون ، وما دمتم تتقاتلون فأنكم لا تحاربونهم ، إنكم لا تحاربون إسرائيل   إنكم تسمحون لهم بسرقة نفطكم وغازكم ومياهكم   انتم تسمحون لهم بسرقتكم ، وبسرقة كل ما منحكم الله إياه ، ثم قال : آسف إن كنت انفعاليا  تجاه هذه المسألة ، لأنها من أكثر الأمور أهمية على الإطلاق ، وفي إمكان العرب العثور عليه ، بين أيديهم ، وهو أن يكونوا شعبا واحدا ، بل يجب أن يكون هذا شعارهم " .

نعم ، لقد فضحتنا في هذه الأيام صورة الإسلام في كل معركة وحرب ، والذنب ذنبنا ، لأننا عقدنا الآمال الكبار ، بالصورة الضعيفة للإسلام ، فخّيبت رجاءنا وكذبت أمانينا ، وخذلتنا في الميدان   ويتكرر الصراع ، بين صورة الإسلام وشعوب العالم وجنودها ، وفي كل مرّة ، تنخذل وتنهزم الصورة  ويعتقد الناس ، أنه هزيمة الإسلام وخذلانه ، حتى هان الإسلام عند بعض الناس ، وزالت مهابته في قلوبهم ، متناسين أن حقيقة الإسلام ، لم تتقدم إلى ساحة الحرب منذ زمن طويل   ولم تنازله هذه الدول المعتدية ، وأن الذي يبرز في الميدان هو صورة الإسلام لا حقيقته ، فتنهزم الصورة أمام الواقع ونولي الأدبار .

إن على كل مسلم، أن يعلم أن وعد الله بالنصر والفتح في الدنيا ، والنجاة والغفران في الآخرة   محصورٌ في حقيقة الإسلام ، وذلك في قول الله تعال : ﴿ ولا تهنوا ولا تحزنوا وانتم الأعلون إن كنتم مؤمنين﴾ آل عمران 139   جاء الخطاب للمؤمنين ، واشترط الإيمان لعزة المسلمين والعلو في الأرض . وقد أكد ذلك في آية أخرى فقال تعال : ﴿ إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ﴾ غافر 51 . وكل وعد من الله بالنصر في القرآن ، اشترط أن يكون في المسلمين حقيقة الإيمان .

إن أكبر مهمة مطلوبة للأمة هي الانتقال من صورة الإسلام إلى حقيقته ، بذلك تستطيع الأمة أن تذلل كل عقبة ، وتهزم كل قوة ، وتأتى بعجائب وآيات من الإيمان والشجاعة والإيثار ، يعجز الناس عن تعليلها ، كما عجزوا من قبل عن تعليل حوادث الفتح الإسلامي .

كما على الأمة أن تعلم ، أن النصر والخذلان من عند الله ، فعندما نقرأ قول الله تعالى : ﴿ إن ينصركم الله فلا غالب لكم ﴾ وقد نسأل ما هو المقابل ؟ والمقابل هو﴿ وإن يخذْلْكم فمنذ الذي ينصُرُكم من بعده  ﴾ آل عمران 160 .  إن للنصر قوانين وسنناً ، فإذا أخذنا بالأسباب التي أمرنا الله بها على قدر الاستطاعة ، فلا ينبغي أن نقارن عددنا بعدد أعدائنا ، ولا عدتنا بعدتهم ، لأن الله لا يكلفنا أن نقابل عددنا بعددهم ، أو عدتنا بعدتهم ، فقد طالبنا أن نعد ما استطعنا فقال تعالى : ﴿ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة  ﴾ فالله يريد أن يصحب ركب الإيمان ، معونة المؤمن به ، وهو الله ، أما لو كنا متساوين معهم في العدد والإعداد ، لكانت القوة تقابلها قوة ، والغلبة للأقوى ، ولكن الله يريد أن يكون العدد قليلا ، وتكون العدة أقل ، وعند اللقاء نتوجه إلى الله بما قَدْرَنا عليه ، وبالأسباب التي مكننا منها ، ونؤمن بأن الله مولانا يعيننا على أعدائنا ويمدنا بمدد من عنده قال تعالى : ﴿ ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم ﴾ . فعندما ننصر الله ، نضمن نصر الله لنا ، أما كيف نعرف أننا ننصر الله ؟ نعرف عندما تأتي النتيجة بنصرنا ، فمن نصر الله نصره الله ، قانون جاء بصيغة الشرط والجزاء في قوله تعالى:  ﴿  إن ينصركم الله فلا غالب لكم ﴾ .

 

 

 

 

 

 

الاستبداد صنعة الشعوب

 إن الإسلام يريد للناس أن يعيشوا العيشة التي يحس بها كل واحد منهم بنفسه وبغيره ، لا يظلمه ولا يستبد بأموره أحد، ولهذا جاءت النصوص تحث ولاة الأمور على إقامة العدل في الأرض قال تعالى : ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ﴾ الحديد25  فإذا ذهب القسط والعدل ، وبدأ ولاة الأمور يفرضون أنفسهم على الناس ، على حسب أهوائهم ، فهؤلاء هم الطغاة ، والاستبداد جزء من الطغيان، لأن الاستبداد هو : أن ينفرد ولي الأمر دون أن يأخذ رأي الناس ، ومن يتَنَعّم بالسلطة والحُكم ، يتَحمَّل مسئولية إقامة العدل  ويستحقّ الذّمَ والعقوبة على الجور والإهمال   فالقاضي والوزير ونحوهم؛ جَوْرُهم من جور الحاكم، وعدلهم من عدله ، ولهذا فالاستبداد ليس مرادِفا للظلم أو الفساد ، بل هو هذه الخبائث كلها، وإزالته ، إزالة للظلم والفساد، وقد جاءت النصوص تدل على وجوب مقاومة الاستبداد  التي يعتبرها الإسلام من أعظم الجهاد؛ ولهذا كانت قاعدة تغيير المنكر واجبة وفاعلة ، على مختلف مستويات القدرة ، من اليد إلى اللسان إلى القلب لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده, فإن لم يستطع فبلسانه, فإن لم يستطع, فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ) وقوله صلى الله عليه وسلم: ( أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر) .

وعلى الرغم من أن التغيير بالقلب يبدو ضعيفاً إلا أنه مهم جداً ، حين يعجز الإنسان عن التغيير بالوسائل الأخرى ، فبقاء الرفض القلبي للمنكر هو بمثابة بذرة للخير ، تظل كامنة إلى أن تتاح لها الظروف للنمو والظهور ، ولولاها لاختفى الخير وضاع الحق إلى الأبد ، لأن الناس يدفعون ثمن سكوتهم على الاستبداد مرتين ، مرة في الدنيا   ومرة في الآخرة ، ففي الدنيا فساد وضياع ومعاناة ، وفى الآخرة عذاب شديد, وكأن الاستبداد خطيئة دنيوية وأخروية معاً ،عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لكعب بن عُجْره: ( أعاذك الله من إمارة السفهاء يا كعب ! قال وما إمارة السفهاء؟ قال: أمراء يكونون بعدى, لا يهدون  بهديي , ولا يستنون بسنتي, فمن صدقهم بكذبهم, وأعانهم على ظلمهم فأولئك ليسوا منى ، ولست منهم ولا يردون على حوضي, ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم, أولئك مني ، وأنا منهم وسيردون على حوضي ) رواه أحمد والبزار ورجالهما رجال الصحيح, كما في إلى الترغيب للمنذرى, والزوائد للهيثمى5/247 .

أما لماذا يبتلي الله عباده بالمستبدين؟ إن الله عادل   ولا يظلم أحداً، فلا يولي المستبد إلا على المستبدين، والمستبدين لا يتولاهم إلا مستبد  والأحرار يتولاهم الأحرار، والعوام هم قوّة المستبد وقُوته، بهم وعليهم يصول ويطول    يهينهم فيثنون على رفعته، ويغري بعضهم على بعض، فيفتخرون بسياسته، وإذا أسرف في أموالهم ، يقولون كريماً، وإذا قتل منهم ولم يمثل  يعتبرونه رحيماً، وإن نقم عليه منهم بعض الأباة   قاتلهم كأنهم بغاة.

وأمرُ فرعون مثلٌ لكل طاغية يجاوز الحد في الظلم والتجبر والاستبداد والمعصية ، والاستخفاف بعقول الناس وإرادتهم ومصالحهم ، وكلما أنس منهم السكوت على ظلمه ، والخضوع لبغيه وعدوانه ازداد صلفاً وتجبراً وتمرداً ، حتى يصل إلى التألُّه ، وادعاء الإرادة المطلقة في مصائر الناس من حوله ، وها هي بلاد المسلمين تعاني من استبداد فراعنة العصر ، وضياع شبه كامل لكل معاني العدالة ، مع مشاركة قطاع كبير من الشعوب في التصفيق للظلم والاستبداد ، والعمل كعبيد للمستبد في الظلم ، ومما يحز في النفس أن الذين يضربون الشعوب هم من أبنائهم ، والذين يزورون إرادة الشعوب ، لصالح المستبدين هم من الشعوب ، والمستبد قابع على كرسيه مستريح البال ، يستخدم أبناء الأمة ضد بعضهم البعض   وكأني في هذا المشهد أقف مع قوله سبحانه وتعالى : ﴿ َفاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ ﴾ الزخرف 54 ، وهذا يذكرني بكلام أعجبني  لعبد الرحمن الكواكبي الذي اقترن اسمه بأشهر كتبه «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» وما كتبه كأنه شاهد عيان يتكلم عن وقائع وأحداث معاصرة ، يقول الكواكبي عن الاستبداد - الاستبداد لو كان رجلاً وأراد أن يحتسب ويتنسب لقال: أنا الشر، وأبي الظلم  وأمي الإساءة، وأخي الغدر، وأختي المسكنة  وعمي الضر، وخالي الذل، وابني الفقر، وبنتي البطالة، وعشيرتي الجهالة، ووطني الخراب، أما ديني وشرفي وحياتي فالمال فالمال فالمال.

نعم فالاستبداد يضطر الناس إلى استباحة الكذب   والتحايل والخداع ، والنفاق والتذلل، وإلى إماتة النفس ، ونبذ الجد ، وترك العمل ، وقال الكواكبي في معرض ذكر المثقفين :  هم للاستبداد مطّبلون ، فالمستبد يجرب أحياناً في المناصب والمراتب ، بعض العقلاء الأذكياء  اغتراراً منه ، بأنه يقوى على تليين طينتهم   وتشكيلهم بالشكل الذي يريد، فيكونوا له أعواناً ينفعونه بدهائهم، ثم هو بعد التجربة إذا خاب ويئس من إفسادهم، يعمل على إبعادهم أو ينكل بهم، ولهذا لا يستقر عند المستبد ، إلا الجاهل الذي يعبده من دون الله، أو الذي يرضيه ويغضب الله ، ويصف الوضع قائلا : نحن ألفنا الأدب مع الكبير ، ولو داس رقابنا، وألفنا الثبات   ثبات الأوتاد تحت المطارق، والانقياد ولو إلى المهالك، ألفنا أن نعتبر التصاغر أدباً، والتذلل لطفاً، والتملق فصاحة، واللكنة رزانة، وترك الحقوق سماحة، وقبول الإهانة تواضعاً، والرضا بالظلم طاعة، ودعوى الاستحقاق غروراً  والبحث عن العموميات فضولاً، ومد النظر إلى الغد أملاً طويلاً، والإقدام تهوراً، والحمية حماقة  والشهامة شراسة، وحرية القول وقاحة، ، وحب الوطن جنوناً.

وقديماً شكا الناس من الفساد والبغي في الأرض ذكر ابن الجوزي في كتابه (المنتظم في تاريخ الملوك والأمم) حكاية فيها من المعاني الكثير الكثير عن الخليفة العباسي المنصور، يقول: «كان يمشي في شوارع بغداد، فسمع رجلاً يقول: اللهم إني أشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض يحول بين الحق وأهله ، من الظلم والطمع، فأسرع المنصور في مشيته حتى ملأ مسامعه، ومن ثم خرج فجلس ناحية المسجد، ثم أرسل إليه فدعاه، فصلى ركعتين، واستلم الركن مع الرسول فسلم عليه  فقال المنصور: ما هذا الذي سمعتك تقوله عن ظهور البغي في الأرض، وما يحول بين الحق وأهله من الظلم والطمع؟! فو الله حشوت مسامعي بما أمرضني وأقلقني، فقال: يا أمير المؤمنين إن أمنتني على نفسي أنبأتك بالأمور، وإلا احتججت فيك  وأقتصر على نفسي ، ففيها لي شغل شاغل فقال: أنت آمن على نفسك، فقال: يا أمير المؤمنين إن الذي دخله الطمع حتى حال بينه وبين الحق  وإصلاح ما ظهر من البغي والفساد في الأرض لأنت، قال: ويحك كيف يدخلني الطمع  والصفراء والبيضاء بيدي، والحامض في قبضتي؟!قال: وهل دخل أحد من الطمع ما دخلك يا أمير المؤمنين؟! إن الله عزّ وجل استرعاك أمور المسلمين بأموالهم ، فأغفلت أمورهم، واهتممت بجمع أموالهم، وبينك وبينهم حجاب من الآجر والجص، وأبواباً من الحديد يعينك رجال وأعوان فجرة ، وقلوبهم على ظلم  ومعك ومعهم الأموال والسلاح، أمرت أن لا يدخل من الناس إلا فلاناً وفلان ، لا تأمر بإيصال المظلوم والملهوف، والجائع والعاري، ولا أحد إلا وله في المال حق، وأن هؤلاء النفر الذين استخلصتهم لنفسك، وآثرتهم على رعيتك  وأمرت أن لا يُحجبوا ، تجني المال ولا تقسمه قالوا: هذا قد خان الله ، فما لنا لا نخونه، وقد سُخر لنا، على أن لا يصل إليك من علم أخبار الناس إلا ما أرادوه، ولا يخرج لك عامل عن أمرهم إلا أقصوه عنك ، حتى تسقط منزلته عندك، فلما انتشر ذلك عنك وعنهم ، أعظمهم الناس وهابوهم، وكان أول من صانعهم عمالك بالهدايا والأموال ، ليقووا بها على ظلم من دونهم من الرعية ، بالثروة والقوة، وامتلأت الدنيا بغياً وفساداً، وصار هؤلاء شركاؤك في سلطانك  وأنت غافل، والمتظلم حيل بينه وبين الدخول إلى مدينتك، وإن أراد رفع قبضته إليك عند ظهورك  نُهي عن ذلك، ووقفت للناس رجلا ًينظر في مظالمهم، فإن جاء ذلك الرجل يُبَلِغ سألوا صاحب المظالم ، ألا يرفع مظلمته إليك، وإن صرخ بين يديك ، ضرب ضرباً مبرحاً ، ليكون مثالا ًلغيره، وأنت تنظر فلا تفكر، ولا تعتبر فما بقاء الإسلام وأهله؟! لقد كان بنو أمية ، فكانت العرب لا ينتهي إليهم مظلوم ، إلا رُفعت مظلمته، ولقد كان يأتي من أقصى الأرض ، حتى يبلغ سلطانهم فينادي: يا أهل الإسلام، فيقدرونه  فيرفعون مظالمهم إلى سلطانهم، فينصف لهم، وقد كنتُ يا أمير المؤمنين أسافر إلى الصين وبها ملك  فقدمتها مرّة ، وقد ذهب سمع ملكهم، فجعل يبكي، فقال له وزراؤه: مالك تبكي لا بكت عيناك؟! فقال: أما أني لست أبكي على المصيبة إذ نزلت بي، ولكن المظلوم يصرخ فلا أسمع صوته  وقال: أما إن كان ذهب سمعي ، فإن بصري لم يذهب ، نادوا في أن لا يلبس ثوباً أحمر إلا مظلوم، فكان يركب الفيل في طرفي النهار ، حتى يرى المظلوم فينصفه ، هذا يا أمير المؤمنين مشرك بالله ، قد غلبت عليه رأفته بالمشركين، ورفعته على نفسه في ملكه، وأنت مؤمن بالله عزّ وجل  وابن عم نبيه ، ألا يغلبك شح نفسك برأفتك بالمسلمين، فإنك لا تجمع الأموال إلا لواحد من ثلاث إن قلت: أجمعها لولدي ، فقد أراك الله عبراً في الطفل الصغير ، يسقط من بطن أمه وماله على الأرض، وما من مال له ، دونه يد شحيحة تحويه ، فلا يزال الله يلطف بذلك الطفل الصغير حتى تعظم رغبته إليه، ولست بالذي يعطي ، بل الله يعطي من يشاء مما يشاء، وإن قلت أجمع المال لسلطاني ، فلقد أراك الله عزّ وجل ، عبراً فيمن كان فبلك ، ما أغنى عنهم ما جمعوا من الذهب والفضة، وما أعدوا من السلاح والكراع (الخيل) ما ضرك ما كنت فيه من ضعف، أراد الله عزّ وجل ما أراد، وإن قلت أجمع المال لطلب غاية هي أجسم من الغاية التي أنت فيها ، فو الله ما فوق ما أنت فيه ، إلا منزلة لا تُدرك إلا بالعمل الصالح للمؤمنين، فبكى المنصور بكاءاً شديداً حتى ارتفع صوته، ثم قال: يا ليتني لم أخلق، ولم أك شيئا، فقال له: يا أمير المؤمنين عليك بالأعلام المرشدين. قال: ومن هم؟! قال: العلماء، قال: قد فروا مني!! قال: هربوا منك أن تحملهم على ما ظهر من طريقتك، لكن افتح الباب وسهل الحجاب، وانتصر، واسمع المظلوم، وخذ الشيء مما حل وطاب، واقسمه بالعدل، وأنا ضامن لك عن من هرب أن يأتيك ، ويعينك على صلاح أمرك ورعيتك، فقال المنصور: اللهم وفقني أن أعمل بما قال هذا الرجل». لمثل هذا فليعمل العاملون وفي ذلك فليتنافس المتنافسون .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الخلف المتخاذل

قال تعالى :} فخلف  من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيّا{. 59 مريم . في الآية ما يدل على الالتزام بمنهج الله ، وتنديد بالضعف والتخاذل والتغيير الذي يعزل الأمة عن منهج ربها ، وقد ذكرت الآية إضاعة الصلاة لأنهم إذا أضاعوها ، فهم لسواها من الواجبات أضيع ، فهي عماد الدين وقوامه ، كما بين الله أنهم سيلقون الشرَّ والعذاب جزاء على معصيتهم وتمردهم ، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم المنهج القويم لهذه الأمة  الذي يحفظ لها وحدتها وشخصيتها ، المتمثلة بالمنهج الرباني ، فقال صلى الله عليه وسلم : ( تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ) . رواه مالك .

والأمة الإسلامية كباقي الأمم ، تجري عليها سنن الله الكونية ، يصيبها ما يصيب الأمم الأخرى ، من وهن وضعف وتمزق واختلاف ، حتى طمع بها الطامعون ، واعتدى عليها المعتدون ، وتحكَّم فيها الكافرون ، ونست الجهاد وأدمنت واستكانة للرقاد  وفشا فيها الظلم والفساد ، وأُعطيت المناصب فيها لغير أربابها المستحقين لها ، وأُسندت أعلى المناصب فيها لمن تركوا القتال وأنكروا الجهاد ، فطأطئوا رؤوسهم وخرست ألسنتهم وانشلّت حركتهم  حتى كاد الجماد يتحرك وينطق  وهم لا ينطقون  لأنهم في غيهم يعمهون ، وبالدين والمسلمين لا يعبأون ، وواقع حالهم ينتظرون أن يفعل بهم ما فُعل بأجدادهم من قبل التتار ، حيث كان الرجل من التتار يحبس أربعين فرداً من المسلمين ثم يقول لهم انتظروني لأحضر سيفي فأشبعه فيكم قتلا   فينتظرون ليذبحوا ذبح الشياه ، فتسيل الدماء في شوارع بغداد ، وتختلط بمياه دجله والفرات ، أمةٌ هذا حالها محالٌ أن تلبي نداء الواجب أو تستجيب لداعي الله  

 وها نحن نرى إخواناً لنا في فلسطين يذبحون والمسلمون يتفرجون ، وكأنهم يحسّنون للذبيحة ولا يتوارون من الفضيحة ، ولا يعبأون بما يجري في الضفة الجريحة ، وهم على السرر المريحة وقواهم كسيحة ، ويعيشون في حياتهم كالنطيحة ، فلا الأيدي تنطلق ، ولا الألسنة تنطق ، لنخوة ضاعت  وشهامة فقدت ، وإنسانية مُحيت ، ألا يدعو ذلك للعجب ؟ أن تصبح أمة بيدها كتاب الله في حالة من الفوضى والتخلف الذي حذرنا الله منه بقوله :  } ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم { الحشر 19.

فنسيان الذات معناه فقدان الهوية ، ومن فقدها يهيم في هذه الحياة بلا رابطة ولا هدف ، يرفعه عن السائمة التي ترعى ، وفي هذا نسيان لإنسانية الإنسان لنفسه ، فلا يدخر زاداً للحياة الآخرة وهو ما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال : ( يوشك أن يأتي على الناس زمان لا يبقى من الإسلام إلا اسمه  ولا يبقى من القرآن إلا رسمه ، مساجدهم عامرة وهي خراب من الهدي ، علماؤهم شر من تحت أديم السماء ، من عندهم تخرج الفتنة وفيهم تعود ) رواه البيهقي في شعب الإيمان .

هذا الحديث يشكل تحذيراً عاماً للأمة من الانحراف عن هدى محمد صلى الله عليه وسلم والانخراط في الفتن .

وأن يتحول الإسلام إلى مجرد طقوس شكليه  والقرآن الكريم إلى مجرد أصوات جميلة ولحن عذب تستمتع به الآذان دون العقول ، وتعيه الأبصار دون البصائر ، بخلاف واقع الإسلام في عهده الأول الذي كان عقيدة وقولاً وعملاً ، سعى الرسول صلى الله عليه وسلم من خلاله إلى إقامة الأمة الصالحة القادرة على إقامة منهج الله في الأرض ، والعمل على تبليغه بشتى الوسائل ، وقد اختلفت الحال هذه الأيام لا من حيث تعاليمه المحفوظة في الكتاب والسنة بل من حيث تطبيقه ، وجمود المسلمين وتمزقهم وتحولهم إلى شعوب مشرذمة متخلفة ، تجسد صورة سيئة للأمة المتهالكة الموشكة على الفناء ، وكأنها غثاء السيل كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم  .

إن لم صفوف الأمة وإعادة وحدتها لا يتم إلا بالتأكيد على الكليات التي يلتقي عليها المسلمون  من قواعد الإيمان وأركان الإسلام ونبذ الفرقة وفهم الواقع والبعد عن الوهم والخيالات .

 إن أعدائنا لديهم من الخلافات الدينية والسياسية أكثر مما عندنا ، ومع هذا وحدتهم المصالح ، في الوقت الذي لم توحدنا المصلحة ولا العقيدة وهي الأهم ، في الوقت الذي تستباح فيه حرمات أمتنا  ويزداد الأكلة على قصعتها ، ولن ينقذ أمتنا مما تعاني إلا تمسكها بعقيدتها . وتطبيق منهج ربها لأنه الطريق الموصل إلى تحريرها من الذل والهوان والاستعباد ، وهو ما يكفل لها النصر ، قال تعالى : } إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم { .  إن عدم الالتزام بشريعة الله ، أضعف المسلمين وأبعدهم عن مراكز التأثير ومواقع القيادة في العالم فتمكن أعداء الإسلام من السيطرة عليهم يضعون من يشاؤون في المكان الذي يشاؤون ، حتى يضمنوا بقاء السيادة في أيديهم ، فلا تنتقل إلا من لكع إلى لكع أي رديء الحسب والنسب لا يعرف له أصل وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في الحديث الصحيح فقال : ( ليأتين عليكم أمراء يقرِّبون شرار الناس ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها ، فمن أدرك ذلك منكم فلا يكونن عريفا ولا شرطيا ولا جابيا ولا خازنا ) .

 

 

 

 النهي عن اليأس والانهزام والاستسلام

 فرق كبير بين من يعيش بروح التفاؤل والأمل وبين من بات ضحية القنوط والانهزامية ، وفرق بين من يضع هدفاً نصب عينيه ، يبعث فيه الجد والعطاء ، وبين من يصبح يائساً قانطاً ضعيفاً لا يقدر على صنع شيء ، والأمة التي يدب اليأس والقنوط وقلة العمل في أفرادها ، لهي أمة لا تستحق النصر ولا النجاح ، ولقد أحسن القائل :   

لا تحسب المجد تمراً أنت آكله  لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا

فالقلوب المؤمنة ، لا تعرف اليأس ، ولا تستجيب لدعاوى الإحباط ، ولا تقبل المواقف الانهزامية   التي تخالف شرع الله ، مهما كانت التضحيات    وتلك سنة ربانية ، لا تختلف باختلاف الأزمان  لأن المواقف الانهزامية تؤدي إلى إذلال المسلمين   وانتهاك الأعراض والحرمات، وما داس أعداؤنا على رقابنا، وانتهكوا أعراضنا، واستحلوا محارمنا  وجاهروا بانتقاص ديننا، ورسولنا وقرآننا، إلا لما رأوا الهزيمة قد تملكت من نفوسنا، والهلع قد احتل كل زاوية في قلوبنا ، ولما لم يجدوا من يصدهم ولا من يردعهم وقديما قيل :

تعدوا الذئاب على من لا كلاب له  وتتقي مربض المستأسد الضاري

ومن يدعون للتهدئة مع العدو ، وعدم مقاومته ، وعدم مقاومة من يتعاون معه ، يتحملون أمام الله مسئولية كل عرض انتهك ، وكل نفس قتلت بغير حق ، وكل منشأة هدمت ، كل أمن ضاع   وستكون هذه المواقف الانهزامية ، لعنة على أصحابها ، وعلى من عمل بها إلى يوم الدين   وسيسجل التاريخ هذه المواقف الانهزامية المخزية في سجله الأسود ، الذي سجل فيه من قبل من تعاونوا مع المحتل الصهيوني .

وعلى كل مسلم أن يبرأ إلى الله ، من هذه المواقف الانهزامية ، لأن الله ورسوله ، يبرآن من كل موقف ، يساعد أعداء الله ، على السيطرة على بلاد المسلمين ، ونهب ثرواتهم ، وتضييع استقلالهم ، وتفردهم بتوحيد الله ، وعبادته وحده لا شريك له ، قال تعالى محذراً لنا من ولاية هؤلاء ﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ، فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ ﴾ المائدة 51. خطاب موجه إلى المسئولين عرباً ومسلمين ، بأن لا يوالوا اليهود والنصارى ، لأنهم يضمرون لهم البغضاء والشر  كما اتفقوا على كراهية الإسلام والمسلمين ، وها هم خالفوا أمر الله ، بتعاونهم مع اليهود ، في تشديد الحصار ، بدل مساندة أهل غزة الذين يتعرضون لغارات ، أتت على الشجر والحجر   وأحالت الأجساد إلى أشلاء متناثرة.

وقد بلغ التواطؤ مع هذا العدوان الإسرائيلي  التقدم بمبادرة ، الهدف منها تحقيق ما لم تستطع القوة العسكرية ، ولا سياسات الحصار والتجويع تحقيقه ، وهو نزع سلاح المقاومة ، ففقدوا احترامهم ، بعد أن فقدوا دورهم الإقليمي والدولي ، بسبب هذه السياسات والمواقف المخجلة، وقد قوبلت المبادرة التي تقدموا بها لوقف الحرب ، بالاستهجان والاستهتار   ورفضت ، لأنها تخدم أهداف العدوان ، الذي عجز عن تحقيق أهدافه ، لاستسلام المقاومة وعدم إطلاق الصواريخ ،فلم تستسلم المقاومة ، وإطلاق الصواريخ لم يتوقف، بل ازداد اتساعاً ، والألم  يعتصرنا ، ونحن نرى أهلنا ، يواجهون آلة القتل الإسرائيلية وحدهم، ونتألم بحرقة ، عندما نرى الدمار والقتل ، ولكن ما يطمئننا أن هذه الدماء لن تذهب هدرا، لأنها ستؤسس لمرحلة جديدة  عنوانها المقاومة، وإسقاط كل مشاريع الهزيمة والاستسلام.

ها هي الطائرات الحربية الإسرائيلية تواصل تقطيع أوصال أبناء غزة ، بصواريخها الفتّاكة، وها هي  الدبابات تقتحم الحدود ، في محاولة لانجاز ما عجزت عنه الطائرات من الجو، ولكن الأمر المؤكد أن ظاهرة المقاومة ستتكرس، وأن ثقافة الاستسلام ستنتكس ، وتلفظ ما تبقى فيها من أنفاس.

نعلم أن إسرائيل دولة إقليمية عظمى ، تتربع على ترسانة عسكرية ، حافلة بأحدث الأسلحة والمعدات، وخصمها مجموعة مؤمنة مقاتلة تواجه الحصار ، من اقرب المقربين إليها، ناهيك عن مؤامراتهم وتواطئهم، فالمعركة لا يمكن أن تكون متكافئة، فصواريخ المقاومة جرّت إسرائيل إلى المصيدة الأخطر في تاريخها، باستفزازها ودفعها للعدوان على قطاع غزة، وقد نجحت من خلال هذا العمل ، في إحياء ضمير الشارع العربي  وإحداث فرز واضح ، بينه وبين أنظمته، وإحراج كل حلفاء إسرائيل في الغرب ، بهذا فضحوا إسرائيل ، مثلما فضحوا المتواطئين معها، واظهروا للعالم مدى نازية هذه الدولة، كما كشف صمودهم وتضحياتهم ، الأنظمة التي تدعي العجز وقلة الحيلة، فمن يملك جيوشاً انفق عليها مئات المليارات من الدولارات، لا يمكن أن يكون عاجزاً، ومن يملك نفطاً وأرصدة ضخمة ، يتوسل إليه الغرب لاستخدامها ، في إنقاذ اقتصاده ، لا يمكن أن يكون عاجزاً،  فلحظة الحقيقة تنطلق الآن ، من الدماء الزكية الطاهرة لشهداء غزة   التي حققت بصمودها ، معجزة في زمن قلّت فيه المعجزات، صمود أشغل العالم كله ، في كيفية توفير الأمن والحماية للإسرائيليين، وإيجاد الطرق والوسائل لنزع سلاح المقاومة ، وتوفير المعدات المتقدمة لمنع تهريب الأسلحة إلى الصامدين المحاصرين في غزة ، الصغيرة في مساحتها ، الكبيرة في عزيمة أبنائها ، ولن نستغرب أيضا ، أن ينطلق لسان الجبناء الطاعنين في الظهر ، من الإعلاميين وأنصاف المثقفين ، في تحميل المسؤولية للمقاومة ، واعتبار كل الخسائر البشرية والمادية في غزة فاتورة وجود المقاومة ، بينما يتواصل العدوان الإرهابي الهمجي ، على أهلنا في غزة، وترتفع حصيلة الشهداء والجرحى ، لحظة بلحظة، ويهدد قادة الإرهاب الصهيوني بما هو أبشع، يستمر الصمت المتواطئ على ما يجري   

كما لا يكتفي بعض المسئولين الدوليين ، بإعلان المواقف ، التي تفوح منها رائحة التواطؤ والمشاركة في الجريمة، بل ويذهبون إلى المساواة بين الجلاد والضحية ، ويتمادى بعضهم إلى حد تبرئة الجلاد ، ولوم الضحية ، بدل تحمل مسؤولياتهم الكاملة ، في صد العدوان، والتي بدونها يكونون شركاء في الجرم.

إن الحرب الحالية على شعب غزة ، هي بالون اختبار ، لنظرية الأمن والعقيدة العسكرية الصهيونية ، التي انهارت فبانَ عجزها ، وتقهقرت معها ، واندثرت أسطورة الدرع الصاروخي   الذي فشل باعتراض صواريخ مجموعات فلسطينية مسلحة صغيرة، تتسلح بصواريخ تقليدية وبدائية   زهيدة الثمن للغاية. فصواريخ القبة الحديدية   باهظة الأثمان، تصاغرت في مواجهة صواريخ بسيطة ، وأكدت فشل العلوم العسكرية والحربية والدفاعية الأمريكية، مما ينعكس على طلبيات وأوضاع الصناعات العسكرية الأمريكية في كل العالم  

إن شعورنا بالتقصير ، لا يمكن إنكاره، سواء لأننا لم نستطع إغاثة أهل غزة وهم يذبحون، في حين وقفنا موقف المتفرج عليهم، أو لأن بعضنا كان عليهم ، وليس معهم أو لهم.

إن ما يجري في غزة ليس مأساة ، ولكنه ملحمة لكن الهزيمة الحقيقية ، والمأساة التي يندى لها جبين الشرفاء، هي من نصيب الواقفين الذين يرون ما يجري ، فتقاعسوا وولوا الأدبار ، حين جد الجد  وهم الذين وصفهم القرآن بأنهم : ﴿ يحلفون بالله أنهم لمنكم  وما هم منكم، ولكنهم قوم يفرقون ﴾ .

 

 

 

 

 

توقيت قرار ترامب

جاء صدور هذا القرار ونحن مع اليهود في الوقت الذي ذكره الله في قوله تعالى : ﴿ ثم رددنا لكم الكرة عليهم ﴾ الاسراء . والسؤال هنا : متى تنتهي هذه الكرة ؟ يقول الشعراوي : " فإن شئتم فأطيلوها وإن شئم فقصروها وادخلوا المسألة على أنها أمرٌ ديني ولا تأخذوا المسألة على أنها أمرٌ عربي أو اسلامي ولكن أدخلوها إيمانياً إسلامياً وذلك لا يكون إلا إذا كنا عباداً لله  وحين نكون عباداً لله فلن يتمكنوا منا ، وحين يتكلم الله بقضية إيمانية لا بد أن تأتي القضية الكونية مصدقةً لها ولو استمر الأمر بدون كرّة من اليهود علينا ، ونحن قد تخلينا عن منهجنا ، كلُّ يتبع هواه فإن القضية القرآنية لا تفيد " ، وقد فهم أحد العارفين هذه القضية ، حين دخل اليهود بيت المقدس سجد لله فلما قيل له أتسجد لله على دخول اليهود بيت المقدس فقال نعم صدق ربنا إذ قال : ﴿ وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة ﴾ الاسراء . أيكون دخولٌ ثاني مرّة إلا إذا كان خروج أول مرّة  فكأنه يحمد الله على أن قضايا القرآن تؤكدها الكونيات .

في قوله تعالى : ﴿ ثم رددنا لكم الكرة ﴾ الخطاب هنا لليهود  الآية هنا تمثل نقطة تحول وانقلاب للأوضاع ، فبعد غلبة المسلمين ، لم يستمر لهم الغلب ، لأنهم تخلوا عن منهج الله  فدارت عليهم الدائرة ، وتسلط عليهم اليهود عندما انصرف المسلمون عن المنهج ، وتنكبوا الطريق المستقيم وانقسموا إلى دويلات فضعفوا ، فتراجعت كفتهم وتخلوا عن منهج ربهم  وتحاكموا إلى القوانين الوضعية ، فسلط الله عليهم اليهود ليؤدبوهم، وأصبحت الغلبة لليهود بعد أن كانوا كل جماعه تعيش في أمة عيشةً انعزالية ، أما وقد توطنوا في فلسطين ، نراهم يميلون للبناء والتعمير وهم أصحاب رؤوس الأموال كما أخبر الله سبحانه : ﴿ وأمددناكم بأموال وبنين وجعلهم أكثر نفيرا ﴾  والنفير ما يستنفره الإنسان لنجدته ، ولذلك فإن قوتهم ليست ذاتيةً ، فنرى أقوى دول العالم تساعدهم ، وهم الذين زينوا لهم أولى خطوات نهايتهم ، فاختاروا فلسطين ليتخذوا منها وطناً يتجمعون فيه ، وفي هذا حكمة ، لأن الله حين يريد لنا أن نقضي عليهم ، يلفتنا إلى أن هذه الحرب لا تكون وهم متفرقين  لذلك قال الله : ﴿ جئنا بكم لفيفا ﴾ . إذن فكرة تجمعهم   هي في الحقيقة تخدم قضية الإسلام والمسلمين ، لأنها تسهل علينا تتبعهم وتمكننا من القضاء عليهم لذلك قال تعالى : ﴿ فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا ﴾ الإسراء .4 ، وهذه بشرى لنا المسلمين بأن الكرّة ستكون لنا في النهاية وليس بيننا وبين هذا الوعد إلا أن نعود إلى الله ، أما المراد بقوله وعد الآخرة  هو الوعد الذي قال الله عنه :﴿ فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة ﴾. وهذا بأيدينا إن عدنا عباداً لله .

 

اتقاء الفتن

قال تعالى:﴿ واتقوا فتنةً لا تصيبنَّ الذين ظلموا منكم خاصّة واعلموا أن الله شديد العقاب﴾الأنفال 25 هذا أمرٌ من الله أن نتقي الفتن ، وهي في بدايتها   ولو أن كل انحراف عوجل بالضرب على يد من فعله وهو صغير ، لما كبر المنحرف والانحراف   وإذا رأى الناس الظالم ولم يضربوا على يده فإن  ذلك يُغْضب الله ، لأن الظالم يتمادى في ظلمه   ويعربد على الآخرين ، فيستشري الظلم ويحق عقاب الله على الجميع ، روى الإمام أحمد قال : قام أبو بكر الصديق فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس أنتم تقرأون هذه الآية :﴿ يا أيها الذي آمنوا لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ﴾ وإنكم تضعونها على غير موضعها ، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيرونه يوشك الله أن يعمهم بعقابه ﴾    وقد يسأل سائل : إن العقاب يقع على الظالم والمظلوم ، مع أن الظالم هو الذي يستحق العقاب    فما ذنب المظلوم ؟ كان بإمكان المظلوم أن يرد الظلم لكنه سكت ، فاستحق أن يشمله العقاب  فإذا لم يقم الناس بواجبهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأخذ على يد الظالم ومقاومة الفساد والانحراف ، فإن النتيجة هي تمادي الشر والفساد ، والظلم الانحراف في الحياة الاجتماعية ، مما يؤدي في نهاية المطاف إلى العذاب والبلاء ، الذي يطال جوانب الحياة كلها   ويصطلي بناره أبناء المجتمع كلهم ، وهذا يوجب على أبناء المجتمع أن يدفعوا عن أنفسهم وقوع البلاء ، بمدافعة أسبابه ، من خلال ممارسة الإصلاح ، ومواجهة الفساد والمفسدين ، والواقع أكبر شاهد على صدق ما نقول ، فقد رأينا مجتمعات سكتت عن فساد المستبدين ، وجبنت أمام سطوة الظالمين   وتخاذلت في مواجهة الفاسدين ، فكانت نتيجة ذلك ، أن دخلت تلك المجتمعات في دوامة الفتن ، والصراعات الدامية   التي أتت على كل شيء   ولم تستثن أحداً   فدفعت تلك المجتمعات ثمناً باهظاً من دمها وأمنها واستقرارها وسيادتها واقتصادها جراء تقاعسها   وتخاذلها عن القيام بواجبها في الإصلاح والتغيير   وقد كان بإمكان تلك المجتمعات ، أن تصحح أوضاعها ، وأن تقّوم اعوجاجها ، بخسائر أقل وأهون بكثير ، لو أنها أخذت زمام المبادرة الواعية ، وواجهت بشجاعة بؤر الفساد ، ومصادر الشر والانحراف ، لتجنبت الفتن ، ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إن السعيد لمن جُنِّبَ الفتن ) رواه أبو داوود، وغيره بإسناد صحيح عن المقداد بن الأسود . ولما وقعت الفتنة في زمن التابعين، أتَى نفر من النصحاء إلى طلق بن حبيب وقالوا : قد وقعت الفتنة فكيف نتقيها، قال: اتقوها بتقوى الله ، قالوا له: أجمل لنا التقوى   وبين لنا معناها، فقال : "تقوى الله أن تعمل بطاعة الله ، على نور من الله   ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله ، على نور من الله ، تخاف عقاب الله".

فبالتقوى يضمن المسلم عدم الوقوع في الفتنة وبالتقوى تمر الفتنة دون خسائر، فالذي يلهب الفتنة ، غفلة الناس عن حدود الله ، وانتشار الإشاعة ، وكثرة القيل والقال ، والله يأمرنا بقوله : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا   يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ﴾الأحزاب 70  فلا ضرر مع التقوى ، وجميع الحلول في التقوى  يقول الله تعالى : ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا ، ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ ، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا ﴾ الطلاق4 ، ويُعْظِم : يضاعف له حسناته . فأينما حلت التقوى حل الوفاق والطمأنينة والهناء   وتفتحـت أبواب الحلول ، يقول الله تبارك وتعالى : ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا  وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ﴾ الطلاق  2 فالتقوى أن نرى الحرام حراما فلا نفعله ، وأن نرى الفساد فسادا ، فلا نأتيه   لأن الخراب حين يحل ، إنما يحل على الجميع  فبالتقوى والتمسك بكتاب الله ، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ننجوا من الفتن ، ثبت في حديث العرباض بن سارية المُخَرَّجِ في السُّنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إنه من يعش منكم   فسيرى اختلافًا كثيرًا ، فعليكم بسُنَّتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور  فإن كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار) وقال الإمام مالك : "السُّنَّة سفينة نوح ، فمن ركبها نجا، ومن تركها هلك وغرق"   فكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عصمة أمرنا  والقلم واللسان في هذه الظروف ، أولى من السيف والسنان . وعلى علماء الأمة الراسخين    والأئمة المحققين ، ومفكري الأمة ، وأهل الحل والعقد فيها ، أن يلتقوا على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وترك الأخذ عن الأصاغر من الناشئين في طلب العلم، والمقلِّين في التحصيل منه، يقول صلى الله عليه وسلم  كما في سُنن أبي داوود وغيره :(البركة مع أكابركم) وهو حديث صحيح ثابت فمن كان مُعَوِّلاً على كلمة العلماء المحققين، والأئمة الراسخين، فإنه - بإذن الله - يحمد العاقبة في الدنيا والآخرة، ولهذا وجّه الله - عز وجلّ - في محكم تنزيله، فقال : ﴿ وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾النساء 83  جاء في تفسير الوسيط لطنطاوي : " المجتمع الذي يكثر فيه العقلاء والفطناء ، هو الذي تقل فيه إذاعة الأخبار ، إلا من مصادرها الأصلية ، وهو الذي يرجع أفراده في معرفة الحقائق ، إلى العلماء المتخصصين " وهكذا يرى القارئ للآية ، أنها تغرس في نفوس المؤمنين ، أسمى ألوان الإخلاص لدينهم ودولتهم وقيادتهم ، فالآية في مطلعها   تنكر إذاعة الأخبار ، دون التحقق من صدقها   ومن فائدتها ، وفي وسطها تأمر بالرجوع إلى حقائق الدين ، وإلى الحكام العادلين ، والعلماء المخلصين ، الذين يعرفون الأمور على وجهها الصحيح ، ليسألوهم عما يريدون معرفته ، وفي آخر الآية ، تذكير للمؤمنين بفضل الله عليهم ورحمته بهم ، حتى يداوموا على طاعته   ويشكروه على نعمه         

ومن رضي بالإسلام عقيدة ومنهج حياة، فليتفقه في الدين، لينذر قومه، وما تسلط أراذل الناس على أمة الإسلام ، إلا بسبب البعد عن سواء السبيل، فهل نشخص الداء ، ونصف الدواء  ونجرب العودة النصوح إلى دين الله . 

وبالتأني وعدم العجلة ، تكون النجاة من الفتن    جاء عن عبد الله بن مسعود أنه قال: "إنها ستكون أمور مشتبهات ، فعليكم بالتُؤَدة، فإنك أَن تكون تابعًا في الخير، خيرٌ من أن تكون رأسًا في الشر" وروي  أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن من عباد الله مَن هُم مفاتيح للخير ، مغاليق للشر  ومنهم من هو مغلاق للخير ، مفتاح للشر  فطوبي لمن جعل الله مفتاح الخير على يديه، وويل لمن جعل الله مفتاح الشر على يديه) رواه ابن ماجه بإسناد صحيح. فالعجلة والتسرع والاندفاع ، لا تجر على الأمة إلا العواقب الوخيمة، والأضرار الأليمة، والنتائج السيئة ، ويجب على كل مسلم ، أن يقوم بواجبه الذي يفرضه عليه القرآن ، ولا يُعْذَر أبدا ، إن قعد وهو يرى الفساد يستشري ، والمكر يستعلي والباطل يصول ويجول ، لأن واجبه أن يدافع الفساد بالصلاح ، والشر بالخير ، والمنكر بالمعروف ، والباطل بالحق ، وإذا تعاون أهل الباطل فيما بينهم ، لنشر الفساد ، فإن الواجب على أهل الحق ، أن يتحالفوا ويتعاونوا فيما بينهم لنشر الخير ، ودحر الشر قال تعالى: ﴿ والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنةٌ في الأرض وفساد كبير ﴾ الأنفال 73 .     

والذين كفروا بعضهم ، أولياء بعض ، في النصرة والتعاون على قتال المؤمنين ، فهم وإن اختلفوا فيما بينهم ، إلا أنهم يتفقون على عداوة المؤمنين وإنزال الأضرار بهم ، وإذا لم يفعل المسلمون بما أمرهم الله ، من التناصر والتواصل ، وتولي بعضهم لبعض ، وقطع ما بينهم وبين الكفار من علاقات ، تحصل فتنةٌ كبيرة ، ومفسدةٌ شديدة  لأنَّ المسلمين إذا لم يكونوا يداً واحدةً ، يضعف شأنهم ، وتذهب ريحهم ، وتسفك دماؤهم  ويتطاول عليهم أعداؤهم ، فيعجزوا عن الدفاع عن دينهم وعرضهم ، وبذلك تعم الفتنة ، وينتشر الفساد . لذا على كل مسلم ، للنجاة من الفتن لزوم جماعة المسلمين ، والبعد عن التفرق والاختلاف، لأن الفرقة شرٌ ، والجماعةَ رحمة فقد روى الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله لا يجمع أمتي أو قال : أمة محمد صلى الله عليه وسلم على ضلالة  ويد الله مع الجماعة ) وفي رواية عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(لا يجمع الله هذه الأمة على ضلالة أبدًا قال : يد الله على الجماعة فاتبعوا السواد الأعظم فإنه من شذ شذ في النار)   والحديث صحيح كما في صحيح الجامع ، اتفق أهل السنة والجماعة على أن المراد بذلك هو رعاية الله لهم، وعنايته بهم، وأنهم في كنفه وحفظه ، والأمر بالجماعة والائتلاف ، هو أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين  وأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته ، والأمر للوجوب   كما هو معلوم ومقرر في علم الأصول، وعلى قدر امتثال المؤمنين لهذا الأمر ، تكون سعادتهم في الدنيا ، وحسن العاقبة في الآخرة .

  

 

 

التحذير من الركون إلى الدنيا

قال تعالى : ﴿ وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون ﴾ العنكبوت 64. وعن جابر رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ أن رَسُول اللَّهِ  مر بالسوق والناس كَنَفَتَيْهِ، فمر بِجَدْيٍ أَسَكَّ مَيِّتٍ فتناوله فأخذ بأذنه ثم قال: (أيكم يحب أن هذا له بدرهم ) فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء وما نصنع به قال: (أتحبون أنه لكم ) قالوا: والله لو كان حياً كان عيباً أنه أَسَكّ فكيف وهو ميت! فقال: (فوالله للدنيا أهون على اللَّه من هذا عليكم) رَوَاهُ مُسلِمٌ. قوله (كنفتيه): أي عن جانبيه. والجدي ولد المعز و(الأَسَك): الصغير الأذن أو ملتصقها أو فاقدها . ولكن الدنيا تعرض نفسها في كامل زينتها ، لخاطبيها ومشتريها ، وحق لها ذلك   لكثرة الغافلين واللاهين والعابثين والخاطبين والمشترين ، وها نحن نشاهد تهافت الناس على هذه الدنيا الفانية ، وزهدهم في الآخرة الباقية وما ذاك إلا لبعدهم عن معرفة الحقيقة ، والبعد عن منهج الله تعالى والخوف منه سبحانه ، تهافتوا وتنافسوا وتصارعوا من أجل الدنيا والركون إليها   فتاقت لها قلوبهم وهوت إليها أفئدتهم  فأصبحت محط أنظارهم على اختلاف أجناسهم وطباعهم   رضوا بالحياة الدنيا من الآخرة فكانت الويلات والنقمات هنا وهناك ، وأصبح الكثير من الناس لا يحب ولا يكره ، ولا يوالي ولا يعادي ، إلا من أجل الدنيا ، أما من أجل الله الواحد القهار ، فلا يوالون ولا يعادون  وهذا هو الجهل العظيم   والخطب الجسيم ، نسوا الله فنسيهم ، وأنساهم أنفسهم ، تركوا الآخرة والعمل لها ، وركنوا إلى الدنيا وزينتها ، " روي أن علي بن أبي طالب عندما سل سيفه لقتل عدوه ، بصق ذلك العدو في وجه علي ، فما كان منه إلا أن أعاد سيفه   فلما قيل له في ذلك ، قال : خشيت أن أنتقم لنفسي ". إنهم الرجال الذين رغبوا فيما عند الله والدار الآخرة ، تركوا الدنيا الفانية ،وأقبلوا على الآخرة الباقية ، قال تعالى : ﴿ من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً ﴾ الأحزاب 23   عرفوا الله حق معرفته ، فلم يخشوا أحداً إلا الله   صدقوا مع الله ، فصدقهم الله عز وجل ، كانوا إذا عملوا فلله ، وإذا أحبوا فلله ، وإذا أبغضوا ففي الله ، فخلف من بعدهم خلف ركنوا إلى الدنيا ، وأحبوا أهلها ، وزهدوا في الآخرة وبقائها   أحبوا من أجل الدنيا وأهلها ومناصبها ، فكانت المفاجآت أن حلت عليهم النكبات ، ودارت عليهم الدائرات ، وجعل الله بأسهم بينهم شديداً   فإذا اجتمعوا أظهروا خلاف ما يبطنوا ، وإذا تفرقوا أكل بعضهم بعضاً ، قال تعالى: ﴿ الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ﴾ الزخرف 67 ، وما حصل ذلك إلا لبعدهم عن منهج الله القويم  وانحرافهم عن صراطه المستقيم ، فضلوا وغووا   وركنوا إلى ما لم يؤمروا به ، اتبعوا الهوى والشهوات ، وحصلت بينهم المنافسات ، على المناصب الكاذبات ، غير مبالين بغضب رب الأرض والسموات ، قال الله فيهم : ﴿ أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً ﴾ الفرقان 44 ،وقال  : " الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالماً ومتعلماً ﴾ أخرجه الترمذي وهو حديث حسن وقال  : ﴿ لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء ﴾ أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح . فليس لهذه الدنيا التي ركنوا إليها قيمة ، فهي كما وصفها عليه السلام مبغوضة ، لا تساوي ولا تعدل عند الله جناح بعوضة ، وهي كما قال تعالى : ﴿ اعلموا أنما الحياةُ الدنيا لعبٌ ولهوٌ وزينةٌ وتفاخرُ ُبينكم وتكاثرٌ في الأموال والأولاد كمثل غيثٍ أعجبَ الكفارَ نباتُهُ ثم يهيجُ فتراه مصفراً ثم يكونُ حُطاماً وفي الآخرة عذابٌ شديدٌ ومغفرةٌ من الله ورضوانٌ وما الحياةُ الدنيا إلا متاعُ الغُرُور ﴾ الحديد 20، يحذر المولى جل وعلا عباده من الانجراف في مزالق الحياة الدنيا الغادرة الماكرة   ما لجأ إليها أحد ، أو رجاها من دون الله إلا خذلته ، وتخلت عنه ، فهي حقيرة عند الله عز وجل كحقارة الميتة عند الناس ، وإنما جعلها الله فتنة للعباد ليرى الصابر والشاكر ، والمغتنم لأوقاته لما فيه رضا ربه سبحانه ، ممن عكف عليها وأقام وأناب إليها ، ومن قضى أيامه ولياليه من أجلها   فلا يستوي الفريقان عند الله أبداً قال تعالى : ﴿ فريق في الجنة وفريق في السعير ﴾ الشورى 7 ، وقال تعالى : ﴿ وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور   ﴾ فاطر 19، والأعمى هو من ضل عن منهج الله تعالى ، وركن إلى الدنيا واطمأن إليها ، وإن كان بصير العين ، فهو أعمى البصيرة ، أعمى في هذه الدنيا ، وفي الآخرة أعمى وأضل سبيلاً ، ولذا قال الله عز وجل : ﴿ فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ﴾ الحج 46 وأما من باع الدنيا واشترى الآخرة فهو البصير المبصر ، العارف تمام المعرفة لم خُلِق ؟ وهذا حق معلوم لا ينكره إلا جاهل أو فاقد عقل . قال  : ( أبشروا وأملوا ما يسركم فو الله ما الفقر أخشى عليكم ، ولكني أخشى أن تُبْسَطَ الدنيا عليكم ،كما بُسِطَتْ على من كان قبلكم فَتَنافسوها كما تَنَافسوها ، فتهلككم كما أهلكتهم ﴾ متفق عليه وقال  : ( إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء ) أخرجه مسلم ، وهذا تحذير آخر من  الركون إلى الدنيا أو الاستئناس بها   وعدم الانخراط في سلك اللاهين المحبين لها    والحذر كل الحذر من الانجراف وراء مغرياتها مع كل هذه التحذيرات من رب الأرض والسموات   ومن نبي الهدى والرحمات ، لا نجد إلا قلوباً ميتة   وعقولاً مسلوبة بحب الدنيا الزائلة ، خربوا آخرتهم الباقية ، وعمروا دنياهم الفانية ، تنافس كثير من الناس من أجل الدنيا ، وتقاطعوا وتدابروا من أجلها ، فضاعت حقوق بعضهم بين بعض ، نرى التناحر والتدابر والاقتتال على هذه الدنيا التي نهانا الله أن نغتر بها قال تعالى :﴿ يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور ﴾ فاطر 5، لقد أصبحت الدنيا وعمارتها والعيش فيها وجمع الأموال والأولاد والأزواج والكسب الحرام هي الشغل الشاغل الذي ملأ قلوب الكثيرين من الناس ، بل أصبحت الدنيا هي همهم الأول الذي خلقوا من أجله ، في اعتقادهم الفاسد الباطل   فانتشرت بينهم أمراض القلوب ، من الحسد والحقد والكراهية والبغضاء ، الغيبة والنميمة والشحناء ، التي سادت بين الناس بسبب حبهم للدنيا وشهواتها وزينتها ، فأصبح العداء والولاء من أجل الدنيا ، فلا هم لأولئك الأشرار إلا إزالة هذا عن منصبه ووضع ذاك ، ونقل هذا والمجيء بالآخر ، لأن هذا من شيعته وذاك من عدوه   وهذا قريبه ومن أبناء جلدته ، وذاك غريب لا يمت له بصلة ، لقد أنساهم حب الدنيا والتشاغل بها ، أنساهم طاعة الله عز وجل والخوف منه    فما فقهوا قول النبي  : ( ما لي وللدنيا ؟ ما أنا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها ) أخرجه الترمذي وهو حديث حسن صحيح .

إن الواجب على المؤمن في هذه الدنيا ، ألا ينظر إلى من هو فوقه ، بل ينظر إلى من هو دونه حتى لا يزدري نعمة الله عليه فيقع في الإثم والمعصية       فلو ترك الناس بعضهم بعضاً بما أنعم الله على كل منهم ، لساد الحب والفرح والإخاء ، ولعم الأمن والسلام والرخاء لأن : ﴿ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ﴾ الجمعة 4 ولكن ضعاف الأيمان ، ما استساغوا ذلك الفضل من الله على بعضهم البعض ، بل تجرعوا الغصص والآهات ، وطغت عليهم الحضارة المادية الزائفة  

وركنوا إلى الدنيا ، واقتتلوا من أجلها ، واهتموا بالمناصب والشياخة ، والكراسي والرياسة     وحب الظهور ، في دنيا متعاها قليل منقطع  كما  جاء قي الحديث الذي يرويه أبو هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله  : ( يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة ، فيصبغ في النار صبغة – أي يغمس فيها غمسة- ثم يقال : يا ابن آدم هل رأيت خيراً قط ؟ هل مر بك نعيم قط ؟ فيقول : لا والله يا رب   ويؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة   فيصبغ في الجنة – أي يمر به نسيم الجنة فينسى كل شقاء مرّ به في الدنيا-فيقال له : يا ابن آدم هل رأيت بؤساً قط ؟ هل مربك شدة قط ؟ فيقول : لا والله ما مر بي بؤس قط ، ولا رأيت شدة قط ) مسلم. إن شدة النار وهولها تفقد الإنسان صوابه، وتجعله يجود بكل أحبابه لينجو من النار، وأنى له النجاة: ﴿ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى ﴾ المعارج  11. وهذا العذاب الهائل المتواصل يجعل حياة المجرمين في تنغيص دائم، وألم مستمر.

 

 

سبيل المجرمين

من الناس من لا يريدون الإسلام ، ولا المسلمين  وإذا مرّوا بهم احتقروهم ، وسخروا منهم يستهزئون بالمؤمنين ، ويعملون على محاربتهم ويتآمرون على إقصائهم ، وطردهم وحرمانهم  ولا يستجيبون لنصح ناصح ، هؤلاء وصفهم الله بأنهم ﴿الَّذِينَ أَجْرَمُوا﴾  فكل من يعادي أولياء الله والمؤمنين فهو مجرم ، وجاءت الآيات القرآنية تبين لنا صفات المجرمين ، وتحدد سبلهم ، حتى لا تختلط سبيل المجرمين ، بسبيل المؤمنين فقال تعالى ﴿ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ﴾ الأنعام 55 ، فإذا كان الله بين سبيل المجرمين لعناً وطردا ، فسبيل المؤمنين يختلف عن ذلك ، إنه الرحمة والتكريم ، واستبانة سبيل المجرمين ومنهجهم وعلامتهم ضرورية لاستبانة سبيل المؤمنين ، ومنهجهم وعلامتهم ، ومن الصعب تحديد ذلك لوجود من يتنكر لمقومات الإسلام إعتقاداً وواقعاً ، ومن لم يشهد أن لا إله إلاّ الله إعتقاداً وواقعاً ، فإنه لا يشهد ، وأي أرض لم تتحقق فيها شهادة أن لا إله إلاّ الله ، إعتقاداً وواقعاً ، فهي لا تدين بدين الله ,  وسبيل المجرمين وأساليبهم، تكاد تتشابه في كل زمان ومكان  فهم يمكرون بعباد الله ، ويسعون جاهدين لتحقيق مكرهم في الدنيا ، وقد ذكرهم الله فقال : ﴿ وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾الأنعام 123، والاجرام كما قال الشعراوي : هو الإقدام على القبائح ، إقداما يجعل الإنسان عازلاً نفسه عن خير مجتمعه ، لأنه يريد كل شيء لنفسه ، وما دام يريد كل شيء لنفسه فعامل التسلط موجود فيه ، ويرتكب الرذائل ، ولأنه يرتكب الرذائل ، فهو يريد من كل المجتمع أن تنتشر فيه مثل هذه الرذائل ، كي لا يشعر أن هناك واحدا أحسن منه ، فقال تعالى ﴿ ليمكروا فيها ﴾ وقد خص الأكابر بالمكر ، لأنهم هم الحاملون لغيرهم على الضلال ، وعندما يتكلم الله في هذه الآية عن المجرمين من أكابر الناس ، أي الذين يتحكمون في مصائر الناس ، ويفسدون فيها ، ولا يقدر أحد على مواجهتهم ، فيمكرون بعباد الله ، ويسعون في تحقيق الفساد ،  وإيجاد الإفساد ، وغالباً لا يأتي الشر والبلاء إلا منهم   فكل طاغية يقتل الأبرياء ، ويشرد الآلاف وينهب الأموال ، ويشيع الرعب والإرهاب ، ويعيث في الأرض فسادا ، فهو مجرم، وضرب الله مثلا للطغاة المجرمين بفرعون ، وهو يدعي ملكية الأرض والناس ، والأموال والأنهار فيقول: ﴿ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ ﴾الزخرف51، بل تعالى بنفسه حتى قال: ﴿ أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى ﴾ ومن ظن بنفسه هكذا ، فلا يقبل النقد أو المراجعة ، لأنه لا يرى إلا نفسه، وهو الذي لا يخطئ، تعالى الله عن  ذلك علوا كبيرا   بل وأكثر من ذلك ، العمل على تنحية منهج الله عن الحياة ، وما علموا أن كل من نحى منهج الله عن الحياة ، وحكم بغير شرع الله ، واعتقد أن منهج الله ، لا يصلح للتطبيق في الحياة ، فهو مجرم، ومن جعل دستوره الوضعي بدل دستور الله  ومن قتل الآلاف ، وشرد مئات الآلاف من أجل أن يبقى على الكرسي ، ولو على جثث أبناء شعبه فهو مجرم ، وكل من استنزف خيرات أمته وشعبه ، وصرف خيراتها وأموالها في سبيل منصبه وشهوته ، وتركها تتلوى من الجوع ، وتتلظى من البرد والفقر ، وتفتقد إلى أبسط متطلبات الحياة  فهو مجرم، وكل من لا يقيم وزنا للإنسان، ولا يفهم إلا لغة التصفية الجسدية ، لكل من يخالف له رأيا فهو مجرم ، وكل من كان مصدر إيذاء وشر ، فهو مجرم ، وكل من كان فاقدا للخير في نفسه ، فاقدا للخير فيمن حوله ، خائضا بالباطل   ومصدر شر وإيذاء ، فهو مجرم ، وكل من يضلون أتباعهم، ويسعون بكل وسيله إلى إضلال الناس ، وصرفهم عن طريق الحق، فهو من المجرمين الذين توعدهم الله بأن ينتقم منهم فقال تعالى:﴿ إِنَّا مِنْ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ ﴾السجدة 22 ، وها هي شواهد الواقع ، ترينا تساقط المجرمين ومصائرهم ، وعقوبة الله لهم العاجلة في الدنيا. وأما الجزاء في الآخرة فهو من جنس العمل  فيعامل الله المجرمين ، كما كانوا يعاملون الناس في الدنيا باختزال الزمن ﴿ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ ﴾ الروم 55 ، فلقد ذهبت لذة الإجرام ، وكأن الدنيا كلها لم تكن إلا ساعة من نهار، وليت مجرموا الساعة يفهموا ذلك ، فلسوف تنسي ذلك الكبرياء والعظمة والمجد المزعوم، وكأن العمرلم يكن إلا ساعة  وكأن النعيم في الدنيا لم يكن قط ، وترى    خوفهم يوم القيامة عندما يرون كتابهم وقد دونت فيه جرائمهم ﴿ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا ﴾الكهف 49. ويصيبهم الشقاء فينكسون رؤوسهم قال تعالى : ﴿ وَلَوْ تَرَى إِذْ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ ﴾ السجدة 12. وتثبت على المجرمين جرائمهم، ويرون كتابهم قد سطرت فيه فضائحهم ، فيحاولون الافتداء من العذاب بكل ما يملكون، فيقدمون أعز ما يملكون فداء لهم قال تعالى : ﴿ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ  وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ  وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ  وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ ﴾ المعارج 11   فلا يقبل منهم، وتأخذهم زبانية العذاب   تسحبهم على وجوههم إلى جهنم قال تعالى : ﴿ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ ﴾ القمر  47. 

والجرائم سبب للهلاك الذي لا ينجو منه إلا من حاربها وأنكرها، وهي وبال على أصحابها في الآخرة إن لم يتوبوا منها ، ويصلحوا ما أفسدوا  وقد أخفقت كل المبادئ والأنظمة في علاج الجرائم أو حتى في التخفيف من ضررها على المجتمعات، ولم ينجح في علاجها وسد أبوابها إلا الإسلام الذي جاء ببيان خطورتها والتحذير منها  وإغلاق كل الطرق التي تؤدي إليها.

 فإن الله سبحانه وتعالى قد أكثر في كتابه من لوم المجرمين، ومن وصفهم بأنواع النعوت المؤلمة المخوفة من مصيرهم ومآلهم؛ وذلك للتنبيه على خطر الإجرام وضرره ، والنبي صلى صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يزال المسلم في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً) ، لذا على الناس أن يتعاونوا على مكافحة الجرائم، وأن يعلموا أن خطرها وضررها عليهم أجمعين، وأنها لا تختص بالمتضررين المباشرين بها، بل يتعدى ضررها إلى من سواهم  ويهلك الحرث والنسل، وينقطع بها القطر من السماء ، أخرج ابن ماجة في سننه وأحمد في المسند والحاكم في المستدرك بإسناد صحيح من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر المهاجرين! أعيذكم بالله أن تدركوا خمساً: ما نقص قوم المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وجور السلطان ونقص المئونة، وما نقض قوم عهد الله وميثاقه إلا سلط عليهم عدواً من سواهم فأخذ بعض ما في أيديهم، وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، وما ظهرت الفاحشة في قوم فأعلنوا بها ، إلا ظهرت فيهم الأمراض التي لم تكن فيمن مضوا من أسلافهم ، وما حكم قوم بغير ما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم) فهذه جرائم تتعلق بها عقوبات وشؤم في هذه الدنيا؛ فإذا انتشرت فوبالها وعقوبتها ، ستشمل الصالح والطالح؛ ولهذا يجب على المسلمين أن يتعاونوا على مكافحة هذه الجرائم ،والوقوف في وجهها ، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجنبنا جميع الفتن ما ظهر منها وما بطن .  

 

 

سنة التغيير

التغيير سنة الله تعالى في خلقه، ويأتي التغيير في الكون والحياة ، تحقيقًا لهذه السنة ، مابين تغيير إلي الأحسن، أو تغيير إلي الأسوأ ، والإسلام دين الحق ، يراعي متطلبات البشرية وأحوال العباد وقد خلق الله الناس على قابلية هذا التغيير؛ لأن الناس يختلفون في صفاتهم وأحوالهم واستجابتهم قال تعالى: ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ   ﴾ هود 118 وقد جاءت رسالة الإسلام ، لإحداث تغيير كامل في فكر العالم كله ﴿ أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ﴾آل عمران 83. جاء الإسلام لتغيير نفسية الناس ، وإصلاح عيوبهم، ونبذ الجاهلية السائدة بينهم ، وغيَّر كل المفاهيم المغلوطة في حياتهم وانتهج الحكمة والتدرج في التعامل مع النفس البشرية ، في العبادات والمعاملات والأخلاق والمأكل والمشرب والملبس والنكاح ، وعندما تغيرت ملامح هذه الأمة إلي الأحسن، وتغير فيها كل شيء ، وصفها الله تعالي بالخيرية : ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾ آل عمران 110،  ومن هنا فإن الإسلام تقوم فلسفته علي إصلاح نفوس البشر ، بما يتفق مع فاعلية هذا التغيير وإيجابيته   وهكذا وصف الله الأمة: ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ آل عمران 104 . وإصلاح نفوس البشر ، هو التغيير الحقيقي الذي ننشده؛ وقد عاصرنا التحولات والثورات التي لم تنجح في تهيئة الناس ، لاستقبال التغيير في الوجوه السياسية والاجتماعية ، وبدل أن نجني ثمار التغيير بصلاح أمتنا، فإننا نزداد في المعاناة والبؤس واشتداد الفاقة ، وزيادة الأوجاع والغلاء   وفقدان الأمن والأمان ، مما يدعو للتساؤل : ما هو التغيير المطلوب ؟ إن التغيير المطلوب ليس في الأشكال والأقوال ، ولا في التصريحات، إنما التغيير الذي نرجوه ، في تغيير الفرقة والشتات إلي اتحاد واعتصام ، وتغيير التشاؤم إلي الأمل وفسحة العيش والرزق ، وتغيير العجلة والاندفاع إلي الحكمة والتروي ، إن التغيير الذي نرجوه ، هو في ترقب الفرج ، والتحول من العسر إلي اليسر ومن الضيق إلي السعة قال تعالى : ﴿ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ التوبة 118   إن إخراج الأمة مما هي فيه ، مطلب لابد منه   لأنها تعاني من النكباتٍ والإحباطات ، ما يجعل الحاجةَ ماسةً إلى تغيير ما بالأنفس ، حتى يغيّر الله ما بها ، لأن التغييرَ لا يهبطُ من السماء، ولا يتمُّ في أروقةِ الأممِ المتحدة، ولا يُستجدَى بالمساوماتِ والتنازلات ، هذا التغيير بحاجة إلى جهد، وهذا الجهد ، لا يكون إلا بالبشر أنفسهم  فهم الذين يباشرون التغيير المنشود : ﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ﴾ الرعد 11   إن من سنن الله الاجتماعية أن الله لا يبدل ما بقومٍ من عافية وأمنٍ وعزةٍ ونعمة وسلطانٍ ومنعة  إذا كفروا تلك النعم، وارتكبوا المنكرات، وغيّروا حالهم من الطاعة إلى المعصية، ومن إتباع منهاج الله إلى إتباع الأهواء ، ومن حاكمية الله إلى سلطان البشر، قال ابن كثير ، قال ابن أبي حاتم : "أوحى الله إلى نبيٍّ من أنبياء بني إسرائيل أن قل لقومك: إنه ليس من أهل قرية ولا أهل بيت يقومون على طاعة الله، فيتحولون منها إلى معصية الله إلا حوّل الله عنهم ما يحبون إلى ما يكرهون"  ثم قال: إن تصديق ذلك في كتاب الله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ﴾ .

فقد ربطت مشيئة الله ، تغيير الأحوال سلبًا أو إيجابًا ، بنية الأفراد والجماعات والأمم، فإقبال الأمة بنية خالصة لله، مع العمل الصالح والسلوك السوي ، يرشحها للتغيير نحو الأفضل؛ لأن الجزاء من جنس العمل، عن عمير بن عبد الملك قال : خطبنا علي بن أبي طالب على منبر الكوفة فقال : " كنت إذا سكت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدأني   وإذا سألته عن الخبر أنبأني ، وأنه حدثني عن ربه – عز وجل – قال : قال الرب : وعزتي وجلالي وارتفاعي فوق عرشي ، ما من أهل قريةٍ ولا أهل بيت كانوا على ما كرهت من معصيتي ، ثم تحولوا عنها إلى ما أحببت من طاعتي ، إلا تحولت لهم عما يكرهون من عذابي ، إلى ما يحبون من رحمتي " والله يقول: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ الأنفال 53    

فهذه الآية تبين لنا أنهم إذا كانوا في نعمة ورخاء وخير ، ثم غيروا بالمعاصي ، ثم تابوا وندموا واستقاموا على طاعة الله ، فغيَّر الله حالهم من الحالة السيئة إلى الحالة الحسنة ، وغير تفرقهم إلى اجتماع ووئام ، وغير شدتهم إلى نعمة وعافية ورخاء ، وغير حالهم من جدب وقحط وقلة مياه ونحو ذلك إلى إنزال الغيث ، ونبات الأرض وغير ذلك من أنواع الخير .

 فتغيير الحال لا يكون بالتمني والأماني، ولكن بالعمل الجاد ، والنية الخالصة ، فمن أراد أن يصل إلى بر الأمان ، وشاطئ السلامة ، فعليه أن يعد الزاد من التقوى والعمل الصالح  ، وأن يحكم السفينة ويتعهد الراحلة، وإلا كان كما قال القائل:

ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها  إن السفينة لا تمشي على اليبس

فكيف يغير الله حال الأمة ، وهي تقيم على المعاصي، وقد مارست ألوانًا من الصدود والإعراض ، ووالت الأعداء ، الذين حرصوا  على توسيع دائرة التمزق فيها، فصنعوا منها دويلات متناحرة ، فلماذا لا نغير ما بأنفسنا  ونحن نرى أغدائنا ، يغتصبون ديارنا، ويستذلون أهلنا، ويسفكون دماء الأبرياء من إخواننا، ولا نرى حراكاً من أحد ؟ إن حال الأمة لن يتغير إلا بالعودة الصادقة إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والتوبة والاستغفار ، فذلك طريق من طرق التغيير والإصلاح ، وباب من أبواب الفلاح، فما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة، قال تعالى في بعض الأمم : ﴿ َأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ ﴾الأنعام  6  فكانت ذنوبهم سببًا لهلاكهم وتدميرهم، وقال تعالى: ﴿ كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ المطففين 14 ، كسبهم من المعاصي والذنوب ، حال دون صلاحهم واتعاظهم ، وانتفاعهم بالمواعظ والتوجيهات قال تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ ﴾يونس 57  فهل وعينا هذه الموعظة المباركة ، وجعلناها مداد الإيمان ووقود اليقين ؟ وهل جعلنا منها زكاة للأنفس وطهارة للأفئدة ؟ وعنوانا للجد والعمل والمقاومة؟ أما آن لنا أن نرجع إلى القرآن الذي ضمن لنا التغيير والإصلاح، وضمن لنا الرفعة والظهور، وهو الذي بعث في قلوب العرب وقود الإيمان والشجاعة، فهابهم الناس ، وتخوفهم الأعداء، حملوا الإسلام عقيدة وشريعة ونظام حياة، فغيّر الله أحوالهم ، من الضعف إلى القوة  ومن الفرقة إلى الوحدة، ومن الضلال إلى الإيمان  ومن الذل إلى العزة، وغدت دولة الإسلام هي الدولة الأولى في العالم ، عدة قرونٍ من الزمان  حكّموا كتاب الله ، وسنة رسول الله ، فأيّدهم الله بنصره، وأمدّهم بتوفيقه وعونه، ومكن لهم في الأرض، واستخلفهم فيها قال تعالى : ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ ﴾ النور55

إن السنة الربانية ، بالتمكين للأمة الإسلامية واضح غاية الوضوح، ولكن هذا التمكين ، لا يمكن أن يتأتى في ظل الوضع الحالي للأمة الإسلامية ،  لأنه لابد من التغيير، كما أن التمكين لن يتحقق لأمة ارتضت لنفسها حياة المذلة والتخلف، ولم تحاول أن تغير ما حل بها من واقع مرير ، وأن تتحرر من أسره .

 إن على كلّ فرد من أفراد المجتمع،  مهما كان موقعه وشأنه- أن يشعر أنه مسؤول ومساءل  فيبدأ بإصلاح نفسه وبيته، ثم تتسع دائرة الإصلاح ، حتى تشمل جلساءه وجيرانه ومجتمعه.

وأن يحذر من اليأس والقنوط ، وأن يحسن الظن بالله تعالى، وأن يستشعر معاني الآيات المحذّرة والمرهبة من اليأس، كقوله تعالى: ﴿ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ﴾ الزمر53 وقوله تعالى: ﴿ وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّالْقَوْمُ الكَافِرُونَ ﴾ يوسف 87 . وعليه أن يتذكر النصوص المبشرة والدالة على حصول اليسر بعد العسر :  لقوله تعالى : ﴿ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ﴾ البقرة 214 

فالتغيير سنة من سنن الله في الكون ، وما سقطت أمة من الأمم من عرش عزها، ولا بادت ومحي اسمها من لوح الوجود ، إلا بعد نكوبها عن تلك السنن، التي سنها الله على أساس الحكمة البالغة  إن الله لا يغير ما بقوم، من عزة وسلطان ورفاهة وخفض عيش ، وأمن وراحة، حتى يغير أولئك ما بأنفسهم من نور العقل، وصحة الفكر ، والاعتبار بأفعال الله في الأمم السابقة ، والتدبر في أحوال الذين حادوا عن صراط الله ، فهلكوا وحل بهم الدمار، ثم لعدولهم عن سنة العدل، وخروجهم عن طريق الحكمة، كما حادوا عن الاستقامة في الرأي، والصدق في القول، والسلامة في الصدر  والعفة عن الشهوات،خذلوا العدل، ولم يجمعوا هممهم على إعلاء كلمة الله ، واتبعوا الأهواء الباطلة ، وانكبوا على الشهوات الفانية، وأتوا عظائم المنكرات، فخارت عزائمهم، وشحوا ببذل مهجهم في حفظ السنن العادلة، واختاروا الحياة في الباطل ، على الموت في نصرة الحق  فأخذهم الله بذنوبهم، وجعلهم عبرة للمعتبرين.

وفي حديث جرير بن عبد الله أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( ما مِن قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقْدرون  أن يغيِّروا فلا يغيرون إلاَّ أصابَهم الله بعقاب) أبو داود

 

 

 

 

 

مدرسة الصبر

الصبر: هو الترفع على الألم، والاستعلاء على الفتن، والثبات على المحن ، والثقة الكاملة في وعد الله بالنصر ، الذي يأتي كسنة ثابتة من سنن الله لمن هو أهله ، قال تعالى: ﴿ فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون ﴾60الروم  ،فقد أمر بالصبر، مع ذكر السبب المعين عليه، وهو أن وعد الله حق، وحذَّرَ من الذين لا يوقنون، ألَّا يستخفوا العقول ، ويحتقروا الاعمال، ويسخروا من الصبر والثبات .

 إن الواقع الذي نعيشهُ قد يحول بيننا وبين ما نصبوا إليه من طاعة الله وعبادته، والاستقامة على دينه، وقد يحملنا هذا الواقع على فعل ما نكره وترك ما يحب، وقد تحول نظرات الآخرين وكلماتهم، وأفعالهم  والنفس، والشيطان، والدنيا  والهوى ، بين العبد وفلاحه ، وفوزه في الدنيا والآخرة. وهذه الأربعة هي حقاً أعدى أعدائنا، فمتى قهرناها ، كنا على قهر أعدائنا أقدر، وإن قهرتنا استوينا وأعداءنا في المعصية، وبقي لهم تفوقهم في القوة علينا ، وحتى نتغلب عليها ستواجهنا ابتلاءات ومتاعب ، وهذا بحاجة إلى صبر ، يقول عليه السلام : ( ومن يتصبر يصبره الله ) ويقول r: (ومن يتحرَّ الخير يُعْطَهُ، ومن يتق الشر يوقَه ) فمن أخذ بأسباب الصبر ، رزقه الله الصبر، ومن أخذ بأسباب الوهن والضعف والخذلان، أصيب به قال تعالى : ﴿وَمَا ظَلَمَهُمْ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ آل عمران 117.  فالدنيا متاع زائل، ولا تساوي عند الله جناح بعوضة، ولا يعرفها حق المعرفة إلا أهل الإيمان  والصلاح، والمعرفة الحقة بربهم ومولاهم الحق، فهؤلاء يعلمون أن زمانهم وزمان الطواغيت سينقضي ،ولنا في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة ، فقد تحملوا الضرب والشتم والتعذيب ، وتركوا الديار والأهل ، وصبروا على دينهم ، وتواصوا بالصبر وتواصوا بالحق ، وما لان جانبهم وما استكانوا بل استمروا في نشر الدعوة ، والعمل على إخراج الناس من عبادة الأوثان ، إلى عبادة الله الواحد الأحد ، وإخراج الأمم من ظلم الأديان إلى عدل الإسلام ورحمته ، حتى كان لهم ما وعدهم الله   من نصر وتمكين ، ويكفي أهل الإيمان شرفاً إذا أنهم إذا صبروا عند الشدائد ، وثبتوا على الحق بعد الابتلاء أن يكونوا ضمن خريجي مدرسة الابتلاء العظيمة التي يتربى فيها الرجال تربية خاصة، ويصقلون فيها صقلا خاصاً، ويتخرجون منها وقد صفت نفوسهم، وراقت قلوبهم، وحطت ذنوبهم ، وقبلت توبتهم، وخشعوا  وخضعوا، واستسلموا لربهم، وتوكلوا عليه حق التوكل، فمن تخرج من مدرسة الابتلاء هذه بنجاح أصبح إماماً من أئمة الدين ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ السجدة 24. لقد تخرّج من مدرسة الابتلاء ، عمار بن ياسر وبلال بن رباح وصهيب وسلمان وخباب وخبيب وغيرهم من الصحابة. ومن تلك المدرسة تخرج سعيد بن جبير  ومالك ابن أنس وأبو حنيفة و الإمام أحمد بن حنبل  وابن تيمية وابن القيم و غيرهم ، وكان رائد تلك المدرسة العظيمة، ومعلمها الأول الرسول الكريم  الذي كان يقول: ( أوذيت في الله وما يؤذى أحد )

أترى لولا أن مشركي قريش استولوا على أموال  صهيب الرومي ، أكان يحظى بدرجة: أبا يحيى، ربح البيع ، أترى لولا العذاب الذي ذاقه آل ياسر على يدي مشركي قريش أكانوا ينالون شرف:( صبراً آل ياسر، فإن موعدكم الجنة ) . ولولا تقطيع أنس بن النضر إرباً في غزوة أحد، أكان ينال شرف: ( لو أقسم على الله لأبره )  ولولا العذاب الذي ذاقه بلال بن رباح على يدي أمية ابن خلف وزبانيته، ما نال درجة: ( بلال سيدنا ) . ولولا صبر يوسف عليه السلام في السجن، ما نال درجة: ﴿أَيُّهَا الصِّدِّيقُ﴾  يوسف 46 ، ولولا صبر أصحاب الرجيع على ما لاقوه في سبيل الله، ما كانوا من أهل﴿وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ﴾ البقرة 207 ، ولولا .. ولولا  ،  هناك ذنوب كبيرة لا تكفرها إلا الحسنات الكبيرة، أو الابتلاءات الشديدة، فيقدر الله عز وجل على أوليائه الابتلاء، ليكفر عنهم ذنوبهم ، حتى لا تبقى لهم خطيئة، فيقبلون على ربهم وقد حطت عنهم خطاياهم. وأكرم بذلك من فضل, وأنعم بها من درجة عالية، إن هؤلاء وأمثالهم جديرون حقاً بتمكين الله لهم، ونصر الله لهم، واصطفائه لهم ، إنهم قوم أحسوا أن سعادتهم لا تكون إلا في سيرهم في هذا الطريق، الذي استعذبوه ، ووجدوا له حلاوة أذهبت ألم الطريق، ووعورته، وصعوبته، وعذابه، بل حولت العذاب عذباً، والمر حلواً، والصعب سهلاً  والغالي رخيصاً، فرضاهم في رضا مولاهم الحق، ومحبتهم للشيء هي من محبته سبحانه له .  قال ابن القيم عن الصبر كلاما جامعاً في كتابه القيم (عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين) قال: " الصبر: هو حبس النفس عن الجزع، وحبس اللسان عن التشكي، وحبس الجوارح عن المعاصي. وقسمه إلى ثلاثة أقسام، وهي: صبر على الطاعة أو صبر على المأمور، وصبر عن المعصية أو صبر عن المحظور، وصبر على البلاء والمصائب أو صبر على المقدور ، وصبر على المصائب والفتن والبلايا "  ولابد لكل مسلم يعاني من البلاء ، من التزود بأنواع الصبر الثلاثة، لابد أن يتزود ،بالصبر على طاعة الله، والصبر عن معصية الله، ولابد أن يتزود بالصبر على جميع الفتن والبلايا والمصائب ، التي ستكال على رأسه  لمجرد أنه مسلم يوحد الله ، فمن المسلمين في عالم اليوم ، الإرهابي والأصولي ، والمتطرف والمتعنت والمتشدد ، والسطحي والساذج قال تعالى : ﴿ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ   وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ ﴾المطففين29 ، لا إله إلا الله! هذا وعد الله   وشهادة من الله سبحانه .

قديماً قال المنافقون للصحابة بعد غزوة أحد: ارجعوا إلى دين آبائكم. وهذه الكلمات قالها وسيقولها المنافقون لأهل الإيمان، في كل زمان ومكان ، دعوكم مما أنتم عليه وارجعوا عنه، فإن هذا الدين هو الذي سبب لكم كل هذه المصائب والمتاعب ، فإذا قالوا ذلك قلنا لهم ما قاله الله تعالى : ﴿وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾إبراهيم12،ويقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض، عن المسلمين ما أدوا رسالة   ولا استطاعوا أن يزيلوا المنكرات والموبقات، وقد ذكرهم الله فقال : ﴿وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾ البقرة 204، كلمة تقال للمسلم إذا تكلم في السياسة ، أو دعا للجهاد والاستشهاد ، خليك على صلاتك وصومك ، كلمة قالها المنافقون ، ذكرها القرآن في قوله تعالى : ﴿ الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ آل عمران 168، لقد وعد الله المسلمين النصر والتمكين ، إن أقاموا هذا الدين ، إننا ننتظر يوماً ينتصر فيه الإسلام وأهله، إننا ننتظر يوماً كيوم أبي بكر في الردة، وخالد في اليرموك، وسعد في القادسية، وصلاح الدين في حطين، وقطزفي عين جالوت، ومحمد الفاتح في القسطنطينية، إننا نتمنى أن تقر أعيننا -ولو للحظات قبل أن نموت- ونرى أعلام الإسلام ترفرف على المشارق والمغارب، ونرى ظلالها الوارفة ، تملأ الدنيا عدلاً وحقاً ، ونوراً وهدىً ، إننا لفي شوق عظيم لذلك اليوم الذي يفتح الله فيه على المسلمين بالنصر المبين ، وفي شوق عظيم ، ليوم ينصر الله فيه دينه، فيعز أولياءه وحزبه ، كذلك اليوم الذي اقتحم فيه عقبة بن نافع المحيط الأطلسي بقوائم فرسه قائلاً: والله لو أعلم أن وراءك أرضاً لغزوتها في سبيل الله، وقال وهو ينظر نحو السماء: يا رب! لولا هذا البحر لمضيت في البلاد مجاهداً في سبيلك، إننا ننتظر  يوماً من هذه الأيام، فهل يلبى هذا الرجاء؟ ويستجاب لهذا النداء؟ وما يكون ذلك إلا بالأعمال والأفعال لا بالأقوال : ﴿ وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ﴾ .

 

 

 

الرياء يبطل العمل

﴿ يا ايها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر﴾ البقرة 264 هناك من يبني مسجداً أو يتبرع لبناء أو ترميم مسجد ، يتفاخر بذلك ، وتناسى أنَّ الله عز وجل لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً لوجهه الكريم ، وموافقاً لشرعه الحكيم ، كمن يصلي أمام الناس  فيظهر الخشوع ، ولو كان لوحده لما نشط ولما خشع  وما علم أن الإخلاص ينافيه طلب السمعة ، وأن الرياء في العمل بقصد المدح ، من مهلكات الأعمال ، لأن الإنسان الذي يقل عمله إذا كان وحده  وينشط في العمل إذا كان مع الناس ، ويحب الثناء من الناس   فهذا مريض ، بحاجة إلى أن يعالج نفسه ، لما روي أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عمن يصطنع المعروف أو قال يتصدق فيحب أن يُحْمد ويؤجر ، فلم يدر ما يقوله حتى نزلت ﴿  فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه  أحدا ﴾ إن من الأدواء المهلكة والأمراض الفاتكة، والخسائر الفادحة ، الرياء ، حيث فيه خسارة الدين والآخرة ، ولهذا حذر منه المتقون، وخافه الصالحون، ونبه على خطورته الأنبياء والمرسلون، ولم يأمن من مغبته إلا الجهلة والغافلون، لأنه الشرك الخفي ، فمن يحرص على تمام عمله ، أن لا ينقص منه شيئا فليحذر الرياء أو السمعة أو طلب المنافع الدنيوية أو قصد ثناء الناس، لأن من قصد بعمله ثناء المخلوقين ، ولم يقصد به وجه رب العالمين ، فهو مردود عليه  لأن الله يحب العمل الخالص لوجهه الكريم ، ولا يحب الشريك ، بحيث يرائي به الإنسان ، ويطلب به  استحسان خلق الله ، لما روى أبو هريرة   قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه  : ( أنا أغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه ) . وعن هريرة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( يقال لمن أشرك في عمله خذ أجرك ممن عملت له )   روي أنه قيل لبهلول في عصر هارون الرشيد ، تولى مسؤولية قاضي القضاة ، فتظاهر بالجنون فراراً من القضاء ، وكان يأمر الناس بالمعروف ، وينهاهم عن المنكر بأعماله ، ولبهلول قصة حول الرياء ، رأى يوماً رجلاً يبني مسجداً، فكتب  في أعلى باب المسجد "مسجد بهلول" فلما رآه صاحب المسجد قال له: لماذا فعلت هذا؟ قال البهلول: إن كنت بنيت المسجد لله فلا فرق حينئذٍ أن يكون المسجد باسمك أو باسم آخر، فقال صاحب المسجد: لقد جهدت حتى بنيت هذا المسجد ، وأخيراً يكون باسم غيري! ثم ذهب فمحا اسم بهلول وكتب اسمه ، فقال البهلول: هذا يدل على أنه لم يبنِ المسجد لله.

إن الله لا يقبل العمل إلا إذا كان خالصاً وصواباً؛ خالصاً، ما ابتغي به وجه الله، وصواباً ، ما وافق السنة ، ولا يقبل بغير نية  لأن العمل بغير نية عناء، والنية بغير إخلاص رياء، والإخلاص من غير تحقيق هباء، قال تعالى: ﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا ﴾ .

فأي عمل لا يكون  مقبولاً إلا بنيةٍ خالصةٍ لله  وأي عبادةٍ لله ، إذا لم تكن خالصةً لوجهِ الله ، فلا يقبلها الله  قال السوسي:" الإخلاص : فقد رؤية الإخلاص، ومن شاهد في إخلاصه الإخلاص ، فقد احتاج إخلاصه إلى إخلاص"  فالإخلاص صدق النية مع الله تعالى وأن يكون سكون العبد وحركاته لله   خاصة ، حكي أن ملكا من الملوك أراد أن يبني مسجدا في مدينته ، وأمر أن لا يشاركه أحد في بناء هذا المسجد ، ولما بُني المسجد ، وضع أسمه عليه وفي ليلة من الليالي رأى الملك في المنام كأن ملكا من الملائكة نزل من السماء فمسح أسم الملك عن المسجد ، وكتب أسم امرأة  فلما أستيقظ من النوم ، أرسل جنوده ينظرون هل أسمه مازال على المسجد ، فقالوا له : أسمك  ما زال موجود ، وفي الليلة الثانية والثالثة تكررت نفس الرؤيا ، حفظ أسم المرأة ، وأمر بإحضارها ، وكانت عجوز فقيرة ، فسألها هل ساعدت في بناء المسجد ، قالت يا أيها الملك أنا  فقيرة وكبيرة في السن ، وقد سمعتك تنهى عن مساعدة أحد في بناءه ، ولا أعصيك ، فقال لها أسألك بالله ماذا صنعت في بناء المسجد،  قالت : والله ما عملت شيئاً قط في بناء المسجد ، إلا  قال الملك : إلا ماذا ، قالت إلا أنني مررت ذات يوم من جانب المسجد ، فإذا أحد الدواب التي تحمل أدوات البناء ، مربوط بحبل الى وتد في الأرض وبالقرب منه سطل به ماء ، يريد ان يقترب من الماء ليشرب ، فلا يستطيع بسبب الحبل ، فقربت سطل الماء منه ، فشرب من الماء فقال الملك : عملتي هذا لوجه الله فقبل الله منك،  وأنا عملت عملي ليقال مسجد الملك ، فلم يقبل الله مني"  قال الحواريون لعيسى عليه السلام: ما الخالص من الأعمال؟ قال: الذي يعمل لله تعالى لا يحب أن يحمده عليه أحد   وسئل الفضيل بن عياض: ما هو العمل المقبول؟ قال: ما كان خالصاً وصواباً ، فحينما سئل هذا السؤال، سئل بمناسبة قوله تعالى: ﴿وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ﴾ النمل الآية: 19، فهذا العمل الذي تمناه أحد الأنبياء قيده بأن يرضى الله عنه؛ أي أن يقبله ، فقيل له: يا فضيل، ما العمل الصالح الذي يرضاه الله؟ قال: ما كان خالصاً وصواباً خالصاً ما ابتغي به وجه الله وصواباً ما وافق السنة.

 ففي كثير من الأحيان يكون خالصاً، ولا يكون صواباً، كأن يرصد ريع  حفلة غنائية  للفقراء هذا العمل خير، ولكن صورته مخالفة للشريعة،  فلا يكفي أن يكون العمل صواباً والنية سيئة كما أنه لا يكفي أن يكون العمل خالصاً والصورة سيئة فالعمل الذي يقبله الله عز وجل ما كان خالصاً وصواباً.  وقد وضع العلماء بعض القواعد للنية الخالصة لله فقالوا : إذا  ازداد عملك الصالح أمام الناس و وضعف فيما بينك وبين الله  فهذا مؤشر خطير ، لأن العمل الصالح لا يزداد أمام الناس، ولا يضعف أمام الله، كما أنه لا يزداد على المديح، ولا يضعف على الذم، فهذا هو الإخلاص وإذا كانت صورة العمل وفق سنة النبي صلى الله عليه وسلم ونيته عالية كان مقبولاً ، وقد قيل :" ترك العمل بسبب الخلق رياء وفعله لأجل الخلق شرك" وقال علي بن أبي طالب :"لا تهتموا لقلة العمل واهتموا للقبول فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل: " أخلص العمل يجزك منه القليل" .

 

 

 

 

 المخدر المجهول

إنه أقوى مخدّر في العالم ،  استطاع تخدير ما يزيد عن خمس سكان العالم ، واستطاع إن يخدّر عواطف الإنسان ، ويضعف قواه  ويشل ردود أفعاله ، حتى عن انقاذ المحارم التي تنتهك ، في الحرب الدائرة هذه الأيام ، مخدر يمحو صفات النبل والشرف ، مثل الشجاعة وإغاثة الملهوف ، ومساعدة المظلوم ورد الظالم  مخدر أُجريت تجاربه ، وطبقت على العالم الإسلامية ، حتى أنهكه وأصابه بالخمول والكسل ، والبعد عن عقيدته ومبادئه ، هذا المخدر هو الغزو الفكري ، الذي أصاب المسلمين في مقتل ، بما يشمله من نشر الفساد في جميع الوسائل الإعلامية ، كما عمل على تقسيم العالم الإسلامي ، إلى فرق وجماعات متناحرة ، تحارب الإسلام باسم الإسلام ، إنه أخطر من الغزو بالسلاح، لأنه يغير الأفكار والقيم ، والمفاهيم والمعتقدات  وهذا قد يقود إلى ارتكاب أعمال إرهابية وإجرامية ، لأن فتنة الإنسان في فكره ودينه وقيمه ، أخطر وأشد من التعرض للقتل ، لأنه فكر يعمل على بث المفاهيم الفاسدة عن الدين والحياة , وعن الأخلاق والسلوك  ويعمل على هدم شخصية المسلم من خلال وسائل الإعلام ، والفضائيات ، والعولمة غير المنضبطة، وهذا ما يعاني منه أبناؤنا وأطفالنا وشبابنا ، الذين نتركهم في منازلنا يتابعون الفضائيات الهابطة ، والإنترنت دون رقابة حيث يمضون الساعات الطوال أمام أجهزة التلفزيون والإنترنت ، دون أن نلقي بالاً ، ولا نهتم بتداعيات هذا الخلل، بينما لو تعرض أحد أبنائنا لخطر حسمي ،كالمرض أو غيره لتصرفنا بسرعة فائقة، وبالمقابل ، إننا نشتكي من تغير تصرفات الأبناء والشباب   ونتحدث عن الأعراض، ولكننا لا ننتبه إلى جذور المشكلة ، وهي بيئة الغزو الفكري التي أثرت على سلوك الشباب ، وأضعفت من ولائهم وانتمائهم لدينهم .    

إن هذا الغزو يستهدف الأمم المسلمة ، سعياً لتحقيق انسلاخها عن عقيدتها ، ونشر الحقد والكراهية بينها ، وذلك من خلال إلصاق تهم التطرّف والتشدّد والإرهاب ، ونرى أن أصحاب هذا الفكر ، يشجعوا على الإباحية وتحليلها ، وانتشارها وتفشيها بين أبناء الأمة الإسلامية ، حتى تخرج الشعوب الإسلاميّة عن فطرتها السليمة وتنخرط بالثقافات الغربية وقد قضت سنة الله، أن الناس إذا اتبعوا  أهواءهم، وحكّموا عقولهم ، ولم يغيّروا ما بأنفسهم، غير الله ما بهم، مِن عِز إلى ذُلٍ ومِن عِلمٍ إلى جَهلٍ، ومِن تَقدّمٍ إلى تَأخُّرٍ، وما كان التخلف والانحطاط في الأمة إلاَّ بسبب ما وقعت فيه من الانحرافات ، ومن أخطرها ما كان في قضايا العقيدة،  والانحراف في مفهوم القضاء والقدر ، حتى فهموا أن الواقع الذي نعيش ، هو نتيجة لتقديرِ الله السابق وقضائِه النافذ، فلا يجوز تغييره، وقد أدى هذا الفهم إلى نتائج سيئة، فتُرِك الجد في العمل وتُركت محاولات تغيير الواقع السيئ ، وكان السكوت عن المنكر، بحجة أنَّ هذا قضاءُ الله وقدرُه، فانتشر الفساد ، وروّجت المفاهيم المغلوطة في كثير مِن بلدان العالم الإسلامي .

وما علموا أن سنة الله تقضي إذا اتبع الناس منهج ربهم وحكّموا عقولهم ، وغيّروا ما بأنفسهم، غير الله ما بهم، مِن ذُلٍ إلى عِز   ومِن جهل إلى عِلمٍ  ، ومِن تأخر إلى تَقدّمٍ      

وقد أدرك أصحاب هذا الفكر ، أن المسلمين وإن كانوا في ضعف وهوان ، وتشتت وانقسام ، إلا أنهم يملكون سلاحاً قوياً يستطيعون به الانتصار على عدوهم متى ما استخدموه ، لذا حرصوا اشد الحرص على إبعادهم عن هذا السلاح ن وعن مصدر قوتهم, فبدئوا بمحاربة العقيدة الإسلامية ومحاولة إبعادها عن حياة المسلمين, لا عن طريق ذمها في البداية وبشكل مباشر ، لأن هذا يثير المسلمين عليهم ، ويرجعوا إلى عقيدهم, ولكن عن طريق دس السم في العسل كما يقال, وبطرق ملتوية غير مباشرة فحاولوا التشكيك في العقيدة أو في جوانب منها ، فإن لم ينجحوا في ذلك فعلى الأقل عملوا على زعزعة ثقة بعض المسلمين بعقيدتهم ، الذي اتسم بالعنف تارة وبالخداع تارة أخرى. وبالتدريج لثقافة الغرب تارة ثالثة. وأصبح التلفاز أخطر وسيلة للغزو الفكري والثقافي. فهناك عشرات البرامج التي تكرس مثلاً لعروض الأزياء. أو عروض السينما الغربية ، وخاصة تلك التي تخدش الحياء ولا تقيم أي وزن للقيم الاجتماعية الإسلامية ، وقد تجاوزت بعض المحطات ذلك بحيث أدرجت برامج غير أخلاقية ، عن زنى المحرمات واللواط وتناول المخدرات والانتحار والإباحية الجماعية وعبادة الشيطان!!.

وتلعب وسيلة الإنترنت اليوم أخطر ما في جعبة الغزو الفكري ، فعلى عدة مواقع نجد عبدة الشيطان والإباحية والحركات المشبوهة  وعندما نتحدّث عن أي فكر ، فإن الإسلام لن يرفضه إن كان نافعاً ، بل ويشجعه   ولكن القصور في شئون الحياة من المسلمين إذ نرى تخلفهم في ميادين الاقتصاد ، وعجزاً في الفنون العسكرية ، وقلقاً في أغلب أحوالهم العامة ، وبهذا يسيئون إلى دينهم ، أكثر مما يسيئون إلى دنياهم ، فمن ينقذنا من أقوام لا يريدوننا إلا مقلدين للقشور والمجون والترفيه وكيف نواجه فكرهم المنحرف ، وحتى نواجه فكرهم المنحرف ، فإننا بحاجة إلى عقول تغلب الهوى ، وإلى يقين يهزم الإلحاد ، وإلى إدراك يضم إلى فقه الآخرة فقه الدنيا، وأن الآخرة لا تنال إلا بتطبيق منهج الله الذي يقود الأمة إلى بر الأمان ، وما جاء هذا الدين إلا لنطبقه قال تعالى : ﴿ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بيت الناس بما أراك الله ﴾        

 

 

الهزائم التي نعاني

إن الأمة الإسلامية تعيش أيامًا عصيبة يتكالب عليها الأعداء بعدما صارت قصعة مستباحة  يموت من أبنائها كل يوم العشرات ويصاب منهم المئات،  في الحرب التي لا ترقب في المؤمنين إلاًّ ولا ذمة ، فما السبب ؟ نحن المسلمين من أغرى الكافر بكفره؟   فبتقصيرنا وعدم تطبيق منهج ربنا  تخلى الله عنا ، وجعلنا في قبضة أعدائنا، ولو كنا نطبق منهج ربنا ، لما كنا في قبضته ، ولا تحت سيطرته ، ولما تفرقنا، فقد اجتمعوا على كفرهم  وتفرقنا على حقنا ، لذا عشنا عصر الهزائم المتلاحقة ، ويوم تحدث ولاة الأمر عن تحرير فلسطين وقتل اليهود ! ما حرروا فلسطين ولا قتلوا اليهود ، بل توسعت دولة اليهود  واحتلت باقي فلسطين ، ومناطق أخرى ، وانهزمت جيوش من شبّعوا الامة كلاماً ، ولم تستفد الأمة من ورائهم إلا الشقاء والفقر، والبؤس والتأخر والقمع ، وها نحن نرى من يحول دباباته ومدفعيته وصواريخه وطائراته من اسرائيل الى شعبه الاعزل ، وهنا نسأل : هل كتب على أمتنا أن تكون أمة الهزائم وعلى شعوبها أن تعيش عيشة السوائم؟ وإلى متى تظل أمتنا تعاني الجور والظلم ، والهزائم المتلاحقة  حتى لم تعد تعرف النصر أو تحلم به ، فقد منيت  جيوشها بالهزيمة ، من جيش إسرائيل عام 1948 بسبب الأسلحة الفاسدة والقيادات الراكدة ، والذهنيات البائدة  وعللنا أنفسنا، بأنها مجرد  نكبة، ضاعت بها فلسطين ودُسَّتْ جباهنا   وأنوفنا في الطين  ويوم دخلنا الحرب في عام 1956، على وقع أناشيد الطبلة والمزمار، ضيعنا فرصة الثأر واستعادة الأمصار، وقلنا إنه تحالف الصهاينة مع الاستعمار، وظللنا نلعق جراحنا، ونعد العدة بتدريب جيوشنا، وتجديد أسلحتنا فجاءت هزيمة حزيران 1965، النكسة التي جللتنا بالعار، وفقدنا فيها ما بقي من الكرامة ومن الأمصار ، ثم جاءت معركة العبور التي حسبنا أنها نهاية مرحلة الهزائم، وبداية مرحلة الغنائم، والخروج من المآتم والمظالم، فكانت المصيبة أننا منينا بالهزيمة، وبؤنا بخسارة عظيمة هكذا، إذن، تطل علينا الهزائم  لتذكرنا بدروسها ، التي لم نستفد منها ، فلم نكتفي بالهزائم على أيادي الأعداء، بل أصبحنا نعاني هزيمة الذات ، فما كان نصراً باسم الربيع العربي، تحول إلى هزائم نكراء يطبعها الدم والقتل، والانقلاب والاضطراب ولم يعد لنا أي مبرر نتعلل به أمام ما يتجدد في بلادنا من هزائم، بدءا بالعراق وما يعانيه من حرب الرفاق بسبب النفاق والشقاق، إلى سوريا الدامية ومحنتها الغالبة، ومن ليبيا الشقيقة ، إلى اليمن الذي كان سعيداً فأضحى طريداً، ومن مصر الكنانة ، التي تهزها الاعتقالات، وتطبعها الاعتداءات على الطلاب والطالبات ، إلى تونس الخضراء  التي يشيع فيها قتل الأبرياء والسطو على منازل الضعفاء، كنا نقول : أن ما أصابنا من هزيمة واندحار   إنما كان بسبب تسلط الظلمة والمستبدين الفجار ، فماذا عسانا نقول اليوم  وقد أمرنا أن نعتبر  فقال ربنا ﴿ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ ﴾ الحشر 2 ، يأمرنا ربنا أن نعتبر ، لأن ما أصاب المسلمين وسبَّب لهم الهزيمة والفشل والتأخر وذهاب الريح هو التفرق والشتات  الذي عصف بالأمة ، بعد أن كانت لها المكانة لا تضاهيها مكانة، وبعد أن كان يُحسب لها  ألف حساب ، لا لتفوقها بالعدة والعتاد ، أو لما لديها من الجيوش الجرارة والأسلحة الفتاكة ، مع أن ذلك مطلوب ، ولابد منه، لكن لم يكن معها ذلك، بل كان معها ما هو أقوى من ذلك  ولذلك انتصرت على كل الأعداء وهزمت  أقوى الإمبراطوريات في ذلك الزمان ، لأنها تمسكت بمبادئها وقيمها  وقبل ذلك بعقيدتها ، وعندما تخلت عن منهج ربها أصبحت تعاني من الواقع الذي يجعلنا نتكلم   عن الهزائم ، وكأنها أصبحت ضربة لازب على جيلنا، ولأننا لا نزال لم نستوعب أسباب الهزائم ، فقد تكون الإصابة أكبر ، والفواجع أخطر، لأننا ما عملنا على محاصرتها ، وعدم السماح بتكرارها ، وما عملنا بالقول : لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، وما زلنا نلدغ مراراً  ، إن الاعتراف بالهزيمة ، وتحديد أبعادها، ودراسة أسبابها وتحديد المسؤولية عنها ومحاصرة آثارها ، راجع إلى عدم الاعتراف بالهزيمة، وقراءتها بأبجديات خاطئة كما هو حاصل ، والسياسة التي تجعل من الهزائم انتصارات ، لها بطولاتها وأبطالها، وإلى ممارسة التضليل الإعلامي ، الذي يكرس الهزيمة ويسمح باستمرارها، والذي ساهم في تحقيق أغراض الأعداء  وما أظن أحداً في تاريخنا الحديث على الأقل ، اعترف بهزيمته في الوقت المناسب لمعالجتها، وإنما يعترف بها بعد أن تتبدل الظروف ، ويفوت الأوان وتدخل في حيَّز التاريخ.. وإن اعترفنا ببعضها فيما بعد، فإننا نُحملُ جميع أسبابها للأعداء ومكائدهم وقدراتهم، أما نحن فإننا دائماً على أعلى قدر من الكفاية والمقدرة!! ومن المعلوم أن القيادات التي تفشل في معاركها ، إما أن تعتزل وتعتذر وتتحمل النتائج ، لكننا في العالم العربي والإسلامي دائماً نرفع شارات النصر ، ونقدس أبطاله إلى درجة أن لا أبطال سواهم ، ولا يمكن للزمن أن يجود بمثلهم ، مع أن المطلوب ونحن  تستعرض ذكريات الهزائم، أن نخضع الأحداث إلى مزيد من التأمل والتحليل، ولا نكذب على أنفسنا، ولا نخادع بعضنا، فنحن أمة القرآن، نجد العلاج في هذا القرآن بالذات ، والعلاج المنشود، أن نعود إلى القرآن، نطبقه ونقرأه  بعقل مفتوح وقلب مشروح ونجسدها في سلوكنا، وفي معاملاتنا لتتحدد العلاقات، وتضبط الصلاحيات، و توثيق الروابط والعلاقات. لقد آن الأوان لأن نفيق مما نحن فيه، فنضع حدا لهزائمنا المتراكمة، ومآسينا المتلاطمة، وبالرغم من كل ما قد يشوبنا من سلبيات، لا نستحق كل هذه الهزائم التي نكابد ، بل إننا أمة قادرة على صنع الانتصار لو تولت حكمها قيادات باقتدار لتطبيق منهج الواحد القهار .

فمتى نستيقظ من سياسات التخدير والتبرير والإنذار؟ ومتى نعيد، مقاليد الأمور إلى مستحقيها من أهل الكفاءة، والنـزهاء الأطهار؟ إننا، بالرغم من كل السحب التي تحجب سماء الدار نظل متفائلين، بأن نتمكن من تحويل الهزائم والانكسار، إلى انتصار وفخار ، وأن لا نستمر في النوح والبكاء بل البحث عن مخرج مما نعاني والاستفادة من دروس الماضي من اجل الخروج من  واقعنا الذي نأكل فيه ولا تزرع ونستهلك ولا تنتج، ونحارب بغير سلاحنا ونعتمد على غيرنا في دعم قضايانا ، ومن نأكل من قمحه ، وتحارب بسلاحه ونحكم بقانونه لن نكون قادرين على الوقوف في وجهه ومواجهته ، وإن أمة هذا حالها مهزومة لا محالة.

 

 

 

سنة التداول والتغيير

 

لقد دلت الآيات القرآنية على أن التداول  سنة من سنن الله :﴿ وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين﴾ آل عمران 140 ﴿ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ محمد 38 وعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن سنة التداول هي التي جعلت وتجعل خط سير التاريخ يأخذ شكل الدورات فكما يتم التداول بين الليل والنهار كذلك يتم التداول بين العدل والجور ، وبين الصعود والهبوط ، وبين التقدم والتخلف  وبين النهوض والانحطاط ، وصدق رسول الله إذ يقول : (لا يلبث الجور بعدي إلا قليلا حتى يطلع فكلما طلع من الجور شيء ذهب من العدل مثله، حتى يولد في الجور من لا يعرف غيره ، ثم يأتي الله تبارك وتعالي بالعدل ، فكلما جاء من العدل شيء ذهب من الجور مثله ، حتى يولد في العدل من لا يعرف غيرة ) رواه الإمام أحمد .وإذا كان الحال كذلك مع سنة التداول فإن الهزيمة النفسية لا يجوز لها أن تعرف مكانا لها بين الأمة ، التي تؤمن بهذه السنة ، مهما اشتدت المحن وطال الليل ، وتكاثفت الظلمات خصوصا مع تصديق التاريخ على صدق سنة التداول ،في مراحل التاريخ ، ومع البشائر التي تؤكد عليها الأحاديث النبوية كقوله صلى الله عليه وسلم :(الخير في وفي أمتي إلى يوم القيامة ) وان هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة(لا تجتمع أمتي على ضلالة ) إن الأمة الإسلامية تمتلك وطنا متكامل أقطاره ،وتبلغ مساحته أربعة أضعاف مساحة الصين ،ويبلغ تعداد هذه الأمة، ربع البشرية   وتمتلك من الثروات المادية المقام  الأول في هذا العالم  ، ولا زالت تمتلك الجوامع الخمسة ، وحدة العقيدة ووحدة الشريعة ،ووحدة الحضارة ، ووحدة الأمة ،وتكامل دار الإسلام ، فضلا عن الرصيد الحضاري الذي تعلمت منه الدنيا والذي جعل هذه الأمة الأول في العالم  لأكثر من عشرة قرون ، بينما عمر الغرب كعالم أول لم يتجاوز قرنين من الزمان ، فإذا وعت هذه الأمة تاريخها في ظل سنة التداول وإذا أدركت أرصدتها الحضارية والمادية في ظل هذه السنة فإن الهزيمة النفسية التي هي أخطر تحديات واقعنا المعاصر لن تجد لها طريقا مفتوحا إلى عقول هذه الأمة وقلوبها ، لأن الوعي بعمل سنة التداول في التغيير والنهوض عبر تاريخها وتاريخ الأمم الأخرى يقول :لقد كانت الفتوحات الإسلامية التي فتح فيها المسلمون في ثمانين عاما أوسع مما فتح الرومان في ثمانية قرون ، والتي هزم المسلمون فبها قوى الروم والفرس ، التي قهرت الشرق عشرة قرون ،تجديدا لسنة التداول بين الأمم ، وكان التحرير الإسلامي ، ضد التتار والحملات الصليبية التي دامت قرنين من الزمان ، من سنن الله الاجتماعية  أن الله لا يبدل ما بقومٍ من عافية وأمنٍ وعزةٍ ونعمة وسلطانٍ ومنعة  إلا إذا كفروا تلك النعم، وارتكبوا المنكرات، وغيّروا حالهم من الطاعة إلى المعصية، ومن اتباع منهاج الله إلى اتباع الأهواء ومن حاكمية الله إلى سلطان البشر، وقد ورد في الأثر: (أوحى الله إلى نبيٍّ من أنبياء بني إسرائيل أن قل لقومك: إنه ليس من أهل قرية، ولا أهل بيت، يقومون على طاعة الله، فيتحولون منها إلى معصية الله ،إلا حوّل الله عنهم ما يحبون إلى ما يكرهون، ثم قال: إن تصديق ذلك في كتاب الله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ﴾الرعد 11 .وبتطبيق هذا النص على حال أمتنا اليوم نرى مدى حاجتها إلى تغيير أحوالها ، وتغيير النوايا والسلوك والأعمال ، فقد ربطت مشيئة الله تغيير الأحوال سلبًا أو إيجابًا بنية الأفراد والجماعات والأمم، فإقبال الأمة بنية خالصة لله، مع العمل الصالح والسلوك السوي ،يرشحها للتغيير نحو الخير والأفضل؛ لأن الجزاء من جنس العمل، والله يقول: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَليمٌ﴾ الأنفال 53 ، فتغيير الحال لا يكون بالتمني والأماني ولكن بالعمل الجاد والنية الخالصة والسلوك القويم   فمن أراد أن يصل إلى بر الأمان وشاطئ السلامة فعليه أن يعد الزاد من التقوى والعمل الصالح، وأن يحكم السفينة ويتعهد الراحلة، وإلا كان كما قال القائل:

 

ترجو النجاة ولم تسلك مسـالكها  إن السفينة لا تمشي على اليبس

 

في هذه الأيام نرى أن الأمة غيرت  وبدلت، فقد ذبحت العقيدة شر ذبحة، فقد كانت العقيدة إذا مس جانبها ، رأيت المؤمنين الصادقين يبذلون من أجلها الغالي والنفيس. لأن عقيدة التوحيد ، عقيدة تنبثق منها شريعة تنظم كل شئون الحياة ولا يقبل الله من قوم شريعتهم إلا إذا صحت عقيدتهم ، واليوم فقد غيرت الأمة في مجال العقيدة  وفي مجال العبادة، وفي جانب التشريع فنحت شرع الله ، والله جل وعلا يقول:﴿ فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيما﴾النساء:65 ،وغيرت في جانب الأخلاق والمعاملات والسلوك ، فكانت السنة الحتمية لهذا التغيير كما قال ربنا جل وعلا: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ﴾الرعد 11،ولذلك ذلت الأمة بعد عزة، وجهلت بعد علم وضعفت بعد قوة، وأصبحت الأمة في ذيل القافلة البشرية، تتأرجح في سيرها، لا تعرف من توالي، ولا من تعادي، ثم وقعت سنة التداول ﴿ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ﴾ آل عمران14، فالدولة الآن للكفر وأهله   وما انتصر الكفر إلا يوم أن تخلى عن الحق أهله! سنن لا تتبدل! فالله لا يعجل لعجلة أحد، واعلم بأن الله يسمع ويرى ما يجري الآن على أرض المسلمين   ولا أحد أغير على الحق وأهله من الله، وليس أحد أرحم بالمستضعفين من الله، لكنها السنن، لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قائد المعركة في أحد، فتخلى بعض الصحابة عن بعض أسباب النصر فكانت الهزيمة، وهي سنة ربانية لا تتغير ولا تتبدل، عصى بعض الصحابة أمراً من أوامر رسول الله فكانت الهزيمة، فكيف تنصر الأمة الآن وقد ضيعت شريعة الله سنة الله لا تحابي ولا تجامل أحدًا، فإذا أدركنا ذلك وطَّنَّا أنفسنا، وهيَّأْناها للتعامل مع أقدار الله: هِي الليالي كَمَا شَاهَدتّها دُوَلٌ  مَنْ سَرَّهُ زَمَنٌ سَاءَتْهُ أَزْمَان ، إن سنة التداول ستظل قائمة  توحي بالحركة الدائمة والتجدد والأمل، وأن الأيام ليست ملكاً لأحد من الناس، ولا داعي لليأس والهزيمة، فمن هم الآن في القمة سوف تنتهي بهم السنن الكونية إلى الحضيض، ومن هم في القاع سوف تصعد بهم أعمالهم الصالحة وفق السنن الإلهية الكونية بإذنه تعالى إلى القمة وإلى القوة والعزة، إن هم أخذوا بأسباب ذلك؛ لأن العاقبة للمتقين، كما قال تعالى:﴿ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ .

 

 

 

 

 

 

 

سنة الابتلاء والتمحيص

قد يكون الابتلاء لتمحيص الصف المسلم وتنقيته ، وقد يكون ما تتعرّض إليه الصفوة من أبناء الأمة من الكرب أو الأسر أو النفي أو القتل أو غير ذلك ، هو من صور الابتلاء قال تعالى : ﴿ وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَ الْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَ الأَنفُسِ وَ الثَّمَرَاتِ وَ بَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴾ البقرة  155 . وقد يكون الابتلاء قصاصاً في الدنيا على ما تقترفه أيدي العباد  وجزاءً لهم بالسيئة على السيئة . قال تعالى : ﴿ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَ هَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ ﴾  سبأ 17 وقال سبحانه :﴿ فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَ بِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً ﴾النساء 160   وقد ينزل البلاء على العباد رفعاً للدرجات ،  وتكفيراً للخطايا و السيئات ، روى البخاري في صحيحه أن أبا هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله عليه وسلم : ( من يرد الله به خيراً يُصِبْ منه ) . أي : يبتليه بالمصائب والمحن ليرفع درجاته ويزيد في حسناته على ما يكون من صبره و احتسابه .

ولتكفير السيئات ما جاء في الحديث المتفق على صحته عند الشيخين أن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفَّر الله بها عنه ، حتى الشوكة يُشاكها ) .ومما اتفق عليه الشيخان أيضاً حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ما يصيب المسلم من هم و لا غم و لا نصب و لا وصب حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه ) . والله يمتحن عباده بالابتلاءات ليميز الخبيث من الطيب  وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين ، وقد صدق من قال : إن الله تعالى يقوي أعداءه ويقويهم حتى يقول ضعفاء الإيمان أين الله ؟! ثم إنه ليظهر آياته في الانتقام للمظلومين حتى يقول الملحدون لا إله إلا الله ، وسنة الابتلاء، هي ما تحياه الأمة الآن من أجل  التمحيص، فما يجري  من أحداث في بلاد المسلمين إنما هو تربية من الله للأمة ، في الوقت الذي لا تجد الأمة من يربي أفرادها، لا من الزعماء، ولا من العلماء ، فنشهد الآن مرحلة شديدة من مراحل التربية لأفراد الأمة، والتمحيص والابتلاء الذي ينزل بالأمة قد تكون نتيجته أحد أمرين : أما نجاحاً وفوزاً وتمكيناً ، وإما إخفاقاً وذلاً مهيناً ، وفي قمة الامتحان والابتلاء يأتي الفرج والتمكين كما أخبر بذلك  الله تعالى بقوله : ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ﴾ وإن التحديات العسكرية التي تواجه المسلمين لن تقضي على دين الله ، فقد أخبر المولى سبحانه ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْركُونَ ﴾التوبة:33 . وقال عليه الصلاة السلام: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة) ومن حكم المولى سبحانه أن تقع هذه التحديات عقوبة للمعرضين ليعودوا ﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾السجدة:21 لأن الوضع الذي تعيشه الأمة لن ينصر لله ديناً، ولن ينصر للتوحيد عقيدة  ولن يرفع للإسلام راية، فلابد أن تستبين سبيل المؤمنين من سبيل المجرمين، ﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ  وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾العنكبوت1 فلابد من التمحيص ولن يكون هذا التمحيص إلا بعد الابتلاء والمحن والفتن ،  ومن الحكم العظيمة في تأخير الله للنصر، ألا يبقى في صف العدو سمة من سمات الخير حتى لا يغتر بهذه السمة ضعاف الفهم وضعاف الإيمان  فقد شاء الله لنا الآن أن نرى العدو على حقيقته ، ونعلم أن الكفر لا ينصر للأمة قضية، ونرى طوفان المؤامرة الذي يجتاح الأمة ، أما الحكمة من الابتلاء ، فهو الإعداد الحقيقي لتحمل الأمانة الكبرى والمسؤولية العظمى ، فحمل الأمانة لا يتم إلا بالمعاناة ، والاستعلاء الحقيقي على الشهوات ، والصبر  على الآلام ، والثقة في نصر الله  والتمكين ، على الرغم من طول الفتنة وشدة الابتلاء . قيل للإمام الشافعي رحمة الله عليه: أيهما أفضل: الصبر أو المحنة أو التمكين، فقال: التمكين درجة الأنبياء، ولا يكون التمكين إلا بعد المحنة، فإذا امتحن صبر، وإذا صبر مكن.  والله تعالى من خلال الابتلاء يظهر للناس آياته ويبين لعباده عاقبة الظلم والظالمين ، ويستخلف عباده الصالحين ، مهما طالت مدة الابتلاء ، فأين الظالمون وأين التابعون لهم في الغي ؟ وأين من دوخوا الدنيا بسطوتهم ؟ وأين الجبابرة الطاغون  ؟ وأين من غرهم اللهو والسلطان ؟ وهل أبقى الموت لصاحب العزٍ عزه ؟ أو هل نجا منه بالأموال إنسان ؟ لا والذي خلق الأكوان من عدم الكل يفنى فلا إنس ولا جان ، فحين يشاهد المؤمن الكفار وهم يسعون في الأرض ويمكَّنون اقتصاديًا وسياسيًا وعسكريًا ، وتفيض عليهم كنوز الأرض وخيراتها ، فاليعلم أن ذلك يندرج ضمن تمكين الاستدراج أو سنة الإملاء ؛ فمن سنن الله الجارية أن يملي للكفار قبل أن يهلكهم : ﴿ وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾ الحج 48، والرسول صلى الله عليه وسلم أُسوة للواقفين في وجه الباطل، ومن يُهدَّدون ويُعذَّبون ويُقصفُون ، ولن يُضيِّع الله جهادهم، فهو ناصر المؤمنين  وقاهر الطغاة والظالمين، ومُذلّ المنافقين والمتخاذلين والمثبِّطين ويومها سيعلم الذين ظلموا أيَّ مُنقَلَبٍ ينقلبون ، سُئل أحد الصالحين: إذا كان ربك يرمينا بسهام القدر فتصيبنا فكيف لي بالنجاة؟ فأجابه: "كن بجوار الرامي تنجو" لا تقل : من أين أبدأ ؟ طاعة الله البداية ، ولا تقل: أين طريقي ؟ فشرع الله الهداية ، ولا تقل: أين نعيمي ؟ فجنة الله كفاية ولا تقل: غداً سأبدأ !!ربما تأتي النهاية  

 

 

سنة الله في خلق الخير والشر

قد يقال  :  كيف  يكون الله رحمن ورحيم ، وقد خلق هذه الشرور التي نعاني ؟ وما علموا أن الله كله رحمة وكله خير، وأنه لم يأمر بالشر والفحشاء ، ولكنه سمح بذلك لحكمة ﴿ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ﴾الأعراف 28 ، فالله لا يأمر إلا بالعدل والخير ولا يرضى إلا بالطيب ، والشر  من مقدورات الله  فنجد في بعض المخلوقات شراً  كالحيات والعقارب. والأمراض والفقر والجدب  فهذه بالنسبة للإنسان شرا  لأنها لا تلائمه، أما نسبتها إلى الله فهي خير  فمن سم الحيات يخرج الترياق    ومن الميكروب يصنع اللقاح   فأفعال الله سبحانه  كلها خير وحكمة ، وليس فيها شر بإطلاق، وإن كانت شراً على بعض الخلق ، فذلك بسبب كسبهم واختيارهم  لأن الله لم يقدرها إلا لحكمة  عرفها من عرفها ، وجهلها من جهلها ﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ﴾ فالله ربُّ العالمين ، ومن كمال الربوبية وشموليتها ، أن يكون الربُّ رباً لكلِّ شيء  وخالقاً لكل شيء ، خيرا وشرّا، ولكي تظهر قدرته لخلقه ، فإنه قادر على أن يخلق الشيء وضده ، وليس ذلك لأحد سواه ، فكما أن الله تعالى قادر على أن يخلق الخير، وعلى تصريفه كيف يشاء وحيث يشاء ، وقادر أيضا على أن يخلق الشر وعلى تصريفه كيف يشاء وحيث يشاء ، وبما أن الدنيا دار عملٍ واختبارٍ وبلاء   فإن من لوازمها ، أن يخلق الله تعالى الخير والشر، كما قال تعالى : ﴿ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ﴾ أما لماذا ترك الله الظالم يظلم ، والقاتل يقتل والسارق يسرق ؟ لأن الله أرادنا أحرارا ، ولا معنى للحرية دون أن يكون  الاختيار بين المعصية والطاعة ، والله قادر أن يقهرنا على الطاعة قهرا وبذلك يسلبنا حرية الاختيار.

ولكن الله تركنا نخطئ ونتألم ونتعلم، وهذه هي الحكمة في سماحة الشر، لأن الخير في الوجود هو القاعدة ، وأن الشر هو الاستثناء ، فالصحة هي القاعدة والمرض استثناء ، والأمن والسلام قاعدة والحروب  استثناء   وبما أن المخلوق ، يحتاج لمن يجلب له الخير، ويدفع عنه الشر، فلا يستقيم شرعاً ولا عقلاً أن يجد الخير عند خالقه ، والشر عند غيره     لأن الحق يُعرف قدره بمعرفة ضده من الباطل   فلا نعرف نعمة الصحة ، إذا لم نعرف المرض ولم نجربه  ولا نعرف نعمة الشبع ، إذ لم نعرف الجوع ولم نجربه  وهكذا فإننا لا نعرف الشيء على حقيقته ، إلا إذا عرفنا ضده ، فمثلاً الله تعالى غفور رحيم ، ومن لوازم هذا ومقتضياته ، وجود الشر والإثم ، الذي يجعل الإنسان  يطلب الرحمة والمغفرة من ربه ، ليغفر له ويرحمه   والله تعالى المنتقم الجبار  وهذا من لوازمه ومقتضاه وجود الظالمين ، الذين ينتقم الله منهم ، وقد اقتضت حكمة الله  أن العبد لا يعرف فضل الله عليه  ، إلا عندما يرى من ابتلي بفقد ما منَّ الله به عليه ، وقد يُطغي الخير  صاحبه ، ويُنسيه أن له رباً يُعبد كما قال تعالى : ﴿ كَلا إِنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ﴾ ، فيأتي الشر ليُذكره ، بطلب المغفرة والرحمة من الله ، وهذا مطلب يُحبه الله ، وكم من شرٍّ يُبتلى به المرء ليندفع به شرٌ أكبر ، وهو لا يدري كخرق الخضر للسفينة  وقتله للغلام ، وكم من مرة نُبتلى بشرٍّ  ، ثم ندرك أن هذا الشرَّ كان فيه خيرا  فينتقم الله من شرٍّ بشرٍّ آخر فيسلط الظالمين بعضهم على بعض كما جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:( إن الله لينصر هذا الدين بالرجل الفاجر  وبأقوامٍ لا خلاق لهم ) . فيدفع الله بهم ، ظلماً أشد وفجوراً أكبر، فيندفع بشر القتل والقتال ، شراً أكبر وفتنة أكبر ، ليعم الأمن والأمان ، والخير والسلام! ومن النفوس من لا ينفع معها الخير ، لأنه يزيدها طغياناً وتجبراً ، وقد يهذبها الشرّ ويؤدبها ، ويُعيدها إلى رشدها وصوابها ، كما في القصاص بالنسبة للمجرمين الخارجين عن حدود الله   فالشر في كثير من صوره يكون بلاءً لأهل الخير  فيكون طهوراً وكفارة لذنوبهم وخطاياهم ، وكان من لوازم وجود الجنة والنار وجود الخير والشر، والحق والباطل ، والظالم والمظلوم  ليذهب كل فريق إلى ما أُعد له من نعيم مقيم ، أو عذاب أليم مهين ، فهذه بعض الحكم من خلق الله تعالى للشر، وما يعلمه الله تعالى ، ونحن لا نعلمه ، أكثر وأكثر﴿ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً ﴾ ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾

 لماذا خلق الله الشر ؟ مع قدرته على إبدال كل شر خيراً ؟ فالله إذا خلق  الخير فقط ولم يخلق الشر، فإن ذلك قد يشير إلى نقص في قدرته تعالى ، لأنه يعني قدرته على خلق الخير فقط أما خلق الشر فإنه يعجزه وتعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ، لأنه على كل شيء قدير ، ﴿ ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ﴾ ولذلك فلا غرابه في وجود المنافقين بين المؤمنين ، والخونة بين المخلصين ، والعاجزين بين القادرين ، ولا غرابه في الفقر بعد الغنى ، والصحة بعد المرض والعكس    والعز بعد الذل والعكس والعداوة بعد المحبة والعكس والحر بعد البرد والعكس لأن الله لا يسأل عما يفعل وجاز في حقه أن يعذب من عصاه ، وأن يثيب من أطاعه ، وإذا علمنا أن الله على كل شيء قدير، فلا يبقى أمامنا إلا أن نقول سبحان الله الذي خلق كل شيء ، وهو العالم بكل شيء  والقادر عليه

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ضرر محقرات الذنوب

قال تعالى : ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا﴾ آل عمران ، الواجب على المسلم ترك جميع ما نهى الله عنه ورسوله ، ولا فرق في ذلك بين الصغائر والكبائر ، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه) رواه البخاري ومسلم ، وترك الذنب تعظيم لحق الله على العبد ، وتعظيم لما نهى الله عنه رسول صلى الله عليه وسلم ، ولذلك قال بلال بن سعد التابعي :(لا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن أنظر إلى من عصيت) صفة الصفوة وسير أعلام النبلاء ، لأن الله يحاسب عباده على مثاقيل الذر، كما قال تعالى :﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ الزلزلة 8ـ   . فإياكم ومُحَقَّرَات الذنوب ، لأن صغائر الذنوب إذا أصر عليها صاحبها لم تكن صغائر ، لأن الصغيرة مع الإصرار عليها تصبح كبيرة ، وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( يَا عَائِشَةُ إِيَّاكِ وَمُحَقِّرَات الذُّنُوبِ فَإِنَّ لَهَا مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ طَالِبًا )رواه أحمد وصححه ابن حبان ، ومتى اجتمعت على المرء أهلكته، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إياكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه ). هذا الحديث عنوان ، ينبغي ان يكون ضابط لأفعالنا وأقوالنا وكل شاننا ، فلا نستهين بالأمور وان صغرت ، ومن رحمة الله  بنا أنه بشّرنا بمغفرة الصغائر ، إذا اجتنبنا الكبائر وشرع لنا مكفِّرات كثيرة للذنوب، وجعل الحسنات تمحو السيئات؛ لكن ينبغي ألا ننسى أنه سبحانه حذّرنا في الوقت نفسه من التهاون بصغائر الذنوب، وإهمال مجاهدة النفس على تركها والتوبة منها، وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم لهن مثلا  عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ، كَقَوْمٍ نَزَلُوا فِي بَطْنِ وَادٍ، فَجَاءَ ذَا بِعُودٍ، وَجَاءَ ذَا بِعُودٍ، حَتَّى أَنْضَجُوا خُبْزَتَهُمْ وَإِنَّ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ مَتَى يُؤْخَذْ بِهَا صَاحِبُهَا تُهْلِكْهُ ) ولقد أحسن القائل :

خل الذنوب صغيرها     وكبيــرها ذاك التقى

واصنع كماشٍ فوق أرض    الشوك يحذر ما يرى

لا تحقرنَّ صغيرةً            إن الجبـــال من الحصى

هناك من يحتقر الصغائر ويستهين بها ، ولا يتب منها استخفافاً بشأنها ، وهذا أخطر شيء على دين المؤمن لأنه يقول: ماذا فعلت ؟ أنا لم أزنِ، ولم أسرق ولم أرتكب فاحشة  وما عملته أمر تافه لا قيمة له ، وغفل عن قوله تعالى : ﴿ وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم ﴾ النور 15  وعَنْ قوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ  وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ ) البخاري ، ومِن أخطر أضرار التهاون بصغائر الذنوب ما تصيب به القلبَ من قسوة، فكلما ارتكب العبد سيئة ولم يتب منها ويستغفر نقص إيمانه، واسود قلبُه، وزادت قسوتُه، فلا يخشع لموعظة، ولا يستجيب لناصح، قال صلى الله عليه وسلم: ﴿ إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإذا هو نزع واستغفر وتاب سقل قلبه، وإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه: وهو الران الذي ذكر الله ـ كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ﴾ رواه الترمذي وقال: حسن صحيح ـ وابن ماجه وأحمد، وحسنه الألباني ، فضرر الذنوب والمعاصي في القلب ، كضرر السموم في الأبدان ، وما في الدنيا والآخرة من بلاء ولا شر ولا داءٌ ، إلا وسببه الذنوب والمعاصي وإن سَبَبَ المصائب والفتن كلِّها ، هو الذنوب والمعاصي، فإنها ما حلّت في ديار إلا أهلكتها، ولا في قلوب إلا أعمتها، ولا في أجساد إلا عذبتها، ولا في أمة إلا أذلتها، ولا في نفس إلا أفسدتها، فاتقوا الله  ، وتوبوا إليه توبة نصوحاً بإتْبَاعِ الذنوب بالتوبة والاستغفار ، فلا أحسن من الاعتراف بالذنب والندم عليه والاستغفار ، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله: (يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لآتيك بقرابها مغفرة) رواه الترمذي في سننه وصححه الألباني في صحيح الترمذي ، والمؤمن من لا يستصغر الذنب، قال الفضيل بن عياض: بقدر ما يصغر الذنب عندك يعظم عند الله وبقدر ما يعظُم عندك يصغر عند الله. وذكر البخاري في صحيحه عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: ( إن المؤمن يرى ذنوبه كأنها في أصل جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه فقال به هكذا فطار ) فتوبوا  قبل فوات الأوان ، وقبل أن لا ينفع الندم وفقنا الله تعالى لطاعته، والإقلاع عن الذنوب والمعاصي، ورزقنا توبة نصوحاً تكفر بها أعمالنا السيئة بمنِّه وكرمه، والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على النبي الكريم والرسول العظيم، وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

 

 

أثر الهزيمة النفسية على الأمة

من أخطر الأمراض التي من الممكن أن تحطم الأمم والجماعات والأفراد؛ مرض الهزيمة النفسية والشعور بالدونية عن الآخرين، فهو مرض فتاك  من أشد أعراضه ضررا ، وصول الأمة لمرحلة اليأس والقنوط، فإذا دخل هذا الداء قلبا ، لا يأمر بمعروف ، ولا ينهى عن منكر ، ولا يغير واقعا   وإذا أصاب الأمة ، ساقها إلى الفناء .  

والأمة اليوم ، تعاني من آثار هذه الهزيمة ، التي دمرت معنوياتها ، وأحبطت تطلعاتها ، وأصابتها بالضعف والهوان ، فألقت بنفسها في أحضان عدوها، ومكّنته من كيانها ، ودانت له بالتبعية    والولاء التام ، وانقادت له مستسلمة دون أي مقاومة ، وقد بلغت قابلية الانهزام النفسي ذروتها   حتى أصبحت ظاهرة مرضية ، خارت من وطأتها قوى المجتمعات المسلمة ، وأقعدتها عن مواجهة شتى أنواع الحروب الحسية والمعنوية ، واليأس من إمكانية التغيير ، ورضا الكثير من الناس ، بالواقع   الضعيف، والاستسلام له ، نتيجة ضعف الإيمان  الذي أدى إلى ضعف الهمة، وحصول اليأس  وضعف الصبر ، في تحمل المشاق والمصاعب   والأهم من ذلك كله ، ترك الجهاد .

فأصبحت الأمة تشعر بمرارة العجز ، والقهر واليأس ، إلى درجة أنه قد زال لدى معظم المسلمين ، أية بارقة أمل في نهضة حضارية ، أو مستقبل مشرق ، فتحقق للعدو ما أراد ، من السيطرة على كثير من أفراد هذه الأمة ، نفسياً وثقافياً وسياسياً واقتصادياً وسلوكياً.

هذا الواقع ، جعل الأمة بحاجة إلى أفراد أقوياء في سواعدهم ونفوسهم ، وعقولهم وعتادهم   لتكون حصنًا منيعًا ، يحول دون طمع الأعداء   في وقت بلغت فيه قابلية الانهزام النفسي ذروتها   حتى أصبحت ظاهرة مرضية ، خارت من وطأتها قوى المجتمعات المسلمة، ولعل من أهم أسباب الهزيمة النفسية ، التي أصابت الأمة في مقتل   وأدى إلى ضعفها ووهنها ، بُعد كثير من المسلمين عن دينهم ، وجهلهم بحقيقته ، ومرارة الواقع الذي يعيشونه، وخذلان المسلمين بعضهم بعضاً وعدم اتحادهم ، أمام قوة أعدائهم ، وعدم إلمامهم بعوامل النصر والهزيمة ، وتأثرهم بوسائل الإعلام الموجهة إليهم ، التي يحرص الغرب من خلالها   على إبراز أنشطته العسكرية ، وقدراته الحربية   واستعراض أسلحته وتقنيته المتطورة، وإشهار اكتشافاته العلمية ، ونحو ذلك من الأمور التي تُعزز مكانته ، وتوحي له بالعجز واليأس .  لقد استُخدمت وسائل الإعلام ، لبث الهزيمة النفسية ، وخلخلة صفوف المسلمين، عبر تغذية الصراعات ، والنزاعات القائمة في العالم الإسلامي، وإثارة الأسباب المؤدية إلى الخلاف   ومحاولة منع وقوع أي تقارب أو تصالح ، بين الأطراف الإسلامية المتصارعة.

وبعد أن أدرك أعداء الأمة ، أن القضاء على الإسلام ، أمر يستحيل تحقيقه؛ عملوا جاهدين   على إبعاد المسلم تدريجياً ، عن مبادئ دينه وقيمه وأخلاقه، حتى تصبح روحه خالية ، من مفاهيم الشرع وضوابطه ، وإشعاره بالعجز عن الصمود والثبات، وتهديد مصالح الأعداء ، وهذا أكبر هدف ظلّ أعداء الإسلام ، يعملون على تحقيقه  حتى يجعلوا الأمّة لقمة سائغة ، يمكن ابتلاعها بكل سهولة ، وتعريضها للقنوط والإحباط . ولم يكتفوا بإنزال الهزيمة العسكرية ، وإنما ركّزوا  على إصابة المسلمين ، بالإحباط النفسي ، والهزيمة الداخلية ، متجاهلين التركيبةَ الإيمانيةَ ، التي أرادها الله لهم ، والتي لا تقبل الانكسارَ المعنويَّ  لأن المؤمن مادام مؤمنًا ، يظلّ الأمل والثقة بالله وبنصره ، عقيدةً راسخةً في قلبه قال تعالى : ﴿ وَلاَ تَيْأَسُوْا مِنْ رَوْحِ اللّهِ إِنَّه لاَ يَيْئَأَسُ مِنْ رَوْحِ الله إلاّ الْقَوْمُ الْكَافِرُوْن ﴾ يوسف 87 وقوله ﴿ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَّحْمَةِ رَبِّه إِلاَّ الضَّالُّوْن ﴾الحجر 56. ومن هنا لن يستطع الأعداء أن يسلبوا المؤمنَ هذه القوةَ ، التي تقوى على مسعى الإضعاف ، وتتجدد على تكاثر المحن  وتترسخ على استمرار المكايد والدسائس ضدها .

وإذا كان الكافر على كفره ، لا يضعف عن ملاحقة المؤمن ، ولا يتهاون في مقاومة أهل الحق   ولا يقعد عن الاستجابة لدواعي البغي والعدوان   فكيف نسوغ للمؤمن ، أن يقعد عن الصمود في وجه الباطل ، وعن الانتصار للحق ، على حين   يرجو من الله ، ما لا يرجوه الكافر من الله    وهذا ما يُهَوِّن على المؤمن ،كلَّ بلاء ومحنة   ويجعله يستهين بكل تعب ، وألم وعذاب ، قال تعالى: ﴿ وَلاَ تَهِنُوْا فِيْ ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُوْنُوْا تَأْلَمُوْن فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُوْنَ كَمَا تَأْلَمُوْنَ وَتَرْجُوْنَ مِنَ اللّهِ ما لاَ يَرْجُوْنَ وَكَانَ اللّهُ عَلِيْمًا حَكِيْمًا ﴾ النساء 104. ومهما استنفد الكفار من الطاقات، وأعملوا من الدسائس والمؤامرات ، ليُضْعِفوا المؤمنين ، ويهينوا أولياءَ الله المتّقين ، ويزعزعوا صفوفَهم  ويستأصلوا قوتَهم وشوكتَهم ،فإنهم لن يجدوا عليهم سبيلاً ؛ لأن اللّه لم يرد لهم القوة الدائمة والمنعة القائمة ، وإنما أرادهما للمؤمنين ؛ وإذا كانت القوى المعادية للإسلام ، تعمل على إصابة المسلمين باليأس ، والهزيمة الداخلية ، حتى بلغت الأمة مبلغاً من الانحطاط والتقهقر، فرضيت بالقعود ، واستسلمت للغزاة، وتخلفت عن القيام بالواجب ، فرضيت بالإخلاد إلى الدعة والراحة والسكون والمهادنة ، طمعاً في العاجلة, وفراراً من المواجهة, فكانت هذه الروح الانهزامية ، أخطر على الأمة من كل سلاح؛ إذ حققت للأعداء ما لم يستطيعوا تحقيقه ، بالقوة والبطش والجبروت  وأدى إلى ما لم يكونوا يحلمون به ، بتخلي الأمة عن دورها، وتركها واجبها الدعوي والجهادي فصار حالها إلى ما نرى وما نسمع ، ولم يعد خافياً على أحد من الناس ، ما يعيشه المسلمون من ذلة ومهانة، وما يحيط بهم من ظروف صعبة  وأحوال مريرة ، تتمثل في كيد الأعداء   وتسلطهم على بلاد المسلمين، كما تتمثل في أحوال المسلمين أنفسهم ، وما طرأ على كثير من مجتمعاتهم ، من بُعد عن تعاليم الإسلام ، وإقصاء لشريعة الله سبحانه ، ورفض الحكم بها  والتحاكم إليها ، وبهذا استطاع الأعداء ، أن يقتلوا في الأمة روح العداء لهم, وأن يحوّلوا شعور المسلمين بالعداوة لهم ، إلى شعور بالمحبة والصداقة   والثقة التي ليس لها حدود؛ والشعور بأنهم أصحبوا القادة والسادة .

إن الهزيمة النفسية ، شعور بالهوان والضعف   وإخلاد إلى الدعة والسكون ، ورضى بالدونية يجعل صاحبه لا يرفع رأسه، ولا يفتح عينيه ، وأن يتحول إلى ظل لهازمه ، يسيطر على عقله وقلبه وكيانه ، فلا يرى إلا ما يراه ، ولا يسمع إلا ما يسمعه ، فتبدل كل شيء ، ولم يعد الإسلام يعيش في قلوبنا وجوارحنا، ولم نعد نعيش به ونحيا له، واتخذ كثير منا إلهه هواه ، ودساتير شرقية وغربية غير القرآن، فأصبحنا كأعدائنا  دساتيرنا مستمدة من دساتيرهم ، ونظمنا مأخوذة من نظمهم ، وأفكارنا نسخة من أفكارهم  ومبادؤنا جزء من مبادئهم.   

 لقد تفنن أعداء الإسلام ، في ابتكار الوسائل التي تحطم معنويات المسلمين، وأشعرتهم باليأس   الذي جعلهم يفقدون الأمل ، في عودة مجد الإسلام من جديد ، ورسوخ الهزيمة النفسية التي تتجلى في هيئة قناعات ، راسخة لدى البعض   بحتمية السيطرة الأبدية للكفار، والمراهنة على ديمومة انتصارهم ، في كل حرب يخوضوها  والاعتقاد الجازم ، بأنهم قوة لا تقهر ولا تغلب   فانهارت الروح المعنوية ، لدى ضعفاء الإيمان  ووقعوا في الفخ ، الذي أراده العدو لهم، وليت الأمر توقف عند هذا ، بل تعدى الأمر إلى اعتقاد مخيف ، بأن مقاليد الأمور ، وتدبير العالم   وإهلاك أمةٍ وإحياء أخرى، وإعزاز شعب وإذلال آخر، قد أصبحت بيد الغرب، فكثيراً ما تسمع من يقول : لن يسمح الغرب ، بقيام قائمة للإسلام ، ولن يسمح بنهضة صناعية ، ولن يسمح بانتصار أولئك ، وهزيمة هؤلاء!. وعليه اعتقد ضعفاء الإيمان ، أنه لن يحدث إلا ما يريده الغرب ، ولن يحصل إلا ما يشتهيه ، ولن يتم أمر في الكون إلا بمشيئة ، حتى لو ردد المظلومون ألف مرة وا إسلاماه ، فلن يجب أحد ، لأن معتصم الأمس ،لم يعد موجوداً اليوم، لأنه استُبدل بالمصالح الاستراتيجية ، والأمنية والحدودية ، وغير ذلك من التعريفات ، التي تجعل حدود الأمن ، لا تتجاوز البلد الواحد ، وكل هذا لا يمنع المسلم   في بعض البلدان ، من التعبير عن تضامنه مع أخيه   والتعبير عن سخطه ، من ظلم الآخرين وبطشهم   وإذا كان ولا بد ، فبشرط عدم تجاوز الكلام والهتافات ، أما الأفعال ، فممنوعة بشتى الوسائل 

رأينا من يبحث في الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة ، عن دلائل النصر، التي وعد الله بها  ويسأل عن سبب تأخر هذا النصر، مع وجود   هذا الظلم ، وهذه المعاناة ، التي تحيط بالمسلمين  

ونسي أسباب النصر ، الذي ورد ذكره في القرآن الكريم والسنة النبوية ، والذي ربطه الله عز وجل بالعمل الجاد ، وإخلاص النية ، وبذل النفس والمال ، وما إلى ذلك من الأعمال ، التي لا يمكن أن يتم من دونها نصر أو مدد ، ولو استغرق الظلم قروناً عدة . لقد أدرك السلف الصالح أسباب النصر ودواعيه ، وعملوا منذ اللحظة الأولى التي أعلنوا فيها إسلامهم ، على التقيد بأسبابه ، ومع ذلك ابتلاهم الله عز وجل في بعض الأحيان ، بتأخير لحظة النصر، حتى يمتحن صبرهم ويقينهم بالله عز وجل ، حتى إذا استيئسوا جاءهم النصر، وهنا نذكر قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يا رسول الله ألست برسول الله ؟ قال: بلى قال: أو لسنا بالمسلمين ؟ قال : بلى قال: أو ليسوا بالمشركين ؟ قال : بلى قال: فعلام نعطى الدنيَّة في ديننا ؟ قال: أنا عبد الله ورسوله ، لن أخالف أمره ، ولن يضيّعني ) . وإذا كان الصحابة رضوان الله عليهم ، مع ما هم عليه من مرتبة رفيعة ، قد ابتُلوا بتأخير النصر   فكيف بالمسلم اليوم ؟ الذي قد يصل به الجهل بدينه وأحكامه ، أن لا يرى في القرآن الكريم إلا آيات تتلى ، في مناسبات الموت والعزاء ، وأن لا يرى في أحكام القرآن وحدوده ، إلا تخلفاً وتقهقراً ، شعارات يرفعها بعض المسلمين    ويَدْعون إلى نسيان القرآن وهجره ، وترك أحكامه   وإبطال حدوده ، ثم يأتي من يستغرب لماذا يبطئ نصر الله الذي وعده عباده ، وما علم أن النصر يبطئ لابتعادهم عن تحكيم شرع الله فيما أمر به ، ولحالة التباغض والتحاسد ، والتنافر بين المسلمين ، الذي مكّن الأعداء من اختراق صفوفهم ، والكيد لهم بأيدي إخوانهم ، الذين زينوا لهم الباطل ، وألبسوه ثوب الحق ، فكانت هزيمتنا ، وما لم نعد إلى منهج ربنا ، فلن يأتي النصر. لأن النصر، لا ولن يكون بالقوة والعتاد ، وإنما يكون بالعزم والجهاد .

 

 

 

 

التحذير من الثقة بالكفار

الثقة بالله هي خلاصة التوكل على الله ، وقمة التفويض إليه سبحانه قال تعالى:﴿ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾غافر44، والثقة هي الاطمئنان القلبي ، الذي لا يخالطه شك ، والاستسلام لله عز وجل    ومن فوض أمره لله فقد نجا ، ومن عصى الله فقد طغى ، وها هو النبي صلى الله عليه وسلم ، يلقن الأُمة درساً في الثقة بالله ، فيقول لابن عباس : ( احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء ،لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله تعالى لك ، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء   لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ، رفعت الأقلام وجفت الصحف) رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.   وقد حذرنا الله عز وجل ، من الثقة بالكفار   والاطمئنان إليهم ، وبين الله عز وجل ، أنهم لا يريدون لنا الخير ، بأي حال من الأحوال   وأنهم يبغضوننا أشد البغض  ولا يألون جهدًا في إنزال الضرر بنا ، والقضاء على ديننا   وإرجاعنا إلى الكفر، لو استطاعوا ذلك ، قال الله تعالى محذرًا لهذه الأمة ، من الثقة بالكفار  من أهل الكتاب ، ويُعْلِمُهم بعداوتهم لهم في الباطن والظاهر فقال : ﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ ﴾البقرة 109   إلى غير ذلك من الآيات التي تحذر من الثقة بالكفار، وتركز على مصدر الخطر ، وتعبئ مشاعر المسلمين تجاه نواياهم السيئة ، وكيدهم اللئيم مهما أظهروا من المودّة ، وأبدوا من النصح؛ لقوله تعالى :﴿ وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء ﴾النساء 89 . فعلى الرغم من تحالفهم مع المسلمين ، تحالفاً يكذِّبه عملهم ، لأنهم يشوهون بوسائل الدعاية والإعلام ، التي في أيديهم ، كل حركةٍ إسلاميةٍ ناجحةٍ ، ويعينون عليها أهل الباطل ، لتشويهها وتحطيمها ، دون ضابط يعصمهم من الطغيان .  إن قضية الثقة بالكفار ، فتحت بابًا وشرًا   ومصيبة عظمى على المسلمين ، دخلت علي المسلمين ، من باب الثقة بالكفار   والاطمئنان إليهم ، فلماذا يكونوا بالنسبة لنا   سيف الحق والعدل والأمن ، يصولون ويجولون بأثواب المنقذين ، لا يخفون ما عليها من دماء ، صوت باطلهم يعلو ، يلعبون دور المنقذ من الضلال ، والمكافح لإرهاب   وظَّفوه ، واستخدمه طويلا، دوافعُه جشعٌ   ورغبةٌ في السيطرة بلا حدود ، يستحل العدوان ، والقتل والغدر ، وكل ما يؤدي إلى بلوغ أهدافهم ، من سرقة الشعوب وقهرها   وإلى إضعاف الدول وإذلالها ، وجعلها تابعة أو خاضعة لها ، غير مبالين بما يُرْتكب من فظائع ، لبلوغ ذلك ، وتصرفات لا تخضع للنقد والقانون والمساءلة ، تآمر وإرهاب   وتعذيب وقتل ، تُبقي من يقوم بالقتل   وتعليه وتعلو به، ما استمر وما استمرت ساسته وأفعاله ، تلك سياسات ومناهج   سخَّرها لنا ، وسخَّرنا لها ، وقيَّض لنا من أنفسنا ، أعداء يلتقون مع الكافر ، على ما يُحب ويهوى، فينتفع بهم ، وبما ملكوا    ليعلو باطلهم ، وتكبر الكوارث التي تلم بالبلاد والعباد ، وما علموا أن الكافر، لا ولن يكون صديقاً لأحد ، ممن نهبهم وقتلهم  وفرض البؤس عليهم ، في طول الأرض وعرضها، لا ولم يكن صديقاً لنا ، الذي فرض علينا الإسرائيلي ، محتلاً ومهيمناً   بالقوة والتهديد، وأعلن أنه يحميه ، ويزوده بالسلاح ، وأرهب وأرعب ، كل من يتحدث عن إرهاب الكيان الصهيوني ، أو يفكر بمراجعة المحاكم الدولية ، لمحاسبة هذا الكيان ، على جرائم الحرب والإبادة ، التي ارتكبها بحق الشعب الفلسطيني .

إن الثقة لا تمنح إذن ، لمن إذا خاصم فجر   وإذا هادن غدر ، حتى ولو تحالف وأظهر المحبة والمودة ، وهنا أذكر قول الشاعر: 

احذر عدوك مرةً  واحذر صديقك ألف مرة

فربما انقلب الصديق    فكان أعلم بالمضرة

لهذا يجب أن يكون للثقة حدود ، لا ينبغي تجاوزها ، وطالما كان للثقة حدودا ، فأن تجاوزها ، قد يعود علينا بالضرر ، أكثر من النفع ، من أجل ذلك ، ينبغي أن لا نثق بالخونة ، ولا الكفرة الفجَّار، وأن نحذر معاشرتهم ، لأنهم يدعوننا إلى النار، وأن لا نتَّخِذ منهم بِطانةً ، لأنهم ليسوا أهلاً للأمانة  وقد حذرنا الله منهم فقال : ﴿ وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ ﴾ هود 113. وقال تعالى : ﴿ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ ﴾  آل عمران 118 . وحذَّرنا الله من موالاتهم ، وبيَّن خطورتهم، وكشَف ما انطوَتْ عليه نيَّتهم ، وأخبر أنهم يُبَيِّتون الكيد لأهل الإِسلام ، ويمكُرون بهم على الدَّوام  وإذا كان هذا شأنهم ، فقد حرمت مودَّتهم والثقة بهم ، ووجبَتْ عداوَتُهم ، ولزم بُغضُهم وتعيَّن رفضُهم ، لأنهم جلبوا علينا الشرور  وأفسَدُوا الأمور ، في الأسواق والدور  وأماتوا الغَيْرَة على الدين ، فأزهَقُوا الأرواح البريئة، ونهبوا الأموال ، بحِيَلٍ جريئة ، ونشَرُوا في الأرض الفساد، وعم ضررهم أصناف العِباد ، ونواحي البلاد ، انتهزوا ما أصاب المسلمين ، من الهزيمة والقتل ، ليثبطوا عزائمهم  ويخوفوهم عاقبة الإعراض عنهم   وعدم الوثوق بهم ، ويصوروا لهم مخاوف القتال ويسوِّغوا لهم جو الهزيمة ، لبلبلة القلوب ، وخلخلة الصفوف ، وإشاعة عدم الثقة في القدرة على القتال ، والتشكيك في جدوى الإصرار ، على جهاد الأقوياء المعتدين           وهدم كيان الأمة وعقيدتها ، والاستسلام للأقوياء الغالبين .

في هذا الواقع ، مطلوب من المؤمن أن يجاهد الكفار ، ويكافح باطلهم ، أما من يرتد إلى الكفر والشر والضلال ، والباطل والطغيان   ويتنازل عن عقيدته وإيمانه ،  ويركن إلى أعداء هذه العقيدة ، ويطيع توجيهاتهم ، فتلك هي الهزيمة الروحية ، وطريق الارتداد على الأعقاب ، حقيقة واقعية ، ينبه الله المؤمنين لها   ويحذرهم إياها ، وهو يناديهم باسم الإيمان أن احذَرُوهم ولا تثقوا بهم ، وابغضوهم وعادوهم تفلحوا، وقاتلو هم بغلظة  تُنصَروا.

الغلظة هي الخشونة في القتال والشدة   وليست هي الوحشية ، مع الأطفال والنساء غير المحاربين ، وليست تمثيلاًً بالجثث ، على طريقة الذين يسمون أنفسهم متحضرين في هذه الأيام ، قال تعالى : ﴿ قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غِلْظه واعلموا أن الله مع المتقين ﴾ التوبة 123 .

 

 

معاناة الأمة من الضعف والهوان

إنّ الأمة تمرُّ بمرحلةٍ  أُصيبت بالضعفِ والهوانِ وتَكَالبَ عليها الأعداءُ ، حتى أصبحت مطمعا للأقوياء من الأمم ، وتلك مصيبةٌ عظيمةٌ   يجب علينا أن نسعى لإزالتِها ، ولا يتحقق ذلك إلا إذا اتقينا الله ، بذلك لا يضرُنا كيدُ الأعداء ، وهذا وعد من الله في قوله تعالى : ﴿ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئا ﴾ ويقول تعالى : ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ﴾ إن ما تعانيه الأمّةُ الإسلاميّة اليومَ مِن أحداث موجعةٍ، وآلام قاسِيَة، وما تتعرض له من ظلم وجور وعدوان   من الطغاة المجرمين، والأعداء المحاربين ، دون مراعاة للحقوقٍ الإنسانيّة، والأعراف الدولية ولا اهتمام للمَعَاييِرَ الأخلاقيّة، والمبادئ الحضارية . مما يدعو للتساؤل : ما الذي أصاب الأمة حتى وهنت وضعفت؟! وما الذي جرى حتى فقدت اتزانها ووجودها ؟.

فقد عاشت الأمة الإسلامية قوية متماسكة  يوم التزمت بالإسلام قولاً وفعلاً، وعقيدة ومنهجاً، وطبقته في السراء والضراء، فنصرها الله ؛ وعندما ارتكبت ما يُسخط الله، وعزفت عن العمل بطاعته, ابتلاها اللهُ  بالهزائم المتتالية، وبالذل والهوان؛ وأصبحت مسلوبة السيادة، لا قيمة لها ولا وزن بين الأمم  فاستبدلت القوة ضعفاً، والعزة ذلة  والاجتماع فرقة، وأصبحت مستباحة الحمى  يعبث بها العابثون، ويفسد فيها المفسدون تنتهك حرماتها، وتسرق مقدراتها، لها في كل أرض مأساة، وفي كل بلد محنة.. أبناؤها يُشرَّدون، ودُعاتها يُقَتّلون، نساؤها تُرمَّل  وأطفالها تُيتم ، وهي تستجدِي الحلولَ ، التي ما كانت إلا عاراً وخزياً ودماراً وذلاًّ وهواناً  فلا دُنياً أقامَت، ولا دِيناً أبقَت، بل أدت  إلى  تَأخُّر الأمّة وضعفها ، وتدهوُر أحوالها، وفقراً في اقتصادها، وتأخّراً في ازدهارها، ومما لا شك فيه أن الذي أوصلنا إلى ذلك هو سوء أفعالنا قال تعالى: ﴿ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ ﴾آل عمران165. وقال تعالى: ﴿ وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ﴾ الشورى 30. ومن هذه الأسباب؛ إعراضنا عن الله  والله يقول: ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى ﴾ طـه 125 . فمن أعرض عن الله فإنه يُصاب بالذلة والمهانة في الدُّنيا والآخرة، وقد حذَّرنا الله من الإعراضِ عن آياتِهِ, فقال تعالى :﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ ﴾ السجدة 22. ومن أسباب الهوان والضعف؛ مخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والإعراض عن سنته، قال  تعالى: ﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ النــور63. وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يُعبد اللهُ تعالى وحده لا شريك له، وجُعل رزقي تحت ظل رمحي، وجُعل الذل والصغار على مَن خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم )     ومن أسباب الهوان ترك الجهاد في سبيل الله؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير ﴾ التوبة 38 . فترك الجهاد في سبيل الله  معصية عظيمة ، يترتبُ عليها العذابُ الأليمُ في الآخرةِ، والذل والهوان والصَّغَار في الحياةِ الدُّنيا ، والسؤال هنا : هل يمكن أن تقوم للمسلمين قائمة، ويعودوا إلى سابق عزهم ومكانتهم ، وقيادتهم للبشرية؟ وهل سيأتي نصر الله عز وجل بعد كل هذا الهوان؟ نعم نحن أمة تنتصر بطاعتها لله واتباعها لرسولها، وتنكسر بعصيانها لله وبعدها عن شرعه وهداه، وتاريخ أمتنا شاهد على ذلك ، فيوم صدقت مع الله نصرها الله ، وقد ‏صدق سلمان عندما قال لسعد بن أبي وقاص: (إن هؤلاء صادقون مع الله ، ولذلك أيدهم وسخر لهم ‏البحر ، كما سخر لهم البر وأخشى أن يأتي يوم ، يتخلى فيه المسلمون عن طاعة الله ، فيتأخر عنهم نصر ‏الله " وقد بكى أبو الدرداء عند فتح قبرص، فقيل له: "تبكي في يوم نصر الله فيه دينه ، وأعز فيه جنده. ‏فقال رضي الله عنه: أبكي على حال هؤلاء الذين عصوا الله ، فسلطنا عليهم  وأخشى أن يأتي يوم ، ‏يقصر فيه المسلمون في طاعة الله ، فيسلط عليهم عدوهم " ولا شك أن الحالة التي خاف منها سلمان ، ‏واليوم الذي أشفق منه أبو الدرداء ، هو ما وصلت إليه الأمة الإسلامية ، التي تعيش حربا يشنها عليها أعداؤها والمتآمرون عليها ، الذين لا توجعهم أنات المضطهدين ، وصراخ الثكالى والمنكوبين، ولا تحرك مشاعرهم ولا تؤثر فيهم مشاهد الدم ، ولا جموع المشردين والهاربين ، من جحيم القصف والحرب ، ممن باعوا ضمائرهم ، وخانوا أمتهم ، حيث استحكم الهوى في النفوس، وأعجب كل ذي رأي برأيه، واختلفت الولاءات، فبدلا أن تكون الموالاة بين المؤمنين ضد أعدائهم أصبح كل فريق من المسلمين ، يوالي جهة من أعداء الإسلام، ويستعين بعضهم على بعض   بأعداء دينهم، فتفنن الأعداء في أساليب العداوة والبغضاء .   

إنَّها الشدة التي تخفي وراءها الفرج ، والمكروه الذي يحمل الخير القادم بإذن الله ، وإنَّ الدلائل والبشائر من الكتاب والسنة ، ومن واقع الحضارات المادية ، المنهارة والآيلة للانهيار ، ومن واقع الأمة الإسلامية ، التي باتت الصحوة الإسلامية ، تسري بين رجالها ونساءها ، ومثقفيها وعوامها ، ومن واقع الأعداء , كذلك وتآزرهم لضرب الإسلام   واقع يدل على أنَّ الإسلام قادم ، وأنَّ الجولة القادمة للمسلمين إن شاء الله ، وما على المسلمين إلا أن يرجعوا إلى دينهم ، ويعدوا أنفسهم بما يستطيعون ، وليعلموا أنَّ النصر في النهاية ، ليس بقوة المسلمين وجهدهم ، ولا بكثرة عددهم وعتادهم ، وإنما بقوة الله ﴿ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ﴾ .

إن هذه الأمة منصورةٌ إن شاء الله ، مهما نـزل بها من المصائب ، وحل بها من الضعف والهوان، ولولا نصوص ثابتة ، وآيات محكمة في الكتاب والسُّنة ، لقال قائلنا : لا عودة للدين ، الذي وعده الله عباده المؤمنين ، من الاستخلاف والتمكين ، فمع الضعف والهوان والذل والاحتلال ، يحتاج المسلم إلى ما يقوي يقينه ويثبته عليه ؛ لأنه يتعرض في كل ساعة بل في كل لحظة ، لما يزعزعه ويزلزله   ويحتاج إلى من يذكِّره ، بوعد الله وبنصره لأوليائه ، وبأنه على الحق ، وإن كان ضعيفاً مستضعفاً مهاناً ؛ ولأن اليقين في أوقات التمكين ، ومواطن العزة ، أمر لا يحتاج إلى تدليل وإيضاح ، فالواقع دليله ، وإن لم يتحقق في زماننا ، إلا أنه وعدٌ ممن لا يُخلف وعده ، وعد متحقق لا شك في ذلك ، عندما تتحقق شروطه قال  تعالى :﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ ﴾ النور 55 . والتمكين من أعلى الدرجات في الأرض، لأنه لا يتحقق للمؤمن إلا بعد محنة ، ولما سئل الشافعي: أيما أفضل الصبر أو المحنة أو التمكين؟ فقال الشافعي رحمه الله: (التمكين درجة الأنبياء، ولا يكون التمكين إلا بعد المحنة، فإذا امتحن صبر، وإذا صبر مكن، ألا ترى أن الله عز وجل امتحن إبراهيم عليه السلام ثم مكنه، وامتحن موسى عليه السلام ثم مكنه، وامتحن أيوب عليه السلام ثم مكنه، وامتحن سليمان عليه السلام ثم مكنه وآتاه ملكاً، والتمكين أفضل الدرجات، قال الله عز وجل: ﴿ وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ﴾ وكذلك أيوب عليه السلام بعد المحنة العظيمة مكن، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (  ليبلغنَّ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ، ولا يترك الله بيت مدرٍ ولا وبرٍ إلا أدخله الله هذا الدين بعزِّ عزيز أو بذلِّ ذليل ، عزاً يعزُّ الله به الإسلام ، وذلاً يذلُّ به الكفر ) .

  

 

  

إتباع الهـوى

قال تعالى : ] يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله [ ص 26 . أخبر  الله أن  إتباع الهوى يضل عن سبيل الله ، وجاء النهي حتى لا نميل مع أحد لقرابة أو صداقة أو محبة أو بغض للآخر ، فيخرجنا الهوى عن الصراط المستقيم ، و إتباع الهوى فتنة المنافقين وأهل البدع ، وقد تنشأ عن فهم فاسد أو نقلٍ كاذب ، أو من غرضٍ فاسد وهوىً متبع ،وإن الذين يأكلون لحوم الناس لم يتجردوا لله وإنما دفعهم الهوى، للوقوع في أعراضهم وإتباع الهوى لا يؤدي إلى خير ، قال تعالى : ] وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [  ص 26  .  وصاحب الهوى يعميه الهوى ويصمه ، وكان السلف يقولون: "احذروا من الناس صنفين: صاحب هوى قد فتنه هواه ، وصاحب دنيا أعمته دنياه ". وقد تسمع بعض الناس يقع في عرض أخيه المسلم ، فتسأله: هل استمعت إليه  ؟ فيقول: لا والله ، فتقول: إذن كيف علمت من حاله وأقواله كذا وكذا ؟ فيقول: قاله لي فلان ، فهو   يطعن في الناس  تقليدا لفلان ، غير مراع لحرمة المسلم  وقد قال ابن مسعود: " ألا لا يقلدن أحدكم دينه رجلا  إن آمن آمن، وإن كفر كفر، فإنه لا أسوة في الشر". وقال الإمام أحمد: "من قلة علم الرجل أن يقلد دينه الرجال " ، وقد يكون التعصب من أبرز أسباب ذلك حتى صدق على بعضهم قول الشاعر:

وهل أنا إلا من غزية إن غوت      غويت وإن ترشد غزية أرشد

فتجد من إذا ضل ضلَّ من يتعصبون له معه ، وإذا اهتدى للصواب اهتدوا معه ، فهذا التعصب مخالف للمنهج الصحيح ، الذي يدعونا إلى أن نأخذ بالحق مهما كان قائله ؛ ولهذا قال أبو حامد الغزالي في ذم التعصب: "وهذه عادة ضعفاء العقول ؛ يعرفون الحق بالرجال ، لا الرجال بالحق ".  فكان من لوازم الحكم على الآخرين :التجرد من الهوى ، وإن محاولة تقويم أي رجل من الرجال لا يكون بالتغاضي عن محاسنه ، ولا  بذكر الهفوات وإعطائها أكثر مما تستحق من النقد والتجريح ، لأن التجرد في التقويم من الأسباب المهمة التي تجعل الحكم صوابًا أو قريبًا من الصواب قال الله تعالى: ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ [ النساء 135 . فحين يرجح إنسان الباطل ، فالمرجح هو هوى النفس ، وهو يفسد  ويشوش على العدل ، والمثل العربي يقول " آفة الرأي الهوى " . فإياكم وإتباع الهوى في إصدار الأحكام على الناس ، يروي التاريخ حكاية رجل ذهب إلى الخليفة وقال له : أعفني من القضاء فقال الخليفة : ومن يكون للقضاء إذن وأنت العادل الذي شهد له الناس بذلك  فقال القاضي : والله يا أمير المؤمنين لقد عرف الناس عني أني أحب الرطب ، وبينما أنا في بيتي ، وإذا بالخادم قد دخل ومعه طبق من رطب ، وكنا في بواكير الرطب   ومن الطبيعي أن تكون النفس في لهفةٍ عليه ما دامت تحبه   فقلت للخادم من جاء به ؟ فقال رجلٌ صفته كذا وكذا  فتذكرت أن من أرسل الرطب هو واحدٌ من المتقاضين أمامي ، فرددت عليه الرطب ، ولما كان يوم الفصل في قضية صاحب الرطب ، دخل الرجل علي فعرفته ، والله يا أمير المؤمنين ما استويا في نظري هو وخصمه ، على الرغم من أني رددت الطبق ، وهكذا استقال القاضي من منصب القضاء .   

فعلى الإنسان أن يتجرد من هوى العداوة والبغضاء في النقد وأن يتجرد من هوى الحب في المدح, وكما لا يجوز التحامل فإنه لا تجوز المحاباة ، إذ لا ينبغي أن تكون المحبة لشخص أو البغضاء له دافعًا إلى إهمال العدل: ] وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [ والقلب إن لم يسلم من التأثر بهذه العواطف القلبية فلابد من الخطأ في التقويم . فمجرد نفور النافرين   أو محبة الموافقين ، لا يدل على صحة قول ولا فساده   إلا إذا كان ذلك بهدى من الله , بل إن الاستدلال بذلك استدلال بإتباع الهوى بغير هدى من الله ؛ لأن إتباع الإنسان لما يهواه هو أخذ القول والفعل الذي يحبه، وردّ القول والفعل الذي يبغضه بلا هدى من الله ، وصاحب الهوى يعميه الهوى ويصمه ، فلا يستحضر ما لله ورسوله في ذلك , ولا يطلبه , ولا يرضى لرضا الله ورسوله ، ولا يغضب لغضب الله ورسوله , بل يرضى إذا حصل ما يرضاه بهواه , ويغضب إذا حصل ما يغضب له بهواه  فالتجرد في القول والعمل وسلامة المقصد أصل مهم في تقويم الرجال وأعمالهم ، وحتى لو كان رأي الإنسان صحيحًا , لكنه لم يقصد به وجه الله تعالى والنصح للمسلمين ؛ فإن عمله مردود غير مقبول , وهو مأزور غير مأجور إذا لم يتجاوز عنه ربه ؛ قال الله تعالى: ] وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ [ .

وقد يهجر الرجلُ الرجلَ عقوبةً وتعزيزًا ، والمقصود بقصد ردعه وردع أمثاله للرحمة والإحسان ، لا للتشفي والانتقام , كما هجر النبي r أصحابه الثلاثة الذين خلّفوا في غزوة تبوك .

فعلى الإنسان المسلم أن يفتش في قلبه ويطهّره من جميع آثار الهوى قبل أن يبدأ في تقويم شخص من الأشخاص ؛ لكي يكون منصفًا, بعيدًا عن الجور والظلم المذموم شرعً ا، ومثل هذا يُلقى له القبول بين الناس حتى وهو يرد على الأخطاء والانحرافات ؛ فإنه يصاحبه في ذلك شعور بالشفقة وحب الهداية للغير ، لا مجرد الرد والخصومة والجدال ، كما هو الحال في كثير ممن يتصدى للمخالفين له ، وصاحب القلب السليم لا يؤذي المسلمين ولو آذوه، ولا ينتقم لنفسه ، قال الإمام ابن ناصر الدين الدمشقي: " إن في مجال الكلام في الرجال عقبات مرتقيها على خطر، ومرتقيها هوىً لا منجى له من الإثم ولا الوزر، فلو حاسب نفسَه الرامي أخاه ما السبب الذي أهاج ذلك؟ لتحقق أنه الهوى الذي صاحبه هالك "   فقد يصف البغض أحداً من الناس ، بأوصاف يعلم يقينًا أنه بريء منها، ولكنّ حبّ الذات والانتصار للنفس يذكي فيه روح الغيرة والاعتداء ، فنرى الكثيرين إذا رأوا غيرهم قد أخطأ فإنهم يفرحون بذلك , وهمهم الوحيد هو تتبع العثرات ، والفرح باصطيادها , في الوقت الذي لو وجدوا خلاف ذلك ـ من إصابة غيرهم للحق ـ فإنهم يحزنون لهذه الإصابة، وهذا هو الظلم والحقد والحسد بعينه ، والذي لا يلتقي مع الإخلاص والعدل وحب الخير للناس، وما أحسن الحكاية التي ذكرها ابن رجب رحمه الله حول هذا الأمر؛ حيث قال: "وقد استحسن الإمام أحمد ما حكي عن حاتم الأصم أنه قيل له: " أنت رجل أعجمي لا تفصح، وما ناظرك أحد إلا قطعته  فبأي شيء تغلب خصمك؟ فقال: بثلاث؛ أفرح إذا أصاب خصمي، وأحزن إذا أخطأ، وأحفظ لساني عنه أن أقول له ما يسوؤه ، فقال أحمد: ما أعقله من رجل " .

 والتعصب صفة ذميمة بل إن التعصب بلا هدى من الله  هو من عمل الجاهلية ، ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله ، فالمتعصب وإن كان بصره صحيحاً  فبصيرته عمياء ، وأذنه عن سماع الحق صماء ، يدفع الحق غفلة منه وجهلاً بما أوجبه الله عليه من النظر الصحيح  ومن استحكم في قلبه هذا الداء ، لو أوردت عليه كل حجة ، وأقمت عليه كل برهان ، لما أعارك إلا أذناً صماء   وعيناً عمياء وصدق الله ]  إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [    القصص  56 . وما درى هذا أن الكلمة إذا احتملت الكفر من تسعة وتسعين وجهاً ، ثم احتملت الإيمان من وجه واحد   حملت على أحسن المحامل ، وهو الإيمان ، ولكنهم جهلوا هذا الأدب الإسلامي العظيم الذي يحفظ الوحدة  ويحمي الأخوة ، ويظهر الإسلام بصورته الحسنة ، ووجهه الجميل من السماحة واليسر ، واتساعه لكافة الاختلافات الفكرية ، والمنازع المذهبية والمصالح البشرية ، ما دامت معتصمة بالكتاب والسنة ، على وجه من الوجوه الصحيحة التي يحتملها النظر السديد ، والتأويل الرشيد   وإن من البلاء ؛ أن يقوم غير مختص ليعترض على مختص   فيُخَطِّئه ويُغَلِّطه ، وإن كثيراً من الحوارات العقيمة مردُّها إلى عدم التكافؤ بين المتحاورين ، ولقد قال الشافعي رحمه الله : " ما جادلت عالماً إلا وغلبته ، وما جادلني جاهل إلا غلبني " وهذا التهكم من الشافعي رحمه الله يشير إلى الجدال العقيم ؛ الذي يجري بين غير المتكافئين .

وأخيرا سمعت تعليقات بان خطبي موجهة إلى أناس معينين   ناسين أن ما تتضمنه هو علاج لحالات يتصف بها كثير من البشر ، ولكن المعنيين منهم قد وصلوا إلى درجة من الإعراض والاستكبار قد يوردهم دار البوار وإني أتمثل قول الله تعالى : ] وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا [ نوح 7. فالداعي لا يمل من التذكير بالحق ، ولو قوبل بالاستكبار قال تعالى ] فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم [ الحديد 16 . والإصرار على العناد والاستكبار ، يورث التمادي على الضلال حتى يرى قبيح الفعال مستحسنا ، فإذا رآه مستحسناً يستكبر ، ولا يقبل بعد ذلك النصح وقديماً قيل في هؤلاء : " الإصرار على الذنب يورث الاستكبار ، والاستكبار يورث الجهل   والجهل يورث التمادي في الباطل ، وذلك يورث فساداً في القلب ، وهذا يورث النفاق ، والنفاق يورث الكفر "   فالقسوة أولها خطرة ، فإن لم تتدارك صارت فكرة ، فإن لم تتدارك صارت عزيمة ، فإن لم تتدارك صارت مخالفة  فإن لم تتدارك صارت قسوة ، وبعد ذلك طبع ودين  وحينئذٍ لا ينفع الوعظ والتذكير كما قال الشاعر :

إذا قسا القلب لم تنفعه موعظةٌ      كالأرض إن سبخت لم ينفع المطر

وروي أن عيسى بن مريم قال: داويت المرضى فشفيتهم بإذن الله، وأبرأت الأكمه والأبرص بإذن الله، وعالجت الموتى فأحييتهم بإذن الله، وعالجت الأحمق فلم أقدر على إصلاحه ، فقيل: يا روح الله وما الأحمق؟ قال : المعجب برأيه ونفسه، الذي يرى الفضل كله له لا عليه، ويوجب الحق كله لنفسه ، ولا يوجب عليها حقاً، فذلك الأحمق الذي لا حيلة في مداواته .

 

 

 

 

 

في الإخلاص سبيل النجاة

الاخلاص هو حقيقة الدين ، ومفتاح دعوة الرسل أجمعين ، وهو لب العبادة وروحها  وأساس قبول الأعمال ، وقد اخترت هذا الموضوع من قول النبي عليه الصلاة والسلام : (يا معاذُ أخلص دينك يَكفِكَ القليلُ من العمل ) ، لأن العمل بلا إخلاص, يجعله الله هباءً ، ولأن العمل مع الإخلاص ، سبباً لنجاةِ صاحبه من عذاب الدنيا والآخرة ، وقد خاطبُ رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقاص فقال : (يا سعدُ ! إنكَ لن تُخلّفَ فتعملَ عملاً تبتغي به وجه الله تعالى, إلا ازددتَ به خيراً ودرجةً ورِفعةً)البخاري ومسلم . وها نحن نرى من يقوموا بأعمال كثيرة، ظانين أنَّ فيها السعادة والرفعة   ونسوا أو تناسوا أنَّ الله عز وجل ، لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً لوجهه الكريم وموافقاً لشرعه الحكيم ، وأن ما كان لله دام واتصل ، وكان مقبولا ، وما كان لغيره انقطع وانفصل ، وكان مرفوضا ، والإخلاص صمام الأمان للمؤمنين في حياتهم،به تزكو أعمالهم   وتتضاعف جهودهم،وأجورهم،وتزداد فاعليتهم   قيل للفضيل: ما هو الإخلاص؟ قال: أن يكون العمل خالصاً لوجه الله، وأن يكون تابعاً لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم. وبالإخلاص تنصر الأمة ، عن مصعب بن سعد عن أبيه أنَّه ظن أنَّ له فضلاً على من دونه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم   فقال صلى الله عليه وسلم: (إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها بدعوتهم،وصلاتهم،وإخلاصهم)   وهذا صلاح الدين الأيوبي ، عندما كان يتفقد جنوده ، في إحدى المواقع الحربية،وجد بعضهم يقوم الليل فقال: "من هنا يأتي النصر " ولما وجد بعضهم نائماً قال: " من ها هنا نُؤتى "  وكأني أنظر إلى الناس وقد ضعفت عزيمتهم  وقلت فاعليتهم ، وركنوا إلى الخمول والكسل  فأصبحوا محتاجين إلى شحنه تُقَوِّي عزيمتهم  وتأخذ بأيديهم إلى طريق الصواب لقبول أعمالهم . بني الحجاج بن يوسف الثقفي قصراً ودعا الناس للفرجة وللتفاخر به، فأغتنم الحسن البصري الفرصة ، ليعظ الناس ويذكّرهم ويزهدهم في عرض الدنيا، فوقف فيهم خطيباً وقال : لقد نظرنا فيما ابتنى أخبث الأخبثين   فوجدنا أن فرعون شيد أعظم مما شيّد ، وبنا أعلى مما بنا، ثم أهلك الله فرعون ، وأتى على ما بنا وشيّد، ليت الحجاج يعلم ، أن أهل السماء قد مقتوه ، وأن أهل الأرض قد غرّوه . وفي اليوم التالي ، دخل الحجاج إلى مجلسه   وهو يتميّز من الغيظ ، وقال لجلسائه تباً لكم وسحقاً ، يقوم عبد من عبيد أهل البصرة ويقول : فينا ما شاء أن يقول ، ثم لا يجد فيكم من يرده ، أو ينكر عليه، والله لأسـقينكم من دمه يا معشر الجبناء ، ثم أمر بالسيف والنطع ، وأمر بإحضار الحسن البصري، فحضر الحسن، فلما رأى السيف والنطع والجلاّد   حرّك شفتيه، ثم أقبل على الحجاج ، وعليه جلال المؤمن وعزة المسلم ، ووقار الداعية إلى الله، فلما رآه الحجاج هابه أشـد الهيبة ، وقال له: هاهنا يا أبا سعيد ، ها هنا يا أبا سعيد   والناس ينظرون في دهشة واستغراب ، حتى أجلسه على فراشه، وأخذ يسأله عن أمور الدين ، والحسن البصري يجيبه، فقال له الحجاج ، أنت سيد العلماء يا أبا سعيد، ثم دعا بطيب ، وطيب لحيته وودعه ، ولما خرج الحسن من عنده . تبعه حاجب الحجاج وقال له : يا أبا سعيد ! لقد دعاك الحجاج لغير ما فعل بك . وإني رأيتك قد حركت شـفتيك عندما أقبلت عليه ، فماذا قلت ؟ فقال الحسن: لقد قلت، يا وليّ نعمتي وملاذي عند كربتي ، اجعل نقمته برداً وسلاماً علىّ  ، كما جعلت النار برداً وسلاماً على إبراهيم عليه السلام  والحديث عن أخبار السلف الصالح ، حديث شيّق يجذب النفوس ، وترق له القلوب ، وفيه عبرة لمن يعتبر ، قد يتقاصر الإنسان أمام الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ويقول : هؤلاء أيدهم الله بالوحي ،لكن هؤلاء ممن نذكر أخبارهم لم يكن الوحي ينزل عليهم ، ولم يروا النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنما ممن جاء بعدهم ، ذكروا أعرابياً جاء من الصحراء ، فقه قول لا إله إلا الله ، وأدرك عمقها , بخلافنا هذه الأيام نكررها  ولا ندرك مدلولاها ، لأننا خالطناها بالمعاصي والمخالفات ، وما يناقضها   جاء الأعرابي فقال: ( يا رسول الله! فيقول صلى الله عليه وسلم: نعم. قال: أبايعك على لا إله إلا الله ، وأنك رسول الله, فيبايعه صلى الله عليه وسلم, وتأتي الرسول صلى الله عليه وسلم غنائم, فيعطي هذا الأعرابي منها  فيقول: يا رسول الله! ما على هذا بايعتك  فقال: على ماذا بايعتني؟ قال: بايعتك على أن يأتيني سهم من عدو كافر, فيقع هنا ، ويخرج من هنا ، فتدمعت عيناه صلى الله عليه وسلم  لأنه أحس صدق هذا الأعرابي ، ووضوحه وإخلاصه ، فقال له : إن تصدق الله يصدقك. وما أن انتهت المعركة ، إلا ويأتي سهم طائش  فيقع في لبة هذا الأعرابي ، ويخرج من قفاه  فيراه صلى الله عليه وسلم مقتولاً ، فيمسح التراب من وجهه ويقول: صدقت الله فصدقك الله )  وهذا عبد الله بن عمرو الأنصاري  الذي أنزل الله فيه وفي إخوانه قوله تبارك وتعالى:﴿ وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾ آل عمران 169   أتى عبد الله بن عمرو فصلَّى صلاة الليل ، قبل معركة أحد بليلة ، وقد قام فتهجد ، ورفع يديه ودعا الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ، أن يوفقه للشهادة    بصدق وإخلاص, وفي الصباح قال لابنه جابر: يا بني! إني رأيت في المنام كأني مقتول غداً في المعركة, فعليك بأخواتك، وأستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه. وذهب إلى المعركة واغتسل وتحنط وتكفن, ووقف في الصف صادقاً منيباً ، مخلصاً مع الله عز وجل.وفي آخر المعركة أتى ابنه جابر ، فإذا أبوه مقطع أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم, وتأتي أخته فتبكي وتقول: ( يا رسول الله! أهو في الجنة فأصبر وأحتسب، أم هو في غير ذلك؟ قال: أهبلت؟ أجننت؟ إنها لجنان كثيرة, وإن عبد الله في الفردوس الأعلى.ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يا جابر! أتدري ماذا فعل الله بأبيك وإخوانه من الشهداء؟ قال: قلت لا أدري يا رسول الله! قال: والذي نفسي بيده  لقد كلمهم كفاحاً بلا ترجمان، قال: تمنوا عليّ قالوا: نتمنى أن تعيدنا إلى الدنيا, فنقتل فيك ثانية. فقال: إني كتبت على نفسي أنهم إليها لا يرجعون ، فتمنوا قالوا: نتمنى أن ترضى عنا فإنا قد رضينا عنك. قال: فإني قد أحللت عليكم رضائي ، فلا أسخط عليكم أبداً. فجعل الله أرواحهم في حواصل طير خضر, تَرِدُ الجنة, وتشرب من ماء الجنة, وتأكل من ثمار الجنة, وتأوي إلى قناديل معلقة بالسماء أو بالعرش ، حتى يرث الله الأرض ومن عليها ) قال ابن كثير رحمه الله: إسناد هذا الحديث حسن.فقد صدق رضي الله عنه وأحسن, ولما صدق هؤلاء مع الله وفقهم الله ، وهذا الإمام أحمد بن حنبل ، ما حفظه في محنتة إلا الصدق والإخلاص، وهو القائل: الإخلاص سيف إذا وضع على جرح برئ بإذن الله؛ لأنه دواء وعلاج ، فلما دخل السجن، وكان صادقاً مع الله ، صائماً نهاره, قائماً ليله, ما أكل للسلطان لقمة, ولا شرب للمعتصم شربة, أتي به فعرض على السيف خمس مرات, فأبى أن يلين, وأبى أن يهادن ، وأبى أن يستسلم لأنه صادق ، قالوا له : أَلِن في الكلام اقرب في الخطاب ، فيأبى ، ولما حضرته الوفاة قال: اللهم سامح من شتمني, اللهم سامح من سجنني وضربني إلا صاحب البدعة -يعني ابن أبي دؤاد - فعذِّبه واحبسه في جسده, فكان جزاء الصدق مع الله أن ينكل الله بعدوه  فيحبس أحمد بن أبي دؤاد في جسده، ويصاب بمرض الفالج, نصفه يابس ميت, والنصف الآخر حي, قال له زواره وعواده: كيف تجدك؟ قال: دعوة أحمد بن حنبل وصلتني في هذه الحياة الدنيا, قالوا: وكيف؟ قال: دعا عليّ أن أحبس في جسمي, فأما نصفه فقد مات منذ زمن, والله ما أحس به ولو قطع بالمناشير, وأما نصفي الآخر ، فوالله لو وقع ذباب لآلمني ألماً أشد من ألم القتل ، ودعا الإمام أحمد على عدوه الآخر ابن زيات ، فنكل الله به, وقطعت يده وحبس .

روى أهل التاريخ ، بأسانيد صحيحة كالنجوم: أن صلة بن أشيم ، حضر معركة في الشمال مع جيش الإسلام ، فلما أظلم الليل عليه خلا بالله عز وجل ، في ليلة عامرة بالذكر والمناجاة لأنه فقه قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في الحديث القدسي: ( أنا جليس من ذكرني ) فقام يصلي ويدعو ويناجي ربه ومولاه ، حتى أظلم عليه الليل, قال أحد أصحابه: فرقيت شجرة من حيث أراه ولا يراني, وإذا بأسد يخترق الغابة إلى صلة بن أشيم, فيقف بجانبه وهو يصلي لله  فلما انتهى من صلاته ، نظر إلى الأسد وقال: يا حيدرة! -وحيدرة من أسماء الأسد- إن كنت أمرت بقتلي أو بأكلي فتقدم, وإن كنت لم تؤمر بذلك ، فاذهب في أرض الله ، واتركني أناجي الله. قال: فزأر الأسد زئيراً كاد يخلع قلبي، ثم انطلق ، واستمر صلة في صلاته، فلما أصبحنا رأيت  وجه صلة ، كفلقة القمر ليلة أربعة عشر. قد يكون لكً عملٌ كالجبال ولكنك تبتغي به الدنيا والسُمعة والوجاهة والمديح ، فلا يقبل هذا العمل بدون إخلاص لله .

ما أحوجنا إلى أن نكون مخلصين لله في أقوالنا  وأفعالنا، وحركاتنا وسكناتنا, وما أحوجنا إلى الإخلاص ، لأنه سبب الفوز والنجاح في الدنيا والآخرة، بل نحن في أشد الحاجة في هذا الزمان إلى الإخلاص؛ لكي يقوى إيماننا, ولكي تنتصر أمتنا، ولكي يفرِّج الله عنها الشدائد والكربات  وتتحرر من العبودية، وتتحقق لها الطمأنينة والسكينة ، وتشعر بالسعادة . يحكى عن رجل عابد في  بني إسرائيل ، جاءه قومه، وقالوا له: إن هناك قومًا يعبدون شجرة ويشركون بالله؛ فغضب العابد غضبًا شديدًا وأخذ فأسًا؛ ليقطع الشجرة، وفي الطريق، قابله إبليس في صورة شيخ كبير، وقال له: إلى أين أنت ذاهب؟ فقال العابد: أريد أن أذهب لأقطع الشجرة التي يعبدها الناس من دون الله. فقال إبليس: لن أتركك تقطعها ، وتشاجر إبليس مع العابد ، فغلبه العابد، وأوقعه على الأرض. فقال إبليس: إني أعرض عليك أمرًا هو خير لك، فارجع عن قطع الشجرة وسوف أعطيك عن كل يوم دينارين، فوافق العابد. وفي اليوم الأول، أخذ العابد دينارين، وفي اليوم الثاني أخذ دينارين، ولكن في اليوم الثالث لم يجد الدينارين؛ فغضب العابد، وأخذ فأسه  وقال: لابد أن أقطع الشجرة. فقابله إبليس في صورة الشيخ الكبير، وقال له: إلى أين أنت ذاهب؟ فقال العابد: سوف أقطع الشجرة. فقال إبليس: لن تستطيع، وسأمنعك من ذلك، فتقاتلا، فغلب إبليسُ العابدَ، وألقى به على الأرض، فقال العابد: كيف غلبتَني هذه المرة؟! وقد غلبتُك في المرة السابقة! فقال إبليس: لأنك غضبتَ في المرة الأولى لله -تعالى-، وكان عملك خالصًا له؛ فأمكنك الله مني، أمَّا في هذه المرة؛ فقد غضبت لنفسك لضياع الدينارين، فهزمتُك وغلبتُك.

هذه الحكايات تصديق لصدق الإخلاص ، إذ لا يتخلص العبد من الشيطان إلا بإخلاص النية . وتخليصها من كل غرض دنيوي ، قال تعالى : ﴿ إلا عبادك منهم المخلصين ﴾ .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

خطر المحرّفين على الإسلام

من الناس من تنطبع في نفوسهم الحقيقة كاملة ، فإذا تحدثوا كان كلامهم مصداقاً لها ، وإذا عرضت عليهم قضية كان فصلهم فيها تجاوباً مع الحقيقة فهم كما قال تعالى ﴿ أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ﴾الأعراف . وهناك ناسٌ يحرّفون الحقيقة فلا تسمع منهم إلا قرقعة وقرقعة وقد تفهم منهم شيئا أو لا نفهم شيئا ، ومهما ناقشتهم فلن تخرج إلا بصداعٍ في راسك ، لأن الحقيقة لا تصيب من قلوبهم هدفا ولا تجد بها مقرا ، فهم كما قال تعالى :﴿ أمواتٌ غيرُ أحياء ﴾النحل .نرى كثيراً ممن يؤدون الفرائض المكتوبة والعبادات الرتيبة وهم في شبه غيبوبة  لا يدركون معانيها  ولا تحصل في نفوسهم حكمتها ، لأنهم يعرفون القليل ويجهلون الكثير  ولا يتقون الله فيما يعرفون  وكثيراً ما يرتكبون الإثم ويثيرون الفتن ، جاهلين أن قيمة الإنسان في الدنيا والآخرة ترتبط بمدى صلاحية قلبه للعبادة الصحيحة والحكم الصحيح ، لا في حالة معينة ، بل في كل شئون الحياة كلها ، فتقدم الأمة وتأخرها منوطٌ بمدى ما لديها من أصحاب هذه القلوب الواعية ، التي تتصل بالعالم وأحداثه ، والأمة تواجه أعداءً حاقدين   فهل نلقاهم برجالنا الواعين ، أم بأنصاف المتعلمين ، ليقودوا الأمة إلى الهاوية ؟  الذين يتركز محور نشاطهم على القشور ، التي تتعلق ببعض الأحكام الفرعية ، فيؤثرون فيها رأياً ويقاتلون الرأي الآخر ، وقد يرون العادة عبادة والنافلة فريضة ، والشكل موضوعا ، ولعل ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم : ( ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب ) فيه إشارة إليهم وإلى أصحاب القلوب الواعية النقية ، بأن يكون قلباً محباً للناس عطوفاً عليهم ، لا يفرح في زلتهم ، ولا يشمت في عقوبتهم ، بل يحزن لخطئهم ، ويتمنى لهم الصواب ، فالدين إن لم يكن وجهاً طليقاً ، وروحاً سمحة ، وسيرةً جذابة ، وافتقاراً إلى الله ، ورجاءً في رحمته الواسعة ، فماذا يكون ؟ أما علم أن القلب القاسي والغرور الغالب هما أدل شيءٍ على غضب الله ، والبعد عن صراطه المستقيم ، من السهل أن يرتدي الإنسان لباس الطاعات الظاهرة ، على كيانٍ ملوث ، وباطن معيب ، ليس لديه فقه  وليست لديه تربية ، يرى أن الدين كله لديه   وأن الفسق والفجور عند معارضيه ، ونحن نعلم أن من يقرأ القرآن ويحفظه ، ويقيم الصلوات ويدعو إلى إقامتها ، ويحترم حدود الله ويكره اعتداءها ، لا يتهم بالفسق  فما هذا بإسلام وما يُخْدم الإسلام بهذا الأسلوب ، ورحم الله علياً رضي الله عنه عندما قال : قصم ظهري رجلان " عالم فاجر وعابدٌ جاهل " نعم فقد أفسد الدينَ أنصافُ المتعلمين ، فلا هم جهلة حتى يسألوا ، ولا هم علماء حتى يفقهوا ويدركوا ، فمن يعرف جزءاً من الحق ويجهل جزءاً آخر  ينطبق عليه قول القائل :

فقل لمن يدعي في العلم معرفةً  حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء

فلماذا لا يعرف المرء ويتفقه في الدين ، ويزداد علماً بالكتاب والسنة  بدلاً من أن ينحصر في حظه التافه من المعرفة ، ويتحصن داخله لقذف المخالفين بالأحجار ، ذكر الراغب الأصفهاني هذه القصة :" سأل رجلٌ جاهل حكيماً عن مسألة دينية ، فأعرض عنه ولم يجبه   فقال  له السائل : أما سمعت قول الرسول صلى الله عليه وسلم ( من سئل عن علمٍ يعلمه فكتمه ألجم بلجامٍ من نار يوم القيامة ؟ ) قال الحكيم بل سمعته ، أترك اللجام هاهنا واذهب ، فإن جاء من ينفعه علمي ، وكتمته فليلجمني به " والحق أن هناك أناساً يتكلمون في الإسلام ، يود الدين لو خرسوا ، فلم يسمع لهم صوت . فهذه هي الظاهرة القاصمة لعرى الوحدة والأخوّة بين المسلمين , فكلامهم يخالف منهج النبوة وأحكام الشريعة ، وتعاليم الإسلام جملةً وتفصيلاً، لأنها تغري العداوة والبغضاء ، وتكسر شوكة الأمة ، وتسقط هيبتها ، وتسهّل على العدو ضربها   واستئصالها ، وهذا كله يخالف صريح قول الله تعالى :﴿ ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعدما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم ﴾ وقوله سبحانه : ﴿ ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم﴾ فالدعوة تكون بالتي هي أحسن ، باللفظ اللين وبإيضاح الحجة ، والإيغال في البيان، ونفي الشبهات ورد التساؤلات ، وتزييف الخرافات ونقض ساقط الاعتراضات ، بالأساليب اللائقة بالمخاطبين ، مع بعد عن التقعر والتنطع ، مما كانت العقول تتقبله  والفطر السليمة تستسيغه ، فلم يكن في الدعوة تعنيف ولا تشدد ، بل تفتح وسعة صدر ، ورقة في الأسلوب ، مع ضرب الأمثال ، وسرد البراهين  وبيان الحجة بالحجة. ومما ذكره الإمام النووي في هذا الباب قوله : " واعلم أن مذهب أهل الحق أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب   ولا يكفر أهل الأهواء والبدع ، وأن من جحد ما يعلم من دين الإسلام بالضرورة ، حُكم بردّته وكفره , إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام ، أو نشأ ببادية بعيدة ونحوه "شرح مسلم .  لقد خلق الله الإنسان ، ليكون خليفةً في الأرض ، يعمرها بالخير والفضيلة والهدى ، ويدعو إلى العدل والمساواة ، والعطف والرحمة  والأخذ بيد الضعيف  وإغاثة الملهوف   وتوجيه المجتمع بقدر ما يستطيع ، إلى وسائل الفلاح والصلاح  ولكي تتحقق الحكمة الإلهية في خلق الإنسان ، فإنهلا بد لقوة الخير في الإنسان ، من مدد يعينها ويقويها على سد منافذ الشر والطغيان ، وعلى استخدام الشهوة والغضب ، فيما يحفظ له نوعه وكيانه ، ولا شك أنه لو تُرك الإنسانُ ونفسه ، فانه لا يستطيع أن يحفظها من الاندفاع إلى الشر وسبيل الضلال ، بما ركب فيه من شهوة وغضب ، اندفاعا يصل في كثير من المواطن  إلى حد استباحة انتهاك الأعراض ، وسفك الدماء ، وسلب الحقوق ، ملبياً ومستجيباً لبريق الدنيا وزخرفها وشهواتها ومغرياتها ، فيغلب شرُه خيره ، وفسادُه صلاحه ، عاجزاً عن تحقيق التوازن ، بين دواعي الخير ، ودواعي الشر  وتنعكس عندئذ حكمة خلق الإنسان ، وجعله خليفة في الأرض  ، وإن التغيير المنشود الذي تنتقل به الأمم من الفساد إلى الصلاح ، ومن الانحراف إلى الاستقامة، ومن الضعف إلى القوة، لا يتم إلا بتغيير الإنسان من داخله    كما قال تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾الرعد11. وهذا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم مع العرب ، غيّر ما بأنفسهم، فغيّر الله ما بهم ، غيّر معتقداتهم ومفاهيمهم وأفكارهم وقيمهم ، وأهداف حياتهم ، فأنشأهم خلقا آخر، وأصبح عربيّ الإسلام غير عربيّ الجاهلية، في أهدافه وأخلاقه وسلوكه وعلاقاته. وبهذا انتقلوا من رعاة للغنم إلى رعاة للأمم، وأخرجوا الناس من عبادة الأشياء والأشخاص، إلى عبادة الله وحده ، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ووسطيتة : ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ ﴾ البقرة 143 .   

 

اجتناب الرياء للحاكم

يحدثنا التاريخ عن سيرة الأنبياء والصالحين الذين نزههم الله عن كل نفاق ورياء ، فملكوا قلوب الشعوب ، وأعطوا السنن والدروس التي لا تنسى فلم يذكر لنا التاريخ أن اي منهم انفق الأموال الطائلة لإقامة احتفالات لهم ، او لاستقبالهم بورود النفاق ، ورياحين الرياء ، فلم يقرِّبوا أهل المكر والحيلة ، ولم يقرِّبوا أهل الباطل ، الذين يحسنون الظلم والجور ، والفساد والطغيان ، فينسبون إلى من يحب الصلاح ، تهمة الخارج عن القانون والمتدخل فيما لا يعنيه ، لأنهم عرفوا أن العلاقة بين الحاكم والمحكوم في الإسلام ، تقوم على الاحترام المتبادل، ولا تقوم على القهر والاستبداد، لأن الحاكم العادل هو قطب رحى الأمة ، ورائد نهضتها ، وباني أمجادها ، وحارسها الأمين . وهو عنصر فعال من عناصر المجتمع ، وجزء لا يتجزأ عنه ، لهذا وجب أن يكون التجاوب ، قوياً بين الحاكم والمحكوم ، والراعي والرعية ، ليستطيع الحاكم أداء رسالته الإصلاحية لأمته ، وتحقيق أهدافها وأمانيها ، ولتنال الأمة في ظلال حكمه الطمأنينة والحرية والرخاء .  فآمنوا بأن للحاكم حقوق على الرعية ، وللرعية حقوق عليه ، وعلى كل منهما رعاية حقوق الآخر   والقيام بواجبه ، وهذا ما أوضحه أمير المؤمنين علي في نهج البلاغة  حيث قال : «فليست تصلح الرعية إلا بصلاح الولاة ، ولا تصلح الولاة إلا باستقامة الرعية ، فإذا أدت الرعية إلى الوالي حقه  وأدى الوالي إليها حقها ، عز الحق بينهم ، وقامت مناهج الدين ، واعتدلت معالم العدل ، وجرت على إذلالها السنن ، ويئست مطامع الأعداء ، وإذا غلبت الرعية واليها ، وأجحف الوالي برعيته  اختلفت هنالك الكلمة ، وظهرت معالم الجور  وكثر الإدغال في الدين ، وتركت محاج السنن  فعُمل بالهوى ، وعُطلت الأحكام ، وكثرت علل النفوس ، فلا يُستوحش لعظيم حق عُطِّل ، ولا لعظيم باطل فُعِل ، فهنالك تُذَل الأبرار ، وتعز الأشرار » . فقد حرص المسلمون ، على اتباع منهج الله وسنة رسول الله ، ولم يكن أئمة المسلمين يحكمون رعاياهم إلا بذلك ، إلا مَنْ شذَّ ، وهم قليل ، ومن هنا كان للأمة دور كبير في تقويم الحكام والمسئولين ، على جميع مستوياتهم ، وقد جعل رسول الله  أفضل الجهاد تقويمَ الحاكم الظالم من خلال توجيهه إلى الحق، فقال : ( إنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْجِهَادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ )  ومن هنا كان من حق الأمة محاسبة الخلفاء المخطئين، ومبدأُ محاسبة الإمام ، مبدأ إسلامي متوازٍ مع قيام الخلافة الإسلامية ، منذ القدم، بل رأينا من الخلفاء أنفسهم من يُنادي به، فأبو بكر الصديق ، أشار إلى هذا الأمر ، في خطبته الأولى بعد البيعة العامة بقوله: "إن أسأتُ فَقَوِّمُوني ". لأن العلاقة بين الحاكم والمحكوم في الإسلام ، جزء من العبادة ، وتقوم على الاحترام والثقة ، وأن سلطة الحاكم ، مستمدة من الشرع ، ومن الأمة. بخلاف العلاقة بين الحاكم والرعية ، التي تقوم على القهر والاستبداد ، حيث يوجد الحكام المستكبرون ويوجد الأتباع المراءون ، وطبيعة المستضعفين أن يسارعوا إلى مرضاة رؤسائهم ، وإجابة رغائبهم   ويبارك الحاكم المستبد هذه الطبيعة ويغدق عليها .

ولو راجعنا الصحائف السود لتاريخ الاستبداد السياسي في الأرض ، لوجدنا مراءاة الحاكم قد  أقامت للأكاذيب سوقاً رائجة ، وقلبت الحقائق   وقد يكون الرياء ، من الصغار للكبار ، ابتغاء عرض الدنيا، وقد يكون من الكبار للصغار   ابتغاء تأليف الأتباع ، وهذا النموذج من العلاقات بين الحاكم والمحكوم ، بدأ في تاريخنا ، منذ أن قال معاوية بن أبي سفيان: "إن الناس أعطونا سلطاننا فأظهرنا لهم حِلما تحته غضب، وأظهروا لنا طاعة تحتها حقد، فبعناهم هذا بهذا، وباعونا هذا بهذا. فإن نكثناهم ، نكثوا بنا، ثم لا ندري ، أتكون لنا الدائرة أم علينا". ابن كثير: البداية والنهاية ، وهذا واقعٌ اليوم في علاقات العديد من حكامنا بشعوبهم . الذين ساموهم سوء العذاب، وعند إسداء النصح لهم    وتذكيرهم بالمصير الذي حاق بسابقيهم من الطغاة في التاريخ الإنساني ، جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم ، واستكبروا استكبارا! وحين ينكشف ضعف الأقوياء، ويتبين من يتحدث بلسانين، ويتلفع بوجهين: وجهٍ لشعبه هو وجه الرجل الوطني الغيور ، بل التقي النقي الخاشع  ووجهٍ للآخرين، هو وجه الانتهازي القاهر لشعبه المقهور أمام القوى الدولية، الذي لا يؤمن بمبدأ وليس في وجهه قطرة ماء  وأكثر ما يؤلم أن نرى مثل هذا ، يأتي ممن هم ضمن القادة ، الذين يبالغ المادحون في مدحهم، وتملأ الدنيا ثناء ، رياء لهم   وتنمق العبارات كذباً ، في التقرب إليهم، والتمسح بوصلهم، والتهويل المبالغ ، لوصف ما يعملون لذلك كان أخطر المدح ، المبالغة في مدح حاكم  لأن مدح الإنسان قطع لعنقه، ومدح الحاكم قطع لعنق الأمة، لأن ذلك يُورثه كبرا عن سماع النصح وبغيا عند العقوبة.

لقد علمنا رسولنا صلى الله عليه وسلم ، أن نحثو التراب في وجه المداحين المبالغين، وعلى نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سار كل الصحابة والصالحين في كل العصور ،  بل إن المسلم المتمسك بدينه حقاً ، حريص على محاسبة نفسه في كل أقواله ومواقفه، وأنه مؤاخَذ على كل ذلك من رب العالمين، فهو لا يقبل أن يهان عند الله ويكتب عنده كذاباً.  إن الناصح الأمين المخلص  هو من يقول الصدق ويسدي لمن يحبهم ، النصح الراشد، ولا يخدعهم بمبالغة القول، وزائف الأوصاف، ولا يكون منكراً للصواب ، إذا رآه، ولا لذكر المحاسن إذا بدت أمامه، ولا جاحداً ، لمواقف الخير والصلاح.

 قد تأتي المبالغات في المديح والإطراء طلباً للتقرب ممن يمدحونهم، وما عرفوا أنهم بهذا ، يسيئون إلى من ينشدون منهم القرب والعطاء، وينقلب المدح الكاذب إلى هجاء ساخر، لمن في مدحهم كانوا مبالغين.

ﻟﻘﺪ ﺗﻌﻠﻢ ﺍﻟﻤﺴﻠﻤﻮﻥ ﻣﻦ ﺩﻳﻨﻬﻢ، ﺃﻥ ﻃﻐﻴﺎﻥ ﺍﻟﻔﺮﺩ ﻓﻲ ﺃﻣﺔ ﻣﺎ ، ﺟﺮﻳﻤﺔ ﻏﻠﻴﻈﺔ, ﻭﺃﻥ ﺍﻟﺤﺎﻛﻢ ﻻ ﻳﺴﺘﻤﺪ ﺑﻘﺎﺀﻩ ﺍﻟﻤﺸﺮﻭﻉ , ﻭﻻ ﻳﺴﺘﺤﻖ ﺫﺭﺓ ﻣﻦ ﺍﻟﺘﺄﻳﻴﺪ , ﺇﻻ ﺇﺫﺍ ﻛﺎﻥ ﻣﻌﺒﺮﺍً ﻋﻦ ﺭﻭﺡ اﻟﺠﻤﺎﻋﺔ ، ﻭﻣﺴﺘﻘﻴﻤﺎً ﻣﻊ ﺃﻫﺪﺍﻓﻬﺎ ، فكان أهل الفضل والزهاد ، لا يرغبون في مصاحبة الحاكم الجائر ، وقد سجل التاريخ ، الكثير من مثل هذه المواقف ، كتب المنصور الخليفة العباسي إلى الإمام جعفر الصادق : لم لا تغشانا : كما يغشانا سائر الناس ؟ فأجابه : ليس لنا ما نخافك من أجله ، ولا عندك من أمر الآخرة ما نرجوك له ، ولا أنت في نعمة فنهنيك ، ولا تراها نقمة ، فنعزيك بها ، فما : نصنع عندك ؟ فكتب إليه : تصحبنا ، لتنصحنا ، فأجابه : من أراد الدنيا لا ينصحك ، ومن أراد الآخرة لا يصحبك ". وقديماً قالوا : " في صحبة السلطان خطران : إن أطعته جازفت بدينك  وإن عصيته جازفت بنفسك ، والخير ألا تقربه ولا يقربك " ، نماذج آمنت بإله واحد لا شريك له، وأن الأمر كله بيده، فعاشت للحق وتمسكت به ، وصبرت عليه، وجاهدت الباطل ونهت عنه ، وتحملت تكاليفه برضا وطمأنينة لأنها تعلم حق العلم أن العطاء من الله كبير ، قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ﴾التوبة 111 .فكثير من علماء السلف الصالح من المسلمين ، كانوا من تلك النماذج الفذَّة، فكانوا في يقظة دائمة تجاه الحقوق والواجبات ، التي يتطلبها منهم الإسلام  فارتبط لديهم الفكر بالعمل ، والقول الصالح بالفعل الصادق، وضربوا أروع الأمثال في التلازم بين الفكر النظري والتطبيق العملي    يستوحون روح هذا الدين ، الذي يرسم الأفق الأعلى للحياة، ويطلب من معتنقيه ، أن يتجهوا إليه، ويحاولوا بلوغه، لا بأداء العبادات فحسب ، وإنما بالتطوع للقيام بما هو أعلى من العبادات وأشق منها، فاستحال الإسلام فيهم نماذج إنسانية تعيش، ووقائع عملية تتحقق وتترك آثارها في الحياة ، فكانت لهم مواقف من الحكام الذين بدر منهم الانحراف ، ودخلوا مداخل الظالمين ، نذكر منها : لما ولي ابن هبيرة العراق، في عهد يزيد بن عبد الملك استدعى الحسن البصري ، ومحمد بن سيرين والشعبي ، فقال لهم: إن يزيد خليفة الله استخلفه على عباده، وأخذ عليهم الميثاق بطاعته، وأخذ عهدًا بالسمع والطاعة، وقد ولاّني ما ترون فيكتب إليَّ بالأمر من أمره  فأنفذ ذلك الأمر فما ترون؟ فقال ابن سيرين والشعبي قولاً فيه تَقيَّة ، قال ابن هبيرة: ما تقول يا حسن؟ فقال: يا ابن هبيرة، خف الله في يزيد ، ولا تخف يزيد في الله! إن الله يمنعك من يزيد ، وإن يزيد لا يمنعك من الله، يا ابن هبيرة إن تعص الله ، فإنما جعل الله السلطان ناصرًا لدين الله وعباده، فلا تركبَنَّ دين الله وعباده لسلطان ، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

وجاء في ذم الإستبداد لجمال الدين الافغاني :   "ملعونٌ فى ديــــن الرحمن ، من يَسجن شعباً، من يخنق فكراً من يرفع سوطاً ، من يسكت رأياً من يبنى سجناً من يرفع رايات الطغيان  ملعون فى كل الأديان   من يًهْدِر حق الإنسان، حتى لو صلى أو زكى، أو عاش العمر مع القراَن ". ويقول الكواكبي في كتابه طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد : "إنَّ الاستبداد داءٌ أشدُّ وطأةً من الوباء، أكثر هولاً من الحريق، أعظمُ تخريباً من السّيل، أذلُّ للنفوس من السؤال. داءٌ إذا نزل بقومٍ سمعتْ أرواحُهم هاتف السماء ينادي القضاء القضاء والأرضَ تناجي ربّها بكشف البلاء. الاستبداد عهدٌ؛ أشقى الناسَ فيه العقلاء والأغنياء وأسعدهم بمَحْياهُ الجهلاء والفقراء، بل أسعدهم أولئك الذين يتعجّلون الموت فيحْسُدهم الأحياء." لمثل هذا فليعمل العاملون وفي ذلك فليتنافس المتنافسون .

 

تحذير الحكام من العنف

دَخَلَ عَائِذ بْنَ عَمْرٍو- وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ( إِنَّ شَرَّ الرِّعَاءِ الْحُطَمَةُ -  الحاكم الذي يضرب ، ولا يرحم رعيته من الناس، يسوق رعيته سوقًا شديدًا عنيفًا لا رفق فيه، شديد الطمع فيما في أيدي رعيته، لا يحرص على نفعهم ، بقدر ما يحرص على نفع نفسه ، ولو بظلم رعيته  وفي الحديث التحذير بقوله : (فَإِيَّاكَ أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ ) فَقَالَ لَهُ عبيد الله : اجْلِسْ فَإِنَّمَا أَنْتَ مِنْ نُخَالَةِ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ، أي لست من فضلاء الصحابة ، ولا من علمائهم ، بل أنت من سَقط الصحابة، وقد استعار النخالة ، وهي قشر الدقيق أي الحثالة ، لبيان مقصده. فَقَالَ: وَهَلْ كَانَتْ لَهُمْ نُخَالَةٌ؟ إِنَّمَا كَانَتِ النُّخَالَةُ بَعْدَهُمْ وَفِي غَيْرِهِمْ ) . أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن الحسن البصري .  هذا الحديث ، يبيّن لنا ما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من النصيحة لأئمة المسلمين، هذه القصة التي ذكرها الحسن البصري ، لعائذ بن عمرو، في دخوله على عبيد الله بن زياد، رُوِيت على أوجه متعددة تبين المنهج القويم الذي كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتّبعونه في موعظة الأمراء والسلاطين وتوجيههم إلى ما فيه صلاح الأمة والأئمة. وفي إحدى روايات هذا الحديث عند الطبراني، يقول الحسن البصري: قدم علينا عبيد الله بن زياد أميرًا أمَّره معاوية ، فقدم غلامٌ سفيهٌ ، حَدَثُ السن ، يسفك الدماء سفكًا شديدًا ، قال: وفينا عبد الله بن مُغَفَّل المزني صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم   وكان أحد العشرة الذين بعثهم عمر بن الخطاب ، ليعلموا أهل البصرة، فدخل عبدُ الله بن مغفل على الأمير عبيد الله بن زياد في داره   في يوم الجمعة، فقال له: انْتَهِ عمّا أراك تصنع   فإن شر الرِّعاء الحُطَمة، فقال: وما أنت إلاّ من حُثالة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وهل كانت فيهم حثالة، لا أمّ لك! كانوا أهل بيوتات وشرف ممّن كانوا منهم، أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يبيت إمامٌ غاشٌ لرعيّته ليلةً إلاّ حرّم الله عزّ وجل عليه الجنّة" فخرج - عبد الله بن مغفل حتى أتى المسجد، فجلس فيه ونحن قعود حوله، ونحن نعرف في وجهه ما قد لقي منه، فقلنا: يغفر الله لك يا أبا زياد، ما كنت تصنع بكلام هذا السفيه على رؤوس الناس؟ فقال: إنه كان عندي خفي من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأحببت ألاّ أموت حتى أقوم علانيته، فوددتُ أن داره وسعتْ أهل البصرة ، فاجتمعوا فيها ، حتى يسمعوا مقالتي ومقالته.

من هنا نرى أن رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، توافقا على نصْح هذا الأمير السفيه، ولم يكتف عبد الله بن مغفل بكون أخيه عائذ بن عمرو ، قد قام بنصح هذا الأمير السفيه، إنما قام عبد الله أيضًا ناصحًا مشيرًا ومبينًا واجب الإمام، ومبينًا أن الذي يبيت غاشًا لرعيته حرم الله عليه الجنة.

هذا هو منهج الصحابة في نصيحة هؤلاء الأمراء الجورة ، فقد كان عبد الله بن مغفل وعائذ بن عمرو ، على تمام الوعي برسالتهما  وردَّا على هذا الأمير ، هذه الإهانة لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبيَّنا أن هؤلاء القوم ، لم تكن فيهم نُخالة، وأن جيل الصحابة لم يكن فيه من يُعَد سقطًا، فكلهم كانوا أئمةً عدولاً ، إنما كان السقط فيمن جاء بعدهم . 

ترى لو أن كل ذي رأي ومكانة ، وقف من الظالمين المنحرفين ، ما وقفه هذا النفر من الصحابه ، أما كانت الأمة تنعم بحكم عادل ورفاهية شاملة ، ولو أن الناس لم يتملقوا الحاكمين ، ولم يسمعوهم كلمات الثناء الكاذب والمديح الباطل  أكان يجد الطغاة ما يزيدهم طغياناً واستخفافاً بإرادة الأمة وكرامتها ؟ 

إن الهدي النبوي ، يبين لنا أن من واجب الإمام ، أخذ الناس بالرفق ، وعدم سوقهم بالعنف . وقد أخرج البخاري عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: ( يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ". وفي رواية مسلم: "يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لاَ يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ  وَمَا لاَ يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ ) . وأعظم ما يكون الرفق سُمُوًّا ، حين يكون من الراعي على الرعية ، أما حينما يكون الراعي حُطَمَةً عنيفًا شديدَ السَّوْق للرعية ، حريصًا على ما في أيدي الناس، طامعًا فيما في أيدي رعيته، هذه الشدة في رعاية الناس  وفي رعاية مصالح الناس، لا بد أن تعود على الأمة بالخذلان والخسران   فالقائدُ عندما يفرض على الأمة ألاَّ تسمعَ إلاّ له ، وألاّ تسير إلا خلفه ، ويمنعها أن تبدي آراءَها، وحين يسلب حريَّتَها وكرامتَها، وحين يبيع قضاياها الكبرى رخيصةً لعدوها، وحين يفرض عليها أن تسير هذا السَّيْر الشديد   الذي يؤلمها ويتعبها، وحين يرى أنه لا يستتب أمرُه إلاّ بقهرها؛ عندها لا بد للأمة أن تفكر في التخلص منه، وربما أدّى ذلك للفوضى واختلال الأمور والنظام، الذي تتجرع الأمة مرارته. لأنه الاستبداد بعينه ، الذي يؤدى إلى تفرق الأمة ، بحيث تميل النفوس الضعيفة ، إلى متابعة الحاكم العنيف ، حتى تنجو من قسوته  وحتى تحظى بالخير الذي يمكن أن يقدمه إليها  ومن ثمَّ تتحول الأمة إلى مجموعات متناحرة  مجموعة قريبة من هذا الراعي الحطمة ، يحطم بها الناس، ومجموعة أخرى مستضعفة ترى نجاتها في غير هذا الطريق ، وهذه الحالة لا يمكن أن تستقيم معها أمور الأمة . لقد سجل التاريخ سيرة كثير من الأمراء ، الذين ساقوا الأمّة بأهوائهم وآرائهم ، غير عابئين بالرفق بالرّعية ، أو بأخذها إلى ما فيه صلاح حالها ، وكم سجل  من حالات السمو التي مرت بها الأمة في تاريخها الطويل، حين يرزقها الله راعيًا رفيقًا يأخذ بيدها؛ إلى العزة والمجد ، روى مسلم عَنْ عَائِشَةَ أن رسول الله ع قال : ( اللَّهُمَّ مَنْ رَفَقَ بِأُمَّتِي فَارْفُقْ بِهِ وَمَنْ شَقَّ عَلَيْهِمْ فَشُقَّ عَلَيْهِ ) . ولهذا كان عمر بن عبد العزيز يأخذ الرعية بالرفق   ولما أرْسَل إليه اثنان من ولاته وأمرائه يقولان: نرى أن الناس لا يصلحهم إلاّ السيف، فكتب إليهما: خبيثين -من الخبث-ورديئين- من الرديء- أتعرضان لي بدماء المسلمين، والله لَدَمُكُما أهون عليَّ من دماء المسلمين ، بل إنه عيَّن أميرًا على الموصل ، فرأى كثرة السُّرَّاق بها   فكتب إلى عمر يقول: هل آخذهم بالظِّنَّة   وأضربهم على التهمة، أم آخذهم بالبينة ، وما جرت عليه السُّنَّة؟ فكتب إليه : خذ الناس بالبينة ، وما جرت عليه السنة، فإن لم يصلحهم الحق ، فلا أصلحهم الله . ولما فعل الوالي ذلك ، قال : فما خرجت من الموصل   حتى كانت من أصلح البلاد  وأقلها سرقًا ونهبًا ، إننا اليوم في أمسِّ الحاجة لأمراء رفقاء لا يعنفون الناس، ولا يحطمون الناس، ولا يسوقون الناس السوق الشديد، بل يأخذون الناس بالرفق إلى ما فيه صالح البلاد والعباد. نعم إن الناس في حاجة إلى كنف رحيم، وإلى رعاية فائقة، وإلى ود يسعهم، وحِلْمٍ لا يضيق بجهلهم وضعفهم ونقصهم ، في حاجة إلى من  يعطيهم، ولا يحتاج منهم إلى عطاء، في حاجة إلى من يجدون عنده الاهتمام والرعاية ، هكذا كان قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهكذا كانت حياته مع الناس ، ما غضب لنفسه قط   ولا ضاق صدره بضعفهم ، فقال صلى الله عليه وسلم : ( اللهمَّ مَن وَلِيَ من أمرِ أُمَّتي شيئًا فشقَّ عليهم؛ فاشقُق عليه، ومَن وليَ من أَمْرِ أُمَّتي شيئًا فرفق بهم؛  فارفُق به) صحيح مسلم . فعلى من يلي أمور المسلمين ، أن يعمل على جلب ما فيه النفع لهم  ودفع ما فيه الضرر ، والأخذ على أيدي الفاسدين المفسدين ، لمنع شرورهم، وحماية الأمة من فسادهم عن مَعقِل بن يَسار قال: سمعت رسول الله  صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من أميرٍ يَلِي أمر المسلمين، ثم لا يجهد لهم وينصح، إلا لم يدخل معهم الجنة) أخرجه مسلم.

 

 

 

 

 

ثمرات فعل المعروف

إن فعل المعروف عبادة وقُربة يتراوح حكمها بين الواجب والمندوب، وقد يؤدي الامتناع عن بذل المعروف لأهله إلى الهلاك ، والوقوع في الإثم، إنه أمرٌ رباني وسنةٌ نبوية ، جاء في الحديث القدسي الذي رواه مسلم : (يا بن آدم، استَطعمتُك فلم تطعمني! فيقول: يا رب وكيف أطعمُك وأنت رب العالمين؟! فيقول: ألم تعلم أن عبدي فلانًا استطعمَك فلم تُطعمْه  أما لو أنك أطعمتَه لوجدتَ ذلك عندي) . وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ( يا رسول الله أي الناس أحب إلى الله ، وأي الأعمال أحب إلى الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (أحب الناس إلى الله عز وجل أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله ، سرور تدخله على مسلم, أو تكشف عنه كربة, أو تقضي عنه ديناً, أو تطرد عنه جوعاً، ولأن أمشي مع أخ لي في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد شهراً - مسجد المدينة - ومن كف غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غضبه ، ولو شاء أن يمضيه أمضاه ، ملأ الله قلبه رخاء يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه في حاجة ، حتى تتهيأ له ثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام) رواه ابن أبي الدنيا في قضاء الحوائج  وحسّن الألباني إسناده في السلسلة الصحيحة . وأعظم ثمرة ينالها فاعل الخير ، مغفرة الذنوب ، ودخول الجنة، إذا نوى بها العبد ابتغاء وجه الله تعالى ، والتقرب إليه ، وطلب ثوابه والنجاة من عذابه ، روى البخاري عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( تلقت الملائكة روح رجل ممن كان قبلكم ، فقالوا: أعملت من الخير شيئاً ؟ قال: لا. قالوا : تذكر  قال : كنت أداين الناس ، فآمر فتياني أن ينظروا المعسر   ويتجوزوا عن الموسر، قال: قال الله: عز وجل تجوزوا عنه )  وفي رواية مسلم:( فقال الله أنا أحق بذا منك تجاوزوا عن عبدي ) .

إن المصائب التي يعاني منها المسلمون ، سببها البعد عن منهج الله ، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . لذا فإن الدين الإسلامي يريد رجالاً ، يعملون لإقامة حكم الله في الأرض رجالاً يخدمون الإسلام بإخلاص وتفانٍ     رجالاً باذلين للمعروف في السرَّاء والضرَّاء، يريد رجالاً نذروا أنفسهم لله، ولخدمة أمتهم ؛ رجالاً يتأدَّبُوا بآداب الإسلام وقِيَمه، ويأئتمروا بأوامر الله وإرشاداته، رجالاً يحس الغني بحاجة الفقير  ويتألَّم الصحيح بألم المريض، ويتوجع المعافى بوجع المبتلى ، رجالاً إذا داهم عدوُّهم بلداً  من بلاد الإسلام، أو دارًا من دياره، جاهدوا بأموالهم وأنفسهم لرد العدوان ، ونصرة المظلوم  وإعانة المنكوب، ولا يريد رجالاً لا يهتمون بما يعاني المسلمون ، لا يريد رجالاً ماتت ضمائرهم وتبلَّدت مشاعرهم ، وخمدت نار الغيرة عندهم ، لا يريد رجالاً قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : (من لم يهتم بأمر المسلمين  فليس منهم ) .

يريد رجالاً  كما كان السلف ، يسارعون إلى مرضاة الله ، والاستقامة على طاعته، وبذل المعروف ، وصلة الأرحام، فهذا أبو بكر الصديق حين ولي الخلافة ، كان يأتي بيتاً في عوالي المدينة ، تسكنه عجوز عمياء، فينضج لها طعامها، ويكنس لها بيتها، وهي لا تعلم من هو، وقد ضرب علماء السلف والفقهاء  الأمثلة الرائعة في بذل المعروف ، والمواساة في الأزمات، فالمؤمن رحيم رقيق القلب محب للخير ساعٍ لبذل المعروف يشعر بآلام إخوانه ويتلمس حاجاتهم وهذا الإحساس نابع من إلتزامه بدينه دين الرحمة فعلى قّدْرِ الإيمان تكون المواساة والمواساة للمؤمنين تكون بالمال ،أو بالجاه ، أو الخدمة ، أو بالنصيحة والإرشاد وتقديم العون ، او بالدعاء والإستغفار ،وأقلها التوجع لهم ولمصابهم , فكم من بلية انجى الله منها ناساً ، بسبب معروف بذلتَه، أو هم فرجتَه، أو حاجة قضتها، أو محنة أزاحتَها ؟ قرأت قصةً لامرأة سافر ولدها ، وقد قعدت يومًا تأكل ، وليس أمامها إلا لقمة إدام  وقطعة خبز ، فجاء سائل ، فأعطته إياها  وباتت جائعة ، فلما جاء الولد من سفره   جعل يحدثها بما رأى في سفره ، قال : ومن أعجب ما مرَّ بي : أنه لحقني أسد في الطريق  وكنت وحدي ، فهربت منه ، فوثب علي    وما شعرت إلا وقد صرت في فمه ، وإذا برجل عليه ثياب بيض ، يظهر أمامي ، فيخلصني منه  ويقول : لقمة بلقمة ، ولم أفهم مراده  فسألته أمه عن وقت هذا الحادث ، وإذا هو في اليوم الذي تصدقت فيه على الفقير ، نزعت اللقمة من فمها لتنفقها في سبيل الله ، فنُزِع ولدُها من فم الأسد"  

من يفعل الخير لا يعدم جوازيه   لا يذهب العرف بين الله والناس

أروي لكم قصة اشتُهِرت بين الناس ، أجد  في سردها عبرة ، رواها أحد الدعاة على لسان حاج جزائري رأى في منامه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو يقول له : اذهب إلى فلان -وذكر اسمه - في مدينة كذا، بالجزائر -وذكر اسم المدينة - وأخْبرْه بأن رسول الله يبشرّك بالجنة ، كتم الأمر ليكون بينه وبين نفسه    ولكن الرؤيا تكررت ، في الليلة الثانية ثم في الليلة الثالثة وهو في منى ، عندها قرر الحاج أن يعرض ما رآه في منامه على بعض أهل العلم في مكة المكرمة، فنصحوه بأن هذه الرؤيا ،إنما هي أمانة، ويجب عليه أن يبلغها لصاحبها فور عودته إلى الجزائر ، ولما عاد ، ذهب إلى مدينة الرجل الذي بشره رسول الله صلى الله عليه وسلم بجنة الرضوان، وسأل الناس عمن   يعرفه ويدله على مقر سكناه؛ وكانت المفاجأة الأولى أن أول من ألقى سؤاله عليه على صلة وطيدة بالرجل الذي يبحث عنه، فدله على عنوان بيته، لكن أهل البيت أخبروه بأنه في المقهى القريب من المنزل ، يلعب الورق  ويسمر مع بعض ندمائه وأصحابه، فقال في نفسه: رجل يبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم بجنة الخلد ، وهو يلعب الورق في المقهى   وبعد تفكير ، عزم على تبليغ الأمانة لصاحبها   كما طُلب منه ، وتذكر بعض الآيات القرآنية   التي ترشد إلى أن الاكتفاء بالحكم على المظاهر     خطأ فاحش؛ فأهل النار عندما دخلوها صرخوا متسائلين كما قص علينا القرآن: ﴿ وقالوا ما لنا لا نرى رجالًا كنّا نَعُدُّهم من الأشرار. أتخذناهم سخريا أم زاغت عنهم الأبصار ﴾ص 62 .  

كما أخبرنا الله عز وجلّ بأن أمر الجنة والنار والجزاء والعقاب يعود إليه سبحانه، كما في قال تعالى :﴿ ثُمَّ لنحن أعلمُ بالذين هم أولى بها صليًا ﴾ مريم70 ، ثم دخل الحاج المقهى ، وسأل صاحبها عن الرجل  فقال له : هو ذاك الذي يجلس إلى الطاولة الذي يرتدي القميص الأزرق ، اقترب منه الحاج، وناداه: فلان، من فضلك أريدك لبضع دقائق ، وقف الرجل بعد أن استأذن رفاقه ، ثم انتحى به الحاج جانبًا، وبعد التأكد من هويته قال له: إنني أحمل إليك أمانة عظيمة، ولكنني قبل أن أفصح لك عنها، أريد منك أن تدلني على السر الذي بينك وبين الله ، ظهر الارتباك على الرجل ، غير أنه أصرّ على معرفة الأمانة أولًا!! ومع التعجّل والإلحاح قال له الحاج : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرئك السلام ويبشرّك بالجنة ، ثمّ روى له القصة من أولها ، فباح بالسر لهذا الحاج الأمين؛ وأخبره بأنه تنازل عن راتب تقاعده كله  لأرملة وأولادها ليس لهم معيل ولا كفيل! وجعل ذلك العمل بينه وبين خالقه، ليكون له ذخرًا عند ربه يوم لا ينفع المرءَ إلاّ ما قدم من خير وعمل صالح ، بيد أن بشرى ثمار عمله الصالح ، زُفّت له وهو لا يزال يكدح إلى ربه في هذه الدار الفانية ". وصدق رسول الله ص القائل : ( الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله ) رواه البخاري ومسلم ، يقول الحاج أن الرجل لم يدخل المقهى منذ تلك اللحظة ، وداوم بعد ذلك على صلاة الجماعة، إلى حين وفاته " .

إن البشرى بما يترتب على الصدقة وإغاثة الملهوف ، والمسارعة بالخيرات، قد تُعجّل لبعض الناس في الدنيا ، فيلمسون أثر ذلك في   حياتهم، قبل مماتهم .

 اجتمع الناس عند سفيان بن عيينة بمكة   فقال لرجل : حدث الناس بحديث الحية . فقال : خرج رجل يتصيد ، فخرجت حية من بين قوائم شعب دابته ، فقامت على ذنبها ثم قالت : أجرني أجارك الله . قال لها : فمن أنت ؟ قالت : من أهل شهادة أن لا إله إلا الله . قال : وممن أجيرك ؟ قالت : من هذا الذي خلفك ، إن قدر علي قطعني إربا إربا . قال : وأين أخبئك ؟ قالت : في بطنك . ففتح فاه  فدخلت في بطنه ، فإذا رجل قد أقبل ، على عنقه حديدة ، فقال : يا عبد الله ، حية خرجت من قوائم دابتك ؟ قال : ما رأيت شيئا . قال : ما أعجب ما تقول ! قال : ما رأيت شيئا . فولى الرجل ، فقالت له : ترى شخصه ؟ ترى سواده ؟ قال لها : لا . قالت : فاختر مني خصلة من اثنين ؛ إما أن أثقب فؤادك فأقتلك ، أو أفتت كبدك . قال : ما كافأتيني . قالت : ولم تصنع المعروف إلى من لا تعرف ؟ أما علمت بعداوتي لأبيك قبل ؟ قال : فجاء الرجل إلى سفح جبل ، فإذا هو برجل قائم لم ير شيء أحسن منه ، ولا أطيب رائحة منه ، ولا أنظف ثوبا ، فقال : ما لي أراك هكذا ؟ فحدثه بحديث الحية . فدفع إليه شيئا ، فقال : كل هذا . فأكله فاختلجت شفتاه ، ثم دفع إليه شيئا آخر فقال : كل هذا . فأكله فرمى بها قطعا ، فقال : من أنت يرحمك الله ؟ قال : أنا المعروف . ثم غاب عن بصره " حلية الأولياء . إن فعل الخير أمره عظيم، وثوابه جزيل، ينجي الله به من العقوبات، ويدفع الله به المكروهات ، أخرج الطبراني في الكبير بإسناد حسن عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( صنائع المعروف تقي مصارع السوء ، وصدقة السر تطفئ غضب الرب  وصلة الرحم ، تزيد في العمر ) حسن إسناده المنذري في الترغيب .

 

 

مصير الطغاة في القرآن

جاء القصص القرآني ليثبت قلوب المؤمنين حينما يروا عاقبة المؤمنين ، وعواقب الظالمين ﴿وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك﴾ وجاء لأخذ العبرة والاستفادة ﴿ لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ﴾. ومن القصص التي ذكرها الله في كتابه قصة موسى وفرعون التي تدور حول موضوع خطير ، تعيشه أمة الإسلام ، بين الحين والآخر ، وهو موضوع الاستضعاف ، فقد حدثنا عن ظلمه وبطشه   ليبقى رمزا للظلم والفساد والاستبداد ، ورمزا للطغيان ، في كل مكان وزمان، فلا فرق بين طغيان اليوم والأمس ، إلا في الوسائل والآلات     تحدث القرآن عن أمة مستضعفة ذليلة، وسلطة ظالمة متجبرة ، تسومها ألوان القهر وصنوف العذاب ، متمثلة في فرعون وحكومته الطاغية ونظامه الذي أذل الأنفاس، وحطم الآمال وأضاع الأموال، وملأ النفوس باليأس القاتل فترة حكمه الطويل ﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ ﴾ كان من أعظم الأسباب الباعثة على الطغيان، الحكم والسياسة، ولذلك ذكر الله في القرآن ، الملك النمرود ، الذي طغى وادعى الربوبية، وحكى عن فرعون الذي برر فجوره وعلوه في الأرض فقال : ﴿أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾الزخرف51 .فقد كان الباعث على الطغيان ، غفلة الناس عن حقوقهم  وقبولهم الظلم ، لأن الشعوب إذا استمرأت الظلم ، ورضيت بالهوان ، وغلب عليها الخوف؛ شجعت الطاغية على الاستمرار في البغي، فسكوت قوم موسى وقبولهم استبداد فرعون ، وبطانته الخاصة، الذين كانوا يقلبون الحقائق ، جرأه عليهم﴿ فاستخفّ قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين ﴾الزخرف 54 . إن كل طاغية ومستبد على مدار التاريخ ، له بطانته، من الإعلاميين والشعراء الذين يبيعون دينهم بعرض زائل من حطام الدنيا ، فهذا أبوالعتاهية الشاعر الذي رفع مقام الخليفة المأمون ، إلى مقام غير مقبول ، عندما قال له:

أتته الخلافة منقادةً   إلـــيــه تجــــرر أذيـــالهـــــا

فلم تك تصلح إلا له  ولم يك يصلح إلا لها

ولو رامها أحد غيره    لزلزلت الأرض زلزالها

وهذا ابن هانئ الشاعر الأندلسي ، الذي تجاوز أبا العتاهية ، عندما مدح المعز لدين الله الفاطمي، الذي أسهم في استجلاب الصليبيين إلى مصر والشام فقال:

ما شئت لا ما شاءت الأقدار  فاحكم فأنت الواحد القهار

وكــــأنمـــا أنت النــبي محـــمد        وكأنما أنصارك الأنصار

أنت الذي كانت تبشرنا به  في كتبها الأحبار والأخبار

وفي العصر الحاضر، استجدت للطغاة وسائل أقوى من الشعر، تتمثل في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، وشبكات الإنترنت والقنوات الفضائية، حيث حشدوا لها من المرتزقة الإعلاميين ، الذين يحولون بكذبهم الحق باطلا ، والباطل حقا .

إن من أبرز صور الطغيان قديما وحديثا، ظلم الناس، وسلب مقدراتهم وإراداتهم ، وكم عانت الشعوب المستضعفة المقهورة ، من ظلم الطغاة وجورهم وتجبرّهم ، كان فرعون يكرس نموذجا للظالم الباغي الحريص على ملكه، وهو ما يمارسه الطغاة في كل عصر ، فتشابهت قلوب الطغاة الأوائل والمعاصرين ، وفي سبيل الوصول إلى الحكم ، يقتل الشعب ، ويسلط عليهم المرتزقة من شرار الخلق.

فالطغاة – على مرّ التاريخ - يفرضون آرائهم وأهوائهم على أقوامهم، ويجعلونها عليهم قوانين إلزامية، ويجبرونهم على قبولها والانقياد لها   ويصادرون حرِّياتهم ، وحقوقهم المشْروعة في الاختيار والقبول والرَّفض؛ فعليهم ألا يعتقدوا ويعتنقوا إلا ما يعتقد ويعتنق, ومن سوّلت له نفسه أن يخالف أو يرفض ، يستخدمون معه أبشع أساليب القمع والتنكيل ، والعجيب أنهم يصورون أنفسهم  ،كأنهم أصحاب الحق ، وأن غيرهم مفسد في الأرض .

إن الأمة تعاني من ظاهرة القهر والإذلال ، وتقريب من بيدهم الأمر لأهل الباطل، وإبعاد الناصحين بالحق ، مما أوجد بيئة لا يستطيع الناس فيها أن يعبروا عما تمليه عليهم عقيدتهم ، ومنهج ربهم   دون أن يمسهم أذى ، أو ينالهم اضطهاد ، وإن معظم أقطار العالم الإسلامي ، قد ابتليت بهذه  الفرعونية التي عناها الشاعر بقوله:

أغاروا على الحكم في ليلة   ففر الصباح ولم يرجع!

لهذا كرهتهم القلوب ، ودعت عليهم الشعوب  وأصبحت تترقب يوم الخلاص منهم ، لأنهم يقربون أهل الثقة عندهم ، على أهل الكفاية والخبرة وأصحاب الخلق والدين ، كما أوكلوا الأمر إلى غير أهله ، مما أدى إلى الفساد الإداري والمالي ، الأمر أدى إلى شيوع ألوان النهب والسرقات ، وانتشار الرشوة ، كما فسدت الأخلاق ، فأصبحنا نعاني من النفاق والجبن ، والذل والخنوع، وهي من الرذائل التي تقتل العزة في الأنفس، والشجاعة في القلوب، وتميت الرجولة في الشباب،  الذين تودع منه مصداقاً لقوله صلى الله وسلم : ( إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم، يا ظالم فقد تودع منهم )  فكيف إذا كان الاستبداد يلقنها كل يوم أن تقول للظالم: أيها البطل ، أيها المنقذ العظيم؟   استبداد يتغاضى عن المجرم والمنحرف ، يظله ويستره، شعاره من ليس معنا فهو علينا .

إنه لا بد لكل طاغية من نهاية ، والقرآنُ يُحدثنا أنَّ سقوطَ الأمم وهلاكَ المجتمعات ، يبدأ حين يتسلمُ المسئوليةَ المترَفين أو الظَّلَمة، أو الطُّغاة ، فيستبدُّوا بالأمر، ويستخدموا أقصى وأقسى درجاتِ القَسْوة والطَّيْش ، لِصَدّ قومِهم عن الحقِّ أو الدعوةِ إليه يُردِّدون مقالةَ فرعون: ﴿ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ 29غافر . إننا ونحن نواجه الطغيان السافر ، المتجرد من القيم والأخلاق الإنسانية ، والمخالف لجميع القوانين الدولية علينا أن نتذكر سنة الله ، في الطغاة والمستكبرين ، وكيف كان مصيرهم ، فسنته في الطاغين واحدة ، فقد أهلك الله كثيرا من الطغاة ، وجعلهم عبرة لغيرهم  ،كما حصل لفرعون وجنوده ، ولكن الطغاة لا يعتبرون بمصائر الطغاة قبلهم ، ويتصور بعض الناس  أن الطاغية قد يفلت من العقاب ، لما يرونه من ميتة بعض الطغاة ميتة طبيعية. والأمر المؤكد الذي يجب أن يستقر في النفوس ، أن الطاغية لن ينجو من عقاب الله ، مهما تأخرت العقوبة، وقد يموت الطاغية موتا طبيعيا ، فهذا لا يعني نجاته ، لأن الله بين أن عاقبة الطاغين شر عاقبة فقال سبحانه ﴿ هذا وإن للطاغين لشر مآب﴾ص5 ، وقد ذكر الله سبحانه ، قصة أصحاب الأخدود ، ونهايتهم المؤسفة على يد الطغاة ، ففي حساب الأرض ، يبدو أن الطغيان قد انتصر على الإيمان ، لأن النصوص القرآنية ،لم تذكر أن الله قد أخذ أولئك الطغاة في الأرض ، بجريمتهم البشعة ، كما أخذ قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم شعيب وقوم لوط وفرعون وجنوده  ،كما كان يأخذ المكذبين والطغاة ، ولكن الجزاء الأخير سيكون عنده سبحانه: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ﴾البروج 10 . وقال سبحانه ﴿ وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ﴾إبراهيم   42 . إن الشر مهما استعلا  وطغى وبغى ، فلا بد له من نهاية مريرة . والطغاة قد تخدعهم قوتهم  وسطوتهم المادية ، فينسون قوة الله وجبروته  فيهلكهم الله عز وجل . والبغي إذا تمرد وتكبر  فإنه يهلك نفسه بنفسه ، فيهيئ الله المستضعفين ، المعتدى عليهم أن يسحقوا هذا الباطل ، كما حكى الله عن بني إسرائيل : ﴿ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ﴾ القصص5 . وهنا يذكر سيد قطب كلاماً جميلاً قائلاً :" إنه حين كان بنو إسرائيل يؤدون ضريبة الذل لفرعون  وهو يقتل أبناءهم ، ويستحي نساءهم ،لم تتدخل يد القدرة لإدارة المعركة ، فهم لم يكونوا يؤدون هذه الضريبة إلا ذلاً واستكانة وخوفاً  فأما حين استعلن الإيمان ، في قلوب الذين آمنوا بموسى ، واستعدوا لاحتمال التعذيب  وهم مرفوعو الرؤوس ، يجهرون بكلمة الإيمان في وجه فرعون ، دون تلجلج ودون تحرج  ودون اتقاء للتعذيب . فأما عند ذلك فقد تدخلت يد القدرة لإدارة المعركة. وإعلان النصر الذي تم قبل ذلك في الأرواح والقلوب . فدلت هذه على أنه حين يستعلي الشر والفساد  ويقف الخير عاجزاً ، لا يستطيع دفع صائل الطغيان والتجبر ، فإن الله يهيء سببا يهلك به هذا الطاغية : ﴿ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ، إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَاد ﴾الفجر13. فهذا مصير كل طاغية ، فالله سبحانه يرصد عمل الطاغية  حتى يجازيه ، فالله عز وجل راصد ، لا يفوته شيء . مطلع على تمرد الطاغية وتسلطه . فليطمئن قلب المؤمن ، فإن الله معه راصد للطغيان والشر والفساد ، وليس العذاب فقط عذاب أخروي ، بل هو دنيوي أيضاً كما قال الله تعالى : ﴿ فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى ﴾ وإن كان نكال الآخرة ، هو النكال الحقيقي ، الأشد والأبقى ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى ﴾ إنها سنة الله في الطغاة . ولا يدرك هذا إلا من يخشى الله عز وجل ، ويدرك أن سنة الله مع الطغاة   يمهلهم في غيهم وطغيانهم ﴿ وَكَأَيِّنْ مَنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴾الحج 48  فالله يستدرج الطغاة ليزدادوا إثماً ﴿ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ ، وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ﴾القلم 44 ، فالله سبحانه وتعالى يمهل لهؤلاء الطغاة ويمدهم بأسباب القوة ، والقدرة على الحرب كيداً ومكراً بهم ، لا حباً لهم ونصراً ، ثم يأخذهم على حين غرة ، ثبت في الحديث  :( إن الله تعالى ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته  ). إنها مسألة وقت ﴿ ولكنكم تستعجلون ﴾ .

 

فتنة الاقتتال

لقد شُرع القتال في الإسلام ،  لمقاصد عظيمة لم يكن منها إراقة الدماء أو إزهاق الأرواح  لأنه شعيرة مرتبطة بمقاصدها، معللة بأحكامها،فمتى  انتفت تلك  المقاصد والمصالح الشرعية ، التي شرع القتال لأجلها ، عُدَّ القتال  ضرباً من المفسدة المنهي عنه .

إن فتنة الاقتتال الداخلي ، صُنِعت بذورها في مصانع غربية، وزرعت في بلاد المسلمين  لتحصد أرواحهم وتوجد بينهم قاتلاً ومقتولاً  وكأنهم لم يفقهوا  قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ﴾ النساء 93. هذا التوجيه الإلهي فيه تحذير للمسلمين الواقعين في فتنة الاقتتال ، من المهلكات التي ذُكرت في الآية      ولما جاء في الأحاديث التي تنهى عن ذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم : ( سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر )أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد . وقد اختلف العلماء في موقف المسلم عند الفتن، فذهب جمهور الصحابة  والتابعين إلى وجوب نصر الحق ، وقتال الباغين ، قال النووي : أنه مذهب عامة علماء الإسلام  استدلوا بقوله تعالى: ﴿ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ﴾ الحجرات 9 وهذا هو الصحيح وقال : لو كان كما قال القائلون بعدم قتالهم  لظهر الفساد ، واستطال أهل البغي والمبطلون ومن أهل البغي من  يقاتل المسلمين ، ويقف بصف عدوهم، ويستحل دماءهم، وأرضهم ليتسلط عليهم عدوهم، فهذا يجب قتاله وقتله بإجماع المسلمين ، وقد حرّم الإسلام  إعانة الخارجين عن  منهج الله ، ومن يساعد أعداء المسلمين بالأنفس والأموال ، وأوجب عليهم الامتناع من ذلك بأي طريق ، ونحن أحوج ما يكون لذلك ، في الوقت الذي أصبحت فيه  بلاد المسلمين مفتوحة، نهباً لكل طامع   وساحةً لكل متآمر ، وتحولت إلى ساحاتٍ للاقتتال الداخلي ، وحلبة للصراع الدولي، حتى ينال المتآمرون أهدافهم ، ويقطفون ثمار هذه الفتنة ، بمزيد من الهيمنة ، وبسط السيطرة  ونهب ثروات الأمة ، والمتقاتلون هم الخاسرون والضحايا هم المسلمون ، وفي ظل هذه الفتنة هدرت الدماء، وضربت الممتلكات، وقهرت الشعوب ، مما أدى  إلى مزيد من التأزم السياسي ، والتقاتل ، وسفك الدماء  والانتقام ورد الانتقام إلى الحد الذي لا يعلم مداه إلا الله

أما الحديث عن الفتن والملاحم فهي عنوان   يتناول جانبا مهما من الحياة الإسلامية، الذي يتحدّث عن مصائب وبلايا تحدث في دين المسلمين ودنياهم، وفي أماكن وأزمنة متباينة كما يتناول بشائر بحفظ الدين وتمكينه ومنازلات ومعارك بين الأمة الإسلامية ، وسائر أمم الأرض ، والفتنة هي: قتال المسلمين بعضهم، أما الملاحم قتالهم الكفار ، وقد تناول القرآن الكريم ، موضوع الفتنة ، وقد بين الله تعالى بواعث الفتنة ومبادئها: ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ﴾آل عمران 7 ، فأهل الفتنة يحرفون النصوص ، ويؤولونها على غير أوجهها الصحيحة ، لتحقيق مآربهم الشخصية وأغراضهم الذاتية ، وقد فضح الله أمر أهل الفتنة ، ورجالها المروجين لها في المجتمع الإسلامي فقال تعالى: ﴿ سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُبِيناً ﴾النساء 91 ، والآية وصف دقيق لدخيلة أهل الفتن ، من ذوي المواقف المتقلبة والولاءات المتباينة، ممن يريد أرضاء أصحاب كل ملة ، ودعاة كل نحلة ، بموافقتهم على ما عندهم، كي ينال من خيرهم ، ويأمن من شرهم ، حتى ولو أدى إلى الفتنة في الدين أو الدنيا ، ولذلك حذّر الله من شر الفتنة فقال تعالى : ﴿ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾الأنفال 25   كما أمر الله بالقتال لمنع الفتنة: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾البقرة 193 فمن يزعم أن أفضل موقف في الفتن أي كان نوعها هو الحياد، يكون قد خالف الهدي الرباني في هذه الآية الكريمة ، وخالف مواقف سلفنا الصالح ، الذين  كانوا يتصدون لحملات دول الكفر بالرجوع أولا إلى الله لأنهم يعلمون أن سبب تسليط العدو عليهم هو الابتعاد عن الله   وحال المسلمين اليوم، من الشتات والضياع وما نشب بينهم من فتن وبغضاء وعداوة ، هي من جراء اقترافهم للذنوب والآثام ، والسماح لإفشائها ونشرها ، وهذا ما سبب مقت الله وغضبه ، وأليم عقابه ، مما يدعونا لأن ننتبه لما يدور من حولنا من أحداث ، والتي هي من جراء ما يصنعه أعداء الإسلام ، من وسائل وأجهزة ، أزالت عقول كثير من الناس ، فضلوا بها وأضلوا كثيراً ، ممن جهلوا عن نوايا أصحابها من نشر للفساد، والله لا يحب المفسدين.

إن الواقع الذي تعاني منه أمتنا  هي بفعل ما تصنعه هذه الأيدي الخبيثة ، والتي سهلت لها هذه الوسائل ، نشر الفساد ونقله ، فكان من الواجب على الأمة ، أن لا تغفل عن كيد المتآمرين على المسلمين ، ويحاولوا إفشال مخططاتهم الهادفة للقضاء على شوكة المسلمين وإثارة الفتن بينهم ، وذلك بدعوة المسلمين إلى التمسك بحبل الله والاعتصام به ، والابتعاد عن  الفرقة والتنازع ، الذي يؤول للفتنة ، حتى لا يكون مصيرهم كمصير الذين ذكرهم القرآن : ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ﴾الأعراف 175.

إن من أعظم دروس هذه الفتن ، هو أن الله تعالى ليس بتارك أحداً قال آمنت ، حتى يمر على قالب الفتنة ، ليميز الخبيث من الطيب  والمؤمن من المنافق ، والصالح من الطالح والصادق من الكاذب. ﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ﴾العنكبوت1.  وقد  دلَّت النصوص الشرعية ، وكلام أهل العلم ، على أنَّ قتال الفتنة : هو القتال الذي ينشب بين طائفتين من المسلمين كلتاهما على باطل ، أو يلتبس فيه أمرهما، فلا يُعلم المُحِق من المُبطِل ، أو يتقاتلان لمغانم دنيوية ، وقد ورد النهي عن المشاركة في هذا القتال ، وقد أُمر باعتزاله ، وعدم المشاركة فيه ، بأي حال من الأحوال، وهو المقصود بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إِذَا التَقَى المُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالقَاتِلُ وَالمَقْتُولُ فِي النَّارِ) متفق عليه. قال الجصاص –رحمه الله- في "أحكام القرآن" تعليقاً على هذا الحديث: "فَإِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ إذَا قَصَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ ظُلْمًا عَلَى نَحْوِ مَا يَفْعَلُهُ أَصْحَابُ الْعَصَبِيَّةِ وَالْفِتْنَةِ". وقال النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الفتن: (فَمَنْ وَجَدَ مِنْهَا مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا، فَلْيَعُذْ بِهِ) متفق عليه. قال النووي -رحمه الله- في "شرح صحيح مسلم": "تُتَأَوَّل الْأَحَادِيث عَلَى: مَنْ لَمْ يَظْهَر لَهُ الْحَقّ , أَوْ عَلَى طَائِفَتَيْنِ ظَالِمَتَيْنِ لَا تَأْوِيل لِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا". أما قتال من ظهر ظلمهم وبغيهم وعدوانهم وصيالهم على النفس والمال، فهو قتال مشروع؛ لكفِّ شرهم ودفع أذاهم.

قال الطبري رحمه الله: "لَوْ كَانَ الْوَاجِبُ فِي كُلِّ اخْتِلَافٍ يَكُونُ بَيْنَ فَرِيقَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْهَرَبَ مِنْهُ وَلُزُومَ الْمَنَازِلِ ، لَمَا أُقِيمَ حَقٌّ، وَلَا أُبْطِلَ بَاطِلٌ  " نقله عنه القرطبي في تفسيره.

وقال ابن بطال –رحمه الله- في "شرحه لصحيح البخاري": "فأما إذا ظهر البغي في إحدى الطائفتين، لم يحلّ لمسلم أن يتخلف عن قتال الباغية ، لقوله تعالى: ﴿ فَقَاتِلُوا الَّتي تَبْغِى حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ﴾ ولو أمسكَ المسلمون عن قتالِ أهلِ البغي لَبَطُلَت فريضة الله تعالى". فقد شرع الله ردَّ الاعتداء بمثله، قال تعالى: ﴿ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾البقرة 194. وقال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ قُتلَ دُونَ مالهِ فهو شهيد، ومَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فهو شهيد ، ومن قتلَ دون دِينه فهو شهيد، ومن قُتلَ دُونَ أهْلهِ فِهو شهيد) رواه أبو داود، والترمذي. وقد شُرع قتال الفئة الباغية لمجرد بغيها، فكيف بمن جمع بين البغي والغلو والتكفير بغير حق  قال تعالى: ﴿ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾الحجرات 9. قال القرطبي –رحمه الله- في تفسيره " الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ قِتَالِ الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ الْمَعْلُومُ بَغْيُهَا عَلَى الْإِمَامِ، أَوْ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ".  وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتال من   اجتمعت فيهم صفة من صفات الخوارج من تكفير المخالفين لهم، وقتل أهل الإسلام، مع المكابرةِ وردِ الحقّ، ما يجعلهم يُلحقون بهم حكمًا، بل قد فاقوهم في صفات الغدر  والخيانة، ونقض العهود، وتضييع الأمانات. قال صلى الله عليه وسلم: (وَمَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا وَلَا يَتَحَاشَى مِنْ مُؤْمِنِهَا وَلَا يَفِي لِذِي عَهْدٍ عَهْدَهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ) رواه مسلم. وقال: (سَيَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ أَحْدَاثُ الْأَسْنَانِ، سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا، لِمَنْ قَتَلَهُمْ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) متفق عليه. وقال فيهم: (يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلاَمِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الأَوْثَانِ، لَئِنْ أَنَا أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ) متفق عليه. بل إنَّه  صلى الله عليه وسلم  عدَّ قتلاهم شرَّ القتلى  وقتلى المسلمين على أيديهم خير القتلى  فقال: (طُوبَى لِمَنْ قَتَلَهُمْ وَقَتَلُوهُ  يَدْعُونَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَلَيْسُوا مِنْهُ فِي شَيْءٍ، مَنْ قَاتَلَهُمْ كَانَ أَوْلَى بِاللَّهِ مِنْهُمْ) رواه أبو داود.

وقال: (شَرُّ قَتْلَى قُتِلُوا تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ، وَخَيْرُ قَتِيلٍ مَنْ قَتَلُوا) رواه أحمد.

 

 

الصراع بين الحق والباطل

 إن أعداء الأمة ، يتوحدون في مواجهة أهل الحق، وينسون خلافاتهم ، ويسخرون كل إمكاناتهم ، في حربهم على الإسلام. ويتجمع شياطين الإنس والجن ، في تلك المواجهة قال تعالى : ﴿ وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ﴾. ويعملون لتشويه صورة أهل الحق ، والصد عن دين الله ، وقد جاء التنبيه من هذا النشاط في الذكر الحكيم فقال تعالى: ﴿ وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ البقرة 42 وقال تعالى:﴿ وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ﴾ 8 الإسراء ، دلت الآيات على وجوب أخذ الحق بأدلته وبراهينه ، ممن قاله وصدع به ، والحق أحق أن يُتبع ، ويُنقاد له امتثالاً لقوله تعالى :﴿ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾  فمن لم يأخذ الحق اليوم رأساً ، أخذه غداً ذنباً ، لأن الله اوجب على عباده إتباع الحق ، متى ما ظهر لهم قال تعالى : ﴿ إنما كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾51 النور ولا يمنعن أحد إتباع الحق من أي مصدر كان   لأن المقصود إتباع الحق لذاته لا لقائله أو مصدره ، لأنَّ التمسُّك بالحقِّ ونَبْذ الباطل، فيه النَجاة في الدُنيا والآخرة ، من تَمسَّك به عدَل واعْتدَل، وهو النور الذي نَمشي به في الظلمات والنَجاة من سُبُل الغواية والخسران؛ قال تعالى: ﴿ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ المائدة 15 .

 وإني لأعجب  ممن يقومون بترقيع وتلميع فضائح أسيادهم وكبارهم ، وإضافة صبغة الحق عليها ، لتزين قبحها وبشاعتها ، والبحث عن مخارج لها ، وقد جاءت الآيات تدلُّ على أنَّ قوة الحقِّ وغَلبتَه على أهل الباطل عظيمة   مهما طَغَوا وتَجبَّروا ، كما قال تعالى: ﴿ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ﴾ الإسراء 81 ، وقال تعالى : ﴿ قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ ﴾ سبأ 49 وقال الله تعالى: ﴿ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ﴾ الأنبياء 18.

 ومهمة أهل الحقِّ ، أنْ يَهدوا الناس إلى سُبُل الخير والرَّشاد؛ كما قال تعالى: ﴿ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾ يونس 35 .

أمَّا المُكذِّبون للحقِّ، فتَجدهم في حَيرة وضلال وتَخبُّط، كما تَتجدَّد آراءهم وقوانينهم بين حين وآخر، فهم دائمًا في شطْبٍ وتعديل   وإضافات لا حصْرَ لها، وقد قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ ﴾ ق 5 . فالموالاة والمعاداة إنما تكون للحق وفي الحق، لا في غيره ، فمن والى أو عادى لحزب أو طائفة فقد خرج عن المسار الصحيح ، وعليه الرجوع للحق؛ وما أروع ما قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "ولا يمنعك من قضاء قضيت به اليوم فراجعت فيه نفسك، وهُدِيت فيه لرشدك، أن تُراجع فيه الحق، فإن الحق قديم، ولا يُبطل الحق شيء  وإن مراجعة الحق خير من التمادي في الباطل" نرى دعاة الحق في الفتن أقوياء يحذِّرون من الباطل وأهله ، بكل شجاعة وإقدام لا يخافون في الله لومة لائم ، ولا سطوة ظالم، ومن الناس مَنْ تجره الفتنة معها ، فتراه يعلن الباطل وينتصر له ، لا يبالي بأقوال الأئمة والعلماء ، أخرج الإمام مسلم عن حذيفة رضي الله عنه قال: كنا عند عمر رضي الله عنه فقال: أيكم سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الفتن؟ فقال قوم: نحن سمعناه، فقال: لعلكم تعنون فتنة الرجل فى أهله وجاره؟! قالوا: أجل، قال: تلك تكفرها الصلاة والصيام والصدقة؛ ولكن أيكم سمع النبى صلى الله عليه وسلم يذكر الفتن التى تموج موج البحر؟! قال حذيفة: فأسكت القوم، فقلت: أنا، قال: أنت لله أبوك، قال حذيفة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا فَأَىُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَىُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ؛ حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ: عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلاَ تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ، وَالآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لاَ يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلاَ يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلاَّ مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ ) .هناك من يتذبذب بين أهل الحق والباطل ، لا إلى هؤلاء ، ولا إلى هؤلاء كالشاة العائرة بين الفريقين، لا يدري أيهما يتبع، فيبق مع هؤلاء تارة وأخرى مع أولئك وصفهم الله تعالى: ﴿  مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً ﴾ . وأخرج مسلم عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (مَثَلُ الْمُنَافِقِ كَمَثَلِ الشَّاةِ الْعَائِرَةِ بَيْنَ الْغَنَمَيْنِ تَعِيرُ إِلَى هَذِهِ مَرَّةً وَإِلَى هَذِهِ مَرَّةً ) وأخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّ شَرَّ النَّاسِ ذُو الْوَجْهَيْنِ الَّذِي يَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ وَهَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ)، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( مَنْ كان له وجهان في الدنيا كان له يوم القيامة لسانان من نار )السلسلة الصحيحة للشيخ الألباني ويزداد ظهور هذا الصنف من الناس كلما اشتدت الفتن ، على أهل الحق وازدادت عليهم معاداة أهل الباطل، فهو يخشى من هؤلاء تارة ومن أولئك أخرى، ويتزلف إلى هؤلاء مرة وإلى هؤلاء مرة، يحرص كل الحرص على عدم إظهار ما يخفيه في نفسه وسره، لأنه يخشى أن ينكشف ستره ، ويفتضح أمره، ولكنَّ الله عزَّ وجل ، فضح هذا الصنف ، وكشف حاله للناس قال تعالى: ﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ. وَلَوْ نَشَاء لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ ﴾ . وقال أحد السلف: "مَا أَسَرَّ أَحَدٌ سَرِيرَةً إلَّا أَبْدَاهَا اللهُ عَلَى صَفَحَاتِ وَجْهِهِ وَفَلَتَاتِ لِسَانِهِ " .

هناك أناس رضوا ، أن يكونوا بطانة لمن تنكر لأهل الحق ، وأن يكونوا مَطايا لهم ، يأكلون مِما باعوا من تراث المسلمين، ومما فجَّروا من دمائهم ، ويكتفوا من الإسلام بالركوع والسجود ، والأوراد والأذكار، وظنوا أن هذا هو الإسلام ، ولو كان هذا كافيًا في إسلام المرء، وفوزه في الدنيا والأخرى؛ لما جاء في القرآن ما يحرض على الجهاد، والإيثار على النفس، والصدق والصبر، ونجْدَة المؤمن لأخيه والعدل والإحسان ، بهذا فسدوا وأفسدوا  حتى إذا حاول أحد أن يردهم ؛ بَطشوا به عبرةً لغيره ، وجاء المُتزلفون، لأولئك المُتقلبون في نعمائهم، الضاربون بالملاعق في حلوائهم، وأفتوا لهم ؛ بجواز قتل ذلك الناصح؛ بحُجة أنه شقَّ عصا الطاعة، وخرج عن الجماعة !!بخلاف ما كان عليه أهل الحق الذين يرفعون أصواتهم عند الطغيان ، لا يَهمُّهم أغضِب الظالم أم رضِي   فكان أولي الأمر ؛ يَرهبونهم، ويَخشون مُخالفتَهم لِما يَعلمون من انقياد العامَّة لهم واعتقاد الأمَّة بهم !! إلا أنه بمرور الأيام؛ خلف من بعدهم خَلْفٌ، اتخذوا العلمَ مهنةً للتعيُّش وجعلوا الدينَ مصيدةً للدنيا ، فسوَّغوا للفاسقين ؛ أشنعَ مُوبقاتِهم، وأباحوا لهم باسْم الدين خرقَ حدود الدين ، ولازالت تتكرِّر نفسَ الأخطاء، ويَنطلِي علينا نفسُ الدَّهاء !! فمَتى نُفيق من سَكرتِنا ونَعلم عدوَّنا ومُخادعَنا ، وما بال أقوام قد قست قلوبهم ، فجحدوا أصحاب الحق ، ولم يكتفوا بسكوتهم عن الحق ، وإقرارهم وموالاتهم للظالمين، ولكنهم كلما صدع بالحق صادع أو طالب به مطالب ، يشككون في صدقه  متجاهلين تلك القاعدة النبوية ، التي تفرق بوضوح بين مقال صاحب الحق ، وبين الباغي الجائر في مطالبته (إن لصاحب الحق مقالا). فمقياس رضا أهل الباطل عن أصحاب الرسالة وحملة الوحي، هو: التفريط والتبديل والتنازل عن بعض الحق الذي عندهم.. فإذا فعلوا  صاروا مقبولين لديهم، بل وأضحوا أصدقاء محببين إليهم ، روي أن أحمد بن حنبل، قيل له أيام المِحنة : يا أبا عبد الله  أوَ لا ترى الحقَّ  كيف ظَهر عليه الباطلُ قال: كلا !! إن ظهور الباطل على الحق؛ أن تَنتقل القلوبُ من الهُدى إلى الضلالة، وقلوبُنا بعدُ  لازمةٌ للحق : فالحقّ ما ثبَت واستقرّ ، لا ما انتفَش واشتهر ، وأهلُ الحقّ وجماعتُه ؛ هم الثابتون عليه، المُستمسكون به، وإن ابتُلوا برِقّ الباطل وعلوّه ، فــلا تحسبنَّ برقصها تَعلو على أسيادها ، تَبقى الأسودُ أسودًا والكلاب كلاب وكما قال الله : ﴿ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ ﴾الرعد17 .

 

 

بالتضحية لا بالتمني تتغيّر الأحوال

إنّ القضيةَ الأساسيةَ في التعاملِ مع الأحداثِ الكبرى ، تحليلُها التحليلَ الصحيح ، ثم اتخاذُ موقف ، والانطلاقُ لعملٍ مِن خلالِ هذا الموقفِ في عالم تسفك فيه الدماء ظلماً ، قتل وتدمير  وقصف واعتقال وتعذيب ، حتى إنك لتشك في إنسانية هذا العالم ، فضلاً عن قيمه وأخلاقه ودياناته ، وإلا فبماذا نفسر الأعمال الإجرامية  والإرهاب الدولي ، ضد الأبرياء والعزل ، وأصحاب حقوق السليبة ، و الكرامات المنتهكة ؟ لقد أنعم الله علينا بنعم كثيرة فقال تعالى: ﴿ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا ﴾ النحل 18. ومنها نعمة الألم ، الذي قد لا نرى منه إلا جانب الشقاء والعذاب ، مع أن الألم من نعم الله تعالى ، لأنه يقوي العزيمة والإرادة، ويثبت دعائم الرجولة  ويستمد الإنسان من مقاومته ، قوة وصلابة  يستطيع بها مواجهة صعوبات الحياة ، وظروفها القاسية ، فألم الإخفاق يبصر صاحبه بطريق النجاح، وألم القهر والتسلط ، يدفع صاحبه إلى البحث عن طريق الحرية، ولذلك قيل : "بداية الألم استسلام ، وبداية الفرج ثورة على الانهزام " فالآلام التي نعيش ، أكبر من أن تحصى، حتى تبلد الإحساس من كثرة ما نرى من آلام ، فأصبحنا نعلل أنفسنا بالآمال ، وقد أحسن القائل :

أعلل النفس بالآمال أرقبها    ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل

إن تعليل النفس بعلل ، تخدر مشاعرها ، فترضى بالقعود عن القتال في سبيل الله ، لعب ولهو ، وقد   أمرنا بالإعراض عمن يرضون بذلك ، قال تعالى : ﴿ وذر الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحياة الدنيا ﴾ . لأن التعلل بالآمال دون الإعداد ، لهو شأن النفوس الصغيرة ، التي لا تطمح أن تصل إلى القمم وقد أحسن القائل :

وإذا كانت النفوس كبارا     تعبت من مرادها الأجسام

والآمال لا تتحقق بمجرد التمني، قال علي رضي الله عنه : "مَنْ أَطالَ الأمَلَ أَساءَ العَمَلَ " فلا بد من الجهد والعمل الجاد ، وتحمل الألم ، من أجل تحقيق ما نأمل ، وعلينا أن نتذكر دائماً أن الطريق لتحقيق الآمال، هو بالقدرة على تحمل الآلام  فلماذا لا نعمل على تحويل الآمنا إلى آمال ؟ ولماذا لا نمضي لغد أفضل ، نعيش فيه بسلام وآمان واطمئنان ؟ لقد منَّ علينا بنعمة الإسلام الذي أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور ، فكان العز شعارنا ، والإيمان سلاحنا ، ويوم نصرنا الله نصرنا ، ففتحنا البلاد وأرهبنا الأعداء، فدانت لنا الأمم والشعوب، ودخل الناس في دين الله أفواجاً وانتشر الإسلام في كثير من الأقطار في فترة وجيزة من التاريخ ، فما كان ذلك إلا بالتضحية والمعاناة وتحمل الألم ، اسألوا التاريخ بأي سلاح انتصر سلفنا ، وبأي قلوبٍ خاضوا المعارك ، فقد كانوا أعظم إيماناً، لأنهم عاشوا الألم والمعاناة ، في سبيل الله ، ألم الجوع والفقر ، وألم الأذى والقتل والتعذيب ، فكانوا بحق رموزاً في التضحية قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾120 التوبة . فيوم تمسكت الأمة الإسلامية بدينها   وطبقت منهج ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم نصرها الله ، وأعزها وأذل أعداءها ، ويوم غرقت في الشهوات ، وأنغمست في الضلالات ، ونسىيت شرع ربها ، نسيها الله ، وتخلى عنها ، ووكلها إلى نفسها، وسلط عليها أعداءها ، فصار واقعها كما نراه ، بأحداثه وآلامه، وأوضاعه المتردية، فتنٌ كقطع الليل المظلم ، ومحنٌ متتابعة وعقائد خاطئة، وأفكارٌ زائفة، وحروبٌ طاحنة وأحزابٌ متناحرة، وفرقة متأصلة، بلادٌ مغصوبة ، وحقوقٌ مسلوبة، ودماء مسفوكة، والأعداء متطاولون، والمسلمون مستضعفون، والأشقاء متناحرون، والألداء يتفرجون ، فأصبحت معظم البلاد الإسلامية  مسرحاً لكل مشكلة ، ومأوى لكل معضلة ، حتى أصبح ذلك أمراً مألوفاً عند كثيرٍ من الناس، فلا يسعون لتغييره ، لأنهم فقدوا الإحساس بالألم  فكره الله انبعاثهم ، كما قال الله عن المنافقين :   ﴿ وَلَكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ ﴾46 التوبة .  إذن لا يمكن أن تستمر الحياة بدون ألم، والله بحكمته وعدله ، ركب الألم في الإنسان ، ليسعى العباد في تحصيل منافعهم الدنيوية والأخروية، وقد يكون الألم خيراً للعبد  فالدعاء الحار المستجاب ، يأتي مع الألم   والتسبيح الصادق ، يصاحبه الألم، وحمل النفس على طاعة الله ، والصبر عن ارتكاب المعاصي واجتنابها، كل ذلك يكون مع الألم ، والنصر على الأعداء ، لا يأتي إلا بعد أشد لحظات المجاهدة والألم ، بل يأتي عندما يصل الناس إلى حالة من الألم ، يظنون فيها أن النصر لن يأتي، فعندها ينزل برحمة الله قال تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ  نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين ﴾ يوسف 110 . فالنصر من عند الله، ولكنه يؤخره ، لاختبار المؤمنين ، فلو كان طريق النصر سهلاً ، لسار فيه الخلق أجمعون ، والله يَخْتَبِر ولا يُخْتَبَر وفي قصص بني إسرائيل ، قال إبليس لعيسى عليه السلام : أنت روح الله ، فإذا كنت تحب الله   فألق بنفسك من هذا الجبل ، ولننظر كيف ينقذك الله : فقال له : يا لعين الله ! هو الذي يمتحن العبد ، وليس للعبد أن يمتحن الله " ، وعندما قال أخد الصحابة لرسول الله ، أدع الله أن أكون رفيقاً لك في الجنة قال : أعني على نفسك بكثرة السجود أي بالعمل وليس بالأماني ، بالإعداد والجهاد ، وليس بالتمني يكون النصر وقد أحسن القائل:   

يا أمتي وجب الكفاح    فدعي التشدق والصياح

لغة الكلام تعطلت        إلا التكلم بالرماح

إنا نتوق لألسن            بكمٍ على أيدٍ فصاح

لا بد من صنع الرجال       ومثله صنع السلاح

لا يُصنع الأبطال إلا        في مساجدنا الفساح

لا يستوي في منطق الـ       إيمان سكرانٌ وصاح

من همه التقوى وآ            خر همه كأسٌ وراح

شعبٌ بغير عقيدة            ورقٌ تذريه الرياح

من خان حي على الفلاح   يخون حي على الكفاح

فالتضحية روح الجهاد ، وماؤه وغذاؤه ، فلا دعوة بلا جهاد ، ولا جهاد بلا تضحية ، ولا يمكن لفكر أن يسود ، أو مبدأ أن ينتشر ، أو قيمة أن تعلو ، أو منهج أن يطبق ، أو نظام أن يستقر ، إلا برجال يؤمنون به ، ويدعون إليه بالحسنى ، ويضحون من أجله ، بكل ما يملكون من نفس أو مال أو جهد أو وقت مهما كلفهم ذلك ، من نقص في الأموال و الأنفس والثمرات ، فيجود المؤمن بنفسه التي بين جنبيه ، وماله الذي جمعه ، وولده الذي أنجبه ، و زوجته التي أحبها ، بل بالدنيا كلها و ما فيها قال تعالى : ﴿ قل إن كان آباؤكم و أبناؤكم و إخوانكم و أزواجكم و عشيرتكم وأموال اقترفتموها و تجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله و رسوله و جهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره و الله لا يهدى القوم الفاسقين ﴾ المائدة .

سل التاريخ عن ياسر وعمار وسمية ، وبلال و صهيب وخباب ، ومصعب وأم سلمة وعثمان   سل عنهم مكة والمدنية ، سل عنهم يوم بدر و أحد والخندق قال تعالى : ﴿ من المؤمنين رجال صدقوا ما اهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه و منهم من ينتظر و ما بدلوا تبديلا ﴾ . وتدبر سيرته صلى الله عليه وسلم وهو يصف حاله فيقول : ( لقد أوذيت في الله ، و ما يؤذى أحد وأخفت في الله وما يخاف احد )  وتذكَّر ما فعلته حمالة الحطب ، ويوم الطائف و ما فيه ، وتذكَّر أن منهم في تفل في وجهه ومنهم من حثا عليه التراب ، ومنهم من سبه و منهم من حاول خنقه وقتله ، ودس السم له في الطعام ، وتذكر حادثة الإفك وما فيها   تذكّر وتذكّر...حتى صار صلى الله عليه وسلم لهم ولنا قدوة طيبة ، وأسوة حسنة في التضحية و البذل والتحمل والفداء ، والعطاء ، فصار شعار التضحية عندهم  ،كأنه ترنيمة يطيب لها أذن السماع فتسمع منهم " فداك أبى وأمي يا رسول الله " ، " غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه" "فلا نامت أعين الجبناء" ، " فزت و رب الكعبة "   ﴿ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله و اليوم الأخر و ذكر الله كثيرا ﴾ .

إن الأمة التي تعرف كيف تموت الموتة الشريفة يهب لها الله الحياة العزيزة في الدنيا ، والنعيم الخالد في الآخرة ، وما الوهن الذي أذلنا إلا حب الدنيا وكراهية الموت ، فأعدوا أنفسكم لعمل عظيم ، واحرصوا على الموت ؛ توهب لكم الحياة ، واعلموا أن الموت لابد منه  ،  وأنه لن يكون إلا مرة واحدة ، فإن جعلتموها في سبيل الله  ،كان ذلك  ربح الدنيا وثواب الآخرة ، وما يصيبكم إلا ما كتب الله لكم

ولا تخافوا بطش الطغاة ، الذين تخدعهم غفلة الجماهير، وذلتها، وطاعتها، وانقيادها، وما الطاغية إلا فرد لا يملك في الحقيقة قوة، ولا سلطاناً، وإنما هي الجماهير الغافلة ، تمطي له ظهرها فيركب! وتمد له أعناقها فيجر، وتحني له رؤوسها فيستعلي! وتتنازل له عن حقها في العزة والكرامة فيطغى! والجماهير تفعل هذا مخدوعة من جهة، وخائفة من جهة أخرى، وهذا لخوف لا ينبعث إلا من الوهم، لأن الطاغية لا يمكن أن يكون أقوى من الألوف والملايين، لو أنها شعرت بإنسانيتها، وكرامتها، وعزتها، وحريتها

لقد طال الرقاد واستنسر البغاة ، وما أجمل ما قال الشاعر:

طال المنام على الهـــوان      فأين زمجـــرة الأسـود

واستنسرت عصب البغاة  ونحن فــــي ذل العبيـد

قيد العبيد من الخنـــوع    وليس من زرد الحـديـد

فمتى نثور على القيـــود   متى نثور علـــى القيـود

 

تحريم الأذى الفعلي والقولي

عندما تكلّم الله عن إيذاء المؤمنين والمؤمنات خص هذا الإيذاء بقوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ﴾الأحزاب 58. وهناك إيذاءً مشروعاً أوجبه الله ، كحد الزنا والسرقة ، لا يعاقب من قام به ، ولذلك يقول الله في اللذان يأتيان الفاحشة : ﴿ واللذان يأتيانها منكم فآذوهما ﴾النساء 16.والله حين شرع هذا الإيذاء ، ليكون تطهيرا ورادعا ، روي أن عمر بن الخطاب لما قرأ هذه الآية بكى ، فقال له جليسه ما يبكيك؟ قال لأني آذيت المؤمنين والمؤمنات ، فقال له ، إنك تؤذي لتعلِّم وتقوِّم  والله أمرنا أن نرجم ونقطع ، فضحك عمر وسرَّ  وأكثر من هذا قال الله : ﴿ ولا تأخذْكم بهما رأفة في دين الله ﴾النور 2. لأن الرأفة في حدود الله رحمة حمقاء ، ولسنا أرحم بالخلق من الخالق ، ولنا أن نسأل عند قوله تعالى ﴿ ولكم في القصاص حياة ﴾ كيف تكون الحياة في القتل ، لأن القاتل حين يعلم أنه إن قتل يُُقْتَل ، فلن يقدم على القتل  أما إيذاء المسلِمِ غير المشروع ، وإلحاق الشرِّ به  واتهامِه بالباطلِ ، ورميِه بالزورِ والبهتانِ ، وتحقيرِه وتصغيرِه ، وتعييرِه وثَلمِ عرضِه ،وغيبَته وسَبِّه وشتمِه  ولعنِه وتهديدِه ، وترويعِه وابتزازه ، وتتبُّع عورتِه  ونشرِ هفوتِه ، وفضيحتِه وتكفيرِه وتفسيقِه ، وقتالِه وحمل السلاح عليه ، وسلبِه ونهبِه ، وسرقتِه وغِشِّه   وخداعِه والمكر به ، ومماطلتِه في حقِّه ، وإيصالِ الأذى إليه ، ظلمٌ وجرمٌ وعدوانٌ، لا يفعلُه إلا دَنيء مَهين ، يؤذي أخاه ، وكفى بذلك إثمًا .

وقد جاءت النّصوص القرآنيةٍ ، والأحاديث النبوية  تتضمّن المنعَ مِن أذيّة المؤمن، والزجرَ الشديدَ من الإضرار بالمسلم ، بأيّ وجهٍ من الوجوه القوليّة أو الفعليّة، أو الحسّيّة أو المعنويّة ، حتى ولو لم تعرفه أو كان من غير بلدك، أو يتكلم بغير لغتك ، فإثم ذلك عظيم، عن نافعٍ عن ابنِ عمر رضي الله عنهما قال: صَعد رسول الله صلى عليه وسلم المنبر فنادى بصوتٍ رفيع فقال: (يا معشرَ من أسلم بِلِسانه ولم يُفضِ الإيمانُ إلى قلبه، لا تُؤذوا المسلمين، ولا تعيِّروهم، ولا تتَّبعوا عَوراتهم؛ فإنّه من تتبَّع عَورةَ أخيه المسلِم تتبَّع الله عَورتَه، ومن تتبَّع الله عَورَته ، يَفضَحه ولو في جوفِ رحلِه) ، وعن سهل بنِ معاذ عن أبيه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: (مَن رمى مسلماً بشيءٍ يريد شينَه به ، حبَسه الله على جِسر جهنّم حتى يخرُجَ ممّا قال) أخرجه أبو داود. ومن الأذى تعرّض المجتمعون في المجالس  للمزاح الرخيص ، كالمزاح الجنسي،  والكناية عن العورات ، والكلام المبطن، ليضحك من في المجلس متناسياً ، أن هذا يتناقض مع طهر الإنسان وعفته   لأن المزاح المتعلق بالعورات، أو العلاقة بين الرجل والمرأة  ، لا يمكن أن يتفق مع أخلاق المؤمن, ولا يوجد شيء يصغر الإنسان عند الله ، وعند المؤمنين  كالمزاح المبطن ، الذي يحمر منه الوجه ، فقد بَنى الإسلام ، أُسسَه في تنظيم العلاقةِ الاجتماعية  على قواعدَ مُثلى ، وركائزَ فضلى فقال الله  تعالى:﴿  إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾ الحجرات10، وقال صلى الله عليه وسلم :(لا تحاسدوا، ولا تناجَشوا ولا تباغَضوا ولا يبِع بعضكم على بيعِ بعض   وكونوا عبادَ الله إخوانا المسلمُ أخو المسلم، لا يظلِمه ، ولا يحقرُه، ولا يخذُله، التّقوى ها هنا  فأشار بيده إلى صدره ثلاثًا، بحسب امرئٍ من الشّرّ أن يحقرَ أخاه المسلم  ،كلُّ المسلم على المسلم حرام؛ دمُه وماله وعِرضه)مسلم ، إن أذيّة المؤمنين  سببٌ عظيم لسخط الله ومقتِه ، وعذابه وغضبِه قال عليه الصلاة والسلام: (إذا كنتم ثلاثةً فلا يتناجَى اثنان دون صاحبِهما، فإنّ ذلك يُحزِنه)   أخرجه البخاري وفي رواية: (فإنّ ذلك يؤذي المؤمنَ والله يكرَه أذَى المؤمن)الترمذي وقال: حديث صحيح. فكان كبائر الذنوب ، قصد المؤمن بما يسوؤه ويؤذيه ، سواء كان الأذى حسيا ، كالقتل أو الضرب ، أو التعذيب ، أو بالقول ، كالشتم واللعن ، والغيبة والنميمة ، والبهتان والتعيير ، وقد يكون الأذى المعنوي ، أشد على النفس، لما فيه من تلويث السمعة، ونشر السوء ، وخصوصاً إن كان كذبا وبهتانا، وفيه يقول الله تعالى ﴿ وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ﴾النساء 112، فالجريمة جريمتان : فعل الخطيئة  ورمي البريء بها ، ومن صُوَر الإيذاء والاعتداءِ  إيذاءُ الرجل زوجتَه ، بالجَور والظلمِ والقَهر   والقسوَة والغِلظة، والبخلِ والحِرمان ، والتُّهمة والظنّ والتّخوين ، والشكِّ في غير رِيبة ، ومعاملتها بالخلُق السيء ، واللّسان البذيء ، الذي لا تبقَى معه عِشرة ، ولا يدوم معه استقرارٌ ، ولا سُكون ولا راحة، ومن صوَر الأذى ، إيذاء المرأة زوجَها  بالمعانَدَة والمعارَضَة ، والمكايدة والاستفزاز ، وعدَمِ رعاية حقِّه المشروع ، إلى غير ذلك من صوَر الأذى التي يرفضُها الشرع الحكيم ويأبَاها الطبع السليم والعقلُ المستقيم ، ومن صور الأذى الأشد حرمة  ما كان مع الأقارب ، فأذية الوالدين عقوق، وأذية القرابة قطيعة، وأذية الوالد لولده سوء تربية، ويزداد الجُرم إثمًا وبهتانًا ، ويشتدّ عند الله كُرهًا ومقتًا  حينما يتّجه الأذى إلى الجيران ، فأذية الجار سوء جوار، تذهب أجر كثير من العبادات  وتمحو أثرها   ومقْتَصِدٌ محسن لجيرانه، خيرٌ من قانت يُسيء جوارهم ، لما روى أَبو هُرَيْرَةَ قَالَ : ( قَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا، غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ: هِيَ فِي النَّارِ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَإِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا وَصَلَاتِهَا، وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالْأَثْوَارِ مِنَ الْأَقِطِ ، وَلَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا  قَالَ: هِيَ فِي الْجَنَّةِ ) رواه أحمد. وفي حديث أبي شُرَيْحٍ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( والله لَا يُؤْمِنُ والله لَا يُؤْمِنُ والله لَا يُؤْمِنُ، قِيلَ: وَمَنْ يا رَسُولَ اللَّهِ؟ قال: الذي لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بوائقه) رواه البخاري.بوائقه : غوائله وشروره، هذا إذا كان بمجرد الخوف من بوائقه ، فكيف بمن يفعل البوائق   ومن صور الأذى ممن يأتي المسجد للصلاة   فيؤذي غيره ، بقوله أو بفعله أو حتى برائحته؛ ولذا شرع الله التطهر ، والتزين للصلاة فقال تعالى :   ﴿ يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ﴾ الأعراف31، وقال النبي صلى الله عليه وسلم :( من أَكَلَ من هذه الشَّجَرَةِ فلا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا ولا يُؤْذِيَنَّا بِرِيحِ الثُّومِ ) مسلم. ولشدة النهي عن أذية المؤمن  فإنه يحرم سب ميِّتٍ مات  ، إذا كان يؤذي أهله أو ولده أو قريبه، وفي ذلك يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا تَسُبُّوا الْأَمْوَاتَ فَتُؤْذُوا الْأَحْيَاءَ) رواه أحمد. هذا وإن دفع الأذى من محاسن الأعمال  قال صلى الله عليه وسلم : (عُرِضت عليّ أعمال أمّتي حسنُها وسيّئُها، فوجدتُ في محاسن أعمالِها الأذى يُماط عن الطريق ، ووجدتُ في مساوئ أعمالِها النخاعة تكون في المسجد لا تُدفَن) أخرجه مسلم واعتبر الإسلام إزالة ما يؤذي الناس في الطرقات عمل رتب عليه أجر عظيم ، ولو كان شيئا يسيرا  جاء في الحديث أن رجلا دخل الجنة في غصن نحاه عن طريق الناس؛ عن أبي هُرَيْرَةَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( مَرَّ رَجُلٌ بِغُصْنِ شَجَرَةٍ على ظَهْرِ طَرِيقٍ فقال: والله لَأُنَحِّيَنَّ هذا عن الْمُسْلِمِينَ لَا يُؤْذِيهِمْ فَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ ) رواه الشيخان واللفظ لمسلم. وقد عد النبي صلى الله عليه وسلم إِمَاطَةُ الْأَذَى عن الطَّرِيقِ من شعب الْإِيمَانِ ، كما حذّر من الجلوس في الطرقات فقال : (إيّاكم والجلوسَ في الطرقات  فقالوا: يا رسول الله، ما لنا بدّ في مجالسنا، نتحدّث فيها، فقال عليه الصلاة والسلام : إذا أبَيتم إلاّ المجلس فأعطُوا الطريقَ حقَّه قالوا: وما حقُّ الطريق يا رسول الله؟ قال: غضّ البصر وكفّ الأذى وردّ السّلام، والأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر) متفق عليه  يقول الفضيل رحمه الله: "لا يحلّ لك أن تؤذيَ كلبًا أو خنزيرًا بغير حقّ، فكيف بمن هو أكرم مخلوق؟!" تهذيب الكمال وسير أعلام النبلاء . هذه النصوص تعمّ بدلالاتِها  وتشملُ بعمومِها  تحريمَ أذى المؤمنين وجماعاتهم  صغارهم وكبارهم   رجالهم ونساءهم، وتشمل أيضًا التحذيرَ من أنواع الأذى ، وصُوَر الإضرار في النّفس والبدن، في العِرض والمال، وفي أمورِ الدّين والدّنيا، صح في الحديث : (المسلم من سلِم المسلمون من لسانِه ويده) أخرجه الشيخان في الصحيحين . وقد بلغَت عناية الشريعة في منعِ أذى المؤمنين والتحذير من الإضرار بهم ، ولو كان القصد حسنًا ، والهدف نبيلاً، جاء رجلٌ يتخطّى رقابَ النّاس يومَ الجمعة  والنبيّ  يخطب  فقال له عليه الصلاة والسلام : (اجلِس فقد آذيت) رواه أبو داود والنسائي وإسناده حسن . وإذا كان الأمر كذلك فكيف بالأذى المقصود ، والأذيّة المتعمَّدة ؟! ويحذّر النبي صلى الله عليه وسلم تحذيرًا واضحًا صريحًا عن الأذيّة بعباد الله الصالحين فيقول: (إنّ الله جلّ وعلا يقول: من عادى لي وليًّا فقد آذنتُه بالحرب) أخرجه البخاري في الرقاق ، يقول أحد السّلف معبِّرًا عن منهاج النبوّة: "اجعَل كبيرَ المسلمين عندك أبًا ، وصغيرَهم ابنًا ، وأوسطَهم أخًا، فأيّ أولئك تحبّ أن تسيء إليه"  ويقول آخر: "ليكُن حظّ المؤمن منك ثلاثة: إن لم تنفعه فلا تضرَّه ، وإن لم تُفرحه فلا تغمَّه، وإن لم تمدَحه فلا تذمَّه". بادروا بالكفِّ عن الأذى قبل أن يُقضَى بين الناس ، يومَ لا ينفع مال ولا بنون، عن أبي هريرة أنّ رسول الله  قال: (أتدرون ما المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: إنّ المفلسَ من أمّتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وقيام وزكاةٍ، ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مالَ هذا وسفك دمَ هذا أو ضربَ هذا، فيُعطى هذا من حسناتِه وهذا من حسناتِه، فإن فنِيت حسناته قبل أن يَقضيَ ما عليه أخِذ من خطاياهم فطُرحت عليه فطُرح في النّار ) رواه مسلم فمن آذى مسلمًا من خلال عملِه أو وظيفتِه فهو آثم ، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : (لا ضرَرَ ولا ضِرار ومن ضارّ ضرّه الله، ومن شاقّ شقّ الله عليه) أخرجه الدارقطني والبيهقي في الكبرى والحديث حسن ، ويقول : (اللهمَّ من ولِي من أمر أمّتي شيئًا فشقّ عليهم فاشقُق عليه) أخرجه مسلم في الإمارة . 

 

 

 

  

 

 

 

 

  

كيف الخلاص مما نعاني

 

إن ما نسمعه ونشاهده عبر الفضائيات المختلفة يجعلنا نقول : إن الربيع العربي الذي قيل بأنه جاء لانتشال البلاد والعباد ، من ظلم وحكم الطغاة  أصبح حكم الطغاة ، رحمة وبرداً وسلاماً عليهم  أكثر من هاء أولاء ، المتعطشين إلى الدماء   فكثـــــرت المآسي والآلام ، فكيف الخلاص من  هذا الواقع الأليم ؟ الذي أصبحت فيه أمتنا في ذيل الأمم ، يتحكم بها ويستأسد عليها أعداؤها ؟ يكون الخلاص في تمسك الأمة بدينها ، والالتزام بكل شرائعه وأوامره ، وأن تفيق من غفلتها   وتصحو من نومها ، وأن تعرف صديقها من عدوها ، فكم قلنا بهذا ، وقاله غيرُنا ، لقد أسمعت لو ناديت حيا ، ولكن لا حياة لمن تنادي ، ورغم أن المتحكمين ، يرون قوى الشر والحقد ، من فرس وصهاينة وأتباعهم ، من أنظمة الهوان ، يتحكمون بمقدرات الأمة من المحيط إلى الخليج ، وما زالوا ساهون ولاهون ، أعجبني الشاعر إبراهيم اليازجي وهو يحذّر العرب قائلاً  :

 

تنبَّهُـوا وَاسْتَفِيقُـوا أيُّهَا العَـرَبُ      فقد طَمَى الخَطْبُ حَتَّى غَاصَتِ الرُّكَبُ

 

فِيمَ التَّعَلُّـلُ بِالآمَـال تَخْدَعُـكُم      وَأَنْتُـمُ بَيْنَ رَاحَاتِ القَنَـا سُلَـبُ

 

اللهُ أَكْبَـرُ مَا هَـذَا المَنَـامُ فَقَـدْ       شَكَاكُمُ المَهْدُ واشتاقتـكُمُ التُّـرَبُ

 

كَمْ تُظْلَمُونَ ولَسْتُمْ تَشْتَكُونَ      وَكَمْ تُسْتَغْضَبُونَ فَلا يَبْدُو لَكُمْ غَضَـبُ

 

أَلِفْتُمُ الْهَوْنَ حَتَّى صَارَ عِنْدَكُمُ طَبْعَاً  وَبَعْـضُ طِبَـاعِ الْمَرْءِ مُكْتَسَـبُ

 

وفَارقَتْكُمْ لِطُولِ الذُّلِّ نَخْوَتُـكُمْ      فَلَيْسَ يُؤْلِمُكُمْ خَسْفٌ وَلا عَطَـبُ

 

فلو عمل أولوا الأمر للوصول إلى الغاية التي أرادها الإسلام ، باستقلالهم عن الغرب  وعدم التعامل معه ، بما لا يتفق وديننا ، كالتعامل معهم بشروطهم ، والمطالبة بحقوق هذه الأمة ، على عدالة غاصبي هذه الحقوق ، هو منطق أقل ما يقال فيه ، أنه قائم على الغفلة والجهل ، أو التجاهل بطبائع عدونا ، لأن الغاصب لو كان يستشعر العدالة في نفسه ، ما غصب غيره .

 

ولو أن المخالفين لمنهج الله ، استهدوا فطرهم السليمة ، واستفتوا قلوبهم ، لهدوا إلى الحق والصواب ، وليعلموا أن الجهاد الذي استبعدوه من واقع الحياة ، والذي فرضه الإسلام ، هو طريق الخلاص ، وأن القتال هو طريق الاستقلال .

 

إن الإسلام يأبى على معتنقيه أن يستذلوا ، بل إنه لم يجعل في قلب المسلم مكاناً للذل ، إلا ذلة التواضع والرحمة للمسلمين . قال تعالى : ﴿ أذله على المؤمنين أعزةٍ على الكافرين﴾ وقال : ﴿ محمدٌ  والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم ﴾ . وما عدا ذلك لا ذل ولا استذلال ، وإنما عزة واعتزاز ، على كل من في الأرض قال الله تعالى : ﴿ ولله العزة ولرسوله والمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون ﴾ والإسلام يوجب على المسلمين أن يعتقدوا ذلك ، وأن يؤمنوا به ، وأن يجعلوا هدفهم الأسمى تحقيقه ، ليهيئوا لأمتهم مكانتها ، التي اختارها الله لها في قوله : ﴿كنتم خير أمةٍ أخرجت للناس ﴾ . ويحرِّم كل التحريم على المسلم ، أن يوالي غير المسلمين ، لأنه لم يُجز موالاة الكافرين ، إلا لاتقاء أذاهم  ، شريطة أن يكون عمل المسلم خالصاً لمصلحة الإسلام والمسلمين ، لأن القاعدة في الإسلام ، أن المؤمن ولى المؤمن ، والكافر ولَىّ الكافر ، وأن المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها  أمةً واحدة  قال تعالى: ﴿ وان هذه أمتكم أمة واحدة ﴾ . ويقرر الإسلام بأن موالاة غير المسلم  تؤدي إلى الفتنة والفساد ، وأن المودة مع غير المسلمين جائزة ما داموا لم يقاتلوا المسلمين ، ولم يعتدوا عليهم ، ولم يحتلوا أرضهم ، وإلا فيحرم على المسلمين ، أن يوادوا الذين قاتلوهم في الدين ، وأخرجوهم من ديارهم ، بنصوص القرآن الصحيحة   قال تعالى :﴿ لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ، ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء ، إلا أن تتقوا منهم تقاه ﴾ آل عمران28 .

 

إن الإسلام بمفاهيمه الصحيحة ، بينه وبين تطبيقات المسلمين العملية ، مسافة المخالفة والمعصية ، والإثم ، وقد أوهنت الشعوب الإسلامية  عواملُ العداء ، والطمع  والأثرة ، وحب الذات  وهذا ما مكن الأعداء منهم ، ولولا أن الإسلام حقٌ بذاته  مؤيدٌ بتأييد الله ، محفوظٌ بحفظه ، لم تبق منه بقية ، تصارع قوى الشرِّ في الأرض  والتي ما تركت سبيلاً من المكر به ، إلاّ سلكته قال تعالى: ﴿ ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ﴾ ولقد أحسن القائل :

 

يا أُمة الحق إن الجُــــرحَ متسـع ٌ فهـل تــــُرى من نزيف الجرح نعتبرُ

 

ماذا سوى عــــودةٌ لله صادقــــةٌ  عسى ُتغيـــر هــذي الحال والصــورُ

 

تعبيرٌ عن المأساة ، التي تعيشها أمتنا الإسلامية   والتي لا زالت تكتوي بنارها الشديدة .  إن خلاص الأمة ، من جراحها وآلامها ، يكون بعودة الأمة ، إلى الالتزام التام بدينها , الذي به يعود عزها ومجدها , ومن ثم تستطيع الرد على أعدائها ، وحماية أبنائها , وتستطيع بإذن الله أن توقف تجرؤ أعداء الدين عليها ، وتوقف هذه المذابح والمآسي المتكررة ، فما تجرؤا علينا إلا لإننا تركنا منهج ربنا ، ولقد أحسن القائل :  

 

لما تركنا الهدى حلت بنا مِحـــنٌ    وهَاج للظلم والإفساد طوفـــانُ

 

فالعودة إلى منهج ربنا ، هي الطـــريق الذي يوصلنا إلى بناء الأمة المجاهدة ، التي ينصرها الله ، فما السبيل إلى ذلك ،جاء الجواب في شعر الشاعر :  

 

مع كُلِ مذبحــةٍ تَجِـــــــــــــــــدّ  ولا جوابَ سِوى الـعويـــــــــل

 

مع كل جــــــــــرحٍ في جَوانِحِ    أُمتي أبـداً يسيــــــــــــــــــــــل

 

مــع كل تشــــــريدٍ وتمزيــــقٍ       لشــعـــــــــبٍ أو قَبِيــــــــــــــل

 

إني يسألوني صديــــــــــــــقٌ       من بـلادي ما السبيـــــــــــــــل

 

كيف السـبيل إلى كرامتنــــــــا      إلى المـجد الأثيــــــــــــــــــــــل

 

بكتائــــب الإيمـــــان جـنـب     المصحف الهادي الدليــــــــــل

 

تمضـي كتــائبنـــــــا مــــــــــع       الفجـــر المجلجل بالصهيــــــل

 

هذا الـسبيل ولا سبيــــــــــل   سواه إن تبغي الوصــــــــــول

 

نعم ، هذا السبيل ، فهل نستيقظ‍ ؟ فالمسؤولية كبيرة ، وسنسأل عنها يوم القيامة  ولكن أملنـــــــــــا بإذن الله  في الخير الكامن في المسلمين , وأملنـــــا بأنهم لن يرضوا بأن يكونوا بتقصيرهم سبباً في استمرار الذبح والهوان ، لإخوانهم وأمتهم , وأملنــــا في إدراكهم للمخاطر  ، التي تواجههم ، وأن نصيبهم من بطش الأعداء قد يأتيهم  وأملنــــــا في خوفهم من السؤال ، عند الوقوف أمــــــام الله عن واجبهـــم تجـاه أمتهم ، يجعلنا نـــأمل في حصول الاستيقاظ والعودة ، والذي نرجو أن يكون قريبــــــــــــــاً

 

يقول الشيخ محمد الصـــــــواف : " فبينما نحن معشر المسلمين أمة قاهـرة ، ظاهـــرة في الأرض ، لنا الملك والسلطان والسيف والصولجان ؛ ولنــــا الكلمة العليا   إن قلنا أصغـت الدنيا لقولنا ؛ وإن أمرنا خضعت الأمـــــــــــم لأمرنا وسلطاننا ، فلمـــــــــــا تركنا أمر ربنا ، وخالفنا قواعد ديننا ، وتنكبنـــــــا الطريق المستقيم   الذي رسـمــه الله لنا ، وأمرنا بالسير فيه وسلوكه  فلمـــــــا سلكنا السبيل المعـوج صرنا إلى ما صرنا إليه من الـفـرقـــــــــــــة والشتات والذل والهوان . 

 

ويقـــــــــول الشيخ الغزالي : " إن الدين بالنسبة لنا نحن المسلمين ، ليس ضماناً للآخرة فحسب ، إنه أضحـــــــى سيــــــــاج دنيانا وكهــــــــــف بقائنا . ومن ثم فإني أنظر إلى المستهينين بالدين في هذه الأيام ، على أنهم يرتكبون جريمة الخيانـــــة العظمـى  إنهم - دروا أو لم يدروا - يساعدون الصهيونية والاستعمار ، على ضياع بلداننا وشرفنا ويومنا وغدنا ، هناك فــــارق خطيــــــر ، بين عرب الأمس وعرب اليوم . الأولـــــــون لما أخطئوا  عرفوا طريق التوبة ، فأصلحـــــــــــــوا شأنهم ، واستأنفوا كفاحهـــم   وطردوا عــدوهم" وإن أقوى ما تستعد به الأمة هو صدقها مع الله ، وطاعتها له سبحانه, لأنه أساس النصر وهو التي يحفز المسلمين للجهاد ، ولإعداد العدة اللازمة له, لكي يحموا إخوانهم وأنفسهم ويستعيدوا مجدهم المُضيَّع .                    

 

 

 

 فوائد التواصل الاجتماعي وأخطاره

أمر الله بالتواصل والتقارب فقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ﴾ الحجرات 13 .  

وقد امتن الله تعالى على عباده بنعم كثيرة  ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا ﴾النحل  18. ومن هذه النعم أجهزة التواصل بين الناس  ومنها الجوالات، وأجهزة الفيديو والتلفاز والإنترنت ، التي أساء الكثيرون استخدامها واستعملوها في غير مرضات الله ، فسلكوا طريق الغي والضلال. بتصفّح المواقع اللاأخلاقيّة ، والمواقع الإباحيّة ، التي تقتل بذرة العفّة والحياء ، ومنظومة القيم لدى الشباب والفتيات ، وهناك أشخاص تحت اسم مستعار يختارونه ، أو إضافة أسماء عائلات ، بهدف تشويه سمعتها ، وغير ذلك من الأفعال المشينة  كنشر الصور ، أو نشر بعض الافتراءات على ألسنتهم ، وقد انشغل كثير من النّاس بها عن ذكر الله وعبادته ، وقد تَعودُ على الكثير من أبناء الأمة بالشر العظيم؛ جرَّاء سوء استعمالها فهناك تنافُس بين الشركات التي تُروِّج للأعمال الإباحية، بهدف الكسب المادي؛ إذ يقدمون الكثير من المواد الإباحية ، مقابل أموال طائلة من المشتركين؛ الذين نجد نسبة كبيرة منهم  تنتمي للعالم العربي؛ لدرجة أن عدد المشتركين في بعض الدول العربية ، يفوق عدد المشتركين في بعض الدول الأوروبية، وهذا مؤشر خطير    إذ تسعى هذه الشركات الإباحية ، بكل عوامل الإغراء؛ لدرجة أن إحدى هذه الشركات أعلنت أنه يزور صفحاتها في الأسبوع الواحد حوالي خمسة ملايين.

وقد بينت الدراسات لأضرار ومخاطر شبكة الإنترنت ، أن طلاب المدارس الذين يقضون أغلب أوقاتهم في كتابة الرسائل ، معرضون لمجموعة من السلوكيات المقلقة ، بما فيها التدخين والاكتئاب ،، وتعاطي المخدرات والخمور ، والغياب المتكرر عن المدارس  وأكدت الدراسات ، أن استخدام مواقع التواصل الاجتماعي ، يشكل عائقاً أمام إقامة علاقات عائلية سوية ، بين أفراد الأسرة الواحدة ، لتأثيرها السلبي على التواصل الأسري  إذ تخلق نوعاً من العزلة النفسية، ناهيك عن الإدمان والقلق وعدم النوم والاكتئاب الذي كان في مقدمة الأخطار التي يواجهها الشباب نتيجة استخدام الإنترنت، بالإضافة إلى القرصنة والتجسس ، وسلب الأموال والسرقة عبر الإنترنت ، والتعرض للإصابة بأمراض العيون ، واضطرابات عصبية ، ومشاكل اجتماعية أخرى ، منها كثرة تداول الإشاعات والأخبار المغلوطة؛ نظرًا لعدم اشتراط التأكد من المعلومة قبل نَشرِها، أو نشر مصدر الخبر على تلك المواقع، إضافة إلى غياب الرقابة على ما يُكتَب أو ما يُنشَر في تلك المواقع، فهناك كثير من الشباب ، يقومون بنشر مواد ليست لها أي أهمية، بل إنها ضارة، وهناك ضرر كبير جدًّا لهذه المواقع، وهو ظهور بعض الألفاظ واللغات الغريبة التي هي مزيج بين العربية والإنجليزية، ويُطلَق عليها "الفرانكو"، ومثل هذه اللغات من شأنها أن تُضعِف مستوى اللغة العربية لدى الأجيال القادمة، وهناك سلبيات أخرى ، تتعلَّق بعدم تقبُّل الرأي الآخر  والنقاشات الحادة ، والمشاحنات بين الشباب على تلك المواقع ، وأكبر خطَر تلك المواقع  هو إضاعة الشباب أوقاتهم ، في التنقُّل عبر صفحاتها ، والتحدُّث في أمور ليس لها قيمة ولا فائدة، بل إن هذه المواقع ، تؤثِّر على الجانب الأسري؛ فقد طوقت افراد الاسرة بجدارات العزلة، حيث انفرد كل منهم منكباً على حاسوبه ، يتصفح المواقع الالكترونية، او غارقا في الحوارات مع اصدقاء او مع اناس مجهولين، يقيم معهم علاقات مختلفة، بعضها جاد ومفيد، وبعضها لأغراض التسلية وغيرها.

وهذا يؤدي إلى العزلة الاجتماعية، وعدم اندِماج الفرد مع أسرته ، وغيابه عن مشكلاتها وهمومها ، وعن المشاركة في المناسَبات الاجتماعية ، ومما أدى إلى زعزعة استقرار الأسرة المسلمة ، وقد أسهمت مواقع التواصل الاجتماعي في زيادة أسباب الطلاق،بسبب إدمان بعض الأزواج والزوجات والأبناء على المواقع الإباحية، وتشكوا الكثير من الزوجات اللواتي ابتُليْنَ بالتصاق أزواجهنّ بهذا الجهاز  يفتحه ليرى مَن أرسل له رسالة أو زار حسابه أو وضع تعليقًا على كلماته ، حتى عند الأكل 

يضعه على حضنه ، ويبدأ بتناول طعامه دون أن يعيَ ما حوله! وفي المساءً.. تجلس الزوجة إلى جواره.. تنظر إليه نظر المغشيّ عليه من الحزن! تتمتم في نفسها ، ألا أستحق أن يعيرني انتباهه ولو قليلاً ؟! أهذا هو الاهتمام المطلوب من الأزواج ، وعندما تخبره أنها ستخلد للنوم  تنتظر منه ردًا! فلا تحصل إلا على منظر يحطّمها: زوجٌ مسمَّرٌ أمام اللابتوب وعيونه تلاحق الكلمات والتعليقات والصور والصفحات! تنظر إليه.. تتمنّى لو كانت ذاك اللابتوب ، لتشعر بدفء يديه.. وببعض اهتمامه ، وتغمض عينيها على دمعتين حارّتين وترحل!  وليس الرجل دائما هو المذنب في تواصله وإدمانه ، على مواقع التواصل الاجتماعي، بل إن المرأة قد تكون أحد أسباب ذلك. وأفعال المرأة هي التي تتسبب أحيانا بتدمير أسرتها، حيث تتصف بعض النساء باللامبالاة وعدم الشعور بالمسؤولية أمام واجبات البيت أو حتى متطلبات واحتياجات الأبناء ، وليس هذا من نسج الخيال ، إنه واقع وتعيشه كثير من الأسر ؛ حتى علت الصرخات مدوية دون صدى! . إن مشكلة إدمان الإنترنت خطيرة جدًا ، فهي تهدد الاستقرار الأسري ، وبزداد هذا الخطر إن رافق هذا الإدمان ، دخول المواقع الإباحية أو غرف الدردشة ، للتواصل مع الجنس الآخر دون ضوابط شرعية! .

والسؤال المطروح هنا: هل لهذه المواقع منافع وأضرار؟ ورغم أهمية مواقع التواصل الاجتماعي إلا أن الآراء والمواقف تتعارض بين من يراها نعمة فريدة ، وبين من يراها نقمة ، ويحذر من مخاطرها التي لا حصر لها ، خاصة على الشباب ، فقد قدمت هذه الخدمة لكثير من الناس منافع كثيرة ، من تيسير في التعاملات وتحصيل العلوم النافعة، والانتفاع بالأبحاث المفيدة، والاطلاع على أخبار العالم، وغير ذلك من أمور الخير. وقد أوضح علماء النفس أن هذه المواقع ، تجعل المستخدمين أكثر انفتاحاً وصراحة ، وأن تكون لديهم القدرة على أن يُعبِّروا عن ذاتهم ومجتمعِهم وقضاياهم بطريقة غير مسبوقة ، تتجاوَز وسائل الإعلام بمجالاتها التقليدية ، وحتى مجالاتها الحديثة التي انتهَت بعصر التلفزيون.

إن مواقع التواصل الاجتماعي سلاح ذو حدَّين، والواجب على الشخص المسلم السوي أن يَستعمِل هذه المواقع التي سخَّرها الله تعالى  لنا؛ حتى يَكثُر التواصل والتعارف بين الشعوب في الخير، ولا يستعمله إلا للحلال ، وأن يتجنَّب الحرام، ويتجنَّب الدخول في خصوصيات الغير، واقتحام الحرية الشخصية لأي شخْص ، وهنا يبرز واجب الأهل في مراقبة أبنائهم ، ومنعهم من الجلوس لساعات طويلة أمام الإنترنت، وأن يضع الآباء قواعد أكثر صرامة لأبنائهم ، فيما يتعلق بالرسائل النصية والربط الشبكي، ويعلموهم ان اجهزة الهاتف الجوال التي يوجد بها خاصية تصوير الباندا ، غير مأمونة السرية ، في حفظ الصور والتي يمكن استعادتها مرة اخرى ، حتى وان مسحت من الجهاز ، فهناك طرق فنية تقنية تمكن المقتدرين هندسياً من استعادة أية صورة تخزنها . اللهم قد بلغت اللهم فاشهد .

 هموم المؤمن

الهم : شعور نفسي يتمثل في انقباض المزاج  مع غم وفقد للمتعة والبهجة ، والمؤمن لا تخلو حياته من الهموم والأحزان ، التي تكدر عليه عيشته وتنغص عليه لذته، ومع ما في ذلك من تكفير للسيئات، ورفع للدرجات، فإن فيها فوائد أخرى من أهمها : أنها تدفع المؤمن  إلى اللجوء إلى الله والتضرع إليه ، وأن يتخفف من شواغل الدنيا وهمومها، ويجعل همّه وشغله للآخرة، وهذا ما أرشدنا إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (من جعل الهموم همّاً واحداً هم المعاد ، كفاه الله همّ دنياه، ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديته هلك) ابن ماجه وفي رواية: (من كان همه الآخرة جمع الله شمله وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت نيته الدنيا فرّق الله عليه ضيعته ، وجعل فقره بين عينيه ، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له) أحمد .

كل إنسان في هذه الحياة الدنيا ، مهموم  ومشغول بمطالب حياته ، للحصول على حاجاته ورغباته ، ورحم الله القائل :

تعب كلها الحياة فما أعجب    إلا من راغب في ازدياد

دل على ذلك قوله تعالى :﴿ لقد خلقنا الإنسان في كبد ﴾البلد 4. والقلوب كما ذكر ابن القيم في الفوائد : تتفاوت في الهم والغمّ  ،كثرة واستمراراً ، بحسب ما فيها من الإيمان أو الفسوق والعصيان ، فهي على قلبين : قلب هو عرش الرحمن ، فيه النور والحياة والفرح والسرور والبهجة وذخائر الخير، وقلب هو عرش الشيطان ، فيه الضيق والظلمة والموت والحزن والغم والهم ، والناس يتفاوتون في الهموم بتفاوت بواعثهم وأحوالهم ، وما يحمله كل واحد منهم من المسئوليات ، وكلما كان القرار أكثر تعلقاً بمصير المسلمين ، كان الهمّ أعظم    كهمّ الداعية في نشر الدين ، وحمل الرسالة   وهم المسلم بما يصيب إخوانه في بلاد المسلمين  وما يجري فيها من المصائب ، من قتل وتشريد  وظلم واستبداد ، وتهجير وجوع ، أو المصائب الحاصلة بسبب الأمراض المزمنة والخطيرة   ومنها ما يكون بسبب الخوف من المستقبل   وما يخبئه الزمان ، وما يكون ناشئاً عن المعاصي  كالهموم التي تصيب المذنب بعد ذنبه ، وما يكون بسبب ظلم الآخرين ، ومنها الهم الأكبر الذي يحمله المؤمن : هم الخاتمة التي عليها يتوقف المصير، فإما إلى الجنة أو النار، وقد تكون الأعمال في الخير ، ثم تكون الخاتمة شراً وكفراً ، وقد تكون الأعمال كلها شراً أو كفراً ثم تكون النهاية الأخيرة إيماناً وعوداً إلى الله ، وإنما الأعمال بخواتيمها  قال صلى الله عليه وسلم : ( إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس ، وهو من أهل النار ، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار ، فيما يبدو للناس ، وهو من أهل الجنة ) متفق عليه . وما دامت هذه الخاتمة مجهولة ، فمن يدري كيف تكون ساعة النهاية  لذلك يظل المؤمن خائفاً ، يخاف أن تخونه نفسه، وأن يغلبه شيطانه، وأن تزل به قدمه  فلا يقوم بعدها أبداً .

هذه الهموم ، تجعل المؤمن يعرف الدنيا التي احتقرها الإسلام ، فيزهد فيها، ولا يركن إليها  ويقبل على الآخرة ؛ لأنها خير وأبقى، إذ لا هم فيها ولا حزن، كما قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ﴾ فاطر34. قال أبو ثابت في تفسير القرطبي : دخل رجل المسجد فقال : اللهم ارحم غربتي ، وآنس وحدتي  ويسّر لي جليساً صالحا ، فقال أبو الدرداء : لئن كنت صادقاً فلأنا أسعد بذلك منك  سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا  فمنهم ظالم لنفسه ، ومنهم مقتصد ، ومنهم سابق بالخيرات ، قال : فيجيء هذا السابق  فيدخل الجنة بغير حساب ، وأما المقتصد  فيحاسب حساباً يسيرا ، وأما الظالم لنفسه  فيحبس في المقام ويوبخ ، ثم يدخل الجنة   وهم الذين قالوا : الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن " ولذلك فإن للمؤمن ما ليس لغيره   لأنه يملك سلاح الإيمان الصادق ، بقضاء الله وقدره ، الذي يواجه به مصاعب الدنيا ، فلا توهن قوته , ولا تحطم نفسيته ، لأنه يراها منحة في أثواب محنه ، لا يراها سوى نعمة ربانية ، جاءت بلباس المصيبة ، فيعلم أن ما أصابه ، لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه ، لم يكن ليصيبه قال تعالى : ﴿ ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما أتاكم ﴾الحديد 22. فعلنا ما فعلنا ، من إثبات ما يصيبكم في كتاب ، من قبل خلْقكم  وأخبرناكم لكي لا تحزنوا على ما أصابكم من مصائب ، حزناً يؤدي بكم إلى الجزع ، وإلى عدم الرضا بقضاء الله وقدره ، ولكي لا تفرحوا بما أعطاكم الله  من نعم عظمى وكثيرة ، فرحاً يؤدي بكم إلى الطغيان ، وإلى عدم استعمال نعم الله ، فيما خُلقت له ، ومن علم ذلك هانت عليه المصائب ، واطمأنت نفسه لما قضاه الله    وكان عند الشدائد صبورا ، وعند المسرات شكورا ، وفي ذلك من تكفير للسيئات ، ورفعة للدرجات ، فمن شرحَ اللهُ صدرَه للإسلام  وعمَرَ قلبَه بالإيمان ، اطمأنَّت نفسُه ، وهدَأَت سريرتُه، وتنزَّلَت عليه السَّكينة ، وامتلأَ بالرِّضا قلبُه قال تعالى : ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ ﴾الفتح 4. فكم من مُسلمٍ تكالَبَت عليه الهُموم فتوضَّأ وتطهَّر، وتلا من كتابِ الله ما تيسَّر له، أو صلَّى فانزاحَت هُمومُه؟! وكم من مُسلمٍ اضطجَعَ على جنبِه الأيمن في منامِه، وقرأ بعضَ آيات أو تلا بعضَ أوراد، فنامَ قريرَ العين  ؟! وكم من مُسلمٍ أصابَه قلقٌ أو وحشةٌ  فاستأنَسَ بآياتٍ من كتابِ الله ، فوجدَه نعمَ الأنيس وخيرَ الجليس؟! وكم من مُسلمٍ نالَه فقرٌ  فوجدَ في كتابِ الله غِناه؟!  وكم من غنيٍّ كادَ أن يُطغِيَه غِناه ، فأنقَذَه مولاه بآياتٍ من كتابِ الله فانكشَفَ له السِّتار، وتذكَّر النِّعَم  وابتغَى ما عند الله؟!  أولئك هم الصالِحون الطيِّبُون المُحسِنون، المشَّاؤُون للمساجِد المُطمئنُّون بذِكر الله، إنهم الأقوَى والأقدرُ على مصائِبِ الحياة .   

فلا حصانَة للنفس من الهموم ، أعظمُ  وأسرعُ من الإيمانِ بالله ، والسَّير على هُدى الله، لأن الإيمانُ ينشُرُ الأمان، ويبعثُ الأمل ، والأملُ يبعثُ السَّكينة، والسَّكينةُ تُورِثُ السعادة. فلا سعادةَ بلا سَكينة، ولا سَكينةَ بلا إيمان ، فهو الغذاءُ، وهو الدواء، وهو الضياء ، ولذلك فإن صاحب الإيمان ، راسِخُ العقيدة، حسنُ العبادة، جميلُ التوكُّل، كثيرُ التبتُّل، عظيمُ الخُضوع، طويلُ الخُشوع، مُديمُ الذِّكر، عميقُ الفِكر، مُلازِمٌ للعمل الصالِح ، واسِعُ الصدر عظيمُ الأمل، كثيرُ التفاؤُل. لا يتحسَّرُ على ماضِيه باكِيًا، ولا يعيشُ حاضِرَه ساخِطًا، ولا ينتظِرُ مُستقبَلَه خائِفًا قلِقًا، وكما يقول ابن القيم : "لا تُفسِد فرحَك بالقلق، ولا عقلَك بالتشاؤُم إنك لو تأمَّلتَ حالَك ، لوجدتَّ أن الله قد أعطاك أشياء ، دونَ أن تطلُبها، فثِق أن الله لم يمنَع عنك حاجةً رغِبتَها ، إلا ولك في المنعِ خيرٌ تجهلُه". ولسان حالُ أهل الإيمان والصلاح، هذا الدعاء: "اللهم لا تجعَل الدنيا أكبرَ همِّنا". بينما يتعذَّبُ ملايين البشر اليوم ، الذين يلهَثُون وراءَ المُسكِّنات والمُنوِّمات ، ويبحَثُون في الكتب والمُؤلَّفات والمقالات. فقَدَت نفوسُهم الأمن، قلِقُون من الموت ، يخافُون من الفشل، جزِعُون من الفقر وجِلُون من المرض ، إلى غير ذلك مما تجرِي به المقادِيرُ على جميع الخلائِق. مساكِينُ أهل هذا العصر ، حين يدرُسُون النفسَ الإنسانيَّة مقطوعة الصِّلة ، بالله خالِقِها ومُدبِّرها، ومُقدِّر أحوالِها وشُؤونِها ، يتكلَّمون عن أثر البيئة، وعن أثر الأُسرة  وعن أثر الاقتِصاد، ولا يتكلَّمون عن الهُدى والضلال ، والكُفر والإيمان، والطاعة والعبادة.فانقَلَبَت عندهم المعايِير، واضطرَبَت لديهم المقايِيس ، وذهبَت الفضائِل، وضاعَت القِيَم وانحلَّت الأخلاق، فلم تُفِد حلولُهم، ولن تُجدِي اختباراتُهم ولا مُختبراتُهم، من ضلالِهم وانحِرافاتِهم أن عَدُّوا ضبطَ الشهوات كبتًا ، والإحساسَ بالذنبِ تعقيدًا ، بينما المُؤمنُ يعيشُ وذِكرُ الله شِعارُه والتوكُّلُ على الله دِثارُه، وما تلذَّذَ المُتلذِّذُون بمثلِ ذِكر الله ، رُوِي عن جعفر الصادقِ أنه قال : "عجِبتُ لمن اغتمّ ولم يفزَع إلى قولِه تعالى : ﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾الأنبياء 87 ، دعوة ذي النُّون عليه السلام ، فإني سمعتُ اللهَ يُعقِبُها بقولِه : ﴿ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ﴾الأنبياء 88. وعجِبتُ لمن أصابَه الحَزَن ، ولم يفزَع إلى قولِه تعالى: ﴿حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾آل عمران 173 ، فإني سمعتُ الله تعالى يقول: ﴿ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ ﴾آل عمران 174. وعجِبتُ لمن أحاطَت به المكائِد ، ولم يفزَع إلى قولِه تعالى: ﴿ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾غافر 44، فإني سمعتُ اللهَ يُعقِبُها بقوله: ﴿ فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا ﴾غافر45 ". ويُصدِّقُ ذلك ويُجلِّيه: قولُ رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( دعوةُ ذي النُّون إذ دعا ربَّه وهو في بطنِ الحُوت:﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾لم يدعُ بها رجلٌ مُسلمٌ في شيءٍ قطُّ إلا استُجيبَ له) أخرجه أحمد في مسنده  والترمذي في جامعه .  ومن اللطيفِ  ارتِباطُ دعوات المكرُوب ، بتحقيقِ التوحيد يقولُ رسول الله صلى الله عليه وسلم  : ( اللهم رحمتَك أرجُو ، فلا تكِلني إلى نفسِي طرفةَ عينٍ وأصلِح لي شأني كلَّه، لا إله إلا أنت ) أبو داود.  والالتِجاءُ إلى الله ، والتوكُّل عليه  وحُسن الظنِّ به  من أعظمِ مُفرِّجات الهُموم ، وكاشِفات الكُروب  وطارِدات القلَق ﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ﴾الطلاق 3، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم  إذا أكربَه أمرٌ قال: ( يا حيُّ يا قيوم  برحمتِك أستغيث ) رواه الترمذي. وفي الحديث الصحيح عن ابن مسعودٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما من مُؤمنٍ يُصيبُه همٌّ أو غمٌّ أو حَزَن فيقولُ: اللهم إني عبدُك، ابنُ عبدِك، ابنُ أمَتِك ناصِيَتي بيدِك ماضٍ فيَّ حُكمُك، عدلٌ فيَّ قضاؤُك أسألُك اللهم بكل اسمٍ هو لك، سمَّيتَ به نفسَك أو علَّمتَه أحدًا من خلقِك، أو أنزلتَه في كتابِك، أو استأثَرتَ به في علمِ الغيبِ عندَك، أن تجعلَ القرآن الكريمَ ربيعَ قلبي، ونورَ صدري، وجلاءَ حَزَني وذهابَ همٍّ وغمِّي؛ إلا فرَّج الله عنه ) رواه أحمد في مسنده .

 

 

 

 

الله يمهل ولا يهمل

إن الله سبحانه وتعالى صبر على الظالمين رغم ظلمهم ، ورغم كيدهم وطغيانهم   يمهلهم ويملي لهم ﴿ وأملي لهم إن كيدي متين ﴾ ويقول لنبيه صلى الله عليه وسلم:   ﴿ إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا فمهل الكافرين أمهلهم رويدا ﴾الطارق 15 قد يقول قائل : هذه الآية نزلت في الكافرين ، وفي كل ظالم يظلم عباد الله ، وفي كل من يقف مع الظالم حتى بقلبه أو بلسانه وذلك لأنه موافق على ظلم الظالمين ، ومن السنن الإلهية أن الله تعالى لا بد أن يأخذ الظالم ولو بعد حين، فقد جرت عادة الله في خلقه أن الله ، يمهل ولا يهمل، وأن نهاية الظالمين أليمة، والمتأمل في سير الظالمين في القرآن الكريم ، يجد في مصارعهم عبرة وعظة، وأن الله يخزيهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وقد جعل الله عقوبة الظلم والبغي ، معجلة في الدنيا قبل الآخرة ، لشناعة الظلم ، وكثرة أضراره   جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة ، من البغي وقطيعة الرحم) ، وعلى الباغي تدور الدوائر   فيبوء بالخزي ، ويتجرع مرارة الذل والهزيمة   وقد اقتضت سنة الله تعالى ، بإهلاك الظالمين ، ومحق المعتدين ، وقطع دابر المفسدين ، قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: "الغالب أن الظالم تُعَجّلُ له العقوبة في الدنيا ، وإن أمهل فإن الله يملي له ، حتى إذا أخذه لم يفلته" . كثيراً ما يسأل الناس عن الحكمة من إمهال الله للظالم ، فيستمر في ظلمه وبغيه مدة طويلة، والحكمة الإلهية تظهر في أن الله لا يؤاخذ الظالم من أول ظلمه، فلو أخذه من أول مظلمة ولو حقيرة   لم تظهر سنة التأديب والاعتبار للآخرين لأن عقوبة الظالم في أول طريقه ، عقوبة لا يراها أحد ، لأنه ظالم صغير، والعقوبة الإلهية تكون بحجمها، والله يمهل الظالم ليترقى في الظلم، ويرتفع فيه ، حتى يبلغ السماء، فيراه ويسمع به كل الناس ، حينها يأمر الله به أن يُوضع ، ويهوي في أسفل سافلين، فكلما ارتفع الظالم وعلا ، كان أبين لسقوطه والاعتبار به، ولهذا قال تعالى: ( وكذلك أخذُ ربك إذا أخذَ القرى وهي ظالمة إن أخذَه أليمٌ شديد) هود 102. الألم والشدة مجتمعة ، ولا تكون إلا بعد ارتفاع وعلو في الظلم، وإن ذكر الله أخذ الظالمين في القرآن كله ، موصوف بالبطش والقسوة  لأن الله عادل ، ولا يُعاقب بعقوبة عظيمة على مظالم يسيرة ، والله بحكمته البالغة  يمهل الظالم ، ليعتبر به من في الأرض كلهم  ولو وكلهم إلى عقوبات الصغائر والكبائر اللازمة ، لما زادهم إلا تمرداً . فكان لا بد أن يقتص الله جل جلاله من الظالم ، في الحياة الدنيا ، حتى يعادل ميزان الحياة ويعرف الناس أن الظالم له قصاص دنيوي بجانب قصاص الآخرة،لذلك يقول الرسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب ) رواه البخاري ومسلم ،يرفعها الله فوق الغمام ،ويقول وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين    فالله تعالى يمهل الظالم إلى وقت عذابه  لكنه لا يهمله، لما ثبت في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته.. ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم:﴿ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾هود 102، وقال تعالى: ﴿ وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ"﴾الحج48. فقوانين الله ، أن الذي لا يتغير مع الأيام ، تفوته الأيام ، وتدوسه الأقدام ، والذي لا يقيّم الأحداث ، تلتهمه الأحداث ، حتى تعد عليه الأنفاس ، والذي لا يقدّر الناس يلفظه الناس ، ويلتقطه الوسواس الخناس ، والذي يجهل قوانين الله   يبعده الله ، ويجعله عبرة في الحياة ، قبل الانتقام منه يوم أن يلقاه ، قد يستبد الحاكم بأمره أيام وساعات ، وقد يغتر الظالم بظلمه شهور وسنوات ، فيظلم عباد الله، ويدمر بلاد الله  والله يمهله بحلمه عليه، ويستره بستره له فيتمادى الظالم في غيه وجبروته وينسى أن الله يمهل ولا يهمل، وينسى كيف انتهى الجبابرة والطغاة الظالمون؟ وكيف انتهى الأكاسرة والقياصرة والفراعنة؟

أين من دوخوا الدنيا بسطـوتهم  وذكرهم في الورى ظلم وطغيان

أين الجبـابرة الطاغون ويحهمـوا  وأين من غــرَّهم لهو وسلطان

هل خلَّد الموت ذا عـز لعــزته  أو هل نجى منه بالسلطان إنسان

لا والذي خلق الأكوان مـن عدم الكل يفنى فـلا إنس ولا جان

فمن يستطيع أن يفلت من مكر الله إذا أحاطه ؟ بل كيف يفلت من قبضة الله تعالي إن أخذه؟ إن الظلم مرتعه وخيم،ومصيره أليم ، وشره عميم ، ودعاء المظلومين مستجاب ولو بعد حين :

لا تظلمن إذا ما كنت مقتــدراً  فالظلم مرتعه يفضي إلى الندمِ

تنام عينك والمظلــــوم منتبه   يدعـو عليك وعين الله لم تنمِ

نعم فان الله يمهل الظالم ولا يهمله حتى إذا أخذه لم يفلته:﴿ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾ الفجر14.  يرصد خلقه فيما يعملون، ويجازي كلاً بسعيه في الدنيا والآخرة، وسيُعرض الخلائق كلهم عليه ، فيحكم فيهم بعدله، ويقابل كلاً بما يستحقه، وهو المنزه عن الظلم والجور" فلا يعذب أحداً بغير ذنب:﴿ فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنبِهِ﴾ العنكبوت 40، ومن حكمة الله عز وجل ، أن جعل العقوبات التي أصابت الأمم المعذَّبة ، تتفاوت بتفاوت جرائمهم  وعصيانهم لله عز وجل ، فكان عذاب كل أمة بحسب ذنوبهم وجرائمهم، فعذب قوم عاد بالريح الشديدة العاتية ، وعذب قوم لوط بأنواع من العذاب ، لم يعذب بها أمة غيرهم، وعذب قوم شعيب بالنار التي أحرقتهم وأحرقت تلك الأموال التي اكتسبوها بالظلم والعدوان، وأما ثمود فأهلكهم بالصيحة فماتوا في الحال ، ومن اعتبر بأحوال العالم قديماً وحديثاً، وما يعاقب به من يسعى في الأرض بالفساد وسَفَك الدماء بغير حق ، وأقام الفتن  واستهان بحرمات الله؛ علم أن النجاة في الدنيا والآخرة للذين آمنوا وكانوا يتقون . ومن لطف الله بعبده الظالم ، أن يمهله لعله يتوب ، ويؤخره لعله يقلع ، فإذا تمادى في ظلمه فربما أخَّره ، ليزداد في الإثم، ثم يأخذه أخذ عزيز مقتدر؛ لأنه قد استحق العقوبة . وما حدث ويحدث في البلاد الإسلامية ، لا تنساه الأجيال ،ولن يمحوه الزمن ، لأنه تحول رهيب ، وتغير عجيب  سُجن السجان، وخرج المسجون ، وأُطلق المقيد ، وقُيد الطليق ، وسَقط الحاكم   وحَكَم المحكوم ، وقد ولّي من ولّي ، وعزل من عزل ، بأمر الذي يقول للشيء كن فيكون ، يقول ابن الجوزي رحمه الله: "ما زلت أسمع عن جماعة من الأكابر وأرباب المناصب ، أنهم يشربون الخمور  ويفسقون، ويظلمون،ويفعلون أشياء توجب الحدود، فبقيت أتفكر وأقول: متى يثبت على مثل هؤلاء ، ما يوجب حداً؟ فلو ثبت فمن يقيمه؟ وأستبعد هذا في العادة؛ لأنهم في مقام احترام ، لأجل مناصبهم، فبقيت أتفكر في تعطيل الحد الواجب عليهم؛ حتى رأيناهم قد نكبوا، وأخذوا مرات، ومرَّت عليهم العجائب، فقوبل ظلمهم بأخذ أموالهم، وأخذت منهم الحدود مضاعفة بعد الحبس الطويل، والقيد الثقيل، والذل العظيم، وفيهم من قتل بعد ملاقاة كل شدة،فعلمت أنه ما يهمل شيء، فالحذر الحذر، فإن العقوبة بالمرصاد".

 وما حدث في الأمة  من موبقات إنما هي لعنات امتدت إلي أصحاب الأيدي ألاثمة  والقلوب المظلمة ، والعقول المتأسلمة فكانت موبقات مفجعة ، نفوس تزهق  وأموال تغتصب ، وإعراض تنتهك ، وحريات تصادر ، وإرادات تزور، وفتن تمرر ، بل وطن ينهب ..!!إنهم كانوا يحبون إشاعة الفاحشة في الذين امنوا ، يخططون لذلك ويعاونهم إبليس ، ويناصرهم كل خائن خسيس ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ النور19. كانوا يعشقون الفتن ، سواء في نواديهم النكراء ، أوعلي جرائدهم الصفراء   أو في لياليهم الحمراء ، كما يسمونها ﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ﴾البروج10. أمهلهم الله عقودا كاملة ليعودوا ويتوبوا ، لكنهم أهملوا الإمهال  وعشقوا الأموال ، ورفضوا الإذلال ،للكبير المتعال ، فهتك سترهم ، وفض أمرهم   ورد مكرهم ، وجعل تدبيرهم تدميرهم   وربما هذا الذي هم فيه نوع آخر من الإمهال ، ليعودوا ويتوبوا ، ويتلقوا جزاء الدنيا بصدر رحب ، وإلا فهناك في الآخرة أشياء ، ربما لا يصدقونها ، والله يمهل ولا يهمل ، ألا يتعلم الباقون قبل فوات الأوان   ألا يعتبر المتحكمون قبل نزول الأحكام ، ألا يتعظ الذين يقتلون الناس أو يأمرون بقتلهم أو يسكتون على قتلهم ، اللهم لا تدعنا في غمرة   ولا تأخذنا على غرة ، ولا تجعلنا من الغافلين .  

 

 

دول الكفر تفرض علينا الأحداث

لم تكن الأحداث التي يعاني منها المسلمون هي الأولى ، ولن تكون الأخيرة ، فالتاريخ حافلٌ بأقدار من الخير والشرّ ، دارت بشأنها سنن ، وجرت بسببها ابتلاءات ، وحصلت بعدها تغييرات في أحوال الأمم والمجتمعات ، وإذا كان لهذه الأحداث تأثيرٌ علينا ، فما هو المطلوب منا ؟ ومتى نُعِدُّ للأمر عدته ؟ ولماذا لا نكون كالجسد الواحد يشدُّ بعضه بعضاً؟ لنواجه ما يطرحه زعماء الكفر وأعوانهم والمنظمات السرية التي تدير العالم  كالماسونية والصهيونية،  وفضح هذه القوى الشيطانية الخطرة ، لذا ليس من المستغرب أن يتجاهل رجال الدين واساتذة الجامعات والكتاب والسياسيون عبر العالم حقيقة وجودها ، لما لها من القوة والنفوذ في العالم، ومن يحاول كشفها تسكته أو تتخلص منه ، غير أننا بين الحين والآخر تطالعنا كتابات جريئة ، تكشف هذه القوى الخفية الشريرة  ودورها في عالمنا المعاصر، فكثيرا ما حجبت الحقائق الموضوعية لأحداث عالمية في التاريخ الحديث من قبل أيد خفية ، مما أدى إلى وقوع أحداث غامضة ، عجز الناس عن إيجاد تفسير منطقي لها ، وعن إدراك القوى المحركة من ورائها، وقد كان وراء التعتيم أو التبرير الخاطيء ، لكثير من الأحداث العالمية ، قوى خفية تحاول السيطرة على العالم  وتعد عليه أنفاسه، ولها مصالح تعلمها ، ولها طرقها الخبيثة لتحقيق غاياتها  والوصول الى تحقيق أهدافها، ولها أساليب فاسدة هي من صنع مفكريها ومخططيها ولها قوة قادرة على اختراق جدار الدول  مما جعل منها قوة مسيطرة  ومهيمنة على العالم ، تعارف الكتاب على تسميتها بحكومة العالم الخفية، وهذه الحكومة ليس كما يتبادر إلى الأذهان ، من أن لها كيان معلن كملوك ورؤساء وحكام ووزراء، بل هي تتكون من منظمات وجمعيات وشركات خفية، استخدمت عبر التاريخ ملوك ورؤساء وحكام وأمراء ووزراء ، لتنفيذ أهدافها ، أو كان بعضهم جزءا أصيلا من نسيجها أو أنها تخلصت من بعضهم ، لوقوفهم في وجه مخططاتها ، علموا ذلك أو جهلوا، هذه المنظمات السرية والشريرة ، والتي تكوِّن الحكومة الخفية ، تتدخل في شؤون البشر وهي منتشرة في امريكا وأوروبا وتتعامل بالإشارات والرموز ومنها شركات البترول والادوية وتصنيع السلاح، وهى تسيطر الآن على النواحي الاقتصادية الداخلية والخارجية، ولها شركات كبيرة ، تحت ظل الأمم المتحدة ، هذه هي المؤسسة اللعينة التي أنشأوها للسيطرة على العالم ، كما نعاني من  تصريحات زعماء الكفر، التي تحمل في صريح عباراتها الحقد والكراهية وحب الانتقام ، وهو يعكس ما تنطوي عليه نفسيتهم من كره للإسلام والمسلمين ، مما جعلنا   نتألم من هذا الواقع المرير ، وقد أُصيبت الأمة بالإحباط ، وهي ترى مساندة الكفر وأهله من قبل فئة من المسلمين ، لأن ذلك يتنافى مع مبادئ ديننا وعقيدتنا  لما روى مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا قال الرجل : هلك الناس فهو أهلكهم ) . ولأن مساندة دول الكفر معصية ، ومخالفة لله وعدم إحساس بالمسؤولية  وضعف بالانتماء للإسلام ، لذا كانت مواقف المسلمين المؤيدين لما يتخذون من قرارات جائرة ضد الإسلاميين ، سلبية تدفعهم إلى اللامبالاة بالأحكام الشرعية والاستهانة بشعوبهم ، وعدم الاكتراث بمشاعرهم ، والوقوف إلى جانب المجرمين ، الذين عاثوا في الأرض فساداً ، وتلوثوا بدماء الأبرياء . متجردين من وازع الخوف من الله تعالى ، والالتجاء إليه والاعتماد عليه ، لأن قلوبهم امتلأت تعظيماً لأعداء الله وثقة بهم ، وقد تعاموا عن إدراك الوقائع والأحداث ، ناسين أن الارتماء على أعتاب دول الكفر من علامات الخزي والخذلان ، ومتناسين تكفل أهل الكفر بتفكيك العالم الإسلامي   وفرص سيادتهم عليه ، ونهب ثرواته ، وتصدير نظمهم إليه وفرض القرارات الجائرة عليه وربطه بالسياسة والاقتصاد والحصار ، ليأخذ صفة الإلزام حتى يردوا المسلمين عن دينهم  وهذا ما أخبر به سبحانه وتعالى: ﴿ ودَّ كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق﴾ البقرة 109 لقد أهمل المسلمون الواجب المطلوب منهم ، من مدافعة الشر ومقاومة أهل البغي والظلم   بكل ما أوتوا من قوة عملاً بقوله تعالى: ﴿ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة  ﴾ فالسلاح وبناء الجيوش قوة ، والكلمة الجريئة التي تفضح مخططات الأعداء والمنافقين قوة ، والإلحاح على الله بالدعاء على الأعداء والتمسك بالإسلام والدعوة إليه قوة ، وإن التخلي عن أحكام الإسلام لإرضاء الأعداء أو تفصيل شريعة الإسلام على أهواء الناس ومطالبهم أو الوقوف موقف المتفرج لما يعانيه المسلمون ، هو ضعف يمقته الله .

لقد توهم المثبطون والمنافقون أن تنفرج الأزمة ، وتمنوا على العالم أن ينادى بإنصاف المسلمين  ويبدو أنهم كذبوا ،لأن المراقب لتصرفاتهم ، وما يواجهوا به المسلمين  باسم محاربة الإرهاب ، اخطر من الغزو الصليبي والاجتياح التتاري ، وهي مصيبة أكبر من أي كلام بلا عمل ، ومن أي عمل بلا فقه ، ومن أي فقه بلا إخلاص ، وهي أخطر من أن تطغى فيها الاجتهادات الفردية أو العصبيات الحزبية أو النعرات القومية والوطنية والقبلية  إنها أشق من أن تتحمل مسئوليتها جهة واحدة ، وأدق من أن تقوم بشأن مواجهتها دولة واحدة ، إنها بحاجة الى تحرك على مستوى كل المسلمين بعد أن يعلنوا الولاء الصادق لله ورسوله ، وعندها مهما طال زمن المواجهة  وعظمت مشقتها  ومهما كثرت الخسائر ، فالعاقبة للإسلام ، رغم كل الضغوط التي تصب ظلماً وعدواناً ضده  وضد الداعين إلى التحاكم الى شريعة الله ، وإن دين الله باق مهما استبد الطغاة الحاكمون بأمرهم في حرب الإسلام ودعاته  وهذه حقيقة علمنا إياها الله سبحانه بقوله ﴿ هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون﴾ التوبة 33 ، ورغم أن كيد الأعداء ضد الإسلام ودعاته مستمر ، إلا أن عاقبتهم الخسران والدمار ، لأن الإسلام قادم رغم كل السدود والعوائق والقيود ، وصدق الله ﴿ ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون﴾ الأنبياء 105 . إن ما تمر به الأمـة يقع وفق سنن ربانيـة لا تتبدل ولا تتغير، ولن تعود الأمة إلى عِزَّتها وسيادتها إلا وِفْقَ هـذه السنن التي لا يجدى معها تعجل الأذكياء ، ولا وهم الأصفياء، ومحال أن ينصر الله عز وجل هذه الأمة ، وهى خاذلة مضيعة لدينه، فلا بد أن تنصر  دين الله لينصرها  وهو القائل:  ﴿ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾   الحج: 40. 

 

المنافقون هم العدو

في هذه الأيام يتعرّض المسلمون لأحداث ومؤمرات وتيارات جارفة ، تمتحن بها عزائمهم  وصمودهم ، ومدى إصرارهم وحرصهم على صنع مستقبلهم ، وفرض وجودهم وهيبتهم ولا يكون ذلك إلا بالرجوع إلى منهج الله نسير على هداه ، لأن من التمس الهدى في غيره أضله الله ، إننا في أمس الحاجة إلى رعاية من الله ، تجبر كسرنا  وتهدي نفوسنا وتطهر قلوبنا ، وتجمعها على محبته ، وبذل الجهد   في طاعته واتباع منهجه حتى يبدل الله خوفنا أمنا ،وضعفنا قوة واختلافنا وحدة ، وهزيمتنا نصرا وذلنا عزا ، وحتى يتحقق ذلك فقد حدد الله لنا معالم الطريق التي نسلكها ، مع أعدائنا ، الذين يعتدون علينا ويتربصون بنا الدوائر، ويتحينون الفرص للقضاء علينا ، فقال تعالى : ﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق ﴾ الممتحنة . بدأت الآية ببث روح الإيمان القوي في نفوس المؤمنين ، وحين وجه النهي للمؤمنين ، ذكر دوافعه التي تثير كوامن الحفاظ على النفس ، وبينت ماضي العداء ، الذي يعاني المسلمون من اثاره وعواقبه ، وما يزال الحقد يملأ قلوبهم على المسلمين والرغبة في إبادتهم ، حين يظفرون بهم  لذا لا يجوز الاتصال بهم وإفشاء أسرار المسلمين إليهم ، أو الإقدام على أي عمل يمكنهم من التسلط على المسلمين ، ولا يجوز موالاتهم ، ومن يتولهم فقد ضل الطريق ، وخالف قول الله : ﴿ لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء ﴾ آل عمران 28 ، لقد تجرد من دينه وعاطفته من تجسس على الأمة لحساب الأعداء ، وكيف ينام وهو منعم مستريح ،والمسلمون   مستعبدون ومشردون يصيحون ويستنجدون ، وكيف ينشئون علاقات تفاهم ومودة مع الذين شرّدوا المسلمين ، وطردوهم من ديارهم ، ومع الذين ساعدوا على إخراجهم ويسيمونهم سوء العذاب ، أما فقهوا قول الله تعالى ﴿ لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء ﴾ إني لأعجبُ حين أرى من يوالي أعداء الأمة فيشكر جلادها، ويهتف لسجَّانها

 وأمتنا على غير عادتها  تفشل في حصد ثمار تضحياتها تثور وتنتصر ثورتها ثم تكون هي أولى ضحايا ثورتها ، تزرع ويحصد غيرها  وتُنْتِج لتجوع ويأكل غيرها  ومن يوالونهم ويهادنونهم فهم العدو أينما كانوا وساروا  نعرفهم بأوصافهم التي تعلمناها مِن كتاب ربنا ، حتى لا ننخدع بهم ، لأنهم أهلُ جهالةٍ وإِنْ علا صوتُهم، وتضخَّمَتْ أجسادُهم فما الصوت ولا الجسد بقادرٍ على إحقاق باطلٍ أو إبطال حقٍّ ، وصفهم الله فقال :﴿ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ العَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ المنافقون:4 إن بلية الإسلام بهم شديدة، لأنهم منسوبون إليه  وإلى نصرته وموالاته، وهم أعداؤه في الحقيقة، يخرجون عداوته في كل قالب يظن الجاهل أنه إصلاح، وهو غاية الجهل والإفساد، فلله كم معقل للإسلام هدموه! وكم من حصن له قلعوا أساسه وخربوه! وكم من لواء له مرفوع قد وضعوه!، فلا يزال الإسلام وأهله منهم في محنة وبلية، ويزعمون أنهم بذلك مصلحون ﴿ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّيَشْعُرُونَ ﴾البقرة12﴿ يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ الصف 8 ، إنهم شرذمة قليلون ، وعن طريق العِزَّةِ تائهون ولرشدِ عقولهم فاقدون   يسبِّحون بحمدِ الأعداء ، ويقدسون   ولخططهم  ينفِّذون  وعن كتاب الله يُعرضون وبسنَّةِ نبيِّهِ يَستهزئون وللإسلام يحاربون وهم لأعداء الله موالون وبهم معجبون، ولثوابت ديننا وأخلاقنا يَهدِمون ، وفي أودية شهواتهم يهيمون ، يفسدون في الأرض ولا يصلحون، قاتلهم الله أنَّا يؤفكون ، وما علموا أنهم في غيهم يعمهون ، ولو قرأوا كلام ربّ العالمين لوجدوا أنَّ ﴿ لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ ﴾ فلا نعجب من تمكين المعادين ، ومن تكميم أفواه المصلحين ، في زمن يسن العدو علينا السكاكين   لأننا على يقين بأنَّ من ينصر الله فله النصر المبين ، وجزاءه في الأرض العلو والتمكين ، ومن يتنازل عن الدين ، إرضاء للكافرين ، فجزاؤه الهزيمة والذل نكالاً من الله القوي المتين   يفرح المنافقون دوما بما ينزل على المسلمين من مصائب وآلام ويحزنون اذا حققوا أي انتصار لأن قلوبهم ليست مع المؤمنين وأن ولاؤهم ، مع الكافرين قال تعالى:﴿إن تصبك حسنة تسؤهم، وإن تصبك مصيبة يقولوا قد اخذنا امرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون ﴾ إن الله عزَّ وجَلَّ حذَّر المؤمنين من بقاء المنافقين مستترين فقال: ﴿ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ﴾ وكان من رحمته أن تُصِيب بعض المحن أمة الإسلام حتى تكون لحظات كاشفة لا يستغني عنها المؤمنون ولذلك قال تعالى: ﴿ مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ إننا نرى ألسِنَةً وأقلامًا من الإعلاميين أو السياسيين أو علماء السلاطين ، ونرى قدرتهم العجيبة على تجميل المنكر، وتبرير الخيانة، وتزيين الفضيحة ، بما يمتلكون مهارات فريدة في التلاعب بالألفاظ ، فيسمُّون الجبن حكمةً، والقعودَ عن الحق بُعْدَ نَظَرٍ، والخيانةَ ذكاءً  والجهادُ عندهم تهورًا، والدفاع عن الحقوق إرهابًا ، وبما لهم من حلاوة لسان ، وحسن بيان ، يخدعون البسطاء من أبناء الأمة ، فيحسبونهم حكماء عقلاء  وأذكياء نجباء، وهم أبعد ما يكون عن هذه الصفات ، روى الإمام أحمد عن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي كُلُّ مُنَافِقٍ عَلِيمِ اللِّسَانِ ) ومما يدعو للأسف رفضهم للجهاد والبذل بالرغم من كل ما يعانيه المسلمون ، وما توقَّف لُهاثُهُم يومًا في سبيل المسارعة إلى موالاة الأعداء، وتبنِّي مواقفهم أكثر مما يتبنَّونها هم أنفسهم .

ولهذا كان القرآن حازما معهم لأنّ خطرهم أشد من العدو الظاهر، فإذا أنكرت أي منكر حسبوا أنّك تقصدهم ، وإذا هاجمت أي رذيلة دافعوا عن أنفسهم ، وإذا سمعوا أي آية عن المفسدين ظنوا أنّها تخاطبهم   قال تعالى: ﴿ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُون ﴾ المنافقون .

 

المؤمن قويٌ بإيمانه

المؤمن هو الذي يؤمن أن هذه الحياة فانية ، وأن ورائها حياة خالدة ، ولا يوجد غير المؤمن من يعظّم الله ويكبّره إذا اغتر جبارٌ بقوته وسلطانه ، وقال بلسان الحال } أنا ربكم الأعلى { . والذين يعتدون على الأمة في سبيل الجشع   ويتلاعبون بهم ، ويستولون على مقدراتهم ، لا يخافون إلا من صحوة المؤمنين ، لأنهم لا يريدون من المسلمين إلا أن يركنوا إلى سيادتهم وقيادتهم   وكأنها أمر مقرر لا مفر منه ، وأنه أمرٌ لا يقبل التحول .  وقد حذرنا الله من الركون إليهم فقال تعالى : } ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار { 113 هود . لا تستندوا ولا تطمئنوا إلى الذين ظلموا . ولا إلى الجبارين الطغاة الظالمين ، أصحاب القوة في الأرض الذين يقهرون العباد بقوتهم ، ويعبّدونهم لغير الله من العبيد .. لا تركنوا إليهم . فأن ركونكم إليهم يعني إقرارهم على هذا المنكر الأكبر الذي يزاولونه ، ومشاركتهم إثم ذلك المنكر الكبير . قال تعالى } واتَّبع الذين ظَلموا ما أُترفوا فيه وكانوا مجرمين ، وما كان ربك ليهلك القرى بظلمٍ وأهلُها مصلحون { 116 هود . فالأمة التي يقع فيها الفساد بتعبيد الناس لغير الله  فيقوم فيها من يقاوم ذلك ويدفعه ، لا يأخذها الله بالعذاب والتدمير ، أما الأمة التي يظلم فيها الظالمون ، ويفسد فيها المفسدون ، ولا يوجد فيها من يدفع أو يستنكر الظلم والفساد ، فإن سنة الله تحق عليها بهلاك الانحلال والاختلال   

إن حقيقة الإسلام إذا تمثلت في جماعة مؤمنة بربها   تستطيع أن تجتاز كل عقبة وتهزم كل قوة ، وتأتي بعجائب وآيات من الإيمان والشجاعة والإيثار   يعجز الناس عن تعليلها كما عجزوا من قبل عن تعليل حوادث الفتح الإسلامي .

إنه لا أمل ولا مستقبل للأمة إلا في منهج الله   وإن قوتها الكبرى تكمن في الإيمان و الطاعة و الدعوة إلى الله ، وعندما فقد المسلمون ذلك  فقدوا روح الرسالة التي كانوا يحملونها ، وقوة المسلمين وروحهم في الرسالة و الدعوة ، ولما أصبحوا لا يحملون هذه الرسالة فقدوا الإيمان ، ففقدوا القلوب التي كانوا يلقون بها عدوهم   وسلاحهم الذي كانوا يحاربون به ، فيهزمون أضعافهم في العدد والعدة . وكما فقدوا الإيمان فقدوا الأخلاق والفضائل التي كانت لهم قوة روحية ،   و سلاحاً ماضياً في معترك الحياة ، وجمدت عقولهم و حرموا الاجتهاد والتفكير ، وترك ولاة أمورهم الجهاد في سبيل الله ، واشتغلوا عنه بحروب منافسة وشهوات ومطامع  حتى غشيهم الزحف الأمريكي الذي تحكم في البلاد و العباد . والسؤال هنا ما هو المنتظر من المسلمين ؟ وهل فيهم من يعمل لرفع راية الإسلام ويجتهد لإعلاء كلمة الله في الأرض  ؟ كلا والله   لأننا نرى من يقدِّم لهم من المسلمين كل معونة يقدرون عليها ولقد أحسن القائل :

لمثل هذا يذوب القلب من كمدٍ    إن كان في القلب إسلام وإيمان

أجل لو كان في القلب إسلام وإيمان ، لما ارتضى مسلمٌ بهذا الخزي  

قرأت أسطورة تقول : أن رجلاً اعتدى عليه عفريت من الجن     بمثل ما كان يعتدي به الجن على البشر ،  فبرز الرجل بكل ما أُتي من قوة ، وما قدر عليه من سلاحٍ ليقتله   هجم الرجل على العفريت بكل سلاح ، لكنه لم يصب منه مقتلاً ، وما زال الرجل يعيد الكرة بعد الكرة ، و يجرب سلاحاً بعد سلاح ، والعفريت ساخرٌ منه ، وكأنه من هجماته في حصنٍ حصين ، حار الرجل وأعياه أمرُ العفريت  وكاد يقطع الرجاء في قتله فأخبره أحد العقلاء أن روح هذا العفريت في حوصلة ببغاء ، وهذا الببغاء في قفصٍ من حديد ، والقفص معلًقٌ في غصن شجرة  والشجرة في غابة كثيفة يسكنها سباعٌ ضارية ، وحياتٌ فتاكة ، وعقارب سامة ، ودونها وديانٌ وجبال ، وما زال الرجل يطلع جبلا بعد جبل  ويقطع وادياً بعد واد ، ويقتل ما يلقاه من الوحوش والعقارب والأفاعي ، حتى وصل إلى القفص وخنق الببغاء ، ولم يكد يقتلها حتى حدثت رجةٌ عظيمة أظلمت بها آفاقُ السماء   وصاح العفريت صيحته الأخيرة ، وكان جثة هامدة  .

إنها خرافة لكنها تفيد بان كل حيٍ له مقتل ، ولا يؤثّر فيه عدو حتى يصيبه في مقتله ، ومقتل أعدائنا في تمسكنا بديننا . 

لقد تسلّط على الأمة الإسلامية عفريتٌ تمثل في قوى الكفر ، التي ساقت أساطيلها وجيوشها ، فقتلت ودمرت ونهبت واحتلت بلاد المسلمين ، وسيطرت على ثرواتهم  واستخفت بالمسلمين وشريعتهم  أمعنت في إذلال العباد واستعبادهم والتكبر عليهم قال تعالى : } وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا ، وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا { الأعراف 146. وحين يُدْعَون إلى التزام الحق لا يؤمنون به ، ويسلكون سبيل الغي الذي يطلق العنان لشهواتهم وتحقيق مآربهم . وقد مضى المسلمون لسبيلهم ، فلم يبكوا على زلة ولم يقلعوا عن سيئة ، وقد كان أقل من هذا في الماضي يهز القلوب ، لأنهم تمثلوا حقيقة ما تعنيه الآيات القرآنية قال تعالى : } ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق { الحديد 16 . أما اليوم فقد تبدل الحال ففقدت الألفاظ معانيها ، وتغيّرت النفوس ، وما عاد التمسك بالدين مهما ، وأصبحت تكاليف الحياة هي الأهم ، وذهبت دعوات المصلحين في الأمة سدى ، وكأن لسان الحال يقول } قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر { فصلت 5 . مما أوقف الداعية حائراً في أمره كيف يواجه هذه العقليات الهامدة والنفسيات الباردة تجاه هذا الدين .  

قرأت في حكايات ألف ليلة وليلة ، أن سندباد البحري وجد بيضة عنقاء  فظنها لكبرها وضخامتها وملاستها قصراً من الرخام ، فدار حولها لعله يجد باباً يدخل منه إلى داخل القصر ، ودار مراراً عديدة ، ولكنه لم يجد باباً ، وعرف بعد ذلك أنها بيضة عنقاء لا قصراً من القصور . وهكذا يدور الدعاة والمصلحون حول النفسيات المستديرة في الأمة ، التي استهوتها الدنيا ، وتملكها حب المال والجاه ، فلا يجدوا لها منفذا .

لأن المادة والجري ورائها أصبحت  هي علة العلل وعدو الدين الألد ، والغرب هو زعيمها الذي تولى كبرها ، فهل تقف الأمة في وجه هذا التيار الجارف   وتغير مجراه ، وهل تستجيب الأمة ويستجيب المسلمون لنداء الواجب ووقف هذا التيار اللهم آمين . 

الهمز واللمز

ما هو الهمز؟ هو السخرية من الآخرين، فحينما تسخر وتعيب على الآخر بغير حق ، فأنت هماز  وأما اللمز: فهو النقد سراً، لا يلجأ إليه إلا الضعفاء ، لأن الأقوياء لا يلمزون سراً، بل يهمزون علانية ، وقول الله تعالى : ﴿ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ ﴾ يدل على أن تلك الصفات القبيحة، والعادة المتأصلة فيهم؛ إنها صورة لئيمة حقيرة ، من صور النفوس التي تخلو من المروءة ، ولذلك ورد النهى عن السخرية والهمز واللمز في مواضع كثيرة من القرآن الكريم ، لأنها آفة من الآفات  التي تكون سبباً في كثير من النـزاعات ، والتفرق في المجتمع  وقد اهتم الإسلام بعلاجها  والتحذير منها ، وتشديد العقوبة على فاعلها ؛ حتى يعيش المجتمع الإسلامي في أمن وأمان ، وألفة واطمئنان  ، لأنَّ الغمز والهمز واللمز والاستهزاء بالآخرين يقطع الروابط الاجتماعية  القائمة على الأخوة، والتواد والتراحم ، وتبذر بذور العداوة والبغضاء ، وتورِّث الأحقاد والأضغان ، وتولِّد الرغبة بالانتقام ، دخل رجل على  عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه  فذكر له عن رجل شيئاً، فقال له عمر: "إن شئت نظرنا في أمرك  فإن كنت كاذباً، فأنت من أهل هذه الآية ﴿ إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ ﴾ وإن كنت صادقاً، فأنت من أهل هذه الآية:﴿ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ﴾ وإن شئت عفونا عنك  فقال: العفو يا أمير المؤمنين لا أعود إليه أبداً " وعن علي رضي الله عنه أن رجلاً سعى إليه برجل فقال: "يا هذا نسأل عما قلت  فإن كنت صادقاً مقتناك، وإن كنت كاذباً عاقبناك، وإن شئت أن نقيلك أقلناك، فقال: أقلني يا أمير المؤمنين" . إن اللمز عيب أخلاقيّ نهى الله المؤمنين عنه   لأن مجتمع المؤمنين كالجسد الواحد ، وعلى المؤمن إذا أراد أن لا تلحقه الذنوب ، ولا يكون من الظالمين ، أن لا يلمز أخاه المؤمن ، لأن اللمز والهمز ، يوقد نار العداوة بين المؤمنين ، ويحط بأصحابه في قاع سوء الخلق ، بما أقدموا عليه من تسفيه للآخرين  وتقليل من شأنهم ، ولعل من أشد النصوص ، في التحذير من الهمز واللمز ، ودفع المؤمنين للتورع عنه، هو قول الله عز وجل: ﴿ َويْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ ﴾ ورد في تفسير هذه الآية أن الهمز واللمز، من أسباب مسخ شخصية الانسان ، وانحطاطه الى مرتبة حيوانية مؤذية ، واللمز في الشرع : هو ذكر ما يعده الذاكر عيباً لأحد ، وهذا يصب في قالب من يزدري الناس وينتقصهم ، ويطعن فيهم  ويعيب عليهم، وهو من أشنع الأخلاق وأسوئها! لأن في الهمز واللمز ، محاولة الانتقاص من مكانة الآخرين، والسخرية بهم  وذلك مخالف للآداب ، التي ينبغي على المؤمن أن يراعيها  بأن لا يعيب بعض المؤمنين بعضاً ولا يطعن بعضهم بعضا ، لأن المؤمنين كنفس واحدة ، متى عاب أخيه المؤمن ، فكأنما عاب نفسه، وقد جاء الوعيد الشديد في شأن الهماز اللماز ، وهو الذي يطعن في أعراض الناس  ويحتقر أعمالهم وصفاتهم  وينسب إليهم السيئات   استمتاعاً بالحطّ منهم ، وحرّم اللمز والطعن والإساءة إلى الآخرين ، قال تعالى: ﴿ وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ ﴾ وحث المؤمن على احترم إخوانه المؤمنين، وأن يتواضع لهم ، ويتأدب بأدب الإسلام ، الذي يجمع القلوب على المودة والمحبة والصداقة  ونهى عن كل ما يوغر الصدور ويزرع الشقاق ، ويثير البغضاء قال صلى الله عليه وسلم : (الكبر بطر الحق، وغمط الناس) غمط الناس : احتقارهم واستصغارهم وازدراؤهم  ، إنها الصورة التي وقف منها الإسلام موقفًا حازمًا حاسمًا ، صورة يمثل انتشارها في المجتمع ، مظهراً من مظاهر الخلل ، وقلة الورع  وضعف الديانة ، صورة تشوش على حفظ الحرمات ، وسلامة القلوب ، وصيانة الأعراض  وتحري الحق ، إنها كبيرة من كبائر الذنوب ، وموبقة من موبقات الآثام ، وحالقة من حالقات الدين ، يشترك في ذلك فاعلها ، والراضي بسماعها  فكم هتكت من أسرار ، إنها إدام كلاب الناس ، الذين فقدوا الإحساس ، فكم من صلات قطّعت ، وكم من أواصر مزّقت بسببها ، لأنها من أكثر الذنوب انتشاراً ، ومن أعظم الأمراض القلبية فتكاً ، بل هي عادة ذميمة  وعملاً لئيماً ، وجريمة أخلاقية منكرة ، لا يلجأ إليها إلا الأصاغر والضعفاء والجبناء ، ولا يستطيعها إلا الأراذل والتافهون  ولا تنتشر إلا حين يغيب الإيمان  إنها اعتداء صارخ على الأعراض وظلم فادح للأفراد ، وإيذاء ترفضه العقول الحكيمة ، وتمجه الطباع السليمة ، وتأباه النفوس الكريمة ، التي تحبّ للمؤمنين ما تحبّ لنفسها، وتكره لهم ما تكره لنفسها، فإن رأى المؤمن مِن أخيه المسلم نقصا في دينه ، اجتهد في إصلاحه، لأنه يكون مؤمنا حقا الذي يرضى للناس ما يرضاه لنفسه، وإذا كان المؤمن لا يرضى أن يغتابه أحد ، فكيف يغتاب أخاه وقد قال الله تعالى: ﴿ وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ﴾    الحجرات12 . وإذا كان المؤمن لا يرضى أن يسعى أحد بينه وبين أحبابه بالنميمة ، فكيف يسعى هو بين إخوانه المتحابين بالنميمة ، ليفسد ما بينهم وقد قال الله تعالى:﴿ وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ  هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ ﴾ القلم10، وقال النبي صلى الله عليه وسلم :(لا يدخل الجنة نمام) وإذا كان المؤمن لا يرضى أن يسخر منه أحد ، أو يستهزئ به أحد ، فكيف يسخر من إخوانه ويستهزئ بهم ويتنقّصهم وقد قال تعالى:﴿ وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةْ لُمَزَةٍ ﴾ الهمزه ، ويلٌ للإنسان الّذي يعيش مع الناس ليطعن فيهم بمختلف وسائل الطعن  فيسيء إليهم بذكر عيوبهم ، بغير حق، أو بذكر العيوب التي لا وجود لها ، والإنسان الذي يعيب الآخرين ، فهو إما أحمق لا ينظر إلى نفسه، ولا يبصر عيوبه ، وإنما يُبصر عيوب غيره ، يعيب الناس بعيوب هو أحقُّ بها ، لأنَّه مبتلى بها وهو لا يدري، أو أنه مبتلى بنقائص ، ويعلم أنَّه مبتلى بها ولكنه يبحث عن سترها بواسطة رمي الآحرين بها_ رمتني بدائها وانسلَّت _ يتحدث عن عيوب الناس ، وكأنه مبرأٌ من هذه العيوب ، وغير مبتلى بها، يتخذ من تعييب الناس وسيلة لستر عيوبه، هذا الذي توعَّده الله  عزو جل بأنْ يفضحه على رؤوس الأشهاد ، روى أحمد في مسنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :(يا معشر من آمن بلسانه ولم يدل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم، تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته) فلا تظهر عيب أخيك  فيظهر الله عيبك ، ولا تفضح أخاك ، فيظهر الله سوأتك واشغل نفسك بعيبك ، فطوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس. والله المستعان.

 

 

ضرورة تطبيق أحكام الإسلام

إن الدارس لجوانب الإسلام المتعددة ، يجده قد تناول بالتنظيم كلّ العلاقات التي يمكن تصورها  فنظم علاقة الفرد بربه ، وعلاقة الفرد بالفرد وعلاقة الفرد بالمجتمع والدولة ، ثم علاقة الدول بغيرها من الدول . إنها حكمة الله التي اقتضت أن لا يترك عباده دون نظام شامل كامل لحياتهم ، يكون فيه من المبادئ والتفاصيل والجزئيات   ما ينظم كلّ جوانب الحياة قال تعالى:﴿أيحسب الإنسان أن يترك سدى}القيامة 36 . وقال: ﴿ فمن تبع هداي فلا يضل ولايشقى﴾ طه 123 .وقد ورد الحث على إتباع المنهج الرباني بقوله تعالى :﴿ اتبعوا ما أُنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء ﴾ الأعراف 3 .

إن مما يدعو للأسى إنه عندما نقول لبعض المسلمين إن الإسلام هو الحل ، وإن شهادة أن لا اله إلا الله وأن محمداً رسول الله  وتطبيقاتها في الحياة هي الحل . وان العبادة الصحيحة لله كما جاء بها الإسلام هي الحل ، يهز كتفيه ساخراً  ها هو الإسلام موجودٌ ، ولا اله إلا الله والعبادة موجودة وقائمة ، ومع ذلك فأكثر الناس تأخراً وانحرافاً هم المسلمون ، كما أنهم اكثر الناس الذين يعانون من المشاكل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ، فلنبحث عن حلٍّ عند النظم الأخرى ، لأن الإسلام غير قادر على تقديم الحل  نقول لهؤلاء إن ما يُطبق اليوم في حياة الناس ليس هو الإسلام الصحيح الذي أنزله الله ، ولا العبادة التي أمر بها الله ، فلا بد والحالة هذه من تصحيح المفاهيم أولا ،ً ثم إقامة بناء جديد على المفاهيم الصحيحة للإسلام ، لأنه لا قيمة للأفكار والتشريعات والقوانين إن لم تكن وراءها عقيدة تدفع إلى العمل بمقتضاها  ولا بد للمسلم ولحامل الدعوة أن يأخذ الأفكار أو ينبذها أو يحاربها بقياسها على العقيدة  فما وافق العقيدة أخذ ، وما تعارض معها رفض .

ولا بد أن يعرف المسلم ، أن الإسلام فكره وطريقه ، وأن الفكرة هي العقيدة والمعالجات المنبثقة عنها ، وأما الطريقة فهي الأحكام المتعلقة بكيفية تنفيذ المعالجات ، وكيفية المحافظة على العقيدة ، وكيفية حمل الدعوة إلى تطبيق الإسلام وتنظيم الحياة الإسلامية ، التي تنقذ الأمة من جميع المشاكل التي تعاني منها  ومن التخبط والاضطراب والحيرة والعذاب والذل والعار  الذي أصبح وصمةً في جبين هذه الأُمة . فما هو الحل الذي جاء به الإسلام ؟ إنه يتمثل في قيام مجتمع إسلامي صحيح ، تواجهه وتحكمه وتسوده عقيدة الإسلام ومفاهيمه وشعائره  ومشاعره وأخلاقه وتقاليده وقوانينه .

إن الإسلام هو الذي حقق أسمى ما عرفته الدنيا من المبادئ والقيم الروحية ، والمثل العليا في العدالة والحرية والمساواة ، وإن منهجه ضرورة إنسانية حتمية ، لأن التجربة الإسلامية في الحكم في عهد الرسول وعهد الخلفاء الراشدين من أروع وأرفع ما وعته ذاكرة الدنيا ، في الجمع بين  صلاح الدنيا والآخرة ، وإن تلك التجربة التي تحققت يوم غلب الله على أمره ، والتي نرجو من الله أن تتحقق مرة ثانية ، مع إدراكنا بأن ذلك ليس نزهه سهله ، بل هو طريق شاقٌ مليء بالأشواك  أعسر ما فيه أن نرتفع بأخلاقنا وأفكارنا إلى مستوى الإسلام  وهو المستوى الذي أراده الله لهذه الأمة .

إن الدارس لتاريخ تلك الفترة من الحكم الإسلامي ، يجد فيه المواقف المشرفة التي تجعل تجربة الحكم فريدة في معنى الحكم وتكامل الجماعة ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر  بدستور إلهي لا يعتريه تغيير أو تبديل ، لأنه تنزيل من العزيز الحكيم ، ألحا كمية فيه لله وحده ، ولا طاعة لمخلوق في معصيته الخالق ولا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى ووجود وضع يحفظ كرامة الإنسان فلا يذل ولا يُسْتَبْذَلْ ولا يُظْلَمْ  ، بذلك نهتدي وننتصر وإلا توالت هزائمنا . كتب عمر بن الخطاب إلى عمرو العاص : "سلام عليك أما بعد فلقد بلغني أنه فشت لك فاشيةٌ ، من خيل وإبل وغنم وبقر وعهدي بك قبل ذلك  ولا مال لك  فأجابه ابن العاص وهو من هو :" يا أمير المؤمنين إن أرضنا أرض مزرع ومتجّر  فنحن نُصيبُ فضلاً عما نحتاج إليه لنفقتنا" . فأجابه عمر: "إني قد خبرت من عمال السوء ما كفى  وكتابك إلىّ كتاب من أقلقه الأخذ بالحق ، وقد سؤت بك ظنا ، وبعثت إليك محمد بن مسلمة فشاطره مالك ، فإنكم أيها الرهطُ الأمراء  جلستم على عيون المال لم يفزعكم عذر   تجمعون لأبنائكم وتمّهدون لأنفسكم ، أما إنكم تجمعون العار وتورثون النار والسلام ".

فقارن يا أخي المسلم هذه الواقعة بما هو عليه حال حكام اليوم . ويمرُّ عمر بن الخطاب يوماً بمكة فيرى الخدم وقوفاً والسادة يأكلون   فيغضب ويقول مستنكراً : "ما لقوم يستأثرون على خدّامهم " ...ويأبى إلا أن يجلس الخدم للأكل مع السادة في جفنهٍ واحدة . وجلس ذات يوم يقسِّمُ مالاً بين المسلمين فازدحم الناس عليه  فأقبل سعد بن أبي وقاص وهو من هو في نسبه وبلائه في الإسلام ، فزاحم الناس حتى زحمهم وخلص إلى عمر ، فعلاه عمر بالدّرة وهو يقول : "لم تهب سلطان الله في الأرض فأردت أن أعلمك أن سلطان الله لا بها بك ". وقال مرةً في حَجْةٍ حَجْها وقد أنفق ستة عشر ديناراً هو ومن معه "ما أرانا إلا قد أجحفنا ببيت المال " .

 إن تاريخ سلفنا ملئ بمثل هذه المواقف ، التي تضع للحكم نظاماً راسخاً ، وتضع للمال سياسة عادلةً  تنسق بين العبادة والمعاملة . وتساوي بين العقيدة والشريعة ، إنها مبادئ الإسلام السمحة العادلة لارهبانية ولا بهيمية ، فقد وضعت الحدود لموازنة قوى النفس البشرية بحيث لا يطغى فرد على فرد ولا فرد على جماعه ، هذا الإسلام الذي حرّر الإنسان من عبادة العباد إلى عبادة الله    ومن الافتتان  بالمال أو الجاه أو السلطان ، وحض على دفع الظلم ، وأوجب الجهاد لحماية البلاد والمقدسات ، هذا هو الدين الذي لا دين سواه  وهذه هي المبادئ فأين نحن اليوم منها .

 إن الذين يستحون  أن يطالبوا بها خشية أن يتهموا بالرجعية  في زمن فيه ناس يعتبرون المطالبة بالتمسك بالإسلام تأخر  والأخذ بما يقوله تلامذة الكفر وبطانات السوء وأسيادهم تقدمً وتحضّر، حتى أن هذه الفئة من الناس في تقديري لا يهمها هيمنة إسرائيل على بلادنا   بقدر ما يهمها تقويض الدين وتدمير الإسلام .  إن مما يدعو للأسى أن نكون مسلمين وفي بلد مسلم ، وفي دوله دينها كما في دستورها الإسلام  ثم نخشى أن نجهر بكلمة الحق ، إنها الجاهلية العمياء ، لأن واجب المؤمن أن يصدع بأمر الله ليُغيِّر واقعاً أسود  يتمثل في هيمنة العدو على مقدساتنا وبلادنا ، مما يوجب على المسلم ألا يدين لذلك بالولاء ، وإن أمر الله أولى بالإتباع من أهواء الأفراد والجماعات كائنه من كانت

قال تعالى : ﴿ ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه ﴾  .

 

 

  

ضرورة إنكار المنكر

 

عندما ندعو لإنكار المنكرات يقول البعض لا داعي ، لأنها موجودة   منذ زمن قديم  وحتى في زمن الحكم الإسلامي ، وما علموا أن الفرق بين منْكَر يُعْمل خفية ، وبين منْكَر يُعمل علانية  والفرق بين منكر شخصي ومنكر جماعي، وبين منكر مُحَارب وبين منكر مدعوم وحتى لو كانت المنكرات موجودة منذ زمن قديم، فإن هذا لا يبرر السكوت عليها، لما ورد في الأحاديث  التي تخوّف من المنكرات ، ما رواه حذيفة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عذاباً من عنده ) وفي الحديث  رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح عن بكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:( إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب ) . ومن أعظم المنكرات أن يحاول المنافقون أن يبعدوا الأمة عن الإسلام ، ويُدَيِّنوها بدين غير دين الإسلام، وإن إنكار هذا المنكر فرض كفاية  إذا قام به البعض سقط عن الباقين ، بدليل قوله تعالى : ﴿ ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير  ويأمرون بالمعروف  وينهون عن المنكر ، وأولئك هم المفلحون ﴾ آل عمران 104  ويصبح تغيير المنكر فرض ، على من يشاهد المنكر من القادرين على إزالته  لقوله عليه السلام: (ما من رجل يكون في قوم يعْمل فيهم بالمعاصي يقدرون على أن يُغَيِّروا عليه ، ولا يُغَيِّرون ، إلا أصابهم الله منه بعقاب قبل أن يموتوا )رواه أبو داود . أما إذا خاف المنكرون ، الاعتداء على حرماتهم الخاصة ، وترتب على الإنكار مفسدةً اكبر من مفسدة المنكر الذي يقع ، حرُم الإنكار  تطبيقاً للقاعدة الشرعية "إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفهما". أما إذا ترتب إيقاع الأذى ، على أشخاص المنكرين فحسب ، دون أن يتعداهم إلى غيرهم من أقارب وأصحاب ومواطنين آخرين ، فإنِّ الإنكار في هذه الحالة يكون مندوباً   وإذا هلكوا نتيجة هذا الإنكار فإنهم يكونون شهداء الآخرة ، وإذا رضي الآخرون بوقوع الضرر وفدوا دينهم بأنفسهم  فالإنكار مندوب ، لما روى أبو داود والبيهقي في السنن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قتل دون دينه فهو شهيد) . وهناك أكثر من قول  في حال وقوع المنكرات من صاحب السلطان في البلاد منها  يجب الإنكار على مستوى الوعظ ، والنصح بالقول الليَّن في بادئ الأمر  للنصوص الشرعية الواردة في ضرورة حفظ هيبته  حين تقديم النصيحة له ، لذا كان استخدام الخشونة معه غير مشروع ، لما في ذلك من الاستخفاف به ، وهو أمرٌ محذور  عملاً بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم : (من كانت عنده نصيحة لذي سلطان ، فلا يكلمه بها علانية وليأخذ بيده  فلْيَخْلُ به  فإن قبلها وإلا كان قد أدَّى الذي عليه  والذي له)رواه البيهقي في السنن ، ويندب استخدام الخشونة ، في الإنكار عليه باللسان ، وذلك إذا اقتضى الأمر إظهار الغَيْرة على حُرُمات الله  وإفهامه فظاعة ما يُقْدِم عليه   من الخروج عن الشرع ، يستدل على ذلك بما روى النسائي أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم : أي الجهاد أفضل ؟ قال:(كلمة حقٍّ عند سلطان جائر) ويحرم استعمال السلاح  من أجل الإنكار عليه ، لما روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنه يُسْتَعْمَل عليكم أمراء  فتعرفون وتنكرون ، فمن كره فقد برئ  ومن أنكر سلم  ولكن من رضي وتابع  قالوا : يا رسول الله ألا نقاتلهم ؟ قال : لا  ما صلَّوا ) . أي من كره وأنكر بقلبه . وتجب الطاعة في المعروف لا في المنكر ، لما ورد في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم  وتصلّون عليهم ويصلُّون عليكم  وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم  قالوا : قُلْنا : يا رسول الله ؟ أفلا ننابذهم عند ذلك ؟ قال : لا ما أقاموا فيكم الصلاة ، ألا مَنْ وليَ عليه والٍ  فرآه يأتي شيئاً من معصية الله ، فلْيكْره ما يأتي من معصية الله ، ولا ينْزعَنَّ يداً من طاعة ) ، يفهم من الأحاديث  أن المسلم مطلوبٌ منه أن يجمع بين موقفين ، فإذا كان انحرافٌ لا يُخْرج عن الإسلام ، لا في عقيدته ، ولا في نظام حكمه ، فإن على المسلم أن يجمع في موقفه ، بين الطاعة في المعروف  وبين المخالفة في المنكر ، سواء أكان هذا المنكر  معصية ترتكب ،أو أمراً غير مشروع يُصْدر، فعلى من يصْدِره وزر ما يرتكبه من منكرات في سلوكه الشخصي ، كما عليه وزر ما يأمر به من أحكام وقوانين تخالف أحكام الشرع . والناس بُراءُ من ذلك الوزر ، ما داموا لا يتابعون الحاكم في كلا الحالين   وينكرون عليه ما وسعهم لإنكار ، للحديث الذي رواه أبو عاصم في كتاب السنن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أطيعوا أمراءكم مهما كان   فإن أمروكم بشيء مما جئتم به  فإنِّهم يُؤْجرون عليه وتُؤْجَرون بطاعتهم ، وإن أمروكم بشيء مما لم آتكم فإنه عليهم ، وأنتم منه براء ) أما العمل على تنحيته ، فإنه من اختصاص محكمة المظالم ، لأن الحاكم عندما يرتكب أمراً من الأمور  التي يستحق معها العزل عن السلطان كالفسْق ، فإنه بذلك أحْدث مظلمةً من المظالم ، التي لا بد من إزالتها  فتختص محكمة المظالم بإزالتها ، وهي المحكمة التي تنظر في شؤون النـزاع بين الأمة ، والسلطان في الدولة ، أما إذا وصل الأمر ، بصاحب السلطة الشرعية إلى الكفر البواح  سواء في عقيدته نفسه ، أو العقيدة التي يقوم عليها نظام حكمة . فقد نقل النووي إجماع العلماء ، على أن الإمامة لا تنعقد لكافر ، فلو طرأ عليه كفرٌ أو تغيير للشرع أو بدعة ، خرج عن حكم الولاية وسقطت طاعته  ووجب على المسلمين القيام عليه وخلعه ، ونَصْبُ إمام عادل إن أمكن ، وإن كفر فعلاً    وساندته قوى أيدته على باطله  فالقتال في سبيل إزاحته وقتله  هو جهاد في سبيل الله ، لأنه ينطبق عليه  أنه قتال كافر لإعلاء كلمة الله ، والمقتول يكون شهيداً في الدنيا والآخرة حتى لو قتله مسلم يؤيد ، أما إذا لم يرتد عن الإسلام وإنما ارتكب انحرافات ، حكم عليه معها بخلعه  فتمسك بالسلطة وجرى القتال معه ومعه أنصاره ، فإن القتال هنا يكون قتال بُغاة ، كما قاتل على بن أبى طالب معاوية بين أبي سفيان بعد عزله من ولاية الشام  ورفض معاوية التنازل عن سلطته  وعلى هذا لا يكون هذا القتال  جهاداً في سبيل الله ، وهنا سؤال : من لم يحكموا بغير ما أنزل الله هل يعتبرون مرتدين ؟ لقد وصف الله الذين يحكمون بغير ما أنزل الله بثلاثة أوصاف ، في ثلاث آيات متعاقبات ، وهي :﴿ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون.. الظالمون…الفاسقون…﴾ المائدة 44-47. وخلاصة أقوال العلماء  في توزيع هذه الأوصاف  على أصناف الذين يحكمون بغير ما أنزل الله ، أنَّ من حكم بغير ما أنزل الله ، جاحداً بما أنزل الله  أو شاكاً في صلاحيته للحكم به  أو معتقداً بأن الحكم بغير ما أنزل الله أصلح من الحكم به  فإن مثل هذا يكون كافراً   ويعتبر بذلك مرتداً، أما إذا كان الحكم بغير ما أنزل الله  ناتج عن اتباع الهوى أو التهاون أو الخوف من المعارضين أو الأعداء ، فهنا يكون الحاكم فاسقاً ، ولا يعتبر مرتداً عن الإسلام إذا مارس الحكم على هذا الأساس .

 

وعلى كل الأحوال ، لا بد من دليل قاطع يعطي اليقين ، على أن حاكماً ما من المسلمين ، إنما يحكم بغير ما أنزل الله ، بناء على شكه بصلاحية الإسلام للحكم  أو اعتقاده بأن غير الإسلام أصلح في الحكم من الإسلام . وبدون وجود الدليل القاطع    لا يجوز تكفير الناس ولا الحكام  بناءً على مجرَّد الشك أو الظن الراجع عملاً بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (…إلا أن تروا كفراً بواحاً ، عندكم من الله فيه برهان) رواه البخاري ومسلم.

 

 

 

 

 

 

 

عاقبة ترك الجهاد

في الوقت الذي تتقاعس فيه الأمة عن الجهاد ، وتقف موقف المتفرج على ما يجري ، ما يزيد في طمع الطامعين فينا ، وشن الحروب الظالمة علينا ، تحت شعار محاربة الإرهاب ، زوراً وبهتانا ، وقد روجوا لهذا بالإعلام الكاذب ، يساعدهم في ذلك العملاء ، ومن يسير في ركبهم من المنافقين ، فعانينا وما زلنا نعاني من هذه الحروب ، التي تعتبر فرصة ذهبية للمسلمين  لأنها تفتح لهم باب الجهاد   الذي أصبح فرض عين لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( جاهدوا خلف كل إمام براً كان ام فاجرا ) جهاد بالمستطاع   توفيره ، من العدة والعتاد  وبعدها فإن النصر بيد الله  شريطة أن يرافقه الإيمان ، الذي لا يريد منا أن نقف مكتوفي الأيدي ، أمام البغي الأكبر ، ولا يريد منا أن نلتمس الأمان في أحضان الكفر،  لكنه يريد منا أن نواجه الأخطار ، ونكف عن الاسترخاء ، علماء وحكاما وشعوبا ، وهذا ما ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث ،  عنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ : أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ : " أَعَاذَكَ اللَّهُ يَا كَعْبُ بْنَ عُجْرَةَ مِنْ إِمَارَةِ السُّفَهَاءِ " ، قَالَ : وَمَا إِمَارَةُ السُّفَهَاءِ ؟ قَالَ : " أُمَرَاءُ يَكُونُونَ بَعْدِي ، لا يَهْدُونَ بِهَدْيِي ، وَلا يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِي  فَمَنْ صَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ ، وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ  فَأُولَئِكَ لَيْسُوا مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُمْ  وَلا يَرِدُونَ عَلَيَّ حَوْضِي  وَمَنْ لَمْ يُصَدِّقْهُمْ عَلَى كَذِبِهِمْ  وَلَمْ يُعِنْهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ  فَأُولَئِكَ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ  وَسَيَرِدُونَ عَلَيَّ حَوْضِي ،  يَا كَعْبُ بْنَ عُجْرَةَ ! الصَّوْمُ جُنَّةٌ  وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ  وَالصَّلاةُ قُرْبَانٌ ، أَوْ قَالَ : بُرْهَانٌ يَا كَعْبُ بْنَ عُجْرَةَ ! إِنَّهُ لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ أَبَدًا ، النَّارُ أَوْلَى بِهِ ، يَا كَعْبُ بْنَ عُجْرَةَ ، النَّاسُ غَادِيَانِ  فَمُبْتَاعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا ، أَوْ بَائِعُهَا فَمُوبِقُهَا " . فلم لا يقف المسلمون ، في وجه هذا الظلم  ولم لا يعملوا لرد عادية الإلحاد والفسوق ، للخلاص من هذا الذل والهوان ، ولم لا يتخلصوا من هذا الخوف والرعب من المعتدين ، ألم يحذرنا الله من ذلك بقوله تعالى : ﴿ فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين ﴾ ولماذا هذا الخوف والوهن والضعف والتمزق والاختلاف  ولماذا خرست الألسن ، وانشلت الحركة ، حتى كاد الجماد يتحرك وينطق ، لهوان الدمار والقتل والفظائع التي نراها ونشاهدها وهم لا ينطقون ، إنهم بهذا في غيهم يعمهون ، وبالدين والمسلمين لا يعبئون ، وماذا ينتظرون أن يفعل بالمسلمين  أكثر من هذا الذي نراه من القتل والذبح والتهديم ، وهم يتفرجون   ولا يعبئون بما يجري ، وهم على السرر المريحة ، ويعيشون كالنطيحة ، فلا الأيدي تنطلق  ولا الألسنة تنطق ، فضاعت النخوة ، وفقدت الشهامة ، أين هم من قوله تعالى : ﴿ إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا ﴾ إنه ليس عذاب الاخرة وحده إنه عذاب الدنيا ، وعذاب الذلة التي تصيب القاعدين عن الجهاد   لأنه ما من أمة تركت الجهاد   إلا ضرب الله عليها الذل ، تدفع  أضعاف ما يطلب منها لجهاد الأعداء ، إنها ضريبة الذل يؤدونها من نفوسهم واقدارهم وسمعتهم  ومن اطمئنانهم ، وفي هذا يقول الله ﴿ أولئك الذين طبع الله على قلوبهم فهم لا يفقهون ﴾ . إن المسلمين يواجهون هؤلاء الأعداء الذين يعملون على الفتك بهم بلا شفقة ولا رحمة ، إنهم حرب على دين الله اعتقاداً وسلوكا  لذا على المسلمين ، أن يحاربوهم لاستعادة كرامة الأمة ، وإلا فما معنى الصمت على المذلة ، وقد أمرهم الله بنصر الحق ، ومجاهدة الكافرين بالنفس والنفيس ، كما أوصى عباد الله ، ألا يستكينوا للظلم ، وأمرهم بمقابلة العدوان بمثله في قوله تعالى : ﴿ فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ﴾ لذا فعلى المسلمين أن لا يتركوا الضلال يستكبر ، ولا يجد من يردعه ويقمعه ، وليعلم المسلمون أن الإيمان أقوى من أسلحتهم وأدوات دمارهم ، فلم التخاذل والجبن ، علماً بأن رسالة الله أعز في حقيقتها ، واعز لدى حملتها  من أن تضعف أمام الباطل ، وقد جاء الوعيد ، لمن أمسك عن الإنفاق في سبيل الله فقال تعالى : ﴿ وانفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين ﴾ إنه نداء للأمة برد العدوان ، والبذل في سبيل الله ، وفي سبيل الحق ، لأن التسليم للعدوان ، طريق للضياع والفناء والتهلكة ، قال ابن القيم ":إذا تكلم أهل الباطل بالباطل  

وسكت أهل الحق عن قولة الحق اشترك أهل الحق ، في اضلال الخلق  ، وقد قال السلف :" من رحل الي بلد تراق فيها دماء الموحدين ، وتكلم في الصوم و الصلاة ، فهو خائن لله " ، وقال العز بن عبد السلام سلطان العلماء : " من نزل بأرض تفشى فيها الزنى ، فحدث الناس عن حرمة الربا ، فقد خان "وهذا يعني ان على المسلم ان لا يتخلى عن هموم امته ، خوفا أو طمعا  ولا يلبي احتياجاتها ، والا فهو خائن للأمانة ، التي اوكلت اليه ويعتبر كاتما للعلم ، وغادرا لأمته، وهذا تفريغ للطاقة والقدرة في غير موقعها ، لتمتد الى التضليل ، وإلهاء الناس عن قضاياهم الأساسية ، وفي ذلك  خيانة لله ورسوله ، والله يقول : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ فالأمة التي تنام على تفريط ، وتبخل على حماية نفسها ورسالتها ، بالأرواح والأموال ، أمة لا شك هالكة  وإن دول الكفر كما يبدو، لا تريد التراجع ، عن استمرار الحرب على المسلمين ، حتى لا تتيح لهم ، أن يكونوا حجر عثرة  في طريق تنفيذ مخططاتها ، ولا يمكن أن تتيح لنا الوقوف في وجهها ومحاربتها ، أما وقد وجد من يقول لها لا ، بل دخل معها في حرب حياة أو موت ، فلماذا لا يهب كل المسلمين لاغتنام هذه الفرصة ، أم أنهم سيرضون عيشة الذل والهوان والاستعباد قال تعالى  :  ﴿  أولئك الذين طبع الله على قلوبهم فهم لا يفقهون ﴾ .       

    

معركة الدم الأرخص

في كل يوم نفتح أعيننا على مصيبة تحل بالأمة الإسلامية والمسلمون مشغولون بحياتهم كأن الأمر لا يعنيهم ، والعلماء  في سبات إلا من رحم الله ، وأهل الجهاد اشتغلوا بأنفسهم في الساحة ، والكل يراقب ما يجري من نزاع وخلاف وتقاتل ، زَرع روح اليأس في قلوب الكثيرن من المسلمين ، وإن العين تدمع والقلب يحزن؛ على أُناس سُفكت دمائهم ظلماً وعدواناً في المجازر التي تحصل في بلاد المسلمين ، على أيدي النصيرين والروس وعناصر حزب الله اللبناني ورافضة العراق ، ورافضة إيران ، وأجهزة استخبارات أجنبية ، هذا الخليط المتنافر  الذي لا يجمعه دين ولا لغة ولا خُلق ، غير حقده وبغضه وكرهه للإسلام والمسلمين ، يعمل بتناغم وانسجام في سبيل تحقيق غاية اجتمعوا عليها ، من أجل القضاء على الوجود الاسلامي وليس في بلد معين، فطموحهم ليس مدينة او دولة ، إنما القضاء على وجود الكيان الإسلامي في كل مكان في الأرض ، وقد حددوا تسعيرة الدم المسلم ، بالدم الأرخص ، والروح المسلمة هي المستهدفة ، في مسلسل العدوان ، مع التظاهر بالاهتمام حينما تقع المجازر المروعة ، لكنه اهتمام قصير المدى ، لا يلبث أن يهمل ، بانتظار مجازر أخرى  كما نلاحظ الاستهتار بالدم المسلم ، من خلال معارضة أعداء الأمة ، لأي قرار يصدر عن مجلس الأمن ، يدين هذه المجازر التي لا تعرف التطبيق الفوري ، إلا على أجسادنا  وفوق أراضينا المستباحة ، حيث أزهد الأرواح عندهم ، أرواحنا  وأرخص الدماء ، دماؤنا ، مما يجعلنا ندرك بعد كل مجزرة ، أن الأمة الإسلامية هي المستهدفة  وأن الهجمة مستمرة ، ولا يُعرف لدمويتها حدا ، وفي ظل الهجمة الشرسة ، يستخدم الغرب الحرب النفسية ، لإحداث زلازل سياسية ، وأزمات اقتصادية خانقة ، تصب في النهاية في مصلحته ، ولا يمكن أن نجد سائلاً ، أرخص من الدم المسلم سوى النفط العربي ، الذي وصل سعره إلى أدنى مستوى ، أليس من العجيب أن تكون ثروة الأمة البشرية والمادية ، هدفاً مستباحا في هذا التردي المخيف ، وفي كل الأحوال تبقى الضحية هي الضحية ، والهدف هو القضاء على الوجود الإسلامي ، ومع كل هجمة شرسة ، وكل سقوط لقيادات العلمنة والتطبيع ، ومن خلفها الحيات والعقارب الإعلامية ، التي تريد أن تفرض على الشعوب الاستسلام  لمشاريع الغرب ومخططاته ، الذين لن يهدأ لهم بال ، حتى تسيل دماءنا أنهارا ، إنهم يحاولون إسكات كل صوت ، يؤمن بالله ويوحده ، ويخضع لتعاليمه  وينشر ألوية الحق والعدالة والمساواة ، ويمكّن لها في النفوس  وها هم يستعملون كل الأساليب الدنيئة ، للإجهاز على أمتنا وعقيدتها ، وحرموا الكثير من المسلمين ، من الاستقرار في أوطانهم ، واستولوا على أموالهم وديارهم ، وما يفعلون ذلك بهم إلا لأنهم يقولون ربنا الله ويرفضون نظمهم الفاسدة في الحياة ، وفي هذه الظروف الخطيرة التي كانت تهدد كيان المسلمين ، والتي كانت تنبئ عن أن المشركين لا يُفيقون عن غيهم، ولا يمتنعون عن تمردهم بحال، أنزل الله تعالى الإذن بالقتال للمسلمين، فقال تعالى:  ﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُون بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ الحج: 39 . وأنزل هذه الآية ضمن آيات أرشدتهم إلى أن هذا الإذن إنما هو لإزاحة الباطل، وإقامة شعائر الله، قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْروفِ وَنَهَوا عَنِ المُنكَرِ ﴾ الحج41. وأمرنا الله بالدفاع عن الدين والأوطان فقال تعالى : ﴿ يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون ﴾ آل عمران 200 . إن التاريخ الذي طوى صفحات المجد لهذه الأمة منذ انطوت صفحة صلاح الدين وبيبرس  سيصحوا، ويفتح سجلاً جديداً للأبطال والبطولة ، لأن الإسلام الذي صنع عمر بن الخطاب ، لا يزال كما أنزله الله نقياً طاهرا ، وهو الذي صنع عمر بن عبد العزيز ، وغيرهم الكثير ، أما الذين تخلوا عن الإسلام ، ويقبعون خلف السجائف والستور ، ويتربعون على أرائك وثيرة ، ويتقلبون في رغد من العيش ، ويملكون الملايين خارج بلادهم ، هؤلاء لن يصنعوا شيئاً للجياع والبائسين ، لأنهم يقولون ما لا يفعلون ، ويخادعون الله والذين آمنوا قال تعالى : ﴿ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ﴾ .  

 

حرمة الدماء في الإسلام

نهى الله عن قتل النفس بغير الحق  وأثنى على الذين يجتنبون هذه الجريمة ، وتوعّد من يفعلها باللعنة والغضب والعذاب العظيم والخلود في نار جهنم فقال تعالى : ﴿ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباًعَظِيماً﴾النساء93 .

إن  من الأسس التي قام عليها التشريع الإسلامي حفظ الدماء من أن تهدر وتسفك ، ولما تجاهل المسلمون هذه الأسس في بلادهم    سُفِكَت فيها الدماءُ المُحرَّمة   ودُمِّرَت المُمتلَكَات وانتُهِكَت الأعراضُ، وانتشَرَ فيها الخوفُ والجوعُ، وشُرِّدَ سُكَّانُها.   

لقد اعتبر الإسلام حُرمة دم المسلم أشدَّ من حُرمة الكعبة وكان زوالُ الدين أهون عند الله من قتل رجلٍ مسلمٍ؛ لأن دم المسلم هو أغلى الدماء التي يجب أنْ تُصانَ ، وقد بيّن الله سبحانه وتعالى حرمة المسلم ومكانته عند الله تعالى فقد صحّ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( والذي نفسي بيده لقتل مؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا ) وفي رواية أخرى:( لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلمٍ ) أخرجه الترمذي ، ورغم ذلك وجد من استهانوا بقيمة الإنسان وحُرمتِه فاسترخَصوا الدماء، واستسهَلوا الاعتداء واحتقَروا الإنسان؛ إما لطمعٍ دنيوي، أو تأوُّلٍ ديني، أو دافعٍ عنصري وقبَلي، أو حِراكٍ سياسي، وقد جاءت النصوص   تحفظُ للإنسان دمَه، وتحرِّمُ رُوحه وحقَّه في الحياة ، حتى أن أهل العلم اختلفوا هل للقاتل توبة أو لا ؟ لقول رسول الله  صلى الله عليه وسلم : (كل دمٍ عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموتُ كافرًا أو الرجل يقتل مؤمنًا متعمِّدًا ) أخرجه أبو داود والنسائي، وعن ابن عباس أنه سأله سائل فقال : يا أبا العباس ، هل للقاتل من توبة ؟ فقال ابن عباس كالمتعجب من شأنه : ماذا تقول ؟ فأعاد عليه المسألة ، فقال له : ماذا تقول ؟ مرتين أو ثلاثا ، ثم قال ابن عباس : أنى له التوبة ؟ سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول:( يأتي المقتول متعلقا رأسه بإحدى يديه متلببا قاتله بيده الأخرى يشخب أوداجه دما حتى يأتي به العرش ،فيقول المقتول لله : رب هذا قتلني  فيقول الله عز وجل للقاتل : تعست ، ويذهب به إلى النار ) مسند أحمد بن حنبل ، وفي التنزيل العزيز: ﴿ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ﴾ الفرقان 68، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من خرج على أمتي يضرِبُ بَرَّها وفاجِرَها، ولا يتحاشَى من مؤمنها ولا يفي لذي عهدٍ عهدَه فليس مني ولستُ منه ) أخرجه مسلم.

وقد حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الاقتتال الداخلي الذي يهدد دين الأمة، ونبّه القرآن إلى خطورة غفلة الأمة عن كيد أعدائها حين يسعون لجرّهم إلى الاقتتال الداخلي   وكما حرَّم الإسلام قتل المسلم فقد حرَّم الخوض في أعراض المؤمنين وتوعد الله تعالى من يحب إشاعة الفاحشة في المؤمنين بالعذاب الأليم، قال تعالى:﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ النور: 19 .

 وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ ذَكَرَ امْرَءًا بِشَيْءٍ لَيْسَ فِيهِ لِيَعِيبَهُ بِهِ حَبَسَهُ اللَّهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ حَتَّى يَأْتِيَ بِنَفَاذِ مَا قَالَ فِيهِ) . رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ . ولهذا أمر الإسلام بالمحافظة على العرض وصيانته والدفاع عنه؛ وحرم الله   السخرية بالمسلم، وأن يعيب المسلم أخاه ، بالهمز أو اللمز فقال تعالى: ﴿ وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ ﴾  . لقد شدد الإسلام  على حماية الأعراض ، حتى يكون المجتمع نظيفاً يسوده الطهر والمحبة والوئام ، بعد أن انتشرت عادة قِيل وقال ، دون استنادٍ إلى برهانٍ قاطعٍ أو دليلٍ ساطع وذلك بابُ من أبواب الفتنة   لأن تناقُل أحاديث لا زِمام لها تُوغِر الصدور، وتُغيِّر العقول وتُفسِد الأُخُوَّة بين المسلمين  وتجُرُّ من الويلات ما لا يُحصَى ومن الشرور ما لا يُستقصَى   فلا يليق بالمسلم تداوُل أقاويل تُشاع، وأحاديث تذاع، سندُها الظنُّ والتخمين والرجمُ بالغيب من غير تثبيتٍ ولا تبيين، ولذلك نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن تلك المبادئ القبيحة والمسالك المُعوجَّة؛ ففي  الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال ): إن الله كرِه لكم قيل وقال، وكثرة السؤال وإضاعة المال) ، وإن من أعظم الظلم التجنِّي على المسلم أو التعرُّض له وفق عواطف عمياء وتبعيَّةٍ بلهاء، فقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(الربا اثنان وسبعون بابًا أدناها مثل إتيان الرجلِ أمَّه، وإن أربى الربا استطالة الرجل في عِرْض أخيه) فكان على من يخاف الله البُعد عن الخوض مع الخائضين ، بقيل وقال، وألاَّ يُشغل نفسه بما يخدِش دينه ويُعرِّضه لغضب ربه؛ ففي  الصحيحين قوله صلى الله عليه وسلم: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقُل خيرًا أو ليصمُت (  لأن من الإثم المبين التسارعُ في نشر أخبارٍ لا يعضُدُها دليل، وإشاعةُ أحاديث لا يسنُدُها برهان ، لقوله تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ الحجرات 6،كما حثَّ الله العباد ، ألا يخوضوا مع الخائضين؛ بل  التحلِّي بقول الله سبحانه :﴿ لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ ﴾النور 12.

ومن هنا فهم في حذرٍ من الولوج في نشر الإشاعات العارية عن الصحة، وفي بُعدٍ عن بثِّ الأخبار الخالية عن الحقيقة؛ لأنهم يسمعون قول الله سبحانه:﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ﴾النور 19.

 فعلى المسلم البُعد عن اللغو بأنواعه والفُحش بشتى صوره ومن ذلك التسارع في شتم أعراض المسلمين قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾ المؤمنون3 ، ويقول: ﴿ وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ﴾ القصص 55. فإذا سمعتَ من يُشنِّع على مسلم فلا تُصدِّقه بل تثبَّت، ولا تكن عونًا في نشر الشائعات المُغرِضة والأخبار الواهية؛ قال صلى الله عليه وسلم : (كفى بالمرء إثمًا أن يُحدِّث بكل ما سمِع ) رواه مسلم.

 

 

 

 

 

 

خطورة السرعة وحوادث السير

الحَمْدُ للهِ الذِي شَرَعَ مِنَ الدِّينِ ما فِيهِ سَلاَمَةُ العِبادِ، وأَوجَبَ علَيهمُ السَّعيَ بِما يُصلِحُ البِلاَدَ وَحَرَّمَ علَيهِم ضُروبَ الاستِهتارِ والفَسادِ، أنعم عليهم بوسائل التنقل المريحة ، التي تستوجب شكرَ المنعم سبحانه ، وتسخيرَها فيما يحبه ويرضاه ، لكننا في هذا الزمان ، رأينا كيف يحوّل بعض الناس هذه النعمة إلى نقمة رأينا الشباب بالأرواح يغامرون  وبالأبرياء يضحون ، وللأموال يبددون ، راينا الإنسان الذي كرّمه الله وفضله بقوله : ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ في ٱلْبَرّ وَٱلْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مّنَ ٱلطَّيّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ﴾ الإسراء 70 . هذا الإنسان الذي خُص بهذه المنزلة وأُكرم هذا الإكرام ، قد يكون أداة هدم وتخريب ، ومعول فناء وإفناء ، وسببا لإزهاق الأرواح ونزول البلاء ؟ هذا الإنسان    بتصرف خاطئ قد يبدد الأمن  ويرفع الأمان ، ليضع محله الفزع والهلع ، فيجعل مكان الفرح حزنا ، وموضع البسمة بكاء  بسبب الاستهتار واللامبالاة في استخدام السيارات وقيادتها ، إما بسرعة مفرطة أو بدون رخصه قياده ، أو القيام بالتخميس أو التفحيط  في  الشوارع ، مما يعرض حياة الناس للخطر   ويولد في نفوسهم الخوف والهلع ، فلا يكاد يمر يوم إلا ونسمع عن الحوادث المروعة ، التي يذهب ضحاياها إخواننا وفلذات أكبادنا، فكم من اسرة فقدت عزيزا عليها ، وكم من سائق ظل في حالة اعاقة دائمة ، وكم من راكب اصبح ضحية جنون السرعة ، وعدم الانتباه واللامبالاة ، وتجاوز الحدود القانونية للسرعة على الشوارع والطرقات ،متناسين أن السيارات صُنعت لتخدمنا ، لا لتشكل خطراً على حياتنا  ،ونجامل بها  في عطوة عشائرية على فنجان قهوة  وينتهي الأمر، ولا يبقى إلا ويلات الأهل ، والحزن الذي  يعمر قلوبهم ، نتيجة تصرف أرعن لم تحسب عواقبه .

لقد أصبحت السرعة الجنونية في الشوارع، عادة رائجة يستخدمها الشباب، كوسيلة للترويح عن النفس  ، وما أكثر الشباب الذين  يتحدون بعضهم على السرعة الجنونية ، دون التفكير بشأنهم وبأرواحهم الغالية ، وأرواح من معهم، التي تتضرر نتيجة ذلك   وكم سمعنا عن الحوادث التي راح ضحيتها الكثير من الابرياء  بسبب السرعة الزائدة ، والتهور وقلة التركيز ، والسؤال : ما ذنب الذين فقدناهم بسبب المتهورين المستهترين ، وهل أصبحت الحياة تساوي لحظة تهور؟ ولم لا يفكر المسرع في أهله ؟ واذا كانت نفسه عليه رخيصة ، فلم لا يفكر في حال أولاده من بعده ، أم تناسى أن السرعة توصل إلى القبر   وتسببت في حَوادِثَ أَلحَقَتْ أَضراراً جَسِيمَةً بِالفَردِ والأُسْرَةِ والمُجتَمَعِ والدَّولَةِ ، وأَدَّتْ إِلى تَيَتُّمِ أَطفالٍ أَبْرياءَ ، وخَسارَةِ شَبابٍ أَقوياءَ ، وقَتْلِ شُيوخٍ ضُعفاءَ، وتَرمُّلِ نِساءٍ وهَدْرٍ لِلوقْتِ والمَالِ ، فِي العِلاَجِ والدَّواءِ، ولَوْ رَجعْنا إِلى أَرقامِ الإِحصَائياتِ، ودَقَّقْنا النَّظَرَ فِي نَتائجِ الدِّراساتِ، لَوَجَدْنا أَنَّ لِقائدِ المَركَبةِ اليَدَ الطُّولَى والسَّبَبَ المُباشِرَ فِي مُعْظَمِ حَوادِثِ السير ، بِسَبَبِ الإِهمالِ وسُوءِ التَّصرُّفِ ، والتَّجاوُزِ الخاطِئِ ، ونَقْصِ الوَعْيِ  والتَّخلِّي عَنِ المَسؤوليَّةِ، والعاقِلُ مَنْ يأْخُذُ بِأسبابِ السَّلاَمَةِ ويَسْعَى لتحقيقها ، ولا يُسلِّم السَّيارة لأولاد ظَهَرَ استِهتارُهم بأَنفُسِهم وبالآخَرينَ ،لاَ يُحسِنونَ استِغلالَها، ولاَ يَتصوَّرونَ الضَّرَرَ النَّاتِجَ مِنْ سُوءِ استِعمالِها الذي ساهم في وقوع كثير من الحوادث المؤلمة .

ولَو تأَمَّلْنا مَقاصِدَ الشَريعَةِ  لَوَجَدْنَا مِنْ أَهمِّ مَقاصِدِها حِفْظَ الأَبدانِ والأَرواحِ؛ فَهَلاَّ حَزَمْنَا أَمْرَنا وكُنَّا صارِمينَ مَعَ أولادنا  فَنَمنَعُهم مِنْ قِيادَةِ السيارة إِنْ رَأَيْنا مِنهُم عَبثاً، ونَسْمَحُ لَهُم بِها إِنْ آنسْنا مِنهُم رُشداً؟ فإِنَّ لِكُلِّ سائقٍ قُدْرة، وَجِهاتُ الاختِصاصِ أَدْرَى بِما يَصلُحُ ، ينْبَغِي الالتِزامُ بِما قررتْ، لأنه أَدْعَى لِلسَّلاَمَةِ فَما وُضِعَتْ أَنظِمةُ المُرُورِ إِلاَّ لِضَبْطِ السَّيْرِ ، وسَلاَمَةِ النَّاسِ وأَكثَرُ الحَوادِث ،ِ بِسبَبِ تَجاهُلِ تِلْكَ الأَنظِمَةِ ، وأَسبابُ السَّلاَمَةِ كَثيرةٌ، ومَنْ طَلَبَ أَسبابَها وَجدَها، والعاقِلُ مَنِ وُعِظَ بِغَيرِهِ.

والسيارة نعمة ، فاشكر الله تعالى عليها، وإن من شكرها  استعمالها فيما يرضي الله تعالى فلا تسرع لأن الموت أسرع  فكم من حبيب فقدناه! وكم من مصاب بكيناه! وكم من معاق على السرير نسيناه! بل كم من زوجة ترملت، وطفلة تيتمت وأسرة تشتتت، وطاقة تعطلت! وكم من سائق في السجون وفاقد للوعي ومجنون، أموات ومصابون ومعاقون، خسائر مالية ونفسية واجتماعية! إنها الحرب الباردة، حرب الآلة التي صنعت لخدمتنا، فصارت آلة لقتلنا وإماتتنا!.

 

عناية الإسلام بالبيئة

إن البيئة في نظر الإسلام نعمة من الله ، وقد نص القرآن في الحديث  عن البيئة ، على أنها نعمة قال تعالى:﴿ أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ﴾ لقمان 20 ولفظة نعمة تحمل معنى التنعم والرفاهية، التي ينبغي المحافظة عليها ، كما تحمل معنى المنحة التي يجب شكرها باستخدامها فيما خلقت له، حتى تبقى وتزيد  وتعاليم الإسلام لا تقف عند حد العموميات والمبادئ العامة  كعدم الإسراف ، وعدم الإفساد ومن يطلع على النصوص الشرعية، ويتتبع أقوال العلماء ومواقف حكام المسلمين الذين التزموا فعلاً بالشريعة، يخرج بنتيجة لا خلاف حولها وهي أن توفير بيئية جيدة، تعد إحدى المهام الكبرى للدولة في الإسلام  تستوي في ذلك البيئة الطبيعية والبيئة الاجتماعية ،لأن البيئة  إن فسدت ، فسدت صحتنا، وإن صلحت قويت أجسامنا ، وهناك توجيهات دينية ، لو طبقت لكنا في حال غير هذا الحال، والقاعدة الفقهية " لا ضرر ولا ضرا "  تحرم الضرر ، والضرار: أن تُتْبع الضرر بضرر آخر كتلوث الهواء والماء والتربة ، ونقص الغذاء وانتشار الأمراض  وانقراض النبات والحيوان وتغير المناخ ،وتأثر طبقة الأوزون  نتيجة ممارسات سلبية ذات ظواهر طبيعية وكيماوية  تمس الحياة البحرية، والحياة الجوية والنباتية، والاجتماعية، هذه الظواهر، يفسرها العلماء بتغير البيئة ، والذي يغيرها هو الإنسان، بدليل قوله تعالى : ﴿ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ﴾ النساء 119 ، أراد الله للبيئة أن تكون نظيفة، لكن الإنسان بطموحه الدنيوي والمادي ،لوث البيئة وأفسدها ، ففي الوضع الطبيعي ينبغي أن تكون البيئة نظيفة والهواء نظيف والماء نظيف والمزروعات ، بلا مواد كيماوية ولا مواد مسرطنة ولا هرمونات  وللإسلام في يوم البيئة العالمي نظر وتوجيه قال تعالى﴿ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ﴾  وقد اهتم الإسلام بالبيئة الاجتماعية ،فنرى شعوب الأمة الإسلامية تعاني من بعد عن معالم الإسلام وضعف في تطبيقه مع انقلاب في فهم كثير من معانيه العلمية والعملية في جميع نواحي الحياة ، مع هزيمة نفسية وتبعية لأعداء الإسلام ، صاحب ذلك الرضى بحياة الذل والهوان ،هذه البيئة ، إما أن تشدك إلى الله  وتزداد بصحبتها إيماناً وقرباً من الله, وإما أن تشدك إلى النار فتزداد بصحبتها ضلالاً وبعداً عن الله ، والإنسان العاقل يختار أصحابه, وأصدقاءه فقال تعالى : ﴿اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ ولأهمية هذا الموضوع فقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم في اختيار من يجالسهم ويصاحبهم فقال سبحانه وتعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً﴾  الكهف 28 ، هناك بيئة تنتج الشر والضر، وتروج له وتبرر موقفه ومسيرته، وتتستر عليه، بل وتحميه أحيانا ، وهناك بيئة نفعية لفئةٍ شريرة ، آثرت حظوظ نفسها على حظ الآخرين    وتعمل على ترويض المجتمع والمؤسسات لاستساغة الفساد والصمت عليه، وتجعل من الفاسدين أقلية، صوتها أعلى من الجميع ، لتوقف عجلة الحياة وتطمس بريق الأمل، وتمسخ الإرادة التي لا ترغب في التحرر من قيود الفشل ، إنها بيئة أشد من خطر الفاسدين أنفسهم، لأن الفاسد يذهب وإن طال عهده أما بيئة الفساد فباقية تنتج ألف فاسد غيره ، ومن أهم مظاهر البيئة الفاسدة ،الانفلات من حدود القوانين والنظم، وحدود القيم والدين ، وهذا الانفلات يورث المحسوبية والامتيازات الخاصة، ويولد في المجتمع نخبة ملوثة ، هذه النخبة ، أخبث مكون في البيئة الفاسدة، لأنها تملك زمام القيادة، وتستحوذ على رأس المال، وقنوات الفكر والإعلام والتوجيه، وهي لا تتقن   سوى الصراع على السلطة واللذة والمتعة، ولا يتحد أفرادها إلا من أجل الحفاظ على ديمومة بيئتهم النتنة ، والإنسان في هذه البيئة الفاسدة، يستمرئ الباطل وينفر من الحق ، يعشق الظلام ويكره النور ،يقول محمد الغزالي: في كتابه  عقيدة المسلم "والبيئة الفاسدة خطر شديد على الفطرة، فهي تمسخها وتشرد بها وتخلف فيها من العلل ما يجعلها تعاف العذب، وتستسيغ الفج وذلك سر انصراف فريق من الناس عن الإيمان والصلاح وقبولهم الكفر والشرك، مع منافاة ذلك، لمنطق العقل وضرورات الفكر، وأصل الخلقة"  وفي البيئة الفاسدة تروج مصطلحات الإلحاد  والفوضى الجنسية ، والإدمان والرشوة والطائفية والعنصرية وغيرها مما حوته قواميس العفن الفكري والسلوكي، وصراع البيئة الفاسدة مع أهل الحق والطهر صراع أزلي، بحيث يكون أهل الإنصاف كالنبتة الطيبة ، لكنها نشاز وسط غابات الحنظل  لذلك تتعالى الأصوات الغوغائية بالإقصاء والاستئصال، كما في قوله تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّـكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ﴾ إبراهيم 13فهذا توعد من الكفار للرسل بالإخراج من أرضهم ، والنفي من بين أظهرهم ، إن لم يتركوا ما جاءوا به من نور الوحي وهداية السماء ، لقد أدرك الإنسان أخيراً أن البيئة من أعز ما يملك في هذه الحياة، أدرك ذلك  عندما أذاقه الله تعالى جزاء بعض ما اقترفه حيال البيئة من انحرافات واعتداءات  ومن يطلع على ما يحدثه التدهور البيئي من آثار سلبية، تدمر الصحة والحياة وتتسبب في إزهاق أرواح الملايين، كما تحدث نهباً واستنزافاً للأموال، وتدميراً للعقول والأفكار، وبالتالي فإن الإفساد في الأرض ، يشتمل على كل اعتداء على البيئة الطبيعية والبيئة الاجتماعية  لا فرق في ذلك بين تلوث المياه والهواء  وتلوث الأفكار والقيم ، بل إنه في الثانية أشد خطراً ، لأن محل التلوث في البيئة الطبيعية هو الأموال ، لكن محل التلوث في البيئة الاجتماعية ، هو الإنسان  لذا فإن تلوث الإنسان أخطر بكثير من تلوث الأموال ، لأن الإنسان غير الملوث فكرياً وأخلاقياً، يحافظ على الأموال بعيدة عن التلوث، أما الأموال فلا تحافظ على الإنسان ، قال تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسبَتْ أَيْدِي النّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ الروم

 

  

 

 

الخلاف المذموم

 

إن تراثنا  الذي قاد العالم دهرا ،ً يجب أن ينهض من كبوته ويتمسك برسالته ، ليغسل الأرض من أدرانها ، ولو أن انظمة الحكم أهدى والحق أقوى ما كنا نسقط في براثن الاستعمار الذي اجتاحنا ويعمل جاداً على محو وجودنا ورسالتنا ، ومع ذلك نسمع من هنا وهناك من يتكلم عن النهضة التي لا قيمة لها ، ما دامت لا تعرف اسباب هزائمها وكبوتها . وما دامت هناك خلافات علمية تشغل الكثير من ابنائها ، والتي تسرُّ أعداء الأمة والموالين لهم في بلاد المسلمين ، ويتمنون لو غرق جمهور المسلمين في هذه القضايا ولم يخرج منها ، في الوقت الذي يشعر بقلق شديد إذا ما ساد شعور بين أفراد الأمة عن التفكير في واجبات الدولة ، وهل وجدت لخدمة الأفراد أو المبادئ ؟ وعن المال ولماذا يكون دولة بين البعض من الناس ؟ وعن الناس وهل ولدوا أحراراً أم ولدوا لتستعبدهم سياط الفراعنة حيناً  والبحث عن لقمة العيش حيناً آخر ؟

 

كان سلفنا الصالح ملتزماً بالمنهج وإن الذي خاطب الفرس يوماً قائلاً : "جئنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله ، كان بفطرته الصادقة يعلم ما هي الحقائق الكبرى في المنهاج الإسلامي فيفتح البصائر  عليها .

 

آلمني جداً أن هناك من يهتم بمسائل لا يؤئر تركها على مستقبل الأمة كمسألة لمس المرأة هل ينقض الوضؤ أم لا ؟ وقد لمست الاهتمام الاشد والاحد بمثل هذه المسائل عند بعض فئات المسلمين وغير ذلك من القضايا النانوية التي استحوذت على الافكار ، لحساب فئة عرفت من الإسلام قشوره وليست جذوره ، فاعتمدت على مرويات لا تعرف مكانها من الكيان الإسلامي المستوعب لشؤون الحياة ، فأرسلوا الفتاوى التي تزيد الأمة بلبلة وحيرة ناسين أنه لا فقه بلا سنة ولا سنة بلا فقه ، ثم لماذا لا نتدبر القرآن أولاً وقبل كل شيء حتى نعرف أبعاد التكاليف التي ناطها الإسلام باعناقنا ؟ ولماذا لا نعرف طبيعة الدنيا التي نعيش فيها والاساليب التي يتبعها خصومناً لكسب معاركهم ضدنا ؟ ولماذا لا نختار للناس أقرب الأحكام إلى تقاليدهم إذا اختلفت وجهات نظر الفقهاء المسلمين في تقرير حكم ما

 

فمن الناس من يهتم بقضية التراص اثناء الصف للصلاة أكثر مما يهتم بتوفير الخشوع والقنوت بين يدي الله ، ومن الناس من يهتم بمسألة النقاب مع أن ذلك رأي لم يقل به كثرة من المفسرين والمحدثين والفقهاء ، فماذا عليهم ترك الترجيح الذي اعتمدوا لمصلحةٍ أهمّ تخدم الإسلام والمسلمين ، ولماذا يصرُّ هؤلاء على رأيهم بأنه الأصح ولا حياة لرأي آخر ولا مكان له ، إن أعداء الإسلام يعلمون تماماً بأن أهل الوعي والفقه إذا اتيح لهم المجال فهم لا بد منتصرون ، ولذلك يفتحون الف طريق لأولئك الغلاة الذين يركزون على القشور التي يضيع معها اللباب. ونصيحتي لهؤلاء أن يتقوا الله في أنفسهم وامتهم ، وأن يجمعوا ولا يفرقوا وأن يمهِّدوا الطريق لعودة الإسلام بدل أن يضعوا أمامه العوائق والعقبات  ويجعلوا الأحكام الفرعية المختلف فيها حجر عثرة أمام عقائد الإسلام وأركانه الكبرى ، وإني على يقين لو بذل هؤلاء في محاربة اعداء الإسلام والمبطلين ، عشر ما يبذلونه في الدفاع عن رأيهم الذي يتبنون ، لانتصر الإسلام ولكان الحال غير الحال ، ثم لحساب من يعلو صوتهم في قضايا هامشية ولا يسمع أبداً في قضايا أساسية ؟ ولحساب من يرى بعضهم رأياً أو يحترم تقليداً ثم يزعم أن الإسلام هو رأيه ؟ مع أنهم في الحقيقة يعلمون ويكرهون من يعلم ولا يعملون ويكرهون من يعمل ، بل ويشكلون سداً أمام تيار الإسلام  يعكرون صفوه ويمنعون ورده ويصدّون الأمم عنه   إنهم من أبناء المسلمين ولكنهم في الحقيقة أخطر على دين الله من الأعداء الحاقدين .

 

وليعلم كل ذي علم بأن الحفاظ على ديننا وأمتنا   يحتاج إلى العقل المؤمن أو الإيمان العاقل ولا يصلح له أنصاف المتعلمين ، الذين يحسنون الهياج ولا يستطيعون الإنتاج .

 

وإن القضايا التي يثيرونها ويشددون على التمسك بها لا تتصل بعقائد الإسلام ولا بعباداته وإن أعداء الإسلام لهم مكرٌ سيء في استغلال أقوال هؤلاء من أدعياء الفقه الذين لا شغل لهم إلا الاهتمام بأمور جانبية ، لا وزن لها ولا خير فيها إذا ما قورنت بمصاب الأمة وما وصلت اليه. كقول القائل أن صوت المرأة عورة ناسياً أن النساء كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تروي الأحاديث وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، ولمن يزعمون أن صوت المرأة عورة نقول بأن العورة قد تكون في اصوات النساء والرجال عندما يكون الكلام مريباً مثيراً له رنين رديء   مع العلم بأنه لا يوجد بين رجال الفقه من قال : صوت المرأة عورة ، وإن ذلك اشاعة كاذبة .

 

ومما يؤسف له أن بعض الناس يتحدث عن الإسلام وهو قاصر النظر ويتطاول على أهل العلم  والفضل ، وإن مصيبة الإسلام في هذا العصر من أولئك الأدعياء مما يدعوا لمعرفة طبيعة شريعتنا ، حتى يكون وعينا بأحكامها فيه صوناً لحياتنا الخاصة والعامة ، وليعلم هؤلاء أن التحليل والتحريم ليسا إلى أهواء الناس وفتاواهم قال تعالى :﴿ ولا تقولوا لما نصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب ﴾ .

 

فالتتضافر الجهود إلى انهاض الأمة التي تعاني من الهزائم العلمية والخلقية والصناعية والتجارية حتى تصحوا من الخدر الذي جمد الافكار والقى بالأمة وراء قوافل الأمم السائرة .

 

ولنبتعد بالأمة عن المجادلات الفارغة والاهتمام بالفروع التافهة ، والاقتصار على تلاوة آيات البر وأحاديث الرحمة ، فذلك لا يغني ولا يسمن من جوع على مستوى الأمة ، لأنه لا بد من جهاد جماعي مكثَّف متصل ، حتى نتمكن من  إغاثة الملهوفين وتأمين حياتهم وحماية عقائدهم وإننا نشكوا الى الله المتدينين الذين قست قلوبهم على عباد الله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .

 

 

 

 

الترغيب في الإنفاق

 

ندب الله أغنياء الأمة لمؤازرة المصالح العامة ومعاونة المحتاجين ، والإسهام في تخليص الأمة من الفقر والجهل والمرض ، وذلك لا يكون إلا بالإنفاق المشروع الذي يحقق المنفعة العامة قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتِىَ يومٌ لا بيع فيه ولا خُلّةٌ ولا شفاعةٌ والكافرون هم الظالمون } البقرة 254 . إن كل نداء من الله يبدأ بقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا } يدل على أن ما يأتي بعده هو تكليفٌ لمن آمن بالله وليس تكليفاً للناس على إطلاقهم . فأنت تفعل ما كلفك الله به لماذا ؟ لا تقل لأن حكمته كذا وكذا ، ولكن قل لآن الله الذي آمنت به أمرني بكذا ، والله يقول :{ يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم } أي لا أطلب أن تنفقوا علي ، ولكن أنفقوا من رزقي عليكم ، لأن الرزق يأتي من حركة الإنسان ، فإن حصل للإنسان خير فالله لا يقول إنه لي ، بل أمنحه لك أيها الإنسان ، ولكن أعطني حقي فيه ، وحقي لن آخذه لي ولكن هو لأخيك المسكين قال تعالى : { ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يُطْعِمون } الذاريات 57 . وقد يقول قائل وما دخلي أنا بالمسكين ؟ المسكنة يا أخي عَرَضْ ، ومن الممكن أن يلحق بك ، فلا تُقدِّر أنك معطٍ دائماً ، ولكن قدِّر أنه ربما حدث لك ما يجعلك تأخذ لا أن تعطي ، والله يقول لك أعط وأنت غني ، لأنه سيقول للناس أن يعطوك وأنت فقير ، فقدِّر حكم الله ساعة يُطلب منك ليحميك ساعة أن يُطلب لك ، ومع أن الله هو الذي يرزق ، فهو يريد من عباده أن يتعاونوا وأن يحب بعضهم بعضا ، حتى تُمحى الضغائن من القلوب ، لأن الإنسان الضعيف ضعفاً طبيعيا ً ، أي ضعف عدم القدرة على العمل   وليس ضعف التسول أو الكسل هو مسئولية المؤمنين ، لأنه سبحانه يجعل القوي مسئولاً عن مساعدة الضعيف ، وحين يرى الضعيف الأقوياء الذين قدروا لم ينسوه وذكروه بما عندهم ، عندها يعلم أنه في بيئة متساندة تحب الخير , فإذا ما نالته نعمة عند العجز ، فإنه يتمنى لو أن الله قدره ليردها   بذلك يكون المجتمع مجتمعاً متكافلاً متضامناً ، وحين يقول الله : { أنفقوا مما رزقناكم } فأنتم لا تتبرعون لذات الله بل تنفقون مما رزقكم الرزق الذي نسبه لكم فهـو يقـول : { من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسنا فيضاعفه له أضعافا} البقرة 245 . اعتبر الله النفقة في سبيل الله هي قرضٌ من العبد لله الوهاب لكل رزق ، فهو ينبهنا أن ننفق من رزقه لنا من قبل أن يأتي اليوم الآخر الذي لا بيع فيه أي لا مجال فيه لاستبدال أثمان بسلع أو العكس ، فلا نملك في الآخرة ثمناً نشتري به ولا يملك غيرنا سلعة ، فهذه وسائل غير موجودة لا بيع ولا خلة ولا شفاعة ، فإذا أنفقتم اتقيتم ذلك اليوم قبل أن يأتي ، اليوم الذي يظهر فيه فقر العباد إلى الله ، إنها الفرصة التي ليس بعدها بيع تربح فيه الأموال وتنمو ، وليس بعده شفاعة أو صداقة ترد عنه عاقبة التقصير ، ثم يشير إلى الموضوع الذي يدعوهم إلى الإنفاق من أجله ، إنه الإنفاق للجهاد لدفع الكفر ودفع الظلم المتمثل في هذا الكفر قال تعالى : { والكافرون هم الظالمون } ظلموا الحق فأنكروه   وظلموا أنفسهم فأوردوها موارد الهلاك ، وظلموا الناس فصدوهم عن الهدى وفتنوهم عن الإيمان ، وحرموهم الخير الذي لا خير مثله ، خير السلم والرحمة والصلاح واليقين .  إن الذين يحاربون حقيقة الإيمان أن تستقر في القلوب   ويحاربون منهج الإيمان أن يستقر في الحياة  ويحاربون شريعة الإيمان أن تستقر في المجتمع ، إنهم أعدى أعداء البشرية وأظلم الظالمين لها  ولو أننا نحرص على رضى الله لرصدنا لحربهم كل ما نملك من الأنفس والأموال ، وهذا هو واجب الجماعة المسلمة التي يناديها الله بقوله:{يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم}

 

 

 

التقصير مسؤولية من ؟

من الخطورة بمكان أن نُحمِّل أخطائنا وأفعالنا للإسلام فنصد بذلك عن سبيل الله ، ولا تقل الخطورة عن ذلك بالإعفاء من المسؤولية ، التي تقتضي البحث عن أسباب القصور ، وتحديد مواطن التقصير والاعتبار بالغير  ومعرفة أسباب تخلّف المسلمين عن الإسلام ، والأسباب التي أدت إلى ضغفهم ، ورسم الطريق للخروج بالأمة إلى سابق عهدها ، وذلك يكون بوضع اليد على الأسباب التي أدت إلى ذلك ، والبحث عن الوسائل الكفيلة بمعالحتها ، ولا  يكون ذلك بالمقالات الحماسية والخطب التي تلهب المشاعر وتثير الحماس .

اننا بحاجة إلى رجال يقدِّرون العواطف ويدرسون جدوى الأفعال قبل الإقدام عليها ، لأن الارتجال كلّف المسلمين الكثير ، وساهم في عجزهم عن التعامل مع مباديء الإسلام ، واكتفى المسلمون في هذه الأيام بالفخر بالإنجاز التاريخي والاقتصار في الحديث عن عظمة الإسلام  .

انظر إلى مؤسسات العمل الإسلامي في بلاد المسلمين لم يعد الانتماء للفكرة عندها قيمة ، وانقلبت الوسائل أهدافا وفشت فكرة التحزّب ، ولم يعد لمفهوم الأخوّة الشاملة قيمة ، وقد طغت العصبيات الحزبية ، واصبحت هذه المؤسسات في خدمة الأشخاص ، وليس الأشخاص في خدمة الأهداف التي ولدت هذه المؤسسات من أجلها  وكأن الخطاب الذي تعتمده في مخاطبة الناس خطاب طائفةٍ منفصلةٍ عن الأمة . 

إننا يمكن أن نعتبر عدم فهم مواصفات الخطاب القرآني مشكلة من المشاكل التي يعاني منها المثقفون في بلاد المسلمين ، هذا الخطاب الذي تعدد بحسب الأغراض  وحسب محل الخطاب وموضوعه ، والدارس للسيرة النبوية يجد أن خطاب النبوة تنوع بحسب الهدف والمحل  فخطاب المعركة والتحريض على المواجهة ، وثواب الاستشهاد وغير ذلك من مكونات خطاب المعركة كقوله تعالى : { قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة} التوبة 123 . وقوله : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ولا يحرِّمون ما حرَّم الله } التوبة 29 . أما الخطاب على مستوى العقيدة وتفنيد الكفر وفساد الاعتقاد فله اسلوب آخر كقوله تعالى : { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم } . اما الخطاب على مستوى الدعوة فمواصفاته وأدواته وطبيعته تختلف قال تعالى:{ أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن } النحل 125 . أما في مجال الحوار واظهار الحق والسعي إليه والأخذ بيد الناس فله مواصفات أخرى قال تعالى:{قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمةٍ سواءٍ بيننا ألا نعبد إلا الله }آل عمران 64 .

أما في مجال العلاقات على مستوى الدولة والفرد فمواصفاته تختلف قال تعالى : { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم } الممتحنة 8 . أما خطاب العقيدة فله ميزة خاصة لأن بحاجة إلى فهم الموضوع للضرورة الماسة هذة الأيام ، خصوصاً لبغض العقول الضيقة وصور التدين المغشوش والفقه المغلوط  التي بدأت تعبث بالأحكام الشرعية وتختلط عندها مواصفات الخطاب ، فكان العجز واضحاً في إيصال الصورة المشرقة للإسلام إلى المسلمين ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا .

لذا جاء القرآن ينعى على الذين يحاولون إقامة الدين في جزء وطرف مع إهمال البقية التي لا ينفك قيام الدين عنها قال تعالى :{ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن اصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنةٌ انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين } الحج 11.

إنه مصير من يهنم بشأن واحد من الدين دون سواه ، لأن الدين كلٌ لا يتجزأ ، وإن دعوة الإسلام كانت شاملةً إلى كل ما يحي البشر ويسعدهم ، وبهذا جاء النداء الإلهي للمؤمنين { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحيكم } الأنفال 24 .

إن من المشين على أهل الدعوة أن يقيموا الدنيا ولا يقعدوها من أجل مسألةٍ خلافية فرعيةٍ قليلة الخطر على الأمة وعلى الإسلام ، فيتنازعون لأجلها ويتخاصمون بسببها ، بينما الأمر كله متعطل والواجب المقطوع به مهمل ، وأهم أبواب الشريعة موصدة ، والقطعيات منبوذةٌ والبينات مجهولةٌ ، وفي المسلمين من يلجأ إلى الشتم والتفسيق والتكفير في مسألةٍ خلافية فرعية ، بينما من يحكم بالقوانين الوضعية مستبعداً شريعة الله مناصراً لأهل الكفر ، يفوز بدعائه ويتمتع بحبه ووده .

أليس هذا من الخلل في ترتيب الأولويات والقاعدة الفقهية تقول : " لا ينكر المختَلَفُ فيه وإنما يُنْكَر المتفق عليه "

وما يجمع الأمة خيرٌ مما يُفَرِّقها حتى لو تركت المستحبات والقاعدة تنص على أنه " يُستحب ترك المستحب تأليفاً للقلوب " . 

فغلى من تقع  مسؤولية التقصير للعمل لتحكيم هذا الدين , أليس هذا ديني ودينك , أليس الله استخلفنا في الأرض , أليس آخر الأنبياء نبينا محمد صلى الله عليه وسلم  , أليس أخر الأمم امتنا , أليس أخر الأديان ديننا , أليس أخر الكتب كتابنا , أليس الله يقول ] فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [ ألسنا الذين أرسل إلينا الرسول صلى الله عليه وسلم  ؟ , أليس الرسول يقول ( بلغوا عني ولو اية ) أليس الرسول صلى الله عليه وسلم  قد قلدنا الأمانة فقال : ( اللهم اشهد , اللهم اشهد , اللهم اشهد )  إلى من هذه النصوص والآيات لمن نترك هذا الدين حتى يقوم بالعمل على تحكيمه ؟ ولماذا أهل الباطل يعملون وأهل الحق نائمون ، لماذا لا نقوم بواجب الدعوة إلى الله , إلى من تركنا أمر الدعوة ونشر الدين ، فإن قلت هذا واجب العلماء والدعاة ، وأنت لماذا لا تشارك ؟ لماذا لا يكون هذا الأمر هم يخالط قلوبنا ؟ لماذا لا نغتم إذا رأينا التقصير في جيراننا وإخواننا المسلمين ؟ لماذا لا نتفقد أبناء عمومتنا وأقاربنا ونذكرهم بالله ؟ لماذا نجلس المجالس الكثيرة ولا نذكر الله فيها إلا قليلا ؟ لماذا لا نجعل من أنفسنا قدوات يقتدى بنا في أخلاقنا ومعاملاتنا مع الأهل والأقارب والناس عامة .

لماذا الزهدٌ في السنن والتوسع في المباحات وارتكاب للمحظورات ، والتهاونٌ في الأوامر وترك الواجبات والتركيز على المندوبات والمستحبات ؟

لماذا أصبح موضوع الجهاد في سبيل الله مجرد إخبار تتابع ؟ لماذا يغلب على مجالسنا الغيبة واكل لحوم الناس حتى أصبحت عطرها الفواح غيبة العلماء والدعاة والأمراء وعامة الناس ؟ لماذا نجلس في المجلس ونقوم وأكثر كلامنا عن الدنيا وأخبار البيع والشراء والسيارات ولا نذكر الله إلا قليلا ؟  أفمن هذا حاله ، يرجى إن يكون مسئولاً عن امة الإسلام ؟ أم هل يمكن من هذا حاله أن يؤثر في نفسه وأسرته فضلاً عن مجتمعه ؟  لنراجع حساباتنا ولنعلم أننا جميعاً مسؤولين عن هذا الدين رجالا ونساء ، فمن يقومبأمر هذا الدين سوى أبنائه .. ومن أبنائه أنت ! فماذا قدمت له !؟.

 

 

 

 ابتلاء الله وغضبه

الابتلاء سنة إلهية لا يسلم منها أحد وتشمل الخير والشر،قال تعالى:﴿ ونبلوكم بالشر والخير فتنة ﴾، أي اختباراً وامتحاناً بالنعم والنقم، والصحة والمرض والغني والفقر، والرخاء والشدة، والحياة والموت قال تعالى : ﴿ فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن، وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن ﴾ . أما غضب الله فيكون بعدم توفيق العبد إلى الطاعة ، فيعصي الله ، ويرتكب الجرائم حتى إذا أخذه لم يفلته ، بخلاف العبد الطائع ، فلا يسخط إذا نزل به بلاء أو مكروه ، ومما يؤسف له أن بعض ، ضعاف الإيمان ، إذا نزل به البلاء ، تسخط     ولام خالقه في أفعاله ، وغابت عنه حكمة الله في قدره ، فوقع في بلاء أشد من البلاء الذي أصابه ، وتناسى أن الدنيا  مليئة بالمصائب والرزايا ، والمحن والبلايا، إلى جانب ما فيها من كريم المنح والعطايا   وهي دار شدة ورخاء، وضحك وبكاء تتنوع فيها الابتلاءات، ليعتبر بها المعتبرون ويغتنمها الموفقون، ولايغتر بها المغترون ويهلك بها الهالكون قال تعالى: ﴿ ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون ﴾الأنبياء35.     وقال تعالى : ﴿ فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ﴾العنكبوت3، فكم من الشاكين والباكين؛ الذين يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية ،  فإذا نزلت بأحدهم النازلة ، أو حلت به الكارثة ضاقت عليه المسالك، وترقب أفجع المهالك؛ فضاق صدره، ونفد صبره واضطربت نفسه، وساء ظنه، وكثرت همومه ، وتوالت غمومه، فصد عن الحق، وتعلق بمن لا يملك نفعه ولا ضره من الخلق؛ يأساً من روح الله ، وقنوطاً من رحمته، وذلك هو الخسران المبين في الدارين لأن التعلق بالمخلوقين ، والإعراض عن رب العالمين ، شرك بنص الكتاب المبين قال تعالى:﴿ ولا تدع من دون الله مالا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذاً من الظالمين وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يُرِدْك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم ﴾ يونس 106. أما من آمن بالله ، وعرف حقيقة دنياه، وسلّم لربه فيما قدره وقضاه، فإنه يصبر على الضراء ، ويشكر على السراء ويطيع ربه في الشدة والرخاء، لأنه يؤمن أن الله يبتلي العبد بالخير والشر ؛ ليختبر صبره  فقد صح  عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال:(عجباً لأمر المؤمن؛ إن أمره كله له خير، وليس ذلك إلا للمؤمن، وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له) رواه مسلم . فاستخدامك للسرّاء في طاعة الله ، يكون نعمة ومنحة من الله ، ومكافأة علي طاعتك لله ، وإن كان استخدامك لها في غير طاعة الله  تصبح هذه النعمة بلاء  وإذا ازددت بهذه النعمة اقترابا من الله ، وسخرتها لإعانة المحتاج ، فقد نجحت في الامتحان الإلهي وإن زادتك تكبرا وغلظة ، فقد أخفقت      عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ما يزال البلاء بالمؤمن في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة) الترمذي ، وقال النبي عليه الصلاة والسلام : (إن عظم الجزاء مع عظم البلاء وإن الله تعالى إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط) فكم من محنة في طيها منح ورحمات، وكم من مكروه يحل بالعبد ينال به رفيع الدرجات ، وصدق الله إذ يقول:﴿ إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ﴾ الزمر10.قد يتعجب البعض إذا قلنا أن الألم والابتلاء نعمة ، نعم إنه نعمة لأن الألم تهذيب للنفس ، وتخليص لها من شوائب الدنيا ، التي قد تكون علقت بها ، فإذا نظرت، ستجد الكل مبتلي، فهذا مبتلي في صحته.. وذاك مبتلي بالفقر وضيق ذات اليد.. وذاك ابتلاه الله بفقد الولد أو مرضه.. فلست وحدك المبتلى    فالكل يعاني ويكابد ، من الابتلاء لأنه سنة كونية تتجلى في قوله تعالي: ﴿ لقد خلقنا الإنسان في كبد﴾ أي أن هذا ما قدره الله علي عباده في هذه الحياة ، من التعب والمشقة ، والمعاناة التي تتفاوت من شخص لآخر، ولو علمنا حكمة الله في الابتلاء والجزاء ، الذي أعده للصابرين ، لحُسدوا   على النعيم الذي أعده الله لهم في الآخرة  فمن صبر علي الفقر في الدنيا ، عوضه الله عن ذلك بنعيم دائم لا ينقطع في الآخرة  ومن احترق قلبه لوعة لفقده ولده ، وصبر واحتسبه عند الله ، بني الله له بيتا في الجنة يسمي بيت الحمد ، كما جاء في الحديث القدسي : ( يسأل الله سبحانه ملائكته اقبضوا ولد عبدي ، اقبضوا ثمرة فؤاده فيقولون : نعم يا ربنا ، فيقول تعالى وهو الأعلم بعباده: فماذا قال؟! قالوا: حمدك فيقول:  ابنوا له بيتا في الجنة اسمه بيت الحمد ) .فالابتلاء إذن ، ليس مذموما دائما ، ولا مكروها دائما ، وكيف لا يكون البلاء أو الألم نعمة من الله ، وجزاء من يصبر عليهما الجنة ونعيمها؟! وفي ذلك قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: ( ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذي ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر بها خطاياه ) رواه البخاري . وقد يتخفي البلاء في ثوب النعم ، ويتجلي هذا المعني في قوله تعالي: ﴿ أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ﴾ فالنعم ليست في مطلقها خيرا، بل قد تكون امتحانا من الله لعبده ، ومن نعم الله أن جعل البلاء فرصة للتوبة قبل أن يحل العذاب الأكبر يوم القيامة قال تعالى :﴿  وَلَنُذِيقَنهُم منَ العَذَابِ الأدنَى دُونَ العَذَابِ الأكبَرِ لَعَلهُم يَرجِعُونَ ﴾ السجدة 21 ، والعذاب الأدنى هو نكد الدنيا ، وما يصيب الإنسان من سوء وشر ، وإذا استمرت الحياة هانئة  فسوف يصل الإنسان إلى مرحلة الغرور والكبر ، ويظن نفسه مستغنياً عن الله   فمن رحمته سبحانه ، أن يبتلي الإنسان حتى يعود إليه ، فيكون نزول البلاء خيرٌ للمؤمن ، من أن يُدَّخر له العقاب في الآخرة ،  كيف لا وفيه تُرفع درجاته   وتكفر سيئاته ، قال صلى الله عليه وسلم : ( إذا أراد الله بعبده الخير عجَّل له العقوبة في الدنيا  وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبـــه حتى يوافيه به يوم القيامة ) صححه الألباني في صحيح الترمذي .وقال الحسن البصري رحمه الله :" لا تكرهوا البلايا الواقعة ، والنقمات الحادثة  فَلَرُبَّ أمرٍ تكرهه ، فيه نجاتك ، ولَرُبَّ أمرٍ تؤثره ، فيه عطبك – أي هلاكك "     قيل للإمام الشافعي رحمه الله : أَيّهما أَفضل : الصَّبر أو المِحنة أو التَّمكين ؟ فقال : التَّمكين درجة الأنبياء ، ولا يكون التَّمكين إلا بعد المحنة  فإذا امتحن صبر ، وإذا صبر مكن " فاتقوا الله وأثبتوا على إيمانكم  واصبروا على ما قد تبتلون به ، وأدوا حق الله فيما أعطاكم ، ولا يطغينكم عز ورخاء أو صحة وثراء، ولا تضعفوا أمام الأحداث والشدائد والمضايقات ، فما هي إلا إبتلاء وامتحان ، ثم يأتي فرج الله ونصره ، ومثوبته لمن قام بأمره ، قال عليه الصلاة والسلام :

( إذا رأيت الله يُعطي العَبد مِن الدُّنيا على مَعاصيه ما يُحِبّ ، فإنما هو استدراج ، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : ﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴾ . رواه الإمام أحمد ، وصححه الألباني .

قوة المُسْلِمِينَ بالإِسْلاَمِ

إن قوة الأمة بقوة تمسُّكِها بدينها، وضعفها وهوانها بضعف تمسكها بعقيدتها، وفي قوة الأمة قوةً للدين وعزة له، وفي ضعفها إضعافًا للدين وهوانًا له، وهذا ما أكده عثمان رضي الله عنه حينما ربط قوة السلطان بقوة الدين في قوله المأثور: "إن الله لَيَزَعُ بالسلطان ما لا يزع بالقرآن". إن الناظر إلى أحوال الأمة الإسلامية اليوم يلحظ تأخرها بعد تقدمها، وذلها بعد عزها واحتلالها بعد سيطرتها؛ مصداقاً لقول القائل:

كنا ملوكاً على الدنيا وكان لنا    ملك عظيم وكنا سادة الأمم

كسرى وقيصر والخاقان دان لنا  وأمرنا كان بين السيف والقلم

إن للضعف أسباباً ، وللقوة أسباباً، والمتابع لواقع الأمة ، يدرك ما تمر به من تخلف ويدرك ما وصلت إليه الأمة من الضعف والهوان ، لعدم تمسكها بدينها ، دين العزة والقوة ، من تمسك به ، وعمل به ، يعزه الله وينصره ، ويقهر به عدوه ، لأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين قال تعالى: ﴿ وَلِلهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ فمَنْ كان يحب أن يكون عزيزاً في الدنيا والآخرة ، كما قال ابن كثير   فليلزم طاعة الله، فإنه يحصل له مقصوده لأن الله مالك الدنيا والآخرة ، وله العزة جميعا ، فمن ابتغى العزة  عند غير الله أذله الله قال تعالى : ﴿ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً ﴾ وقال:﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً ﴾ فالغلبة والقوة لله ، وكما لا يتأتى الإصلاح بتخريب البلاد، فلا يتأتى بإبعادها عن شرع الله ، فكلا الأمرين ، يعد فساداً وإفساداً في الأرض ، لا يحبه الله ، وبالرغم من عِلْمنا بهذا ، يحال بيننا وبين الإسلام ، من قبل أعداء الله وأذنابهم ، حتى غدت الجاهلية الحاضرة ، أشد وأعتى من الجاهلية الأولى وأضحى عُباد الأصنام البشرية ، والشهوات الدنيوية ، أقسى قلوباً من عباد الأصنام الحجرية، وأطل رأس الكفر ومن يسايره  يحارب الإسلام وأهله، وأصيبت الأمة في أخلاقها ، فضُيعت الأمانة، وانتشرت الموبقات والمخدِرات، وعمت الرذيلة  وتراجعت الفضيلة، وتعطلت أحكام الشريعة ، وطرحت الشعارات ، التي فرّقت الأمة ، وأوردتها موارد الهوان ، فهزمنا وما انتصرنا ، ولن ننتصر إلا براية الإسلام التي استظل تحتها سلفنا الصالح ، ولن ندخل التاريخ ، بأمثال أبي جهل ، وأبي لهب، بل بمن سار على نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصحبه الكرام ، وتابعيهم بإحسان  ولم نفتح الفتوح ، بحرب داحس والغبراء، بل فتحت ببدر والقادسية واليرموك ، ولم تحرر البلاد بالاستجداء والمؤتمرات، ولكن حررت بحطين وعين جالوت، ولم تحكم الأمة بالقوانين الوضعية ، وعصبيات الجاهلية ولكن حكمت بالقرآن المجيد ، وبالإسلام العظيم ، ولم تبتغِ العزة من محافل الكفر الدولية، ولكنها ابتغيت من الله رب العالمين وبجماعة المؤمنين، ولم يبسط سلطان الأمة بدويلات الطوائف ، بل بسط بالخلافة الراشدة ، وبالأمة الماجدة، فكان على الأمة أن تسير على خطى السلف ، وتتسلم زمام المبادرة، لإعادة مجد الإسلام ،وعزة المسلمين والعمل على إزالة العوائق ، التي تحول دون ذلك ، ولما ابتعد المسلمون عن دينهم   قلت قوتهم، وازداد وهنهم، وتسلط عليهم عدوهم، لأنه لا حياة إلا بالإسلام ، ولا أمن إلا بالإيمان، وصدق إقبال إذ قال:

إذا الإيمان ضاع فلا أمان  ولا دنيا لمن لم يحي دينا

ومن رضي الحياة بغير دين فقد جعل الفناء لها قرينا

لقد أدرك أعداء الإسلام ، بأن قوة المسلمين ، تكمن في تمسكهم لمبادئ هذا الدين، وتمسكهم برابطة الأخوة الإسلامية التي تضمهم على اختلاف أجناسهم وألوانهم، والعمل للعيش في ظل كتاب ربهم وسنة نبيهم، فاشتدت الحملة ضد الإسلام والمسلمين ، من داخل العالم الإسلامي  ومن خارجه ، للحيلولة بين المسلمين ودينهم ، وقطع الطريق على أبناء الأمة، أن يعيشوا أعزة في أوطانهم وديارهم.

ولما سقطت الخلافة الإسلامية ، وتقاسمت   الدول الصليبية الكافرة، أراضي الإسلام   قال المثبطون: بأن ضعف المسلمين يكمن في الإسلام ، الذي أقعدهم عن طلب العلم والنهضة، وكبلهم في التخلف والجهل  وتحت هذه المقالات الفاجرة ، نشأت الحكومات ، التي استبدلت شريعة الله بشرائع الكفار، ونظام التعليم الإسلامي بنظام التعليم الغربي، وبدأت أجهزة الإعلام تغرس عقائد القومية، والوطنية الإقليمية مكان العقيدة الإسلامية ، واكتشف المسلمون أخيراً ، أنه لا حياة لهم ولا عز ولا نصر إلا بالدين ، الذي أعزهم الله به  وانتصروا في ظلاله ، فجن جنون أعداء الله الذين بذلوا النفس والنفيس ، في سبيل سلخ  الأمة عن دينها، وظنوا أن المسلمين قد فارقوا الإسلام إلى الأبد، وأنه لا عودة لهذا الدين من جديد ، وأن قضيته لن يكون لها وجود، وأن دولته لن تعقد لها راية، ولن يرفع لها لواء ، وتنادى أعداء الله في شرق الأرض وغربها ، ليحولوا بين الإسلام وأهله   وعملوا بكل ما أوتوا من قوة ، لتشتيت   الأمة وضياعها، وإبقاء دولها فقيرة عاجزة مكبلة بالديون ، والفقر والتخلف، وهم اليوم ، وراء تشجيع كل نحلة ، وطائفة وفرقة يمكن أن تمزق الجسد الإسلامي، كالباطنية والدروز والشيوعية، وتشجيع دعوات التحلل من الإسلام ، وترويج الفواحش والمخدرات، والتعري، وكل ما يمكن أن يسلخ المسلم عن دينه ، يساعدهم   عملائهم في العالم الإسلامي ، لضرب الإسلام، ومحارب الإسلام ، بأبناء الإسلام  الذين عميت أبصارهم، وظنوا الإسلام   سيفاً يقطع الأيدي والرقاب، وسوطاً يجلد الظهور، أو ظنوه ركونا إلى الجهل والتخلف   وحسبوه طريقاً إلى الفرقة والشتات ، وسبيلاً إلى الخراب وسفك الدماء ، وقد ساعد على وجود هذا الصنف الجاهل ، وجود بعض النماذج الإسلامية الجاهلة والحاقدة التي ضربت للإسلام ، أبشع الأمثلة  وصورته بأقبح الصور، حقداً على الإسلام وأهله ، ولكنهم كما قال الله في أسلافهم: ﴿ صم بكم عمي فهم لا يرجعون ﴾ البقرة 18  

 

 

 

 

 

 

 

 

عاقبة الغفلة

إن النفوس حين تستحوذ عليها الغفلة لا تصلح للنهوض بعبء، ولا للقيام بواجب، تغدو الحياة فيها عاطلة هينة رخيصة، وحين يهون المرء في نظر نفسه يهون على الآخرين، وحين ينسى العبد ربه، ينساه الله وتحيق به الخسارة في الدارين. لقد ميز الله الخلق بمدارك  يدركون بها ما يضرهم وما ينفعهم، وحين تعطل هذه الحواس، وتحيط الغفلة بالناس ينحدرون إلى درك الأنعام، بل هم أضل: { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ  } الأعراف:179.

إن مظاهر الغفلة في حياتنا الافتتان بالدنيا ، في مقابل الإعراض عن الآخرة ، وضعف الغيرة لدين الله. ومن مظاهر الغفلة في حياتنا الضعف في أداء الواجبات والزهد في عمل المستحبات، والتسامح في مقارفة السيئات، وهتك أستار المحرمات. ومن مظاهر الغفلة تعلق نفوسنا بتوافه الأمور، وعجزها عن التعلق بالمعالي، وكسلها عن جلائل الأعمال الصالحة.

نغفل عن الموت وسكرته، وعن الحساب وشدته، نغفل عن ذوات أنفسنا وما يصلحا أو يفسدها،  وكثيرة هي الأسباب الجالبة للغفلة، فأنفسنا الأمارة بالسوء تدعونا للغفلة، وإبليس يعدنا ويمنينا ويخوفنا تارة، ويزين لنا أخرى، ويأتينا من بين أيدينا، ومن خلفنا، وعن أيماننا وعن شمائلنا، ولكن الله لم يجعل له سلطاناً من فوقنا، وجعل الباب بيننا وبينه مفتوحاً، فمن استعاذ به أعاذه، ومن لاذ بحماه أجاره، ومن استعان به أعانه: { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} الحجر:42، ويتلمس شياطين الإنس المراصد والوسائل التي بها يصدوننا عن ديننا، ومن أبرز وسائلهم الفن الرخيص، والرياضة الفاتنة، وكم نسي المسلمون قضاياهم الكبرى بسبب هذه الوسائل الملهية الفاتنة؟ وكم غفلوا عن مخططات أعدائهم في سبيل الترويح عن أنفسهم ، فقست القلوب، وقل أثر المواعظ في النفوس، وكثر الفسوق والفجور، ودونكم هذا التشخيص لهذا المرض فاعقلوه، يقول ابن قدامة يرحمه الله: واعلم أن السب في طول الأمل شيئان: أحدهما: حب الدنيا، والثاني: الجهل. أما حب الدنيا فإن الإنسان إذا أنس بها وبشهواتها ولذاتها ثقل على قلبه مفارقتها، فامتنع قلبه من الفكر في الموت الذي هو سبب مفارقتها، وكل من كره شيئاً دفعه عن نفسه، والإنسان مشغول بالأماني الباطلة، فيمني نفسه أبداً بما يوافق مراده من البقاء في الدنيا، ما يحتاج إليه من مال وأهل ومسكن، فيلهو بذلك عن الموت ولا يقدر قربه، فإذا خطر له الموت في بعض الأحوال، والحاجة للاستعداد له سوف بذلك ووعد نفسه، وقال: الأيام بين يديك إلى أن تكبر ثم تتوب، وإذا كبر قال: إلى أن تصير شيخاً، وإن صار شيخاً قال: إلى أن يفرغ من بناء هذه الدار، وعمارة هذه الضيعة أو يرجع من هذه السفرة، فلا يزال يسوف ويؤخر إلى أن تتخطفه المنية في وقت لا يحتسبه، فتطول عند ذلك حسرته ، ولو تفكر أن الموت ليس له وقت مخصوص ولا يبعده الشباب أو تدفعه الصحة واكتمال القوى لعظم ذلك عنده واستعد للموت وما بعده قال تعالى : { وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ * إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ } الأعراف: 205-206. ولما سئل حذيفة -رضي الله عنه- عن ميت الأحياء قال: "هو الذي لا ينكر المنكر بيده ولا بلسانه، ولا حتى بقلبه"، وفي الحديث ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ) رواه مسلم .

 

 

 

 

 

الثقة بنصر الله 

إن المسلمين يعانون أشد المعاناة ، فمن القتل إلى معتقلات التعذيب إلى الاعتقال والإبعاد ، إلى صور أخرى من المآسي، حتى إن المرء لا يكاد يرى إلا مزيدًا من المعاناة والمحن ، ولكنها المحن التي تسفر عن المنح ، والشدة التي نهايتها النعم ، وهو العسر الذي يعقبه يسر، بل يسران، كما فسر رسول الله  قوله تعالى:﴿ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا   إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴾الشرح5، فليتأمل المسلمون في آيات الله، وليتدبروا في وقائع التاريخ، وليستفيدوا لأنفسهم يقينًا بالنصر لا يتزعزع، وثقة بالله لا تضعف ، إن حقيقة اليقين بالله تظهر في مراحل الضعف، إذ ليس صاحب اليقين مَن يفرح حين يرى قوة الإسلام وبشائر النصر ، إنما يكون اليقين لصاحب الثقة بالله مهما اشتد الضيق، وتكالبت الأمم على الإسلام ، لأن يقينه بأن العاقبة للمتقين، وأن المستقبل لهذا الدين ، وبالصبر واليقين يسعى المجاهد لإقامة دين الله في الأرض، قال تعالى : ﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ ﴾السجدة2 ، لأن أهم ما يؤتاه المرء اليقين، كما في الحديث: ( وسلوا الله اليقين والمعافاة، فإنه لم يؤت أحد بعد اليقين خيرا من المعافاة ) صحيح الجامع، صححه الألباني ، ولا تهلك الأمة الإسلامية إلا حين يبخل أبناؤها بتقديم الجهود المتاحة لنصرتها، ثم يتجرعون كؤوس الأمل بلا عمل، لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاح أول هذه الأمة بالزهد واليقين، ويهلك آخرها بالبخل والأمل ) صحيح الجامع،حسنه الألباني. كما دلت الأحاديث على أن أمتنا أمة الخير بإذن الله التي يرجى لها النصر من الله ، ولو بعد حين قال عليه السلام : (مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره ) صحيح الجامع، صحيح . ولا ندري على يد أي جيل يرفع الله شأن هذه الأمة  لكن سنة الله  كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرساً يستعملهم فيه بطاعته إلى يوم القيامة ) صحيح الجامع، حديث حسن .وقد جاءت بشائر كثيرة في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، تجدد الأمل وتثبت اليقين، منها وعد الله بأن يبلغ ملك الأمة المشارق والمغارب ومازالت هناك بقاع لم تقع تحت المسلمين، ولابد أن يفتحها الإسلام، كما في الحديث:

(إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها ) رواه مسلم . فإذا عرفنا أن الأصل في الإسلام العلو والسيادة والتمكين، فلا نستيئس من ضعف المسلمين حينا من الدهر، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الإسلام يعلو ولا يعلى)صحيح الجامع، حديث حسن ، وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم باستمرار زيادة الإسلام:( ولا يزال الإسلام يزيد وينقص الشرك وأهله، حتى تسير المرأتان لا تخشيان إلا جَورا، والذي نفسي بيده لا تذهب الأيام والليالي، حتى يبلغ هذه الدين مبلغ هذا النجم ) صحيح الجامع، صحيح . فالأمل باق، وامتداد سلطان المسلمين مستمر بإذن الله ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بشر ببشريات تذيب كل يأس، وتدفع كل قنوط   وتريح قلب فاقد الأمل بأبناء هذا الدين فقال صلى الله عليه وسلم : (بشر هذه الأمة بالسناء والدين والرفعة والنصر والتمكين في الأرض.. والجهاد مستمر إلى يوم القيامة، والطائفة الظاهرة على الحق لا يضرها من خذلها، وهي مستمرة حتى يأتي أمر الله، وفي ذلك يقول: لن يبرح هذا الدين قائما، يقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة ) رواه مسلم . والمقياس عند الله غير مقياس البشر، إن الله يجعل من الضعف قوة ، وذلك واضح من التأمل في قوله صلى الله عليه وسلم: ( إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها، بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم ) صحيح سنن النسائي للألباني. إن ذلك المسلم المكبل بالأغلال، المحبوس في الأقبية، الملاحق في كل مكان، الفاقد للسلاح، الفقير المعدم، فبدعوته وصلاته وإخلاصه ينصر الله هذه الأمة، رغم كل صور الضعف التي تمثلت فيه، وكما أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم الله على الله لأبره ) رواه مسلم ، فكما نرى القوة اليوم بيد أعدائنا والغلبة لهم علينا ، ولكن لا ننسى أن الله هو المتصرف بهذا الكون، وعينه لا تغفل عن عباده المؤمنين، ولن يرضى لهم دوام الذلة ، واستمرار القهر، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الميزان بيد الرحمن، يرفع أقواما، ويضع آخرين ) صحيح الجامع صحيح . ولابد أن يرفعنا بعد أن وضعنا، إذا رأى منا صدق السعي لمرضاته.

وفي كل قرن يعيد الله اليقين إلى نفوس الأمة، بأن يجعل فيها سباقين في الخير، لا يبالون بالمحن، يتأسى الناس بهم كما في الحديث:( في كل قرن من أمتي سابقون ) صحيح الجامع، حسن. كما يجعل في الأمة من يصحح لها المفاهيم، ويجدد لها أمر دينها، وقد بشر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ( إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها ) رواه أبو داود وصححه الألباني . فإما أن يأتي الفرج على أيدي السابقين، وإما أن يأتي على أيدي المجددين، ولكن الكرب لا يدوم. وجميع أعداء الإسلام واقعون في دائرة تهديد الله لهم بالحرب، ومن كان الله حربا عليه فلا خوف منه ، ولا أمل باستمرار سلطانه علينا ، كما جاء في الحديث القدسي: ( من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب..) رواه البخاري . فلنتواص بالصبر على البلاء، والثبات إذا وقع القضاء، ولنكن بشير خير لا نذير شر، ولنقل للمتشائمين بعد طول انتظار كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه حينما اشتكوا من كثرة البلاء وشدته:(والله ليتمن الله هذا الأمر.... ولكنكم تستعجلون ) .

إن الثقة التي يريدها الرب سبحانه وتعالى من عباده هي الثقة التي تحققت في أم موسى عمليا حين قال عنها: { فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} (من الآية:7) وهكذا ألقته في اليم ولم تخف ولم تحزن، مع أن اليم خطير على الطفل الرضيع عادة، وكتب الله له النجاة، وتلقى فرعون الطفل الرضيع، ولم يخف من كفالته في قصره، لأن الطفل الرضيع لا يخيف من رباه عادة، فكان هلاك فرعون على يديه، وهكذا تجري عجائب قدر الله...

وقد حدَّث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثلاثة أصناف من الناس لا خير فيهم: (ثلاثة لا تسأل عنهم.. ورجل في شك من أمر الله، والقنوط من رحمة الله ..) صحيح الجامع، صحيح . ولذلك فإن الأمة التي نخرها الشك، ونهشها القنوط لا يرجى خيرها ، مالم تستعد الثقة واليقين بنصر رب العالمين ، ولئن مرت الأمة بفترات ضعف فلا ننس أنها تقادير الله ، الذي يقدر على إعادة عز ضاع، واسترجاع سيادة مضت، وشأن البشر الصعود والنزول، كما في الحديث:( مثل المؤمن مثل السنبلة، تميل أحيانا وتقوم أحيانا )صحيح الجامع، صحيح ، المهم أنها تقوم يوما ما، وتلك سنة كونية وهذا اليوم آت لا محالة إذا توفرت الأسباب ، وهكذا مضت سنة الله في الأمم، كما في الحديث : ( عرضت علي الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهيط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد ..) ومع ذلك استمرت الدعوة، وستبقى مهما لقيت من الضعف في بعض الأزمان، ولن يعيب النبيَّ الذي ليس معه أحد أنه لم يهتد على يديه أحد، رغم بذله جهده في دعوته، كما لا يعيب المجاهد ألا يصل إلى النصر، رغم طول جهاده، إنما يعيبنا التقصير في أخذ الأسباب، والبخل بالجهد المستطاع وإن قل والباقي تعهد به الله حين يشاء.

ولما يخشاه الشهداء على من بعدهم من الأحياء من ضعف الثقة المفضي إلى الزهد بالجهاد، أو اليأس من ثماره، يقولون لربهم سبحانه وتعالى: " من يبلغ إخواننا عنا أنا أحياء في الجنة نرزق، لئلا يزهدوا في الجهاد، ولا ينكلوا عند الحرب، فقال الله سبحانه: أنا أبلغهم عنكم ...) رواه أبو داود، وحسنه الألباني ،

فلابد لليل أن ينجلي، ويمضي قدر رب العالمين في أن تكون العاقبة للمتقين .

إن استحضار الثقة بنصر الله - تعالى - زمن الفتن والمحن أمر يجب أن لا يغفل عنه المسلمون ، ومن يستعرض الواقع التاريخي للإسلام يجد ما يؤكد هذه الحقيقة ، فبينما سراقة بن مالك يطارد رسول الله وصاحبه أبا بكر ، وهما مهاجران خفية عن أعين الناس ، وبينما كان سراقة يعثر به فرسه كلما هم أن يتابع الرسول وصاحبه طمعًا في جائزة قريش المغرية التي رصدتها لمن يأتيها بمحمد وصاحبه ، أو يخبر عنهما ، وبينما هو يهم بالرجوع ، وقدْ عاهد النبي عليه السلام ، أن يكفيهما مَنْ من وراءه ، في هذه اللحظة قال النبي عليه السلام :( يا سراقة ، كيف بك وسواري كسرى ) ؟ يعده سواري كسرى ، نعم لقد كان رسول الله عليه السلام ، عارفًا بالحق الذي معه ، معرفته بالباطل الذي عليه الجاهلية يومذاك ، وكان واثقًا من أن هذا الحق لابد أن ينتصر على هذا الباطل ، قد كان سراقة يدرك تمامًا بعدما ساخت قوائم فرسه في الأرض أن هنالك قدرًا علويًا يحرك الأحداث ، ويدفعها لصالح الحق ، ولهذا كان يقول مخاطبًا أبا جهل :  

أبا حكم والله لو كنت شاهدًا  لأمر جوادي إذ تسوح قوائمه

علمت ولم تشكك بأن محمدًا  رسول ببرهانٍ فمن ذا يقاومه ؟

ونحن اليوم في مثل هذا الموقف بكل ملابساته ، فإنه لا ينقصنا اليقين في العاقبة المحتومة . العاقبة التي يشير إليها كل شيء من حولنا على الرغم من جميع الفتن المحيطة بنا .

 ولا يجوز أن يتطرق إلى قلوبنا الشك بسبب ما نراه من حولنا ، من الضربات الوحشية التي تكال لطلائع الجيل المسلم في كل مكان ، إن الذي يفصل في الأمر ليس قوة الضربات التي تكال للإسلام ، إنما الذي يفصل في الأمر هو قوة الحق ، ومدى الصمود للضربات ، لأن الإسلام  أصلب من أن تفلح في معالجته ، هذه الضربات الوحشية التي تكال للمسلمين في كثير من بلاد الإسلام ، لأن المستقبل لهذا الدين ، وهذا الدين له دوره الكبير في هذه الأرض هو مدعو لأدائه ، أراد أعداؤه أم لم يريدوا ، وإن عنصر القوة كامن في طبيعته ، كامن في بساطته ووضوحه وشموله ، وملاءمته للفطرة البشرية ، وتلبيته لحاجاتها الحقيقية ، كامن في الاستعلاء عن العبودية للعباد بالعبودية لله رب العباد ، وفي رفض التلقي إلا منه ، ورفض الخضوع إلا له من دون العالمين ، كامن كذلك في الاستعلاء بأهله على الملابسات العارضة ، كالوقوع تحت سلطان المتسلطين . فهذا السلطان يظل خارج نطاق الضمير مهما اشتدت وطأته ، ومن ثم لا تقع الهزيمة الروحية طالما عمر الإسلامُ القلب والضمير ، وإن وقعت الهزيمة الظاهرية في بعض الأحايين ، ومن أجل هذه الخصائص في الإسلام يحاربه أعداؤه هذه الحرب الماكرة ، لأنه يقف لهم في الطريق ، يعوقهم عن أهدافهم الاستعمارية ، وعن الطغيان والتأله في الأرض كما يريدون ! ومن أجل هذه الخصائص يطلقون عليه حملات القمع والإبادة ، كما يطلقون عليه حملات التشويه والخداع والتضليل ، ومن أجل هذا يريدون أن يستبدلوا به قيمًا أخرى ، وتصورات أخرى ، لا تمت بسبب إلى هذا المناضل الكبير ، لتستريح الصهيونية العالمية ، والصليبية العالمية ، والاستعمار العالمي من هذا العملاق الوحيد .

نعم إن خصائص الإسلام الذاتية هي التي تقف ضد الفتن التي يثيروها أعداؤه الطامعون في أسلاب الوطن الإسلامي ، هذه هي حقيقة المعركة ، وهذا هو دافعها الأصيل   .

نعم إنها الحقيقة التي لابد أن تستقر في ذهن كل مؤمن ، وتتربع في قلب كل جيل من هذه الأمة - وهم يواجهون الفتن من مصائب وكوراث وتسجين وتقتيل - أن يعتقدوا اعتقادًا جازمًا لا يتطرق إليه أدنى شك أن النصر لهذا الدين مهما تكالبت عليه قوى الأرض جميعًا : ﴿ أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير . الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا لله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرًا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز ﴾، وقوله نعالى : ﴿ يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون . هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ﴾ .

ثم على هذا الجيل أيضًا أن يتذكروا صراع الأنبياء مع أقوامهم ، ولمن كان الغلبة ؟ قال تعالى : ﴿ ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين . إنهم لهم المنصورون . وإن جندنا لهم الغالبون ﴾ وقوله تعالى : ﴿ إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد . يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار ﴾ .

وإن هذه الحقيقة التي قررها القرآن لم تغفلها أيضًا السنة الصحيحة ، فقد ثبت في الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله إياه بعز عزيز أو بذل ذليل عزًا يعز الله به الإسلام وذلاً يذل به الكفر) ، وإنه إذا أراد المشككون من المنافقين ونحوهم أن يزيلوا هذه الحقيقة من قلوب المسلمين ، واستمع لهم من استمع ، وصدّق كلامهم من صدّقه ، فإنني أوجه الخطاب لهؤلاء جميعًا أن ينظروا إلى المذابح والتشريد الذي تعرض له المسلمون في كثير من بلاد الإسلام ، هل أخمدهم ؟ هل قضى عليهم ؟ هل أوقف المد الإسلامي ؟ لقد قُتل مئات وألوف تحت القمع الصليبي والصهيوني والعلماني ، فإذا بالقاعدة تتسع بعد كل مذبحة ، وجاءت عينات من الشباب المسلم الواعي أكثر صلابة ، وأشد بأسًا ، وأكثر وعيًا وتصميمًا على المضي في المشوار الطويل  

   

من فقه الائتلاف.. الطريق إلى الوفاق

 

قال تعالى : { ولا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وتَذْهَبَ رِيحُكُمْ واصْبِرُوا إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } . ويقول مخاطباً نَبِيَّه صلى الله عليه وسلم :{ إنَّ الَذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } . أولت نصوص القرآن والسُنّة النبوية عناية كبيرة لمسائل الوحدة والتحذير من التَفَرُّقِ والاختلاف، صيانة للأمة ووحدتها وحفاظاً على قوتها في وجه المتربصين بها، ففي الفُرْقَة هلاك الأمة وذهاب ريحها وهيبتها ، لذا اعتبر الشرع الاتفاق والتعاون أمران مطلوبان ، لا يستغني عنهما ، لأن الله خلق الناس بتدبيره وجعلهم محتاجين لبعضهم ، ليكون الخالق وحده بالغنى منفردا  فكل إنسان محتاج لأخيه في أمور الدين والدنيا ، والداعية لا تتم ألفته إلا بعدله مع غيره ، فيحمل نفسه على المصالح  ويكفها عن القبائح . والألفة تتم  أولاً بالمؤاخاة الصادقة في طريق الدعوة ، فالأخوان زينة في الرخاء وعصمة في البلاء . وثانيا بعدم التحزب للآراء والتعصب للرجال ، وإنما الدعاة هم معلمو الخير للناس ، عليهم خدمة المبادئ السامية ، وأداء واجب الأخوة والتعاون مع كل صاحب فضل ، لأداء واجب النصيحة للناس وتبليغ الدعوة لهم . وقياس الناس والأفكار يكون بميزان الإسلام ، وقديماً قال أهل التوحيد : " اعرف الرجال بالحق ولا تعرف الحق بالرجال " وقيل : " واعرف الحق تعرف أهله " وعلى كل داعية أن ينظر إلى الأمام  ويضع المنهج الرباني نصب عينيه .

 

وثالثا بعدم الإفراط في المحبة ، تفريطاً ينافي العدل ، لأنه قد يدعو لتجاوز الإنصاف ، ثم التعصب والانحياز ، والشريعة نهت عن التطرف في كل أمر فلا إفراط ولا تفريط ، وما ضاعت الشريعة وظهرت البدع إلا بالتقصير في بعض المسائل أو الغلو في بعضها الآخر، وكل زائد عن الحد ، يغلب انقلابه إلى الضد ، والإفراط في المحبة قد تعني إعجابا حقيقيا ، وليس تكلفا ، وهذا ليس صحيحاً لأنه ليس هناك شخص مقدس ، ولكل شخص أخطاء ، والمصيبة في الإعجاب بالنفس ، لأن أول ضحايا الإعجاب هو المعجب بنفسه .

 

إن الإسلام يدعو إلي الالفة والتحاب والتراحم والتعاطف  فكل ما أدى إلى خلاف ذلك فخارج عن الدين  ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "من القواعد العظيمة التي هي جماع الدين : تأليف القلوب ، واجتماع الكلمة ، وإصلاح ذات البين . وأهل هذا الأصل هم أهل السنة والجماعة ، كما أن الخارجين عنه هم أهل الفُرقة " .  ونصوص القرآن والسنة كثيرة في هذا الباب ، فهي تحث عليه ، كقوله تعالى: { محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم } . وكقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) وقوله : ( المؤمن للمؤمن كالبنيان) . كما أن هذا الموضوع فيه رعاية لأصول أهل السنة والجماعة، الذين يحرصون   على الائتلاف، ويهتمون بأمر المسلمين ، وإن  أكبر الإشكالات ليست في وقوع الخلاف ، ولكن في تملُّك الخلاف واستغراقه للمسلم ؛ والذي ينسيه المعاني الجامعة  والكليات العامة ، والقواعد الأصيلة ، والقضايا المشتركة  ومن هنا تضطرب الموازين ، وتختل المعايير وتختلط المواقف ، وهذا خلل في فهم الإسلام ، وخلل في تربية المسلم تؤدي إلى التظالم والتباغض والتفرق والاختلاف والطعن والتشهير ، بدل الاجتماع والائتلاف والموالاة في الله ، والشرع يحض على الائتلاف ويحرص عليه ، وإذا وقع الخلاف في مسائل الاجتهاد   أمر بالأدب عند الخلاف ؛ صيانة لأصل الوحدة والائتلاف   فإن السلف تنازعوا في مسائل علمية اعتقاديه مع بقاء الجماعة والإلفة  .  وإن الوقوف على أسباب الخلاف ، يساعد على الائتلاف من خلال معرفة الخلاف وأسبابه ، لتفاديها والابتعاد عنها ، وخاصة الخلاف الذي يؤدي إلى الفرقة ، وإن أسباب الخلاف والفرقة ترجع إلى سبب واحد في الغالب ، وهو عدم الأخذ بالشريعة كلها ، علماً وفهماً وعملاً ، فإمــا في المفاهيم التي لم تستوعب القطعي من الاجتهادي في الشريعة  أولخلل في التزكية يفضي إلى الأهواء والعصبية لرأي شيخ أو حزب ، وهذا أكبر إشكالات العمل الإسلامي الذي يجعل الحزب أو الجماعة أو المجموعة أو الشيخ هو الإسلام كله وغيره خارج عن الإسلام ، بل لا يرى الفرد أخطاء جماعته أو شيوخه   ولكنه يترصد أخطاء الآخرين ، ممن ليس معه في حزبه أو جماعته . إن الجهل بآداب الإسلام وأخلاقه في التعامل مع المخالف أو التقوقع حول جماعة أو شيخ أو حزب أو مذهب لدرجة التعصب ، ممقوت في شريعة الله ؛ لأنه يؤدي إلى رد الحق وعدم العدل والإنصاف ، الذي يقوم على النظر الشرعي الصحيح  بأن يُحَب الرجل بقدر ما فيه من طاعة ، ويُبغَض بقدر ما فيه من معصية ، وأن يقبل المسلم الحق ، وأن ينشد الحكمة التي هي ضالته ، وأن يسعى لائتلاف الصف المسلم  وتوحد العمل الإسلامي، واجتماع كلمة المسلمين ضد خصومهم ، من أعداء الله والأمة .

 

إننا بحاجة إلى أن نٌذكِّر بعضنا ، بأن ما يجمعنا أكثر مما يفرقنا ، وأن ما يوحدنا أكثر مما يشتتنا ، وأن نتذكر عند اختلافنا مع الآخرين ، بأن كلياتهم ومقاصدهم بالجملة على خير ، ولذلك جُعلت قاعدة الخروج من الخلاف سداً لباب الفرقة وتمهيداً للائتلاف ، فإذا كان الخلاف بين التحريم والجواز ، فالاجتناب أفضل خروجاً من الخلاف ، وإذا كان بين الاستحباب وعدمه   فالخروج من الخلاف بالفعل . مثال ذلك : مذهب مالك من لم يبسمل في الصلاة لا تبطل صلاته  ومذهب الشافعي من لم يبسمل في الصلاة بطلت صلاته  ، وصلاة متفق عليها خير من صلاة قال أحدهما ببطلانها . وفي ذلك الخلاف وتلك الفرقة يقول الإمام الذهبي رحمه الله: "ينبغي للمسلم أن يستعيذ من الفتن، ولا يَشْغب بذكر غريب المذاهب لا في الأصول ولا في الفروع، فما رأيت الحركة في ذلك تحصل خيراً بل تثير شراً وعداوة ومقتاً للصلحاء والعباد من الفريقين ، فتمسَّك بالسنة   والزم الصمت ، ولا تخض فيما لا يعنيك، وما أشكل عليك فردَّه إلى الله ورسوله  وقف وقل: الله ورسوله أعلم"  .

 

وإن الاقتصار على الشريعة المباركة ومصادرها الصحيحة  يضيق الخلاف والفرقة ، ويؤدي إلى الوحدة والائتلاف ، لأن وحدة المصادر أقوى ، كما أن رجوع الجميع إلى الشريعة يعصمهم، حيث يقول تعالى: ) واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا (وإن الأخذ بمقاصد الشريعة ، والنظر إلى الاتفاق حول أصول الإسلام ، وأركان الإيمان ، وحجية القرآن والسنة  وحب الصحابة وإجلالهم  وتحريم المحرمات الظاهرة واعتقاد حرمتها ، فإن ذلك وأمثاله يضيق الخلاف ، فقد كان من أخلاق السلف تمني جريان الحق على قلب ولسان خصومهم  وكما أنهم ما كانوا ينظرون إلى القائل إنما ينظرون إلى القول . وقد أعجبني كلام الشنقيطي في أضواء البيان: "إننا ننظر إلى ذات القول لا إلى قائله ، لأن كل كلام فيه مقبول ومردود ، إلا كلامه صلى الله عليه وسلم ومعلوم أن الحق حق ولو كان قائله حقيراً ".  إن البعد عن التعصب والاعتراف بالخطأ وإحسان الظن ، له أثر فاعل في تقريب وجهات النظر ، وإعطاء الآخر شعوراً بالصدق والتجرد وطلب الحق .

 

وإن من أكبر الدعائم الأخلاقية في الائتلاف بين المسلمين إحسان الظن، الذي يؤدي إلى احتمال اجتهاد الآخرين ، وتقبل آرائهم ، بعيداً عن الطعن في النوايا والحديث عن المقاصد ، وهذه آفة العمل الإسلامي والدعوي بين الفصائل المختلفة ، بل أحياناً إذا وقع الخلاف داخل فصيل واحد ، يتضخم ويكبر بسبب سوء الظن ، وقد يكون الخلاف اجتهادياً وتقديرياً  ولكن سوء الظن يصوره على أنه خلاف كبير ، والغرض منه تدمير الدعوة أو هدم الإسلام ، أو أنه مرتبط بجهات مشبوهة  إلى غير ذلك من المطاعن والملاعن القائمة على سوء الظن والعياذ بالله تعالى. ومن تأمل في منهج القرآن في تربية المجتمع المسلم ، يجد الحث على حسن الظن في قوله تعالى:{ لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا }  ، وقوله في الحجرات: { يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم }. وقوله صلى الله عليه وسلم : ( إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ) .

 

ومن المعالم التربوية المهمة في هذه القضية ، لما بركت القصواء في طريقها إلى مكة قال عنها الصـحابة رضوان الله عليهم: خلأت ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (ما خلأت القصواء ، وما ذاك لها خلق ، ولكن حبسها حابس الفيل ). قال ابن حجر رحمه الله : "وفيه جواز الحكم على الشئ بما عرف من عادته، وإن جاز أن يطرأ عليه غيره ، فإذا وقع من شخص هفوة لا يعهد منه مثلها لا ينسب إليها ويرد على من نسبه إليها ، لقد دافع النبي  صلى الله عليه وسلم عن القصواء بما عرف عنها من خلق قديم ، أفلا نلتمس العذر للدعاة والفضلاء ؟ ، أفلا نكف عن تصيد الأخطاء وتضخيمها ، والتي تعتبر نتيجة طبعية لسوء الظن ، أفلا نكف عن الفرح بالزلة ، لتُملأ الدنيا بها ضجيجاً ، مع الترصد الذي يفضي إلى تضخيم الأخطاء  وإن البحث عن الهفوات وتصيدها ذنوب أخرى مضافة ، وإن الرسوخ في الإنصاف بحاجة إلى قدر كبير من خلق رفيع ودين متين . وذلك بالدعاء لهم وحبهم بالجملة ، والشفقة عليهم إذا أخطأوا ، وأخذهم بالظاهر ، كما أن الأصل فيهم السلامة ، فالهدي النبوي ( إني لم أؤمر أن أنقب قلوب الناس، ولا لأشق بطونهم ) . وإن إنصاف المسلمين يكون بسلامة الصدر تجاههم ، وصيانة القلوب من الغل والغش والحسد والبغضاء ، ومن الإنصاف المطلوب إغفال هفوات من غلب خيره على شره مع إعمال فقه النصيحة .

 

ومما يساعد على الائتلاف التوازن في الحب ، والتوازن في البغض ، لأنه إعمال لقاعدة : أن الجماعة أو الطائفة ، قد يجتمع فيهم الخير والشر وموجبات الحب وموجبات البغض  فيكون الحب بقدر ما فيهم من طاعة ، ويبغضوا بقدر ما فيهم من معصية . كما أن التوازن يساعد على النظر الصحيح في تقويم الأخطاء بدون تهوين ولا تهويل، والتوازن في الأمور يجعل المسلم يقبل الحق من الحبيب ومن البغيض ، والتوازن في الأمور يجعل عند المسلم القابلية والمرونة في التعامل مع المخالف له ، في باب التعاون عـلى الـبر التقوى . ومن أكبر معوقات الائتلاف ، وجود طلاب حول كل شيخ من الشيوخ وهم الأقرب إلى قلبه ومنهجه ، وكذلك في الجماعات ، ويظل ارتباط الشيخ بطلابه وآرائه ، أكبر من جماعة المسلمين ومصلحة الأمة . وكذلك الجماعات فقد تكون قياداتها واعية ، ولكن قواعدهم وطلابهم يعتبرون هذا نوعاً من أنواع المداهنة للباطل ، وقد تبدو الهوة كبيرةً بينهم لأسباب ترجع للتباين المنهجي ، مع تباين المواقف ، وترميم هذه الهوة يحتاج إلى عمل اجتماعي من زيارات ولقاءات وجلسات أنس ومودة ، تبني شيئاً من الثقة قبل البدء في أي حوار أو نقاش . ويجب أن يكون هذا عفوياً وفي نفس الوقت مرتباً ليؤدي إلى المودة والمحبة . وما جاء الإسلام ، إلا ليزرع الحب بين الناس ويُزيل البغضاء والكراهية ، جاء ليزيل التنازع والعصبيات  ويجمع الناس على كلمة سواء ، على عقيدة الإيمان التي تؤاخي بين الناس جميعاً ، ولذلك كان مظهر هذا الإيمان الأخوَّة كما عبر القرآن عن ذلك حينما قال:{ إنَّمَا المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ } هذا التعبير يعني لا يكون المؤمنون إلا أخوَة فإذا انتهت الأخوَّة منهم فقد انتهى الإيمان .

 

 

 

 

 

 

 

واجبنا تجاه أهلنا وديننا

إن ما يلاقيه المسلمون من تهديد وعنت وخوف وإرهاب ، يستلزم منا إعادة النظر في مواقفنا لأنه ليس من الأخوة أن يعيش المسلم وحده  وينام قرير العين آمنا ، ويدع اخوه له في العقيدة يقتلون ويعانون من الخوف الذي يتهددهم ، فقد طالبنا الإسلام بمد يد العون لكل مسلم استجابة لدواعي الأخوة الإسلامية ، التي عبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً )

فأين نحن من هذه العلاقة التي رسمها النبي صلى الله عليه وسلم في وصف الأخوة الإسلامية ؟ بل أين نخوة المعتصم لرد العدوان ؟ الذي يتهدد المسلمين من الأعداء الذين اجتمعوا على باطلهم وتفرقنا نحن عن حقنا   فصرنا غرضاً سهلاً يغار علينا ولا نُغير ، ونُغْزى ولا نَغْزو ، ويُعْصى الله ونرضى .

إن المؤامرة أكبر من كل جهد ، حيث اختفى صوت الحق وطغى الحقد ، واستشرت النذاله وعمت الجهالة ، واستغل البلاء النازل ، كركوب موجة الفساد ، وخلت الساحة من الصادقين المخلصين لأمتهم ، ووقفنا في صراع وجودنا يشدّنا الضياع إلى الوراء .

مطلوبٌ منا أن نواجه الواجب بالتخلّي ، والشجاعة بالنكوص   والصمود بالتواكل والتخاذل ، وبدل أن تحرّك الكارثة العزائم وتثير النخوة ، كرّست الذل حتى تسرّب اليأس إلى نفوس الناس فاعتقدوا أن الهزيمة قدراً أبدياً لا نملك دفعه ، وعاراً أزلياً لا بد من قبوله ، وقضاءً لا مناص من الرضى به . وأمام أكبر تحدٍ تواجهه الأمة ، فإما أن تصمد مستعينة بالله وإلا اندحرت وخبا نورها ، واندكت حصونها ، وهذا الواقع ليس سهلاً فإذا لم تع الأمة أبعاد المؤامرة ولم تدرك أهدافها ومراميها ، فإن ذلك يقودها إلى الدمار .

إن الأمة لا تخلو من رواد الخير وطلائع الحق   الذين لن ييأسوا من رحمة الله وهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم، شعارهم الجهاد لأعلاء كلمة الله في مواجهة المؤامرة التي تسعى لتدمير الأصول الحضارية ، والينابيع الروحية للعرب والمسلمين   ليسهل تحطيم كيان الأمة بعد تحطيم روحها   وعندها تتهاوى مقومات الأمة ، وتنصرف عن البناء إلى الهدم وعن الصدق إلى الكذب ، وعن التلاحم والتماسك إلى التفسخ والانحلال ، وعن مواجهة العدو ومعركة المصير ، إلى مهاترات جانبية مفتعلة تأكل طاقات الأمة ، وتجعلها عار الدنيا والآخرة . وهنا يسأل كل واحد منا نفسه   كيف المخرج والخلاص والراية في يد من استغنوا عن الصمود بالقعود وعن الجهاد بالفساد ؟ نركض في فراغ ونلهث وراء سراب حيث ضاعت الكرامة ، وخسرنا كلَّ شيء يوم خسرنا الإيمان ، وأضعنا كل شيء يوم أضعنا حافز الدين   وحين لا يكون إيمان ولا يكون دين ، لا يكون شرف ولا تكون نخوة ولا تبقى أرض ولا أحبة  تستشري المؤامرة كل صباح ، فيبني أعداؤنا ونهدم يربضون على صدورنا ويدنسون مقدساتنا   ويحتلون أرضنا ويشردون أهلنا ، فنتلقاهم بالشعارات والمهاترات والاحتجاجات والإدانات ، وبدل أن نجمع قوانا ونعبئ طاقاتنا ونوحد صفوفنا ونعلن الجهاد في سبيل الله ، ونستعلي على غرض الدنيا ، ونستخف بوعيد العدو لوعيد الله   تواكلنا وتخاذلنا ، وأخلدنا إلى الأرض ، حتى فهم بعضنا أن الدين صلاة بعض ركعات وترديد بعض التسبيحات وكفى ، ناسين أن إسلامهم إسلام الأمر والنهي والجهاد ، الذي ربا النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عليه .

 يروى أن رجالاً خرجوا من الكوفة ونزلوا قريباً يتعبدون ، فبلغ ذلك عبدالله بن مسعود فأتاهم ففرحوا بمجيئه اليهم ، فقال لهم : ما حملكم على ما صنعتم ؟ قالوا أحببنا أن نخرج من غمار الناس نتعبد . فقال عبدالله : لو أن الناس فعلوا مثل ما فعلتم فمن كان يقاتل العدو ؟ ما أنا ببارح حتى ترجعوا . إنها كلمة الحق وعنوان الوعي ، وشارة التربية النبوية ، سيماهم في كلامهم مثلما هي في وجوههم ، فمن يقاتل العدو إذا اعتزل العابدون ؟ ومن يرد كيد الكفار والصهيونية إذا بقي المصلون في مساجدهم ؟ قيل لأعرابي أيما أحب اليك أن تلقى الله ظالماً أو مظلوماً ؟ قال ظالماً ، قيل له ويحك ولِم ؟ قال : ما عذري إذا قال لي : خلقتك سوياً قوياً لِمَ لمْ تستعد ؟  لقد عز على أمة المليار أن يوجد فيها أمثال هؤلاء ، ولو وجدوا أكنا نذل لإسرائيل ؟ اكنا نأكل خزياً ونشرب هواناً ؟ ونتزاحم على موائد الأعداء ونستجدي عطف الشرق أو الغرب ؟ إن الناس ينجذبون للقوى ويستخفون بالضعيف ، فلم لا نكون أقوياء أمام الكوارث التي تحل ببلادنا ، والتي تضعنا امام تحد مخيف وعندئذٍ نخسر معركتنا إن تنكرنا لعقدتنا   وتآمرنا على ديننا أو ننتصر برفع شعار الجهاد .

لا اتصور أمة تتآمر مع عدوها على نفسها ، ولا أعرف كيف تنطوي النخوة وتنـزوي المروءة ويطير الأمل ، ألا نستحي عندما نتذكر أننا أمة المليار التي تذل أمام عدوها وقد فقدت القدرة على مواجهة مسؤولياتها ، أمة بهذا العدد وعلى هذا الحال صدق في وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف : ( الكثرة غير العاقلة كغثاء السييل لا هو نبات تغذوه الأرض الغنية   ولا هو حطب يستوقده الناس ناراً ، بل هو أشياء ضائعة تأخذها التيارات من كل أقطارها   ثم تقذف بها إلى جوف العدم في مياه المحيط )

إن المسلمين لو فهموا معنى الإيمان ، لعلموا أن قتال المسلم للمسلم والإعانة على قتله كفر والسماح بالإعتداء على المسلمين خيانة ، وإن القيام بواجب الجهاد جزءاً من ديننا وإيماننا وغرض وجودنا ، وإن لم نفعل ذهبت ريحنا وانتهت امتنا وعقيدتنا إلى زوال .

فهل من مصلحة الأمة أن تعزل عن مركز القيادة والريادة في العالم  ؟ لا والله ! ولكن إذا ما أجلْت النظر في العالم الإسلامي كله ، ونظرت الى شعوبه وأممه ودوله ، وفي جميع طبقات المسلمين   هل ترى شيئاً تستدل به على أن هذه الأمة المنبثة في أرجاء الأرض صاحبة رسالة في العالم وصاحبة دين وعقيدة  ؟ تعمل بمبادءها وتسير على نهجها ،  وتريد أن ترفع للإسلام راية ؟ لا بالطبع ! لأنك ترى أمة هادئة مطمئنة راضية بكل ما يقع في العالم اليوم ، سليمة الصدر ، قريرة العين ، ناعمة البال ، تتعاون وتتحالف مع الكفر وأممه ، وتقدم كل معونة تقدر عليها .

 لمثل هذا يذوب القلب من كمدٍ  إن كان في القلب إسلامٌ وإيمان

أجل لو كان إسلامٌ وإيمان لما ارتضى المسلم بهذا  لأن المسلم يحب في الله ويبغض في الله ويوالي في الله ويعادي في الله ، وهو ما ذكره القرآن شرطاً في قوله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون اليهم بالمودة  وقد كفروا بما جاءكم من الحق } .  

 حقيقة الواقع الذي نعيش

إننا نعيش في وقت ، أصبحنا فيه أمماً لا أمةً واحدة  ذات قاعدة واحدة ومصير واحد ، وبدلاً من أن نكون دولةً واحدة ، أصبحنا بسبب الفراغ العقائدي   دويلات متناقضة ممزقة الأوصال ، مشتتة الشمل .

 فلا يوجد ما هو أحب إلى إسرائيل ، وآثر عندها من هذا التفتت ...لا إلى كيانات هشة فحسب ، بل إلى  جهاتٍ متباينة في مواقفها ، متناقضة في  أفكارها ومفاهيمها واتجاهاتها ، وإن هم إسرائيل كان وما يزال ، أن تجعل العرب أقل ارتباطاً بدينهم ، لتسهيل السيطرة عليهم وتحويلهم إلى قطيع سائب ، في خدمتها . وغاب عنا في هذه الدوامة ، التي تطحن بلا كلل ولا ملل ، فلا تقف ولا تعف وتدعو كل من عنده ذرة من كرامة ، إلى أن الثأر ضريبة دم ، وان الجهاد في سبيل الله حتم ، حين تُهدر الكرامة ، وتُهان الحرمات  وتُداَسُ المقدسات ، في الهجمة الشرسة التي تقوم بها إسرائيل محتقرة كل الأنظمة المجاورة لها  ومتحدية كل القوانين والأعراف الدولية .

 لأنه يتولى أمر هذه الأمة المريضة ، حكامٌ خائنون وقادةٌ فاشلون ، وساسةُّ تافهون ،ومفكرون مأجورون مجرورون ، كلُ ما فعلوه من أجل استعادة الحق والكرامة ، مناشدة أعدى أعدائنا لرفع هذا الظلم  والخطابة بدل التخطيط ، والكلام بدل الفعل  والكراهية بدل المحبة ، والتشنج بدل الحوار  فأصبحت انتصاراتنا بهذا خطباً مسرحيه ، لا أفعالاً حقيقية  وبياناتٍ كاذبة ، لا مروءة ولا تضحية ولا إيثارا .

إن نظرةً إلى أحوالنا ، وما يحيط بنا ، نرى ألقاباً ورتباً وأوسمةً ، تتلألأ على الأكتاف والصدور  والله وحده عالم بما في الصدور ، وجنرالات ومارشالات بأعدادٍ كبيرة ،  مهمتهم حماية الأنظمة ، صقور على أهليهم   حمائم أمام إسرائيل ، أشداء على قومهم ، أذلاء أمام  إسرائيل ، لا يصلحون لغير المراسم والمواسم ...والاستعراضات وشدِّ المهاميز ، ونفخ الأبواق  وقرع  الطبول .

إننا نلمس واقعاً مؤلماً ، حيث السرقات والتهريب والتخريب ، ومؤتمرات مؤامرات ، ومناورات   ومساومات ، وتنازلات . تجر علينا الهزائم  وأساطير انتصارات ، نصنعها لإسرائيل ، والكل يدعو إلى السلام والاستسلام ، والاستخذاء والركوع ، مع تنوع الأساليب والأشكال والأهداف .

هذا هو واقعنا ، فكل الأنظمة ، فريسة لأبطال السمسرة والتهريب ، والرشوة واستغلال النفوذ  والإثراء غير المشروع ، أما الشرفاء الذين يتحملون تبعات الحاضر ، وأمانة المستقبل ، فلا مكان لهم في مفاوز الزلفى و النفاق , و مفاسد الأخلاق  . .

وإذا كان هذا هو واقعنا ، فلم لا نلتزم بعقيدتنا  ونحتكم إلى شريعتنا ، التي تعطينا القدرة على ايجاد الحلول النهائية لمشاكلنا ، وألا نكتفي بأن تتضمن الدساتير مادةً ، تقول إن دين الدولة الإسلام ،  ثم نكتفي من الإسلام بشهادة ميلاد  وانتماء اجتماعي فقط لا غير ، ولا نعتنق من مفاهيم ديننا شيئا   ولا نطبق من أحكام شريعتنا الغراء ، الكثير أو القليل .

إن قوتنا الحقيقية  تكمن في عزمناوتصميمنا على الجهاد  والاستشهاد في سبيل الله ، لاسترجاع الأرض والمقدسات ، وحماية العرض والشرف ، وهذا لا يكون إلا بالرجوع إلى الإسلام .

إن دول الكفر تسعى إلى تعكير أجواء الأمةِ  بالسفاهةِ  والتفاهة ، وإن العملاء  يفلسفون الهزيمة بألف تحليل و تحليل ، من المبررات الكاذبة البراقة ، خشية عودة الأمة إلى أصولها والى إيمانها  وترك ذلك سبب مصائبها ، فلو تسلح القادةُ الذين يتولوا قيادة جيش الأمة بالإيمان بالله ، لما طغت إسرائيل وبغت .

إن الأنظمة التي تقوم على إبعاد الدين والعقيدة  عن المواجهة مع أعدائها ، يكتر فيها الخونة والعملاء ولم لا ، وهم لا يؤمنون بالله ، ولا يقيمون وزناً لمبادئ شريعته ، ويفضلون متاع الدنيا ، وشهوة الجاه الرخيص ، والطموح السخيف ، على الكرامة والنخوة والجهاد .

إن قوة العدو ، لم تكن أمراً خارقا ، بل كانت الخيانات العربية ، هي الخوارق ، التي ليس لها نظير   ولم تكن أسطورة نصر عدونا تفوقاًمعجزا بل هي انعكاسٌ للواقع الأَسود الذي نعيش .

وهنا نتساءل : هل نتعظ ؟ وهل توقظنا العبر ؟  كلا  وألف كلا . فالملهاة تختلط بالمأساة ،كانت وما تزال  والممثلون هم الممثلون ...والمناخ العربي ما يزال مهيأً اليوم ، كما كان مهيأً بالأمس ، نراوح مطارحنا في انتظار فرج الله  والمعركة بعد طويلة ، بيننا وبين أعدائنا ، ومنطق الرفض الإيجابي ، مع المناجزه المستمرة والجهاد الموصول ، الذي يدعو إليه ديننا من الصدق  والإخلاص ، الذي يقوم على مبدأ التنافي بين العرب والإسلام من جهةٍ ، وبين اليهود وأعوانهم من جهةٍ أخرى ، فلا سبيل إلى المهادنة أو المصالحة أو التنازل أو الاستسلام .

إن طريق النجاة ، لا ولا يمكن ، أن يكون إلا بالعودة إلى الله ، وبما أن الإسلام قد جاء بشريعةٍ متكاملة  تصلح لكل زمان ومكان ، وهو الذي يقف في مواجهة سفه الصهيونية ، وجشع الرأسمالية . فان معركته هي معركة المصير الإنساني ، وإن أعمى البصيرة وحده ، هو الذي يرضى بواقع هذه الأمة   التي قال فيها عمر بن الخطاب : "كنا أذل قومٍ  فأعزنا الله بالإسلام" .

إن هذا العالم الفاجر الداعر ، الظالم الغادر  المنحرف عن المسار الصحيح ، لا ينقذه إلا الإسلام ، فقد شهدنا تغيرات كثيرة ، باسم شعارات متعددة ، ولكن الأمور تسير من سيئ إلى أسوأ ، لأن كل تغييرٍ لاينبثقُ من خلال عقيدة وإيمانٍ صحيح ، فإنَّ مصيره إلى زوال  أو إلى مزيدٍ من المعاناةِ والآلام .

إن التغيير المنشود ، لا يتم إلا عن طريق تغيير  بنية المجتمع كلها من الأساس إلى القمة ، أما أن يكون البعض أسياداً والبعض عبيدا ، والبعض جائعا والبعض متخما  فإن ذلك يتنافى مع مبادئ ديننا وعقيدتنا .   

إن المعركة مع أعداء الإسلام طويلة وشاقه ، لذا ينبغي على الفئة التي تقوم بهذا العبء ، أن تُربى لتكون طويلة النفس ، شديدة الصبر ، عميقة الإيمان بالله  عميقة التوكل عليه ، مستعدة لما يتطلبه أمرها من المعاناة ، قادرةٌ على أن تبذل من نفسها ، من جهدها ومالها ودمها وفكرها ، ما يحتاج إلى إزالة الغربة التي ألمت بالإسلام ، ليعود مرَّةً أخرى راسياً في الأرض  وحين تكون هناك القاعدة المطلوبة لإعادة حكم الله في الأرض ، فإنه يمَكِّنُ لدينه بمشيئته سبحانه .                     

                                                   

 

 

ا 

النفوس الغافلة

إن النفوس حين تستحوذ عليها الغفلة لا تصلح للنهوض بعبء، ولا للقيام بواجب، تغدو الحياة فيها عاطلة هينة رخيصة، وحين يهون المرء في نظر نفسه يهون على الآخرين، وحين ينسى العبد ربه، ينساه الله وتحيق به الخسارة في الدارين. لقد ميز الله الخلق بمدارك ، يدركون بها ما يضرهم وما ينفعهم، وحين تعطل هذه الحواس، وتحيط الغفلة بالناس ينحدرون إلى درك الأنعام، بل هم أضل: { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ  } الأعراف:179 ، إن مظاهر الغفلة في حياتنا الافتتان بالدنيا ، في مقابل الإعراض عن الآخرة ، وضعف الغيرة لدين الله. ومن مظاهر الغفلة في حياتنا الضعف في أداء الواجبات والزهد في عمل المستحبات، والتسامح في مقارفة السيئات، وهتك أستار المحرمات. ومن مظاهر الغفلة تعلق نفوسنا بتوافه الأمور، وعجزها عن التعلق بالمعالي، وكسلها عن جلائل الأعمال الصالحة ، نغفل عن الموت وسكرته، وعن الحساب وشدته، نغفل عن ذوات أنفسنا وما يصلحا أو يفسدها،  وكثيرة هي الأسباب الجالبة للغفلة، فأنفسنا الأمارة بالسوء تدعونا للغفلة، وإبليس يعدنا ويمنينا ويخوفنا تارة، ويزين لنا أخرى، ويأتينا من بين أيدينا، ومن خلفنا، وعن أيماننا وعن شمائلنا، ولكن الله لم يجعل له سلطاناً من فوقنا، وجعل الباب بيننا وبينه مفتوحاً، فمن استعاذ به أعاذه، ومن لاذ بحماه أجاره، ومن استعان به أعانه: { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} الحجر:42، ويتلمس شياطين الإنس المراصد والوسائل التي بها يصدوننا عن ديننا، ومن أبرز وسائلهم الفن الرخيص، والرياضة الفاتنة، وكم نسي المسلمون قضاياهم الكبرى بسبب هذه الوسائل الملهية الفاتنة؟ وكم غفلوا عن مخططات أعدائهم في سبيل الترويح عن أنفسهم ، فقست القلوب، وقل أثر المواعظ في النفوس، وكثر الفسوق والفجور، ودونكم هذا التشخيص لهذا المرض فاعقلوه، يقول ابن قدامة يرحمه الله: واعلم أن السب في طول الأمل شيئان: أحدهما: حب الدنيا، والثاني: الجهل. أما حب الدنيا فإن الإنسان إذا أنس بها وبشهواتها ولذاتها ثقل على قلبه مفارقتها، فامتنع قلبه من الفكر في الموت الذي هو سبب مفارقتها، وكل من كره شيئاً دفعه عن نفسه، والإنسان مشغول بالأماني الباطلة، فيمني نفسه أبداً بما يوافق مراده من البقاء في الدنيا، ما يحتاج إليه من مال وأهل ومسكن، فيلهو بذلك عن الموت ولا يقدر قربه، فإذا خطر له الموت في بعض الأحوال، والحاجة للاستعداد له سوف بذلك ووعد نفسه، وقال: الأيام بين يديك إلى أن تكبر ثم تتوب، وإذا كبر قال: إلى أن تصير شيخاً، وإن صار شيخاً قال: إلى أن يفرغ من بناء هذه الدار، وعمارة هذه الضيعة أو يرجع من هذه السفرة، فلا يزال يسوف ويؤخر إلى أن تتخطفه المنية في وقت لا يحتسبه، فتطول عند ذلك حسرته ولو تفكر أن الموت ليس له وقت مخصوص ولا يبعده الشباب أو تدفعه الصحة واكتمال القوى لعظم ذلك عنده واستعد للموت وما بعده قال تعالى : { وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ * إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ } الأعراف: 205-206. ولما سئل حذيفة -رضي الله عنه- عن ميت الأحياء قال: "هو الذي لا ينكر المنكر بيده ولا بلسانه، ولا حتى بقلبه"، وفي الحديث ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ) رواه مسلم .

 

  

 

 

الجيل القدوة

قال تعالى : ) أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا قبلهم ، كانوا هم أشد منهم قوة وأثاراً في الأرض ، فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق ( الروم 9 . قد يكون من المفيد ونحن نستعرض التاريخ ، أن نأتي على ذكر الجيل القدوة الذي تربى على عين النبوة ، وتسديد الوحي فكانت أمته خير الأمم ، وكان الجيل القدوة ، حتى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد شهد له بأنه خير القرون ، لما تمتع به من المجاهدة والجهاد ، والخصائص والصفات التي تمثل قيم الإسلام والإقتداء به .

الجديد للناس لا يأتي إلا بتلمس ظروف وشروط ميلادها الأول ، والإقتداء بالنماذج التي عرضها لها القرآن الكريم ، فيما اصطلح عليه القصص القرآني أما محاولة الانتماء إلى صاحب الرسالة ، واقتفاء آثار السلف بالاقتصار على الأشكال ، والتمسك  بالقشور وطرائق الممارسات ، دون محاولة النفاذ إلى الفقه والمضمون ثم يدّعون أنهم إنما يقتدون بذلك الجيل ويسيرون على نهجهم وطريقتهم ، إن هؤلاء بحاجة إلى المراجعة ، وإعادة النظر ، لأنهم يتمسكون بالقشور والأشكال ، ويتركون الأعمال ، مما جعل هذه الفتنة ومن هم على شاكلتها عباً على الأمة والمنهج الصحيح ، وحاجزاً دون امتلاك القدرة على السير في الطريق ، الذي رسمه الله لهذه الأمة وعبئاً حتى على أنفسهم ، لعجزهم عن التغيير ،  إن الاقتصار على الفخر والاعتزاز ، بأننا من أهل الرسالة والسنة لا يكفي ولا يُرضي الله  لأن ما يرضي الله هو التحول إلى مرحلة العمل والإنجاز والتأسي العملي الذي يقود إلى تغيير الحال ، وذلك بالإرادة الحازمة والاستعانة الصادقة بالله ، وإعداد العدة من وجهيها المادي والمعنوي وعندها يكون النصر بأذن الله ، وتُحل كل المشاكل ، التي تعاني منها الأمة .

إننا في هذه المرحلة من حياة الأمة ، التي وصف الله بعض أيامها ، بأنها نحسات بسبب ما يقع ، والتي تجتاحنا فيها ثقافات السموم ، والإفساد في الأرض والتي تحاول اقتلاعنا من جذورنا ، وتوهين قيمنا والتشكيك بثوابتنا ، والنيل من تاريخنا ، مما يجعلنا في شوق شديد لطي مسافة الزمن والمكان ، وتجاوز فترات العجز ، والتخاذل والوهن ، وإلى تجديد العزيمة على الرشد والابتعاد من مرحلة القصعة ، حيث تتداعى علينا الأمم ، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها في محاولة للوصول إلى الينابيع الأولى في الكتاب والسنة . إننا في هذه الظروف بشوقٍ شديد إلى إتباع أبي بكر وإيمان عمر ، وحياء عثمان ، وحكمة علي ، وفقه ابن عباس وابن مسعود ، وزهد أبي ذر وثبات عبدالله بين الزبير وحنكة عمرو بن العاص ، ومشورة أم سلمه وتوبة ما عز ، وسياسة عمر بن عبد العزيز ، الذي عاد بالأمة إلى ممارسات الخلافة الراشدة .

إننا بأمس الحاجة إلى إعادة بناء القاعدة الصلبة ، للتخلص من الهشاشة والرخاوة ، وإعادة بناء المرجعية ، للتخلص من الضياع والضلال ، وتشتد حاجتنا أكثر فأكثر ، وإلى الإقتداء والتأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذي يحقق لنا الانتشال من الحال التي صرنا إليها ، ويمكننا من التجاوز ويمنحنا قدرات للتحمل والثبات على الحق ، وبقدم لنا رؤى تمكننا من التعامل مع الواقع ، والعودة إلى الجادة والسبيل ، التي أخبر عنها رسول الله بالحجة البيضاء ما أن تمسكنا بها لن نضل أبداً ، إنها كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم .

لقد أمد الله الأمة ، وزودها   عبر تاريخها الطويل بعوامل الإظهار لهذا الدين حيث تملك الأمة خطاب الله للبشر ، المتناسب مع فطرتهم ، وتمتلك الفترة التطبيقية المشهود لها بالرضى والخيرية ، سواء على مستوى الجماعة أو الأفراد ، الذين آمنوا بهذا الدين ، وما يزالون يعملون لإعادة حكم الله في الأرض ، فعلى المستوى الفردي نجد الإقبال على اعتناق الإسلام ، متحققاً غب أرقى المجتمعات البشرية ، وأكثرها مدنية في أوروبا وأمريكا التي أصبح الإسلام فيها بفضل النمو والتكاثر ظاهرة اجتماعية إيجابية متطورة ، حيث تشير بعض الإحصائيات ، إلى أن عدد المسلمين في أمريكا تجاوز الثلاثين مليوناً ، مما أثار قلق الأمريكان ، وجعل كتابهم ومفكريهم يحذرون من هذا ، حتى قال بعضهم بأن ما بعد عام ألفين هو عام الإسلام في أمريكا ومن اليهود من يعترف بأن الإسلام سيقضي عليهم فقاموا بفتح مدارس تقوم على أساس ماذا يفعل الامريكي أو اليهودي إذا دعاه مسلم للإسلام وكيف يتجنبه . إننا نجد الإقبال على الإسلام مستمراً ، حتى في أدغال أفريقيا ، وأكثر المجتمعات بداوة وبدائية ، إضافةً إلى عودة الوعي به ، وتحديد العزيمة على الرشد في مجتمعات المسلمين ، وتقديم نماذج من أعلى التضحيات وأغلاها في سبيله ، وإحياء موات الأمة في عالمنا الإسلامي ، بعد أن سقطت كل الشعارات التي حاول أصحابها أن تحقق الطهور ، وأن تكون البديل الملائم .

أما في البلاد الإسلامية ، فلا تزال طوائف من أبناء الإسلام ، قائمة على الحق مضحية في سبيله لا يضرها من خالقها حتى يأتي أمر الله وهي على ذلك وإن كانت دول الكفر تظن أنها نجحت في بلوغ غايتها ، منذ قُدِّر لها إسقاط الخلافة ، وإقامة الجنسيات المختلفة على أنقاضها ، وصرف المسلمين رويداً رويداً عن رباط العقيدة وندائها ، وإشغال الناس بأزمات رغيف الخبز ، ورغبات الجنس أو بشهوات أخرى ، إذ يوجد في الغرب متخصصين ماكرين ، في ميادين إعلامية وسياسية ، الحراسة هذا التمزق بين المسلمين واستدامته ، وكذلك العمل على أيجاد أشخاص من بيننا ، ومن جلدتنا مقنعين بقناع الوطن أو الدين ، ليدمروا شعوبهم ، وينهبوا ثرواتهم باسم المصلحة العامة أو الوطن أو التقدم والتحضر مع أنهم في حقيقتهم ، يسخرون من الشرع ويهملون أحكامه ولسان حالهم الاستهزاء بكل القيم الإسلامية ، تحت دعوى التخلف والرجعية الامر الذي يؤدي إلى ضياع قدسية العقيدة ، من نفوس الجيل المسلم الصاعد ، وزلزلة مكانة التشريع الإلهي في القلوب ، مما يسهل سقوط الأمة ، تحت السيطرة العقلية للأعداء ، وهي أول خطوات الهزيمة .

إن الإسلام يتقدم صوب الإنسان أينما كان ، ويتقدم الإنسان أيضاً باتجاه الإسلام ، كرجاء وسبيل خلاص من خلال معاناته ، وأزماته وإشكالياته ، التي أورثتها الحضارة المعاصرة ، ولعل ثورة المعلومات والاتصالات التي اختزلت الزمان والمكان ، حتى أصبح الإنسان يرى آخر الدنيا ، وهو في مكان أقول لعل ثورة الاتصالات وطي المسافات بقدر ما حملت لنا من المخاطر والنفايات الثقافية والحضارية ، بقدر ما أتاحت لنا آفاقاً ومجالات لامتداد الإسلام وحضوره وظهور ، إما بعز عزيز أو بذل ذليل مصداقاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل و النهار ، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين ، بعز عزيز أو بذل ذليل ، عزاً يعز الله به الإسلام ، وذلاً يذل به الكفر ) .

لقد اصبح الظهور أمراً قائماً ، على الرغم والقدرة على إظهار الإسلام وذلك بالجهاد والصدق من حالات العجز والتخاذل والتخلف ، الذي يعيشه المسلمون اليوم ، والذي يحول دون امتلاك المقومات والاستقامة والتمسك بأمور الدين ، وما عدا ذلك غير مقبول لقول الله سبحانه : ) ومن يبتغ غبر الإسلام ديناً فلن يُقبل منه (  .

 

محاسبة النفس

لقد كرَّم الله النفس الإنسانية ، وفضلها وأعزّها بتشريعاته ونظامه ومنهجه   حيث ضمن لها حياةً إنسانية كريمة   وحياةً أخرويةً عامرةً بحسن الثواب ، إن التزمت التشريعات ودعت إلى العمل بها   فهي موطن التفاعل مع ما يرِدُها من خيرٍ أو شر ، وحلالٍ وحرام  وحقٍ وباطل  وهي الإناء الذي يتسع لكل شيء   يتسع للهدى كما يتسع للضلال وإن لم تُلْجَم بلجام التقوى والدين ، وتُتابع بالترهيب والترغيب ، تقتل صاحبها  هناك أنواع من النفس الإنسانية التي تعامل معها الإسلام وورد تنويعها في القرآن وهي النفس المطمئنة : المحمودة في أقوالها وأفعالها ، وهي أعلى النفوس درجة وأولاها بجزيل الثواب قال تعالى : ] يا أيتها النفس المطمئنة إرجعي إلى ربك راضية مرضية [ الفجر . والنفس المطمئنة : هي الساكنة تحت الأمر  الطائعة لله ورسوله ، التي باعدت بين نفسها وبين ما لا يحل من الشهوات   وهي نفس محمودة عند الله وعند الناس . والنفس اللوامة : التي تلوم صاحبها عندما يقع في ذنب ، فتحمله على هجر المعصية والإسراع إلى الطاعة ، وهي التي أقسم بها لمكانتها عنده قال تعالى : ] ولا أقسم بالنفس اللوامة [ القيامة . والمعنى أن الله يقسم ويؤكد القسم بالنفس التي تلوم صاحبها على الذنب والتقصير ، وهي نفسٌ محمودة عند الله وعند الناس .

ثم النفس الأمّارة : وهي مذمومة مستحقة لعقاب الله على ما تقترف من المعاصي ، وهي أدنى النفوس وأبعد النفوس عن طاعة الله وقد ذكرها الله في قوله تعالى :] وما أبريء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي[ يوسف . إنها تزين لصاحبها الشر والمعاصي والشبهات , وتميل بطبعها إلى الشهوات   وهي نفسٌ مذمومة وإن كانت نفس عدد كبيرٍ من الناس قال صلى الله عليه وسلم في وصفها :( أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك ) . وفي حديثٍ آخر ( من أعز نفسه فقد أذل دينه ، ومن أذل نفسه فقد أعز دينه ) . وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من شرور النفس في خطبة الحاجة فيقول : ( ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ) أخرجه أبو داود . إن الإسلام ينظر إلى كل نفسٍ بشرية على حدة ، ولا يحمّل نفساً خطأ نفسٍ أخرى ، ولا يعاقب الآباء بما فعل الأبناء  لأنه يتعامل معها بعدالة إلهيةٍ مطلقة  وقد حذّر الله من المعاصي كبائر وصغائر   وأعلن للطائعين والعاصين ، أنه سيجازي كلاً بما عمل قال تعـالى:  ]كل نفسٍ بما كسبت رهينة [ . وهناك علاجان لمرض استيلاء النفس على القلب هما محاسبتها ومخالفتها وبعكس ذلك فإن إهمال محاسبتها وموافقتها وإتباع هواها يؤدي إلى هلاك القلب أخرج الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت   والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله) روى عن الحسن قوله : " المؤمن قوّام على نفسه لله ، وإنما يَخِفُّ الحساب يوم القيامة على قومٍ حاسبوا أنفسهم في الدنيا ، وشق على قومٍ أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة .  وقال  : " إن العبد لا يزال بخير ما كان له واعظٌ من نفسه وكانت المحاسبة من همته" . بأن يحاسب نفسه على الفرائض أولاً   فإن تذكر فيها نقصاً تداركه إما بقضاء أو إصلاح أو يحاسبها على المناهي ثانياً فإن عرف أنه ارتكب منها شيئا تداركه بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية ، ثم يحاسب نفسه على الغفلة ثالثا إن غفل عما خلق له تداركه بالذكر والإقبال على الله أو يحاسبها بما تكلم به أو مشت إليه رجلاه أو بطشت يداه ، أو سمعته أذناه . وإذا كان العبد مسئولاً ومحاسباً على كل شيء ، حتى على سمعه وبصره وقلبه كما قال تعالى : ] إن السمع والبصر والفؤاد كلُّ أولئك كان عنه مسؤولا [ الإسراء 36 . فقد دلت الآيات على وجوب محاسبة النفس قال تعالى : ] يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفسٌ ما قدمت لغدٍ [الحشر 18 . لينظر أحدكم ما قدم ليوم القيامة من الأعمال : أمن الصالحات التي تنجيه أم من السيئات التي ترديه ، قد يقول المؤمن عن شيءٍ يعجبه مما حرَّم الله ، والله إني أشتهيك ، فإذا ما أقدم على فعله تذكر أن هذا حرام وتذكر الحساب   فيقول ما لي ولهذا والله لا أعود إلى هذا أبدا ، بهذا يكون المؤمن أسير في الدنيا  مأخوذٌ عليه في سمعه وفي بصره وفي لسانه وفي جوارحه يراقبها ولا يهملها ، وإذا ما أهملها وقعت في الخيانة فيشتد الحساب يوم القيامة على من أهمل متابعة نفسه قال تعالى : ] فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون[ . وقال ] ليسأل الصادقين عن صدقهم [ فإذا سئل الصادقون عن صدقهم وحوسبوا على صدقهم ، فما الظن بالكاذبين ؟ قال قتادة : " كلمتان يُسأل عنهما الأولون والآخرون ماذا كنتم تعبدون وماذا أجبتم المرسلين ، فهم يُسألون عن المعبود وعن العبادة . ومن فوائد محاسبة النفس التي يعرف الإنسان بها حق الله عليه ومن لا يعرف حق الله عليه فإن عبادته لا تكاد تجدي   وهي قليلة المنفعة ، قال الإمام أخمد عن وهب قال مكتوبٌ في حكمة داوود : " حقٌ على العاقل أن لا يغفل عن أربع ساعات ، ساعةٌ يناجي فيها ربه   وساعةٌ يحاسب فيها نفسه ، وساعةٌ يخلو فيها مع إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه ويصدُقونه عن نفسه   وساعةٌ يخلي فيها بين نفسه وبين لذاتها فيما يحل ويجمل "  وقال : " بلغني أن نبي الله موسى عليه السلام مرّ برجلٍ يدعو ويتضرّع فقال : يا رب ! ارحمه فإني قد رحمته فأوحى الله إليه : لودعاني حتى تنقطع قواه ما استجبت له ، حتى ينظر في حقي عليه" فمن حق الله أن يطاع فلا يُعصى ، وأن يُذكر فلا ينسى ، وأن يُشْكر فلا يكفر .

 فمحاسبة النفس هي : نظر العبد في حق الله عليه أولاً ونظره هل قام به كما أمر الله ثانياً ، وهذه المحاسبة تضعف الأعمال السيئة وتوقفها ، وتحض الإنسان على الأعمال الصالحة وتدعوه إلى النظر في حق الله عليه ، وينبغي للإنسان إذا حاسب نفسه فرآها قد ارتكبت معصية أن يتوب إلى الله توبة نصوحا ، فبادر يا أخي بإصلاح نفسك قدر الاستطاعة   فإن العمر قصير  والسفر طويل والعقبة كئود   والحمل ثقيل ، وقد خف الحساب يوم القيامة على قومٍ حاسبوا أنفسهم في الدنيا   وشق على قومٍ أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة ، فلنحاسب أنفسنا قبل أن نحاسب ولنـزنها قبل أن نوزن ، ولنتهيأ للعرض الأكبر فاليوم عملٌ ولا حساب ، ويوم القيامة حسابٌ ولا عمل ، فملاحقة النفس والحذر من وساوسها هو الذي يحقق مناعتها وعافيتها وبهذا يتحقق معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا أراد الله بعبدٍ خيراً جعل له واعظاً من قلبه ) مسند الفردوس . وقوله صلى الله عليه وسلم : ( من كان له من قلبه واعظ   كان عليه من الله حافظ )  .

مشروعية الانتخابات النيابية

إن ديننا الإسلامي دين نظام وجماعة منظمة في كل أمورها ، وكما قال الفاروق عمر : " لا إسلام بلا جماعة  ولا جماعة بلا إمارة ، ولا إمارة بلا طاعة " والرسول صلى الله عليه وسلم يقول في شأن أقل جماعة تختط لها طريقاً: ( إذا كنتم ثلاثة فأمّروا أحدكم ) أميركم الذي يقودكم ، ويقضي شأنكم   ويجمع أمركم إذا اختلفتم ، أما كيف يؤمّرونه إنه باختيار أحدهم ، والاختيار هو انتخاب ، أمّا كيف ينتخبون فلم يُبيّن لنا آليّة ذلك ، بل تركه لهم بتداول الأمر وممارسة التشاور ، ثم اختيار الأمير سراً أو جهراً ، وهذا دليل على مشروعيّة آليّة الترشيح والانتخاب بالتصويت : سواء بالانتخاب السري أو العلني أو ترشيح أحدهم نفسه  وموافقتهم له أو ترشيح أحدهم لأحدهم وموافقتهم عليه   والمشاركة في المجالس المنتخبة مثار خلاف وجدل فيما يتعلق  بمشروعيتها  لأن هذه المجالس تعني في النظام الديمقراطي حكم الشعب للشعب ، فكان الأصل عدم جواز الدخول فيها ، لأن التشريع من أهم أعمالها ، ومن التشريع ، سن القوانين التي تُلزَم بها السلطتان التنفيذية والقضائية . وبما أن مصداقية التشريع ومرجعيته يجب أن يستند إلى دليل شرعي منبثق من العقيدة الإسلامية ، فقد اختلفت الآراء في الحكم الشرعي للانتخابات ، فمنهم من أجاز ومنهم من قال بعدم الجواز  

يقول فضيلة الشيخ فيصل مولوي نائب رئيس المجلس الأوربي للبحوث والإفتاء : الانتخابات وسيلة معاصرة لمعرفة رأي الناس في اختيار ممثليهم الذين ينوبون عنهم في المسائل التشريعية ، وفي اختيار الحكومة وإعطاء الثقة لها أو نزعها منها ، ووجهة النظر الشرعية فيها تنبثق من أن المسلم الذي يعيش في أي مجتمع كان سواء كان هذا المجتمع إسلاميا خالصا أو غير إسلامي وفيه أقليات إسلامية ، فالمسلم إذا تخلف عن مثل هذه المشاركة فقد قصّر في القيام بواجبه الشرعي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والرسول صلى الله عليه وسلم  يقول: ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه ) والتغيير باللسان لا يعني تغييرا فعليًا ، إنما يعني إنكار المنكر .  وبما أن هذه الأنظمة موجودة ونحتكم إليها بالفعل ، فهل يجوز للمسلم أن يشارك ويدخل في هذه المجالس التشريعية أفتى الشيخ الألباني بعدم جواز الترشيح للدخول في المجالس النيابية ، معللاً ذلك بأنها مجالس تحكم بغير ما أنزل الله ، وبأن النائب قد يفتتن في دينه ويتنازل عن الحق  يقول ذلك من باب أنه خلاف الأولى ، بدليل أنه يرى أن الشعب المسلم ، عليه أن ينتخب المرشحين (الإسلاميين) فقط إذا تقدَّم إلى الترشيح مَن يُعادي الإسلام ، ويتضح ذلك في جوابه على الأسئلة المقدمة إليه من جبهة الإنقاذ الجزائرية : عندما قال: "ولكن لا أرى ما يمنع الشعب المسلم إذا كان في المرشحين مَن يُعادي الإسلام ، وفيهم مرشحون إسلاميون فننصح- والحالة هذه- كل مسلم أن ينتخب من الإسلاميين فقط ، مَن هو أقرب إلى المنهج الصحيح ، وإن كنت أعتقد أنَّ هذا الترشيح والانتخاب لا يحقق الهدف المنشود ، ولكن من باب خلاف الأولى  باب تقليلِ الشر ، أو من باب دفع المفسدة الكبرى بالمفسدة الصغرى كما يقول الفقهاء".

والقول بمشروعية الدخول إلى المجالس التشريعية والوصول إلى الولايات العامة عن طريق الانتخاب ، هو قول كثير من علماء السلفية المعاصرين والسابقين ، وفيما يلي بعض آراء أهل العلم الذين أيدوا المشاركة ورأوا فيها صالح العباد والبلاد :  فهذا العلامة الشيخ السعدي يقول في تفسيره (تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان) عند قوله تعالى: ﴿قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ﴾ هود91. إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أصول ديننا الإسلامي، ووسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تتنوع وتختلف باختلاف الزمان والمكان   وإن إعانة المرشح الصالح في الانتخابات ، وإقصاء الفاسد عن ذلك من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر  فعلى المترشح أن يتقي الله في المسئولية المناطة به ، وفي الأمانة التي يحملها ، وعلى الناخبين أن يراعوا توافر الشروط الشرعية في المرشح وعلى ضوئها يكون التأييد أو الإقصاء   وإن تقديم المرشح نفسه من خلال برنامجه الانتخابي خلاف الأولى وليس محرماً ، كما أن الانتخاب أو التصويت هو أمر بمعروف ونهي عن المنكر، وشهادة ينبغي أن تقوم بالحق ، وأن يكون فيها تقوى الله سبحانه وتعالى  أما وقد جاء في هذه الوسائل ما يقدم فيها المرء نفسه ويذكر للناس ما يعرف ببرنامجه أو ما يريد أن يفعله لهم  وقد تكون هناك صور أخرى أنسب أو أوجه منه ، فإنا نقول : هذه الصورة في ذاتها ليست محرمة ، وإن كانت النصوص قد يكون فيها ما يدل على أن هناك ما هو أولى   إلا أن قول الله سبحانه وتعالى في قصة يوسف عليه السلام : ) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ( يوسف 55.   فيه إشارة إلى أن من وجد في نفسه كفاءة لأمر يرى أنه يحقق فيه للمسلمين مصلحة فلا بأس أن يتقدم له ، وأن يذكر ما عنده فيه ، فإن يوسف عليه السلام لما علم ما علم من شأن الرؤيا التي أراه الله إياها ورأى أن للناس مصالح وهو قادر عليها قال: ) اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ ( فطلب الولاية وكذلك بين ما لديه من قدرات فقال: ) إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ( ومن هنا فإن الجمع بين هذا وهذا يرجى أن يكون واضحاً ، وأنَّ ذكر ما يعمله الإنسان أو ما عنده من علم ، إنما هو باب من الأبواب التي فيها اجتهاد بين الجواز أو المنع عند بعضهم  أو رؤية غير ذلك أولى ، لكن الأمر المهم في وجوب ذلك أو جوازه ، هو أن لا يكون مظنةً أو مدخلاً إلى الغرور والاغترار ، والإعجاب بالنفس والاستكبار ، أو طلب الشهرة بين الناس ونسيان المقصد الأعظم ، وهو أنه يريد أن يقوم بواجب وأن يؤدي أمانة وأن يتحمل مسئولية ، وأن يكون وكيلاً عن الناس في تحقيق مصالحهم . فلا يلتفت المرء عن مثل هذا لمثل ذاك  فإن من فعل فإنه أساء   وأخطأ ، ولذلك ينبغي أن ندرك أن من يتصدى لذلك  فإن عليه أن ينتبه إلى الأمانة ، فإن كل مسئولية صغرت أو كبرت فهي أمانة وينبغي أن نتذكر قول الله تعالى : ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ( الأنفال 27. وأن يعلم أن الأمانة العظمى ومثلها الأمانات الأخرى مسئول عنها قال تعالى: ) إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (الأحزاب 72 . وأن ندرك أيضاً أنه يؤدي واجبه ، وأنه بعد ذلك مسئول بين يدي الله سبحانه وتعالى عما استأمنه الله عليه وعما ولاه الله إياه كما قال صلى الله عليه وسلم : (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)   وكذلك أن يدرك المسئولية وأنها عظيمة ، وأن الله سبحانه وتعالى قال : ) كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ( المدثر 38 . أي : مرتهنة بعملها إن أحسنت أعتقت نفسها وإن أساءت أوبقت نفسها ، كما قال صلى الله عليه وسلم : (كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها) إما أن يعتقها من النار ومن العذاب بأن يؤدي الواجب ويحفظ الأمانة ، ويقوم بقدر استطاعته بما ينبغي عليه القيام به، وإما أن يفرط فيوبقها ويلجمها بالإثم ويستحق بذلك العقاب .

فنظام الانتخاب أو التصويت في نظر الإسلام شهادة للمرشح بالصلاحية ، ويجب أن يتوفر في صاحب الصوت ما يتوفر في الشاهد من العدالة والثقة والمسؤولية فالصوت الانتخابي أمانة والله سيسأله أحفظ الأمانة وقام بحقها أم ضيع وفرط وخان ؟ سيسأله إذا أعطى صوته لهذا ومنعه عن هذا ، لِمَ منح ولِمَ منع ؟ لأن صوته ربما يحدّد مصير قضيّته، ومستقبل أمته .

 أما بالنسبة للناخب أن يكون الاختيار ، مبنياً على أساس إسلامي ومنهج قرآني وهدي نبوي ، لأن انتخاب من لا يصلح مع العلم بذلك تُعَد من شهادة الزور وهي من أكبر الكبائر كما جاء في الحديث الشريف قال عليه السلام: (أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ثَلَاثًا قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الْإِشْرَاكُ بِاللَّه وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا فجلس فَقَال: أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ قَالَ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ) . وأن يكون الأرضى لله تعالى لأن انتخاب من لا يصلح خيانة : لما جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من وَلَّى على عصابة رجلاً وهو يجد من هو أرضى لله منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين ) ثم تأتي بعد ذلك الكفاءة من العلم والخبرة بالمنصب الذي سيتولاه ، وقد استنتج العلماء هذين الشرطين من قوله تعالى : ) إن خير من استأجرت القوي الأمين ( قال السعدي في تفسيره : أي : القوة والقدرة على ما استؤجر عليه ، والأمانة فيه بعدم الخيانة . وهذان الوصفان ينبني عليهما الإنجاز في كل من يتولى أمراً من الأمور في إدارة أو غيرها ، فإن الخلل يكون بفقدهما أو فقد أحدهما  وأما باجتماعهما فإن العمل يتم ويكمل ، فلابد من أن ننظر إلى من يقدر وإلى من يظن أنه يستطيع أن يقوم بالمهمة على وجه حسن ، وأن ننظر إلى ديانته وأمانته وصدقه وإخلاصه فيما نرى وفيما نجتهد ؛ لأن من لا يقصد وجه الله عز وجل ويخلص له قد يُفتن وقد يَفتن   وقد ينصرف إلى حظ نفسه  وقد يغلب مصالحه   وقد يضيع أمانته ويفرط في مسئوليته . 

 وهذا الاستنباط من الآية الكريمة على القاعدة الفقهية "ارتكاب أخف الضررين " فلئن يسعى المسلمون ليكون لهم شركة في الحكم مع الكفار يصونون بذلك أعراضهم وأموالهم ويحمون دينهم ، خيرًا ولا شكَّ مما أن يعيشوا تحت وطأة الكفار بلا حقوقٍ تصون شيئًا من دينهم وأموالهم ، وهذا النظر والفهم هو ما ارتضاه وأفتى به شيخ الإسلام ابن تيمية ولا شكَّ أنَّ هذا هو الفهم والفقه الذي لا يجوز خلافه ، فالمسلم إذا خير بين مفسدتين عليه أن يختار أدناهما إلى أن يأذن الله سبحانه وتعالى برفع المفسدة كلها ويكون للمسلمين حكمهم الخالص الذي لا يُشركهم فيه غيرهم ، ولا يخالطهم فيه سواه .

 وهـذا ما أفتى به الشيخ عبد العزيز بن باز ، بأنه يشرع الدخول إلى المجالس الانتخابية من أجل إحقاقِ الحق   والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى 

وقد نقلت فتواه مجلة لواء الإسلام العدد الثالث سنة 1989م  ونقلها عن المجلة الشيخ مناع القطان في كتاب (معوقات تطبيق الشريعة الإسلامية) وقد جاءت جوابًا لسائل يسأل عن شرعية الترشيح لمجلس الشعب ، وحكم الإسلام في استخراج بطاقة انتخابات بنية انتخاب الدعاة والإخوة المتدينين لدخول المجلس فأجاب سماحة شيخنا قائلاً : "إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى )  لذا فلا حرجَ في الالتحاقِ بمجلسِ الشعبِ إذا كان المقصود من ذلك تأييد الحق ، وعدم الموافقة على الباطل لما في ذلك من نصر الحق ، والانضمام إلى الدُعاة إلى الله . كما أنه لا حَرَجَ كذلك في استخراج البطاقة التي يُستعان بها على انتخابِ الدُعاة الصالحين ، وتأييد الحق وأهله ، والله الموفق" .

 وبهذا أيضًا أفتى الشيخ محمد صالح العثيميين شفاهةً لعددٍ كبيرٍ من الإخوة طلاب العلم الذين سألوه عن حكم الترشيح للمجالس النيابية ، فأجابهم بجواز الدخول وقد كرر عليه بعضهم السؤال مع شرح ملابسات الدخول إلى هذه المجالس ، وحقيقة الدساتير التي تحكم وكيفية اتخاذ القرار فكان قوله في ذلك"ادخلوها أتتركوها للعلمانيين والفسقة ؟   وهذه إشارة منه إلى أن المفسـدة التي تتأتى بعدم الدخول أعظم كثيرًا من المفسدة التي تتأتى بالدخول إن وجدت .

وقال الشيخ يوسف القرضاوي : بأن الإسلاميين من قديم شاركوا في الانتخابات ورشحوا أنفسهم ولم يفوِّتوا فرصة إلا وانتهزوها وفي الجزء الثالث من كتابه «فتاوى معاصرة» (ص 425) أجاب على سؤال وجه إليه حول جواز المشاركة في حكم غير إسلامي ، والمقصود هنا نظام في بلد إسلامي لا يلتزم بالتطبيق الكامل للشريعة الإسلامية ، فقال إن الأصل ألا يشارك المسلم إلا في حكم يستطيع فيه أن ينفذ شرع الله ، فيما يوكل إليه من مهام الولاية أو الزيارة  وألا يخالف أمر الله تعالى ورسوله  الذي يجب أن يخضع لهما بمقتضى إيمانه . وإذا كان الأصل تحريم التعاون مع الذين ظلموا ، إلا أن هناك حالات يخرج فيها عن الأصل لاعتبارات يقدرها الشرع قدرها ، ومن الاعتبارات التي وجدها الشيخ القرضاوي مسوغة للخروج على ذلك الأصل ، بأن تقليل الشر والظلم مطلوب بقدر الاستطاعة   وان العلماء أقروا بارتكاب أخف الضررين أو أهون الشرّين دفعاً لأعلاهما ، إلى جانب أن الضرورات تبيح المحظورات، ثم إن سنة التدرج التي هي من سنن الله في خلقه ، تقتضي أن يبدأ الشيء صغيراً ثم يكبر . واشترط توفر عدة شروط في مثل تلك المشاركة ، أولها أن تكون حقيقية وليست وهمية ، حتى لا يصبح الطرف المسلم مطية لغيره ، وألا يكون النظام موسوماً بالطغيان والعدوان على حقوق الإنسان ، إذ المفترض في هذه الحالة أن يقاوم المسلمون ذلك الوضع لا أن يكونوا عوناً له ، وأن يكون للمسلم حق معارضة ما يخالف الإسلام أو التحفظ عليه . وأخيراً اشترط الشيخ أن يقدم المسلمون تجربتهم في هذا الصدد بين الحين والآخر، لكي يتحققوا من أن المشاركة حققت مصلحة للمسلمين أو قللت ضرراً، ولم تتسبب في مفسدة من أي نوع .

أما موضوع شراء الأصوات وهل يجوز للمرشح نفسه للمجلس النيابي أن يشتري أصوات الناخبين بقصد الفوز في الانتخابات على منافسيه في المنطقة الانتخابية  وهل يجوز بيع هذه الأصوات من قبل الناخبين إلى المرشحين بمبلغ معين لأجل الإدلاء بأصواتهم إلى المرشحين ؟

فقد أجابت الهيئة العامة للفتوى بوزارة الأوقاف الكويتية : بأنه لا يجوز للناخب أخذ مبلغ من المال أو هدية مقابل إدلاءه بصوته لأي مرشح لأن التصويت أمانة بمقتضاها يختار الأكفأ ، ليقوم بما أسند إليه خير قيام وقد ورد في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم  قال ( إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة ، فقيل وما تضييعها ؟ قال : إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة ) ولذلك فعلى الناخب أن يختار من يعتقد أنه أقوى من غيره وأكثر أمانة ولا يجوز له شرعًا أن يختار الأضعف أو الأقل أمانة لمجرد قرابة أو مصلحة خاصة يحصل عليها منه  وأن المرشح الذي يقدم هدايا هو راشٍ وغير أمين ويعتبر هذا كافيا لعدم انتخابه... والله أعلم . والرشوة قتل لكرامة الإنسان وعزته ، فهي استرقاقٌ بعد حرية  وذل بعد عزة  ومهانة بعد رفعة ، وبعد هذا كله فالراشي ملعون والمرتشي ملعون متوعد بالنار والعياذ بالله لقول الرسول صلى الله عليه وسلم  ( لعن الله الراشى والمرتشى والرائش الذى يمشى بينهما )  فهذه المعصية وهذا المنكر أصبح وللأسف يروج له عبر مبررات باطلة وحجج واهية ، حتى أخذ البعض يسوغ كل هذا الأمر فتارة يسمونها هدية وتارة مساعدة وتارة مكافأة ، ونحن نعلم أن المنكر يبقى منكرًا ولو غيرت أسماؤه قال صلى الله عليه وسلم 

( ليشربن أناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها ) رواه احمد وابو داود فتغيير اسم الخمر لا يغير من حرمة هذا المنكر شيئا وهكذا الرشوة فتغيير اسمها لا يغير من حقيقتها شيئا  

فقد أصدرت الأوقاف الكويتية فتوى أكدت فيها حرمة قيام أي من المرشحين "بإغراء الناخبين لانتخابه بالمال أو أية منفعة أخرى"  مؤكدة أن ذلك يعد "رشوة منهيا عنها وملعونا من اقترفها". كما أكدت الفتوى على عدم جواز قيام المرشح بأخذ عهد أو ميثاق أو قسم علي الناخب بأن يعطيه صوته .

ومن المنكرات القبيحة التي تحصل أيام الانتخابات ، ما يقوم به بعض الناس من الحلف والقسم على إعطاء الصوت لرجل معين أو جعل المصحف أداة لتأكيد القسم   وهذا من اتخاذ آيات الله هزواً وجعل الرب جل وعلا عرضة لأمور دنيوية تافهة ، فالله عز وجل شأنه عظيم  والحلف به في كل صغيرة وكبيرة ليس من تعظيم الله  ولا هو من حفظ اليمين التي أمر الله بها في قوله: ) واحفظوا أيمانكم ( المائدة 89 . 

 

 

 

المستقبل للإسلام

 إذا ما قلنا بأن المستقبل لهذا الدين وللإسلام ، وأن النصر قادم إن شاء الله تعالى . يقال لنا في مرارة وحسرة : أيّة بشرى بمستقبل الإسلام والمذابح الوحشية تلاحق المسلمين في كل مكان ، أية بشرى وأي أمل وقد اتفق أعداء الإسلام على القضاء على الإسلام والمسلمين  ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم  أسوة حسنة فقد كان يبشر أصحابه بالنصر والتمكين في أقسى الظروف كما فعل يوم الأحزاب . وهو يكسّر الصخرة فقد قال بعد الضربة الأولى : ( الله أكبر ، أُعطيت مفاتيح الشام ، والله إني لأُبصر قصورها الحمراء الساعة ) وقال بعد الضربة أخرى : ( أُعطيت مفاتيح فارس ، و الله إني لأُبصر قصر المدائن أبيض ) وبعد الضربة الثالثة قال : ( أُعطيت مفاتيح اليمن ، و الله إني لأُبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا الساعة ) وكما قال لسُراقة بن مالك وهو يطارده ( كيف بك إذا لبست سواري كسرى ) شيء بعيد جداً عن الذهن ، لكن الوعد تحقق في عهد عمر 
إن فجر الإسلام قادم لا محالة كقدوم الليل والنهار، وإن أمة الإسلام قد تمرض وتعتريها فترات من الركود الطويل  ولكنها بفضل الله لا تموت ، ما إن تمسكت بدين الله الذي سادت به يوماً رغم كل الصعوبات التي واجهتها ، كلنا يعرف يوم أن جاء الإسلام أول مرة  ووقفت في وجهه عقائد وتصورات   وأنظمة وأوضاع ، ومصالح وعصبيات  ولو قيل لأي إنسان في ذلك الزمان أن هذا الدين الجديد هو الذي سينتصر لما لقي هذا القول إلا السخرية والاستهزاء والاستنكار! ولكن في هذا الواقع سرعان ما ساد الإسلام  فكيف وقع هذا الذي يبدو مستحيلاً ، كيف استطاع رجل واحد أن يقف وحده في وجه الدنيا كلها   إنه لم يتملق عقائدهم ، ولم يداهن مشاعرهم ، ولم يهادن آلهتهم ، ولم يوزع الوعود بالمناصب والمغانم لمن يتبعونه ، فكيف إذن وقع الذي وقع ؟ لقد وقع الذي وقع  لأنهم صدقوا ما عاهدوا عليه الله فكان الله معهم ] والله غالب على أمره ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون [ . إنه وعد الله وكلمته قال تعالى : ]وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ ، وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [الصافات 171 . إن هذا الوعد المبارك سنة من سنن الله الكونية الثابتة التي لا تتبدل ولا تتغير وإن هذا النصر سنة ماضية كما تمضي الكواكب والنجوم في أفلاكها بدقة وانتظام . ولكن قد يبطئ النصر لأسباب كثيرة جدا ً ولكنه آت بإذن الله تعالى في نهاية المطاف مهما رصد الباطل وأهله من قوى الحديد والنار ، ونحن لا نقول ذلك رجماً بالغيب ولا من باب الأحلام ، ولكنه القرآن يتحدث، والرسول  يبشر  والتاريخ والواقع يشهد ، فمن بشائر القرآن قال تعالى : ] هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون [ وقال تعالى : ] يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون [ وقد وعد الله المؤمنين بالنصر فقال تعالى : ] ولقد أرسلنا من قبلك رسلاً إلى قومهم فجاؤوهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقاً علينا نصر المؤمنين [ وقال تعالى : ] يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم [ ففي هذه الآيات أخبر الله سبحانه وتعالى أن من سنته في خلقه أن ينصر عباده المؤمنين إذا قاموا بنصرة دينه وسعوا لذلك ، ولئن تخلفت هذه السنة لحكمة يريدها الله في بعض الأحيان فهذا لا ينقض القاعدة   وهي أن النصر لمن ينصر دين الله . ومن البشائر وعد الله للمؤمنين بالتمكين في الأرض فقال تعالى : ] وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون[ وقد وعد الله في هذه الآية وهو الذي لا يخلف الميعاد وعد المؤمنين باستخلافهم في الأرض ، وأن يمكن لهم دينهم ، وأيّ أمل للمسلمين فوق وعد الله عز وجل ، وأيّ رجاء بعد ذلك للمؤمن الصادق .

ومن البشائر في كتاب الله الإشارة إلى ضعف كيد الكافرين وضلال سعيهم، إن مما يجلب اليأس لكثير من المسلمين ما يراه من اجتماع الكفار على اختلاف طوائفهم ومشاربهم على الكيد للإسلام وأهله ، وما يقومون به من جهود لحرب المسلمين في عقيدتهم وإفساد دينهم ، في حين أن المسلمين غافلون عما يكاد لهم ويراد بدينهم ، وحين يرى المرء ثمرات هذا الكيد يظن أن أيّ محاولة لإعادة مجد المسلمين ستواجه بالحرب الشرسة وتقتل في مهدها ، فيا من تفكر في هذا الأمر اسمع لهذه الآيات قال الله تعالى : ] إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون [ فكم من المليارات أنفقت ولا زالت تنفق بسخاء رهيب للصد عن سبيل الله وتنحية دينه وكم من المليارات أنفقت وبذلت لتنصير المسلمين وتدمير كيان الأسرة المسلمة ، وإشاعة الرذيلة عن طريق القنوات الفضائية وعن طريق الأفلام الداعرة والمسلسلات الفاجرة والصور الخليعة الماجنة والقصص الهابطة   التي تعرض عن طريق شبكات الإنترنت ، ولكن النتيجة بإذن الله عز وجل كما أخبرنا : ] فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون [ وتأمل في قول الله تعالى : ] إنهم يكيدون كيداً وأكيد كيداً فأمهل الكافرين أمهلهم رويدا [ وقوله عز وجل: ] ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين [ فهما كادرا لدين الله ومهما بذلوا لمحاربته ، فالله لهم بالمرصاد ، وهم أعداء الله قبل أن يكونوا أعداء المسلمين . وستظل هذه البشائر القرآنية تبعث الأمل في القلوب الحية المطمئنة الواثقة بنصر الله وتأتي البشائر النبوية الكريمة لتؤكد هذه الحقيقة ، روى الإمام أحمد في مسنده عن تميم الداري رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم  يقول: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر) .

ومن البشائر النبوية  ما روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: ( بينما نحن جلوس حول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي المدينتين تفتح أولاً أقسطنطينية أم رومية ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مدينة هرقل تفتح أولاً ) يعني القسطنطينية وقد تحقق الفتح الأول على يد محمد الفاتح العثماني كما هو معروف ، وذلك بعد ثمانمائة سنة من إخبار النبي  بالفتح   وسيتحقق الفتح الثاني بإذن الله تعالى ولا بد ولتعلمن نبأه بعد حين . وهناك بشائر أخرى تعرف من طبيعة هذا الدين وفطرة الله وسنته في خلقه ، ومن ذلك أن الدين الإسلامي هو الذي يتوافق مع الفطرة ويحقق للناس مصالحهم في الدنيا والآخرة  فالرسالات السماوية قد نسخت وحرف فيها وبدّل ، والأنظمة البشرية يكفي في تصور قصورها وفشلها أنها من صنع البشر ، فمن طبيعة هذا المنهج الإسلامي نستمد نحن يقيننا الذي لا يتزعزع أن المستقبل لهذا الدين ، وأن له دوراً في هذه الأرض هو منـزّل لأدائه أراده أعداؤه أم لم يريدوه . في الوقت الذي يشكو العالم من إفلاس الأنظمة البشرية ويتجرع مرارة وويلات هذه النظم التي دمرت الإنسانية وقضت على كل جوانب الخير لديها ، ومن أقرب الشواهد على ذلك انهيار الأنظمة الشيوعية ، وحقٌ على الله ما ارتفع شيء إلا وضعه ، والدمار قادم بإذن الله لمن على شاكلتهم من الكفر والضلال ومحاربة الإسلام وأهله وصدق الله العظيم : ] ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريباً من دارهم حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد [ والعالم اليوم يتطلع إلى المنقذ الذي يخلصه من ذلك، ولا منقذ إلا الإسلام والمستقبل له والعزة ستكون لأولياء الله ألم يقل الله تعالى : ] ولقد أرسلنا من قبلك رسلاً إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقاً علينا نصر المؤمنين [ ومن أصدق من الله قيلا وهو الذي لا يخلف الميعاد ، ولكن السؤال هو متى يكون هذا اليوم ؟ إنه يوم يعود الناس إلى الدين يوم يعودون إلى الإسلام ، وتلك قوة أكبر من إرادة البشر لأنها مبنية على السنّة التي أودعها الله في الفطرة وتركها تعمل في النفوس ، وحين يجيء ذلك اليوم فماذا يعني في حساب العقائد عمر جيل من البشر أو أجيال ، ليس المهم متى يحدث ذلك ، إنما المهم أنه سيحدث بمشيئة الله لأنه وعد صادق وخبر يقين ، وحين يجيء ذلك اليوم وهو آت إن شاء الله ، فماذا تساوي كل التضحيات والآلام التي تحملتها أجيال من المسلمين ، إنها تضحيات مضمونة في السماء والأرض . أما هل يتنـزل النصر كما ينـزل المطر، ويمكّن للمسلمين وهم قاعدون خاملون لم يبذلوا أي جهد ولم يسلكوا أي سبيل للنصر ، لنقرأ الإجابة في قوله عز وجل : ] حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجّي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين [ إنها سنة الله في هذا الكون التي لا تتبدل ولا تتغير ، لقد شاء الله وقضى أن يقوم هذا الدين على أشلاء وجماجم أوليائه وأحبابه وعلى أن توقد مصابيح الهداية بدم الشهداء الأبرار الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة قال الله تعالى : ] أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب ، أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين [  عن خباب رضي الله عنه قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة وقد لقينا من المشركين شدة فقلت: يا رسول الله ألا تدعو الله لنا؟  فقعد وهو محمر وجهه فقال : (لقد كان من قبلكم يمشّط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظام أو عصب ، ما يصرفه ذلك عن دينه ، ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه ، وليُتِمنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله والذئب على غنمه ، ولكنكم تستعجلون)  ما أحسن الكلمة وما أروعها  المستضعفين في كل زمان ومكان ( ولكنكم تستعجلون)  استدراك عجيب منه  ليخبر الصالحين والمصلحين أن الصبر هو الوسيلة العظمى والزاد النافع لهم في طريقهم الطويل الصعب ، ذاك الطريق الاستقامة على شرع الله والدعوة إليها المليء بالعقبات ، وذكّرهم عليه الصلاة والسلام بمن سبقهم من المستضعفين ليكون لهم زاداً في طريقهم الطويل  ويسليهم حتى يعلموا أن هناك من صبر أكثر منهم وبشرهم ووعدهم حتى لاييأسوا من العاقبة والعاقبة للمتقين .

وسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم خير شاهد على ذلك، فالنبي  لقي ما لقي من الأذى والبلاء ، فمن رحمة الله أن جعل طريق النصر محفوفاً بالمصائب  وهذا من كمال حكمته وعلمه ، وهو الذي لا يُسأل عما يفعل ، وقد أشار الله في كتابه إلى شيء من هذه الحكم  فمنها تمييز الصادقين من غيرهم ،  واتخاذ الشهداء والأجر والمثوبة من عند الله   والهداية والتوفيق لأنصار دينه ، وأن ذلك سبب لهم في دخول الجنة ، إلى غير ذلك من الحكم العظيمة . وقد يسأل سائل ويقول : كيف يكون المستقبل للإسلام والأعداء قد اجتمعوا عليه وتكالبوا من كل جهة ؟ كيف والأعداء يملكون تلك الأسلحة الفتاكة  والمسلمون لا سلاح لديهم ؟. إن هذا السائل لينسى أن الذي ينصر المسلمين هو الله لا بجهدهم ولا قوتهم قال الله تعالى: ] قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين [ فالمسلمون سبب لتحقيق قدر الله وإرادته فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وليبلي المؤمنين منه بلاءً حسناً إن الله سميع عليم وينسى هذا السائل ثانياً أن الله يسبح له من في السموات ومن في الأرض، ومما يسبح له قنابل هؤلاء وأسلحتهم، وينسى ثالثاً أن الله إذا أراد أمراً فإنما يقول له كن فيكون وما أمرنا إلا واحدةٌ كلمح بالبصر والله غالب على أمر ولكن أكثر الناس لا يعلمون، وينسى رابعاً أن الأعداء وصلوا إلى هذه القوة الهائلة والتمكين بجهدهم البشري، وهو ليس حكراً على أحد وحركة التاريخ لا تتوقف قال الله تعالى: ] إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين [ وتلك الأيام نداولها بين الناس، فمهما كادوا للإسلام وأهله واجتمعوا لحربه فإن الله ناصر دينه ومعلي كلمته  من كان يظن  أن رسول الله   مع قلة مؤمنة في مكة يعذبون ويضطهدون ويحاربون بل ويطردون من بيوتهم وبلدهم ، وهو يعدهم  بكنوز كسرى وقيصر . أن يعود إلى مكة فاتحاً منتصراً . ومن كان يظن أن تقوم للمسلمين قائمة بعد زحف التتار وحرق الأخضر واليابس وبعدما ما استولى الصليبيون على كثير من بلدانهم ودنسوا المسجد الأقصى ما يقارب قرناً من الزمان ، ثم جاء الفرج والخلاص على يد صلاح الدين ، إن الذي هيأ تلك الأسباب لقادر على أن يعيدها ثانية إنه سميعٌ مجيب قال تعالى : ]إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ ، كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة 20-21 . فإذا ما تحققت شروط النصر فلابد أن ينصر الله الذين حققوا الشروط وإذا هُزموا فإنما يُهزموا لعدم تحقق تلك الشروط .

كأس العالم

مرضٌ عم وداء انتشر بين المسلمين خاصة و العالم عامة في الوقت الذي يمتحن فيه المسلمون في كل مكان وتزداد نكباتهم وابتلاءاتهم فتنصرف عيونهم عن إخوانهم الذين يتعرضون للاعتداء حيث الخطف والقتل والتدمير متناسين المهمة التي خلق الله الخلق لأجلها قال تعالى : ] وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [ .

خلقنا الله للطاعة وجعل هذه الدنيا دار اختبار وامتحان وابتلاء قال تعالى :  ] ليبلوكم أيكم أحسن عملاً [ . وجعل الحياة الحقيقية في الآخرة قال تعالى : ] وما هذه الحياة الدنيا إلا لعبٌ ولهو وإن الدار الآخرة لهي الحيوات لو كانوا يعلمون [ . فقد جاء الشرع بالأمور التي تُصلح الناس ومنع ما يفسدهم جاء بما يصلح الدين والبدن جاء في الخبر : ( وإن لجسدك عليك حقاً )  فقد جاء  الشرع لمنح القوة , القوة في الإيمان والقوة في القلب والقوة في الجسد بل القوة في الأمور النافعة ، وأمرنا بالقوة لملاقاة الأعداء قال تعال :  ] وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون عدو الله عدوكم [ . القوى المادية و المعنوية ،  والرياضة تقوي البدن   كما ذكر ابن القيم :" أن الحركة هي عماد الرياضة  التي تخلص الجسم من الرواسب وفضلات الطعام بشكل طبيعي وتعود البدن الخفة و النشاط وتجعله قابلاً للغذاء وتقوي الأوتار و الرباطات ، وتؤمن من جميع الأمراض المادية وأكثر الأمراض المزاجية إذا استعمل القدر المعتدل منها في دقة " . وقال : " كل عضو له رياضة خاصة يقوى بها وأما ركوب الخيل ورمي النشابة والصراع – المصارعة – و المسابقة على الأقدام فرياضة للبدن وهي قالعة لأمراض مزمنة "  هذه الرياضة إذن وسيلة وليست غاية لأن الغاية هي العبادة ، أما الرياضة فهي وسيلة فمن جعل الغاية هي الرياضة وصار يسعى لجسمه فقط همه إبراز العضلات المفتولة و القلب خاوٍ والأخلاق شبه معدومة . ولقد أحسن القائل :

يا خادم الجسم كم نشقى لخدمته      لتطلب الربح فيما فيه خسران

لأن المسألة كما قال :

أقبل على النفس فاستكمل فضائلها    فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان

إذن لا بد من رياضة القلب ورياضة البدن ، وليعلم المسلم أن قوة بدنه من مسئوليته وإن من وظيفته إعداد البدن بأنواع الرياضة المباحة التي لا تلهي عن ذكر الله والتي ليس فيها إيذاء وليس فيها كشف للعورات وغير ذلك من الضوابط الشرعية التي ذكرتها النصوص والتي تبين أي رياضة هي التي يمارسها ومتى يمارسها ولماذا يمارسها ، لقد جاء الشرع بترفيه   هذا الترفيه منضبط بالضوابط الشرعية أيضاً لأن القضية عند المسلم قضية عبادة يقوم بالرياضة عبادة الله فيؤجر عليها   لكن عندما تخرج القضية عن الإطار الشرعي عندهم لم تعد المسألة ترفيهياً بريئاً عندما تُلهي عن ذكر الله وعن الصلاة ، لقد نجح أعداء البشرية في تعليق قلوب البشر في جلدة منفوضةٍ تطير قلوبهم بطيرانها وتحط معها إذا حطت إنها التفاهة التي تسيطر على قلوب الناس   وما علموا أنها وسيلة من وسائل الصهيونية للسيطرة على الشعوب , ألا ترون انشغال الناس رجالاً ونساءً بمتابعة المباريات وإسرائيل تحتل وتقتل وتعتقل وتدمر والمسلمون يكتفون بالاهتمام بجولات اللاعبين في ساحات الوغى الكروية وكفى ، سواء أذهبت القدس أو فلسطين أو لحفتها العراق ناسين أن الأمة لن تنال حقها وتسترد ما فقدت منها إلا بدماء الشهداء ولن تسترد كرامتها وعزتها إلا في ساحات الجهاد لا بالركض وراء الكرة . يا عجباً والله متى كان اللعب يحقق للأمم عزاً ومجداً ، فلو تصفحنا تاريخ الأمم لما وجدنا أمة منها وصلت إلى القمة بالتلهي الفارغ ، وإنما بالجد والمثابرة والعمل المستمر وما استسلمت امة للترف والنعيم والتسلي بسفاسف الأمور إلا هانت تلك هي قوانين الحياة .

وما درى العاكفون على الكرة وتفاهاتها أنهم يضرون بمصلحة الأمة أو دروا ولكنهم يريدون لهذه الأمة أن تبفى في سباتها وصدق الله ] وإذا أردنا أن نهلك قرية أمّرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا [ الإسراء 16. إننا لم نصل إلى ما وصلنا إليه إلا عندما فتحنا بيوتنا وسخرنا أجهزه إعلامنا وقنواتها الفضائية لسموم الأعداء  تكتسح بميوعتها صلاتنا وتذيب برذائلها رجولتنا فكانت الهزيمة هزيمته الخلائق قبل أن تكون هزيمته المعارك .

إن استغلال محطات الإذاعة والتلفزيون لا يتوافق مع ديننا لأن الأداء دنيوي محض ومن المؤسف أن يذاع القرآن أو تتلى بعض الأحاديث أو حلقات دينيه لا تمس الواقع المؤلم الذي نعيش ، ثم يعقب ذلك مباشرة أغنية أو رقصة تفسد كل أثر للتلاوة أو الموظفة ألم يعلم المسلمون أنه أحد سلاح في يدهم وهو زهدهم عن أسباب الترف واكتفائهم بالقليل الذي ينتجونه ويملكونه ، واستغنائهم عن الكثير المستورد خصوصاً إذا كان من عند أعداء الإسلام والدين ، علماً بأنه لا يستطيع ذلك إلا من حبس شهواته واظهر عفته وأبدى غناه وكبت فاقته ، اما الذين يركضون حيث تطلبهم الشهوات الطارئة والنـزوات العابرة فلن يكونوا إلا عبيداً   وهم الذين يعيش المستعمرون على أمثالهم في الأرض . إن علينا أن نعرف للفضائل حقها وقدرها وان ندرب أبنائنا على الارتباط بها ، وأن نُخرس هذا الضياع بإباحة المتع الحرام ، والتهاب الملذات المشتهاة ، وبذلك نبقى أمة تعرف رسالتها وتحظى بعناية ربها واحترام خلق الله . ثم لماذا لا نتبع تعاليم ديننا الذي يريد منا أن نملك أنفسنا وأن نحكم رغباتنا لا أن تحكمنا قال تعالى : ] والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً [ . فلو أقمنا القرآن عقيدة وشريعة وخلقاً وسلوكاً لا تنصرنا على أعداءنا ، ولو أن المسلمين حكّموا القرآن وتذكروا أمره الجازم بألا يتخذوا أعدائهم وأعداء الله وأعداء دينه أولياء ، لما تفرّق شملهم ولما اختلفت كلمتهم ولما نزع الله مهابتهم من صدور أعدائهم ، ولما كانوا كغثاء السيل   وحتى تكون للمسلمين مكانتهم في العالم عليهم أن يحسنوا الإعداد ويصدقوا النية والعزم لصد الكفر وأهله وبالنية الصادفة والتوكل على الله وإعداد العدة ينتصر الحق وأهله ] ولينصرن الله من ينصره [ الحج 40 .   

     

 

 

الصبر

 

قال تعالى :{ولَنَجْزِينَّ الذين صَبَرُوا أجرهُم بأحسنِ ما كانوا يَعْلمون}النحل 96 . وقال تعالى : {إنما يوفي الصابرون أجرهم بغير حساب}الزمر 10 . إنَّ الصبر من معالم العظمة ، وشارات التقدير   ومظهر الكمال في الرضا والأمل  ولما سئل النبي صلى الله عليه وسلم مَنْ أشدُّ الناس بلاء قال : ( الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل ، يبتلى الناس على قدر دينهم  فمن ثخن دينه اشتد بلاؤه ، ومن ضعف دينه ضعف بلاؤه ، وإن الرجل ليصيبه البلاء حتى يمشي على الأرض ما عليه خطيئة ) .

 

من الخطأ أن يحسب المسلم أن تلاحق الأذى عليه دليل على نسيان الله له  وقد قيل :                                                                                                                                                     على قدر أهل العزم تأتي العزائم   وتأتي على قدر الكرام المكارم

 

وتعظم في عين الصغير صغارها   وتصغر في عين العظيم العظائم

 

إن الصبر فضيلة تجعل الإنسان هادئاً ، وتُبْعد عنه الطيش ، وله منزله كبرى في الآخرة ، حيث أضاف الله اكثر الدرجات والخيرات إلى الصبر  وجعلها ثمرة له ، فما من قُرْبةٍ إلا وأجراها الله بتقدير وحساب ، إلا الصبر فإن الأجر فوق التقدير والحسبان .

 

والصبر أنواع : إما بدني كتحمل المشاق والثبات عليها . وإما بالفعل كالصبر على العبادات . وإما بالاحتمال كالصبر على المرض الشديد .

 

ومن الصبر ما هو محمود ،كالصبر على شهوة البطن والفرج ، ويسمى عفة ، أو في كظم الغيظ والغضب ويسمى حلماً .

 

كما أن أخلاق الإيمان كلها داخلة في الصبر  ولهذا لما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان قال: (هو الصبر) . وقد عدهّ النبي عليه السلام من إحدى علامات الإيمان . فقد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة ( أمؤمنون أنتم ؟ فقال عمر نعم يا رسول الله ، فقال فما علامة إيمانكم ؟ فقال : نشكر على الرخاء ، ونصبرُ على البلاء  ونرضى بالقضاء ، فقال: مؤمنون ورب الكعبة)  ، إن الإنسان يحتاج إلى الصبر في كل أفعاله وتصرفاته ، سواء كانت في طاعة الله أو معصيته  لأن الصبر على الطاعة ، شديد على النفس  لأنها تُنَفِرُ عن كثير من العبادات ، إلا من وفقه الله فبعض العبادات يكرة بسبب الكسل ، وإيثار الراحة كالصلاة ، ومنها ما يكره بسبب البخل والشح كالزكاة ، وبسبب الكسل والبخل كالحج والجهاد .

 

إن عشره المؤمنين ، والإبقاء على مودتهم  والإغضاء عن هفواتهم ، أمر يحتاج إلى الصبر ، وفي هذا يقول عبد الرحمن بن عوف :" ابتلينا بالضراء فصبرنا ، وابتلينا بالسراء فلم نصبر" . إن إتقان العمل أمرٌ يحتاج إلى الصبر ، حتى لا يقصِّر الإنسان ، ولا يغفل عن الله أثناء عمله   ولا يتكاسل ، ويتمسك بآداب العمل وسننه   ولعل ذلك هو المراد بقوله تعالى :{نعم أجر العاملين . الذين صبروا}العنكبوت58 .  ويحذِّر المؤمنين من الإتيان بما يبطل العمل قالتعالى :{ولا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى }. وتجنب المعاصي ، أمرٌ يحتاج إلى الصبر . قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( المهاجر من هجر السوء  والمجاهد من جاهد هواه ) . إن الصبر من أشق الأشياء على النفوس  فقد يكون بحسب قوة الداعي إلى الفعل ، وقد يكون الصبر أيسر لسهولته كشرب الخمر . ومن اشتد داعيه إلى ذلك وسهل عليه ، فالصبر عنه أشق  لذا كان صبر السلطان عن الظلم ، والشباب عن الفاحشة ، والغني عن تناول اللذات والشهوات  له منزلةٌ عظيمة عند الله . فقد ورد في الصحيح عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سبعة يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله ، إمام عادل  وشاب نشأ في عبادة الله ، ورجل قلبه معلق بالمساجد ، ورجلان تحابا في الله ، اجتمعا عليه وتفرقا عليه ، ورجل دعته امرأة ذات جمال فقال : إني أخاف الله رب العالمين ، ورجل تصدق بصدقة ، فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه ، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه ) . إن من كان داعيه في حق الناس ضعيف ، ولم يصبر مع قدرته على الصبر ، فإن عقوبته عند الله أشدُّ من عقوبة غيره ، كالشيخ الزاني ، والملك الكذاب ، والفقير المحتال ، فهؤلاء عقوبتهم أشدُّ من غيرهم ، لسهوله التصبّر عن هذه المحرمات عليهم ، وضعف دواعيها في حقهم ، فكان ترك الصبر عنها تمرد وعتوٍ على الله ، لهذا كان الصبر عن معاصي الفرج واللسان ، والغيبة والكذب والمراء ، وأنواع المزاح المؤذي للقلوب . فقد ثبت عن النبي عليه السلام أنه قال: (وهل يكب الناس في النار على وجوههم ، أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم ) .

 

وأعلى مقامات الصبر على المصائب وسائر أنواع البلاء ، كالموت وهلاك الأموال ، وزوال الصحة بالمرض ، وهو من الله عز وجل شديد على النفس  لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أسألك من اليقين ما تهوِّن علىَّ به مصائب الدنيا) . وروى مسلم ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمر الله به ، إنا لله وإنا اليه راجعون اللهم أجُرْني في مصيبتي ، وأخلف لي خيراً منها إلا آجره الله في مصيبته واخلف له خيراً منها ) ، إن الإنسان و أهله وماله وولده ملك لله ، وهي عند الإنسان بمرتبة الإعارة والوديعة ، فإذا أخذ الله منها شيئاً ، فهو يأخذ ما أعاره وأتمنه عليه وانشدوا بهذا المعنى :

 

وما المال والأهلون إلا ودائع   ولا بد يوماً أن ترد الودائع

 

وبما أن مصير الإنسان ومرجعه إلى الله ، يأتي ربه يوم القيامة فرداً ، كما خلقه أول مره ، بلا أهل ولا مال ولا عشيرة ، لكنه يأتي بأعماله ، وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم : (يتبع الميت ثلاثةُ فيرجع اثنان ، ويبقى معه واحد ، يتبعه أهله وماله وعمله ، فيرجع أهله وماله ويبقى عمله ) .

 

أما الجزع والتذمر وكراهية المصيبة ، والمبالغة في الشكوى وإظهار الكآبة ، فذلك غير جائز كالتذمر من طول المرض وشدته ، وتمني الموت نتيجة ذلك ، فهذا لا يجوز لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلمالذي رواه البخاري ومسلم ( لا يتمنى أحدكم الموت لضرٍّ أصابه ، فإن كان لا بد فاعلاً ، فليقل اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي ، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي ) .   حتى أن بعض الناس يكفرون ويعترضون على قضاء الله ، ويدعون على أنفسهم بالهلاك عند طول المصائب ، وهم يحسبون أن المصيبة تبرر لهم استحلال القبائح والخطايا ، حتى أن وقع المصيبة عند ضعاف الإيمان ، يجعلهم يُقْدِمون على الانتحار ، هؤلاء وأمثالهم يكون إيمانهم سطحي  لم يصل إلى أعماق قلوبهم ، هذا الفريق من الناس مزعزع العقيدة ، إن أصابه ما يحب فرح بذلك واطمأن ، وإن امتحن بالبلاء والشدة ، ارتد فخسر الدنيا والآخرة قال تعالى :{ومن الناس من يعبُد الله على حرف ، فإن أصابهُ حيرٌ اطمأنَّ به وإن أصابتهُ فتْنةٌ ، انقلب على وجْهِهِ خسر الدنيا والآخرة ، ذلك هو الخسران المبين }الحج 11.

 

إن المطلوب من الإنسان إظهار الرضا بقضاء الله عند المصيبة ، ولنا في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوةٌ حسنة . فقد أخرج الطبراني والقصة في الصحيحين لما روى عن الرُميضاء أم سليم أنها قالت :"توفَيّ ابنٌ لي وزوجي أبو طلحة غائب ، فقمت فسجيته في ناحية البيت ، فقدم أبو طلحة فقمت فهيأت له إفطار فجعل يأكل ، فقال كيف الصبي ؟ قلت بأحسن حال بحمد الله ومنّه ، فإنه لم يكن منذ اشتكى بأسكن منه الليلة ، ثم تصنعْتُ له أحسن ما كنت له قبل ذلك ، حتى أصاب منى حاجته ثم قلت ألا تعجب من جيراننا قال : مالهم ؟ قلت : أُعيروا عارية ، فلما طُلبتْ منهم ، واستُرْجِعَتْ جزعوا فقال : بئس ما صنعوا ، فقلت هذا ابنك كان عارية من الله تعالى ، وإن الله قد قبضة اليه فحمد الله واسترجع ، ثم غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخبره فقال ( اللهم بارك لهما في ليلتهما)  فقد روى أن الله رزقهم سبعة أولاد كلهم قد قرْوا القرآن .

 

وقد قيل : الصبر الجميل هو أن لا يُعْرَفْ صاحب المصيبة من غيره .

 

إن من سنن الله في الخلق أن يفتنهم ويبتليهم بالخير والشر ، ليميز الخبيث من الطيب والصادق من الكاذب . قال تعالى :{أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمنَّ الله الذين صدقوا وليعلمنَّ الكاذبين }العنكبوت 2.

 

وقد تعهد الله للمؤمن بأن يعطيه بكل مصيبةٍ تناله صغيرة كانت أو كبيرة ، من الشوكة يشاكها ، إلى موت عزيز ، إلى ذهاب مال وغير ذلك من المصائب ، تعهد الله بإعطاء الأجر لينسى الإنسان المصيبة ، ويتمنى لو أنها كانت أكبر ، ليكون الأجر عليها أكبر . روى البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب - أي مرض - و لا همٍ ولا حزنٍ ولا أذى ولا غمٍّ حتى الشوكة يشاكها  إلا كفّر الله بها من خطاياه).

 

ومما يخفف من وقع المصيبة ، اعتقاد الإنسان أن الآجال محدودة والأعمار بيد الله . قال تعالى :{وما يُعَمَّر من مُعَمَّر ولا يُنْقَصُ من عُمُره إلا في كتاب}فاطر 11 . ومما يساعد على تحمل المصائب  اعتقاد المصاب أن مرارة الدنيا هي بعينها حلاوةً في الآخرة .أخرج مسلم والترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (حقت الجنة بالمكارة وحقت النار بالشهوات )

 

ومما يغري المؤمن أنه إذا صبر واحتسب مصيبته لوجه الله ، رجاء أن يخلفه الله خيراً منها ويعوضه عن مصابه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن عظم الجزاء من عظم البلاء ، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم فمن رضي فله الرضى ، ومن سخط فله السخط ) .

 

إن الصبر فضيلة يحتاج إليها المسلم في دينه ودنياه  بل هي من أعظم الفضائل ، ولذلك فإن منزلة الصابرين عند الله من اشرف المنازل ، حتى أن الله يعط على الصبر من الثواب ، ما لم يعط على سائر العبادات . قال صلى الله عليه وسلم ( إن الرجل ليكون له عند الله المنزلة ، فما يبلغها بعمل ، فما زال يبتليه بما يكره حتى يُبلِّغُه إياها ". وانشدوا :

 

بنى الله للأخيار بيتاً سماؤه   هموم وأحزان وحيطانه الضُرُّ

 

وأدخلهم فيه واغلق بابه     وقال لهم مفتاح بابكم الصبر

 

وقال صلى الله عليه وسلم ( الطهور شطر الإيمان ، والحمد لله تملأ الميزان ، وسبحان الله والحمد لله تملآن ما بين السماء والأرض ، والصلاة نور والصدقة برهان والصبر ضياء ) .

 

إن الله تعالى يبتلي عبده ليسمع شكواه ، وتضرعه ودعاءه ، وصبره ورضاه ، وقد ذم الله من لم يتضرع اليه وقت البلاء ، والعبد أضعف من أن يتجلد على ربه ، ولا يشكو إليه حاله ، فقد أثنى الله على أنبيائه حين شكوا ما بهم إلى الله ، فقال على لسان أيوب :{ إني مسني الضرُّ وأنت أرحم الراحمين } وعلى لسان موسى :{ إني لما أنزلت إليَّ من خير فقير} وعلى لسان خاتم النبيين ( اللهم إني اشكوا إليك ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني على الناس ، أنت أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين ) .

 

فالشكوى إلى الله لا تنافي الصبر ولا الرضا ، بل إنه يحب من يشكو ما به إليه ، ويمقت من يشكوه إلى خلقه.  

 

 

 

هي الأيام دول

هناك من ينظر إلى قوة البغي والطغيان التي تهدد العالم على أنها قوة لا يستطيع أحد أن يقف في وجهها ، فيسارع إلى استرضائها وتنفيذ سياستها وما تريد ليتفادى شرها وتهديدها ، وهؤلاء يصدق فيهم قول  الله تعالى :) فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم ، يقولون نخشى أن تصيبنا دائره ( المائدة 25 .

وترى آخرين بائسين يائسين لا أمل عندهم في الخلاص من هيمنة هذا العدو ينتظر حتى يحين دوره ، كما تنتظر الشياه سكين الجزار .

أما من يؤمنون بالله واليوم الآخر وبما وعد الله ورسوله ، ويعرفون السنن التي يجريها الله في خلقه ويتصرفون من خلالها ، يغالبون قدراً بقدر ، حتى يأتي نصر الله الذي وعَد عباده متمثلين قول الله تعالى :)فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمرٍ من عنده ( المائدة52  ،  مؤمنين بأن علو أمريكا إنما هو دورة من دورات الزمن ، وأن الزمن لن يقف عند هذا الحد ، وأن التاريخ لن ينتهي لصالحها ، بل ستمر دورات ودورات تحقيقاً لقول الله تعالى : ) وتلك الأيام نداولها بين الناس ( آل عمران 140 . بالرجوع سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم مَنْ كان يظن في ظل موازين القوى في بداية الدعوة بين فريقين ، فريق قويٌّ مسيطر يملك كل شيء ، وآخر ضعيف مستعبد لا يملك شيئاً ومع ذلك كان له من القوة والعزّة والمنعة ما ساد ثلاثة أرباع العالم ، فتحقق ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه في مكة فيبل الفتح ، عندما قال بعضهم من شدّة ما يلاقي من الأذى ولا يجد ما يكف به ذلك ، ألا تستنصر لنا ؟ ألا تدعو الله لنا ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( والله ليتمنَّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون ) رواه البخاري .  طلب هذا الصحابي ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى شدّة التباين في موازين القوى بين معسكر الإيمان الضعيف مادياً في ذلك الزمان ، وبين معسكر الكفر القوي مادياً ورأى من خلال المقاييس والحسابات المادية والتصورات العقلية أنه ليس بإمكان المسلمين النصر على العدو ، وأن ذلك لا يمكن حدوثه إلا من خلال عقوبة إلهية   فطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم الدعاء والاستنصار ، وكان موقف الرسول صلى الله عليه وسلم  من هذا التصور الذي قد يدفع بعض الناس إلى الإحباط وفقدان الأمل يتمثل في أمرين : التبشير بالنصر والتمكين وغلبة الحق وأهله   واندحار الباطل وجنده لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ( والله ليتمنَّ هذا الأمر )  دعوته بعدم الاستعجال حيث ينبغي عليهم الصبر والتحمل والعمل والجد والاجتهاد لذا قال صلى الله عليه وسلم ( ولكنكم تستعجلون ) .

وهذا ما ينبغي علينا فعله اليوم إزاء تكبّر الأعداء وطغيانهم ، أن نبشر هذه الأمة بان النصر سيكون حليفها وإن طال الزمان ، وعلى الباغي تدور الدوائر وأن ندعوهم إلى العمل الصالح والإيمان الصادق ، والجد والاجتهاد ورفع لواء الجهاد قال تعالى:) وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة( الأنفال 60  

وهذا الموقف ينطلق من فهمٍ لما يعنيه قوله تعالى: ) وتلك الأيام نداولها بين الناس(  . أي أن النصر والغلبة في الحروب تكون تارة للمؤمنين على الكافرين ، وتارة للكافرين على المؤمنين   وذلك كله يجري بأسبابه التي قدّرها الله في إطار المشيئة الربانية التي لها حِكماً عديدة من وراء علو الكافرين أحياناً ، وتسلطهم على المسلمين .

إن غلبة الكافرين للمسلمين ترجع إلى معصية المسلمين لربهم ، فعندما عصى المسلمون ربهم وانتشرت بينهم المعاصي بغير نكير منهم ، عاقبهم الله بذلك واظهر عليهم الكافرين جزاء ما فعلوا ، وقد دلت النصوص على أن المؤمنين منصورون غالبون قاهرون مهما كانت قوتهم ، ومهما اختلت موازين القوى لصالح الكفار ، وذلك إذا أخذ المؤمنون بأسباب القوة ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا ولم يقصّروا في امتلاك القوة التي يمكنهم امتلاكها قال تعالى:)وإن جندنا لهم الغالبون(الصافات153 وقال تعالى:)إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ( غافر 51  ،   وكان عمر بن الخطاب يحذِّر جيوشه المنطلقة للقتال في سبيل الله من الوقوع في المعاصي ويقول لهم : " إن أهم أمركم عندي الصلاة " أخرجه مالك  .  وقد بين ابن رواحه أن المسلمين لا ينتصرون على عدوهم بعدد أو عدة وإنما ينتصرون بطاعة المسلمين لله ومعصية الكافرين له ، ويقول عندما استشاره زيد في لقاء الروم بعد أن جمعوا جموعاً كثيرة :" لسنا نقاتلهم بعدد ولا عدة والرأي المسير إليهم ". وكانت الجيوش الإسلامية التي يبلغ تعدادها ما بين ثلاثة إلى خمسة آلاف تقاتل الجيوش الكافرة التي تزيد على مائتين وخمسين ألفا ، ثم يكون النصر حليف المسلمين قال تعالى:) كم من فئةٍ قليلة غلبت فئةً كثيرة بإذن الله ( البقرة 249 . ثم يعقب الله بقوله )والله مع الصابرين(  والصبر هنا وفي مثله من المواضع ، ليس هو الصبر الذي يفهمه كثير من الناس اليوم بمعنى الإذعان للواقع والاستكانة للظلمة المتجبرين ، لأن من هذا حاله فإن الله لا يكون معه .  وإنما الصبر المراد هنا هو تحمل المشاق في الدعوة إلى الله والعمل الصالح رجاء ما عند الله من المثوبة  وقد بين العلماء أن النصر والظفر قرين الطاعة ، جاء في زاد المسير في قوله تعالى : ) وتلك الأيام نداولها ( معنى نداولها أي نجعل الدولة في وقت للكفار على المؤمنين إذا عصى المؤمنون ، فأما إذا أطاعوا فهم منصورون  . 

وقال القرطبي : قيل هذا في الحرب تكون مرّة للمؤمنين ينصر الله دينه ، ومرّه للكافرين إذا عصى المؤمنون ليبتليهم وليمحص ذنوبهم ، فأما إذا لم يعصوا فإن حزب الله هم الغالبون ، ومن هنا يتبين أن الجيش المقاتل في سبيل الله عليه أن يحرص على الطاعات والبعد عن الوقوع في المعاصي . ولله في ذلك حكمه ظهر أكثرها فيما ورد من الآيات التي عالجت عزوة أحد والتي نصر فيها الكفار على المسلمين بسبب مخالفتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا بسبب ضعفهم أو قلتهم قال تعالى) أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم (آل عمران 165.   بين أن ما لحق بهم كان لمعصيتهم بعد ما لاحت بشائر النصر . وقد ذكر ابن القيم ما فهمه من الحكم المتعلقة بمداولة الأيام بين الناس في كتابه زاد المعاد نذكر منه باختصار :  أن من الحِكَمْ والغايات المحمودة في ذلك تعريف المسلمين سؤ عاقبة المعصية والفشل والتنازع ، وأن هذا أشد عليهم من أسلحة أعدائهم .

 ومنها : أن الله لو نصر المؤمنين في كل موقف وكل موقعة ، فلربما طغت نفوس أكثر الناس وبغوا في الأرض ، ووقع في نفوسهم أن النصر من عندهم وليس من عند الله .

ومنها : أن الله إذا امتحنهم بالهزيمة ذلوا وانكسروا وتضرعوا إلى الله ، فيستوجبون بذلك من الله النصر والعز .

ومنها : أن الله سبحانه إذا أراد أن يهلك أعدائه قيض لهم الأسباب التي يستوجبون بها الهلاك : ومن أعظمها بعد كفرهم بغيهم وطغيانهم ومبالغتهم في أذى أوليائه ومحاربتهم وقتالهم ، فيكون ذلك سبباً في تعجيل العذاب لهم في الدنيا كما قال تعالى في بيان الحكمة من غلبة الكفار) وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين

دسيلكتمس  آل عمران 149 . قال ابن كثير في قوله تعالى ويمحق الكافرين أي إذا ظفروا بغوا وبطروا فيطغون فيكون ذلك  سبب دمارهم وهلاكهم ومحقهم وفنائهم .

 إن تسلط الكفار على المسلمين لن يدوم ، فهو ابتلاء من الله وأن على المسلمين أن يأخذوا بأسباب النصر والتمكين ، الذي وعد به عباده المؤمنين قال تعالى:) وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفهم في الأرض( النور 55 . وقال صلى الله عليه وسلم : ( إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها  ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوى منها  ) نسأل  الله أن يجعل ذلك قريباً .

 

 

لا طاعة لظالم

   قال تعالى : ﴿ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كفُورًا ﴾ لقد جاء النهي طاعة الظالمين والمفسدين مهما علت منزلتهم ومكانتهم ، ولا طاعة لهم في معصية لقول رسول الله  صلى الله عليه وسلم : ( السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة ) متفق عليه. .

إن الدين الإسلامي لا يقر الظلم ولا البغي ولا يقر التسلط على الناس بأي شكل من الأشكال، وأن الواجب على كل مسلم  الوقوف مع الحق وأهله ومجابهة الظلم والطغيان والاستبداد، وعدم مساندة الظلمة والطغاة  قال تعالى: ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً ﴾ النساء105،وقال تعالى: ﴿ قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ ﴾ القصص 17، ولا يجوز بحال من الأحوال أن يبيع المسلم دينه بدنيا غيره، أو أن يتخلى عن شرفه ومروءته وأخلاقه ، من أجل مالٍ قليل ، أو جاه زائل أو منصب لا يدوم ، والمسلم الحق هو من أسلم وجهه لله ، فأحب لله ، وأبغض لله ، وأعطى لله ، ومنع لله وغضب لله ، ورضي لله؛ امتثالاً لقول الله تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾  وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (من أَحَبَّ لِلَّهِ وَأَبْغَضَ لِلَّهِ وَأَعْطَى لِلَّهِ وَمَنَعَ لِلَّهِ فَقَدْ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ) أبو داود . وقد تبرأ الرسول صلى الله عليه وسلم ممن يناصر الظالمين ، عن كعب بن عجرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(أعيذك بالله يا كعب من أمراء يكونون من بعدي، فمن غشي أبوابهم فصدقهم في كذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه ولا يرد عليَّ الحوض، ومن غشي أبوابهم أو لم يغش فلم يصدقهم في كذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه وسيرد عليًّ الحوض)رواه الترمذي والنسائي وصححه الألباني . لقد كانت ظاهرة التعاون على الإثم والعدوان ومناصرة الظالمين عادة جاهلية فهذا شاعرهم يقول:    

وما أنا إلا من غزيةَ إن غوت  غويتُ وإن ترشد غزية أرشدِ

 وها هي تسود هذه الأيام من قبل من يُسخَّرون لقلب الحقائق، وإبطال الحق، وإحقاق الباطل  وإشاعة الكذب، وتحريف الكلم عن مواضعه  متناسين أن الحق حق مطلوب ، وأن الباطل باطل مرفوض ، ولا يجوز أن  نزينُ الباطل أو نقلب الحقائق لخدمة الغير ، قال تعالى: ﴿ وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا ﴾ ينهانا الله أن نجادلَ عن الخائنين  وأن نقنعَ الناس بأن باطَلهم حق، طلباً لمصلحة أو الحصول على منفعة ، لأن  مصلحةَ الوقوف مع الحق أعظمُ من كل مصلحة ومنفعة ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أوصانا ألا نكون عوناً للظلمة فقال: (مَنْ أَعَانَ ظَالِماً لِيُدْحِضَ بِبَاطِلِهِ حَقّاً فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ ذِمَّةُ الله وَذِمَّةُ رَسُولِهِ) أخرجه الحاكم وقال: صحيح الإسناد. ولخطورة مساعدة الظالم في ظلمه فقد حذرنا الله من ذلك فقال تعالى: ﴿ وَقَدْ نزلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ﴾ النساء 140   قال القرطبي في التفسير: دلت الآية على وجوب اجتناب أصحاب المعاصي إذا ظهر منهم منكر، لأن من لم يتجنبهم فقد رضي بفعلهم، والرضا بالكفر كفر وبالمنكر منكر؛ لذلك قال الله تعالى: ﴿ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ ﴾؛ فكل من جلس في مجلس معصية ولم ينكر عليهم يكون معهم في الوزر سواء ، فينبغي على كل مسلم يريد أن يخلص نفسه من عذاب الله أن ينكر على من تكلموا بالمعصية وعملوا بها، فإن لم يقدر على النكير عليهم ، فينبغي أن يقوم عنهم حتى لا يكون منهم ، كما حذر الله من الركون إلى الظالمين فقال تعالى: ﴿ وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ﴾ هود 113  والركون يعني: المجاملة والمداهنة، والميل إليهم بالمحبة والمودة، وآفة الدنيا هي الركون للظالمين  لأن الركون إليهم إنما يشجعهم على التمادي في الظلم ، وأدنى مراتب الركون إلى الظالم ألا تمنعه من ظلم غيره، وأعلى مراتب الركون إلى الظالم أن تزين له وللناس هذا الظلم .

جاء خياطٌ إلى سفيان الثوري فقال: إني رجل أخيط ثياب السلطان (وكان السلطان ظالمًا)، هل أنا من أعوان الظلمة؟ فقال سفيان: بل أنت من الظلمة أنفسهم، ولكن أعوان الظلمة من يبيع منك الإبرة والخيوط..!! وجاء في الأثر: "إذا كان يوم القيامة قيل: أين الظلمة وأعوانهم؟  أو قال: وأشباههم  فيُجمعون في توابيت من نار ثم يقذف بهم في النار".

 فعلى المسلم الحذر والابتعاد عن الظلم والدخول على الظَّلَمة ومخالطتهم ومساعدتهم ومداهنتهم؛ لئلا يحل به العذاب قال تعالى: ﴿ولاتكن للخائنين خصيماً ﴾  فإذا رأيت إنساناً خائناً لدينه أو لوطنه وشعبه وأمته ،أو لكل القيم الوطنية والأخلاقية   فلا تدافع عنه ، حتى ولو كان قريبك أو صديقك    لأن المسلم لا يمكن له أن ينسجم مع الخيانة بكل أشكالها ، سواء كانت خيانة دينية أو سياسية أو اجتماعية أو أمنية أو في أي مجال ٍمن مجالات الحياة    ويقول تعالى في آية أخرى ﴿ ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم ﴾ إي لا تدافع عن هؤلاء السارقين والمختلسين والخونة في خياناتهم وسرقاتهم واختلاساتهم ، فديننا الإسلامي يحارب الطغاة والبغاة والظلم والظلمة، قال تعالى: ﴿ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ آل عمران 57 وجاء في الحديث القدسي الذي يرويه  صلى الله عليه وسلم عن رب العزة :(يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً ، فلا تظالموا)رواه مسلم.

فمن يدافع عن الظلمة والظلم، كمن يهدم الإسلام فقد ورد عن زياد بن حدير قال : قال لي عمر :هل تعرف ما يهدم الإسلام ؟ قال: قلت : لا  قال : يهدمه زلة العالم ،وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلّين"رواه الدرامي وصححه الألباني في تعليقه على مشكاة المصابيح1/57. ولا يجوز للمسلم أن يغض الطرف عن جرائم الحكام الظلمة في حق شعوبهم وأوطانهم وأن يكون مدافعاً عن الذين سيطروا على خيرات الأمة ونهبوها    وسلخوا الأمة عن دينها وعقيدتها، واستوردوا الأنظمة الوضعية ، وسلطوا أجهزتهم الأمنية القمعية على شعوبهم فسامتهم سوء العذاب، وارتكبوا المجازر في حق شعوبهم  وغير ذلك من الفساد والإفساد، والظلم والاستبداد، الذي حاربه الإسلام محاربةً شديدةً، ونعى على الظلمة والفاسدين والمفسدين، ومن يستعرض النصوص في كتاب الله عز وجل وسنة النبي صلى الله عليه وسلم يرى صدق ذلك ، قال تعالى: ﴿ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ ﴾ البقرة 205، وقال تعالى: ﴿ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾ المائدة الآية64 ، ومن يصفون ما يجري من ثورة على الظلمة ، بأنها فتنة ويحتجون بأحاديث الفتن ، ونسوا أو تناسوا أن ما يجري ما هو إلا صراع ضد الظلم وضد الطغيان الذي أمر الإسلام بإزالته والخلاص منه ، قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ ﴾ الشورى 39، وقال تعالى:﴿  وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ ﴾ الشورى 41 وعن ابن عمر عن النبي  صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم يا ظالم، فقد تُودع منهم )رواه الحاكم وقال صحيح الإسناد  .

 

 

 

 

 

معاناة الأمة الإسلامية 

قال تعالى :{ فأعرض عمّن تولى عن ذِكْرِنا ، ولم يُرِد إلا الحياة الدُنيا، ذلك مَبْلَغُهُم من العلم ، إن ربك هو أعْلم بمن ضلَّ عن سبيله ، وهو أعْلم بمن اهتدى }النجم 29 . إن المعاناة التي تواجه أمتنا هذه الأيام   هي أكبر وأخطر مأساة في التاريخ ، والخروج منها لا يكون إلا بمواجهة الواقع الأليم الذي تعيشه أمتنا   حيث التضليل والتهتك والتفكك ، والفساد والإلحاد والانهزام والفجور،  مما جعلنا غرضاً سهلاً ، وهدفاً هشاً للأعداء .

 لقد رفعنا كلَّ الشعارات هذه الأيام ، إلا شعار الجهاد لتحرير ما سلب من البلاد والمقدسات  ، وأصبحنا نلمس أن الأمة مخدرة منهوكة ، وكأنها أُعدت للهزيمة والعار ، حتى فقدت النخوة والأمل ، والقدرة على الإحساس بالذل ، و أصبحت عاجزة  ، لا إيمان ولا قيادة ولا إعداد ، حتى أن القائمين على أمرها    نسجوا من الهزيمة أساطير النصر، رغم الواقع الأسود الذي يحمل في طياته الخزي والعار ، ولا أدل على ذلك من أن العدو يعتقل ويقتل ، والسكوت يخيم على قادة الأمة وزعمائها ،وكأن الذين يُقْتلون ويُجْرحون    ليسوا من جلدتنا ولا من بني ديننا ، علماً بأنه لا توجدُ شريعة من الشرائع ، ولا سُنّة من السنن ، تجيز الاعتداء على الإنسان الآمن في بيته ، فيفجعُ فيه أهله ، لا لشيء ، إلا لأن الرأي العالمي ، يقف مع القوي ضد الضعيف .

 ومن هنا جاء الإسلام ، ليقضي على مثل هذه الهمجية والوحشية ، التي يزعمون بأنها حق لهم   فشرع الجهاد لتحقق هذه الغاية ، وليدفع  الظلم والجور، ويستل من القلوب الأحقاد ، ثم يملأها بعد ذلك محبةً ورحمةً ، ليعيش الناس في سعادة وهناء ، لا ليقتلوا الأبرياء العزّل ، بدافع  الغطرسة والانتقا .                                                                                    

إننا لم  نتعظ ولم نستيقظ من نومنا ، حتى ساوم الانهزاميون والانتهازيون والمتآمرون ، على قدر الأمة وشرفها ومصيرها ، وليس ذلك بمستغرب ، لأن من فرّط بإيمانه بربه ، يسهلُ عليه إن يفرَّط في أرضه ، وعرضه وشرفه وحريته ، حتى أصبحنا لا نستبعد ، أن العدو زرع في كل بلدٍ وكالةً ، بأسماء عربية وأقلام عربية  مهمتها إيقاظ الفتن ، وبث الفساد وتمزيق شمل الأمة ، وتفتيت خلفيتها الدينية ، وتدمير قاعدتها الفكرية .

إننا حين تنكرنا لعقيدتنا ، هُزِمنا في معاركنا شرَّ هزيمة ، هزمونا بهويتهم الزائفة ، حين أنكرنا هويتنا الأصلية  وسلكنا طريق الهتاف والتصفيق ، وتبرير الظلم والهزيمة ، وتمجيد الظالمين وغض الطرف عن أخطاء الحاكمين والمحتلين ، الذين ينسجون خيوط المؤامرات ، فوق أراضينا وبين صفوفنا ، عملاءً للعدو، وآذاناً صاغية لهم .

 إن الدعوة لإسدال الستار على باب الجهاد في الإسلام ، هو الذي مهد للعدو سبيل النصر ، وشحنه بطاقات التجمع ، والاقتحام حتى غَزونا وطردونا ودكوا حصوننا ، فراح فريق من الأمة يدعو إلى العلمانية وحرِّية الإلحاد ، ويزعمون أنهم حماة هذه الأمة ، الحريصون على مصالحها ومستقبلها ، وهم في حقيقتهم الذين يخططون للأمة متاهات الضياع ، ويرسمون لها مفازات التمزيق والتبدد ، وعمل دعاة الخيانة والغش عملهم ، حتى أصبح الإسلام اسماً لغير مسمى ، وانفتح الباب على مصراعيه للغزو الفكري الغربي ، المعادي للإسلام والمسلمين ، مما مهد للغزو السياسي والعسكري  الذي شتت شمل الأمة الإسلامية ، والتي كانت دولة واحدة بلا حدود ، فتقطعت أوصالها ، إلى دويلات هزلية ، ليسهل استغلالها ، بعد تقويض الجامع الذي يجمعها وهو الدين ، حتى أن اتهام هذه الدويلات بالتخلف والجمود اتهام صادق ، لأن المسلمين فيها لا يمثلون حقيقة الإسلام ، الذي يخاف أعداء الإسلام ، من تبنية وتطبيقه ، لأنه يفقه قوانينهم الوضعية  ويُثْبِتُ فشلها ،  لقد تأثر نفر من أبنائنا ، الذين نشأوا في أحضان الغرب ، وأقسام الدراسات الشرقية في جامعاتهم  والتي يتولى فيها أساتذة يهود تدريس تاريخ الإسلام ، وعقيدته وشريعته ، فيزرعون في نفوسهم مختلف الشكوك والشبهات ، والأكاذيب والتحريفات ، فيعودوا وهم أشد عداوةً لدينهم ، وكثيراً ما يصل بعضهم ، إلى المراكز القيادية ، ليسوقوا أمتهم الى الهزيمة والعار ، لانحرافهم في تيار الشبهات والأكاذيب   التي تلقوها على أيدي أساتذة يهود في الجامعات الغربية . فرجعوا لا يعرفون عن الإسلام من مبادئ وقيم  إلا بما هو سائدٌ في ديار الإسلام ، من ضياعٍ وفراغ ، وجهلٍ وتهتك وفجور، حتى أوهموا بعض الناس ، بأن لا سبيل إلى النهوض ، إلا بالانسلاخ عن الدين مصدر قوتهم وعزتهم .

 وكان من نتيجة ذلك ، أن انطوت الشريعة وتقلصت ، واقتصرت في معظمها ، على تنظيم الأحوال الشخصية ، واقتصر نفر من المسلمين على البحث في سنن النبي صلى الله عليه وسلم، كيف كان يأكل ويشرب ويلبس  ويمشي ويتحدث ،كأنهم من الدنيا في قانون المائدة ، وآداب الولائم .

 أما الحقيقة الكبرى ، وهي كيف كان يقاتل ، ويحارب لهداية الخلق ، وكيف كان يسمو على الدنيا وشهواتها وكيف يتوجه المسلم في تنظيم شؤون الحياة ، الاجتماعية والاقتصادية ونظام الحكم  وهذا من صلب تعاليم ديننا ، والذي يخطط الأعداء لإبعادنا عنه ، وغض الطرف عن التمسك بالقشور بل ويشجعوننا على ذلك  إننا نمالئ من جرعونا كأس الذل والهوان ، ونرتمي في أحضانهم ، ولا نقوى على الجهر بالحقيقة التي نؤمن بها  رغم إيماننا بأن العقيدة ، هي التي أعزنا الله بها ،في كل معاركنا على مدار التاريخ فانتصرنا   وأذلنا الله حين تركناها .   لقد أخذنا الأفكار الوافدة ، التي نخرت عظام الأمة ، وفتت في عضدها ، وقضت على كرامتها   وشلت طاقاتها ، حتى أصبحت أمثولة التاريخ ، في الذل والهوان ، قال صلى الله عليه وسلم (كفى بقوم ضلاله أن يرغبوا عما جاء به نبيهم إليهم ، إلى ما جاء به غيره إلى غيرهم ). ثم تلا قوله تعالى: {أولم يَكْفِهمْ أنا أنزلنا عليك الكتاب يُتْلى عليهم ، إنّ في ذلك لرحمةً وذكْرى لقوم يؤمنون}.العنكبوت 51

 ومن هنا لا بد من الإيمان ، لأنه تكليف وامتحان ، واحتقار للحياة في سبيل مرضاة الله  ، ومن لم يحمل تكاليفها، فليس بصادق ولا مخلص ولا أمين ، بل ليس مسلماً حقاً ، إلا بهويةٍ وشهادةِ ميلاد   مهما صلى وزكى وصام .

إن معيار النصر يكمن في حماية الأصالة وحفظ الذاتية ، والدفاع عن المقدسات ، وتحويل مبادئ الإسلام إلى إيمان وجهاد ، ولو التزم المسلمون بمبادئ هذا الدين ، لما وهنوا ولما هانوا ولا ذلوا ، ولا استجاروا بالأعداء ، ولا تمرغوا على أعتاب الطواغيت ، ولكانت نكبتهم منطلقاً إلى ترسيخ إيمانهم بربهم ، وأرضهم ومقدساتهم  ، لا إلى تكريس الهزيمة والذل والاستسلام ، وكيف يقاتل من ليس له مبدأ يتمسك به ، وعقيدة يدافع عنها ، وهل يقاتل من هذا حاله إلا مكرها ، ومن يقاتل مكرهاً يكون مهياءً للهزيمة ، ولو تسلح بالقنابل الذرية والصواريخ .

إن على الأمة المسلمة أن تعلم عدوها ماكر وخبيث ، وعليها أن تتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم(إن جبريل أخبرني أن أمتي مختلفة ، قلت : فما المخرج ؟ قال : كتاب الله ). إنه لنصح عظيم من رسول الله صلى الله عليه وسلم  وتوجه كريم يريد أن يقدمه لكل من أراد أن يذّكر ويعتبر ، وفي كتاب الله هذا النداء الخالد . قال تعالى :{ واعتصموا بجل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم ، إذ كنتم أعداء فالف بين قلوبكم ، فأصبحتم بنعمته إخوانا }آل عمران 103 .                      

           الترف وحب الدنيا هلاك للأمة

الترف في الإسلام من كبائر الإثم ، وهو من أهم أسباب سقوط الدول وهلاكها قال تعالى: ﴿ وإذا أردنا أن نهلك قريةً ، أمرنا مترفيها ففسقوا فيها  فحق عليها القول فدمرناها تدميراً ﴾ الإسراء 16 . 

إن الترف قرين الظلم ، وما شاع الظلم في مجتمعٍ  إلا وكان نذيراً لعذاب الله ، وقد حدثنا القرآن الكريم عن إهلاك الله للأمم الظالمة ، بسبب ما انغمست فيه من ألوان الترف قال تعالى: ﴿ وكَم قصمنا من قَرْيَةٍ كانت ظالمةً  وأنشأنا بعدها قَوْماً آخرين ، فلما أحسُّوا بأسنا إذا هم منها يَرْكُضُون ، لا تَرْكُضوا وأرجعوا إلى ما أُترفتُمْ فيه ، ومساكِنِكُمْ لعلكم تُسألون﴾ الأنبياء 11. ومن ألوان الترف والفسق ، انتشار الحانات والمراقص  وانتشار البغاء والسهر النجس في النوادي الليلية ، حتى أصبح الناس عبيداً لشهواتهم ، يهتمون بتلبية رغباتهم الدنيوية ، مهما كلفهم ذلك ، ولو كان على حساب دينهم .  هذا في مجال السهر ، أما في مجال الفكر ، فهناك فريق من الكتاب والصحفيين  والمبشرين ، الذين ساعدوا على انهيار المجتمع الإسلامي ، وصوغ أفكار الشباب التي لا تعدو ذلك العبث الصبياني ، في اصطياد امرأة وإجابة نزوة ، وإهاجة الغرائز السافلة ، وتمريغ كرامة الشباب في الوحل ، حتى انهارت الرجولة أمام طوفان اللذائذ الحيوانية ، وهي الأهداف التي يسعى الغرب لترسيخها ، ويسخِّر كل طاقاته في نشرها وما لم نستكبر على هذه الرغبات ، ونطرحها وراء ظهورنا ونتبع تعاليم ديننا ، فلن تصلح لنا حياة  ولن تسلم لنا كرامة .  إن الأفلام والمسلسلات الداعرة ، التي لا ينقطع لها توجيه فاسد في أغلب صحفنا ، قد ساهمت في انتشار الخلاعة ، التي فتكت بأبنائنا ، وتزداد مقاديرها ، بقدر ما تزودونا بها مصادر التوجيه ، من صحافة وإذاعة ومسرح  في وقت تقل فيه أسباب المناعة الدينية .

إن الشباب المختالين في أزيائهم ، المشغوفين بلذائذهم من أشباه الرجال ، لن يستطيعوا أن ينهضوا بأمتهم ويقودوا السفينة إلى برِّ الأمان ، وإن أمةً تركز جلَّ اهتمامها وإعلامها ، على برامج الترفيه والتسلية ، وإقامة المهرجانات الغنائية هنا وهناك ، للترفيه على الحان الموسيقى وأصوات الغناء  من مغنٍّ يجهل ربه ، ويشرب الخمر كما يشرب الماء وينظر إلى النساء نظرة السوائم إلى الكلأ المباح  وبتلك المشاعر يغني ويتأوه ، ويتلوى أمام الجماهير  في هذه المهرجانات التي نستطيع أن نقول ، بأنها عبارة عن أماكن لغو ولهو، والأغاني التي تعتمد في كلماتها ، وتلحينها وأدائها على هذا النفر من الناس ، الذين يسمون فنانين ، وهم في حقيقتهم عباد شهوات . أما الناس الذين يأتون ليستمعون  فهم فئة  تسمع ما يضرها ولا ينفعها ، يجلسون وقد ترادفت صرخاتهم ، وتلامست أجسامهم في غيبوبة عقلية ، وتخدير جنسي . حتى أن المغنين يكتبون أغنياتهم ، لتتوافق مع حركات صوتيه معينة  تقوم بها النساء المغنيات ، لبعث النشوة الجنسية لدى السامعين ، فترى المغنية تتمايع وتتأوه ، حتى تصل إلى درجة مقرفة ، لا تليق بالأنثى ولا بالرجل. أما في التلفزيون وما يبث من الأغاني الخليعة ، وما يعرض من أفلام ، تهدف في مجموعها إلى شيء واحد ، هو إبراز الأنوثة العارية الطاغية  بإظهار المفاتن الجسدية عند النساء ، حتى أن موضوع القصة ومغزاها لا يهم عندهم ، بقدر ما يهمهم من مفاتن الفنانات .  لهذا نجد المشرفين على هذه الأعمال ، يبذلون أقصى الجهد لتأمين الفتيات الجميلات ، التي يطلب منها أن تقوم بأدوار تظهر فتنهن ، وهن يتحدثن عن الحبيب الهاجر والعاشق القاسي ، وذلك يعرض على شاشة التلفزيون ، أمام المراهقين والمراهقات من فتياتنا  فضيحةً وجريمةً باسم  القانون ، لتُملْأ البلادُ ميوعةً وتخنثاً ، وتدهوراً وانحلال .

 إن مواقف الإثارة ، قد يسعى الشباب إلى تمثيلها في واقع الحياة ،  وترديد الأغاني المبتذلة الفاجرة لاستهواء الفتيات .  كما أن آثار الحفلات الداعرة والصور العارية والرقص الخليع ، تترسب في أعماق هؤلاء الفتيان ، تجذبهم نحو البحث عن اللذات الشهوانية من أي طريق . أما ما يعرض من تمثيليات ، فإنها كلهَّا تعتمد على اللغو الموصول  وتسميم المشاعر والأفكار ، إذ تدور غالب موضوعاتها ، حول الحب والزواج والطلاق ، أو عرض للجرائم وظروفها وكيف تتم ، لتجعل هذه المواضيع الشغل الشاغل للناس ، أما الصالات التي انتشرت هذه الأيام ، حتى أصبحت وسيلة استثمار، فحدث ولا حرج ، وهي في اعتقادي تستحق الهدم والإزالة ، لأنها تساعد على تعويد المسلمين على الاختلاط والميوعة والتهتك ، روى أن أبا مسعود ، ذهب إلى حفلة عرس دعي إليه  فما كاد يقع بصره على صورة في البيت ، حتى رجع من حيث أتى . وإذا كان هذا من أجل صورة  فما بالك بإبراز العورات ، واستفزاز الغرائز ، التي تفتك بكل أثر للإيمان والتحفظ والتقوى ، لأن تعرية الظهور والنحور ، ولف الأرداف حتى تتراقص أثناء المسير ، لتثير الفتنه وتحرك الغريزة ، وما ذلك إلا للعيون النهمة ، والذئاب المتربصة ، الذين لا تنضبط غرائزهم ، إلا بمس العصا ووقع السوط  قال تعالى : ﴿ أرأيت من أتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا ، أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون ، إن هم إلا كالأنعام بل أضل سبيلاً ﴾ الفرقان 43 .  فماذا نفعل أمام ما تطلع به علينا مصانع اللغو والإفساد ، التي تصب سمومها صباح مساء في قلب بيوتنا ، لتجردها من بقايا الحصانة الروحية . أما يسميه المذيعون برنامج ما يطلبه المستمعون ، فإنه لتجريع الناس السموم الأخلاقية لأنه مخصص لتافه الطلبات ، ورخيص الأغنيات  مما أفرح الغرب لنجاح هذا البرنامج في إفساد الأخلاق ، وكان سروره بذلك ، أكثر من سروره باستنـزاف أموالنا , ويشهد لذلك مفكروهم ، حيث يقول المبشر الأمريكي دوج : "ويلوح لي أن هوليود قد أثَّرت في الجيل الحاضر من المسلمين  أكثر من تأثير مدارسهم الدينية" . إننا لم نخسر أمجادنا ، إلا عندما فتحنا بيوتنا لسموم الأعداء  تكتسح بميوعتها صِلاتنا ، وتذيب برذائلها رجولتنا   فكانت هزيمتنا هزيمة الأخلاق والعقائد ، قبل أن تكون هزيمة المعارك .  يذكر لنا التاريخ ، أن المعز الفاطمي ، ظل يتهيب الإقدام على غزو مصر  حتى جاءته الأنباء متواترة عن استهتار نساء الإخشيد ، فتحرك للعمل وهو يقول : "اليوم فتحت مصر" . إن استغلال محطات الإذاعة والتلفزيون ،لم تؤدِ مهمتها بما يتوافق مع ديننا الحنيف ،لأن الأداء دنيوي محضٌ ، بغير معنى ولا إخلاص ، ومن المؤسف أن يُذاع القرآنُ الكريم    أو تُتْلى بعضُ الأحاديث النبوية من هذه المحطات  ثم يعقب ذلك مباشرة ، أغنيةٌ أو رقصةٌ تفسد كل أثر للتلاوة أو الموعظة.  ألم يعلم المسلمون ؟ أن أحدَّ سلاحٍ في يدهم ، هو زهدهم عن أسباب الترف ، واكتفاؤهم بالقليل الذي ينتجونه ويملكونه واستغنائهم عن الكثير المستورد ، خصوصاً إذا كان من عند أعداء الإسلام ، علماً بأنه لا يستطيع ذلك ، إلا من حَبَس شهوته ، وأظهر عفته وأبدى غناه وكبت فاقته . أما الذين يهرعون ، حيث تطلبهم الشهوات الطارئة ، والنـزوات العابرة ، فلن يكونوا إلا عبيداً ، وهم الذين يعيش المستعمرون على أمثالهم في الأرض .  إن واجب المسؤولين والحكام ، الذين وضع الله مصاير البلاد ، ومصالح العباد في أيديهم ،واجبهم أن يسيروا بالعباد إلى بر الأمان ، وذلك لا يكون إلا بإتباع تعاليم الإسلام ورب حكمةٍ من مسئول ، تكون كالسد في طريق السيول . إن الأمة غافلةٌ عما يراد بها من كيد  نتيجة هذه الانحرافات الاجتماعية ، ومادامت في غمرة الرجفة ، فعسير إن لم نقل مستحيل أن تدرك واقعها ، ومن مصلحة الأمة أن تهيب  بالمسؤولين  أن يضغطوا على كابح القاطرة ، قبل أن تصير إلى حافة الهاوية ، وذلك يكمن في التشريع الإلهي  الذي يقول لمعاول الهدم من أصحاب الفنون الهابطة ، ارتفعوا أو دعوا فليس ، في حياة الأمم المجاهدة ، مجال لخيانة السفهاء ، وثرثرات السخفاء

 فهل أمريكة مبدعة هوليود ، ومزرعة رذائل اليهود وهل قادة الحضارة الغربية ، أكثر غيرةً على الآداب العامة من دين الإسلام ، ومن الأمة التي لا تزال تحمل للدنيا رسالتها الخالدة .

يروي التاريخ أن أحد مفكري الغرب قال بعد هزيمة بلاده :" إن سرَّ الكارثة يعود إلى الفجور ، وأصدر تشريعاً يحدد للمرأة ، قياس ثوبها وأكمامها   بشكل يستأصل دابر الفتنه" . فإذا كان هذا الاعتراف من الكفار، بأن الفجور سرَّ الكوارث  فما بالنا لا نتبع تعاليم الإسلام ، الذي يريد منا  أن نملك أنفسنا  لا أن تملكنا أنفسنا ، وأن نحكم رغباتنا لا  أن تحكمنا هي قال تعالى : ﴿ والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً ﴾.النساء 37 .

إن علينا أن نعرف للفضائل قدرها ، وأن ندرِّب أبناءنا على الارتباط بها ، وأن نُخْرس هذا الضياع الملعون ، وبذلك نبقى أُمةً تَعْرف رسالتها ، وتحظى بعناية ربها.

       

 

أين نحن من الإسلام

في ظل البعد عن مبادئ الإسلام وقيمه ، وتحكّم المناهج المعادية للإسلام   وطمع دول الكفر ببلادنا ومقدراتنا ، نجد الشكوى على لسان كل غيور ، على مصير هذه الأمة ، وما آلت إليه من بعد عن منهج الله ، وما تعانيه من الذلِّ  والقهر والاستعباد .  إننا نعيش في زمنٍ نرى فيه أعداءنا ، شديدوا التعلق بدينهم وتراثهم ، بينما نحن نزداد ابتعاداً عن ديننا وتراثنا . ناسبن أن لنا الخيرية ، على أمم الأرض قال تعالى: ﴿ كنتم خير أمةٍ أُخرجت للناس ﴾ أعداؤنا يعتبرون مخالفة عقيدتهم  وتقاليدهم وتاريخهم ، جريمةً لا تغتفر ، بينما نحن نلتزم بكل شيء عدا العقيدة والمنهج وحوافز الإيمان .  أعداؤنا اختاروا الأقليات العنصرية ، والدينية في بلادنا  عيوناً لها وأرصادا وأدواتِ تخريبٍ وهدم تحت ستار التقدمية والقومية ، ويجاهرون بالعداوات  الموروثة ضد الإسلام ، كما يعتزون بأفكار قادتهم ، بينما يوجد بيننا ، من يعتبر الدين تأخُّرٌ ورجعية ، وما يقوله تلامذة الكفر  وبطانات السوء وأسيادهم تقدمية  إننا نلمس أن عدونا ، لا يهمه الانتصار علينا  بقدر ما يهمه العمل ، على تقويض الدين   وتدمير الإسلام ، وإبعاد منهجه عن الحياة .

إن من الظلم أن نعيش في بلادٍ إسلامية ، ثم نحشى أن نجهر بكلمة الحق ، اتقاء أن يستخفَّنا السفهاء منها ، مع أن أمر الله أولى بالإتباع ، من أهواء الأفراد والجماعات ، والمطلوبٌ من المسلم أن يصدع بأمر الله ، لتغيير الواقع الأسود ، الذي لا يمكن لمؤمن ، أن يدين له بالولاء .

أعداؤنا يتآمرون علينا ، ومن بيننا من يُعِدُّ لهم أرضية التآمر . 

تلك هي أحوال المسلمين اليوم ، فهل هناك ضياع ، يشبه هذا الضياع ؟

إننا نطلب من العالم أن يحترمنا ، ويتفهم قضيتنا  ولكن أية قضية …؟ أهي قضية الأمة المصيرية ؟ أم قضايا المصالح  المتعددة ، بتعدد القادة والزعماء

إن حالة الأمة ، وما هي عليه ، يذكرني بما جاء في إرشاد الأريب ، لياقوت الحموي قال :" إن أحد التجار ، كتب إلى السلطان فخر الدين  يطلب الوزارة  وأرسل مع الكتاب ثمانية آلاف درهم ، ولكن الوزير الذي يشغل الوزارة ، دفع تسعة آلاف ، ليبقى في سدة الحكم ، فأشرك السلطان كليهما في الوزارة ، ورتب أمورهما  على أن يجلسا في مكانٍ واحد ، فيكون التوقيع لأحدهما ، والختم للآخر  وحينما عمَّ الفساد  وأصبحت الشرطة تهاب العصاة والمتمردين   الذين تمادى أذاهم على أمن الدولة ، والافتراء على مذاهب الأمة ، لجأ السلطان إلى اختيار واحدٍ من رؤوس العصاة  وجعله آمراً على الشرطة " .

هذه هي أحوال المسلمين في العالم اليوم ، حكمُ عَضُوضٌ ، المنتفعون به لا يسأمونه ، والرازحون تحته لا ينكرونه ، تقام الدنيا وتقعد ، وتهتز الأرض ، حين يوجه نقدٌ لحاكمٍ أو لنظام حكمه ، بينما لا تهتزُ شعرة واحدة ، إذا هوجم الدين  وتعرض الله وكتابه وسنة نبيه ، للسب والنقد والإهانة .

كلُّهم ينشد السلامة ، ولو على حساب ضياع الدين ، وذل الآخرين . فما المخرج إذن ؟  إنه الخلاص ، الذي يكمن في الإيمان بدل الكفر  وفي مخافة الله ، بدل مخافة القادة والحكام ، وفي الجهاد لتكون كلمة الله العليا ، بدل الركون إلى الجبن ، والدعة والكسل .   وهنا قد يقول قائل : من المستحيل أن يجتمع شتات هذه الأمة ، على اختلاف الأفكار والأمزجة ، وهذا بالطبع من باب التشاؤم ، الذي لا يجوز ، لأن الإيمان والتشاؤم لا يجتمعان  وكيف يكون متشائماً ؟ من آمن بالله وقضائه وقدره . كان الواحد من أسلافنا ، يلقى الجيش فيستخف بوعيده لوعيد الله ، ويمضي لا يلوي على شيء  لأنه يؤمن أن حياته موصولة ، وأنه إنما ينتقل من دنيا الفناء ، إلى دنيا البقاء .

إن كل مؤمن بالله ، يفتدي نفسه ، من أجل إقامة المنهج ، ولا أقل من أن يجاهد المرء بلسانه ، عائذاً بالله من الخيبة ، أما الهيبة فلا هيبة ، ومن عرف نفسه وعرف حقه ، هانت عنده الدنيا بما رحبت .

إن أوضاع المسلمين في هذا العالم سيئة ، بينما الأعداء في وضع جيد ، فهم يحققون كل يومٍ كسباً . ونحن نحمل كلَّ يومٍ خِزيا ، عدونا لا يقبل إلا سلما ، يفتح له المجالات المغلقة ، ويمكن له في قلب بلدنا الإسلامي ، ليمزق أجزاءه ، ويدمر وحدته . والقبول بذلك هو الاستسلام ، الذي لا يقره الإسلام ، وإن معركتنا مع عدونا لا تنتهي ، حتى يحق الحق ، ويبطل الباطل ، وإذا ما آمنا بأننا حملة الرسالة ، وآمنا بربنا ، وحملنا راية الجهاد لإعلاء كلمة الله ، استهنا بالموت ، لتوهب لنا ولأولادنا حياة العزة والكرامة . إن أمتنا أحوج ما تكون ، إلى الرجوع إلى الإسلام  في كلِّ أمر من أمورها ، مما يعزز روح الجهاد وإلا فأين نحن ؟ من صدق التوجه إلى الله ، وأين دورنا ؟ في قيادة أمم الأرض ، وأمتنا هي المرشحة لقيادة ركب الإنسانية الحائرة ، وقد انتدبها الله لهذه المهمة ، وهي جديرةٌ بذلك لأنها تملك عقيدةً سليمةً صائبة ، وديناً قيّما  وهي حاملة لواء خاتمة الرسالات السماوية  التي فيها كل الخير والسعادة للإنسانية .  وفي تاريخ أمتنا ما يؤكد على صدق ذلك  وخصوصاً جيل الصحابة  الذي استطاعت الأمة أن تطهر به الأرض ، من رجس الكفر . فقد كان الجندي منهم  المثلَ الأعلى في الدفاع عن الحق ، وما قاتل غالباً إلا انتصر .

وفي معركة القادسية ، الأمثلة الحية على صدق ذلك ، فقد طلبت القيادة الفارسية ، من سعد أن يبعث إليهم بجماعةٍ يفاوضونهم ، ليبينون لهم ماذا يريد العرب ، فأرسل إليهم واحداً ، هو المغيرة ابن شعبة .

حشد الفرس ما استطاعوا من الأبهة ، وستائر الديباج ، والوسائد المرصعة ، والجند بأبهى الثياب وأفخم الأزياء ، وجاء المغيرة بثيابه المرقعة  وعندما أرادوا نزع سلاحه ، أبى وثار في وجوههم ، فتركوه يدخل كما هو ، فأقبل يطأ على هذه البسط ، وهذه الوسائد مزدرياً لها  كيف لا وقد تعلموا أن العظمة هي لله وحده  ولا أحد غيره ، وأن متاع الدنيا زائل ، حتى بلغ سرير رستم فجلس عليه   فطارت عقولهم وصاحوا به ، فقال المغيرة : " يا معشر العجم   قد كانت تبلغنا عنكم الأحلام ، ونحسب أن لكم عقولا ، فالآن عرفت أنكم لا عقول لكم   وأنكم ترضون أن تكونوا عبيداً لإمرائكم ، ونحن لا فرق فينا ، بين أمير ومأمور  بل الأمير فينا  هو أكثر الناس عملاً ، وأثقلهم حملاً ، لأن الأمارة فينا ، واجبٌ وتكليف ، لا لذةٌ وتشريف …فتركوه ، فقال له رستم : إننا نعلم سوء حالكم  وفقركم واقفار بلادكم ، وإنكم كنتم تأتوننا سائلين راغبين ، وإنني سأعطي لكل واحدٍ منكم  حمل بعيره قمحاً وتمرا ، وأعفو عن جرأتكم علينا ، قال المغيرة : " لقد كنا على شرٍّ مما ذكرت  وكنا نأكل من الجوع ، الحشرات والهوام ، وكان أحدنا يقتل ابن عمه ليسلبه ماله ، وكنا أهل جهالة وضلالة  ولكن الله بعث فينا نبياً أرشدنا إلى طريق الهدى ، ودلنا على أبواب الخير  فألف الله به بين قلوبنا ، وأنار به عقولنا ، وأثار به هممنا " .

ومضى يشرح له مزايا الإسلام ، وأراد رستم أن يداعبه ، وأشار إلى سيفه محتقراً  وجاء بسيفٍ مرصَّعٍ باللآلئ والجواهر ، وقال : خذ هذا بدله ، فسلَّ المغيرة سيفه ، وضرب به سيف رستم فقطعه ، وقال الآن .. إما الإسلام أو الجزية أو الحرب  فغضب رستم وقال له : لولا أنك رسولٌ لقتلتك ، ولكن غداً  سأمحوكم من الأرض محوا  وما حصل فقد خاب وعيد رستم ، ومُحِيَتْ دولة كسرى من خريطة العالم  .

نعم وإن أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم لها ، مادام في قلوبها ذلك الإيمان ، وعلى ألسنتها ذلك الهتاف . وإن الأمة التي أطاحت بعرش كسرى وقيصر ، لقادرةٌ بالإيمان ، أن تستردَّ ما اغتصب من الأرض .                         

  هذا هو الإسلام الذي يصنع الرجال ، ويصوغ العقول ، ويهذب النفوس ، إنها مدرسة القرآن التي ربت رجالاً يندر أن يجود بمثلهم الزمان  يقولُ عليٌ رضي الله عنه وقد تولى أمارة المؤمنين : أأقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين ، ثم لا أشارك المؤمنين في مكاره الزمان ؟ " والله لو شئت لكان لي من صفو هذا العسل  ولباب هذا البر ، ومناعم هذه الثياب ، ولكن هيهات أن يغلبني الهوى فأبيت مبطاناً وحولي بطونٌ غرثى  وأكبادٌ حرَّى " ،  ليست المسألة جاهاً ينشد ، ولا ترفاً يطلب ، ولا ألقاباً ينادى بها الناس .. ولكنه تحمّلٌ للمسئولية  وإحساسٌ بخطورة التبعة ، إنه لا يخادع الله ولا يخادع نفسه ، ولا يخادع جماعة المؤمنين ، فلا يرضى أن يقال عنه أمير المؤمنين ، والمؤمنون في جوعٍ وفاقة وحرمان .. فإما أن يحيا المؤمنون في أفياء هذا اللقب ، حياةً هانئة ، أو أن يذوق أمير المؤمنين ما تذوقه الرعية .   

      

 

حاجة المسلمين إلى التمسك بالعقيدة

لقد وصلت الأمة الإسلامية إلى الحضيض، في التخلف المادي ، والتأخر الفكري والانحطاط السياسي ، وحلّت العلاقات الرأسمالية محل العلاقات الإسلامية ، وتقطّعت روابط الأخوة الإسلامية   وحلّت محلها العصبية ، ولم يبق من أفكار الإسلام في هذه الأيام إلا العبادات ، إذ يجوز أن يستفتي الإسلام في نواقص الوضوء ولكنه لا يستفتي أبدا في أوضاعنا الاجتماعية ، أو الاقتصادية أو نظامنا المالي ، ولا يستفتي أبدا في أوضاعنا السياسية والقومية ، من الجائز أن يتناول الكتاب في مقالاتهم وكتبهم المؤلفة موضوع البر في الإسلام ، ولكن الحكم بالإسلام والانتصار له لا يجوز أن يمسه حديث أو قلم أو استفتاء ، فالإسلام الذي يحكم الحياة و يصرّفها ، لا يطالب ولا يشير إليه احد ، مع أن حكمة الله شاءت أن تكون قضية العقيدة هي القضية التي تتصدى لها الدعوة منذ اليوم الأول للرسالة    لأن الدعوة الإصلاحية التي تقوم على تقديم الأخلاق   وتطهير المجتمع وتزكية النفوس ، لا تؤدي الغاية التي من أجلها جاء هذا الدين ، لان الأخلاق تأتي من الدعوة إلى العقيدة ، وإلى تطبيق الإسلام بصفة عامة ولذلك حين عالجت الشريعة الإسلامية علاقة الإنسان بنفسه بالأحكام الشرعية ، والمتعلقة بالصفات الخلقية ، لم تجعل ذلك نظاما كالعبادات المعاملات ، وإنما راعت فيها تحقيق قيم معينة أمر الله بها كالصدق و الأمانة ، لذا لا يجوز العناية بالأخلاق وحدها وترك باقي الصفات ، فلا بد أن بكون معها العقائد والعبادات والمعاملات ، فلا يعتبر من كانت أخلاقه حسنة وعقيدته غير إسلامية ، أو غير قائم بالعبادات ، أو غير سائر في معاملاته حسب أحكام الشرع ، فالأمر الأساسي في الأخلاق ، أن تكون مبنية على العقيدة الإسلامية علي سبيل الوجود ، و أن يتصف بها المؤمن على أنها أوامر من الله تعالى  قال سيد قطب بهذا الخصوص في كتابه معالم في الطريق : " إن الله كان يعلم أن ليس هذا هو الطريق  وكان يعلم أن الأخلاق لا تقوم إلا على أساس من عقيدته ، تضع الموازين وتقرر القيم ، كما تقرر السلطة التي تستند إليها هذه الموازين والقيم ، والجزاء الذي تملكه هذه السلطة وتوقعه على الملتزمين و المخالفين ، وإنه قبل تقرير هذه العقيدة وتحديد هذه السلطة ، تظل القيم كلها متأرجحة ، وتظل الأخلاق التي تقوم عليها متأرجحة كذلك بلا ضابط وبلا سلطان وبلا جزاء .. و قال في نفس الكتاب : "وما كان هذا المنهج المبارك ليخلص لله  لو أن الدعوة بدأت خطواتها الأولى ، دعوة قومية أو دعوة اجتماعية أو دعوة أخلاقية ، أو رفعت أيَ شعار إلى جانب شعارها الواحد "لا إله إلا الله " إن الداعية الذي يدعو الناس للعمل على إعادة تحكيم دين الله في الأرض ويجب أن يدعوهم أولا إلى اعتناق العقيدة حتى لو كانوا يدعون الإسلام ، وتشهد لهم شهادات الميلاد بأنهم مسلمون ، يجب أن يعلموا الناس أن الإسلام هو أولا : إقرار عقيدة لا إله إلا الله بمدلولها الحقيقي وهو رد الحاكمية لله في الأمر كله ، وطرد المعتدين على السلطان بإدعاء هذا الحق لأنفسهم و إقرارها في ضمائرهم وشعائرهم ، وإقرارها في أوضاعها وواقعهم ، ولتكن هذه القضية هي أساس دعوة الناس إلى الإسلام .

إن الله حين أنزل الرسالة على رسوله  صلى الله عليه وسلم كان يريد بناء جماعة و بناء حركة و بناء عقيدة في وقت واحد ، كان يريد أن يبني الجماعة و الحركة بالعقيدة ، وأن يبني العقيدة بالجماعة و الحركة .

أما اليوم فقد قلت نسبة المسلمين الذين يرتفع ولائهم للإسلام على كل ولاء ، و المؤمنين الذين يجعلون الله ورسوله والجهاد في سبيله على رأس سلم القيم  كيف لا والرسول صلى الله عليه وسلم يقول و ذروة سنامه الجهاد .

لقد تحدت أنظمة الكفر الإسلام في أفكاره ومشاعره ، وبإيجاد الحلول للمشاكل المتجددة بالكيفية التي يرونها ، كما هاجمت المشاعر الإسلامية  والتمسك بأحكام الإسلام ، ولا منقذ لنا مما يخططون ويدبرون إلا العقيدة الإسلامية ، التي تمنحنا القوة والعزة ، لأنها تشمل نشاط الإنسان في كل مناحي الحياة ، فلا تقتصر مهمتها على اتجاه دون اتجاه ، ولا تتولى الروح وتهمل العقل والجسد أو تتولى الشعائر وتهمل الشرائع ، أو تتولى الضمير و تهمل السلوك ، أو تتولى الحياة الاجتماعية و تهمل نظام الحكم .

إنها قوة هائلة لا يتخلى عنها صاحبها إلا أن يكون به سفه أو حمق ، وقد شهد الإسلام رجالا باعوا لله وللإسلام كل ما بأيديهم ، وضحوا في سبيل عقيدتهم بكل غال ونفيس وبذلوا من أجل دعوتهم ، المال والأهل والدم و الروح ، وكان قائلهم يهتف وهو يجود بآخر أنفاسه في سبيل الله .     

ولست أبالي حين أقتل مسلما    على أي جنب كان الله في مصرعي

 لقد جاهدوا أعدائهم لم يملوا ولم يميلوا ، بل طاولوا الأيام بالصبر ، وعمروا القلوب بالذكر وطلبوا عند الله الأجر ، وظلوا أهل وفاء وفداء .

إن الأمة بحاجة ماسة إلى العقيدة ، لأنها تواجه ألوانا شتى من المشكلات ، مشكلات اجتماعية و اقتصادية وأخلاقية في الداخل ، ومشكلات دولية وعالمية في الخارج ، ونحن نواجه هذه المشكلات بحاجة إلى عقيدة تجمع قوانا وراية نقف في ظلها ، وفكرة واحدة نواجه بها الحياة و المشكلات والقوى التي تناصبنا العداء

إنها راية الإسلام التي يجب أن تحكم الحياة لأنه إذا أريد للإسلام أن يعمل فلا بد له أن يحكم ، فما جاء هذا الدين ليتروي في الصوامع والمعابد أو يستكن في القلوب والضمائر ، إنما جاء ليحكم الحياة ويصرفها ويصوغ المجتمع وفق فكرته الكاملة عن الحياة ، لا بالوعظ والإرشاد فقط بل بالتشريع والتنظيم .

جاء ليترجم مبادئه ونظرياته ، نظاما وحياة ويجعل أوامره ونواهيه ، مجتمعا حيا ، يمثلون بسلوكهم ونظام حياتهم ، وعلاقات مجتمعهم و شكل حكومتهم ، يمثلون مبادئ هذا الدين وأفكاره وقوانينه وتشريعاته ، لأنه أعرف بطبيعة البشر و طبيعة الحياة ، وهو يقرر أن لا إسلام بلا حكم ، ولا مسلمين بلا إسلام ، قال تعالى : ﴿ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ﴾ ويؤكد الأمر بالحكم بما أنزل الله ، فقال تعالى : ﴿ وأَن حكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهوائهم ﴾ المائدة 49 . في الآية تأكيد للأمر بالحكم بما أنزل الله والنهي عن الحكم بما يخالف شرع الله ودينه وقال :﴿ واحذرهم أن بفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم ﴾ المائدة 49 .

فإن تولوا وأعرضوا وتركوا حكم الله وما تدعوهم إليه :﴿ فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم ﴾ المائدة 49 و قد يقول البعض : أين العقوبة على المعاصي ؟ ونحن نرى دول الكفر تعصي الله عز وجل ورزقها يزداد ، أو نرى من يعصي الله فيزداد ماله و يفتح الله عليه فيه ، ونحن نقول : بأن هذا من قبيل الإمهال والاستدراج  ومع أنه قادر على أن يأخذهم أخذ عزيز مقتدر ، إلا أن هناك حكمة أحرى عظيمة ، وسر عظيم يغفل عنه أكثر هؤلاء وهو ، أن الإنسان قد يعاقب على المعصية بمعصية أشد منها ، وعلى الشرك بشرك مثله أو أكبر منه  ولذلك يجب على الإنسان أن يتقي الله ، و أن يذعن  وأن ينقاد لأمر الله ، قال تعالى :﴿ ونقلب أفئدتهم و أبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ﴾ الأنعام 110 .  إذن من إصابتهم ببعض ذنوبهم أنهم يعاقبون بأن يعرضوا عن الإيمان فلا ينفعهم تذكير ولا تنفعهم موعظة ، وعليه لا يقل أحد فلان  أكل الربا ، ولم يحل به غضب الله وها هو يأكل الربا، وينسى أن أكل الربا قد تكون عقوبته أنه استحل الربا، فإذا استحله كفر على جميع المذاهب ، إذ لا خلاف على أن من استحل الربا كفر ، حتى وإن جاء من يفتي من القائلين على الله بغير علم ، ويقول : الفوائد فيها وفيها، فوالله إنهم ليعلمون أن الربا حرام، ولو جاءتهم ألف فتوى، وكتب الفقه كلها مجمعة على أن من استحل محرماً كالربا أو الزنا أو شرب الخمر فقد كفر ، ومن هنا جاء النهي عن إتباع الأهواء قال تعالى :﴿ وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله ﴾ الانعام 116 .

إذن ليست العبرة بالأكثرية ، والله يقول  :﴿ إن كثيراً من الناس لفاسقون ﴾ المائدة 49 أي أن أكثرهم يريدون الشهوات ، ويريدون انتهاك الحرمات ، فأصبحت القضية ليست قضية الناس تعمل والناس تقول ، إنما هي قضية إتباع ما أمر الله به مهما قل العدد ، مما يوجب علينا أن ندعو الناس إلى ما أنزل الله ، وألا نتبع الأهواء ، وألا نرد الأمر إلى الآراء ، لأن آراء الناس عجيبة جداً ، فهذا له رأي في الربا ، وآخر له رأي في نظام معين ، ولا يوجد أجد منهم يحتقر رأيه ، بل يبرر موقفه بفتوى هذا العالم أو ذاك ، أو تجد من يتفق معك في المبدأ  والمعيار عنده هي أهواء الناس ورغباتهم ، وما علم أن القضية ليست قضية أهواء ، إنما هي قضية إتباع ما أنزل الله سبحانه وتعالى ، لأن الله لو رد الأمر إلى أهواء الناس ، لما صلحوا ولما اتفقوا ، لأن الأمور لن تستقيم على أهوائهم ، ولذلك ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله ، المشتمل على كل خير  الناهي عن كل شر ، ورجع إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات ، التي وضعت بلا مستند من شريعة الله فقال تعالى :﴿ أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقومٍ يوقنون ﴾ المائدة 50 .

 

 

 

 

 

لا قيمة للحق بدون قوة

إن المتتبع لاهتمام الغرب بحقوق الإنسان ، يجد أنهم ينظرون إليها بنظرتين مختلفتين  فبخصوص بني جلدتهم تراعى الحقوق وتلتزم القوانين والعهود ، وأما بالنسبة  للمسلمين فقد سنت قوانين الأدلة السرّية والمحاكم العسكرية والاعتقال لمجرد الاشتباه والتعذيب وانتزاع  الاعترافات وانتهاك الحقوق ، مما يدل على أنها صورة فاضحة من صور التناقض ، وصورة صارخة تؤكد أن المثل والقيم التي يصنعها الأقوياء يجب أن يصّفق لها الضعفاء ، يتجلى ذلك في موقفهم من الأسرى الأفغان فقد صرّح وزير الدفاع الأمريكي ، بأنهم ليسوا أسرى حرب وإنما هم مقاتلون خارجون على القانون ، ولكن الواقع أظهر لنا جلياً الكيل بمكيالين في معاملة هؤلاء الأسرى ، فالمسلمون منهم عوملوا معاملة غير إنسانية وكانت تصرفاتهم معهم لا تمت إلى السلوك الحضاري والإنساني بأية صلة ، حتى المنصفون من الغرب الكافر احتجوا على تلك المعاملة السيئة ، وقد كان بين الأسرى أفراد من بريطانيا وأحدهم أمريكي الذي أحيل للقضاء المدني ، وعومل البريطانيون معاملة خاصة ومختلفة تماماً ، مما يؤكد عدائهم للعالم الإسلامي واستهانتهم بالمسلمين ، لأنهم يعلمون تمام العلم بأن الحكومات الإسلامية لن تواجههم على هذا الانحياز الفاضح ، ولن تحتج على هذه التصرفات الهمجية ، ناسية أن ذلك سيجر على أمريكا من الأخطار التي لا تحمد عقباها إذا ما ثار المسلمون لحقوقهم المهدورة من جراء معاداة أمريكا لهم  وهو ما فطن له أحد رجالاتهم من ذوي الخبرة بالسياسة الخارجية ، وهو هنري كيسنجر الذي حذّر من ذلك في كتابه مفهوم السياسة الخارجية الأمريكية ، عندما قال : " إن غطرسة القوة التي تفرض نفسها على مجمل السياسة الخارجية الأمريكية ، قد جعلت من أمريكا الشرطي الذي يحاول خنق أصوات الاحتجاج التي تصدر ، حتى عن حلفائه وأصدقائه ، وهي سياسة ضالة لا بد أن تؤدي مع الأيام إلى صحوة هؤلاء الحلفاء والأصدقاء ، ثم إلى نقمتهم واعتراضهم بكل الوسائل وبجميع الأشكال ، فتعدو قوة أمريكا سبب دمارها " .

وعبّر وليم فولبرايت رئيس لجنة العلاقات الخارجية الأسبق بمجلس الشيوخ الأمريكي وهو مؤلف كتاب غطرسة القوة ، قال : " إن أمريكا قد أخذت تدريجياً في إظهار دلائل الغطرسة التي أذلت وأضعفت أمماً عظيمة في الماضي   بل سحقت بعضاً منها وعندما نمارس ذلك نكون قد فقدنا قدرتنا على أن نكون أمام العالم مثال الدولة المتحضرة وهذا هو الذي يحفز الرجل الوطني إلى إبداء الاعتراض علينا لأن هذا ما يفرضه عليه الواجب " ، وكأن مفكريهم قد درسوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فالصحوة آتية لا بد منها والاعتراض حقيقة كائنة على يد الطائفة الظاهرة على الحق التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي من الأمة الإسلامية ، من أمة محمد صلى الله عليه وسلم  وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لها عدة صفات وهي منصورة وقائمة بأمر الله  وظاهرة على الحق وللعدو قاهرة ، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الطائفة ستلاقي عقبات في طريقها ، عقبات داخلية تتمثل في التخذيل والمخالفة  وخارجية تتمثل في مجابهة العدو والتصدي لها ، روى مسلم عن المغيرة بن شعبة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( لن يزال قوم من أمتي ظاهرين على الناس حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون ) وفي رواية عن معاوية قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تزال طائفةٌ من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس ) .

وقد فسر الظهور بالقهر كما جاء تفسيره بالنصر ، وقال الإمام القرطبي : ظاهرين منصورين غالبين ، كما قال الحديث الآخر : ( يقاتلون على أمر الله قاهرين لعدوهم لا يضرهم من خذلهم ) . أي من لم ينصرهم من الخلق  فالنصوص النبوية تدل على أهمية الجهاد في سبيل الله من أجل حماية الدين ونصرة الحق ، وإن إعلان الجهاد في سبيل الله وبذل المال والنفس في سبيله هو طريق العزة ، وذلك يتطلب من القائمين على أمر الله أن يعدو العدة لإرهاب أعداء الله وأعدائهم ، وأن يصبروا على ما يلاقوه في طريقهم من الأذى والمشقة   وأن يتوكلوا على الله ، وعندها يكون النصر بإذن الله ، ولا يشترط التكافؤ وهو ما كان عليه المسلمون في كثير من معارك الإسلام الفاصلة التي انتصر فيها المسلمون ، ولله في ذلك حكمة فالنصر مع القلة والضعف ، ليس كالنصر مع الكثرة والقوة وقد مدح الله القلة العاملة وذم الكثرة المتواكلة فقال تعالى :﴿ وقال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئةً كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين ﴾ .البقرة 49 ، كما على القائمين على أمر الله ألا يخشوا إلا الله قال تعالى : ﴿ فلا تخشوا الناس واخشون ﴾ المائدة 44 . وأن تكون رؤيتهم للأحداث منبثقة من فهم الحكم الشرعي والانقياد والتقيد به ، وما يترتب عليه من مسؤولية تجاه المسلمين المظلومين في فلسطين وغيرها من بلاد المسلمين وعلى كل مسلم أن يؤمن أن الدول المعاصرة القوية ، ليست أكبر من أن تنالها قدرة الله فما هي إلا حلقة من حلقات التاريخ البشري ، يجري عليها ما جرى لغيرها من دول قوية سابقة اتجهت وجهتها وبغت بغيها ، وقد أكد القرآن هذه الحقيقة قال تعالى : ﴿ ولقد أهلكنا أشياعكم فهل من مدّكر ﴾ القمر 51 . 

إذن مهما اشتدت قوة دول اليوم ، فهي ليست أكبر من أن تعاقب ، خصوصاً وأنها تحمل العوامل المؤدية إلى انهيارها ، من الكفر والظلم والاستكبار والفساد الخلقي والاجتماعي قال تعالى في أمثالهم من الأمم السابقة : ﴿ الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب ﴾ الفجر 6-8 

أما كم من الزمن يحتاج هذا التغيير ؟ الزمن جزء من العلاج ، ومن المستحيل أن يتحقق ذلك بين عشيةٍ وضحاها ، إذا علمنا أن قدر الله لا يتحقق إلا بمقدار الجهد الذي تبذله الأمة ، كي تنتقل من الظلمات إلى النور ، والأمة بحاجة وهي تمد يدها إلى ربها لينصرها ، أن تقيم أحكامه في كل مجالات الحياة ، وإلا فإن زمام العالم سيبقى بين أيدي هؤلاء الجبابرة الذين أذلوا المسلمين ، وما دام المسلمون على هذا الحال ، فلن يكونوا أهلاً للنصر ، ولا أهلا للقيادة ، وحتى يكونوا أهلاً لذلك لابد وأن يستجمعوا أسباب السيادة .

قرأت في التاريخ الإسلامي أن هولاكوا دخل بغداد ، وقتل نحو مليون ونصف من الناس ، ثم مضى القرن السابع الذي انهزم فيه المسلمون ، وجاء القرن الثامن الهجري وهم على حالهم ، وما أن جاء القرن التاسع الهجري حتى كان المسلمون يثأرون لأنفسهم مما نزل بهم ، ودخل المسلمون القسطنطينية وجعلوها عاصمة الإسلام ، وهكذا انتصروا عندما صلحت أحوالهم واصطلحوا مع الله ، هناك فارق كبير بين الخليفة الذي قُتل مع قومه في بغداد ، وبين الخليفة الذي انتصر على أعداء الإسلام وافتتح القسطنطينية ، يقول التاريخ عنه وهو محمد الفاتح  كان رجلاً صوَّاماً قوَّاماً ، وكان كثير القراءة للقرآن الكريم ، وقبل أن يموت جمع أولاده وأوصاهم بأن يظلوا مجاهدين لنصرة الإسلام ، ولا يشغلهم شيء عن مرضاة الله . أما  وقد ابتعدت الأمة اليوم عن الإسلام منهجا ، والجهاد في سبيله طريقا ، فلن تكون لها الغلبة على أعداء الله ، قال تعالى : ﴿ فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا ﴾ النساء  90 .

 

          

 

ما الفرق بين الإسلام والمسلمين

إن الإسلام اسم للدين الإسلامي ، أي اسم للقرآن والسنة النبوية ، والمسلمون هم الذين يعتقدون هذا الدين ، ويفعلون ما يؤمرون من الطاعات والصالحات  ويطبقونه على أنفسهم ويدْعون سواهم إلى العمل به ، وتطبيقه بالحكمة والموعظة الحسنة . قال تعالى : ﴿ ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين ﴾ . فصلت 33 إن من يتربى التربية الإسلامية ، يكون أقدر على احتمال التبعة ، وأكثر جداً في أخذ الأمور وتصريفها ، لأن له من ضميره عاصماً ، ومن دينه سنداً ، ومن قرآنه هادياً ، قال تعالى : ﴿ إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ﴾ الإسراء 9 . إن الإسلام عقيدة ينبثق منها سلوك المجتمع ويقوم عليها نظام الحياة ، ويحكم علاقات الإنسان في كل الميادين ، ويضع الشرائع التي تنظم هذه العلاقات ، فكان لا يمكن الفصل بين العقيدة والشريعة التي تحكم الحياة لأن الشريعة لا تقوم إلا على أساس العقيدة . إننا تلاحظ أن علماء المسلمين ومفكريهم يفكرون ويكونون الآراء ، ويطلقون الأحكام وينظرون للأشياء والوقائع والأحداث ، بعيداً عن أحكام الإسلام ، وهذا ما نجح العرب في تحقيقه بدليل رضاء المسلمين بالحلول الوسط ، وأنصاف الحلول ، حتى أن المسلم أصبح يشعر بأنه يعيش في جو فقد مقياس الحلال و الحرام ، لأعماله وتصرفاته ، والذي استبدل بمقياس المنفعة أو المصلحة حتى أصبح المجتمع في بلاد المسلمين لا يسهم بتحقيق القيم التي يحتاجها ، والتي تضمن رفعته وسعادته ، بل اتبع خطى الغرب الذي جعل القيمة المادية هي الأساس . وقد وجد من بين الشباب ، من يستحي من الانتساب إلى الإسلام  أو يكره أن يُرى وهو يقوم بشيء من شعائره خصوصاُ بين طبقات المثقفين بالثقافة الغربية ، والذين وصلوا إلى درجة الحكم والنفوذ ، وإدارة المناصب العليا .

لقد زلزل الغزو الثقافي ، ثقة فئة كبيرة من الشباب بدينها ، حتى أصحبت مسلمة بالاسم فقط ، إن العقلية التي زرعها الكفار ، هي التي أوصلت الناس إلى هذا الحد ، حتى أن الأمة أصبحت تتبع ذليلة خطى الغرب ، وتسلم له بحل قضاياها ، وتستبعد الإسلام عن مشاكل الحياة وعلاقات المجتمع ووجد في هذه الأمة من يفصلوا بين الدين و الحياة ، وكأنه ليس هناك حساب و لا عقاب .

أنه ليس من طبيعة الإسلام أن يعوق سير الحياة ويسد الطريق على الآخرين بأسباب الوجاهة والجاه ، ومن الظلم أن يفهم الدين بهذا الفهم بل من الخيانة لدين الله ، أن تكون للإسلام هذه المنزلة في الحياة .

لقد أصيب المسلمون بعلل أفسدت حياتهم ، وأنزلتهم منازل الهوان في دنيا الناس حنى تصور فريق من الناس ، بأن الدين هو السبب فيما وصلنا إليه من تأخير  ونظروا للدين المحال تغيير الحال ، إلا برد الاعتبار في كل شئون الحياة .

هذا هو الحال المخدوعين بالغرب وحضارته ، فما هو حال بعض الفئات الإسلامية الأخرى ؟ إننا تجدهم وكما أشرت أكثر من مرةٍ ، يركزون اهتمامهم على الأحكام المتعلقة بالفرد ، كالصلاة والصوم والزكاة والوضوء ، والصفات الأخلاقية والسنن والمندوبات ، وغيبوا أحكام نظام الحكم و النظام الاقتصادي والاجتماعي والتعليم وأحكام السياسة الخارجية ، والتفاصيل المتعلقة بذلك كله  وكما نرى الكثيرين يركزون على اللحية وحكمها والدخان والطهارة وآداب الأكل ودخول المساجد ، وآداب دخول الخلاء وما يقال عن لبس الثياب الجديدة وعند النوم حتى أنهم لم يتركوا شيئاً متعلقاً بالفرد ، إلا فصلوه ودققوا فيه ، او بحثوا كل جوانبه ، وأهملوا الأحكام المتعلقة بأنظمة المجتمع ، وفروض الكفاية المطلوبة من الأمة . إن العقلية التي غرسها الكفار ، منذ أن احتلوا بلاد المسلمين ، جعلت مفهوم المنفعة ، من المفاهيم التي جعلت الأنانية وحب الذات وهي الطاغية في المجتمع ، مما قضى على الروح الجماعية التي أرادها الإسلام ، وعبرت عنها النصوص الشرعية . كقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) . وقوله : ( من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم ) .

كما جعلت المسلمين ، يقصرون حياتهم على الركض وراء حياة يقذف لهم فيها بالفضلات مما فاض على موائد المترفين والمسرفين ، بل وصل الحد بالبعض ، إلى تقديم الروابط المنحطة من رابطة قبلية أو عائلية أو وطنية أو مصلحيه ، على رابطة المبدأ وما تتطلبه الآية القرآنية : ﴿ قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين  ﴾ . التوبة 24

إن الأمة الإسلامية ، أمة مبدأ يحمل في باطنه السعادة للبشرية ، والهناء والاستقرار ، وهي مكلفة بإيصال هذا المبدأ إلى الناس ، والعمل على تحرير البشرية من عبودية العباد إلى عبودية الله وعلى تنظيم حياة البشر بالعدل ، وما يحقق لهم الخير ، ويجنبهم ويلات الفتن والحروب . إن الأمة مكلفة أن تنقذ نفسها بإتباع الهدى الرباني ، والعمل على إنقاذ البشرية من التيه و الضياع  وإخراجها من الظلمات إلى النور من القهر والإذلال والاستعباد ، إلى العز والسلام . إن سياسة تمويت الإسلام ومخاصمة أهله والافتراء عليه ، ومحاربة دعاته وإعمال القتل والتعذيب والملاحقة لمعتنقيه ، لم يحقق الأعداء الإسلام رغباتهم  فلا الإسلام مات ، ولا قرآنه باد ، ولا لأهله هلكت ، وإذا أصابهم الذي أصابهم إنما ذلك حين ، ولا بد من استئناف المسيرة إن تابوا من تقصيرهم وثابوا إلى رشدهم . إن سياسة تمويت الإسلام لا بد من إفشالها ولن يكون حظ الصليبية الجديدة ، بأحسن من حظ سابقتها القديمة ، وإن طال الزمن أم قصر لأن الله تكفل بحفظ دينه ، ونصر أتباعه : ﴿ ولينصرن الله من ينصره ﴾ .

 

 

 

 

 

جذور البلاء

اخترت هذا الموضوع من اجل أن يفتح المسلمون عيونهم  ويأخذوا حذرهم من مفكري الأعداء وفي مقدمتهم طائفةٌ من اليهود الذين تمكنوا من نهش الإسلام ، ونقد أصوله وفروعه ، والعبث بمقدساته   وأدركوا  أن القوى المختلفة التي في أيدي المسلمين   يمكن بالمكر والخديعة أن تُسسخَّر ضدهم ، وذلك إذا تحولت أفكارهم عن مفاهيم الإسلام ، وقد وضعوا لذلك قاعدة ساروا عليها وهي : " إذا أرهبك سلاح عدوك فافسد فكره ، ينتحر به " . فهم يخافون تطبيق الشريعة التي تفضح قوانينهم الوضعية ، ويخافون الإسلام الذي يقف بصورةٍ خاصة في وجه سفه الصهيونية ، لاعتقاده بأنها وراء الدمار الخلقي ، وأنها الأب الشرعي لجميع المذهبيات الفاسدة والحركات السرِّية الهدامة ، التي انحطت بالأفراد والمجتمعات إلى حضيض النـزوات الحيوانية الناقضة لكرامة الإنسان  وإن معركة الإسلام ليست ضد الصهيونية وحدها  بل هي معركة المصير الإنساني .

وقد وضع اليهود في توراتهم جذور العنصرية والتعصب والانعزالية ، ورسخ في أنفسهم أنهم شعب يهوه الذي اختاروه إلهاً لهم ، وأنهم افضل شعوب الأرض قاطبة ، ويهوه كما تصوره توراة اليهود   غرز في نفوسهم غريزة البطش والإرهاب والقسوة والهمجية ، والقارئ لتوراة اليهود يجد أنها لا تخفي حقيقة الشعب المختار وميوله لشرب الدماء وقضم عظام البشر ، وقتل الأولاد حتى أولاد اليهود أنفسهم   فجاء في التوراة عبارة :"هو ذا شعب يقوم كليوة ويرتفع كأسد ، لا ينام حتى يأكل فريسة ويشرب دم قتلى ... " . وتعرض التوراة مجازر ومذابح تقشعر لها الأبدان ، ذهب ضحيتها مئات الألوف في معركة واحدة تدوم يوماً أو بعض يوم . ولنا أن نقيس درجة الوحشية والهمجية ، من تصوُّرٍ لمعركةٍ يسقط فيها نصف مليون قتيل من غير استخدام القنابل الذرية أو المدافع الرشاشة والدبابات والطائرات من قاذفات القنابل والصواريخ ، ولنا كذلك أن نقيس درجة المدنية التي قدمها اليهود للعالم ، حين تصوِّرُ توراتهم المآسي والكوارث التي تنجم عن سبي مئتي ألف سيدة وطفل في معركة واحدة ، بعد ذبح مئات الألوف من الرجال المحاربين وغير المحاربين ، وفي هذا دلالة واضحة على أن اليهود كانوا وما زالوا متعطشين لسفك الدماء بشكل جنوني لم يسبق له مثيل في تاريخ البشرية  أما بخصوص الفسق والدعارة ، فقد اكتسبت في توراة اليهود قداسة ، ونظمت عهارات لم يسبق لدين من الأديان أن أباحها أو عالجها بالشكل الذي عولجت به في دين اليهود ، وتعد توراتهم بحق الكتاب الأول في التاريخ كله ، الذي قدّم للإنسانية الدروس الأولى في الانحلال الخلقي والإباحية ، فلا بأس في كتابهم من مضاجعة الأب لابنته أو زوجة الأب ، بل إني قرأت في بعض أسفارهم ما أخجل أن أنقل لكم ولو عبارة مما جاء فيها .

وبخصوص الظلم والطغيان ، فإن التوراة تعد أول كتاب في العالم يبيح قتل الأبرياء وأخذ الأبناء بجريرة الآباء ، وتقرر العقوبات المشتركة التي يذهب ضحيتها الأطفال والشيوخ والنساء ممن لا ذنب لهم  ، كما أباحت التوراة الغش والسرقة والطمع ، وأنظمة الرق والعبودية ، والشعب المختار في نظرهم سيد ، وبقية الشعوب في الأرض  ،هم العبيد الذين يخدمون اليهودية إلى الأبد .

وهم يكرهون الأديان الأخرى ، ومن أكبر جرائمهم ضد المسيحيين قبل مجيء الإسلام مذبحة الأخدود   التي ذكر القرآن الكريم قصتها ، وإذا عجزوا عن الفتك بالنصارى ، لجأوا إلى الحرب الأدبية لنشر الكتب التي تهاجم المسيحية  وتتطاول على المسيح والسيدة العذراء ، وذلك تحت سمع الغرب المسيحي وبصره  وقد اقتبست مجلة لبنانية بعض ما جاء في تلك الكتب عن السيد المسيح تحت عنوان : إنهم يصلبونه كل يوم ، لقد قاموا بنشر الكتب والصور والمجلات الداعرة  ومنها ما يتعرض لشخص المسيح بالذات ، وقد نشروا كتاباً بعنوان التجربة الأخيرة للمسيح ، فيه من القذارة ما يجعلني استحي من ذكر بعض مقاطعه .

وأما عدائهم للإسلام والمسلمين ، فإنهم أخذوا يكيدون له بالدس والإرجاف والمراء والجدل فيما يعلمون وما لا يعلمون ، وكانوا هم البادئين بمعاداة الرسول صلى الله عليه وسلم وقد نزلت آيات كثيرةٌ عن كفر اليهود وأحقادهم وجرائمهم  منها قوله تعالى : ﴿ إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذي يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب اليم ﴾ آل عمران 21 . وكثيراً ما كان المسلمون ينخدعون بمكر اليهود وخداعهم ، فجاء النهي عن الاطمئنان لليهود قال تعالى: ﴿ يا أيها الذين أمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر ﴾ آل عمران 118 .  ولما يُبْطِنُه اليهود من العداوة والخصام والحقد على الإسلام ، بين الله في كتابه أن أشد الناس عداوة للمسلمين اليهود ، لنعاملهم معاملة الأعداء الألداء قال تعالى: ﴿ لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ﴾ المائدة 28 .

لقد كان اليهود وما زالوا يتظاهرون بالشجاعة ، مع أن الجبن طبعهم الأصيل  فهم جبناء بالفطرة يهابون الموت ، ورغم ذلك لم يعرف التاريخ أقسى قلوباً منهم  وقد حدثنا القرآن الكريم عن تلك القسوة قال تعالى : ﴿ ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة ﴾ البقرة 47 . كما اتصفوا بالمكر والخداع والكيد ، وعانى المسلمون الأول من صفاتهم هذه الشيء الكثير ، وما زالوا يعانون من مكر اليهود وخبثهم وخداعهم ، قال تعالى في وصف ذلك : ﴿ وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ﴾ إبراهيم 46 . وقد عاشوا طوال حياتهم بؤرة فساد ومنكر وفحشاء نشروا الرذيلة ويحاربون الفضيلة في كل مكان  قال تعالى : ﴿ كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ﴾ المائدة 87 . ولجأوا إلى وسيلة الربا ، التي نجحوا بواسطتها في تخريب الحكومات والشعوب والأُسر نتيجة ممارستها . ولما ذكرنا عنهم من صفات وممارسات ، في ماضيهم و حاضرهم ومستقبلهم ، فقد كتب الله عليهم الذلة والمسكنة إلى يوم الدين .

ومن أسلحة التنفيذ لدى اليهود  : 1-الماسونية ، وهي من أخطر الجمعيات في العالم ، وهي حركة يهودية هدفها القضاء على الأديان المسيحية والإسلام والمجتمعات الإنسانية ، تمهيداً لتسلط دولة اليهود على العالم ، وقد استطاعت الماسونية أن تخدع كثيرين من زعماء العرب والإسلام .

2 - الصهيونية ، وهي حركة عنصرية عنيفة  تسعى إلى تحقيق آمال اليهود في تخريب العالم وقيام دولة اليهود ولحكم العالم ، ولا فرق بين اليهودية والصهيونية .

وهناك جمعيات أخرى انتشرت فروعها في جميع أنحاء العالم ، وكلها تدور حول دعم الماسونية العالمية ومساندتها في جميع الخطط التي ترمي إلى سيطرة اليهود

إن اليهود لم يكفوا عن التآمر وبث الفتن في سبيل إضعاف الإسلام وتمزيق شمل المسلمين ، فلجأوا إلى التظاهر بالإسلام ليتسنى لهم بث السموم وزرع بذور الشك بين المسلمين ، وتشويه عقائدهم ومفاهيمهم الفكرية ، وتشويه النظم الإسلامية وسائر أحكام الإسلام . 

لقد كان لهم عبر تاريخ المسلمين حتى عصرنا هذا  مكايد كثيرة من مكايد الغزو الفكري ، ظهرت في مؤامرة قتل عمر بن الخطاب ، إذ أكدت الروايات التاريخية أن كعب الأحبار اليهودي ،كان على علم بمؤامرة التنفيذ ، ولذلك أخذ عبدالله بن عمر بالثأر فقتل الهرمزان وجفينة النصرانية ، وأبو لؤلوة منفذ الجريمة قتل نفسه ، كما حاكت أصابع اليهود أخطر فتنة أصيب بها الإسلام والمسلمون وما زالت آثارها تلك ،هي فتنة غلاة الشيعة التي تزعمها وقادها اليهودي اليمني عبدالله بن سبأ ، الذي تظاهر بالإسلام ، وقاد حملة التشهير بالخليفة عثمان في كل بقعة من ديار الإسلام ، وحين تم استعداده ، نفذ المتآمرون معه جريمة قتل عثمان في أسلوب وحشي نابع من تعاليم التلمود اليهودية ، وابن سبأ هذا هو الذي دعا إلى تأليه الإمام علي . وقد نجحت الحركة السبأية في وضع أسس الفتنة بين المسلمين ، تشعب عنها عدد من الحركات الهدامة التي أسهمت في إضعاف المسلمين ، ومن أخطرها الإسماعيلية التي أسسها المنافق اليهودي ميمون بن ديصان القدَّاح . وقد أنجبت الإسماعيلية حركة هدامة لهدم الخلافة العباسية ، كما نجم عنها ظهور فرق الباطنية على اختلاف نزعاتها ، وما كان من عصاباتهم من كيد ضد الإسلام طوال قرون طويلة ، وقد استمرت فتن اليهود وأصابعهم تلعب بالإسلام  حتى إن أغلب مؤرخي المسلمين ، أجمعوا على أن عبدالله المهدي مؤسس الدولة الفاطمية في المغرب كان يهودياً . وتغلغل النفوذ اليهودي في الدولة الفاطمية حتى قال شاعر مسلم :

يهود هذا الزمان قد بلغوا   غاية آمالهم وقد ملكوا

العز فيهم والمال عـندهم   ومنهم المستشار والملك

وقد أجمع المؤرخون على أن الشوائب والبدع التي ألصقت بالإسلام ، وتشمل الإسرائيليات التي زجت في بعض التفاسير ، من خرافات وملاحم خيالية   وأحاديث لا يقبلها العقل السليم ، هي مدسوسة من اليهود وعبيدهم من المبشرين ، ومن أشد مكايد يهود الدونمة إيلاماً في هذا العصر كان ضد السلطنة العثمانية والذي انتهى بإلغاء الخلافة .

ونظرة إلى الاستشراق وعمل المبشرين ، نجد أن المستشرقين والمبشرين يهدفون إلى هدم الإسلام وتنصير المسلمين ، ولما أدركوا استحالة ارتداد المسلم عن دينه ، فقد رسموا خططهم وبنو آمالهم على زعزعة عقيدة المسلم وتشكيكه بدينه ، ليسهل عليهم القضاء على كيان المسلمين ، وتحويلهم إلى قطيع من الأغنام يمكن استغلالها أو سوقها للذبح عند الحاجة ، وقد جهر كبير المبشرين زويمر اليهودي حين اعترف أن للتبشير في البلاد الإسلامية مزيتان : مزية هدم ومزية بناء ، يعني بالهدم انتزاع المسلم من دينه ولو إلى الإلحاد ، ويعني بالبناء تنصير المسلم إن أمكن . ولم يترك المستشرقون والمبشرون ميداناً إلا اقتحموه ، لبث سمومهم وافتراءاتهم ومطاعنهم على الإسلام وبني الإسلام ، وقد ركزت صحافة التبشير في ديار الإسلام جهودها على نشر الفساد والخلاعة بين شباب المسلمين ، عن طريق المقالات الإباحية والكتب الجنسية والمجلات الخليعة التي تبث سموم الثقافة اليهودية المدمرة ، كما شجعت تعاطي المسكرات والمخدرات ، و أشرفت على ما نسميه بالفن ، وغذته ودافعت عنه باسم الحرية ، مع كونه لا يمت إلى الفن بصلة ، فهو ليس إلا دعارة رسمية سافرة تحتمي باسم الفن  .

وهنا من واجبي أن اذكِّر بأن النكبات والمآسي التي حلّت بالمسلمين ، سواء كانت نتيجة تخطيط الأعداء  أو لأي سبب آخر ، فإن نتائجها على الدوام كانت ذات أثر على الناس ، أما جوهر الإسلام الخالد فلن تقوى خطط الغرب على النيل منه ، وسيظل الإسلام منارةً يُهتدى بها ، ونوراً يُشع على العالم خيراً وبركة  وعدلاً ورحمة وحرية وكرامة .

 وبعد : قد يقول قائل : إنك تهوِّل لقوة اليهود ومقدرتهم الخارقة على عمل كل شيء ، وتعطيهم حجماً اكبر من حجمهم ؟

أنا لم أنسب لهم إلا ما نسبه رب العالمين في القرآن الكريم من مكر وحقدٍ وكفر ، وما نسبته لهم التوراة من صفاتٍ قاسية متوحشة ظالمة باغيةٍ داعرة   والتاريخ سجل على مرِّ الأزمنة أنهم كانوا وراء كل عمل شرِّير ، موجه ضد سواهم من الأمم ، وأنهم وراء الفتن والدسائس والحروب الطاحنة .

ولم أنسب إليهم أية مشاركة في أي عمل عظيم مشرِّف ، وإنما نسبت إليهم المقدرة على الدس وإثارة الفتن ، لعل السامع يلمس أو يتحسس أصابع اليهود فيما يجري أو يحدث في هذه الأوقات . ومن واجبي أن أذكر ، فإن الذكرى تنفع المؤمنين .  إن جذور الخوف من الإسلام قديمة لدى الغرب، فقد ورث الغرب تركة من الفزع والهلع جعلتهم يحقدون على الإسلام وأهله! لكن أخفى الغرب هذه الكراهية خلال صراعه مع الكتلة الشيوعية.. ثم لما سقطت المنظومة الشيوعية وانهار عقدها كانهيار المتواليات الهندسية.. انفرد الغرب بزعامة أمريكا وأسفر عن وجهه الحقيقي ، وعلت الأبواق التي تصم الإسلام بالإرهاب.. وطفقوا يتخذون الإسلام عدوا لهم بديلاً عن الشيوعية.. كل ذلك يتم تحت شعار محاربة الأصولية الإسلامية!! والقضاء على الإرهاب!! ومن ثم استخدم مصطلح الإرهاب في معجم الإعلام اليومي وكافة المحافل السياسية والاقتصادية والمنتديات الثقافية بشكل واسع.. بغية توسيع دائرة حصار الإسلام وتشكيل رأي عام عالمي لكره الإسلام باعتبار أن الإرهاب لازمة من لوازم الإسلام!! ومثلنا ومثل الغرب كقول العرب قديماً "رمتني بدائها وانسلت!!" فكما هو معلوم تاريخيا أن أول من أدخل كلمة الإرهاب في قاموس عالمنا الإسلامي الوادع الهادئ هم العصابات اليهودية في فلسطين المحتلة وذلك بشهادة "باتريك سيل" وهو ليس من بني جلدتنا إذ يقول: (أثناء التمرد العربي في الفترة من 1936-1939 كانت ال"ستيرن جانج" أول من أدخل الإرهاب إلى الشرق الأوسط عن طريق تفجير القنابل في الأتوبيسات وفي الأسواق العربية. ومنظمة "الأرجون" اليهودية الإرهابية وهي فكرة مثير الفتن روسي المولد "فلاديمير جابوتنسكي" والذي كان يدعو إلى استخدام القوة بدون خجل "الجدار الحديدي" ضد العرب لإقامة سيادة يهودية كاملة فوق ضفتي نهر الأردن وهو جدول الأعمال الذي تبناه تلامذته المخلصون إسحاق شامير ومناحم بيجين)

 

   

 

السكينة رحمةٌ وطمأنينة

السكينة هي الرحمة ، وقيل هي رضا وطمأنينة ينـزلها الله في قلب عبده المؤمن عند الشدائد  فتهون عليه الدنيا وما فيها ومن فيها . والسكينة إذا نزلت على القلوب ، زادتها ثقة وطمأنينة ويقيناً في الله وتوكلاً عليه . وقد أعز الله دينه ونصر نبيه  ليفرح المؤمنون وتطمئن قلوبهم ، ويزدادوا يقينا بربهم وثقة بنبيهم وقوة في دينهم فأنزل عليهم السكينة قال تعالى : ﴿ هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم ﴾ الفتح 4 . وقد صوَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم معنى رحمة الله بالإنسان وجحود الإنسان لربه .. ( قالت الأرض يا رب ائذن لي أن أخسف بابن آدم الأرض ، فقد طعم خيرك ومنع شكرك . وقالت السماء يا رب ائذن لي أن أسقط كسفاً على ابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك . وقالت الجبال يا رب ائذن لي أخر على ابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك . وقالت البحار يا رب ائذن لي أن أغرق ابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك ) . فكل العوالم التي سخرها الله للإنسان ضجت من معصيته ، وطلبت من الله الأذن أن تفني بني آدم من الوجود ، جزاءً له على معصيته وجاء الرد في تكملة الحديث القدسي يقول تعالى : ( لو خلقتموه لرحمتموه دعوني وعبادي وإن تابوا إلي فأنا حبيبهم ، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم ) . هذه هي رحمة الله وصبره على عباده ، وعدم مواجهة الإساءة بالعقوبة ، وفتحه باب الرحمة والتوبة والمغفرة لكل نادم على معصية . فباب الله مفتوحٌ دائما لمن يعود ويبدأ باسم الله ، لأن الله لا يعرف الحقد ولا يتغير على خلقه  بينما الإنسان عندما تعصيه ، فإنه ينهي علاقته بك وقد يسعى للإضرار بك .    

ولنتعلم السكينة من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس أمام الكعبة في المسجد الحرام فجاء رجل وكان المشركون محلقين هناك ، فقال لهم يا قوم ؟ إن لي عند أبي جهل دينا ، وقد ماطلني ولم يؤدِّ ديني  أليس منكم رجل يطالبه بديني ويرد إلي حقي ؟ فقالوا له مستهزئين : ليس بيننا رجل يأتيك بحقك إلا ذلك الرجل الذي يجلس هناك ، ونظر الرجل ولم يجد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذهب إليه وقال إن لي ديناً على عمرو بن هشام وقد ماطلني فهل ترد لي حقي منه ؟ فذهب معه إلى أبي جهل وطرق الباب ، فقال أبو جهل : من الطارق ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد ، ففتح الباب وقال ماذا تريد يا محمد ؟ قال اقضي لهذا الرجل دينه   فدخل أبو جهل وأتي بالدين وسلّمه لصاحبه كاملاً غير منقوص ، فانطلق الرجل يجري سروراً خشية أن يرجع أبو جهل في كلامه   فقالوا له هل قضاك دينك ؟ قال نعم , فقالوا له يا أبا الحكم : أخفت من محمد وأنت فينا من أنت ؟ فقال لهم أبو جهل : واللات والعزى عندما فتحت الباب لم أر وجه محمد ولكنني رأيت وجه أسد لو تأخرت أو تقدمت خطوة لطحنني بين أنيابه ... ثقة وسكينة من خاف الله وحده خوّف الله منه جميع خلقه ، ومن لم يخف الله خوفه الله من جميع خلقه .  فلو عدنا إلى الله وتعلمنا من رسول الله الثقة والاعتماد على الله ، لتطهرت قلوبنا وصلحت أحوالنا ، وقد كان العلماء من سلفنا الصالح مثالاً لمن تعلموا الثقة والطمأنينة والسكينة من رسول الله ، وكانت لهم مواقف تعبر عن مدى إيمانهم وثقتهم بالله وتوكلهم عليه فلا يخشون في الله لومة لائم .

كان أحمد طولون في مصر قد ظلم وتكبر  ، فذهب الناس إلى أبي الحسن أحمد بن بنان أحد علمائهم   وطلبوا منه أن يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر   فدخل على ابن طولون وقال له اتق الله في الرعية لقد ظلمتهم ، فأشار ابن طولون إلى جلاديه ، وقال لهم : خذوه وجوعوا له أسداً ثلاثة أيام ، ثم ضعوه مع الأسد ودعوه  وأخبروني بعد ذلك بما فعل به الأسد ، فأُخذ ووضع في زنزانته حتى جاع الأسد ، ثم ادخل العالم على الأسد واغلق عليهما ، وبعد ساعات طلب ابن طولون أن يخبروه بما فعله الأسد مع أبي الحسن ؟ وفتح الحارس الباب فرأى العالم ساجداً والأسد إلى جانبه واقف خاشع ، وقد تمثل أبو الحسن قو القائل :

لا تخضعن لمخلوق على طمـع    فإن ذلك نقص منك في الديـن

لا يقدر العبد أن يعطيك خردلة  إلا بإذن الذي سواك مـن طـين

واستغن بالله عن دنـيا الملوك  كما استغنى الملوك بدنياهم عن الدين

وجيء بأبي الحسن أمام ابن طولون فقال له : لماذا لم يقربك الأسد بسوء ؟ فقال له عندما أغلقتم الباب علي مع الأسد ، كنت أتلو قول الله تعالى : ﴿ واصبر لحكم ربك فإنك بأعْيُننا ﴾ . هكذا تعلم الحسن من كتاب الله ، ثم قال له ابن طولون : يا أبا الحسن أي شيء كنت تخشى وأنت مع الأسد ؟  قال أبو الحسن : كنت أخشى أن يصيبني الأسد بلعابه فينجس ثوبي فلا أستطيع الصلاة .

إنها الثقة والسكينة التي تعلمها أبو الحسن من رسول الله ، إن من المسلمين من زعموا العمل للعودة إلى الدين ، فضلوا الطريق ولم يحسنوا العودة ، لأنهم أحبوا أن يأخذوا الدين قشوراً ، لا أن يأخذوه عقلاً نقياً وقلباً موصولاً بالله ، يستمد منه ويلجأ إليه .  أخذوا بعضاً من الإيمان وتركوا بعضا ، الأمر الذي أخر الأمة الإسلامية عن بلوغ أهدافها ، وغسل العار الذي نزل بها ، ولن تنجوا امتنا مما هي فيه ، إلا يوم يوجد المؤمنين الذين يريدون الإسلام كله شكلاً وموضوعاً وعنواناً وحقيقة  أما الأمة التي يضيع فيها العدل ، فلابد أن تهان وكما قال الله تعالى : ﴿ وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون ﴾ هود 117. وكما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه ابن ماجة بإسناد صحيح : ( إنه لا قدست أمةٌ لا يأخذ الضعيف فيها حقه غيرُ مُتُّعْتَع ". أي من غير أن يصيبه أذى .  وكما قال ابن تيمية : " أن الله ينصر الدولة الكافرة بعدلها على الدولة المسلمة بجورها " كيف نقيم الحق والعدل فيكون الحاكم والمحكوم أمام القضاء سواء ؟ وعندما لا نجد الجواب اليوم ففي الغد ستكون الإجابة شافية إن شاء الله ، لأن لله أياماً آتية ، تسوق الطمأنينة والنصر إلى من عملوا وسعوا في سبيله  مقابل أمور لا بد من تحقيقها ذكرها الله تعالى : ﴿ وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون ﴾ النور 56 .  وهل يمكن أن يجيء النصر بعد هذا قال تعالى : ﴿ لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض ومأواهم النار وبئس المصير ﴾ . النور 75 .  ولا بد من حكومة تقيم الإسلام وترعاه وتحميه   وهي ضرورية من أجل حفظ العقيدة من عبث العابثين وضرورية من أجل إقامة العبادات ولحفظ الأرواح والأعراض ، وإقامة كل أنظمة الإسلام السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية ، والحكومة ضرورية لإقامة الجهاد من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا والمسلم في ظل حكومة غير إسلامية ، أو حكومة تحكم الناس بالقوانين الوضعية ، معرَّضٌ إسلامه للخطر ومضطر للطاعة حتى في ظل معصية الله . وما لم تكن للإسلام حكومة تحمله وتحميه يكون ذليلاً والنفوس بطبيعتها تحب الانطلاق والانفلات إلى كل شهوة وهوى قال تعالى: ﴿ ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن ﴾ . لذلك لا بد من حكومة تصرف الناس عن الهوى إلى الاستقامة ، وقديماً قال الخليفة الراشد:"إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن ". 

    

 

واقعنا وطريق النجاة

إننا نعيش في وقت ، أصبحنا فيه أمماً لا أمةً واحدة ، ذات قاعدة واحدة   ومصير واحد ، وبدلاً من أن نكون دولةً واحدة ، أصبحنا بسبب الفراغ العقائدي ، دويلات متناقضة ممزقة الأوصال ، مشتتة الشمل .

وقد أعجبني ما كتبه دولة السيد سعد جمعه في هذا الموضوع حيث قال : ليس في الدنيا شئ  هو أحب إلى إسرائيل ، وآثر عندها من هذا التفتت ...لا إلى كيانات هشة فحسب ، بل إلى طبقات متناقضة المبادئ والمفاهيم والاتجاهات ، وإن هم إسرائيل كان وما يزال ، أن تجعل العرب أقل ارتباطاً بدينهم ، لتسهيل السيطرة عليهم وتحويلهم إلى قطيع سائب ، في خدمة إسرائيل . ويتابع قوله: لقد غاب عنا في تلك الدوامة ، التي تطحن بلا كلل ولا ملل ، فلا تقف ولا تعف  وأن الثأر ضريبة دم ، وان الجهاد في سبيل الله حتم ، حين تُهدر الكرامة ، وتُهان الحرمات  وتُداَسُ المقدسات .

إنه يتولى أمر هذه الأمة المريضة ، حكامٌ  وقادةٌ فاشلون ، وساسةُّ ، ومفكرون ، كلُ ما فعلوه لاستعادة الحق والكرامة ، الخطابة بدل التخطيط ، والكلام بدل الفعل ، والكراهية بدل المحبة ، والتشنج بدل الحوار ، فأصبحت انتصاراتنا بهذا خطباً مسرحيه  لا أفعالاً حقيقية ، وبياناتٍ كاذبة ، لا مروءة ولا تضحية ولا إيثارا .  إن نظرةً إلى أحوالنا ، وما يحيط بنا ، نرى ألقاباً ورتباً وأوسمةً ، تتلألأ على الأكتاف والصدور، والله وحده عالم بما في الصدور ، وجنرالات ومارشالات بأعدادٍ كبيرة ،  لكنهم في الواقع  صقور على أهلهم ، حمائم أمام إسرائيل   أشداء على قومهم ، أذلاء أمام  إسرائيل ، لا يصلحون لغير المراسم والمواسم ...والاستعراضات وشد المهاميز ، ونفخ الأبواق ، وقرع  الطبول .

إننا نلمس واقعاً مؤلماً ، حيث السرقات والتهريب والتخريب ، ومؤتمرات مؤامرات  ومناورات ومساومات ، وتنازلات . تجر علينا الهزائم  وأساطير انتصارات  نصنعها لإسرائيل ، والكل يدعو إلى السلام والاستسلام ، والاستخذاء والركوع  مع تنوع الأساليب والأشكال والأهداف.

هذا هو واقعنا ، فكل الأنظمة ، فريسة لأبطال السمسرة والتهريب ، والرشوة واستغلال النفوذ والإثراء غير المشروع ، أما الشرفاء الذين يتحملون تبعات الحاضر ، وأمانة المستقبل ، فلا مكان لهم في مفاوز الزلفى و النفاق , و مفاسد الأخلاق ، وإذا كان هذا هو واقعنا ، فلم لا نلتزم بعقيدتنا  ونحتكم إلى شريعتنا  التي تعطينا القدرة على ايجاد الحلول النهائية لمشاكلنا ، وألا نكتفي بأن تتضمن الدساتير مادةً ، تقول إن دين الدولة الإسلام ،  ثم نكتفي من الإسلام بشهادة ميلاد  وانتماء اجتماعي فقط لا غير ، ولا نعتنق من مفاهيم ديننا شيئا   ولا نطبق من أحكام شريعتنا الغراء ، الكثير أو القليل . إن قوتنا الحقيقية  تكمن في عزمنا وتصميمنا على الجهاد  والاستشهاد في سبيل الله ، لاسترجاع الأرض والمقدسات  وحماية العرض والشرف ، وهذا لا يكون إلا بالرجوع إلى الإسلام .

إن دول الكفر تسعى إلى تعكير أجواء الأمةِ  بالسفاهةِ ، والتفاهة ، وإن العملاء  يفلسفون الهزيمة بألف تحليل و تحليل ، من المبررات الكاذبة البراقة ، خشية عودة الأمة إلى أصولها والى إيمانها  وهو سبب مصائبها ، فلو تسلح القادةُ الذين تولوا قيادة جيش الأمة ، أثناء هزيمة الذل   مؤمنين بالله ، لما طغت إسرائيل وبغت .

إن الأنظمة التي تقوم على إبعاد الدين والعقيدة  عن المواجهة مع أعدائها ، يكتر فيها الخونة والعملاء ولم لا ، وهم لا يؤمنون بالله ، ولا يقيمون وزناً لمبادئ شريعته  ويفضلون متاع الدنيا ، وشهوة الجاه الرخيص ، والطموح السخيف ، على الكرامة والنخوة والجهاد .

إن قوة العدو ، لم تكن أمراً خارقا ، بل كانت الخيانات العربية ، هي الخوارق ، التي ليس لها نظير ، ولم تكن أسطورة نصر عدونا تفوقاً معجزا ، بل كانت انعكاساً للواقع الأَسود الذي نعيش .

وهنا نتساءل : هل إتعظنا ؟ وهل أيقظتنا العبر ؟  كلا ، والف كلا . فالملهاة تختلط بالمأساة ،كانت وما تزال ، والممثلون هم الممثلون ...والمناخ العربي ما يزال مهيأً اليوم ، كما كان مهيأً بالأمس ، نراوح مطارحنا في انتظار فرج الله  والمعركة بعد طويلة ، بيننا وبين أعدائنا ، ومنطق الرفض الإيجابي ، مع المناجزه المستمرة والجهاد الموصول ، الذي يدعو إليه ديننا من الصدق  والإخلاص ، الذي يقوم على مبدأ التنافي بين العرب والإسلام من جهةٍ ، وبين اليهود وأعوانهم منن جهةٍ أخرى ، فلا سبيل إلى المهادنة أو المصالحة أو التنازل أو الاستسلام .

إن طريق النجاة ، لا ولا يمكن ، أن تكون إلا بالعودة إلى الله ، وبما أن الإسلام قد جاء بشريعةٍ متكاملة  تصلح لكل زمان ومكان ، وهو الذي يقف في مواجهة سفه الصهيونية ، وجشع الرأسمالية . فان معركته هي معركة المصير الإنساني ، وإن أعمى البصيرة وحده ، هو الذي يرضى بواقع هذه الأمة   التي قال فيها عمر بن الخطاب : "كنا أذل قومٍ ، فأعزنا الله بالإسلام" .

إن هذا العالم الفاجر الداعر ، الظالم الغادر  المنحرف عن المسار الصحيح ، لا ينقذه إلا الإسلام ، فقد شهد العالم تغيرات كثيرة ، باسم شعارات متعددة  ولكن الأمور تسير من سيئ إلى أسوأ ، لأن كل تغييرٍ لا ينبثقُ من خلال عقيدة وإيمانٍ صحيح ، فإنَّ مصيره إلى زوال ، أو إلى مزيدٍ من المعاناةِ والآلام . إن التغير المنشود ، لا يتم إلا عن طريق تغيير  بنية المجتمع كلها من الأساس إلى القمة ، أما أن يكون البعض أسياداً  والبعض عبيدا ، والبعض جائعا والبعض متخما  فإن ذلك يتنافى مع مبادئ ديننا وعقيدتنا .

وهنا سؤال : ما هو حكم المتعاملين مع الأنظمة التي لا تحكم بما أنزل الله ؟

في هذه الحالة يمكن أن نكون في مقام التعليم ، لا في مقام إصدار الأحكام على الناس ، لأن جاهلية المجتمع ، ترجع إلى الحكم بغير ما أنزل الله ، وهذه تشمل كل الناس الذين يحكمون بهذه القوانين ، بما في ذلك الدعاة إلى الله ، والحكم عليهم كما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم مستمدٌ من موقفهم هم ، من رضي بها فهو منها ، ومن أنكرها فله حكم خاص ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم ( فمن كره فقد برئ ومن أنكر فقد سلم ، ولكن من رضي وتابع ) .

أما حكم تقلد الوظائف في ظل هذه الأنظمة  فإن الأصل لمن ينكرون الحكم بغير ما أنزل الله أن يكونوا في مواقع بعيده عن ضغط الحكم ، لأن الوظيفة كلما قربت من السلطان ، فقد بعد موقع المسلم منها بالضرورة .

وما أروع قول ذلك الحكيم . في صُحبة  السلطان خطران : إن أطعته جازفت بدينك وإن عصيته جازفت بنفسك ، والخير ألا تقربْه ولا يقرَبُك .

إن المعركة مع أعداء الإسلام طويلة وشاقه ، لذا ينبغي على الفئة التي تقوم بهذا العبء ، أن تُربى لتكون طويلة النفس ، شديدة الصبر ، عميقة الإيمان بالله ، عميقة التوكل عليه ، مستعدة لما يتطلبه أمرها من المعاناة ، قادرةٌ على أن تبذل من نفسها ، من جهدها ومالها ودمها وفكرها ، ما يحتاج إلى إزالة الغربة التي ألمت بالإسلام ، ليعود مرَّةً أخرى راسياً في الأرض ، وحين تكون هناك القاعدة المطلوبة لإعادة حكم الله في الأرض ، فإنه يمَكِّنُ لدينه بمشيئته سبحانه .                          

 

نظرة إلى الواقع الذي نعيش

إننا نعيش في وقت فقدنا فيه العملية الفكرية الصحيحة  التي ترشدنا إلى السبيل الناجح لقتال عدونا وتحقيق النصر ، وبدلاً من أن نكون أمةً واحدة ودولة واحدة  أصبحنا بسبب الفراغ العقائدي دويلات متناقضة ممزقة الأوصال مشتتة الشمل  وهو ما تحبه إسرائيل التي كان همها وما يزال أن تجعل العرب أقل ارتباطاً بدينهم  لتسهيل السيطرة عليهم ، وتحويلهم إلى قطيع سائب في خدمتها ، لذا نلاحظ أن كثيراً من المسلمين في هذه الأيام فقدوا النظر إلى اليهود نظرة عداء ، ونظرة إلى ما جرى ويجري على الساحة ، نرى أن اليهود يقتلون وفئة منا تقابلهم باللقاءات والمفاوضات ، هم ينتهكون الحرمات والمقدسات ويسفكون الدماء ويقطعون الأشجار ويرِّعون الشيوخ والنساء والأطفال ليل نهار  وفئة منا تسعى لعقد اتفاق أمني معهم لبناء الثقة  آملين أن يحل الوئام محل الخصام   وغاب عنها في هذه الدوامة التي تطحن بلا كلل ولا ملل ، أن ذلك نوعاً من المتاجرة بالدماء الزكية الظاهرة ، وبذلها رخيصة في أسواق التفاوض ، التي تعتبر ترويع اليهود لأهلنا في فلسطين ، ثمناً لتحسين شروط المفاوضات وتوفير الأمن والأمان لليهود ، حتى يقبلوا بالعودة إلى طاولة المفاوضات ، يرقصون على أنغام لجنة ميتشل ، وقطاع كبير من ولاة أمر المسلمين تصفق لهم ، وكأن ميتشل جاء بالنصر المبين ، علماً بأن مقترحاته تعتبر تراجعاً عما حصلوا عليه في المفاوضات السابقة ، إنها أسوء من سابقتها ورغم ذلك يتغنون بها لأنها تقول بعدم ضم أراضي جديدة للمستوطنات ، مقابل ضمان الأمن لليهود وكأن قضية فلسطين اقتصرت على قضية عدم بناء مستوطنات جديدة ، والاكتفاء بما هو قائم ناسين أن فلسطين قضية إسلامية ، ورقبتها مملوكة للمسلمين ، لا يملك أحد التنازل عن شيء منها . ومتناسين أن الثأر ضريبة دم وأن الجهاد في سبيل الله حتم ، حين تهدر الكرامة وتهان الحرمان وتداس المقدسات ، وكل ما فعله المسؤولين لاستعادة الحق والكرامة  الخطابة بدل التخطيط ، والكلام بدل الفعل ، والكراهية بدل المحبة   فأصبحت انتصاراتنا خطباً مسرحية لا أفعالاً حقيقية ، وبيانات كاذبة لا مروءة ولا تضحية ولا إيثار  ونظرةً إلى أحوالنا ، وما يحيط بنا في كثيرٍ من بلاد المسلمين  نلمس واقعاً مؤلماً حيث السرقات والتهريب والتخريب ، ومؤتمرات مؤامرات  ومناورات ومساومات وتنازلات تجر علينا الهزائم ، وأساطير انتصارات ، نصنعها لإسرائيل  والكل يدعو إلى السلام والاستسلام ، والاستخذاء والركوع  مع تنوع الأساليب والأشكال والأهداف.

هذا هو واقعنا ، فكل الأنظمة ، فريسة لأبطال السمسرة والتهريب ، والرشوة واستغلال النفوذ والإثراء غير المشروع ، أما الشرفاء الذين يتحملون تبعات الحاضر ، وأمانة المستقبل ، فلا مكان لهم في مفاوز الزلفى و النفاق , و مفاسد الأخلاق  ،  وإذا كان هذا هو واقعنا ، فلم لا نلتزم بعقيدتنا  ونحتكم إلى شريعتنا ، التي تعطينا القدرة على إيجاد الحلول النهائية لمشاكلنا ، وألا نكتفي بأن تتضمن الدساتير مادةً ، تقول إن دين الدولة الإسلام ،  ثم نكتفي من الإسلام بشهادة ميلاد  وانتماء اجتماعي فقط لا غير   ولا نعتنق من مفاهيم ديننا شيئا ، ولا نطبق من أحكام شريعتنا الغراء ، الكثير أو القليل .

إن قوتنا الحقيقية  تكمن في عزمنا وتصميمنا على الجهاد  والاستشهاد في سبيل الله  لاسترجاع الأرض والمقدسات ، من عدونا الذي جار وبغى ، لذا أمر الله بمقاتلته فقال تعالى : ﴿ واقتلوهم حيث ثقفتموهم  وأخرجوهم من حيث أخرجوكم  ﴾ . نقاتلهم من أجل استرداد الأرض وحماية العرض والشرف ، وهذا لا يكون إلا بالرجوع إلى الإسلام ورفع راية الجهاد .

إن دول الكفر تسعى إلى الانتقام من أمة الإسلام وتدميرها ، وقد ذكروا ذلك في صحفهم فقالوا إنهم انتقموا لهزيمتهم أمام صلاح الدين زمن الحروب الصليبية مرتين الأولى : عندما كانوا وراء مصطفى كمال للقضاء على الخلافة ، والثانية : عندما زرعوا الكيان الصهيوني في فلسطين ، قالوا ذلك تصريحاً لا تلميحا ، هكذا فعلوا من قبل ، وهكذا تفعل لجانهم اليوم ، لتثبيت الكيان الصهيوني في فلسطين وضمان الأمن ولهدوء له ، واتخاذ خطوات من شأنها بناء الثقة مع اليهود والإقرار بكيانهم . كما تسعى هذه الدول إلى تعكير أجواء الأمةِ  بالسفاهةِ والتفاهة   وإن العملاء  يفلسفون الهزيمة بألف تحليل و تحليل ، من المبررات الكاذبة البراقة  خشية عودة الأمة إلى أصولها والى إيمانها ، الذي لو تسلح به القادةُ الذين تولوا قيادة جيش الأمة ، أثناء هزيمة الذل لما طغت إسرائيل وبغت .

إن الأنظمة التي تقوم على إبعاد الدين والعقيدة  عن المواجهة مع أعدائها ، يكثر فيها الخونة والعملاء ولم لا ، وهم لا يؤمنون بالله ، ولا يقيمون وزناً لمبادئ شريعته   ويفضلون متاع الدنيا ، وشهوة الجاه الرخيص ، والطموح السخيف ، على الكرامة والنخوة والجهاد .

إن قوة العدو ، لم تكن أمراً خارقا ، بل كانت الخيانات هي الخوارق التي ليس لها نظير ، ولم تكن أسطورة نصر عدونا تفوقاً معجزا ، بل كانت انعكاساً للواقع الأَسود الذي نعيش . وهنا نتساءل : هل اتعظنا ؟ وهل أيقظتنا العبر ؟  كلا  وألف كلا . فالملهاة تختلط بالمأساة ،كانت وما تزال ، والممثلون هم الممثلون ...والمناخ ما يزال مهيأً اليوم   كما كان مهيأً بالأمس ، نراوح مطارحنا في انتظار فرج الله  والمعركة بعد طويلة ، بيننا وبين أعدائنا ، ومنطق الرفض الإيجابي ، مع المناجزه المستمرة والجهاد الموصول ، الذي يدعو إليه ديننا من الصدق  والإخلاص ، الذي يقوم على مبدأ التنافي بين العرب والإسلام من جهةٍ ، وبين اليهود وأعوانهم منن جهةٍ أخرى ، فلا سبيل إلى المهادنة أو المصالحة أو التنازل أو الاستسلام . روى التاريخ أن قتيبة بن مسلم الباهلي أثناء فتوحاته في منطقة بخارى ، قد ظفر بأحد مجرمي العدو الذين كانوا يجيِّشون الجيوش ضد المسلمين ، فحاول هذا المجرم أن يفدي نفسه ، فعرض ألف ألف من نقدهم ، وكان مبلغاً كبيراً جداً في نظر المسلمين ، حتى أشار بعضهم على قتيبة أن يقبل الفداء   لكن قتيبة أبى أن يقبل الفدية وقال قولته : والله لا تروَّع بك مسلمةً أبدا وأمر به فقتل . هذا هو الدواء الناجع لقادة العدو ومجرميه ، أن تتحرك جيوش المسلمين للقضاء عليهم . 

إن طريق النجاة ، لا ولا يمكن ، أن تكون إلا بالعودة إلى الله ، وبما أن الإسلام قد جاء بشريعةٍ متكاملة  تصلح لكل زمان ومكان ، وهو الذي يقف في مواجهة سفه الصهيونية  وجشع الرأسمالية . فان معركته هي معركة المصير الإنساني ، وإن أعمى البصيرة وحده  هو الذي يرضى بواقع هذه الأمة  التي قال فيها عمر بن الخطاب : "كنا أذل قومٍ ، فأعزنا الله بالإسلام" .

إن هذا العالم الفاجر الظالم الغادر  المنحرف عن المسار الصحيح ، لا ينقذه إلا الإسلام  فقد شهد العالم تغيرات كثيرة ، باسم شعارات متعددة ، ولكن الأمور تسير من سيئ إلى أسوأ ، لأن كل تغييرٍ لاينبثقُ من خلال عقيدة وإيمانٍ صحيح  فإنَّ مصيره إلى زوال  أو إلى مزيدٍ من المعاناةِ والآلام . لأن التغيير المنشود ، لا يتم إلا عن طريق تغيير  بنية المجتمع كلها من الأساس إلى القمة ، أما أن يكون البعض أسياداً  والبعض عبيدا  والبعض جائعا والبعض متخما ، فإن ذلك يتنافى مع مبادئ ديننا وعقيدتنا .

وهنا سؤال : ما هو حكم المتعاملين مع الأنظمة التي لا تحكم بما أنزل الله ؟

في هذه الحالة يمكن أن نكون في مقام التعليم ، لا في مقام إصدار الأحكام على الناس ، لأن جاهلية المجتمع  ترجع إلى الحكم بغير ما أنزل الله ، وهذه تشمل كل الناس الذين يُحْكَمون بهذه القوانين ، بما في ذلك الدعاة إلى الله ، والحكم عليهم كما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم  مستمدٌ من موقفهم هم ، من رضي بها فهو منها ، ومن أنكرها فله حكم خاص ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم ( فمن كره فقد برئ ومن أنكر فقد سلم ، ولكن من رضي وتابع ) . أما حكم تقلد الوظائف في ظل هذه الأنظمة ،  فإن الأصل لمن ينكرون الحكم بغير ما أنزل الله  ، أن يكونوا في مواقع بعيده عن ضغط الحكم ، لأن الوظيفة كلما قربت من السلطان   فقد بعد موقع المسلم منها بالضرورة . وما أروع قول ذلك الحكيم : " في صُحبة  السلطان خطران : إن أطعته جازفت بدينك وإن عصيته جازفت بنفسك ، والخير ألا تقربْه ولا يقرَبُك " .

إن المعركة مع أعداء الإسلام طويلة وشاقه ، لذا ينبغي على الفئة التي تقوم بهذا العبء أن  تُربى لتكون طويلة النفس ، شديدة الصبر ، عميقة الإيمان بالله  عميقة التوكل عليه  مستعدة لما يتطلبه أمرها من المعاناة  قادرةٌ على أن تبذل من نفسها ، من جهدها ومالها ودمها وفكرها ، ما يحتاج إلى إزالة الغربة التي ألمت بالإسلام ، ليعود مرَّةً أخرى راسياً في الأرض ، وحين تكون هناك القاعدة المطلوبة لإعادة حكم الله في الأرض ، فإنه يمَكِّنُ لدينه بمشيئته سبحانه ، قال تعالى : ﴿ وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض  وليكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم ، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا  ﴾ .                          

                                                

          

 

 

 

                                    خطر القروض الأجنبية

إن القروض التي تقدمها الدول الكبرى لدولنا ، هي نوع من أنواع الاستعمار ، حتى أن سياسة الدول الكبرى ، تقوم على إثارة القلاقل ، في البلاد التي تمتنع عن أخذ هذه القروض .

ثم إن تمويل الدول الكبرى ، للمشاريع في بلادنا ، هي أخطر طريق تسلكه دولنا ، وما استُعْمِرَتْ البلاد إلا عن طريق هذه الديون . وقد كانت الدول الغربية ، قبل الحرب العالمية ، تسلك أسلوب إعطاء المال قرضاً ،ثم تدخل عن طريق هذا القرض ، لتتغلغل في البلاد .

أما هذه الأيام فإن  الطريقة التي تُعطى فيها هذه القروض ، تتم بإرسال خبراء ، لمعرفة مقدرة البلاد المالية  أي معرفة أسرارها الاقتصادية ، وتحديد المشاريع التي تُنْفَقُ عليها هذه القروض ، فهي تعطي القروض  وتنتظر ارتباك الدول المقترضة ، وتتخذ ذلك وسيلةً ، لوضع يدها على مقدرات البلاد ، بل قد تحدد الطريق التي يَحْصُلُ بها الارتباك ، بعرض مشاريع معينه ، وبشروط معينه ، حتى تؤدي هذه القروض إلى الفقر والفوضى ، وهذا ما نلاحظه من أن القروض الأجنبية ، ما سببت إلا الفقر والضيق والبطالة في البلاد المقترضة . وقد صرح مسئولون غريبون ، بأن قروضهم سببت الفقر  للبلدان التي اقترضت منهم ، فهذا وليام دوغلاس أحد قضاه المحكمة العليا الأمريكية ، يقول في خطاب له في اجتماع ما سوني : إن هناك دولاً كثيرةً ، ازدادت حالتها سوءاً ، نتيجةً  لتلقيها  مسا عدةً أمريكية … وتابع قائلاً : لقد أصبح كبار المسؤولين في تلك الدول ، أثرياء نتيجةً للمساعدة الأمريكية ، وفي الوقت ذاته ، أخذ أفراد عامة الشعب يهلكون جوعاً .

إن القروض الأجنبية ، ما هي إلا أسلوبٌ من أساليب الاستيلاء على البلاد المقترضه ، وبسط النفوذ والسيطرة عليها . وهذه القروض إما أن تكون طويلة الأجل ، أو قصيرة الأجل ،  أما القصيرة الأجل  فإن المقصود منها ، ضربُ عملات البلاد ، لإيجاد اضطرابٍ فيها ، وحين تُسْتَحَقُ هذه القروض  فإنهم لا يقبلون السداد ، بالعملات المتداولة في البلاد المقترضه ، بل يشترطون أن يكون السداد بالعملات الصعبة ، وهي الدولار أو الجنيه الإسترليني . وعندما تعجز هذه البلاد عن التسديد بالعملات الصعبة ، لحاجتها إليها ، مما يضطرها إلى شراء هذه العملات ، بأسعارٍ عاليةٍ بالنسبةِ إلى  عملتها ، مما يُؤدي إلى هبوط قيمة العملة ، المتداولة في البلاد المقترضة ، ويضطرها إلى أن تلجأ إلى صندوق النقد الدولي ، والذي يتحكم في عملاتها ، حسب السياسة التي تراها الدول المقرضة لأنها المالكة لأسهم صندوق النقد الدولي ، وهي التي تُسيطرُ عليه .

  أما القروض الطويلة الأجل ، فهي تُعْطى لآجال طويلة ، فتتراكم هذه الديون ، وتصبح مبالغ ضخمه ، فتعجز البلاد عن تسديدها نقداً ، أو أموالاً منقولة ، فتضطرُّ إلى تسديدها أموالاً غير منقولة من أراضٍ وعقارات ، وبذلك يُصبح لهذه الدول الدائنة ، مصالح تُؤدي إلى بسط نفوذها ، على الدول المدينة .

هذا هو واقع ديون صندوق النقد الدولي ، وحكم الشرع فيها أنها حرام ، من حيث كونها ربا .

إن الصراع في العالم اليوم ، القائم على الفكرة المادية عن الحياة ، وهو قويٌّ وعنيف ، وإن دول الكفر تتنازع النفوذ في العالم ، بهدف إيجاد أسواقٍ رابحةٍ لها ، ونحن هذه الأسواق .

وهناك صراعٌ آخر ، وهو الأهم في نظرهم ، إنه الصراع بين الإسلام ودول الكفر ، لأنه القوة الحقيقية التي تقف في وجه الفكرة المادية ، التي تدين بها هذه الدول , ولأن الإسلام هو الذي يتضمن التصور الكلي ، عن الوجود والحياة ، ويقيم التكافل الاجتماعي ، مقام الصراع والنزاع ، ويجعل للحياة قاعدة روحية ، تصلها بالخالق سبحانه وتعالى في السماء ، وتسيطرُ على اتجاهها في الأرض  ولا تنتهي بالحياة إلى تحقيق أغراضٍ مادية بحتة .

إن الإسلام هو وحده ، الذي يقف في وجه تلك التيارات ، التي لا يوجد لديها أية فكرةٍ عن الحياة الإنسانية ، لأنه نظامٌ شاملٌ ، فيه العقيدة ، والتشريع ، والتنظيم الاجتماعي والاقتصادي ، الخاضع للتشريع ، والقابل للنمو في الفروع والتطبيقات ، كما يقدم للبشرية ، تصوراً شاملاً كاملاً عن الوجود والحياة ، ونظاماً عملياً واقعياً للمجتمع ، وشريعة مفصَّلةً ، قابلةً للنمو الذي تتطلبه حاجات المجتمع المتجددة ، ويُقيم نظامه على هذا الأساس ، كما يُقيم السلوك على أساس مزج المادة بالروح    ويرفض الفكرة التي تجعل المنفعة عقيدة ، مما يُؤكد لنا أن الصراع الحقيقي ، في المستقبل القريب  سيكون بين الإسلام ، الذي يجعل العبودية لله وحده ، ويُخرج الناس من عبادة العباد ، إلى عبادة الله وحده ، وبين سائر الأنظمة في العالم ممثلةً في الرأسمالية ، التي تقوم على أساس عبودية العباد ، مما دفع دول الكفر للعمل على سحق حركات البعث الإسلامي ، في كل مكان .

إن على كل مسلمٍ أن يُدْرِكَ هذه الحقيقة ، وأن يُدركَ أن الإسلام هو القوة الحقيقية ، التي تحسب حسابها دول الكفر . مما يوجب على المسلم ، أن يسلك طريق العمل لتحكيم كتاب الله بعد توقف  أما الطريق الذي تسلكه بعض الفئات ، التي تظن أن الإسلام قائم ، بدليل السماح لهم ببعض الممارسات الإسلامية بحرِّيه ، ظانين أنهم بذلك ، قد أدوا واجبهم تجاه ربهم ، إن هؤلاء الذين يدَّعون الإسلام ، ويتسمون بأسماء المسلمين هم فعلاً مسلمون ، وأن الأوضاع العلمانية السائدة في الأرض  هي أوضاعٌ إسلامية ،كالوضع الذي أقامه أتاتورك ، يوم أن عمل على هدم الخلافة الإسلامية  والدعاة على مفترق الطريق ، فإما أن يلقوا ما لقيته الجماعة المسلمة الأولى ، من الاضطهاد والتعذيب ، ومن الصبر والمصابرة حتى تم لها النصر والتأييد ، ومكن الله لها في الأرض في نهاية المطاف  وإما أن تسير وراء سراب كاذب ، تلوح لها فيه من بعيد ، فئاتٌ تحَّرفُ الكلم عن مواضعه ، وترفع راية الإسلام على مساجد الضرار ، وتضع لافتات اسلاميه على معسكرات الفجور والانحلال ، إن أملنا بالله كبير ، أن يفتح البصائر على الحق ، وان يفتح العيون على الواقع ، لتثبيت مفاهيم الإسلام ، والمطالبة بدستور الهي ، لا يعتريه تغيير أو تبديل ، ألحا كمية فيه لله وحده ، ولا طاعة فيه لمخلوق في معصية الخالق ، ولا فضل فيه لإنسان على إنسان إلا بالتقوى . إننا في جاهلية عمياء ، وواجب المؤمن ، أن يصدع بأمر الله ، إننا إن فعلنا ذلك انتصرنا ، وإلا توالت هزائمنا ، والعياذ بالله من ذلك وهو المستعان .

 

 

إتباع المنهج أساس العدل

قال تعالى : ﴿ أفلم يدَّبروا القول أم جاءهم مالم يأت آباءَهمُ الأولين ، أم يقولون به جِنَّةُ بل جاءَهم بالحقِّ وأكثرُهمُ للحق كارهون ، ولو أتبع الحقُّ أهواءَهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهنَّ بل أتيناهُم بذكرهم فهم عن ذِكرِهِم مُعْرِضُون ﴾ المؤمنون 66-71 . إن الحياة ينبغي أن تقوم على أساس العدل والمساواة ، لا ظالم فيها ولا مظلوم وأن يعيش الناس في هذه الدنيا لا يخشون إلا الله ، ولا فضل لأحدٍ على أحدٍ إلا بالتقوى والعمل الصالح .

وذلك لا يتوفَّر إلاّ في مجتمعٍ توجِّهه وتحكمه وتسوده عقيدة الإسلام ، ومفاهيم الإسلام  وشعائر الإسلام ومشاعره ، وأخلاق الإسلام وتقاليده وقوانينه ، لأنَّ الإسلام يعلوا ولا يُعْلى  ويقود ولا يُقاد ، ويوجِّه ولا يتوجَّه ، لذا نظر الأعداء للإسلام نظرة عداء ، وحاربوه وما زالوا ولكن الله لهم بالمرصاد فقد جعل التشريع للحياة البشرية جزءاً من الناموس الكوني ، تتولاه اليد التي تدبر الكون كله ، فكان حكم الله ورسوله لا يحيد عن الحق ، ولا ينحرف مع الهوى ، ولا يتأثر بالمودة ، وكان الرضى بحكم الله دليل الإيمان الحق ، ودليل استقرار حقيقة الإيمان في القلب ، وهو الأدب الواجب مع الله ورسوله  وما يَرْفض حكم الله ورسوله إلا الذي لم يتأدب بآداب الإسلام ولم يشرق قلبه بنوره الإيمان .

إن حكم الله هو الوحيد المبرأ من مظنَّة الحيف  لأن الله هو العادل ولا يظلم ربك أحداً ، فكل خلقه أمامه سواء ، وكل حكم غير حكمه هو مظنة الحيف .

فالبشر حين يشرعون لأنفسهم لا يملكون أن يميلوا الى مصالحهم ، أفراداً كانوا أم دولاً ، فالفرد من البشر حين يشرع أو يحكم يلحظ في التشريع حماية نفسه ومصالحه ، وما ينطبق على الفرد ينطبق على الدول ، أما حين يشرع الله فلا حماية ولا مصلحة ، إنما هو تحقيق العدل المطلق الذي لا يطبقه تشريع غير تشريع الله ، ولا يحققه حكم غير حكمه .

لذا فإن الذين لا يرضون بحكم الله وتطبيقه على عباد الله ، ولا يريدون للعدل أن يستقر ، ولا يحبون للحق أن يسود ، فإنهم ظالمون لعباد الله ، أما الذين يرضون حكم الله ، فلهم أدب غير هذا مع الله ورسوله ، إنه السمع والطاعة بلا تردد ولا جدال ولا انحراف ، السمع والطاعة المستمدة من الثقة المطلقة في أن حكم الله ورسوله هو الحكم وما عداه الهوى : ﴿ ومن يطع الله ورسوله ويخشى الله ويتقه فأولئك هم الفائزون  ﴾ . لقد جاء القرآن ليربي أمة ، وينشيء مجتمعا ويقيم نطاما ، جاء بمنهاج شامل كامل للحياة كلها ، جاء ليكون منهج تربية ومنهاج حياة ، لا ليكون كتاب ثقافة يقرأ لمجرد اللذة أو لمجرد المعرفة أو اثناء السير في الجنازات ، جاء لتكون آياته هي الأوامر اليومية التي يتلقاها المسلمون في حينها ليعملوا بها فور تلقيها ، وعندما غفل المسلمون عن هذا المنهج ، واتخذوا القرآن فقط للتعبد بقرائته لا منهج تربية وحياة ، فإنهم لم ينتفعوا منه بشيء ، لأنهم بهذه النظرة إلى القرآن ، يكونوا قد خرجوا عن منهجه الذي رسمه الله لعباده .

لقد ظلت أمة العرب لا ذكر لها في تاريخ العالم حتى جاءها الإسلام ، وسيظل ذكرها يدوي طالما   تمسكت به ، وعندما تخلت عنه هذه الأيام  أصبحت كقول القائل : "لا في العير ولا في النفير" ولن تقوم لها قائمة إلا يوم ترجع إلى دينها وتعود إلى ربها متمسكة بعقيدتها ومنهج ربها . 

أما أن لا يعرف القائمون على أمر هذه الأمة الحق  إلا إذا وافق أهوائهم وإن خالفها تنكروا له ، فإنها الأنانية البشعة وهي صفة المنافقين الذين يدَّعون أن تصرفاتهم من الدين ووفق مبادئه ، والله يعلم انهم لكاذبون ولكتابه مخالفون ، لأن حقيقتهم المجاهرة بالحق الذي يوافق أهوائهم وما عداه باطل  فأي باطل ينكرون وبأي حق يجاهرون ، فهل الحق في مفهومهم و إيمانهم هو الذي يتفق مع مصالحهم والباطل ما يخالفها ؟ إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور . إن مثل القائمين على أمر هذه الأمة كرجلان جاران أحدهما غنيٌّ يملك فرساً والآخر فقيرٌ يملك بقرة ، فولدت بقرة الفقير عجلا ، فقال الغني : إن العجل ابن فرسي ، فقال الفقير للغني : ما سمعنا ان فرساً تلد عجلا ، فاحتكما الى القضاء فقال القاضي : نحكم بأن العجل ابن الفرس ، الا ترى عينيها تشبه عيني الفرس  وأن لها أربعة أرجل كالفرس ، ثم أصدر حكمه بان العجل ابن الفرس ، واستأنف الفقير الحكم ، فأصدرت المحكمة الثانية نفس الحكم الأول ، فرفع الفقير الأمر الى محكمة التمييز وكان قاضيها رجلاً يعرف الله ، فلما وقف الغني بجانب الفقير ، نظر القاضي في القضية وخاطب المحتكمين وقال لهما : أعتذر اليوم عن القضاء ، فقال له الغنيُّ : لماذا ؟ فقال له القاضي : لأن دم الحيض قد نزل علي وأنا لا احكم وانا حائض فقال له الغني : أيـنـزل دم الحيض على الرجال يا سيدي فقال له القاضي : إذا كنت لا تصدِّق أن دم الحيض ينـزل على الرجال   فكيف أصدِّق أن الفرس تلد عجلا ، وأصدر برد العجل للفقير .  

هذا هو حال القائمين على أمر الأمة ، يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير  إنهم في غفلة عن واقعهم الأليم ، لأنهم يؤمنون أو يوهمون الناس بأنهم ما يفعلون إلا الحق ولا ينطقون إلا بالصدق  وهم في حقيقتهم لا يتحركون إلا بدافع من أهوائهم ومصالحهم .

إنهم بمواقفهم هذه أسوأ حالاً من المنافقين ، الذي يخدعون الناس ولا تخدعهم أنفسهم ، لأنهم على يقين من كذبهم ودجلهم ، أما من هم على شاكلتهم فإنهم يسيئون وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، ولا يظلم هؤلاء وأولئك من ينفي عنهم صفة الإيمان ، لأن المؤمن لا يخدع أمته ونفسه بالحيل والأباطيل التي يصورها له شيطانه ، فليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقة العمل .

إن الهدف من قيام شريعة الله في الأرض ليس مجرد العمل للآخرة ، فالدنيا والآخرة معاً مرحلتان متكاملتان ، وشريعة الله هي التي تنسِّق بينهما  وبالتزامهما تتحقق عبودية البشر لله وحده .  قال تعالى : ﴿ أفغير دين الله يبغون ، وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرها واليه يرجعون ﴾ آل عمران 83 . 

 

مطامح الدول الكبرى

  ترى الدول الكبرى أن تبسط سيطرتها على أكبر رقعة من الأرض ، وتكون لها مستعمرات في قارات مختلفة ، والسيطرة على شعوبها ، وكثيراً ما تنشب الحرب بينها وبين تلك الشعوب ، وما كانت جمعية الأمم ، التي تنشب الحروب على مسامعها ، وعلى مرأى من خليفتها الأمم المتحدة   إلا كما قال الأمير شكيب أرسلان : " ما وجدت إلا لتلبس الاعتداء حلة قانونية ، وتسوغ الفتوحات بتغيير الأسماء ، لا يطيعها سوى ضعيف عاجز ، ولا تستطيع أن تحكم على قوي متجاوز " وقال جود الإنجليزي : " إن حرباً تُشْهَرُ تحت إشراف عصبة الأمم  ليست للعدل بين الأمم ، ليقوم بها شرطة العالم ، للأخذ على يد الظالم   وعقاب المعتدي ، ليست هذه الحرب إلا كفاحاً بين الطوائف المتنافسة في القوة . الواحدة منها حريصة على المحافظة على القسط الأكبر من ثروة العالم وموارده ، والأخرى متهالكة على تحصيلها ، أما التذرع بأن هذه الحروب، إنما هي للدفاع عن الديمقراطية وعن عصبة الأمم وضد الفاشية والاعتداء ، فلا يغير من الموقف شيئاً " وهنا يمكن القول : كيف تدافع عن الديموقراطية ؟ وهي تهد ف إلى السيطرة على منطقة الشرق الأوسط ، من أفغانستان مروراً بباكستان وحتى العراق وسوريا   على أن تكون هذه السيطرة ، عسكرية ومباشرة   إنها لا تختلف عن السيطرة الاستعمارية ، التي سادت في بداية القرن الماضي ، لأن القصد من هذه السيطرة ، الاستيلاء على ثروة المنطقة النفطية  وخاصةً ثروة العراق، حيث النفط الرخيص  لاستغلاله في تركيع الدول ، التي بدأت تتطلع للعبِ دورٍ منافسٍ للاقتصاد الأمريكي، خصوصاً الصين واليابان والاتحاد الأوروبي ، وبهدف إعادة صياغة الجغرافية السياسية ، على نحوٍ يخلق وضعاً يمكّن الولاياتِ المتحدة وقواتِها العسكرية ، من البقاء في هذه المنطقة  وجاء غزو العراق واحتلالُـه ، في سياقٍ دولي يعكس عودة الصراع على الموارد بين الدول الكبرى ، يقول الكاتب الأمريكي والمؤرخ للحروب الأمريكية المعاصرة  مايكل كلير في كتابه حرب الموارد : " إن الولايات المتحدة بوصفها المستهلك الرئيسي للنفط والغاز في العالم ، يجب أن تحتفظَ بحرية الوصول إلى الإمدادات فيما وراء البحار ، وإلا واجه اقتصادُها برمّته الانهيار ، وإن الازدهار في الداخل ، يعتمد على الاستقرار في المناطق الرئيسية التي نتاجر معها ، أو نستورد منها السلع الحيوية ، مثل النفط والغاز الطبيعي " ، كما قال الرئيس السابق كلينتون :"وتحتل الحرب الاقتصادية المنزلـة نفسَها ، التي احتلتها الحرب الإيديولوجية في الحرب الباردة " وقد أعلن وزير الخارجية كريستوفر في عهده : " لن نخجل من ربط دبلوماسيتِنا الرفيعة ، بأهدافنا الاقتصادية   وأشار إلى أن العالم قد دخل حقبةً ، تتفوق فيها المنافسة الاقتصادية ، على التنافس الإيديولوجي   وأكد أن الإدارة الأمريكية ، سوف تدفع الأمن الاقتصادي لأمريكا ، بنفس القوة التي كرستها لشن الحرب الباردة ". ولكن ضدَّ مَن هذه المرة؟ بكل تأكيد ، ضدَّ الشركاء السابقين للولايات المتحدة ، في التحالف ضدَّ الاتحاد السوفييتي، أي ضدَّ فرنسا وألمانيا، والصين ، ويؤكد كلير: " من الواضح أنه من غير الممكن ، تفسير القوى المحركة لشؤون الأمن العالمي ، بدون الاعتراف بالأهمية المحورية للمنافسة على الموارد ، بالنسبة لكل بلد تقريباً في العالم، وأصبح السعي وراء الموارد الأساسية أو حمايتِها سمةً كبرى في تخطيط الأمن القومي " ويضرب كلير مثلاً ، يفسر جزءاً كبيراً من الإستراتيجية الأمريكية، وخصوصاً احتلالها لأفغانستان، فيقول : "قدِّرَت قيمة النفط غير المستخرَج من حوض بحر قزوين مثلاً، من قبل وزارة الخارجية الأمريكية في عام 1997 بأنها تساوي حوالي 4 تريليون دولار، ولذلك يُنظَر إلى امتلاكه على نطاق واسع ، على أنه يستحق الاقتتال عليه ".

إن الهيمنة على اقتصاديات الدول النامية الضعيفة  من خلال تصفية موارد هذه الدول ، بإثقالها بديون تصب في النهاية ، لصالح شركات  الدول المهيمنة ، التي تعطي القروض ، وتفرض شركاتها على الدول النامية ، لتقوم بتنفيذ مشاريعها في تلك الدول، ثم تغرقها في ديون مركبة، لا تستطيع منها فكاكاً ، لتملي عليها بعدها قراراتها ومطالباتها ، بالموافقة على سياساتها بل وتنفيذها .

لقد عملوا جاهدين لتركيع وإذلال شعوبنا  وإنهاك اقتصادنا ، معتمدين على رجالاتهم الذين يتعاونوا معهم ، ويرضوا بالحلول السريعة على حساب مستقبل الأمة ، فوضعوا الخطط التي تمكنهم من تدمير المجتمعات الإسلامية ، والحضارة العربية الإسلامية، بحجة محاربة التطرف والإرهاب ، وتبرير احتلال البلاد الإسلامية ، بذريعة نزع أسلحة الدمار الشامل ، أو محاربة الإرهاب وفرضت هيمنتها عليها في إطار حريات مقموعة وديمقراطية غائبة، ومشاركة سياسية ملغاة، بل إن بعض الساسة حوّل نفسه إلى أداة قمع تحركها هذه الإدارة ضد شعوبها ، فزاد هذا الواقع المرير   اليأس والقنوط والإحباط واللامبالاة عندنا ، لأن الفساد متربع على معظم نواحي الحياة السياسية   والاقتصادية والاجتماعية .

والسؤال الذي يطرح نفسه : كيف الخلاص ؟  إن خير بداية للتخلص من الهيمنة الأمريكية تكون بالعودة إلى الله وتطبيق منهج الله ، وإعداد الأمة للجهاد ، حتى نتخلص من هذه الهيمنة ، وليس ذلك ببعيد ، أذكر لذلك مثلا من التاريخ   قبل الفتوحات الإسلامية لبلاد الشام والعراق وبلاد فارس ، كان العرب الغساسنة تحت نفوذ دولة الروم ، وعرب المناذرة تحت نفوذ دولة الفرس  وفي ظل هذين النفوذين ، كان العرب عبارة عن أتباع ليس لهم لا حول ولا قوة ، ويُستَخْدَموا كوقودٍ لصراع فارس مع الروم ، وعندما هُزمت فارس والروم ، استقل العرب ، وتخلصوا من التبعية ، وأصبحوا في ظل الإسلام ، أمة ذات حضارة ، لها قوتها وعزتها ومكانتها ، واحترامها بين الأمم ، وللأسف بعد انهيار الخلافة الإسلامية ، وإبعاد حكم الإسلام عن شؤون الحياة ، عادت الأمة لنموذج التبعية للآخرين ، وهي ناتج طبيعي لفعل عدم تحكيم منهج الله  لان الله عز وجل قال : ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ وقال عمر ابن الخطاب رضي الله عنة : " كنا أذلاء، فأعزنا الله بالإسلام، فإن ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله" نعم هي خير امة وعزيزة ، حين يكون الإسلام منهجها في جميع شؤون الحياة ، وليس في العبادات فقط ، وعندما ضعف منهج الإسلام في نفوس ألأمة ، وأصبحت تابعة للغرب في قوانينه وأحكامه وتقاليده وعاداته ، سهل عليها تنفيذ مشاريعهم التي تستهدف هوية الأمة وعقيدتها ، بكل سهولة ويسر ، فأصيبت بمرض التبعية للآخرين ، فوجدت أحزاب لا يعنيها مصلحة الأمة الإسلامية ، لا من قريب ولا من بعيد ، ورضيت بفعل المال السياسي والتقارب الفكري ، أن تكون أدوات طيعة لتنفيذ مشاريع خارجية ، منها علمانية وأخرى يسارية ، وإبرام المعاهدات التي تكرس التبعية لأميركا وأوروبا  ومن هنا كان لزاماً على الأمة الإسلامية وخاصة  أصحاب القرار فيها ، والإصلاحيين وأصحاب النخوة الوطنية الصادقة  الدعوة للوقوف أمام هذا الخطر الداهم ، الذي يهدد أمن الأمة الإسلامية بكاملها .  اقتضت حكمة الله أن يكون هناك حق وباطل  وخير وشر، وإصلاح وفساد، ولا بد من قوة لدى أهل الخير والإصلاح ، تكون غايتها سعادة البشرية وفلاحها وبسط الحق والعدل فيها، فكل توجه أو هدف غير هذا، لا اعتبار له في الإسلام ، لأن الإسلام وإن كان دين رحمة وعدل وسلام  فإنه في الوقت نفسه، دين قوة وإباء ، لأنه دين عملي يأخذ الحياة من واقعها، ويعامل الخلائق من طبائعها، وفي الحياة والطبائع ميل إلى المشاحنات  وتوجه نحو المنازعات , ودخول في المنافسات من أجل ذلك ، أمر بإعداد القوة التي تحمي الحق  وتبسط العدل، وتزرع الخير وتنشر السلام، بل إن القوة العادلة، أقوى ضمان لتحقيق السلام ، وحذر من أن يفهم الناس أن السلام معناه القعود عن الاستعداد ، مادام في الدنيا أقوام لا تعرف قيمة السلام، ولا تحترم حرية غيرها في أن تعيش آمنة مطمئنة في بلادها ومن أجل ذلك كان  الأمر بإعداد القوة، وأخذ الأهبة، وقبل ذلك وبعده  قوة الإيمان، لأن الأمة القوية والدولة القوية تُحْفظ مهابتُها ، ما دامت صفة القوة ملازمة لها  وهي سنة إلهية ،  إذ لا خير في حق لا نفاذ له  ولا يقوم حق ما لم تحط به قوة تحفظه وتسنده  استعداد ليكون سبباً في منع الحرب ، قبل أن يكون استعداداً عند نشوبها وإشعالها ، وإن ترك الاستعداد يغري بالعدوان ويسرع بالاستسلام ، والقوي المستعد للمقاومة قلما يُعتدي عليه، وإن اعتدي عليه  قلما يظفر به عدوه أو ينال منه أو يهيمن عليه ، وهذه هي الغاية من إعداد القوة في قوله تعالى : ﴿ وأعدوا لهم ما استطعتم ﴾ . 

 

 

 

 

 

 

 

عالمـية الإسلام

 لقد بدأت عالمية الإسلام منذ اللحظة الأولى لبعثة النبي صلى الله عليه وسلم فالإسلام عقيدة لا يختص بها شعب ، أو مجتمع أو بلد ، بل هو دين للناس جميعا ، بغض النظر عن العنصر أو الوطن أو اللسان ، ولا يعترف بأية فواصل وتحديدات جنسية أو إقليمية أو زمنية ، فهو عام في المكان والزمان . جاء في تفسير القرطبي في قوله تعالى : ﴿ تبارك الذي نـزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً ﴾ الفرقان1.  المراد بالعالمين هنا الإنس والجن ، وها هو صلى الله عليه وسلم يخبر قومه قائلاً: ( والله الذي لا إله إلا هو إني رسول الله إليكم خاصة وإلى الناس عامة ) ولأن النبي صلى الله عليه وسلم رسولاً للجن والإنس ونذيراً لهما ، وأنه خاتم الأنبياء ، أمره الله أول ما بعثه أن يصدع بالحق ، بين عشيرته أولاً ، ولتتسع دائرة التبليغ والإنذار ، إلى أن تصل مباشرة إلى أسماع كل من يستطيع أن يسمعه ، أو يرسل من ينوب عنه في تبليغ ما جاء به من الله تعالى ، ولتحقيق ما كلف به من تبليغ رسالته لجميع الناس ، فبدأ النبي صلى الله عليه وسلم يرسل كتبه إلى كل حاكم حوله ، فأرسل إلى فارس وإلى الروم وإلى مصر  وإلى كل بلد يمكن أن يكون فيها من يستطيع تلبية الرسالة ، وما كتاباته صلى الله عليه وسلم إلى ملوك العالم في عهده إلا دليلاً قاطعاً على عالمية رسالته وقد أتى الإسلام بتشريعاته وأحكامه ، في كل شؤون الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، وقد جاءت هذه الأحكام لمعالجة شؤون الناس جميعا  مسلمين وغير مسلمين ، كما جاءت لتقضي على التفرقة بين الناس ، وحل النـزاعات الإقليمية أو الطائفية أو العنصرية أو القبلية أو الوطنية ؛ لأن الإسلام لا يفرق بين أبيض وأسود ولا بين جنس وآخر ، وقد حارب العصبية والعنصرية والطائفية ودعا الناس إلى رابطة واحدة هي رابطة العقيدة الإسلامية وهذا واضح في قول الله تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ الحجرات13. وقد أخذ الخلفاء والمسلمون من بعده صلى الله عليه وسلم يمدون هذه الرسالة حيث تنقلوا ، فكانوا وهم يحطمون جبروت الاستعمار ، متجردين لله ، وكانت حياتهم مع بعضهم البعض ، ومسالكهم مع الآخرين ، سببا في دخول بقية الأمم في الإسلام ، حتى أصبحت في مقدمة الأمم المتعصبة له والمدافعة عنه ، فكان منها العلماء والفقهاء  الذين حملوا لواء التدريس في البلاد الإسلامية ، ومضت إلى أن بلغت عهدنا الحالي ، ولو تركنا نصرته والعمل له  فسوف يأتي الله بقوم آخرين ، يعملون لرفعة هذا الدين  ونصرته قال تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ  ﴾ المائدة54 ، وقال تعالى : ﴿ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ  ﴾ محمد 38 .  إن عالمية الإسلام ستبقى إلى قيام الساعة ، ولا بد أن يسيطر على العالم  قال تعالى : ﴿ هو الذي أرسل بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ﴾ الصف 9 . ثم يخبرنا الله أن الكفر مهما كان قوياً ومهما كانت أعداده كثيرة ، ومهما كانت أسلحته ماضية ، يخبرنا الله أن لا نهتم لذلك فقال تعالى : ﴿ لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض ومأواهم النار ولبئس المصير﴾   النور 57 . فلن يغلبوا الله ، وقال الله تعالى : ﴿ وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة  ﴾ آل عمران 55 . معنى هذا أن عبودية البشر كافة لله   وأن هذه العقيدة ظاهرة فوق غيرها إلى يوم القيامة   يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث طويل ( ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل ، عزاً يعز به الإسلام ، وذلاً يذل الله به الكفر ) أحمد . وفي حديث أخر ( مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خيرٌ أم آخره ) الترمذي . 

وقد يسأل سائل : كيف نوفق بين هذه الأحاديث  والأحاديث التي تتحدث عن غربة الإسلام وضعفه ؟ ان الخط البياني لخط الإسلام خط متعرج ، لا يرتفع باستمرار ولا ينخفض باستمرار ، إنه يرتفع وينخفض  وإن الإسلام بين مد وجزر ، حتى في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم  فالله نصر المسلمين في بدر ، وهزمهم في أحد قال تعالى : ﴿ وتلك الأيام نداولها بين الناس ﴾ آل عمران 140 .  وكذلك إلى قيام الساعة ، سننتصر وننهزم ، وننتصر وننهزم ، وسيكون الإسلام غريبا في بعض الأوقات ، ثم يأنس ويعتز ويقوى ، ثم يستوحش لضعف الناصر وجهل العامل ، وما إلى ذلك ، ثم تذهب هذه العلل ، وتنقشع هذه الغُمم ، ويعود الإسلام قوياً عزيزا ، وهكذا إلى قيام الساعة ، ولكن الكلمة الأخيرة للإسلام كما قال تعالى : ﴿ وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة﴾  آل عمران 55 .وإذا كنا نمرُّ في أيام ضعف ، والأعداء ينالون منا ، فإن السبب ليس من الأعداء لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها ، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها ، وأعطيت الكنـزين الأحمر والأبيض ، وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسَنة بعامَّةٍ ، وأن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ، وإن ربي قال : يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد ، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بِسنة بِعامَّة ، ولا أسلط عليهم عدّواً من سوى أنفسهم ، فيستبيح بيضتهم ، ولو اجتمع عليهم من أقطارها  حتى يكون بعضهم يهلك بعض ، ويسبي بعضهم بعضا ) مسلم في الفتن . نعم إن أعدائنا لا يضربوننا بأيديهم ، بقدر ما يضربوننا بأيدينا نحن ، فالفرقة بين العرب والمسلمين حقيقة موجودة ، وستبقى حتى يعودوا إلى الإسلام ، وحتى تكون للقرآن مكانته العملية ويوم يطبق منهج الله .  

إن أي دارس للتاريخ يعلم أن العرب ينتصرون حين يعودون إلى ربهم ، ويرجعون إلى دينهم ، ويتمسكون بشرائعهم ، وإن الرباط الذي يربط بين المسلمين ويمنع تفككهم هو الدين ، وليعلم المسلمون أن راية الإسلام هي وحدها التي تجمع الشمل ، وتوحد الصفوف ، في وقت ازدادت جراحاتهم ، وشعر أعداء الإسلام بأن الإسلام سينتهي أو كاد ، ولما تعالت الصيحات بوجوب العودة إلى الدين والتمسك به ، أخذت المؤامرة ضد الإسلام طريقاً آخر ، بأن لا مانع من العودة إلى الإسلام ، ولكنه إسلام يمكن التخلص من نصوصه ، بل وأكثر من ذلك  يريدون منا أن نرتد عن ديننا ، وأن نتنازل عن بلادنا ، أما الارتداد عن الدين فلأنهم يحاربوننا على هذا الدين منذ أن ظهر ، وأما التنازل عن البلاد ، فلأن خيراتها كثيرة ، وكنوزها موفورة ، والطاقات فيها لا تكاد تنتهي ، وأمام هذا الواقع لا خيار لنا ، إما أن نتمسك بالإسلام ، فننجوا وننجح ، وإما أن نهمله فنخسر دنيانا وآخرتنا . 

والدارس للتاريخ الإسلامي يرى أن العقيدة الإسلامية والمبادئ الإسلامية   مكنت المسلمين الأوائل ، من أن ينجحوا في تحمل عبء الحكم ومسئولياته  ونجحوا في حمل الدعوة إلى العالم ، وهذا يجعلنا في الوقت الحاضر أن نتطلع إلى مستقبل الإسلام باطمئنان ، فنحن أكبر منهم قوة وأكثر عددا ، إذا استكملنا ما تفوقوا به علينا ، وهو الاستمساك بالدين ، والاعتصام بحبل الله المتين    والالتفاف حول راية لا إله إلا الله ، أمكننا أن نستأنف دورهم في قيادة العالم :       ﴿ وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ﴾ .   

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

أهمية الإعلام

لا بد من الحديث عن الإعلام في وقتٍ نرى فيه قدرة أعدائنا على تسخير وكالات الأنباء والأجهزة المرئية وغير المرئية ضد أمتنا ، مما يوجب على أمتنا أن تعمل لتكون لها أجهزة إعلام واعية تعمل لصالحها ، وعلى أساس عقيدتها الإسلامية ، وتدفع عنها غائلة التورط  في الارتباط ارتباط مصيرٍ بأمم الكفر ، والتي تعمل ما وسعها ، لأن يقتصر عمل أجهزة الإعلام  في الترويج للمهرجانات الغنائية الخليعة الماجنة ، في تحدٍ سافرٍ لمشاعر المسلمين الغيورين  مما يُشكل دعايةً مسمومةً لأساليب الحياة الغربية ، ودعايةً للإباحيين الذين يسعون لإفساد الأمة ، بتنظيم هذه المهرجانات .

 إن ما يهم المسلم في مجال الإعلام ، أن يوجد الفكر الإسلامي ، فلو سُخِرَتْ أجهزة الإعلام ،لخدمة الإسلام ومبادئه وأهدافه ، لكان لها شأن آخر ،كما يجب العمل على تغيير أفكار القائمين ، على أمر الوسائل الإعلامية ، وملء عقولهم بالمفاهيم الإسلامية  وذلك عن طريق إعداد القائمين على أمر الإعلام  إعداد إسلامياً ، وإقناعهم بأهمية الإسلام ونهجه  وفائدته للبشرية .

إن الإعلام في بلاد الإسلام ، يجب أن يقوم به مسلمون عاملون بدينهم ، متفهمون لطبيعة الإعلام ووسائله الحديثة ، ومتى كان القائم بالإعلام الإسلامي  عاملاً بعلمه وبأمور دينية  فإنه يكون متحمساً له  ويكون علمه بالدين هو دليله ومرشده ، في إعداده لبرامجه وأحاديثه وصياغته لسائر المواد الإعلامية التي يقدمها .

إن العمل الإعلامي ، لا بد وأن تحكمه مرجعية فكرية  والتي تكمن في الاستمساك بما أنزل الله ، لأن المسلم الحق ، يؤمن بأن الله قد تكفل لمن خلصت عقيدته  وصلح فكرة   بالسعادة في الدنيا والآخرة  وتوعد من أعرض عنه ، وفسدت عقيدته ، بالشقاوة في الدارين  وعليه أن يدرك أن عقيدته ، هي العقيدة الحق ، التي حفظها الله عز وجل ، وبدون ذلك لن يتحقق أي نصر للمسلمين .

إن تطبيق أوامر الله  واستلهام أجهزة الحكم ، وقنوات الفكر ، ووسائل الإعلام ، وروح الشريعة يرجع إلى إيمان المسلم بعقيدته ، وأنها تستطيع أن تحقق له الإشباع الروحي والعقلي  بعد أن أخفقت العقائد الأخرى في إسعاد الإنسان ، لأن هذه العقائد ، تترك علامات استفهام حائرة ، في نفوس أهلها ، فلم تستطع أن تحل مشكلاتهم الاجتماعية أو الاقتصادية  ففقدت مصداقيتها ، ووجد أصحابها أنفسهم في ضياع ، فغرقوا في ملذاتهم ، وانساقوا وراء غرائزهم  وعاشوا عيشة البهائم  وارتفعت معدلات الانتحار كما زادت نسبة الجريمة في مجتمعاتهم . وهنا يجد الباحثون الرد على تساؤلاتهم ، حول سبب تمسك المسلمين بعقيدتهم  على الرغم من الفقر والمرض والجوع ، حتى أن كثيراً من ساسة الغرب وعلمائهم ، نصحوا حكوماتهم ، بالتعامل مع المسلمين بصورة واقعية ، وعدم بذل الجهد والمال  لتحويل المسلمين إلى غير عقيدتهم ، بعدما فشلت محاولات احتوائهم وإغرائهم ، من خلال وسائل التبشير والتنصير، المزودة بالتقنيات والكوادر المدعومة  بأفضل الإمكانيات .

إن المسلمين يتطلعون إلى اليوم  الذي يجدون فيه إعلامهم ، يتفق مع دينهم وعقيدتهم ، لأن دماءهم من نبع هذا الدين ، مما يوجب على الأمة الإسلامية  أن تدرك هذه الحقيقة ، إذا أرادت أن تحقق الأهداف الإنسانية النبيلة ، التي جاءت بها الشريعة الإسلامية  بدلاً من المذاهب والأفكار التي تتنافى مع ديننا وعقيدتنا ، وإن أي نشاط إعلامي ، ينسجم مع روح الشريعة ، ويتقيد بأوامر الله ، سيلقى القبول والرضا من أمة الإسلام ، فهل آن الأوان للرجوع إلى الحق والتعامل مع الواقع ؟ أما آن لنا أن نستفيد من تجارب الماضي ؟

لقد جربت بعض الأنظمة في العالم الإسلامي النهج الاشتراكي  تارةً ، والنظام الاستبدادي تارةً أخرى  ولم يسفر ذلك إلا عن ضياع وقت الأمة ، وإهدار طاقاتها ، والقضاء على ثرواتها علما بأنه يوم كان المسلمون يلتزمون فيه بمنهج الحق ،كان النجاح والنصر حليفهم ، مما يؤكد قوة تأثير العقيدة في حياة المسلمين . فلم لا يتعامل القائمون على أجهزة الإعلام بالمرجعية الإسلامية في القول والنشر؟  في وقتٍ نرى فيه هذه الأجهزة تدور في دائرةٍ مفرغة ، وتعمل في إطار محدود لها ، وتخدم أشخاصاً مكنتهم الظروف من السيطرة أو النفوذ .

إن الواقع الحالي ، الذي يعيشه العرب والمسلمون  يدعو للأسف ، لأنهم يعتمدون على وكالات الأنباء العالمية في نقل المعلومات ، وينقلوها نقلاً حرفياً دون تفهم وتبصر ، ويقبل المسلمون اليوم على شراء التقنيات ولم يحاولوا تعلمها ، فكان موقفهم من هذه التقنيات موقف الزبائن ، فوقع إعلامهم في أخطاء قاتله ، ومارس دوراً لا يتفق مع حركة الأحداث . وما يزيد الأمر تعقيداً ويدعوا للبحث والدراسة  إشكالية البث المباشر عبر الأقمار الصناعية  التي تشكل غزواً جديداً ، لا مجال للرقابة والمنع في مواجهته ، مما يزيد هيمنة الدول الكبرى على وسائل الاتصال ، ومراكز المعلومات  ووكالات الأنباء  وأجهزة صناعة الفكر في العالم  مما أدى إلى تأثر الشعوب الإسلامية ، بالأفكار والعقائد الفاسدة  وسيكون هذا التأثير كبيراً على الأطفال ، في مراحل حياتهم الأولى ، لأن تعرضهم إلى سبيل لا ينقطع ، من مشاهد العنف والجنس والجريمة ، إضافةً إلى العقائد الفاسدة ، والأفكار المنحرفة ، التي تحملها وسائل البث المباشر ، سوف يترك الأثر الأكبر ، على سلوك أبناء المسلمين  والذي قد يدفعهم  إلى تصرفاتٍ غير مسئولة ، وأعمالٍ عدوانية ، بفعل غريزة التقليد والمحاكاة ، لذا ركَّزَ الإسلام على أهمية البيت والأسرة  في تكوين شخصية الإنسان ، فقال تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا ﴾ كما أن صلاح الوالدين والكبار ، وقيامهم بفرائض الدين  وبعدهم عن المنكرات والآثام ، والتزامهم حدود الفضيلة والأدب ، وتعليم الصغار وتلقينهم مبادئ الدين ، وغرس بذور الاعتقاد والإيمان في نفوسهم  مطلوبٌ شرعاً ، قال عليه السلام : (الزموا أولادكم وأحسنوا أدبهم ) ، ونبه على أن الإهمال فيه أثمٌ كبير  فقال عليه السلام : ( كفى بالمرء إثماً أن يُضيع من يقوت ) .

وهنا تساؤلات : لماذا يتوجه بعض الدعاة إلى الأمة  قبل أن يتوجهوا إلى الدولة ؟ ولماذا لا يُنظر إلى فساد بعض القائمين على أمر هذه الأمة ، نظرتهم إلى غيرهم من العامة ؟ ولماذا يُقتصر في معرفة المعلومة أو الخبر عن المسلمين عن طريق وكالات الأنباء الأجنبية ؟ ولا نعرف عن بعض الدول الإسلامية ، إلا أنها دولٌ تكثر فيها الصراعات والقلاقل  ويسودها التخلف  متجاهلين الوجه الإيجابي لها . إن هذه المفارقات المخزية ، ما هي إلا صورةٌ من صور المعاناة التي يعيشها العالم الإسلامي  بسبب اعتماد وسائل الإعلام لدينا ، على المصادر التي لا تقدم من الواقع ، إلا ما يتعلق بالكوارث والحروب ، والقلاقل والخلافات ، أما الأخبار التي تسر وترفع المعنويات  سواء بما يتعلق بالتقدم الصناعي أو النهضة الاقتصادية في طول العالم الإسلامي وعرضه ، فإنها تتجاهلها ولا تحفل بها  ولهذه المعاناة صورة أكثر إيلاماً ، وأبشع تأثيراً ، لأن وكالات الأنباء الأجنبية ، هي التي تصنع الرأي العالمي  وتشكل رؤيته عن العرب والمسلمين  ومن ثم لا غرابة ، أن ينظر العالم إليهم نظرة ازدراء واحتقار .  وهناك تأثير أشد أنكى من الوكالات الأجنبية على العمل الإعلامي ، إنه يتمثل في سيطرة المنافقين  وغير المؤهلين من العناصر الانتهازية ، التي تجيد التملق والرياء والمداهنة . مما أدى إلى سيطرة بعضهم على أجهزة الاتصال ، الأمر الذي أدى إلى تدهور الأوضاع الإعلامية في العالم الإسلامي ، وقد دفعت الأمة الثمن غالباً ، من حاضرها ومستقبلها  بسبب تأثير هذه الفئة على صناع القرار ، وإلا فما هو تفسير الظواهر السلبية ، والأوضاع المختلفة ، التي تسود بلدان العالم الإسلام ؟ وما تفسير انتشار ظاهرة الفقر ، في مجتمعات تتوافر لها كل أسباب الثراء  وعوامل الرفاهية ؟ وما تفسير انتشار الأمية والجهل   في أمة حملت رسالة العلم  وعَّلمت الدنيا كلها ؟ وما هو تفسير الضعف ، في أمة توافرت لها كل عناصر القوة ؟ لهذا نستطيع القول بان أعمال المنافقين   ونشاط الفسقة ، وجهود المرائين ، هي التي أثمرت أوضاعاً سلبية ، تدفع الأمة تمنها غالباً ، وتجني ثمارها المريرة ، وكم كان القرآن عظيماً ، حين وضع المنافقين في الدرك الأسفل من النار ، وبوأهم أحط مكانة في جهنم فقال تعالى :     ﴿ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ﴾ . وقال في آية أخرى : ﴿ إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم ﴾. وحين يسيطر المنافقون على أجهزة الإعلام ، فإنها لا تؤدى المهمة التي قامت من أجلها ، وهي التعبير الحقيقي عن إرادة الأمة ، ومعالجة مشاكلها  وتناول قضاياها المصيرية  وما يحصل عكس ذلك تماماً ، فإنها تمارس التضليل والخداع  والرضا بالأمر الواقع ، وتعمل على غرس المفاهيم الخاطئة ، والأفكار المشوهة في أذهان الناس . إن سيطرة هذه الفئات ، على منابر الفكر   وقنوات الأنصال ، تعتبر حجر عثرة في إيصال الحقائق إلى الأمة ، التي تخلفت بسبب التسلط والقمع  الذي يمارس ضدها في هذا الميدان  . علماً بأنه ليس في الإسلام كبتٌ للرأي ، ولا إجبارٌ على السكوت  ولكل مسلمٍ أن يتحدثَ بما يشاء ، سواء أُخِذَ برأيه أم لم يُؤخذ ، لأن منابر الدعوة وأجهزة الإعلام ، هي الروافد الفكريةُ المؤهلة ، للرد على التساؤلات التي تثارُ حول هذا العالم ، كما تستطيع مواجهة اتهامات المعاندين ، والرد على تساؤلات المتشككين ، مما يوجب على رجال الإعلام  أن يتزودوا بذخيرةٍ قرآنيةٍ قويةٍ ، تحسن توظيف العقل والبرهان ، وتجادل بالتي هي أحسن مصداقاً لقوله تعالى : ﴿ وجادلهم بالتي هي أحسن ﴾ . إن أجهزة الإعلام تتحمل تزويد المسلمين وغير المسلمين بحقائق الدين الإسلامي ، للقضاء على المعتقدات الخاطئة    والمفاهيم المغلوطة ، التي تسود أغلب دول العالم عن الإسلام والمسلمين . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العلمين .   

هذه مواقفهم من الإسلام فما هو موقفنا

إن الصراع بين الحق والباطل حقيقة معروفة عبر التاريخ ، يجسدها المتتبع للمواجهة بين المؤمنين وأعدائهم الكافرين ، الذين يقفون بكل تبجح أمام الحق وأهله ، فدول الكفر بما تملك من أسلحة متطورة ، تقف بكل صلف ضد أي توجه إسلامي يقوم في أي بلد مسلم مثيرة الشبهات ضده ، والإساءات المتوالية لكل منتم إليه  بدعاوى الرجعية والتطرف والإرهاب ، لهدم ذلك التوجه والتخويف منه بالكذب والتزوير .

وقد جاء في القرآن الوصف الدقيق لأمثال هؤلاء فقال تعالى :}وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ، ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون{.البقرة 11 ، فهم لا يقفون عند حد الكذب والخداع ، بل يضيفون إلى ذلك السفه والإدعاء ، وما أكثر الذين يفسدون أشنع الفساد ، ويظلمون ويبطشون ويّدعون انهم مصلحون وخاصة في أيامنا هذه ، لأن الموازين مختلفة معتلة في أيديهم  فقد وصلوا إلى درجة من الاستعباد والظلم تعذّر عليهم أن يشعروا بفساد أعمالهم ، لأن ميزان الخير والشر والصلاح والفساد في نفوسهم يتأرجح مع أهوائهم الذاتية ، ولا يستند إلى أسس شرعية مقنعة   

والمراقب المنصف للأحداث ، يرى أن الإسلام هو بداية الغيظ والرعب لأعداء هذا الدين وخصوم المنتمين له ، وهذا ما يؤذيهم ويخيفهم لأنه من القوة بحيث يخشاه كل مبطل ويرهب كل باغ  ويكرهه كل مفسد لما فيه من حق ومنهج قويم  فهو مضاد للباطل والبغي والفساد ، لهذا لا يطيقه المبطلون والبغاة والمفسدون ، لذا يرصدون أهله ليفتنوهم عنه  إن صورة هذا العداء السافر ، لم تتبين بشكل واضح كاليوم ، في الحرب الشعواء التي تشن على أهل الإسلام , مما يدل على أن موقفهم من الإسلام موقف حياة أو موت   وخوفهم هذا من عودة الإسلام ، يرجع إلى خوفهم على أنفسهم لكثرة ما طغوا وبغوا  وأفسدوا في البلاد ، فكم أذلوا و استباحوا ؟ وكم أساءوا وما يزالوا بدعوى المحافظة على الأمن والأمان ؟ إن الهجمة على الإسلاميين تعتبر هجمةً على كل المسلمين ، لأن الاعتداء على أي  مسلم هو اعتداء على كل المسلمين   لأن المسلمين يسعى بذمتهم أدناهم وهم يدٌ على من سواهم . والإسلاميون هم بعد الله عز وجل الأمل الباقي لهذه الأمة ، بالرغم من كل هوانهم واستضعافهم وتفرق كلمتهم ، فإن الأمل بالله معقود على توحد كلمتهم ، وتبدل ضعفهم وذهاب هوانهم . بعد أن سقطت كل الأقنعة والوعود الكاذبة التي أفسدت على الناس دينهم ودنياهم ، وهتكوا كرامة خير الأمم أمام إذلال أذل الأمم  وقد برهنت الأحداث على أن فئةً كبيرةً من المسلمين  دون مستوى المسؤولية ودون مستوى الكلمة حتى انهم لم يثلجوا صدر الأمة بموقف سياسي أو عسكري أو اقتصادي فاعل لنصرة الحق وأهله  بعد أن اتضح لنا أن أعدائنا يحاربونا بالدين وللدين ، ويُحارب الدين وأصحابه في أكثر بلاد المسلمين ، وقد بدا ذلك واضحاً بعد أن ألقى الكفار في وجوه المسلمين قناع السلام والوئام  وأظهروا ملامح التحرش وأنياب النهش والانتقام  بتحد سافر لكل الأعراف والقوانين ، الأمر الذي يدعو المسلمين إلى إعداد العدة من وجهيها المادي والمعنوي ليتحقق لهم النصر بإذن الله ، ولا يظن أحد من المسلمين ، أن تزول هذه التحديات بمجرد الاقتصار على الصلوات ورفع اليد بالدعوات ، لأن حكمة الله تأبى أن تتعطل سنةُ الأسباب لمجرد أن المسلمين مسلمون والكافرين كافرون قال تعالى : }ولو يشاءُ اللهُ لانتصر منهم  ولكن ليبلو بعضَكُم  ببعض{.محمد4 ، وقد خلق الله الأسباب والمسببات ، ويشترط علينا لكي يسخِّر لنا الأسباب أن نُسخِّر له أنفسنا  ونعِّدها له متبعين لرضوانه مبتعدين عن كل ما لا يليق بأولياء يطلبون نصره وضعفاء يستنـزلون تأييده  وعندها فلا علينا لو تداعت أمم الكفر لمحاربتنا قال تعالى : } الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ، فانقبلوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سؤ واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم { .آل عمران 173 . وقال تعالى : } إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم
مؤمنين
{. آل عمران 175 ، فالشيطان هو الذي يضخم من شأن أولياءه الكفار ، ويلبسهم لباس القوة والقدرة ويوقع في القلوب أنهم ذو حول وطول ، ليحقق بهم الشرَّ في الأرض وليُخضع لهم الرقاب ويُطوع لهم القلوب ، فلا يرتفع في وجوههم صوت بالإنكار ، وتحت ستار الخوف والرهبة ، وفي ظل الإرهاب والبطش ، يفعل أولياء الشيطان ما يُقِرُّ عينه في الأرض ، فيخفتون صوت الحق والعدل ، دون أن يجرؤ أحد على جلاء الحق الذي يطمسونه

إن الأحداث في العالم بعامه وفي المناطق الإسلامية بخاصة ، تشي بأن الإسلاميين قد وُضعوا من حيث يدرون أو لا يدرون ، ومن حيث يريدون أو لا يريدون في وسط الصراع الدائر في أكثر بقاع العالم ، فما من منطقة توتر في الدنيا إلا وضع الإسلاميون طرفاً أساسياً في النـزاع فيها  فكثيراً ما يجد الإسلاميون أنفسهم في صدر الأحداث وفي صفها الأول ، وهم غير قادرين على تقدير قوة أعدائهم ، ولا تقدير قوة أنفسهم  حيث أن قوتهم تفوق قوة أعدائهم لو وجد الاتفاق والوفاق والتناصر والتناصح ، ووجد الأخذ بقوانين القوة وأسباب التمكن وعوامله  الذي وعد الله به عباده ولو كانوا مستضعفين قال تعالى : } وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفهم في الأرض {  . جاء الوعد في الآية بالاستخلاف والتمكن ، فهل نحن مستعدون لتحقيق ذلك ؟ والسؤال هنا ليس سؤالاً عن الاستعداد بالسلاح والعتاد ، ولكن السؤال عن الاستعداد بحيازة أسلحة النصر الربانية  فهل لنا من أفعالنا وأقوالنا وأحوالنا ما نستنـزل به رحمات الله وتأييده الذي يؤيد به أولياء ؟ أم أننا ما زلنا نحتفظ بحقوق الفشل وعلى رأسها التنازع والتدابر والتنافر ؟  ومهما بلغت بلاغة المتحدثين عن أسباب ضعفنا وهواننا ، وقلة حيلتنا وطول عجزنا أمام الأعداء ، فلن تصل إلى الوصف الجامع البليغ في القرآن حيث حذرنا الله فقال : } وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكُم واصبروا إن الله مع الصابرين { . الأنفال 46 . إنه التنازع فماذا يبقى بأيدي الإسلاميين عندما ينـزع بعضهم عن بعض أسباب القوة والاحترام ؟  لن يبقى إلا الفشل بالطبع ، حيث يكون هذا الفشل هو الإنجاز الأكبر ، وعندها ما عليهم إلا أن يتقاسموه فيما بينهم ، لأنه الثمرة الطبيعية التي تصنعها أيدي الغافلين . قال تعالى : } أفمن زُين له سوء عمله فرآه حسناً فإن الله يُضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا ذهب نفسك عليهم حسراتٍ إن الله عليهم بما يصنعون {. فاطر 8 . إن ما ذكرته الآية ينطبق على ما يقوم به الكفر وأعوانه ، الذين عميت قلوبهم حتى حسبوا أن كل خطوة يخطونها فيها الخير والصلاح ، مع أنها في الحقيقة تحمل للبشرية الدمار والخراب ، وإن دول الكفر بالنسبة لقضايانا هي الخصم والحكم  ورحم الله أبا الطيب المتنبي الذي قال :

ومن نكد الدنيا على الحر أن     يرى عدواً ما من صداقته بد

وكم من المتابعين للأحداث يرون المواقف الداعمة لإسرائيل من دول الكفر ، يدور في خلدهم معنى هذا البيت من الشعر ، مما يدل على أن الكثيرين من بني جلدتنا آمنوا بالهزيمة النفسية ، حتى باتوا يتعاملون مع الواقع كما لو أنه قدر لا مناص منه  وعملوا على الاستسلام له ، ووافقوا ونادوا بالسلام ، لكنه سلام هش ، كراعٍ قال لغنمة كش هذا يتمتع وذاك يتمتع والكل منه يجرّع . وهنا نتسائل : هؤلاء الذين يأكلون ويشربون ويلبسون من كدّ شعوبهم ولاؤهم لمن ؟ وهل يمكن أن نعتبر ولاءهم وسيرهم في ركاب الغرب الكافر نوع من أنواع الاستعمار لا بد أن يحمل عصاه ويرحل ، وقد رحل وقد اعتبر يوم رحيله عن كل بلد عيداً قومياً تعطل فيه الدوائر أعمالها  لكنه رحل وترك عصاه يحركها بالتحكم عن بعد .

أما الشعوب فتعيش على أعصابها من جراء الحرب الإعلامية ، وقد أصيب الكثير من المسلمين بداء التلقي من الغرب والثقة العمياء بما يقولون ، مع أن بعض المفكرين والمؤرخين الغرب فضح الزيف الذي دأب الغرب على ترويجه ، يقول المؤرخ البلجيكي  سيجفريد فيربيكا في لقاء له مع جريدة البيان الإماراتية : إن غالبية وسائل الإعلام الأوروبية تقع تحت سيطرة لوبي صهيوني اقتصادي سياسي قوي ذي نفوذ لا أستطيع إنكاره ، وسرعان ما تتهم هذه الوسائل الباحثين والدرسين والمؤرخين الحياديين لحقائق التاريخ بالكذب وتصفهم بالتطرف والإرهاب في حالة إعلانهم لتفاصيل وشواهد تثبت وجهة نظر مخالفة لهم ، أو تظهر حقائق تكشف أكاذيبهم ، لقد أصبح الإرهاب مصطلحاً مهماً في قاموس السياسة ، فاعتبروا مقاومة الاحتلال إرهاباً ، أما الممارسة الإرهابية التي تفرض على الشعوب فليست إرهاباً . إن ما نراه اليوم من غطرسة الأعداء  وانجراف المسلمين في التعامل مع الكفر وأعوانه جرّ على امتنا الذل والهوان ، مما وسّع حجم الخسائر على كافة المستويات ، من الهوان والذل إلى التنازل الذليل ، إلى ضياع الأرض وانتهاك الحرمات وتدفق الدماء . والدعم والولاء منقطع النظير ، وامتنا في النهاية هي الضحية وهي الخاسرة ، قد تكون الغاية التي تتطلع إليها دول الكفر ، هي السيطرة الكاملة على أهم المواقع الإستراتيجية في العالم ، ويبدو أننا نحن المسلمين دولاً وشعوباً قد وقع الاختيار على أراضينا لتكون أحد مرتكزات هذه السيطرة  وأهم أدواتها المسخرة ، فهي تواجه منافسيها في العالم وليس بينها وبين أكثر هؤلاء المنافسين حدوداً مشتركة ، ومع ذلك فهي تخوض الغمار إليهم لتنازلهم في عقر دارهم ، انطلاقاً من قعر دورنا في أكثر من موقع ، إن لهذه الدول  تطلعات حالية ومستقبلية للتسلط والتنافس في مناطق عديدة من العالم ، بدءاً من الصين والقارة الهندية ومروراً بآسيا الوسطى وروسيا ووصولاً إلى شرق أوروبا ووسطها وانتهاءً بالشرق الأوسط والقرن الأفريقي ، وإذا كانت الأطماع ليست قاصرة على بلداننا الإسلامية ، إلا أن كثيراً منها تقع في أماكن تماس من بلدان وشعوب البلاد الإسلامية تفضل دول الكفر أن تتخذ منها ظهوراً وطيئة للركوب ، توصل للمطلوب بأقل مجهود وأثمن مردود ، وإذا احتاجت لقواعد فمرافقنا جاهزة للقعود ، إن هذا الأخطبوط يلف الآن ببطء بذراعه السياسي في الأمم المتحدة  وذراعه الاقتصادي في صندوق النقد الدولي هذا بالإضافة إلى الأذرعة الأخرى المتنوعة ، التي يمكن أن تلف على العديد من المناطق الحساسة في العالم  ليدخلها في سلاسة أو يحشرها بشراسة ، داخل قوقعته المسماة بالعولمة حيث الاستسلام أو الموت فهي تريد أن تمكن لنفسها ، وتؤمن موقعاً مستقراً لتحرم روسيا من أحلام العودة إلى مصاف القوى العظمى ، حتى تتفرغ لمواجهة الصين التي تشير الدلائل بأنها ستحتل مكان روسيا في التسبب لأمريكا بالقلق الدائم ، والشعوب الإسلامية هي الضحية .

 

      

           

 

حتى يُغَيَّروا

إن المؤمن بالله لا يخاف على الإسلام من خصومة  رغم ما يملكون من أسلحة الدمار المتطورة ، ومن وسائل الغلب ، كما لا يكترث بتلك القوى المعدَّة ولا ما يكمن فيها من دمار .

وإنما يخاف أشدَّ الخوف ، عندما يرى المسلمين يتحللون من عهودهم مع الله ، وينسلخون من لباس التقوى ، وينساقون مع أعداء الدين ، كما يحزن أشدَّ الحزن ، عندما يرى مجتمعاً تموت فيه الصلاة أو شارعاً يموج بالكاسيات العاريات أو نادياً يعكف رواده على تبادل الأفكار المنحطة أو بلداً يعيش في أكفان الجاهلية وتقاليدها … إن هذا وذاك ما هو إلا عارض من عوارض الفناء  وجانب من جوانب الهزيمة ، بل إنه الانتحار المؤكد ، والضياع لرسالتنا وديننا ، مما يفقدنا تأييد الله وعونه لنا .

وإذا كان لا بد من الحفاظ على حياتنا والإبقاء على عقيدتنا والنجاة من عدونا . لا بد أن نعود إلى إسلامنا جملةً وتفصيلاً ، لنكون مع الله ويكون الله معنا . أما أن نكتفي بالدعاء إلى الله أن يهلك أعدائنا ، وينصرنا عليهم دون إعداد واستعداد ، فذلك لعمري هو الجهل بعينه ، لأن الدين ليس جهازاً يعمل من تلقاء نفسه ، ولو شاء الله لقهر الناس على الهدى ، فلا يستطيعون المخالفة ولا الهبوط ولا الانحراف ، كما يجري قدره في السموات والأرض ، فيمضي كلُّ شيء في فلكه المقدور له ، لا يخرج عنه قيد أنمله .. حتى يغيّر الله نظام الكون كله في الموعد المقدور .

ولكن الله كرّم الإنسان ، فلم يجعله شيئاً يقهر على غير إرادةٍ منه ، بل جعله كائناً فعّالاً مريداً قادراً على اختيار أحد الطريقين : إما طريق الهدى وإما طريق الضلال ، وفي مقابل ذلك صار يحمل تبعة عمله ، وصار ما يحدث له ، يجري نتيجة لأعماله ، حسب سنن مقررة ، كشفها الله له لكي يهتدي على ضوئها ، ويضبط مساره بمقتضاها ، قال تعالى :] إن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم [الرعد 11. وقال :] ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض[الأعراف 96 .

هكذا يعمل الدين ، من خلال النفوس التي تحمله  بقدر إقبالها عليه أو إدبارها عنه ، فقد جرت سنة الله تعالى في عباده أن يصلح أحوالهم ، إذا صلحت قلوبهم واستقامت أعمالهُم  وأن ينـزل عليهم بأسه وعذابه ، إذا فسدت قلوبهم وأعمالهم  ويستطيع الناس أن يعرفوا منـزلتهم عند الله حسب حالهم في هذه الدنيا وهنا تساؤلات : هل نحن في أمن وسعادة وتقدم ورضا ؟

أم في تأخرٍ وشقاء وتعب وبلاء ؟

بالنظر في واقع الناس هذه الأيام ، نرى أنهم يعانون من الشقاء والعناء ، والخوف والبلاء  وكساد الحال وانتزاع البركة ، بالإضافة إلى الديون الباهظة التي تعاني منها دولُهم ، وأخلاق الناس لا تقل عن حالهم فساداً ، قلوبٌ مظلمة ونفوسٌ متقاطعة ونساءٌ متهتكة وشبابٌ متمرد ومساجدٌ مهجورة ، وفروضٌ متروكة وأعراضٌ رخيصة مبذولة ، كما تغيِّرت قلوبنا وبَعُدنا عن ديننا ، وفَرَّطنا في أوامر الله ، وارتكبنا محارم الله  وقمة المصائب أنَّ الحكم بغير ما أنزل الله   فتسلط علينا الأعداء وحاك بنا الضنك والضيق وضرب بعضنا رقاب بعض ، وجُعِلَ بأسنا بيننا جزاء ما جنته أيدينا ، وما الله بغافلٍ عنا وعن أعمالنا ، والممعن المتفحص في حال الناس ، يجد حالهم لا يتفق مع دينهم الذي يؤمنون به ، فهذا يحاربُ هذا ، وهذا يكيد لذاك ، بوسائل ينكرها الدين وتأباها الفضيلة ، وتتبرأ منها الكرامةُ والشرف .

فيا ليت الناس تعتبر وتنـزجر مما هي فيه   وتعمل على الخلاص من ذلك ، لأن الله يكلم الناس بلسان الحوادث والعبر التي أنزلها وهدد بأعظم منها ، لعل الناس تستيقظ من نومها وتفيق من غفلتها .

لقد بلغت الشدَّةُ مننتهاها ، واستفحل الداء ولم يفد الدواء ، لأن صلاح الحال لا يزال في أيدينا إن نحن رجعنا إلى الله ، وطهرنا قلوبنا من الغلِّ والحقد والحسد والبغض ، واعتبرنا أنفسنا مخلصين متحابين ، وتواصينا بالعمل بكتاب الله وسنة رسوله الكريم ، وتجملنا بفضائل الدين وآدابه  فأدينا الواجبات وهجرننا  المحرمات . إننا إن قمنا بذلك نعافى من هذه الأمراض التي تتهدد الأمة وحياتها ونأمن من كيد الأعداء ومكرهم ، لأن الله تكفل بالمحافظة على عباده  المخلصين فقال تعالى : ﴿ إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور﴾ الحج 38 .

فعلى المسلمين إذن تدارك الأمر ، بالرجوع إلى الله وإحياء سنة رسوله بالتمسك بهما ، وأن الملجأ من الأذى وشر الأعداء والأنفس يكون بنيل رضا الله . قال تعالى : ] ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا [ الطلاق 5 . وقال في نفس السورة : ]ومن يتق الله يجعل له مخرج [الطلاق3 . أما أن ينقسم المسلمون إلى أحزاب وشيع مما يؤدى إلى تفريق الأمة وتخاذلها واستهانة الأعداء بها فهذه جريمة لا تغتفر ، وخروج عن مبادئ الإسلام ، فكثير من الناس يؤمن بالمعتقدات والمبادئ السائدة في العالم من الرأسمالية إلى الاشتراكية التي أثبتت فشلها فتراجع عنها أهلها وإلى الديمقراطية التي لا تمت إلى الإسلام بصلة .

 إن ديننا واضح لا لبس فيه ، إنه شريعة غراء  وطريقة سمحاء ، ودستور مستقيم لا عوج فيه وما ظهور تلك  الفئات في المجتمع الإسلامي إلا نوعاً من أنواع العذاب ، يضرب الله به على أمةٍ سخط الله عليها مصداقاً لقوله تعالى : ﴿ قل هو القادرُ على أن يبعث عليكمم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يَلْبِسَكُمْ شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض أنظر كيف تُصرِّفُ الآيات لعلهم يفقهون ﴾ الأنعام 66 .

وإن كان في مذاهبهم من يدّعي رحمة الفقير واليتيم ومساعدة المسكين ، فإن نظام  الزكاة  في ديننا يحقق ذلك  وأكثر ، حيث حث على السخاء ، ورغب في الكرم ، وأمر بإغاثة الملهوف ومساعدة المحتاج والإيثار والمساواة ، هذا هو الإسلام فلم لا يطبقوه ويسيروا مع الحكمة القائلة " إذا أراد الله بقوم خيراً ولى أمرهم الحكماء  وجعل المال عند السمحاء ، وإذا أراد الله بقوم شرّاً ، ولى أمرهم السفهاء وجعل المال عند البخلاء  . إن الدعوة إلى العروبة  وإلى القومية  والوطنية والتقدمية وما شابه تلك  الدعوات ، هي وليدة  أفكار سخيفة ، لم تع الإسلام وتفهمه ، ولم تحط بسمو ما جاء به من أحكام ، بل إن لسان حالهم التفرقة بين فئات الأمة ، والتخاذل الذي أدى إلى هيمنة الأجنبي على مقدراتها ، وتمريغ كرامتها في الوحل ، وإن خلاصنا في الرجوع إلى الإسلام نعمل من أجل تطبيقه ، إسلام في جيوشه وقوته وجهاده ، لا يعرف هزيمة ولا يخشى بأساً ، ولا يرضى خنوعاً أو استسلاماً ، ولا يخاف قوةً ولا بطشاً ، إسلام استمد منه الأولون الروح الحية  فكانوا في انطلاقهم وجهادهم كالعاصفة ، وفي صبرهم وثباتهم كالرواسي ، صبروا على البلاد وصدقوا في اللقاء ، وثبتوا في الشدائد وحرصوا على الموت في سبيل الله فوهبت لهم الحياة ، حياة العزة والسيادة والحكم ، هذا هو الإسلام ] صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون [ البقرة 138  إنه دين يهتم بالنفس والمجتمع والدولة على السواء  هذا الدين أهمل عند نسبة كبيرة من المسلمين حتى أن المسلم يلمس قدرة الأغاني الخليعة والصور العارية على استثارة الغرائز ، وقدرة الكتابات المنحرفة على الاعوجاج  وقدرة الغزو الثقافي على المحو والإثبات في حضارتنا الموروثة ، في الوقت الذي نلمس فيه فشل دعاة الدين في صنع شيء حتى الآن ، لأن امتلاكهم للآذان نصف ساعة في اليوم لا يجدي فتيلا ، أمام صنوف المؤثرات التي يروَّجُ لها ليل نهار ، والتي تجعل جهود المرشدين كمن يحاول إصلاح مياه البحر بقليل من السُّكر .

إن الله يأبى أن تكون صلتة بخلقة ساعةً كل أسبوع في مسجد ، وكأنها تُسرقُ من أوقاتهم الطويلة  ثم ينطلقون بعدها في الحياة يصنعون ما يشتهون  وتبقى لهم حريتهم فيما يفعلون أو يتركون   فالسجين يؤذنُ له أن يكون حراً ساعة من الزمن يخرج من زنزانته لكنه لا يعتبرها حرّا  وعلى هذا النحو العابر يُقْبِل الناس على الدين  وهو عند الله غير مقبول ، لأن الإسلام ما جاء ليكون هذا حاله تحفظ له قيمةٌ اسميةٌ تافهة ، وهو في الحقيقة بمعزل عن الحياة قولاً و عملاً ، لأن زمام الحياة في أيدي أناس يُبعدون تعاليم الدين عن البت في كل شيء، ويرسلون الشهوات حتى لا يستطيع أحد الوقوف في طريقها .

ومن هنا امتلأ القرآن بالنذر التي تحذِّر من الفساد وتحض على الاستقامة ، وبين كيف كان مصير الأمم التي ظلمت وضلت ، والأمم التي أهملت الصلاة والقيام والزكاة ، وقل اكتراثها بهذه الفروض المقدسة  وشاعت فيها رذائل الغش والرشوة والظلم  والزنا واللواط والسكر والجبروت وأكل الربا  والحكم في كل ذلك بغير ما أنزل الله قال تعالى : ] ذلك إن لم يكن ربك مهلكَ القرى بظلم واهلُها غافلون ولكلٍّ درجاتٌ مما عملوا وما ربك بغافل عما يعملون [ الأنعام 32 1. قال الله تعالى : ) إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ( .  إن لله تعالى سنناً لا تتغير وقوانين لا تتبدل ، سنها الله تعالى ليسير عليها الكون وتنتظم عليها أسس البنيان وهي أن الله إذا أنعم على قوم بالأمن والعزة والرزق والتمكين في الأرض فإنه سبحانه وتعالى لا يزيل نعمه عنهم ولا يسلبهم إياها إلا إذا بدلوا أحوالهم وكفروا بأنعم الله ونقضوا عهده وارتكبوا ما حرم عليهم. هذا عهد الله ومن أوفى بعهده من الله ؟ فإذا فعلوا ذلك لم يكن لهم عند الله عهد ولا ميثاق فجرت عليهم سنة الله التي لا تتغير ولا تتبدل فإذا بالأمن يتحول إلى خوف والغنى يتبدل إلى فقر والعزة تؤل إلى ذلةٍ والتمكين إلى هوان .  والمتأمل اليوم في حال المسلمين وما أصابهم من الضعف والهوان وما سلط عليهم من الذل والهوان على أيدي أعدائهم . يرى أمةً أسرفت على نفسها كثيراً وتمادت في طغيانها أمداً بعيداً واغترت بحلم الله وعفوه وحسبت أن ذلك من رضا الله عنها ونسيت أن الله يمهل ولا يهمل .

 ومع أن قـضية التغيـير قضـية شـائكة ، وصعبة   لكن هذا لا يعنـي عـدم  بحثها والخوض فيها . والمشكلة أن بعض الغيورين والصالحين قد يغلبهم ما يجدون من الحماس لدينهم والغيرة على دعوتهم والرغبة في الإصلاح فيندفعون مع الإخلال بشروط التمكين ، فيهلكون ويُهلكون ، وقد أشار إلى هذه الفكرة الإمام ابن خلدون في مقدمته ، إشارة الخبير العارف بأحوال الأمم ، وسنن التغيير حيث يقول : [ومن هذا الباب أحوال الثوار القائمين بتغيير المنكر من العامة والفقهاء ، فإن كثيراً من المنتحلين للعبادة وسلوك طرق الدين يذهبون إلى القيام على أهل الجور من الأمراء داعين إلى تغيير المنكر والنهي عنه ، والأمر بالمعروف رجاء في الثواب عليه من الله ؛ فيكثر أتباعهم والمتشبثون بهم من الغوغاء والدهماء  ويعرضون أنفسهم في ذلك للمهالك ، وأكثرهم يهلكون في تلك السبيل مأزورين غير مأجورين ، لأن الله سبحانه لم يكتب ذلك عليهم ، وإنما أمر به حيث تكون القدرة عليه ؛ قال r : ( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه ) وأحوال الملوك والدول راسخة قوية لا يزحزحها ويهدم بناءها إلا المطالبة القوية التي من ورائها عصبية القبائل والعشائر كما قدمناه .

وهكذا كان حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في دعوتهم إلى الله بالعشائر والعصائب ، وهم المؤيدون من الله بالكون كله لو شاء ؛ لكنه إنما أجرى الأمور على مستقر العادة والله حكيم عليم .  فإذا ذهب أحد من الناس هذا المذهب وكان فيه محقاً قصّر به الانفراد عن العصبية ، فطاح في هوة الهلاك . وأمَّا إن كان من الملبسين بذلك في طلب الرئاسة  فأجدر أن تعوقه العوائق وتنقطع به المهالك لأنه أمر الله لا يتم إلا برضاه وإعانته والإخلاص له والنصيحة للمسلمين ؛ ولا يشك في ذلك مسلم ، ولا يرتاب فيه ذو بصيرة .  وهذا ما جرى فعلاً في عدد من التجارب الإسلامية المعاصرة ، التي نظرت إلى ما معها من الحق ، وما لديها من القوة ، ولكنها لم تنظر إلى ما يواجهها وينتظرها ، وما مع الآخرين وما لديهم ، فاصطدمت بصخرة الواقع الثقيل الذي يصعب تغييره على غير المتمرسين الصبورين . هذا فضلا عن أن سنة التغيير نفسها تحتاج إلي معرفة من خلال نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية   وعبر التاريخ وتجاربه وأحداثه .

إنّ العناية بجانب واحد فحسب ، واعتبار أن تغييره هو الحل ، كتغيير الحاكم مثلاً ، هو تقصير في النظر واختزال للمسألة ، وإلغاء للمجتمع بأبعاده المختلفة  فالإصلاح يتطلب تصوراً شمولياً يستهدف تربية الأمة بكل جوانبها على الإسلام وقيمه وأحكامه .

والشرع وإن جاء بأصول وأحكام محددة وواضحة  إلا أنه راعى في تحويلها إلى صورتها العملية اعتبارات الواقع وظروفه وإمكانياته ، ومن ذلك أن جميع الأحكام الشرعية مرهونة بالاستطاعة كما في قوله تعالى : ) فاتقوا الله ما استطعتم ( وقوله : ) لا يكلـف الله نفساً إلا وسعها ( وقوله : ﴿ من استـطاع إليه سبيلاً ( . وكما في السنة فإن لم يستطع   ( صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً ) . والاستطاعة تكون للفرد وللجماعة   وتحديد مدى وجودها من عدمه يخضع لاعتبارات كثيرة وإدراك متطلبات الموقف ، والفعل ، والفعل المضاد . وبالعجز تسقط جميع الواجبات لكن يبقى وجوب السعي لتدارك هذا العجز ، وعدم الركون إليه  وفرضٌ على الأمة أن تسعى في رفع كفاءتها وقدرتها العلمية والعملية ، والمستحيل لا وجود له إلا في عقول العاجزين  وليس المقصود بالعجز تبرير الضعف والقعود والإخلاد ، لكن المقصود عدم الاستطاعة الذي ينتقل به المرء أو الجماعة أو الأمة من واجب إلى واجب آخر ، وليس إلى القعود والاستسلام لليأس .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

  

 

حتى يُغَيَّروا

إن المؤمن بالله لا يخاف على الإسلام من خصومة  رغم ما يملكون من أسلحة الدمار المتطورة ، ومن وسائل الغلب ، كما لا يكترث بتلك القوى المعدَّة ولا ما يكمن فيها من دمار .

وإنما يخاف أشدَّ الخوف ، عندما يرى المسلمين يتحللون من عهودهم مع الله ، وينسلخون من لباس التقوى ، وينساقون مع أعداء الدين ، كما يحزن أشدَّ الحزن ، عندما يرى مجتمعاً تموت فيه الصلاة أو شارعاً يموج بالكاسيات العاريات أو نادياً يعكف رواده على تبادل الأفكار المنحطة أو بلداً يعيش في أكفان الجاهلية وتقاليدها … إن هذا وذاك ما هو إلا عارض من عوارض الفناء  وجانب من جوانب الهزيمة ، بل إنه الانتحار المؤكد ، والضياع لرسالتنا وديننا ، مما يفقدنا تأييد الله وعونه لنا .

وإذا كان لا بد من الحفاظ على حياتنا والإبقاء على عقيدتنا والنجاة من عدونا . لا بد أن نعود إلى إسلامنا جملةً وتفصيلاً ، لنكون مع الله ويكون الله معنا . أما أن نكتفي بالدعاء إلى الله أن يهلك أعدائنا ، وينصرنا عليهم دون إعداد واستعداد ، فذلك لعمري هو الجهل بعينه ، لأن الدين ليس جهازاً يعمل من تلقاء نفسه ، ولو شاء الله لقهر الناس على الهدى ، فلا يستطيعون المخالفة ولا الهبوط ولا الانحراف ، كما يجري قدره في السموات والأرض ، فيمضي كلُّ شيء في فلكه المقدور له ، لا يخرج عنه قيد أنمله .. حتى يغيّر الله نظام الكون كله في الموعد المقدور .

ولكن الله كرّم الإنسان ، فلم يجعله شيئاً يقهر على غير إرادةٍ منه ، بل جعله كائناً فعّالاً مريداً قادراً على اختيار أحد الطريقين : إما طريق الهدى وإما طريق الضلال ، وفي مقابل ذلك صار يحمل تبعة عمله ، وصار ما يحدث له ، يجري نتيجة لأعماله ، حسب سنن مقررة ، كشفها الله له لكي يهتدي على ضوئها ، ويضبط مساره بمقتضاها ، قال تعالى :] إن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم [الرعد 11. وقال :] ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض[الأعراف 96 .

هكذا يعمل الدين ، من خلال النفوس التي تحمله  بقدر إقبالها عليه أو إدبارها عنه ، فقد جرت سنة الله تعالى في عباده أن يصلح أحوالهم ، إذا صلحت قلوبهم واستقامت أعمالهُم  وأن ينـزل عليهم بأسه وعذابه ، إذا فسدت قلوبهم وأعمالهم  ويستطيع الناس أن يعرفوا منـزلتهم عند الله حسب حالهم في هذه الدنيا وهنا تساؤلات : هل نحن في أمن وسعادة وتقدم ورضا ؟

أم في تأخرٍ وشقاء وتعب وبلاء ؟

بالنظر في واقع الناس هذه الأيام ، نرى أنهم يعانون من الشقاء والعناء ، والخوف والبلاء  وكساد الحال وانتزاع البركة ، بالإضافة إلى الديون الباهظة التي تعاني منها دولُهم ، وأخلاق الناس لا تقل عن حالهم فساداً ، قلوبٌ مظلمة ونفوسٌ متقاطعة ونساءٌ متهتكة وشبابٌ متمرد ومساجدٌ مهجورة ، وفروضٌ متروكة وأعراضٌ رخيصة مبذولة ، كما تغيِّرت قلوبنا وبَعُدنا عن ديننا ، وفَرَّطنا في أوامر الله ، وارتكبنا محارم الله  وقمة المصائب أنَّ الحكم بغير ما أنزل الله   فتسلط علينا الأعداء وحاك بنا الضنك والضيق وضرب بعضنا رقاب بعض ، وجُعِلَ بأسنا بيننا جزاء ما جنته أيدينا ، وما الله بغافلٍ عنا وعن أعمالنا ، والممعن المتفحص في حال الناس ، يجد حالهم لا يتفق مع دينهم الذي يؤمنون به ، فهذا يحاربُ هذا ، وهذا يكيد لذاك ، بوسائل ينكرها الدين وتأباها الفضيلة ، وتتبرأ منها الكرامةُ والشرف .

فيا ليت الناس تعتبر وتنـزجر مما هي فيه   وتعمل على الخلاص من ذلك ، لأن الله يكلم الناس بلسان الحوادث والعبر التي أنزلها وهدد بأعظم منها ، لعل الناس تستيقظ من نومها وتفيق من غفلتها .

لقد بلغت الشدَّةُ مننتهاها ، واستفحل الداء ولم يفد الدواء ، لأن صلاح الحال لا يزال في أيدينا إن نحن رجعنا إلى الله ، وطهرنا قلوبنا من الغلِّ والحقد والحسد والبغض ، واعتبرنا أنفسنا مخلصين متحابين ، وتواصينا بالعمل بكتاب الله وسنة رسوله الكريم ، وتجملنا بفضائل الدين وآدابه  فأدينا الواجبات وهجرننا  المحرمات . إننا إن قمنا بذلك نعافى من هذه الأمراض التي تتهدد الأمة وحياتها ونأمن من كيد الأعداء ومكرهم ، لأن الله تكفل بالمحافظة على عباده  المخلصين فقال تعالى : ﴿ إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور﴾ الحج 38 .

فعلى المسلمين إذن تدارك الأمر ، بالرجوع إلى الله وإحياء سنة رسوله بالتمسك بهما ، وأن الملجأ من الأذى وشر الأعداء والأنفس يكون بنيل رضا الله . قال تعالى : ] ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا [ الطلاق 5 . وقال في نفس السورة : ]ومن يتق الله يجعل له مخرج [الطلاق3 . أما أن ينقسم المسلمون إلى أحزاب وشيع مما يؤدى إلى تفريق الأمة وتخاذلها واستهانة الأعداء بها فهذه جريمة لا تغتفر ، وخروج عن مبادئ الإسلام ، فكثير من الناس يؤمن بالمعتقدات والمبادئ السائدة في العالم من الرأسمالية إلى الاشتراكية التي أثبتت فشلها فتراجع عنها أهلها وإلى الديمقراطية التي لا تمت إلى الإسلام بصلة .

 إن ديننا واضح لا لبس فيه ، إنه شريعة غراء  وطريقة سمحاء ، ودستور مستقيم لا عوج فيه وما ظهور تلك  الفئات في المجتمع الإسلامي إلا نوعاً من أنواع العذاب ، يضرب الله به على أمةٍ سخط الله عليها مصداقاً لقوله تعالى : ﴿ قل هو القادرُ على أن يبعث عليكمم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يَلْبِسَكُمْ شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض أنظر كيف تُصرِّفُ الآيات لعلهم يفقهون ﴾ الأنعام 66 .

وإن كان في مذاهبهم من يدّعي رحمة الفقير واليتيم ومساعدة المسكين ، فإن نظام  الزكاة  في ديننا يحقق ذلك  وأكثر ، حيث حث على السخاء ، ورغب في الكرم ، وأمر بإغاثة الملهوف ومساعدة المحتاج والإيثار والمساواة ، هذا هو الإسلام فلم لا يطبقوه ويسيروا مع الحكمة القائلة " إذا أراد الله بقوم خيراً ولى أمرهم الحكماء  وجعل المال عند السمحاء ، وإذا أراد الله بقوم شرّاً ، ولى أمرهم السفهاء وجعل المال عند البخلاء  . إن الدعوة إلى العروبة  وإلى القومية  والوطنية والتقدمية وما شابه تلك  الدعوات ، هي وليدة  أفكار سخيفة ، لم تع الإسلام وتفهمه ، ولم تحط بسمو ما جاء به من أحكام ، بل إن لسان حالهم التفرقة بين فئات الأمة ، والتخاذل الذي أدى إلى هيمنة الأجنبي على مقدراتها ، وتمريغ كرامتها في الوحل ، وإن خلاصنا في الرجوع إلى الإسلام نعمل من أجل تطبيقه ، إسلام في جيوشه وقوته وجهاده ، لا يعرف هزيمة ولا يخشى بأساً ، ولا يرضى خنوعاً أو استسلاماً ، ولا يخاف قوةً ولا بطشاً ، إسلام استمد منه الأولون الروح الحية  فكانوا في انطلاقهم وجهادهم كالعاصفة ، وفي صبرهم وثباتهم كالرواسي ، صبروا على البلاد وصدقوا في اللقاء ، وثبتوا في الشدائد وحرصوا على الموت في سبيل الله فوهبت لهم الحياة ، حياة العزة والسيادة والحكم ، هذا هو الإسلام ] صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون [ البقرة 138  إنه دين يهتم بالنفس والمجتمع والدولة على السواء  هذا الدين أهمل عند نسبة كبيرة من المسلمين حتى أن المسلم يلمس قدرة الأغاني الخليعة والصور العارية على استثارة الغرائز ، وقدرة الكتابات المنحرفة على الاعوجاج  وقدرة الغزو الثقافي على المحو والإثبات في حضارتنا الموروثة ، في الوقت الذي نلمس فيه فشل دعاة الدين في صنع شيء حتى الآن ، لأن امتلاكهم للآذان نصف ساعة في اليوم لا يجدي فتيلا ، أمام صنوف المؤثرات التي يروَّجُ لها ليل نهار ، والتي تجعل جهود المرشدين كمن يحاول إصلاح مياه البحر بقليل من السُّكر .

إن الله يأبى أن تكون صلتة بخلقة ساعةً كل أسبوع في مسجد ، وكأنها تُسرقُ من أوقاتهم الطويلة  ثم ينطلقون بعدها في الحياة يصنعون ما يشتهون  وتبقى لهم حريتهم فيما يفعلون أو يتركون   فالسجين يؤذنُ له أن يكون حراً ساعة من الزمن يخرج من زنزانته لكنه لا يعتبرها حرّا  وعلى هذا النحو العابر يُقْبِل الناس على الدين  وهو عند الله غير مقبول ، لأن الإسلام ما جاء ليكون هذا حاله تحفظ له قيمةٌ اسميةٌ تافهة ، وهو في الحقيقة بمعزل عن الحياة قولاً و عملاً ، لأن زمام الحياة في أيدي أناس يُبعدون تعاليم الدين عن البت في كل شيء، ويرسلون الشهوات حتى لا يستطيع أحد الوقوف في طريقها .

ومن هنا امتلأ القرآن بالنذر التي تحذِّر من الفساد وتحض على الاستقامة ، وبين كيف كان مصير الأمم التي ظلمت وضلت ، والأمم التي أهملت الصلاة والقيام والزكاة ، وقل اكتراثها بهذه الفروض المقدسة  وشاعت فيها رذائل الغش والرشوة والظلم  والزنا واللواط والسكر والجبروت وأكل الربا  والحكم في كل ذلك بغير ما أنزل الله قال تعالى : ] ذلك إن لم يكن ربك مهلكَ القرى بظلم واهلُها غافلون ولكلٍّ درجاتٌ مما عملوا وما ربك بغافل عما يعملون [ الأنعام 32 1. قال الله تعالى : ) إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ( .  إن لله تعالى سنناً لا تتغير وقوانين لا تتبدل ، سنها الله تعالى ليسير عليها الكون وتنتظم عليها أسس البنيان وهي أن الله إذا أنعم على قوم بالأمن والعزة والرزق والتمكين في الأرض فإنه سبحانه وتعالى لا يزيل نعمه عنهم ولا يسلبهم إياها إلا إذا بدلوا أحوالهم وكفروا بأنعم الله ونقضوا عهده وارتكبوا ما حرم عليهم. هذا عهد الله ومن أوفى بعهده من الله ؟ فإذا فعلوا ذلك لم يكن لهم عند الله عهد ولا ميثاق فجرت عليهم سنة الله التي لا تتغير ولا تتبدل فإذا بالأمن يتحول إلى خوف والغنى يتبدل إلى فقر والعزة تؤل إلى ذلةٍ والتمكين إلى هوان .  والمتأمل اليوم في حال المسلمين وما أصابهم من الضعف والهوان وما سلط عليهم من الذل والهوان على أيدي أعدائهم . يرى أمةً أسرفت على نفسها كثيراً وتمادت في طغيانها أمداً بعيداً واغترت بحلم الله وعفوه وحسبت أن ذلك من رضا الله عنها ونسيت أن الله يمهل ولا يهمل .

 ومع أن قـضية التغيـير قضـية شـائكة ، وصعبة   لكن هذا لا يعنـي عـدم  بحثها والخوض فيها . والمشكلة أن بعض الغيورين والصالحين قد يغلبهم ما يجدون من الحماس لدينهم والغيرة على دعوتهم والرغبة في الإصلاح فيندفعون مع الإخلال بشروط التمكين ، فيهلكون ويُهلكون ، وقد أشار إلى هذه الفكرة الإمام ابن خلدون في مقدمته ، إشارة الخبير العارف بأحوال الأمم ، وسنن التغيير حيث يقول : [ومن هذا الباب أحوال الثوار القائمين بتغيير المنكر من العامة والفقهاء ، فإن كثيراً من المنتحلين للعبادة وسلوك طرق الدين يذهبون إلى القيام على أهل الجور من الأمراء داعين إلى تغيير المنكر والنهي عنه ، والأمر بالمعروف رجاء في الثواب عليه من الله ؛ فيكثر أتباعهم والمتشبثون بهم من الغوغاء والدهماء  ويعرضون أنفسهم في ذلك للمهالك ، وأكثرهم يهلكون في تلك السبيل مأزورين غير مأجورين ، لأن الله سبحانه لم يكتب ذلك عليهم ، وإنما أمر به حيث تكون القدرة عليه ؛ قال r : ( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه ) وأحوال الملوك والدول راسخة قوية لا يزحزحها ويهدم بناءها إلا المطالبة القوية التي من ورائها عصبية القبائل والعشائر كما قدمناه .

وهكذا كان حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في دعوتهم إلى الله بالعشائر والعصائب ، وهم المؤيدون من الله بالكون كله لو شاء ؛ لكنه إنما أجرى الأمور على مستقر العادة والله حكيم عليم .  فإذا ذهب أحد من الناس هذا المذهب وكان فيه محقاً قصّر به الانفراد عن العصبية ، فطاح في هوة الهلاك . وأمَّا إن كان من الملبسين بذلك في طلب الرئاسة  فأجدر أن تعوقه العوائق وتنقطع به المهالك لأنه أمر الله لا يتم إلا برضاه وإعانته والإخلاص له والنصيحة للمسلمين ؛ ولا يشك في ذلك مسلم ، ولا يرتاب فيه ذو بصيرة .  وهذا ما جرى فعلاً في عدد من التجارب الإسلامية المعاصرة ، التي نظرت إلى ما معها من الحق ، وما لديها من القوة ، ولكنها لم تنظر إلى ما يواجهها وينتظرها ، وما مع الآخرين وما لديهم ، فاصطدمت بصخرة الواقع الثقيل الذي يصعب تغييره على غير المتمرسين الصبورين . هذا فضلا عن أن سنة التغيير نفسها تحتاج إلي معرفة من خلال نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية   وعبر التاريخ وتجاربه وأحداثه .

إنّ العناية بجانب واحد فحسب ، واعتبار أن تغييره هو الحل ، كتغيير الحاكم مثلاً ، هو تقصير في النظر واختزال للمسألة ، وإلغاء للمجتمع بأبعاده المختلفة  فالإصلاح يتطلب تصوراً شمولياً يستهدف تربية الأمة بكل جوانبها على الإسلام وقيمه وأحكامه .

والشرع وإن جاء بأصول وأحكام محددة وواضحة  إلا أنه راعى في تحويلها إلى صورتها العملية اعتبارات الواقع وظروفه وإمكانياته ، ومن ذلك أن جميع الأحكام الشرعية مرهونة بالاستطاعة كما في قوله تعالى : ) فاتقوا الله ما استطعتم ( وقوله : ) لا يكلـف الله نفساً إلا وسعها ( وقوله : ﴿ من استـطاع إليه سبيلاً ( . وكما في السنة فإن لم يستطع   ( صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً ) . والاستطاعة تكون للفرد وللجماعة   وتحديد مدى وجودها من عدمه يخضع لاعتبارات كثيرة وإدراك متطلبات الموقف ، والفعل ، والفعل المضاد . وبالعجز تسقط جميع الواجبات لكن يبقى وجوب السعي لتدارك هذا العجز ، وعدم الركون إليه  وفرضٌ على الأمة أن تسعى في رفع كفاءتها وقدرتها العلمية والعملية ، والمستحيل لا وجود له إلا في عقول العاجزين  وليس المقصود بالعجز تبرير الضعف والقعود والإخلاد ، لكن المقصود عدم الاستطاعة الذي ينتقل به المرء أو الجماعة أو الأمة من واجب إلى واجب آخر ، وليس إلى القعود والاستسلام لليأس .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

لمن الولاء

 يقول الناس لا إله إلا الله ، محمدُ رسولُ الله ، ويعلمون أنَّها شرطُ الإسلامِ وأساسُهُ الذي لا يقومُ بدونه ، ثم ينقضونها  ويُكذِّبونها    بصرفُ الولاءِ لغيرِ حكمِ الله وشرعه ، كمن صرف ولاءَه للظلمة والطواغيت ، ولمن شرعوا لهم من الدين مالم يأذن به الله ، وأفتوا بغيرِ علم، ومن سار في ركابِ أولئكَ الطواغيت، يأخذون عنهم تشريعاتِهم  ويخضعون لحكمهم، فتحول هذا المظهَر إلى واقعٍ أليم .

فنرى من يُشرِّعون, ويحكمون , وآخرون يُنفَّذون ويَخضعون  وقد استساغ َ هذا الواقعُ الأليم كثيرٌ من المسلمين وألِفُوهُ ، فترى القضاة   يحكمونَ بين الناس بقوانين وضعية ، فأفلَتَ المجرمون، وشُربتِ الخمورُ   وبيعت في المحلات ، فترى من يسخر من شعائرِ الدين ، ويسب الذات الإلهية ويتمادى في ألفاظ الكفر ولا حساب ولا عتاب .  

نرى من عَبَّد المسلمين لغيرِ الله ،   وأعطى  ولاءهُ لغيرِ الله تعالى  ونسي كتابَ ربه ، وهو يُحذِّرهُ عاقبةَ التبعيةِ لغيرِ اللهِ تعالى, ويُصورُ لهُ مواقِفَ حيةً لأولئكَ المتبوعين, والأتباعِ يومَ القيامة حين يرون العذاب بين يدي اللهِ , وكيف يتبرأُ بعضُهم من بعض, وتعلُوهم الحسرةُ والندامة ، ويتمنونَ لو عادوا إلى الدنيا ، فيخلصوا للهِ وحدهُ    ويكفروا بهم وبقوانينهم .  وفي هذا يقول الله تعالى : ﴿ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ﴾ البقرة: 166

موقف مخيفٌ ، تتقطعُ فيه العلائقُ والأسباب, يومَ يقفُ المستكبرون  من حكَّامٍ وأمراء ، وسادةٍ وكهنة ، وعلماءِ سوءٍ ، ويقفُ الأتباعُ من الشعوبِ المستضعفةِ الخانعةِ ، لأولئكَ المستكبرين أمامَ بعضهم   فيرتَجفُ المستكبرون وهم يرون شاهدَ جريمتهِم أمامَهم، ويتبرؤونَ منهم ويُنكرون صِلَتَهم بهم , وهُنا يستأ سدُ أولئكَ المستضعفونَ على طواغيتهم ، بعد أن رأوا زيفَ سلطتِهم ، فيتمنونَ العودةَ إلى الدنيا  ليكفروا بهم ، ويتمردُوا على سلطانِهم ,ولكن هيهات! فهي حسرةٌ مُستمرة , ولوعةٌ قاتلة, وما هم بخارجين من النارِ ، ويعرضُ القرآنُ الكريم موقفاً أخر، أكثرَ صراحةً, ورُعباً من سابقه ، يقولُ اللهُ تعالى عن أمثالِ هؤلاء : ﴿ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَاداً وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ سـبأ:31 موقفٌ آخر يومَ القيامةِ ، بين طغاةِ البشرِ, وبين الذين اتبعوهم وأطاعوهم في الدنيا من دونِ الله تعالى, وكيفَ يُلقي المستضعفونَ على الذين استكبروا تبعةَ الوَقفةِ المرهوبةِ , وما يتوقعونَ بعدها من البلاء .

يقولونَ لهم  القول  الذي كان يمنعهم من قوله ، الذلُ والضعفُ والاستسلامُ وبيعُ الحريةِ التي وهَبَهَا اللهُ لهم , والكرامةِ التي منحها إيَّاهم ، والإدراكِ الذي أنعمَ بهِ عليهم, أمَّا في الآخرة ، وقد سقطت القيمُ الزائفة , وواجهوا العذابَ الأليم, فهم يقولونها غيرَ خائفينَ ولا مبالين : ﴿ لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ ﴾ وهُنا يضيقُ الذين استكبروا بالذين استضعفوا , فهم في البلاءِ سواء, وهؤلاءِ الضعفاءُ يُريدون أن يُحَمِلوهم تبعَةَ الإغواءِ , الذي صَارَ بهم إلى هذا البلاء ، فيَردُون عليهم باستنكار , ويُجابهونهم بالسبِ الغليظ : ﴿ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ﴾ . إنه التخلي عن التبعةِ والإقرارِ بالهدى , وقد كانوا في الدنيا لا يُقيمون وزناً للمستضعفين, ولا يأخذون منهم رأياً , ولا يعتبرونَ لهم وجوداً , ولا يقبلون لهم مخالفةً ولا مناقشة . ولكنهم أمامَ العذابِ الأليم, يَسألونهم باستنكار , أنحنُ صددناكم عن الهُدى بعد إذا جاءَكم ؟ : ﴿ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ ﴾ من ذاتِ أنفسِكم لا تهتدون لأنَّكم مُجرمون في إعراضِكم عن التحذيرات الإلهيةِ , واتباعِكم إيَّانا , ولو كانوا في الدنيا, لما تكلموا . ولكنهم في الآخرةِ حيثُ تسقطُ الهالاتُ الكاذبة , والقيمُ الزائفة , وتتفتحُ العيونُ المغلقة , وتظهرُ الحقائقُ المستورةِ ، عندها لا يسكتُ المستضعفون ولا يخنعون, بل يجابهونَ المستكبرين بمكرهِم ، في الصدِ عن الهدى , وتمكينِ الباطل والأمرِ بالمنكرِ، واستخدامِ النفوذِ والسلطان في التظليلِ والإغواء : ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَاداً ﴾ . ولكنه حوار لا يُنجِّي المستكبرينَ ولا المستضعفين , فلكلٍ جريمتهُ وإثمه , المستكبرون عليهم وزرهم وعليهم تبعةُ إضلالِ الآخرينَ وإغوائِهم ، والمستضعفون عليهم وزرُهم . فهم مسئُولون عن اتباعهم للطُغاة ، ولا يُعفيهم أنَّهم كانوا مُستضعفين . لقد كرمهمُ اللهُ بالإدراكِ والحرية , فعطَّلوا الإدرَاكَ ، وباعوا الحرية  ورضوا لأنفسهم أن يكونوا ذيولاً , وقبلوا لأنفسهم أن يكونوا مُستذلين ، فاستحقوا العذابَ جميعاً , وأصابهم الكمدُ والحسرةُ   وأسرُّوا الندامةَ لما رأوا العذاب : ﴿ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾.

وقد شهدَ الظالمون أنفسَهم في ذلك المشهد الحي , شهدوا أنفسهم هُناك, وهم بعدُ أحياءٌ في الأرضِ, وشاهدهم غيرُهم ، كأنَّما يرونهم  وفي الوقت متسعٌ لتلافي ذلك الموقفِ لمن يشاء .

ومن هُنا وجبَ على كلِ ذي فهمٍ وإدراك، ألاَّ يصرفَ تبعيَتَه, وولاءَهُ لغير الله تعالى, وأن يستعلي بإيمانهِ الذي وهبهُ اللهُ إيَّاه , وأن يعتزَّ بالعبوديةِ التي شرَّفهُ اللهُ بها , وألاَّ يتنازلَ مثقالَ ذرةٍ, ولا أقلَّ منها عن عبوديتهِ لغيرِ اللهِ تعالى، هذا إن أرادَ العافيةَ والسلامة ، وإلاَّ فإنَّ اللهَ يقول : ﴿ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ فصلت 40 .

أساليب الأعداء في الكيد على الإسلام

قال تعالى : ﴿ إنَّهٍمً يّكٌيدٍونّ كّيًدْا ﴾ تؤكد هذه الآية القرآنية حقيقةً ثابتةً على مر العصور في مواجهة أهل الكفر والباطل لما سبحانه وتعالى من الشرائع، إنها حقيقة كيد أعداء الدين ، ووقوفهم ضدّه ، فالكيد من الأعداء مستمر لا ينقطع حتى يرث الله الأرض ومن عليها ، وفي هذه الآية الكريمة ما يردُّ على المستغربين من المسلمين في هذا العصر الذين ينفون فكرة مؤامرة الأعداء ضدَّ الإسلام والمسلمين   ومخطَّطات أهل الكفر والعصيان ضد دين الله وأهله وأنصاره ، متعددة ومتنوعة ، فمن الناحية العسكرية ، أعلنوا الحرب على المسلمين ، بأقوى الأسلحة ، ومن الناحية الفكرية ،  حاولوا التشكيك في دين الله وزعزعة العقيدة في قلوب المسلمين ، بما ينشرونه من كتب ورسائل ، وما يلقونه من خطب ومقالات بالطعن في الإسلام وقادته ، قال تعالى : ﴿ وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء ﴾ .  وإذا لم يعتنق المسلم ما هم عليه من الكفر والضلال اقتنعوا منه بالشك في دينه ، وفي ذلك خروجه من الدين ؛  فقد قالوا : " إننا نستبعد من المسلم أن يدخل في ديننا ، ولكن يكفينا أن يشك في دينه ثم يخرج منه إلى أي دين شاء " وهذا صموئيل زويمر رئيس جمعيات التنصير؟ يقول في إحدى المؤتمرات : " إنكم إذا أعددتم نشأً لا يعرف الصلة بالله، ولا يريد أن يعرفها، أخرجتم المسلم من الإسلام وجعلتموه لا يهتم بعظائم الأمور، ويحب الراحة والكسل، ويسعى للحصول على الشهوات بأي أسلوب، حتى تصبح الشهوات هدفه في الحياة، فهو إن تعلم فللحصول على الشهوات، وإذا جمع المال فللشهوات، وإذا تبوّأ أسمى المراكز ففي سبيل الشهوات، إنه يجود بكل شيء للوصول إلى الشهوات " يكيدون لأنهم يعلمون علم اليقين أن عز الإسلام هو ذلهم والقضاء عليهم ، وأن انتصار الإسلام يعني خذلانهم ، وأن قيام دولته يعني سقوط دولهم ، ومن الناحية الخلقية نشروا بين المسلمين ما تفسد به أخلاقهم ، وتفسد به آدابهم ، وتفسد به قيمهم ؛ إما بالأغاني الماجنة والقصص الخليعة ، وإما بالصور الفاتنة حتى يصبح المسلم فريسة لشهوته يتحلل من كل خلق فاضل، وينزل إلى مستوى البهائم ، وحتى لا يكون للمسلم إي هم سوى إشباع غريزته من حلال أو حرام ، وبذلك ينسى دينه ويهجر كل فضيلة ، وينطلق مع شهواته ولذاته  ومن الناحية العاطفية ، تظاهروا بمحبة المسلمين والولاء لهم والعطف عليهم ومراعاة مصالحهم  حتى يغتر بهم من يغتر من المسلمين ، فيميلوا إليهم بالمودة والإخاء ، والقرب والولاء ، الذي جاء النهي عنه صريحا في قوله تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ ﴾ . يعلمون أن قوة الإسلام والمسلمين تكمن في عقيدتهم  ، وما يملكون من  الثروات التي تعيش عليها الأمم الأخرى ،  إنهم يتزودون بسبعين بالمئة من الوقود الذي تقوم عليه الحضارة الصناعية المعاصرة ، ويملك المسلمون ضمن مجموعة الدول النفطية مردوداً مالياً نقدياً يوازي ميزانية أكبر دول العالم ثلاثة مرات سنوياً ، كما يملك المسلمون قدرةً على التنامي السكاني ، الذي يمكن أن يهدد العالم ولذلك يكيدون ، والله لهم بالمرصاد وسينصر عباده المؤمنين ، فقال تعالى :﴿ إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الحساب ﴾ وما علموا أنهم في حرب مع الله ، ومن كان في حربٍ مع الله فهو خاسر ومهزوم قال تعالى : ﴿ كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله لقوي عزيز ﴾ 

 لقد تجمعت كل القوى على معاداة الإسلام  فتحالفت الصهيونية العالمية التى تمثلها إسرائيل وكل المجامع الماسونية والنوادى اليهودية ، مع الصليبية العالمية ، وانضمت إليهم الشيوعية الملحدة ، لإبعاد        الإسلام من الطريق ، وظل تمزيق العالم الإسلامي حلماً بالنسبة لهم ،  وكان القضاء على الخلافة الإسلامية من أولى الأولويات عندهم ، لما لها من أهمية كبرى في الإسلام ؛ ففضلاً عن أنها تقوم بحماية الدين والسهر على تنفيذه، فهي تقوم على حماية المسلمين وتوحيد كلمتهم ، بحيث يتمكنون من الدفاع عن عقيدتهم وأوطانهم، وحتى ينفرط عقد هذه الخلافة ، فقد ركز الأعداء على إحياء النزعات القومية والعنصرية التي مزقت الخلافة الإسلامية ، وحتى تستمر الأمة المسلمة في حالة ضعف ، أدرك العدو أنه لابد من الهيمنة على نظم الحكم في العالم الإسلامي ، عن طريق إعداد طبقة من الموالين لهم من أهل تلك البلاد وتسليمهم مقاليد الحكم   وعن إبعاد الإسلام عن مجال الحياة العامة ، عملوا على إحلال القوانين الغربية محل القوانين الإسلامية  وعلى سبيل التمويه والخداع أُطلق على هذه العملية اسم (العلمانية) وتحقق لهم ما أرادوه ، من فصل الدين عن الدولة، فتمزق الشباب المسلم وتحللت المجتمعات الإسلامية وانتشر الصراع الداخلي بين أبناء الأمة الإسلامية الواحدة.

 وفى مواجهة المد الإسلامي الفكري شجع الأعداء على تكوين الفرق الهدامة المنسوبة للإسلام لضرب الإسلام وتشكيك المسلمين في دينهم، ومساعدة هذه الفرق ، في محو فكرة الجهاد من الشريعة الإسلامية والترويج لفكرة أن الإسلام لم يعد صالحاً للعصر الحديث، وليس خافياً أن هذه الفرق تحظى بحماية كاملة من أعداء الإسلام ، لإنجاح خططهم ومؤامراتهم، لإضلال المسلمين وإفسادهم وإخراجهم من دينهم،  قال تعالى: ﴿ ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ﴾  فقد تآمروا وأشعلوا الحروب بين المسلمين ، فقسموهم شيعة وسنة ، ولم يكتفوا بذلك بل واصلوا تجزيء المجزأ ،وتشتيت المشتت ، ولن يتوقفوا عن عبثهم بنا،حتى يصبح كل واحد منا أمة ، له مذهبه وطقوسه واستقلاله الذاتي.

تآمروا على نسائنا وبناتنا ، فأصبحن بعد التستر متهتكات ، وبعد الخلق الفاضل فاسقات ، وبعد التحجب عاريات ، وبعد الحياء والحشمة والوقار فاتنات ، وتآمروا على شبابنا في أخلاقه ، وطريقة لبسه وموضة حلاقته وكل اهتماماته..

إنها المؤامرة على الإسلام والمسلمين ، والسؤال هنا : هل نستسلم لأصحاب نظرية المؤامرة ، أولئك الذين يردون كل انكساراتنا وخيباتنا وهزائمنا وأسباب ضعفنا ،إلى مؤامرة ،نسجها بليل أعداء الأمة ، وواصلوا تآمرهم علينا ، وهل وُجدت الدول والأمم إلا لكي يكيد بعضها لبعض؟ أوليس دأب الدول والأنظمة السياسية التآمر على بعضها لتحقيق المكاسب السياسية والاقتصادية؟  وكم هو طويل ومتشعب تاريخ المؤامرة ،وكم هي متداخلة سلاسله ، وهل مكتوب علينا أن تُكَبِلَنا من بين كل العالمين ؟ وبأي منطق ، وتحت أي ذريعة نستسلم لنظرية المؤامرة ؟ أما آن لنا الرجوع إلى كتاب ربنا وسنة نبينا ، وندع الأماني والتمني : 

وما نيل المطالب بالتمني    ولكن تؤخذ الدنيا غلابا

فكيف نطرب ولا نغضب ؟ وكيف نأمل ولا نعمل ؟ وكيف نتألم ولا نتعلم ؟  كفى أن نجعل من نظرية المؤامرة كابوساً مخيفاً، أو شماعة نلقي عليها كافَّة الأعذار ، التي تحول بيننا وبين ما نتطلع إليه من اللحاق بركب التنمية والتجديد والتنوير بمفاهيمها الإسلاميَّة ، قد يأتي هذا التبرير لدى كثير من الناس متدينين وغير متدينين، فبعضهم يعتقد أنَّ كل شر أتى لهذه الأمة ، بسبب الكفار والغربيين تحديداً، وكل خطأ يقع في بلادنا من نواح سياسيَّة أو اقتصادية فهو بسبب عدونا، ويتناسون أنَّ هنالك الكثير من الأخطاء التي صنعناها بأيدينا ونحن عنها غافلون.  قال تعالى : ﴿ وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون ﴾ هود 117 .

 

 

 

 

 

 

السكوت عن الظلم جريمة

سمعت كلمات مريرة لامرأةٍ سورية ، مزجتها بطعم الألم والحسرة والخيبة ، التي ارتوت منها العروق  والتي تعتبر شاهداً على أعلى صورة من صور الظلم والذل والهوان ، قالت لا نريد إلا ما يخلصنا من الحمل الذي نبت في أحشائنا ، من أبناء المعتدين البغاة ، ولم نستطيع منع ذلك ، بل نتلقى ما يوجعنا ويقض مضاجعنا ، إنها تنادي ولسان الحال ينادي : أعيرونا مدافعكم لا مدامعكم ، ونسأل أنفسنا ونسألكم ، ألسنا أخوة في الدين ، وهل هنتم وهل هنا ، وهل اجتماعكم وبحث مآسينا ، تظنوا أنه يرضينا ، وهل دمعكم يشفي لنا صدرا أو يبري لنا جرحا ، لا وألف لا فقد سئمنا الشجب والردحا ، رغم وضوح الصورة وبشاعة المشهد فالاستجابة يائسة ، كلمات تكاد أن تجف قبل أن يجف مدادها  ولمثل هول هذه الجرائم ، يذوب القلب من كمدٍ   ولمثل هذا الهوان تنفطر الأكباد ، ولأن كانت الغفلة قد رانت على القلوب ، فلعلَّ هذه الأحداث المؤلمة تحرك الضمائر ، وتوقظ الهمم ، ولكن هيهات . إن قوة الظالم بعيدةً كل البعد عن ذاته لأنها  قائمةٌ على تخاذل المتخاذلين ، وعدم حرصهم على إعداد العدة ، لمواجهة المأساة التي حلت بإخواننا الذين أصبحوا بين عشية وضحاها ملهاة الزمن وحديث المتفضلين  ، إن سمة الظلم مذمومة في كل الشرائع والديانات السماوية ، وقد ذكرها الله سبحانه فقال : ﴿ وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا ﴾ والظلم من المعاصي الكبيرة التي يتعجل الله عقوبتها في الدنيا قبل الآخرة. لما لها من وقع سيء في قلوب عباده ، وقد حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال : ( صنفان من أمتي لا تنالهما شفاعتي : سلطان غشوم ظالم وغال في الدين ) فديننا يأمرنا أن لا نداهن ، وان نقف من الظلم موقفا واضحا ، وصريحا ، لان السكوت على الظلم لا يرضي الله ورسوله ، ويتعارض مع مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، الذي يأمرنا به الله ورسوله صلى الله عليه وسلم  وبدونه لا يستقيم المرء ، ولا يحسن إسلامه ، ومتى ما تخلت عنه الأمة ، استحقت الإذلال والهلاك ، والمسلم ينبغي أن لا يكون ذليلا أو مهانا ، وان يطالب بحقوقه بصوت عال ومسموع ليصل إلى أسماع الحاكم الظالم ، لأن من أعظم الظلم سكوت المظلوم على الظالم ، لأن السكوت على الظلم ، عون للظالم على ظلمه ، كما أنه يقتل في الإنسان إنسانيته ، ويقود إلى سخط الله وعقابه . قال تعالى : ﴿ ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار مهطعين مقنعي رؤوسهم ﴾إبراهيم42 . ولذلك لا يُقْبل الصمت على ظلم الظالمين ، وما حرك الشعوب هذه الأيام ، إلا شعورها بنار الظلم والقهر والمهانة .   

ولا أدري كيف يغمض لنا جفن أمام لوعة الثكالي وصراخ الأطفال ، وحيرة الأرامل الذين يصرخون وامعتصماه. ولا من مجيب!! لنا إخوانٌ فراشهم الأرض ، ولحافهم السماء نصبح ونمسي آمنين ، وهم خائفون ، لم يذوقوا للراحة سبيلا ، ينشدون إخوانهم أن يلتفتوا لحالهم ولكن من يجيب ؟ ومن يسمع ؟أعراض تنتهك ، ودماء تسيل ولا يجدون ما يشبع جوعهم فصبروا ،فمنهم الشهيد ، ومنهم اليتيم ، ومنهم الأرملة والمسكين   يصرخون ولا يسمعون إلا صدى صرخات أصواتهم ، وفي غمرة هذه الأحداث ، يبدو أن مخططات اليهود الرامية لهدم وتدمير المسجد الأقصى ، قد أشرفت على التنفيذ النهائي ، بمعنى أن مصيبتنا بمسرى حبيبنا قد اقتربت وأزفت الآزفة ، وليس لها من دون الله كاشفة ، بسبب غرق أبناء الأمة العربية والإسلامية في سبات عميق ، وعدم استشعارهم لخطورة ذلك .

فهل نسي العرب والمسلمون ، أنهم أمة النخوة والغيرة على الأعراض والمقدسات، والطامة الكبرى تقع حينما تنتزع الغيرة على المقدسات ، والنخوة من رؤوس الرجال، حينها نتوقع من أعداء الأمة والإنسانية ما لا يتوقعه أحد، وما لا يمكن للمرء أن يتخيله ، ولا للأمة أن تتصور حدوثه.

ما يجرى اليوم بالقدس ، من انتهاج العدو لسياسة التهويد التي تتسارع عجلتها يوما بعد يوم، وطرد أهل القدس من مدينة أبائهم والأجداد الأوائل  وتغيير أسماء شوارع المدينة ، ومحاولات طمس معالمها وأثارها الإسلامية والعربية ، ليدق ناقوس الخطر الشديد.

لا شيء لدى الاحتلال – فيما أحسب – يمر دون دراسة وتحليل ، والوقوف عند حسابات الربح والخسارة، وبالتالي فإنه من البديهي أن يكون هناك هدف واضح وهام ، للمحاولات المتكررة باقتحام المسجد الأقصى  ، ليجعلوا كما أعتقد من الاقتحامات المتكررة ، منظرا مألوفا لا تقشعر له الأبدان ، ولا تتحرك من هوله مشاعر المسلمين وحتى يتعود الناس على رؤية أبناء القردة والخنازير وهم يجوبون ساحات المسجد ، وباحاته صباح مساء وكأنه أمرا طبيعيا ، يريدون أن نألف مبدأ تقاسمهم لنا إرثنا المحمدي بالقدس، كما فعلوا بالحرم الإبراهيمي وجعلوا لهم مواعيد دورية لتدنيسه ينظروا اليوم بنفس المعادلة ، وذات الرؤية للمسجد الأقصى بل وأشد سوءا.

وفي غمرة انغماس الأمة بما يسمى بالربيع العربي ، قد نصحوا يوما ، ونجد أن العدو قد أنجز ما كان يحلم به من تقسيم المسجد الأقصى أو هدمه ، فالقدس والمسجد في خطر حقيقي ، وهما يصرخان من أعماقهما بالأمة العربية والإسلامية ، لعلها تخرج صلاح الدين من جديد أو من يقتدي بسيرته وصلاحه وجهاده، وينتصر لصرخات المسجد المكلوم الجريح. لقد انطلقت صرخات وامعتصماه اليوم مرارا وتكرارا من مآذن وقباب القدس، وأبواب الأقصى وباحاته وجنباته ، وكل زواياه تشتكى إلى الله تدنيس المغتصبين لها، وهي تصرخ وتنادي وأسلاماه فهل نستيقظ قبل فوات الأوان؟ وهل تشق هذه الصرخات طريقها نحو قلوب أحفاد صلاح الدين؟ أم أنها لامست الآذان ولكنها لم تلامس نخوة المعتصم.

 إن إخواننا يتلقون المأساة على شكل معركة تدور واعتداءٍ يُدبَرْ ومؤمرات تُحاك ، إنهم يتطلعون إلى الساعة التي يفرح فيها المؤمنون بنصر الله ، إنهم يبتسمون للموت ، ولسان حالهم وهم يقاومون اعتداء الظالم قول الله تعالى : ﴿ والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سُبُلَنا وإن الله لمع المحسنين ﴾ . فلماذا الخضوع الأعمى للمؤامرة الدنيئة التي تستهدف قتل روح الجهاد والمقاومة في الأمة ، أليس من عجائب دهرنا ومصائب زماننا أن يعربد الظلم ويصول ويجول ، ويقتل ويدمر ؟ أليست مصيبة الإسلام في مضيعة لا معين له عليها بين جهل أبنائه وعجز علمائه ؟ في  الوقت الذي يواجه هجوماً شرساً يهدف إلى القضاء عليه ، وإفراغ المسلمين من حوافزه الروحية ، وهل هان علينا أن نغضي على الأذى ونحن نرى جناته ، ونصبر على المكائد ونحن نعرف موقديها ، ونرتكس في مطارحنا الذليلة ، نقتات أوهاماً ونجتر آلاماً ، ونصبِّرُ أنفسنا على البلاء الذي يُمارس ضدنا ، حتى لا نكاد نحس به أو نُباليه ، إن دولاب الزمن لا ولن يقف ، والحياة لا تنتظر متخاذلاً ، ولا تقبل عذر متخلف  وإن وقود الحركة ، التي تأخذ بيد الأمة إلى طريق النصر  هو قلبٌ يعي ، وفكر يعمل ، وتضحيات تبذل بغير حساب ، ومن هنا كان لمداد العالم الصادق المخلص الذي لا تأخذه في قول كلمة الحق لومه لائم ، له وزنه في بناء كيان الأمة ، وكان لدم الشهيد قدره في الحفاظ على وجودها ، لأن عطاء العالم ، دليل السلامة في العقيدة والاستقامة على الطريق والمجاهد حين يبذل دمه خالصاً في سبيل الله ، فذلك برهان الوفاء ، وصدق ما عاهد الله عليه ، إن كلمات المخلصين من إخواننا تبكي ، وقطرات دمهم تحكي ، والحركة مستمرة ، لأنها تنسمت بالدم معنى الحياة ، لقد آن لنا أن نذكر ، ومطارق الغدر والخيانة والاعتداء ، تدق أبوابنا صباح مساء ، آن لنا أن نذكر الكلمة المضمخة بالدم ، التي يطل بها صاحبها هازئاً بهذا العالم الفاني ، مختاراً الشهادة على حياة الذل والعار ، آن لنا أن نفيق من الغفلة   ونأخذ زمام المبادرة  ونتسلم الراية من جديد  ونجنب الأجيال القادمة جحيم الدنيا والآخرة ، فهل نحن فاعلون ؟

 

 

 

 

 

 

 

أهمية الوحدة بين المسلمين

من أكبر المصائب التي تواجه الأمة الإسلامية   الاختلاف والتفرق الذي حذر الله منه فقال : ﴿ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾الأنفال 45. لأن وحدة الأمة من أهم عوامل قوتها ، به تنال مجدها، وتعيش آمنة مطمئنة، وبه تكون مرهوبة الجانب، عزيزة السلطان ، وإن واقع المسلمين اليوم، يشهد بأنهم في غفلة تامة عن أهميتها    فضلاً عن عجزهم عن تطبيقها، أو السعي إليها  فقال قائلهم :

حرموا هداية دينهم وعقولهم    هذا وربك غاية الخسران

تركوا هداية ربهم فإذا بهم      غرقى من الآراء في طوفان

وتفرقوا شيعاً بها نهجهم        من أجلها صاروا إلى شنآن

 ولا همَّ للعالم من حولهم إلا تفريق كلمتهم    والحيلولة دون وحدتهم ، وبث بذور الاختلاف بينهم ، لأن الوحدة من أهم خصائص هذه الأمة لقوله تعالى : ﴿ وَإِنَّ هَاذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ﴾ المؤمنون 51. وقد دلت النصوص على وجوبها  قال تعالى : ﴿ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ ﴾ آل عمران 103. قال القرطبي في التفسير : "فإن الله تعالى يأمر بالألفة وينهى عن الفرقة، فإن الفرقة هلكة، والجماعة نجاة"، والتفرق والاختلاف من أكبر الأسباب التي أدت إلى خذلان الأمة وإخفاقها في التعامل مع قضاياها، والحفاظ على حقوقها  ومفهوم الأمة الواحدة الذي وصفنا الله به ، وأمرنا بتحقيقه ، يكاد ينعدم على المستوى السياسي الرسمي، وضعيف جدا على المستوى الشعبي    ولذلك يستفرد الأعداء بمن شاءوا من المسلمين فيطئون أرضهم، ويسفكون دماءهم، ويدمرون بلادهم، وينهبون ثرواتهم، ويفعلون بهم الأفاعيل والبقية الباقية بين متآمر ممالئ ، وبين متفرج عاجز  من الخارجين على جماعةِ المسلمين ، وتعاليمِ الإسلام بألسنَتهم أو بأقلامِهم أو بالقوة ، ما يُضعِف جماعةَ المسلمين ، الذي حذر الله منه بقوله : ﴿ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا ﴾ الأنفال 46 . وطاعة الله تعالى تتمثّل بالانقياد إلى شرعه وحكمه   والاستسلام لقضائه وقدره ، واتّخاذ الإسلام عقيدةً وعملا وسلوكا ومنهج حياة، وتتمثل باتباع سنته واتباع أمره واجتناب نهيه فقال تعالى : ﴿ فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى  يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ النساء:65   كما تتمثل الطاعة ، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي جعله الله من أخص خصائص الأمة الإسلامية ، فبه نعرف مواطن الخلل فنتجنبها، وبه يحدث التكامل بيننا، وبه نزداد تمسكاً بوحدتنا وعقيدتنا ، قال الله تعالى : ﴿ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ آل عمران110، قال القرطبي رحمه الله عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: "هو القطب الأعظم في الدين، وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين ولو طوي بساطه، وأهمله علمه وعمله، لتعطلت النبوة، واضمحلت الديانة، وعمّت الفترة، وفشت الضلالة، وشاعت الجهالة، واستشرى الفساد، واتسع الخرق، وخربت البلاد، وهلك العباد، ولم يشعروا بالهلاك إلا بعد التناد" . ومن يقول كلمة الحق ، يبتعد عن مجاملة الأشرار والمفسدين في الأرض والنفاق لهم والتمسّح بأذيالهم والسير على خطاهم وتزيين الشرّ والسوء لهم .

وإذا ما تحقّقت طاعة الله ورسوله على أرض الواقع قولا وعملا ، لا ادعاءً ولا رياء ، بطلت أسباب النزاع والشقاق والخلاف ،  فما يتنازع الناس إلا حين تتعدّد جهات القيادة والتوجيه، وحين يكون الهوى المطاع هو الذي يوجّه الآراء والأفعال والأفكار، فإذا استسلم الناس لله ورسولِه واعتصموا بحبل الله ، انتفت أسباب الفرقة والنزاع قـال تعالى: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا ﴾آل عمران 102 . كما حذرنا الله من التنازع فقال تعالى : ﴿وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ  ﴾الأنفال 46 ، وحذر الله من أن يؤدي الاختلاف إلى الفرقة كما حدث لمن قبلنا : ﴿وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ﴾ آل عمران 105 .

يقول الأستاذ عبد القادر عودة رحمه الله: «لقد صنع الإسلام للوحدة الإسلامية كل ما يقتضيه التوحيد وأقام الوحدة على دعائم ثابتة ، لا يتطرق إليها الخلل ما دام المسلمون متمسكين بدينهم ، حريصين على طاعة ربهم ، وقد وحَّد الإسلام بين المسلمين جميعًا بما أوجب عليهم من الإيمان برب واحد، والخضوع لإله واحد، وإتباع كتاب واحد، ومشرّع واحد  وبما جعل للأمة الإسلامية على تعدد أفرادها من هدف واحد ، وتفكير واحد ، ومنهج واحد، وبما طبع عليه المسلمين من آداب وأخلاق موحدة وبما جعل للأمة كلها من قبلة واحدة، وسياسة واحدة، وسلوك واحد، وأمر لا يختلف على أصوله اثنان ، وجاءت النصوص تحث المسلمين على الأخذ بكل ما يزيد المحبة بينهم، والنهي عن كل ما يولد البغضاء في صفوفهم، وتأمرهم صراحة بأن يكونوا إخوة، ولا يمكن للمسلمين أن يكونوا إخوة إلا إذا كانوا متحدين، فإن الأخوة ضد الفرقة والاختلاف ، ومن أساليب القرآن والسنة في الدلالة على وجوب الوحدة بين المسلمين النهي الصريح عن الافتراق والاختلاف الذي هو ضد الوحدة والاجتماع ، قال الله تعالى : ﴿ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ الأنفال45. في التفسير : لا تختلفوا فتفرقوا وتختلف قلوبكم فتفشلوا، قال الشاعر:

وفي كثرة الأيدي عن الظلم زاجر  إذا حضرت أيدي الرجال بمشهد

وقد أمرَ الله المؤمنين بالجماعة ونهاهم عن الفرقة  والاختلاف قال تعالى : ﴿ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ آل عمران 105  وعن النعمان بن بشير عن رسول الله قال: (الجماعة رحمة، والفرقة عذاب ) .

ومن أساليب الشريعة في الحث على الوحدة بين المسلمين التحذير من الشذوذ ومفارقة الجماعة، ففي سنن الترمذي عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: خَطَبَنَا عُمَرُ بِالْجَابِيَةِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي قُمْتُ فِيكُمْ كَمَقَامِ رَسُولِ اللَّهِ فِينَا، ثم ذكر خطبة جاء فيها "عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ، وَهُوَ مِنْ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ، مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمْ الْجَمَاعَةَ، مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ، فَذَلِكُمْ الْمُؤْمِنُ".  وعن أبي الدرداء قال عليه السلام : ( ما من ثلاثة لا تقام فيهم الصلاة إلا وقد استحوذ عليهم الشيطان، فعليكم بالجماعة، فإنما يأكل الذئب القاصية ) .

 لا يختلف اثنان على أن الوحدة سبيل العزة والنصرة، فهذا معن بن زائدة  يوصي أبناءه عند وفاته بقوله:

كونوا جميعا يا بني إذا اعترى   خطب ولا تتفرقوا آحادا

تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسرا وإذا افترقن تكسرت آحادا

والتاريخ يشهد أن من أهم أسباب سقوط الدول هو التفرق والاختلاف، سقطت الخلافة العباسية بعد أن تفرقت الدول الإسلامية في ذلك الوقت، فنشأت الدولة البويهية، والمماليك، ودويلات الشام، ولم يبق للخلافة العباسية إلا مزع متفرقة متناثرة من العالم الإسلامي، فلما زحف المغول إلى بغداد لم يقف في وجه زحفهم غير أهل بغداد فقط، فأعملوا فيهم القتل حتى قتلوا أكثر من ثمانمائة ألف نسمة، كما قال غير واحد من المؤرخين.

وسقطت الدولة الإسلامية في الأندلس بعد أن أصبحت دويلات متفرقة متناحرة، لا همّ لأحدهم سوى التلقب بألقاب الملك والسلطان فقال قائلهم :

مما يزهدني في أرض أندلس        أسماء معتضد فيها ومعتمد

ألقاب مملكة في غير موضعها  كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد

ولم تسقط الدولة العثمانية إلا بعد أن تمزق جسدها إلى أشلاءَ متناثرة، وبعد أن أغرى الصليبيون الجدد  المسلمين بالانفصال عنها، وأحسنوا اتقان العمل بقاعدة: فرِّق تسُد .

وها هو العالم الإسلامي اليوم منقسم إلى دويلات متناحرة، تعيش على هامش التاريخ، وتتجرع ألوان الهوان ، وما ظفر به أعداء الأمة من سطو واستيلاء لا يرجع إلى خصائص القوة في أنفسهم بقدر ما يعود إلى آثار الوهن والضعف في صفوف المسلمين  فالفرقة تجعل هلاك الأمة بيد أبنائها ، في سلاسل من الحروب في غير معركة، وانتصارات بغير عدو.

إن العالم الإسلامي بتفرقه وتنازعه لا يشكل أي   خوف لأحد، ولكن الأعداء يخشى أن يستيقظ المسلمون من نومهم، فيسارعوا إلى الأخذ بأسباب القوة، والعودة إلى الوحدة ، وتجنباً لذلك فإنهم يحاولون بكل جهد الحيلولة دون عودتهم    إلى سابق عزهم وسالف مجدهم ، فتراهم يعملون جاهدين على تكريس أسباب الفرقة بين المسلمين   مما يوجب على المسلمين أن نكون يداً واحدة، وأن يكونوا إخوة متآلفين على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، كما كان سلف الأمة في سيرهم ودعوتهم إلى الله عز وجل، ومخالفة هذا الأصل ربما تؤدي إلى انتكاسة عظيمة، والتفرق هو قرة عين شياطين الإنس والجن؛ لأن شياطين الإنس والجن لا يريدون لأهل الحق أن يجتمعوا على شيء، بل يريدون أن يتفرقوا لأنهم يعلمون أن التفرق تفتت للقوة التي تحصل بالالتزام بالوحدة والاتجاه إلى الله عز وجل، بدليل آيات الله التي نهت عن التفرق :﴿ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا ﴾ وقوله:﴿ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا ﴾ وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾ .  

 

 

 

   

كيف نبني المجد في ظل الاستبداد

 الاستبداد أصل لكل فساد ، وأثر سيء في كل واد. يفسد الدين والعقل والمال والأخلاق والتربية. يفسد الطموح والسعي إلى العلى، ويحوله إلى تكبر وتسلط وطغيان. يحول المجد إلى تمجد ، وهو  نقيض المجد  لأن التمجد صفة الإرادات المستبدة ومن يتعاون معها ، من أصحاب الألقاب وحملة النياشين ، من أعداء العدل وأنصار الجور للتغرير بالأمة ، ولما كان المستبد حريصاً على ظلم الناس ، فإنه يستعمل أعواناً من جنسه لتكوين عصابة الاستبداد ، بهذا يكون الناس أعداؤه لظلمه ، ولا يأمن على نفسه وحياته من الثورة ضده للتخلص من استبداده ،  الذي لا يصيب المستبدين وحدهم بل يشمل الدمار ، الأرض والناس والديار , لأن دولة الاستبداد في مراحلها الأخيرة ، تحطم نفسها وأهلها وبلدها قبل أن تستسلم للزوال , وهو ما أدانه القرآن صراحة بإدانة الإسراف والترف قال تعالى : ﴿ وَإذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلك قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفيهَا فَفَسقُوا فيِهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا اَلْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ﴾ . وكأن الناس يدفعوا ثمن سكوتهم على الظلم ، وقبولهم القهر والذل والاستعباد ، وعدم التفكر في معنى قول الله تعالى : ﴿ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَـمُوا مِنْكُمْ خاصَّةً وَاعْلَـمُوا أنَّ اللّهَ شَدِيدُ العِقابِ ﴾ ، فكان من الحِكَم البالغة قولهم: "الاستبداد أصلٌ لكلِّ داء"  لأنَّه يضغط على العقل ويُغالب المجد فيفسده، والمجد : هو إحراز المرء مقام حبٍّ واحترام في القلوب ، وله تأثير في الطبيعة البشرية ، فيرى الحرُّ حريته ، تاج فوق رأسه، لا يطأطأ رأسه من أجل لقمة عيش أو من أجل الابقاء على حياته، لأنه يفضل الموت بمجد على العيش بذلة، وقد قيل : " تموت الماجدة ولا تأكل من بيع جسدها  وهي حرة ، تأبى أن تعيش ببيع شرفها " . وقولهم : خلق الله للمجد رجالاً يستعذبون الموت في سبيله، ولا سبيل إليه إلا بعظيم الهمّة والإقدام والثّبات، تلك الخصال الثّلاث التي بها تقدَّر قيم الرجال . 

فهذا مسئول يقول لقائده عندما قلَّده السيف : "هذا سيف الأمة أرجو أن لا أتعدّى القانون فيكون له نصيبٌ في عنقي". وخرج رجل من مجلس الخليفة الوليد مغضباً يقول: "أتريد أن تكون جباراً؟ والله  إنَّ نعال الصعاليك لأطول من سيفك!. وقيل لأحد الأباة: "ما فائدة سعيك غير جلب الشقاء على نفسك؟". فقال: "ما أحلى الشقاء في سبيل تنغيص الظالمين!". وقيل لأحد النبلاء: "لماذا لا تبني لك داراً؟" فقال: "ما أصنع فيها وأنا المقيم على ظهر الجواد أو في السجن أو في القبر"، وهذه ذات النطاقين (أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها) وهي امرأة عجوز تودِّع ابنها بقولها: "إن كنت على الحقّ فاذهب وقاتل الحجاج حتى تموت".  أي أن مجد الدفاع عن الحق ضد الظالمين والمستبدين ، لهو أرفع مجد يحظى به الإنسان، فإن نجح بمسعاه برفع الظلم فقد حقق العدل، وإن لم يستطع ومات دونه، فيكفيه مجداً أنه ناهض الظلم والاستبداد ، يقول الإمام على من أمضى يومه  في غير حق  قضاه ، أو فرض أداه أو مجد بناه ، أو حمد حصله ، أو خير أسسه ، أو علم اقتبسه ، فقد عق يومه" ويقول عمر الأميري :  " إذا كان للمجد كلمات فكلمة الإسلام من أكبرها مجداً " فالإسلام هو بمثابة نظرية للمجد   يؤهل أتباعه ، تأهيلا جادا  لبناء صروح المجد ، وهذا ما أوضحه الصحابي عبادة بن الصامت للمقوقس عندما قال : " لنا مجد الآخرة إن ظفرتم بنا ، ولنا مجد الدنيا إن ظفرنا بكم ، وما من أحد إلا ويدعو ربه صباحا ومساءا بألا يعود إلى أهله وولده وماله ، وما منا من أحد إلا وخرج ولا يبتغي الرجوع " تلك هي  المعادلة ، إما إلى النصر فوق الأنام ، وإما إلى الله في الخالدين وقد صدق القائل :

وإنك لن تنال المجد حتى     تجود بما يضن به الضمير

بنفسك أو بمالك في أمور    يهاب ركوبها الورع الدثور

نعم إن المجد لا يتم تحقيقه إلا ببذل وتضحية منقطعة النظير . فليس المجد كما قال الشاعر:

لا تحسبن المجد تمرا أنت آكله     لن  تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا

 وعلى هذا النحو كانت معالجة الصحابة رضي الله عنهم  للأمور من خلال الجهاد ، والسخاء بالنفس والروح في ذات الله ، وكما قال الشابي:

ومن لم يحب صعود الجبال    يعش أبد الدهر بين الحفر

 وما طالب الله عبيده بتمجيده ، إلا وقرن الطلب بذكر نعمائه عليهم ، أما المتمجّدين فهم أعداء للعدل أنصار للجور، لا دين ولا وجدان ولا شرف ولا رحمة، وهذا ما يقصده المستبدُّ من إيجادهم والإكثار منهم ليتمكَّن بواسطتهم من أن يغرِّر الأمة على إضرار نفسها تحت اسم منفعتها، وقد يسوقها لحرب اقتضاها محض التجبُّر والعدوان ، أو يُسرف بالملايين من أموال الأمة على ملذاته وتأييد استبداده ، أو يتصرَّف في حقوق لأمة كما يشاؤه هواه باسم مقتضى الحكمة والسياسة . وصدق القائل : " دولة الاستبداد هي دولة البُله والأوغاد "  فالمستبد يؤمن بنفسه قبل أن يؤمن بالله ، ويؤمن بمجده قبل أن يؤمن بمصلحة الأمة ، فيحشد الأتباع حوله ، ويرفض الاستعانة بالكفايات التي لا تدين له بالولاء ، حتى قال الشاعر معبراً عن عواقب حرمان الأمة من الأقوياء فيما تتعرض له من أزمات :

أضاعوني وأي فتى أضاعوا    ليوم كريهة وسداد ثغر

تلك هي طبيعة الرجل الكفء ، كراهية الهوان والتحقير ، فهذا عنترة بن شداد حين هوجمت قبيلته وكان أبوه قد وظفه في الرعي والخدمة ، جاء يطلب منه أن يقاتل ، فقال عنترة مندداً بموقف أبيه : إن العبد لا يحسن الكر والفر ، لكنه يحسن الحلاب والصر ، فقال له والده : كر وأنت حر ، فاسترد مكانته واستعادت القبيلة كرامتها ، فإضاعة الملكات الإنسانية العالية خسارة ، وما ذل الأمة وانهيارها إلا نتيجة إقصاء الكفايات وسط عواصف الهوى والجحود , واستعلاء المستبدين ، وربط الأتباع بهم على أساس المنفعة ، مما أدى إلى تهديم الدين وتخريب الدنيا ، فكان هذا البلاء الذي أصاب الإيمان والعمران ، فأصيب الإسلام من استبداد الحاكمين باسمه ، واستبعاد منهج الله من التطبيق ، الذي لا إيمان إلا به ﴿ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ﴾ .   

 

 

 

 

 

 

كيف نقرأ انتصارات الأمة

لقد سجل التاريخ الإسلامي القديم والحديث من النصر في معارك الحق آيات بينات، وترك للإنسانية من أبطال الإصلاح والفتوح والعلم أعلاماً شامخين  وقد سجل التاريخ معظم انتصارات الأمة وفتوحاتها فقد أحرزوا هذه الانتصارات والفتوحات بالإيمان الذي بث فيهم من القوة و نصرة الحق ، ما جعلهم   أقوياء أحراراً ، فإن قاتلوا قاتلوا بقوة الله، وإن رموا رموا بعزة الله ، وإن صالوا وجالوا فبقوة الحق والتمسك بهذا الدين الذي نقل المسلمين من رعاة للغنم إلى قادة للأمم، هذا الدين الذي اعتبر  ذروة سنام الإسلام الجهاد ، العبادة  الأولى، لأن الإنسان المجاهد يجود بنفسه، والجود بالنفس أقصى غاية الجود، فكان للمجاهد عند الله شأن كبير  قال تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾ آل عمران والله يخاطب المجاهد يوم القيامة فيقول: تمنى علي يقول: يا رب أتمنى أن تعيدني إلى الدنيا لأقتل مرة ثانية، لعظم إكرام الله له،  لقد ورد ذكر البذل بالمال والنفس في ثمانية عشرة آية في القرآن، وقد قدم بذل المال على بذل النفس لأنه أسهل، قدم الأسهل إلا في آية واحدة قدم بذل النفس على بذل المال في آية عقد البيع القطعي مع الله قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ﴾ التوبة  فالمجاهد إذا كان يجاهد لإعلاء كلمة الله ولنصرة دين الله، له عند الله مقام لا يعلمه إلا الله فمن يجبن عن مواجهة العدو فإنه يجهل حقيقة الجهاد، وما أعدّه الله للمجاهدين من المنزلة العظيمة 

إن النصر الذي نتمناه له شرطان أساسيان: أولها إعداد القوة بالقدر المستطاع ، لأن النصر لا يكون بدعاء أو بمعجزة إلهية تأتينا ونحن لم نعد ونستعد  فهذا مستحيل بدون الإيمان اليقيني بالله  وأنه لا ناصر إلا الله، وأن النصر بيد الله ومن عند الله ، الذي يقرر من المنتصر، لقوله تعالى: ﴿ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ﴾ الأنفال ، وقوله تعالى :﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ﴾ آل عمران ، لابد من الإيمان مع إعداد العدة لقوله تعالى : ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ ما استطعتم ﴾ ما يدل على عدم إعداد القوة المكافئة، بل أن نعد القوة المتاحة، فبالإيمان وإعداد العدة المتاحة  نحقق أسباب النصر.

﴿وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ 47 الروم ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً﴾  141النساء ، إذا كان لهم علينا ألف سبيل وسبيل، ففي إيماننا خلل.  ﴿وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ﴾  173 الصافات ،  آيات كثيرة تعد المؤمنين بالنصر : ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً﴾ سورة النور ، فالإيمان شرط لازم غير كاف، والإعداد شرط لازم غير كاف، يجب أن نعد لأعدائنا كل ما نستطيع من قوة مادية وبشرية وعتاد وعدة ومعلومات وتفوق علمي، إن أردنا النصر فله ثمن ليس باليسير، أما أن نتمنى على الله الأماني ونحن قاعدون، أو ننتظر من الله أن يحدث معجزة ونحن لا يمكن أن نغير شيئاً في حياتنا وعلاقاتنا وكسب أموالنا وإنفاق أموالنا هذا نوع من التمنيات التي لا يتعامل الله معها أبداً.  " ليس بأمانيكم ولا بأمان أهل الكتاب، من يعمل سوء يجزى به" : ﴿تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ﴾ سورة الأنفال ، أنت حينما تكون قوياً قد لا تستخدم السلاح إطلاقاً، لمجرد أن يكون في حوزتك سلاح فعال فتاك، فأنت مرهوب الجانب، هذه حقيقة ! الآن دول كثيرة جداً تملك سلاح نووي لم تستخدمه إطلاقاً لكنها مرهوبة الجانب ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ... ) صحيح مسلم ،  ورد في بعض السور القرآنية وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم   خاصة أن الجهاد والاستشهاد نعمة لا يهبها الله إلا لمن يستحقها   لتحقق هذا النصر المطلوب، وإذا أراد الله سبحانه وتعالى أن يعاقبنا بما كسبت أيدينا فأظن أن إحراق الأرض ومن عليها رد مناسب لأمة تخلت عن كتاب ربها وسنة نبيها . وحينما نلتزم العقيدة الصحيحة ونبذل قصارى الجهد  في حمل هم المسلمين والتخفيف عنهم، ونبلّغ منهج   ونستجيب لهذا النداء الرباني : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾   الأنفال . فإن لم نستجب لأمر الله ولداعي الجهاد ولإحقاق الحق، ولنصرة دين الله عز وجل، نفقد ميزة الخيرية  التي أراده الله لنا في قوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ آل عمران .  لأن هذه الخيرية لمن استجابوا لله ورسوله إذا دعاهم لما يحييهم، ولمن جاهدوا في سبيل الله ونصروا دين الله، أما حينما لا نستجيب عنها نكون كأية أمة، ويؤكد هذا المعنى قول الله عز وجل: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ﴾ المائدة  فأجابهم الله عز وجل: ﴿قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ﴾ المائدة

 أن أخطر شيء على هذا الدين أدعيائه لا أعدائه . والله المستعان    

   

 

 

لماذا هذا التعنت

قرأت في تاريخنا الإسلامي عن مواقف مشابه لواقعنا اليوم؛ فوجدت موقفاً للإمام الحسن بن علي، مشابها عندما قتل الإمام علي بن أبي طالب على يد أحد الخوارج ، حدث انقسام وفتنة ، فقد بايع أهل العراق ابنه الحسن على الخلافة  ورفض أهل الشام مبايعته ، ولما رأى الإمام الحسن استعداد أهل العراق مناصرته ، لقتال أهل الشام ، تقدم بمبادرة لحقن الدماء ، فتنازل عن الخلافة لمعاوية  واشترط عليه أن يحقن دماء المسلمين ، فوافق ، وسمى ذلك العام بعام الجماعة  لاجتماع كلمة المسلمين فيه ، وحقن الدماء ،  ما أحوجنا اليوم لكي نأخذ لدروس والعبر من تاريخنا الإسلامي ، فنتصرف كما تصرفوا ، أم إن الكرسي والسلطة التي تسيل الدماء من أجلهما يحول دون ذلك ، بل إن الوصول إلى السلطة أوصلنا إلى ما نراه اليوم من مذابح وجرائم ترتكب في حق المسلمين من بني جلدتهم ، طلباً للحكم ، دون مراعاة لدين ولا عرف , فانتهكت الحرمات التي غلظ الله في معاقبة من يقترفها , وعلق في عاتق القاتل ظلما ، جزاء من قتل العالم بأسره   وشدد الله عز وجل في كتابه العزيز على تحريم قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وكذلك شدد على عدم قتل المؤمن بدون وجه من وجوه الحق فقال تعالى :﴿ مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً ﴾ . وها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يصف للصحابة ما نحن فيه من هرج ومرج وسفك للدماء ، ونزاعات وفتن   فيما رواه ابن ماجه وأحمد وصححه الألباني عَنِ الْأَشْعَرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ( إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ الْهَرْجَ . قَالُوا: وَمَا الْهَرْجُ؟ قَالَ:  الْقَتْلُ قَالُوا: أَكْثَرُ مِمَّا نَقْتُلُ، إِنَّا لَنَقْتُلُ كُلَّ عَامٍ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ أَلْفًا  قَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِقَتْلِكُمُ الْمُشْرِكِينَ، وَلَكِنْ قَتْلُ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَالُوا: وَمَعَنَا عُقُولُنَا يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: إِنَّهُ لَتُنْزَعُ عُقُولُ أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ وَيُخَلَّفُ لَهُ هَبَاءٌ مِنَ النَّاسِ، يَحْسِبُ أَكْثَرُهُمْ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ  وَلَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ) . إن ما نراه اليوم من قتل وسفك للدماء ، يدل على أن هذه الأمة مبتلاة ، روي في صحيح أبي داود : ( أمتي هذه مرحومة ، عذابها في الدنيا : الفتن والزلازل والقتل والبلايا ) . فالذبح شهادة ، والتعذيب كفّارة للسيئات ، ومن قضى من المسلمين في المذابح   ومضى إلى ربه ، فلعلها راحة له من عناء الدنيا   ونعيم عظيم في الآخرة.

إن لملة الكفر ومن والاهم ، في معاداة الإسلام وأهله   وقائع مشهورة ، فإذا كانت لهم القوة والقدرة   سفكوا دماء المسلمين ، فلا دين لهم ولا إيمان ولا رأفة لديهم ولا رحمة ولا شفقة ، إنهم يرتكبون المذابح ، حقدا وانتقاما ، وتهجيرا وإيهاما ، بالقوة والبطش ، والتخويف والحرب ، تلك هي طبيعة ملة الكفر : ﴿ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ﴾  وجه قبيح يعكسونه في معركتهم مع الإسلام والمسلمين ﴿ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ﴾ . هؤلاء الكفرة ومن والاهم جبناء ، يتسلطون على المستضعفين والعزّل وكبار السن والنساء والأطفال ، لا يقنعون بجريمة واحدة بل جرائمهم مركّبة : إهانة وإذلال واغتصاب ، وذبح  وحرق وتباهي وإشهار  

إن هذه المذابح التي نسمع عنها ونرى ، توجب الجهاد للدفع قال تعالى : ﴿ وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ ﴾ . كما توجب على أهل الحلّ والعقد النظر في تدبير أمور المسلمين ، وإيجاد الحلول العملية   للوصول إلى سياسة ردع قائمة على القصاص قال تعالى: ﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ﴾ . ووتتطلب توعية المسلمين بما يمكرون ويخططون ، قال تعالى: ﴿ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ) حتى لا ينخدع بهم المسلمون ، ولا يأملون منهم شيئا    لأنهم يشاركون في الجريمة ، وعلى أحسن الأحوال يتفرجون ، فماذا يُرجى منهم ؟ وكيف نواليهم ونتقرّب إليهم ونتشبّه بهم.

إن إستراتيجيتهم التي يتصدّى لتنفيذها البعض تحت مسمّى "الربيع العربي"، هي الوجه الحقيقي لـ"خريطة الدم الأمريكية" والتي تقضي  بإغراق الشارع العربي والإسلامي بالدم، بل إن المؤامرة لن تتوقف عند سورية ومصر وتونس وليبيا وفلسطين ولبنان، إنما ستمتد نيرانها لتحرق تركيا وقبلها الخليج العربي بإماراته ومشيخاته . إن ما يجري في المنطقة ، يدل على رائحة التطرف والتآمر على قضايا الأمة ، والتي تظهر جلية وواضحة من خلال رعاية الثورة المضادة في المنطقة العربية   تحت راية الإسلام السياسي المزعوم ، وللأسف لم ينتبه العرب لذلك ، وأصبحوا في مهب الريح يتسابقون للحصول على مباركة ، من يد ملطخة بالدم العربي، وهي تهدم أساسه حتى تصدع، إذ أعاد الربيع العربي المهيمن عليه من قبل ما يسمى الإسلام السياسي ، ليبيا إلى عدم الاستقرار ، ومصر إلى زمن التناحرات الطائفية وثقافة الإلغاء  والعراق إلى التناحر والاختلاف .

إن ما يحدث ما هو إلا مقدمة للواقع الأسود الذي ينتظر هذه البلدان ، في حال استمرت في إغماض عيونها عما يدبر ويخطط لها من مشروعات التقسيم والتفتيت ، على أسس طائفية ومذهبية ، وليس الحال في تونس بأفضل من جيرانها ، وسوريا تعاني ما تعاني . 

إن إستراتيجيتهم تقوم على دعم القوى المتطرفة تحت يافطة "الربيع العربي" وما هي إلا الوجه الحقيقي لـ"خريطة الدم الأمريكية" التي تقضي بإغراق الشارع العربي بالدم، في حروب تختلف عن أسس ومبادئ فن الحرب وتبتعد كل البعد عن السياقات العسكرية المهنية ، ليظهر جيل جديد من الصراع والحرب القذرة ، التي لا تعتمد على المبادئ والقيم الإنسانية ، التي تقرها الشرائع السماوية والقوانين الوضعية ومواثيق ومعاهدات حقوق الإنسان ، واتفاقيات جنيف, التي حددت بنودها دول وحضارات تؤمن بقيمة الإنسان .  

لقد جاءت الأحداث الدامية التي طمست معالم الدين , واحتلت ديار المسلمين , وخربت مساجد وجوامع المؤمنين , وملئت بطون المسلمات الحرائر بنجس المتمردين , بطون انتفخت بالحرام , وبطون بقرت بأيدي اللئام وجامعات أشرعت لكل مبيح للحرام! فبحت الأصوات وهي تنادي يا أحرار العالم هل فقئت أعينكم بأيدي الغربيين؟ هل خيطوا براطمكم بركبكم لكي نقول معذورين؟! أم انتهكوا أعراضكم وسبوا نسائكم كما فعلوا بالمسلمين؟ وهل نهبوا أموالكم ، كما نهبوا أموال الفقراء من المساكين؟ ولماذا نرى الغربيين والخونة العلمانيين لكم مسالمين ، ومصافحين ومسرورين؟ أم أن أسمائكم في صحفهم في أضخم العناوين؟! فأين انتم من هؤلاء المستضعفين؟ ألم تروا وتسمعوا كيف يقتل أطفال المسلمين ، باستعمال الكيماوي بأيدي الملعونين ؟  أم أنكم لم تسمعوا عن الرجال الذين ماتوا قهراً من أفعال الحاقدين ، ولا عن  الأسيرات في سجون  العملاء الخائنين . أما نحن فلا نملك إلا أن نقول حسبنا الله ونعم الوكيل وإنا لله وإنا إليه راجعون . 

 

 

 

 

 

 

من أسباب ضياع المسلمين

ما زلنا نشهد الجروح الدامية للأمة الإسلامية ، التي تسيل يوما بعد يوم، وما زالت المصائب والمآسي تصب فوق رؤوس كثير من الشعوب نتيجة انقياد حكوماتهم وزعمائهم للأعداء ، فكانوا أشد فتكاً بالشعوب من أعدائهم . 

فما هي الأسباب لهذا الوضع المهين  ؟  أولها كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( حبّ الدنيا وكراهية الموت ) . فحب الدنيا ، هو رأس كل مصيبة وسبب كل بلية، فمن اجل الدنيا يفرح الناس ويحزنون ، ويصطلحون ويتخاصمون، ويتراضون ويتصارعون ، وهو سرُّ الضعف الشديد الذي نحن فيه ، كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم : ﴿ من كانت الآخرة همَّه، جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه  جعل الله فقره بين عينيه، وفرَّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدِّر له ﴾ . والولاة  بحب الدنيا يحبون مصالحهم، وشهواتهم  يمارسون  العنف لتحقيق تسلطهم وحكمهم   في قسوة مفرطة لم يشهد التاريخ المعاصر لها مثيلا استخدمت فيها الأسلحة المتطورة لإلحاق الأذى والضرر بالناس  والممتلكات ، متناسين أن الإسلام حرَّم العنف والشدة على الشعوب ، لأنهما لا يخلوان من جور على حقوق يجب أن تراعى   وواجبات يجب أن تؤدى ، وما أصدق ما قاله الحكماء: "ما رأيت إسرافاً وإلا بجانبه حق مضيع".

 ومن هنا نفهم أن الإسلام يحرص على إشاعة تلك القيم وبثها بين أفراده ، فالذي يحب لا يكره والذي يرحم لا يقسو ولا يعنف ، والذي يعدل لا يظلم ولا يجور على حقوق الآخرين قال تعالى : ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ ﴾الأنعام 82   والخوف ضد الأمن ، وقد جاء في الحديث ما يدل على أن من  حق المسلم أن يعيش آمناً مطمئناً ، وجاء التحذير من تخويفه أو ترويعه أو استعمال العنف معه ، ولو كان ذلك بالنظرة المخيفة حتى نهت السنة المطهرة عن مجرد الإشارة من المسلم إلى المسلم بما يخيف ، فكيف بتعذيبه وقتله ، وقد تواترت التوجيهات النبوية محذرة من ترويع المسلم  منها ما يروى عن عامر بن ربيعة ، أن رجلاً أخذ نعل رجل فغيبها وهو يمزح فذكر ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم فقال: ﴿ لا تروعوا المسلم فان روعة المسلم ظلم عظيم ﴾ رواه البراز والطبراني وابن حبان .وقال: (لا يحل لمسلم أن يروع مسلماً ) رواه الطبراني ، حتى ولو على سبيل المزاح  فقال صلى الله عليه وسلم : ( لا يأخذن أحدكم متاع أخيه لاعباً ولا جاداً ) والمسلم مأمور ألا يشير إلى أخيه بالسلاح روى مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ﴿ من أشار إلى أخيه بحديده له فإن الملائكة تلعنه حتى ينزع وإن كان أخاه لأبيه وأمه ﴾ . ينزع أي يرمي ما في يده  فكيف بقتله ، بل جاء التحذير من النظرة التي تخيف المسلم : ( من نظر إلى مسلم نظرة يخيفه فيها بغير حق أخافه الله يوم القيامة ) . كما أن العنف يتنافى مع الأمانة لأنه لون من ألوان الخيانة ، ويتنافى مع البر  لأن البار لا يكون عنيفاً، وإنما يخفض جناحه رحمة وشفقة بمن يبر ، ويتنافى مع الوفاء بالعهد ، لأن العنيف قد جبل على الغدر والخيانة لدينه ولمجتمعه. ولكي يعالج الإسلام العنف ، فقد حرم قتل المدنيين من غير أهل المقاتلة والمباغتة ، وقد وضع الإسلام دستوراً حربياً عظيماً راعى فيه الحرمات ألا تنتهك  وأمر فيه بالعدل والقسط ، فلا يجوز قتل النساء والأطفال والشيوخ، قال تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ ﴾البقرة 190  فلا يجوز قتل من لا يشاركون في القتال ، ولا يجوز التمثيل بجثث القتلى لقوله صلى الله عليه وسلم : ( اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا) رواه أبو داود . ولا يجوز الهدم والحرق لغير مصلحة قال تعالى: ﴿ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ ﴾البقرة 205.

أما ثاني أسباب هذه الأوضاع المهينة للأمة ، فمرجعه إلى السلطة الحاكمة ، وإلى الشعوب نفسها ، وهنا سؤال : كيف تكون الشعوب سببا في معاناة نفسها وطرفا متسببا في مشكلات ذاتها ؟ فلولا عون الشعوب ، ما كانت الأنظمة الحاكمة لتستبد وتطغى وتظلم، وما كان المسئول ليطغى، لو لم يجد من يزين له الطغيان  ويعينه عليه، وهل كان ليطغى، لو لم يجد من يخنع ويرضخ، فيسلم للطغيان وربما برر له، ويترك النصيحة وإنكار المنكر، ويقول: نفسي، نفسي، لا شأن لي بغيري ؟. هل كان للطغاة أَنَّ يَطغَوا لَو لم يَجِدُوا مَن يُزَيِّنُ لَهُم طُغيَانَهُم وَيُعِينُهُم عَلَيهِ ؟! هَل كَانَ لَهُم أَن يَتَجَاوَزُوا حُدُودَهُم لَو لم يَجِدُوا مَن يَحُولُ بَينَهُم وَبَينَ كُلِّ نَاصِحٍ أمين ؟ بَل أَكَانَ لَهُم أَن يَطغَوا لَو لم يَجِدُوا مَن يَرضَخُ لِفَسَادِهِم وَيَستَسلِمُ لجورهم وظلمهم ؟! ولم يَجِدُوا مَن يَنصَحُ لَهُم وَيَردَعُهُم عَن بَاطِلِهِم ، وَيُنكِرُ عَلَيهِم المُنكَرَ وَيُصَحِّحُ مَفَاهِيمَهُم الفَاسِدَةَ ، لذا جَانَبُوا الصَّوَابَ وَتَنَكَّبُوا الرَّشَادَ ، وَاتَّخَذُوا سَبِيلَ الغَيِّ وَالعِنَادِ ، وَزُيِّنَ لَهُم سُوءُ عَمَلِهِم فَرَأَوهُ حَسَنًا   وَعَمُوا عَنِ الصِّرَاطِ المُستَقِيمِ ، فمَا طَغَى مَن طَغَى إِلاَّ يَومَ وَجَدَ مَن يُطغِيهِ ، وَمَا غَوَى مَن غَوَى إِلاَّ حِينَ وَجَدَ مِن أَعوَانِهِ مَن يُمِدُّونَهُ في الغَيِّ ثُمَّ لا يُقصِرُونَ ، فمَا مِن رَئِيسٍ وَلا حَاكِمٍ وَلا أَمِيرٍ ولا وَزِيرٍ ، بَل وَلا رَئِيسُ دَائِرَةٍ أَو مُؤَسَّسَةٍ مَهمَا صَغُرَت  إِلاَّ وَحَولَهُ فِئَةٌ مُنَافِقَةٌ وَعُصَابَةٌ مُخَادِعَةٌ ، يَمدَحُونَهُ بِغَيرِ مَا فِيهِ ، وَيَصِفُونَهُ بما لا يَستَحِقُّ ، وَيَخلَعُونَ عَلَيهِ مِن أَلقَابِ المَدحِ وَالثَّنَاءِ مَا يَعلَمُونَ أَنَّهُم فِيهِ كَاذِبُونَ ، وَأَحسَنُهُم حَالاً وَمَا حَالُهُ بِحَسَنَةٍ ، مَن يُسَوِّغُ لَهُ الظُّلمَ بِالسُّكُوتِ عَن أَخطَائِهِ ، وَالإِغضَاءِ عَن تَجَاوُزَاتِهِ ، فَلا يَنصَحُ لَهُ بِشَيءٍ ، وَلا يَرُدُّهُ عَمَّا يَشتَهِي ، وَلا يَثنِي عَزمَهُ عَمَّا يُرِيدُ ، ثُمَّ تَرَى الرَّعِيَّةَ مِن وَرَاءِ ذَلِكَ يُطِيعُونَ طَاعَةً عَميَاءَ خَوفًا عَلَى مَعَايِشِهِم ، فَيُذِلُّونَ نُفُوسَهُم ، وَيَرضَونَ حَيَاةَ الأَنعَامِ ، وَقَد أَكرَمَهُمُ اللهُ بِالإِسلامِ ، فما تحكم بهم إلا لأنهم أعانوه على أنفسهم ، وقد ضرب الله تعالى مثلا على هذا؛ فرعون وقومه، فقال : ﴿ فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين  فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين  فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين ﴾ . قصة ذات عبرة، فيها تجسيد لسبب طغيان الحاكم.. وهكذا، كل قصص الطغيان تكون بذات الأحداث، مع تبدل الأشخاص؛ حتى يأتيهم من العقاب ما أتى فرعون وقومه - وإن اختلفت صورة العقوبة – إذ لم يوجد من يقف ضد سلطان الطغيان ، يأمره وينهاه ويخوفه بالله ويعظه، لا يخاف في الله لومة لائم. فإن وجدت هذه الفئة، دفع الله بها عقوبة تشمل الطاغية ورعيته، كما قال تعالى: ﴿ فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين * وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون ﴾ . والعقوبات تتنوع، ففي الأمم السابقة، كانت عقوبات استئصالية، في شكل ريح صرر عاتية، أو صيحة قاتلة، أو حجارة من السماء أو طوفان يغرق الجميع. أما في أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، فلا عذاب يستأصل الناس  فأمته باقية إلى قيام الساعة، لكنه يأتي في أشكال أخر: فقر، شقاء وعنت، وضيق في الحياة وفي النفس واضطهاد الحاكم وإذلاله الناس، سجون وتعذيب  أو كوارث طبيعية؛ زلازل وفيضانات  وبراكين، أو سيول عارمة، أو عدوان محتل.

إن ما يعانيه الناس اليوم من حكامهم، ليس سببه "الحكام" وحدهم إنما يشترك معهم فيها "الشعوب" نفسها، فهي من فتح الطريق ، وإذا أردنا علاج مشكلة تسلط الحكام، فلا يمكن إلا بمعرفة أن الداء متولد من الطرفين: من الحاكم والشعوب.. من الراعي والرعية.. من الرئيس والمرؤوس ، هذا يأمر وهذا يطيع.. هذا يزين ويمد ، وهذا يطغى ويستكبر ، فتسقط بذلك أوضاع البلاد في الهاوية وتتردى معايش الناس وحرياتهم وكرامتهم.

 والحاكم إذا أمر بمعروف، فمعروفه يشمل كل الناس، وإذا أمر بمنكر، فمنكره يشمل الناس جميعا فثوابه عظيم، وعقابه عظيم.

فكان منصب الحاكم منصب فتنة وبلاء؛ يحتاج إلى عون على الحق وألا يعان على باطل، ولو كره، لكن الدنيا مليئة بالذين يفسدون على الحاكم قلبه ونفسه ولو كان فيه ميل إلى الصلاح، بنفاقهم وخداعهم وكذبهم، ومع ذلك، فليس كل الناس كذلك فلو قاوم أهل الحق مد النفاق حول الحاكم  وأخلصوا له النصيحة، وقاوموا اعوجاجه بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصبروا على ذلك، لكان من أثره اضمحلال عمل أهل النفاق. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ثلاث لا يغل عليهن قلب المؤمن: إخلاص العمل لله، والنصيحة لولاة الأمر ولزوم جماعتهم ) رواه أحمد. وقال صلى الله عليه وسلم : ( الدين النصيحة  ثلاثا، قلنا: لمن يا رسول الله ؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم ) رواه مسلم.

فإِذَا وُجِدَتِ هذه الفِئَةُ المُؤمِنَةُ النَّاهِيَةُ عَنِ الفَسَادِ ، الوَاقِفَةُ لِلطُّغيَانِ بِالمِرصَادِ   فَإِنَّ اللهَ يَدفَعُ بها عَنِ النَّاسِ العُقُوبَةَ ، كَمَا قَالَ تَعَالى : ﴿ فَلَولا كَانَ مِنَ القُرُونِ مِن قَبلِكُم أُولُو بَقِيَّةٍ يَنهَونَ عَنِ الفَسَادِ في الأَرضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّن أَنجَينَا مِنهُم وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُترِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجرِمِينَ . وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهلِكَ القُرَى بِظُلمٍ وَأَهلُهَا مُصلِحُونَ ﴾ .

 

 

 

مفهوم السلام والاستسلام

السلام يعني الاستعداد واتخاذ كل الوسائل المادية والمعنوية التي ترهب العدو ، وتمنعه من الاعتداء والمحاربة والقتال ، الذي يهدد النفس والعقيدة والأوطان ، ومبادئ الإسلام ترحب بالسلام ، الذي يعطى كل ذي حق حقه  ويرد الظالم عن ظلمه ، ولا يرحب بالسلام الذي تُملى فيه علينا تصرفاتنا ، وتُعطى الأوامر ، بحيث نطأطأ رؤوسنا ، ونوافق عليها مجبرين ، دون القدرة على التغيير أو التبديل   وعندما تُفرض علينا شروط السلام فرضا  بالتهديد والوعيد لمن يخالفها ، فهذا ليس سلاما ، وإنما هو استسلام ، لأن السلام ، لا يمكن أن يتحقق ، إلا ونحن في كامل القوة   والقدرة على التفاوض ، لأن السلم الذي تُفْرَضُ شروطه فرضاًَ ، سلم رخيص حذرنا الله منه فقال: ﴿ فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ﴾ محمد 35 ، فكل سلام يهدف إلى رفع معنويات شعوب   وتحطيم شعوب أخرى ، ليس سلاما ، وإنما هو استسلام ، لا تقره مبادئ الإسلام ، التي تفرض على المسلمين الدفاع ، عما أحتل من الأرض ، ويكون الجهاد فرض عين ، والنفير العام ، فرض على كل مسلم ، حتى تستعاد أرض المسلمين ، لأن مبادئ الإسلام ، لا تقر القعود عن الجهاد ، لنصرة المبادئ ، وإنقاذ البلاد ، ولهذا تنظر دول الكفر إلى الإسلام   نظرة عداء ، ويعتبرونه العدو الوحيد ، أضف إلى ذلك ، أنه مهدد من أهله ، ومحارب من داخله ، فكيف يتأتى له أن يُخشى بأسه وإسرائيل تطبق قبضتها على أرض المسلمين ؟ كيف والدول الإسلامية تغرق بأوحال الحروب الداخلية ، والتمويل الأمريكي بالملاين وبالسلاح ، لجميع الفرق المتحاربة  ليقتل بعضها بعضا ؟  إن المصائب التي تمر بالأمة ، مصائب توقظ النيام ، ولكنها كالمنافقين قديماً ، الذين قال الله تعالى فيهم : ﴿ أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرّة أو مرّتين ثم لا يتوبون ولا هم يذّكرون ﴾ التوبة 126 . إننا لا ننتصر ، ما دمنا بعيدين عن الإسلام ،وما دام الإسلام مبعداً عن التشريع والتثقيف ، وما دامت الأمة لا تفكر بالجهاد ، فإن الله ، لا ولن يتولى عنها ضرب اليهود ، أو دول الكفر ، التي تتآمر على المسلمين ، ولن يكون هناك نصر من الله   وإن صلينا له ، ودعوناه ورجوناه ، ولن تكون هناك عزّة ، إلا يوم أن يكون دستورنا كتاب الله ، وقدوتنا رسول الله ، وألا نستجيب لدعاة الإرجاف والانهزام ، الذين يروجون للاستسلام الذليل للعدو الإسرائيلي الذي قام منذ يومه الأول ، على الدماء والأشلاء  واغتصاب الأراضي ، وهتك الأعراض ، كيف لنا أن ننسى ذلك ، ونضع أيدينا في يده الملوثة ؟ كيف ننسى عشرات المذابح ، عبر تاريخه الدموي الأسود ؟  وما يزال يتحين الفرص للقضاء علينا : فهم ﴿ لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً ﴾ التوبة10. وهل نتعامى عن هذا تحت دعوى الواقعية؟ مع أن الواقعية ، هي التي تفرض علينا أن نقرأ تاريخهم الأسود ، وأن نقاوم أحلامهم ، وأن نعرف ماذا يريدون بنا ، وليس من الواقعية  أن نضفي الشرعية ، على اغتصابهم لفلسطين  باسم دفع مسيرة السلام! وليس من الواقعية استقبال ممثليهم بحفاوة، أو الجلوس معهم في المؤتمرات والندوات واللقاءات ، لأنهم يستغلون ذلك أسوأ استغلال   حين يعلنون  أن لهم أنصارا وأصدقاء منا ، يؤيدون اعتدائهم ، بل الواقعية أن نقوي روح المقاومة  ونرفض الاستسلام ، وحتى يتحقق ذلك   لابد للإسلام من نظام ، ولا بد له من قوة   حتى تكون له هيبته وصولته ، في نفوس أعدائه ، وفي الدفاع عن معتنقيه ، وتوفير الأمن والحماية لهم ، وفي هذا الصدد يقول على بن طالب رضي الله عنه : " أما بعد فإن الجهاد ، بابٌ من أبواب الجنة ، فتحة الله لخاصة أوليائه ، وهو لباس التقوى ، ودرع الله الحصينة ، وجُنتّه الوثيقة   فمن تركة رغبة عنه ، ألبسة الله ثوب الذُل   وشَمْلةَ البلاء " .

إن الواقع الفاسد ، الذي تعيشه مجتمعاتنا هذه الأيام ، يؤلمنا بعد أن أصبحنا لا نقوى على دفع القضاء وردِّ البلاء ، والذود عن كرامتنا ومستقبل أمتنا ، حيث يبني أعداؤنا ونهدم  ويدنسون مقدساتنا ، ويحتلون أرضنا  ويشردون ويضايقون أهلنا ، بالمطاردة والتجويع والسجن والقتل ، ولا حيلة لنا أمام صلفهم وكبريائهم  إلا أن نلقاهم بالشعارات والمهاترات ، ونزيف الدم العربي بالأيدي العربية   حتى أصبحنا نَلمْسُ بأن أبناء ديننا  يقومون بوظيفة أعدائنا ، في الملاحقة والاعتقال والسجن ، إرضاءً لرغبة عدونا وخدمته ، إن أعداءنا يخططون لعشراتٍ من السنين القادمة ونحن نجترُّ مآسينا ، فلا عمل ولا تخطيط ، حتى أصبحت أُمتنا ضائعةً مشلولة مفككة الأوصال ، لأنها تنكرت لماضيها ، وأنكرت حاضرها ، ولعنت مستقبلها ، لدرجة أن الكوارث والأزمات   أصبحت لا تحرك همةً ، ولا تثير عزيمة ، لقهر العدوّ الجاثم على أرضنا ، وهنا نتساءل : لماذا لا نجمعُ قوانا ، ونعبئ طاقاتنا ، ونوحِدُ صُفُوفَنا   ونعلن الجهاد في سبيل الله   ونستعلي على مُتَع الدنيا ، ونستخِفُ بوعيد العدو لوعيد الله ، قيل لأعرابي : أيما أحبُ إليك ، أن تلقى الله ظالما أو مظلوما ؟ قال : ظالما ، قيل له ويحك ولم ؟ قال ما عذري إذا قال لي خلفتك قوياً ثم جئت تستعدي؟ " فالإسلام لا يعادي أحدا ، وإنما يعادي الجور والفساد والفحشاء ، وإن وجد مظلوم ، فمن الواجب أن يُنْتصر له ، وتُسْتَرد حقوقه المغصوبة ، التي استبد بها الطغاةُ بغياً وعدواناً   وبهذا نطق القرآن : ﴿ وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين ﴾ النساء 75 . إن الإسلام يوجب على الجماعة المسلمة ، أن تدفع بالقوة ، من يتعرض لها بالأذى ، ضماناً لحرية العقيدة ، وإقراراً لمنهج الله في الحياة وتحطيماً للقوى التي تعترض طريق الدعوة  وفي حدود هذه المبادئ  ،كان الجهاد في الإسلام  يأمر به ويُقِره ويُثيبُ عليه ، ويعتبرُ الذين يقتلون فيه شهداء ، كان الواحد من السلف يخرج وحده للقاء جيش بكامله  فيخشى علية صَحْبُه من هلاكٍ مؤكد  فيجيئونه بابنه ، عسى أن يراه فيحن إليه  فيُثنيه عن عزمه ، أتدرون ماذا كان يقول ؟

هل يتخاذل أو يتقاعس ؟ أم يختلق لنفسه المعاذير؟ وهل يتخلف عما يراه جهاداً في سبيل الله ؟ لا إنه ليس بهذا ولا ذاك ، بل كان يقول لمن جاءوه بابنه ، رجاء أن يُثنوه عن حلمه الذي يعيش من أجله ، ويموت من أجله "والله يا قوم إني إلى طعنةٍ نافذةٍ ، أتقلب فيها على كعوب الرماح أحبُّ إليَّ من ابني "وها هي المقاومة ، تخرِّج لنا من أمثال هؤلاء   الذين رفضوا الذلة لإسرائيل ، والموافقة على شروطها الجائرة ، غير مبالين بدعوات المثبطين ولا بالقرارات والإدانات ، الصادرة من هنا وهناك لصالح إسرائيل ، التي لا تفكر إلا بما يمليه عليها معتقدها ، الذي لا يؤمن إلا بالسلام ، الذي يتناسب مع مصالحها وأهدافها ، بعيدا عن معنى السلام  فجميع المعاهدات المبرمة بين إسرائيل وجيرانها ، ما كانت إلا لتحقيق حلمها ، بأي وسيلة كانت  سواء بالعمل الحربي ، أو بسلام صوري ، لأن مبدأ السلام ، غير موجود بالعقيدة الصهيونية منذ تأسيسها ، والمتتبع لمعاهدات السلام مع إسرائيل ، يلاحظ أن هدفها الرئيسي ، حماية إسرائيل ، وتكريس الاحتلال ، والمحافظة على أمنها ، وأمن مواطنيها    على حساب أمن دول الجوار ، مما يدل على أن معاهدات السلام ، لم تكن من أجل مفهوم السلام   بقدر ما هي صورة إسرائيلية ، لنموذج استسلام وهزيمة ، بأقل التكاليف ، ومطالبة الفلسطينيين بالاعتراف بيهودية الدولة .

إن إسرائيل لا تريد سلاما ، ولا تريد استسلام ، ولا تريد التنازل عن أي شيء   لأنها تريد كل شيء   وهي تمارس حرب إبادة واستنزاف ، للشعب الفلسطيني , رغم وجود المقاومة , التي لو تخلى عنها  الفلسطينيون لرمي بهم بالبحر ، وسلام هذا واقعه ، يتنافى مع طبيعة السلام في الإسلام ، الذي لا يكون بترك القتال ، على حساب المبادئ التي أرادها الله في الأرض لبني الإنسان ، وهذا ما حذَّرنا الله منه فقال :﴿ فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وانتم الأعلون والله معكم ﴾ محمد 35 . قال الأعلون ، لأن المسلمين يمثلون الصورة العليا للحياة ، والتي لا بد لها من النصر ، حين يؤمنون بها ، تحقيقاً لوعد الله ﴿ إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ﴾ . إن دعاة الإسلام في جهاد دائم ، لا ينقطع أبدا  لتحقيق كلمة الله في الأرض ، وهم مكلفون ألا يهادنوا قوى الطاغوت ، على وجه هذه الأرض ، وألا يفتروا عن مجاهدتها  ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا وألا يعاونوها  ويقفوا في صفها بحال من الأحوال ، قال تعالى: ﴿ وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ﴾ . 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

أثر الحكم بغير ما أنزل الله

إن الحكم بغير ما أنزل الله، والسياسات الخاطئة ، أدت إلى زعزعة حاضر الأمة وتشويه ماضيها، مما أدى إلى الهزائم المتتالية التي تعاني منها الأمة الإسلامية حتى أصبح كيانها هزيلاً لا يُسمع له صوت، ولا تُحترم له كلمة، ولا يُصان له حق، وأصبحت هذه السياسات عوناً لأعداء الأمة في الخارج  مخالفةً تعاليم الإسلام  الذي يحرِّم علينا أن نمد أيدينا إلى الذين يؤذون المسلمين ، وأن نستجيب لهدي ربنا ، الذي ينبه ويحذر من شر النفاق والمنافقين. قال تعالى: ﴿ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾المنافقون4 . ويفضح خباياهم الخبيثة فقال : ﴿ وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ﴾ آل عمران 118 . فالقوانين الوضعية ، لا تحرِّم موالاة الكفار بل ترغِّب فيها ،وتتجاهل النصوص الشرعية التي تحّذر من موالاة الأعداء من اليهود والنصارى ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾المائدة 49 .

فإذا كان المنافقون الكارهون لشريعة الله يسارعون إلى الأعداء ، في حال استضعاف النفاق ، فكيف بهم إذا تولّوا أمور المسلمين ، إنهم لن يقصروا في تقديم كل معونة ، لتسهيل خطط الأعداء ، التي عجزوا عن تنفيذها بأنفسهم ، قال صاحب الظلال : «أحسب والله أعلم، أن اليهود  الصهيونيون والنصارى الصليبيين كليهما، قد يئسوا من هذا الدين في المنطقة الإسلامية الواسعة، في  أفريقيا وآسيا وأوروبا، كذلك يئسوا أن يحوّلوا الناس فيها إلى الإلحاد عن طريق المذاهب المادية، كما يئسوا كذلك من تحويلهم إلى ديانات أخرى   عن طريق التبشير أو الاستعمار ، ذلك أن الفطرة البشرية ذاتها ، تنفر من الإلحاد وترفضه، حتى بين الوثنيين ، فضلاً عن المسلمين، وان الديانات الأخرى ، لا تجرؤ على اقتحام قلبٍ عرف الإسلام ، أو حتى ورث الإسلام. وأحسب -والله أعلم- أنه كان من ثمرة اليأس من هذا الدين أن عدَل اليهود الصهيونيون ، والنصارى الصليبيون   عن مواجهة الإسلام جهرة ، عن طريق التبشير ، فعدلوا إلى طرائق أخبث ، وإلى حبائل أمكر ، لجأوا إلى إقامة أنظمة وأوضاع تتزيا بزي الإسلام، وتتمسح في العقيدة، ولا تنكر الدين جملة... ثم هي تحت هذا الستار الخادع ، تنفذ جميع المشروعات ، التي أشارت بها مؤتمرات التبشير. وبروتوكولات صهيون  إن هذه الأنظمة والأوضاع ، ترفع راية الإسلام ، أو على الأقل ، تعلن احترامها للدين، بينما هي تحكم بغير ما أنزل الله  وتقصي شريعة الله عن الحياة، وتحل ما حرم الله، وتنشر تصورات وقيماً مادية عن الحياة والأخلاق ، تدمر التصورات والقيم الإسلامية، وتسلط جميع أجهزة التوجيه والإعلام ، لتدمير القيم الإسلامية، وسحق التصورات والاتجاهات الدينية، وتنفيذ ما نصت عليه مؤتمرات المبشرين وبروتوكولات الصهيونية». إن تحقيق أهداف الأعداء في بلاد المسلمين ، لن يجد مناخاً أنسب ، من المناخ الذي يسيطر على مقدرات الأمة ، مَن لا يحكمون بشريعة الله ، وما من مرة فرطت الأمة في رسالتها ، وانحرفت عن شريعتها على مدار التاريخ ، إلا وسلط الله عليها غيرها.

وقد لُقن المسلمون هذا الدرس، فقد كانت مخالفة أمر رسول الله  ، في أحُد درساً يُعطي للأمة المؤشر ، الذي يمكن أن تقيس به حالها، فقد هُزم المسلمون وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حدث هذا ليستقر في تصور المسلمين أن عقوبة المخالفة  هي مصائب عاجلة تتناسب مع قدر المخالفة ، ومكانة المخالِف  وهذه الأمة المكلّفة بالقيام بأعظم رسالة  تؤخذ بما لا يؤاخذ به غيرها ، وقد تنَزَّل القرآن يبين سبب الهزيمة ، وعلة المصيبة فقال تعالى : ﴿ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ آل عمران 165. إنها سنة الله ، فما يصيب المسلمين من مصائب ، لا يكون من قِبَل قوة الأعداء ، ولا بسبب خذلان الأصدقاء، إنما الذي يؤتى المسلمون من قِبَله ، هو نفوسهم ذاتها:﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾الأنفال 53 .

إن هذا الدرس الذي تلقاه المسلمون الأوائل  ظل على مدى التاريخ الإسلامي ، هو الدرس نفسه، فالصليبيون تسلطوا على المسلمين في أواخر القرن الخامس الهجري ، في وقت كان بيت المقدس محاطاً بالعديد من الإمارات المتهالكة على السيطرة، المتنافسة في معترك الأهواء، وفي الوقت الذي شغلت العباسيين   شواغل أخرى ، عن الإعداد للصليبية المتربصة التي حاربت المسلمين ، في زحف لا ينقطع مد ة قرنين من الزمان ، فقد كانت الأهواء متغلغلة في جسد الأمة ، حتى وصلت عناصر من المبتدعة الضالين ، إلى سدة الحكم في كثير من الديار الإسلامية ، فاستولى العبيديون- الفاطميون الإسماعيليون وهم الرافضة - على مصر ومناطق من الشام ، والمغرب العربي ، لعقود طويلة، ومن سوء الحظ أنهم كانوا في بيت المقدس ، وقت أن دهمها الصليبيون، وكذلك سُلط النصارى على المسلمين في الأندلس  لأن الأمراء الذين بدأوا ، فكانوا لله خلائف  انتهى الأمر بهم ، إلى أن أصبحوا ملوك طوائف ، يبحثون عن اللذات ، ويقدمون الأهواء على الشرائع في الحكم ، فقد مرحوا في بلادهم دهراً ، وهم آمنون من مكر الله   ثم صحوا وقيود الهوان ، تغل أيديهم وأرجلهم   كانوا يقتتلون ويتواطئون مع المستعمرين   ليطمئنوا على بقاء الملك في بيوتهم الرفيعة   ولو ضاعت في سبيل ذلك شعوبهم ، وجاء التتار ، فاجتاحوا بلاد المسلمين ، حتى لم تنج منهم عاصمة الخلافة نفسها، ولم يفلت من بأسهم ، حتى خليفة المسلمين، فهل كان هذا من فراغ؟ لقد استمر عهد العباسيين خمسة قرون ، وضعفت دولتهم في آخرها ، فقامت دول على أساسها ، ولم يكن داع لقيامها لولا العصبية التي حملتها ، واللغة التي أحيتها من جديد. فظهرت الدولة السامانية- سلالة إيرانية حكمت أجزاء من فارس وأفغانستان- والغزنوية- سلالة تركية حكمت في أفغانستان، خراسان وشمال الهند - والخوارزمية - سلالة تركية مسلمة سنية حكمت أجزاء كبيرة من آسيا وغرب إيران- ولا شك أن الطموح السياسي كان أساساً في نشأتها ، وأعلنت عن قيام خلافة مستقلة فيها، وكانت الخلافة الأموية في الأندلس   والفاطمية في مصر وأجزاء من أفريقيا، ولم تكن هذه الدول على تفاهم فيما بينها، بل كانت معادية بعضها لبعض، وكل منها على صلة بأعداء الأخرى ، فالعباسيون في بغداد يصادقون حكام الفرنجة ، خصوم أمويِّي الأندلس ، وهذا يدل على ضعف الروح الإسلامية ، لدى المسلمين في ذلك العهد   وفي العصور المتأخرة، وعندما دب الفساد في أجهزة الحكم العثماني ، تراجع العثمانيون وهزموا في معارك عديدة أمام  الأعداء   وتقهقر المماليك أمام (نابليون) فكان ذلك مؤشراً على الحال التي وصلت إليها الأمة    حتى ولت الأدبار ، أمام زحف الكفار ، ومن سنن الله تعالى ، أنه إذا عُصِيَ الله تعالى ممن يعرفونه، سلَّطَ عليهم من لا يعرفونه.

وفي العصور الحديثة استولت أوروبا النصرانية   على أغلب بلاد المسلمين، حتى كادت تستولي على الحرمين الشريفين بعد الحرب العالمية الثانية ، التي قسمت بلاد المسلمين بمقتضى معاهدة (سايكس بيكو) ، وانتهى الأمر بإسقاط دولة الخلافة العثمانية ، على يد يهود الدونمة ، بالتعاون مع النصارى . ومن يومها والمصائب تتوالى على المسلمين ، الذين استسلموا لأنظمة حاكمة ، بغير ما أنزل الله  ولم يعد الأمر، أمر دروس أو عبر، بل صار أقرب إلى الانتقام الإلهي ، منه إلى التذكير. لأن الشقة قد بعدت بين المسلمين ، وبين حكم الإسلام، حتى لم يعد الظالمون يكتفون بإقصاء الشريعة وإبعادها عن الحكم، بل صار ديدنهم محاربتها ، وإدانة من يطالب بها ، ولهذا سُلط الأعداء، وأطلقت الأيادي  لتنال بلاد المسلمين ، وعظمت المصيبة بتسليط الأعداء  على الأمة ، التي كانت عزيزة بالإسلام ، فذاقت ألواناً من المهانة والذل ، في ميادين القتال   وساحات المعارك ، وما هذه الهزائم ، إلا أثراً من آثار الانحراف عن الشريعة ، الذي غرقت فيه الأمة إلى القاع، وتغلغل فيها حتى النخاع قال تعالى : ﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الرياء بين الحاكم والمحكومين

يحدثنا التاريخ عن سيرة الأنبياء والصالحين الذين نزههم الله عن كل نفاق ورياء ، فملكوا قلوب الشعوب ، وأعطوا السنن والدروس التي لا تنسى    فلم يذكر لنا التاريخ أن اي منهم انفق الأموال الطائلة لإقامة احتفالات لهم ، او لاستقبالهم بورود النفاق ، ورياحين الرياء ، فلم يقرِّبوا أهل المكر والحيلة ، ولم يقرِّبوا أهل الباطل ، الذين يحسنون الظلم والجور ، والفساد والطغيان ، فينسبون إلى من يحب الصلاح ، تهمة الخارج عن القانون والمتدخل فيما لا يعنيه ، لأنهم عرفوا أن العلاقة بين الحاكم والمحكوم في الإسلام ، تقوم على الاحترام المتبادل، ولا تقوم على القهر والاستبداد، لأن الحاكم العادل هو قطب رحى الأمة ، ورائد نهضتها ، وباني أمجادها ، وحارسها الأمين . وهو عنصر فعال من عناصر المجتمع ، وجزء لا يتجزأ عنه ، لهذا وجب أن يكون التجاوب ، قوياً بين الحاكم والمحكوم ، والراعي والرعية ، ليستطيع الحاكم أداء رسالته الإصلاحية لأمته ، وتحقيق أهدافها وأمانيها ، ولتنال الأمة في ظلال حكمه الطمأنينة والحرية والرخاء .

فآمنوا بأن للحاكم حقوق على الرعية ، وللرعية حقوق عليه ، وعلى كل منهما رعاية حقوق الآخر   والقيام بواجبه ، وهذا ما أوضحه أمير المؤمنين علي في نهج البلاغة  حيث قال : «فليست تصلح الرعية إلا بصلاح الولاة ، ولا تصلح الولاة إلا باستقامة الرعية ، فإذا أدت الرعية إلى الوالي حقه  وأدى الوالي إليها حقها ، عز الحق بينهم ، وقامت مناهج الدين ، واعتدلت معالم العدل ، وجرت على إذلالها السنن ، ويئست مطامع الأعداء ، وإذا غلبت الرعية واليها ، وأجحف الوالي برعيته  اختلفت هنالك الكلمة ، وظهرت معالم الجور  وكثر الإدغال في الدين ، وتركت محاج السنن  فعُمل بالهوى ، وعُطلت الأحكام ، وكثرت علل النفوس ، فلا يُستوحش لعظيم حق عُطِّل ، ولا لعظيم باطل فُعِل ، فهنالك تُذَل الأبرار ، وتعز الأشرار » . فقد حرص المسلمون ، على اتباع منهج الله وسنة رسول الله ، ولم يكن أئمة المسلمين يحكمون رعاياهم إلا بذلك ، إلا مَنْ شذَّ ، وهم قليل ، ومن هنا كان للأمة دور كبير في تقويم الحكام والمسئولين ، على جميع مستوياتهم ، وقد جعل رسول الله  أفضل الجهاد تقويمَ الحاكم الظالم من خلال توجيهه إلى الحق، فقال : ( إنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْجِهَادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ ) . ومن هنا كان من حق الأمة محاسبة الخلفاء المخطئين، ومبدأُ محاسبة الإمام ، مبدأ إسلامي متوازٍ مع قيام الخلافة الإسلامية ، منذ القدم، بل رأينا من الخلفاء أنفسهم من يُنادي به، فأبو بكر الصديق ، أشار إلى هذا الأمر ، في خطبته الأولى بعد البيعة العامة بقوله: "إن أسأتُ فَقَوِّمُوني ". لأن العلاقة بين الحاكم والمحكوم في الإسلام ، جزء من العبادة ، وتقوم على الاحترام والثقة ، وأن سلطة الحاكم ، مستمدة من الشرع ، ومن الأمة. بخلاف العلاقة بين الحاكم والرعية ، التي تقوم على القهر والاستبداد ، حيث يوجد الحكام المستكبرون ويوجد الأتباع المراؤون ، وطبيعة المستضعفين أن يسارعوا إلى مرضاة رؤسائهم ، وإجابة رغائبهم   ويبارك الحاكم المستبد هذه الطبيعة ويغدق عليها .

ولو راجعنا الصحائف السود لتاريخ الاستبداد السياسي في الأرض ، لوجدنا مراءاة الحاكم قد  أقامت للأكاذيب سوقاً رائجة ، وقلبت الحقائق   وقد يكون الرياء ، من الصغار للكبار ، ابتغاء عرض الدنيا، وقد يكون من الكبار للصغار   ابتغاء تأليف الأتباع ، وهذا النموذج من العلاقات بين الحاكم والمحكوم ، بدأ في تاريخنا ، منذ أن قال معاوية بن أبي سفيان: "إن الناس أعطونا سلطاننا فأظهرنا لهم حِلما تحته غضب، وأظهروا لنا طاعة تحتها حقد، فبعناهم هذا بهذا، وباعونا هذا بهذا. فإن نكثناهم ، نكثوا بنا، ثم لا ندري ، أتكون لنا الدائرة أم علينا". ابن كثير: البداية والنهاية ، وهذا واقعٌ اليوم في علاقات العديد من حكامنا بشعوبهم . الذين ساموهم سوء العذاب، وعند إسداء النصح لهم    وتذكيرهم بالمصير الذي حاق بسابقيهم من الطغاة في التاريخ الإنساني ، جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم ، واستكبروا استكبارا!

وحين ينكشف ضعف الأقوياء، ويتبين من يتحدث بلسانين، ويتلفع بوجهين: وجهٍ لشعبه هو وجه الرجل الوطني الغيور ، بل التقي النقي الخاشع  ووجهٍ للآخرين، هو وجه الانتهازي القاهر لشعبه المقهور أمام القوى الدولية، الذي لا يؤمن بمبدأ وليس في وجهه قطرة ماء ، وأكثر ما يؤلم أن نرى مثل هذا ، يأتي ممن هم ضمن القادة ، الذين يبالغ المادحون في مدحهم، وتملأ الدنيا ثناء ، رياء لهم   وتنمق العبارات كذباً ، في التقرب إليهم، والتمسح بوصلهم، والتهويل المبالغ ، لوصف ما يعملون لذلك كان أخطر المدح ، المبالغة في مدح حاكم  لأن مدح الإنسان قطع لعنقه، ومدح الحاكم قطع لعنق الأمة، لأن ذلك يُورثه كبرا عن سماع النصح وبغيا عند العقوبة.

لقد علمنا رسولنا صلى الله عليه وسلم ، أن نحثو التراب في وجه المداحين المبالغين، وعلى نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سار كل الصحابة والصالحين في كل العصور ،  بل إن المسلم المتمسك بدينه حقاً ، حريص على محاسبة نفسه في كل أقواله ومواقفه، وأنه مؤاخَذ على كل ذلك من رب العالمين، فهو لا يقبل أن يهان عند الله ويكتب عنده كذاباً.

إن الناصح الأمين المخلص ، هو من يقول الصدق ويسدي لمن يحبهم ، النصح الراشد، ولا يخدعهم بمبالغة القول، وزائف الأوصاف، ولا يكون منكراً للصواب ، إذا رآه، ولا لذكر المحاسن ، إذا بدت أمامه، ولا جاحداً ، لمواقف الخير والصلاح.

 قد تأتي المبالغات في المديح والإطراء طلباً للتقرب ممن يمدحونهم، وما عرفوا أنهم بهذا ، يسيئون إلى من ينشدون منهم القرب والعطاء، وينقلب المدح الكاذب إلى هجاء ساخر، لمن في مدحهم كانوا مبالغين.

ﻟﻘﺪ ﺗﻌﻠﻢ ﺍﻟﻤﺴﻠﻤﻮﻥ ﻣﻦ ﺩﻳﻨﻬﻢ، ﺃﻥ ﻃﻐﻴﺎﻥ ﺍﻟﻔﺮﺩ ﻓﻲ ﺃﻣﺔ ﻣﺎ ، ﺟﺮﻳﻤﺔ ﻏﻠﻴﻈﺔ, ﻭﺃﻥ ﺍﻟﺤﺎﻛﻢ ﻻ ﻳﺴﺘﻤﺪ ﺑﻘﺎﺀﻩ ﺍﻟﻤﺸﺮﻭﻉ , ﻭﻻ ﻳﺴﺘﺤﻖ ﺫﺭﺓ ﻣﻦ ﺍﻟﺘﺄﻳﻴﺪ , ﺇﻻ ﺇﺫﺍ ﻛﺎﻥ ﻣﻌﺒﺮﺍً ﻋﻦ ﺭﻭﺡ اﻟﺠﻤﺎﻋﺔ ، ﻭﻣﺴﺘﻘﻴﻤﺎً ﻣﻊ ﺃﻫﺪﺍﻓﻬﺎ ، فكان أهل الفضل والزهاد ، لا يرغبون في مصاحبة الحاكم الجائر ، وقد سجل التاريخ ، الكثير من مثل هذه المواقف ، كتب المنصور الخليفة العباسي إلى الإمام جعفر الصادق : لم لا تغشانا : كما يغشانا سائر الناس ؟ فأجابه : ليس لنا ما نخافك من أجله ، ولا عندك من أمر الآخرة ما نرجوك له ، ولا أنت في نعمة فنهنيك ، ولا تراها نقمة ، فنعزيك بها ، فما : نصنع عندك ؟ فكتب إليه : تصحبنا ، لتنصحنا ، فأجابه : من أراد الدنيا لا ينصحك ، ومن أراد الآخرة لا يصحبك ". وقديماً قالوا : " في صحبة السلطان خطران : إن أطعته جازفت بدينك  وإن عصيته جازفت بنفسك ، والخير ألا تقربه ولا يقربك " ، نماذج آمنت بإله واحد لا شريك له، وأن الأمر كله بيده، فعاشت للحق وتمسكت به ، وصبرت عليه، وجاهدت الباطل ونهت عنه ، وتحملت تكاليفه برضا وطمأنينة لأنها تعلم حق العلم أن العطاء من الله كبير ، قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ﴾التوبة 111 .فكثير من علماء السلف الصالح من المسلمين ، كانوا من تلك النماذج الفذَّة، فكانوا في يقظة دائمة تجاه الحقوق والواجبات ، التي يتطلبها منهم الإسلام  فارتبط لديهم الفكر بالعمل ، والقول الصالح بالفعل الصادق، وضربوا أروع الأمثال في التلازم بين الفكر النظري والتطبيق العملي    يستوحون روح هذا الدين ، الذي يرسم الأفق الأعلى للحياة، ويطلب من معتنقيه ، أن يتجهوا إليه، ويحاولوا بلوغه، لا بأداء العبادات فحسب ، وإنما بالتطوع للقيام بما هو أعلى من العبادات وأشق منها، فاستحال الإسلام فيهم نماذج إنسانية تعيش، ووقائع عملية تتحقق وتترك آثارها في الحياة ، فكانت لهم مواقف من الحكام الذين بدر منهم الانحراف ، ودخلوا مداخل الظالمين ، نذكر منها : لما ولي ابن هبيرة العراق، في عهد يزيد بن عبد الملك استدعى الحسن البصري ، ومحمد بن سيرين والشعبي ، فقال لهم: إن يزيد خليفة الله استخلفه على عباده، وأخذ عليهم الميثاق بطاعته، وأخذ عهدًا بالسمع والطاعة، وقد ولاّني ما ترون فيكتب إليَّ بالأمر من أمره  فأنفذ ذلك الأمر فما ترون؟ فقال ابن سيرين والشعبي قولاً فيه تَقيَّة ، قال ابن هبيرة: ما تقول يا حسن؟ فقال: يا ابن هبيرة، خف الله في يزيد ، ولا تخف يزيد في الله! إن الله يمنعك من يزيد ، وإن يزيد لا يمنعك من الله، يا ابن هبيرة إن تعص الله ، فإنما جعل الله السلطان ناصرًا لدين الله وعباده، فلا تركبَنَّ دين الله وعباده لسلطان ، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

 وجاء في ذم الاستبداد لجمال الدين الافغاني :   "ملعونٌ في ديــــن الرحمن ، من يَسجن شعباً، من يخنق فكراً من يرفع سوطاً ، من يسكت رأياً من يبنى سجناً من يرفع رايات الطغيان  ملعون فى كل الأديان   من يًهْدِر حق الإنسان، حتى لو صلى أو زكى، أو عاش العمر مع القراَن ". ويقول الكواكبي في كتابه طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد : "إنَّ الاستبداد داءٌ أشدُّ وطأةً من الوباء، أكثر هولاً من الحريق، أعظمُ تخريباً من السّيل، أذلُّ للنفوس من السؤال. داءٌ إذا نزل بقومٍ سمعتْ أرواحُهم هاتف السماء ينادي القضاء القضاء والأرضَ تناجي ربّها بكشف البلاء. الاستبداد عهدٌ؛ أشقى الناسَ فيه العقلاء والأغنياء وأسعدهم بمَحْياهُ الجهلاء والفقراء، بل أسعدهم أولئك الذين يتعجّلون الموت فيحْسُدهم الأحياء." لمثل هذا فليعمل العاملون وفي ذلك فليتنافس المتنافسون .  

 

الخوف على الإسلام  من المحرّفين

من الناس من تنطبع في نفوسهم الحقيقة كاملة   فإذا تحدثوا كان كلامهم مصداقاً لها ، وإذا عرضت عليهم قضية كان فصلهم فيها تجاوباً مع الحقيقة فهم كما قال تعالى ﴿ أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ﴾الأعراف . وهناك ناسٌ يحرّفون الحقيقة فلا تسمع منهم إلا قرقعة وقرقعة وقد تفهم منهم شيئا أو لا نفهم شيئا ، ومهما ناقشتهم فلن تخرج إلا بصداعٍ في راسك ، لأن الحقيقة لا تصيب من قلوبهم هدفا ولا تجد بها مقرا ، فهم كما قال تعالى :﴿ أمواتٌ غيرُ أحياء ﴾النحل .نرى كثيراً ممن يؤدون الفرائض المكتوبة والعبادات الرتيبة وهم في شبه غيبوبة  لا يدركون معانيها ، ولا تحصل في نفوسهم حكمتها ، لأنهم يعرفون القليل ويجهلون الكثير  ولا يتقون الله فيما يعرفون  وكثيراً ما يرتكبون الإثم ويثيرون الفتن ، جاهلين أن قيمة الإنسان في الدنيا والآخرة ترتبط بمدى صلاحية قلبه للعبادة الصحيحة والحكم الصحيح ، لا في حالة معينة ، بل في كل شئون الحياة كلها   فتقدم الأمة وتأخرها منوطٌ بمدى ما لديها من أصحاب هذه القلوب الواعية ، التي تتصل بالعالم وأحداثه ، والأمة تواجه أعداءً حاقدين   فهل نلقاهم برجالنا الواعين ، أم بأنصاف المتعلمين ، ليقودوا الأمة إلى الهاوية ؟  الذين يتركز محور نشاطهم على القشور ، التي تتعلق ببعض الأحكام الفرعية ، فيؤثرون فيها رأياً ويقاتلون الرأي الآخر ، وقد يرون العادة عبادة والنافلة فريضة ، والشكل موضوعا ، ولعل ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم : ( ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب ) فيه إشارة إليهم وإلى أصحاب القلوب الواعية النقية ، بأن يكون قلباً محباً للناس عطوفاً عليهم ، لا يفرح في زلتهم ، ولا يشمت في عقوبتهم ، بل يحزن لخطئهم   ويتمنى لهم الصواب ، فالدين إن لم يكن وجهاً طليقاً ، وروحاً سمحة ، وسيرةً جذابة ، وافتقاراً إلى الله ، ورجاءً في رحمته الواسعة ، فماذا يكون ؟ أما علم أن القلب القاسي والغرور الغالب هما أدل شيءٍ على غضب الله ، والبعد عن صراطه المستقيم ، من السهل أن يرتدي الإنسان لباس الطاعات الظاهرة ، على كيانٍ ملوث ، وباطن معيب ، ليس لديه فقه  وليست لديه تربية ، يرى أن الدين كله لديه   وأن الفسق والفجور عند معارضيه ، ونحن نعلم أن من يقرأ القرآن ويحفظه ، ويقيم الصلوات ويدعو إلى إقامتها ، ويحترم حدود الله ويكره اعتداءها ، لا يتهم بالفسق ، فما هذا بإسلام وما يُخْدم الإسلام بهذا الأسلوب ، ورحم الله علياً رضي الله عنه عندما قال : قصم ظهري رجلان " عالم فاجر وعابدٌ جاهل " نعم فقد أفسد الدينَ أنصافُ المتعلمين ، فلا هم جهلة حتى يسألوا ، ولا هم علماء حتى يفقهوا ويدركوا ، فمن يعرف جزءاً من الحق ويجهل جزءاً آخر ، ينطبق عليه قول القائل :

فقل لمن يدعي في العلم معرفةً  حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء

فلماذا لا يعرف المرء ويتفقه في الدين ، ويزداد علماً بالكتاب والسنة ، بدلاً من أن ينحصر في حظه التافه من المعرفة ، ويتحصن داخله لقذف المخالفين بالأحجار ، ذكر الراغب الأصفهاني هذه القصة :" سأل رجلٌ جاهل حكيماً عن مسألة دينية ، فأعرض عنه ولم يجبه   فقال  له السائل : أما سمعت قول الرسول صلى الله عليه وسلم ( من سئل عن علمٍ يعلمه فكتمه ألجم بلجامٍ من نار يوم القيامة ؟ ) قال الحكيم بل سمعته ، أترك اللجام هاهنا واذهب ، فإن جاء من ينفعه علمي ، وكتمته فليلجمني به " والحق أن هناك أناساً يتكلمون في الإسلام ، يود الدين لو خرسوا ، فلم يسمع لهم صوت . فهذه هي الظاهرة القاصمة   لعرى الوحدة والأخوّة بين المسلمين , فكلامهم يخالف منهج النبوة وأحكام الشريعة ، وتعاليم الإسلام جملةً وتفصيلاً، لأنها تغري العداوة والبغضاء ، وتكسر شوكة الأمة ، وتسقط هيبتها ، وتسهّل على العدو ضربها   واستئصالها ، وهذا كله يخالف صريح قول الله تعالى :﴿ ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعدما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم ﴾ وقوله سبحانه : ﴿ ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم﴾ فالدعوة تكون بالتي هي أحسن ، باللفظ اللين وبإيضاح الحجة ، والإيغال في البيان، ونفي الشبهات ،ورد التساؤلات ، وتزييف الخرافات ونقض ساقط الاعتراضات ، بالأساليب اللائقة بالمخاطبين ، مع بعد عن التقعر والتنطع ، مما كانت العقول تتقبله ، والفطر السليمة تستسيغه ، فلم يكن في الدعوة تعنيف ولا تشدد ، بل تفتح وسعة صدر ، ورقة في الأسلوب ، مع ضرب الأمثال ، وسرد البراهين  وبيان الحجة بالحجة. ومما ذكره الإمام النووي في هذا الباب قوله : " واعلم أن مذهب أهل الحق أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب   ولا يكفر أهل الأهواء والبدع ، وأن من جحد ما يعلم من دين الإسلام بالضرورة ، حُكم بردّته وكفره , إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام ، أو نشأ ببادية بعيدة ونحوه "شرح مسلم .

لقد خلق الله الإنسان ، ليكون خليفةً في الأرض ، يعمرها بالخير والفضيلة والهدى   ويدعو إلى العدل والمساواة ، والعطف والرحمة   والأخذ بيد الضعيف ، وإغاثة الملهوف   وتوجيه المجتمع بقدر ما يستطيع ، إلى وسائل الفلاح والصلاح ، ولكي تتحقق الحكمة الإلهية في خلق الإنسان ، فإنه لا بد لقوة الخير في الإنسان ، من مدد يعينها ويقويها على سد منافذ الشر والطغيان ، وعلى استخدام الشهوة والغضب ، فيما يحفظ له نوعه وكيانه ، ولا شك أنه لو تُرك الإنسانُ ونفسه ، فانه لا يستطيع أن يحفظها من الاندفاع إلى الشر وسبيل الضلال ، بما ركب فيه من شهوة وغضب ، اندفاعا يصل في كثير من المواطن  إلى حد استباحة انتهاك الأعراض ، وسفك الدماء ، وسلب الحقوق ، ملبياً ومستجيباً لبريق الدنيا وزخرفها وشهواتها ومغرياتها   فيغلب شرُه خيره ، وفسادُه صلاحه ، عاجزاً عن تحقيق التوازن ، بين دواعي الخير ، ودواعي الشر  وتنعكس عندئذ حكمة خلق الإنسان   وجعله خليفة في الأرض  ، وإن التغيير المنشود الذي تنتقل به الأمم من الفساد إلى الصلاح   ومن الانحراف إلى الاستقامة، ومن الضعف إلى القوة، لا يتم إلا بتغيير الإنسان من داخله    كما قال تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾الرعد11. وهذا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم مع العرب ، غيّر ما بأنفسهم، فغيّر الله ما بهم ، غيّر معتقداتهم ومفاهيمهم وأفكارهم وقيمهم   وأهداف حياتهم ، فأنشأهم خلقا آخر، وأصبح عربيّ الإسلام غير عربيّ الجاهلية، في أهدافه وأخلاقه وسلوكه وعلاقاته. وبهذا انتقلوا من رعاة للغنم إلى رعاة للأمم، وأخرجوا الناس من عبادة الأشياء والأشخاص، إلى عبادة الله وحده   ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ووسطيتة : ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ ﴾ البقرة 143 . 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

النهي عن حب الشهرة والجاه

خلق الله في الإنسان حب الشهرة ، وانتشار الصيت والسمعة ، ويُحب الإنسان أن يُسمع له أو يُكتب قوله ، وحب الشهرة ، شهوة خفية تصيب القلوب ، فتمنعها من الإخلاص ، والصدق مع الله تعالى : فتأكل الحسنات ، وتحبط الأعمال الصالحة ، وتسبب الغفلة ، وقسوة القلب ، ومع ذلك ، يتمناها أكثر الناس، ويسعون جهدَهم لأجلها، رغم أنها صفة من الصفات الإبليسية قال تعالى : ﴿ قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طيبن ﴾ بل هي آفة من الآفات الخطيرة ، التي تقود صاحبها إلى الهلاك ، والتعالي والغرور   ولذلك جاء التحذير منها في قوله تعالى : ﴿ فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن أتقى ﴾ والإعجاب بالنفس ، هو الكبر الذي نهى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم عنه ، فقال عليه الصلاة والسلام : ( لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر )  وطالب الجاه والشهرة ، طالب آفة دنيوية ، جاءت  النصوص تدل على ذمهما ، فقال تعالى: ﴿ تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا ﴾ القصص 83 . وقال: ﴿ من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون ﴾ هود 15. وروى مسلم عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( حسب امرئ من الشر - إلا من عصم الله - أن يشير الناس إليه بالأصابع في دينه ودنياه  وإن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن إلى قلوبكم وأعمالكم ) . ولأن حب الشهرة والجاه ، مرتبطة بحب الظهور  فقد حذّر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : ( إنكم ستحرصون على الإمارة ، وستكون ندامة يوم القيامة ، فنعم المرضعة وبئس الفاطمة ) وقوله : نعم المرضعة ، لأن معها المال والجاه والسلطة ، وقوله : بئس الفاطمة ، لأن معها القتل والعزل في الدنيا ، والحسرة والتبعات يوم القيامة  وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم عواقب الرئاسة ومراحلها الثلاث في قوله : ( إن شئتم أنبأتكم عن الإمارة وما هي : أولها ملامة ، وثانيها ندامة  وثالثها عذاب يوم القيامة ، إلا من عدل ) . وجاء التحذير منها ، لأن من علاماتها ، حب ذكر الغير بالنقائص والعيوب ، وكراهة أن يُذكر أحد بخير   بل وانتقاص الآخرين ، ليرفع نفسه ، فلا يدل على من هو أفضل منه ، في الدين أو العلم ، بل ويحجب فضائل الآخرين ، ويكتم أخبارهم   خشية أن يستدل الناس عليهم ، فيتركوه ويذهبوا إلى غيره ، أو يقارنوا بينه وبين من هو خير منه فينفضوا عنه.  

هناك من يعبدون الله تعالى، ويخدمون دينه، فلا يغضبون إن قُدم غيرهم عليهم، ولا يحزنون إن استأثر الناس بالأمر دونهم، لأنهم يعملون لله تعالى  ولا يعملون للناس، غايتهم رضا الله تعالى ، لا ينظرون إلى الدنيا نظر أهلها لها، لأنهم ليسوا عبيدا للجاه والمال، ولا يهمهم أن يكونوا من سراة الناس أو من عامتهم،  يعملون ويخلصون ، سواء عرف الناس قدرهم أم لم يعرفوه، وسواء وضعوهم في المكان اللائق بهم ، أم لم يضعوه؛ فالله تعالى يعلم قدرهم وفضلهم وإخلاصهم، وجزاء الله تعالى أعظم من جزاء البشر. هذا الصنف من الناس  يجاهد نفسه في ردها عن غيها، ويجتهد في الإخلاص لله تعالى في كل أحواله. لا يحسد أحدا على منصب أو جاه ، وإن أعطاه الله ، لا يغتر بذلك، ولا يظن أنها دليل على رضا الله تعالى عنه  كان السلف يحذرون من الشهرة ، وحب الظهور قال ابن المبارك: قال لي سفيان:" إياك والشهرة فما أتيت أحداً ، إلا وقد نهى عن الشهرة، وكانوا يحرصون على الإخلاص والتواضع ، عَنِ الْحَسَنِ أنه قَالَ: لقد صحبت أقواماً ، إن كان أحدهم لتعرض له الحكمة ، لو نطق بها نفعته ، ونفعت أصحابه فما يمنعه منها إلاَّ مخافة الشهرة ، وكثيراً ما تظهر علامات الشهرة ، وحب الظهور على أعضاء الإنسان وحركاته، مثل الميل على الناس    ومحادثتهم بطرف الوجه ، احتقاراً لهم واستكباراً عليهم، وهذا ما حذر منه القرآن ، فقال الله تعالى: ﴿ ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور ﴾ لقمان . وكم من حوار علمي أفسده حب الشهرة والظهور والتعالي على الآخرين، وكم من فرد ارتكب الحرام لأجل الشهرة وحب الظهور، وكم من إنسان قال باطلاً وأشعل فتنة بسبب حب الظهور والشهرة . يقول الفضيل بن عياض :" إنه ما أحب أحد الشهرة والرياسة ، إلا حسد وبغى ، وتتبع عيوب الناس ، وكره أن يذكر أحد بخير ، فعاشق الشهرة لا ينظر إلا إلى رضا الناس ، ومن تتبع رضا الناس فقد تتبع شططا " وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصي: ( إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاص نفسك ودع عنك العوام ) وقوله صلى الله عليه وسلم     : (حق على الله ألا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه) .وإذا كان تحذير السلف - رحمهم الله - من عاقبة هذا الباب بناء على ما شاهدوه في أزمانهم المتواضعة ، فمن باب أولى التحذير منه في هذا الزمان وإذا كان المشهور عندهم يؤثر في المئات أو الآلاف من الناس ، فالمشهور في هذا الزمن يؤثر في الملايين ، والشهرة وحبها باب واسع ليس مقتصرا على فئة بعينها، بل تكون في الحاكم والعالم والوزير والغني والمفكر والكاتب والصحافي وغيرهم فكم من شخص أراق الدماء ، وبطش وظلم لأجل التصدر والشهرة، فكم من عالم أو داع كبا وزل وانقلبت حاله لأجل الشهرة ، وكم من صحافي قال باطلا ، وأخفى حقا ، وأشعل نارا للفتنة لأجل الشهرة ، فليس الأصل في الشهرة الذم وإنما الذم لمن يسعى في طلبها ، والتحلي بها بين الناس ، ورحم الله الفضيل بن عياض إذ قال : "من أحبَّ أن يُذكر لم يذكر ، ومن كره أن يُذكر ذُكر " ، وكلام هذا الإمام متين لمن أمعن النظر فيه ، وقرأ في تاريخ أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، فيجد أن الذين رفع الله ذكرهم ، وبقي ثناء الناس عليهم بعد مماتهم ، هم أهل الزهد في الشهرة والذكر  وأهل الإخلاص من أهل السنة والجماعة ، قيل لأبي بكر بن عياش : إن أناسا يجلسون في المسجد  ويُجلس إليهم ، فقال : "من جلس للناس جلس الناس إليه ، ولكن أهل السنة يموتون ، ويبقى ذكرهم ، وأهل البدع يموتون ويموت ذكرهم"، قال شيخ الإسلام ابن تيمية : "لأن أهل السنة أحيَّوا ما جاء به الرسول عليه السلام ، فكان لهم نصيب من قوله تعالى ( ورفعنا لك ذكرك) وأهل البدع شنأوا ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان لهم نصيب من قوله تعالى: ﴿ إن شانئك هو الأبتر ﴾ فأهل الإخلاص والصدق من هذه الأمة من أهل السنة و الجماعة ، وهم من أعلى شأنهم وأبقى ذكرهم بين الناس ، روى الإمام مسلم من حديث أبي ذر ( رضي الله عنه) أنه قال : قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : الرجل يعمل العمل لا يريد به إلا وجه الله ، فيحبه الناس وفي رواية ( فيثني عليه الناس) فقال صلى الله عليه وسلم :( تلك عاجل بشرى المؤمن) .

قال النووي في شرحه على مسلم  : " قال العلماء معناه : هذه البشرى المعجلة له بالخير ، وهي دليل على رضاء الله تعالى عنه ، ومحبته له ، فيحببه إلى الخلق ، ثم يوضع له القبول في الأرض، وهذا إذا حمده الناس ، من غير تعرض منه لحمدهم ، وإلا فالتعرض مذموم" . فعلى المؤمن أن لا يريد وجوه الناس بعمله ، بل عليه أن يرجو وجه الله ، وهو سبحانه من يعلي ذكره ، ويرفع شأنه ، ويرزقه محبة الناس ، جاء في الحديث القدسي : (إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحْبِبْهُ فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ ) رواه البخاري .

 

 

 

 

قوة المُسْلِمِينَ بالإِسْلاَمِ

إن قوة الأمة بقوة تمسُّكِها بدينها، وضعفها وهوانها بضعف تمسكها بعقيدتها، وفي قوة الأمة قوةً للدين وعزة له، وفي ضعفها إضعافًا للدين وهوانًا له، وهذا ما أكده عثمان رضي الله عنه حينما ربط قوة السلطان بقوة الدين في قوله المأثور: "إن الله لَيَزَعُ بالسلطان ما لا يزع بالقرآن". إن الناظر إلى أحوال الأمة الإسلامية اليوم يلحظ تأخرها بعد تقدمها، وذلها بعد عزها واحتلالها بعد سيطرتها؛ مصداقاً لقول القائل:

كنا ملوكاً على الدنيا وكان لنا    ملك عظيم وكنا سادة الأمم

كسرى وقيصر والخاقان دان لنا  وأمرنا كان بين السيف والقلم

إن للضعف أسباباً ، وللقوة أسباباً، والمتابع لواقع الأمة ، يدرك ما تمر به من تخلف ويدرك ما وصلت إليه الأمة من الضعف والهوان ، لعدم تمسكها بدينها ، دين العزة والقوة ، من تمسك به ، وعمل به ، يعزه الله وينصره ، ويقهر به عدوه ، لأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين قال تعالى: ﴿ وَلِلهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ فمَنْ كان يحب أن يكون عزيزاً في الدنيا والآخرة ، كما قال ابن كثير   فليلزم طاعة الله، فإنه يحصل له مقصوده لأن الله مالك الدنيا والآخرة ، وله العزة جميعا ، فمن ابتغى العزة  عند غير الله أذله الله قال تعالى : ﴿ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً ﴾ وقال:﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً ﴾ فالغلبة والقوة لله ، وكما لا يتأتى الإصلاح بتخريب البلاد، فلا يتأتى بإبعادها عن شرع الله ، فكلا الأمرين ، يعد فساداً وإفساداً في الأرض ، لا يحبه الله ، وبالرغم من عِلْمنا بهذا ، يحال بيننا وبين الإسلام ، من قبل أعداء الله وأذنابهم ، حتى غدت الجاهلية الحاضرة ، أشد وأعتى من الجاهلية الأولى وأضحى عُباد الأصنام البشرية ، والشهوات الدنيوية ، أقسى قلوباً من عباد الأصنام الحجرية، وأطل رأس الكفر ومن يسايره  يحارب الإسلام وأهله، وأصيبت الأمة في أخلاقها ، فضُيعت الأمانة، وانتشرت الموبقات والمخدِرات، وعمت الرذيلة  وتراجعت الفضيلة، وتعطلت أحكام الشريعة ، وطرحت الشعارات ، التي فرّقت الأمة ، وأوردتها موارد الهوان ، فهزمنا وما انتصرنا ، ولن ننتصر إلا براية الإسلام التي استظل تحتها سلفنا الصالح ، ولن ندخل التاريخ ، بأمثال أبي جهل ، وأبي لهب، بل بمن سار على نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصحبه الكرام ، وتابعيهم بإحسان  ولم نفتح الفتوح ، بحرب داحس والغبراء، بل فتحت ببدر والقادسية واليرموك ، ولم تحرر البلاد بالاستجداء والمؤتمرات، ولكن حررت بحطين وعين جالوت، ولم تحكم الأمة بالقوانين الوضعية ، وعصبيات الجاهلية ولكن حكمت بالقرآن المجيد ، وبالإسلام العظيم ، ولم تبتغِ العزة من محافل الكفر الدولية، ولكنها ابتغيت من الله رب العالمين وبجماعة المؤمنين، ولم يبسط سلطان الأمة بدويلات الطوائف ، بل بسط بالخلافة الراشدة ، وبالأمة الماجدة، فكان على الأمة أن تسير على خطى السلف ، وتتسلم زمام المبادرة، لإعادة مجد الإسلام ،وعزة المسلمين والعمل على إزالة العوائق ، التي تحول دون ذلك ، ولما ابتعد المسلمون عن دينهم   قلت قوتهم، وازداد وهنهم، وتسلط عليهم عدوهم، لأنه لا حياة إلا بالإسلام ، ولا أمن إلا بالإيمان، وصدق إقبال إذ قال:

إذا الإيمان ضاع فلا أمان  ولا دنيا لمن لم يحي دينا

ومن رضي الحياة بغير دين فقد جعل الفناء لها قرينا

لقد أدرك أعداء الإسلام ، بأن قوة المسلمين ، تكمن في تمسكهم لمبادئ هذا الدين، وتمسكهم برابطة الأخوة الإسلامية التي تضمهم على اختلاف أجناسهم وألوانهم، والعمل للعيش في ظل كتاب ربهم وسنة نبيهم، فاشتدت الحملة ضد الإسلام والمسلمين ، من داخل العالم الإسلامي  ومن خارجه ، للحيلولة بين المسلمين ودينهم ، وقطع الطريق على أبناء الأمة، أن يعيشوا أعزة في أوطانهم وديارهم.  ولما سقطت الخلافة الإسلامية ، وتقاسمت الدول الصليبية الكافرة، أراضي الإسلام   قال المثبطون: بأن ضعف المسلمين يكمن في الإسلام ، الذي أقعدهم عن طلب العلم والنهضة، وكبلهم في التخلف والجهل  وتحت هذه المقالات الفاجرة ، نشأت الحكومات ، التي استبدلت شريعة الله بشرائع الكفار، ونظام التعليم الإسلامي بنظام التعليم الغربي، وبدأت أجهزة الإعلام تغرس عقائد القومية، والوطنية الإقليمية مكان العقيدة الإسلامية ، واكتشف المسلمون أخيراً ، أنه لا حياة لهم ولا عز ولا نصر إلا بالدين ، الذي أعزهم الله به  وانتصروا في ظلاله ، فجن جنون أعداء الله الذين بذلوا النفس والنفيس ، في سبيل سلخ  الأمة عن دينها، وظنوا أن المسلمين قد فارقوا الإسلام إلى الأبد، وأنه لا عودة لهذا الدين من جديد ، وأن قضيته لن يكون لها وجود، وأن دولته لن تعقد لها راية، ولن يرفع لها لواء ، وتنادى أعداء الله في شرق الأرض وغربها ، ليحولوا بين الإسلام وأهله   وعملوا بكل ما أوتوا من قوة ، لتشتيت   الأمة وضياعها، وإبقاء دولها فقيرة عاجزة مكبلة بالديون ، والفقر والتخلف، وهم اليوم ، وراء تشجيع كل نحلة ، وطائفة وفرقة يمكن أن تمزق الجسد الإسلامي، كالباطنية والدروز والشيوعية، وتشجيع دعوات التحلل من الإسلام ، وترويج الفواحش والمخدرات، والتعري، وكل ما يمكن أن يسلخ المسلم عن دينه ، يساعدهم   عملائهم في العالم الإسلامي ، لضرب الإسلام، ومحارب الإسلام ، بأبناء الإسلام  الذين عميت أبصارهم، وظنوا الإسلام  سيفاً يقطع الأيدي والرقاب، وسوطاً يجلد الظهور، أو ظنوه ركونا إلى الجهل والتخلف  وحسبوه طريقاً إلى الفرقة والشتات ، وسبيلاً إلى الخراب وسفك الدماء ، وقد ساعد على وجود هذا الصنف الجاهل ، وجود بعض النماذج الإسلامية الجاهلة والحاقدة التي ضربت للإسلام ، أبشع الأمثلة  وصورته بأقبح الصور، حقداً على الإسلام وأهله ، ولكنهم كما قال الله في أسلافهم: ﴿ صم بكم عمي فهم لا يرجعون ﴾ البقرة 18 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ضريبة التخاذل

إن التخاذل يكرس سياسات العجز والخنوع، والتجزئة والتشرذم، والتبعية والتآمر حتى غدت المواقف المتخاذلة مهزلة من أكبر المهازل، بحيث حوّلت صورة الشعوب المسلمة ، إلى أضحوكة بين الأمم. تدين استهداف المدنيين بشكل عام ودون تمييز، أي دون تخصيص اليهود بالإدانة، وساووا بذلك بين دماء الفلسطينيين المدنيين ، التي تسفك غدراً و ظلماً وعدواناً، وبين دماء بعض جنود اليهود المعتدين ، إن إهمال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أدى إلى تخاذل أهل الحق ، وتطاول أهل الباطل، والبغي والعدوان ، وقد غلب طابع التخاذل والانحطاط ، حتى ظن البعض أن للكرامة ضريبة لا تطاق ، فاختار الذل والمهانة   هرباً من هذه التكاليف ، فعاش عيشة تافهة يخاف من ظلها ﴿ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ﴾المنافقون4 ، بهذا يؤدون ضريبة أعظم من تكاليف الكرامة، إنهم يؤدون ضريبة التخاذل ، يؤدونها من أقدارهم، ومن سمعتهم،  وهم حين  يؤدون ضريبة الذل  لذوي الجاه والسلطان ، يكونوا قد خانوا الأمانة ، وضعفوا عن تكاليف الكرامة  وتجردوا من عزة الحق ، فهانوا على الذين كانوا يهابونهم، وذلوا عند من كانوا يرهبون الحق ، ثم نُبِذَوا وركلتهم أقدام الذين كانوا يَعِدُونهم ويمنونهم  يوم كان لهم من الحق جاه، ومن الكرامة هيبة ، ومن الأمانة ملاذ  وهنا نسأل ؟ لماذا أهملوا القضية الفلسطينية ، وهي بصدد إحياء أمة ، تبعث فيها الشوق إلى الشهادة ، والاستقامة على نهج الإسلام ، ومغالبة نوازع الضعف والهوان  وتأجيج جذوة المقاومة ، وتعبئة مقومات التوحد ، في مواجهة نوازع الخنوع  والاستسلام لأعداء الأمة والإنسانية ، ولماذا لا يدعموا الانتفاضة التي نجحت  في مواجهة الغطرسة الصهيونية ، ولماذا لا يوجهوا التحية إلى كل مناضل ، ومقاوم في فلسطين ، والتحية إلى الأمهات ، اللواتي أرضعن أولادهن ، حليب المقاومة والصمود  والتحية لكل أم ، قدمت ولدها إلى الشهادة  فما أجمل هذه العطاءات ، وما أروع هذه التضحيات ، التي يقدمها الشعب الصامد في فلسطين ، ويقول للمتخاذلين : إن ما يجري في فلسطين ، من قتل وتدمير  يستصرخ الضمير العربي والإسلامي   ويناشد الشعوب ، بأنه لا يحيي الأمم   غير التحديات الضخمة، واحتلال فلسطين هو التحدي الأعظم ، الذي ابتلى الله به أمتنا  لإحيائها وتوحيدها ، ووضعها مجددا في موقعها القيادي في التاريخ  ليتم بناء وتشكيل عالم الأفكار ، والعقائد والقيم والجماعات ، والدول والأحزاب ، فلا يبقى منها إلا من يصمد في طريق مواجهة التحدي ، الذي ستتم به نهضة الأمة وتوحدها ، وستتم به إعادة بناء العلاقات الدولية ، على أساس إنساني عادل ، بديلا عما تقوم عليه العلاقات الدولية اليوم ، من منطق الغطرسة وحق القوة ، بدل قوة الحق والعدل ،فالنستبشر بالمستقبل بدل التخاذل ، فكلما أمعن الصهاينة في الغطرسة والتنكيل ، بأهل فلسطين ومن حولهم  ، كلما أيقظوا مزيدا من قوى الأمة الهامدة ، وحرروا مزيدا من الطاقات المعطلة وعبؤوا في مواجهتم  مزيدا من الضمائر الإنسانية الحرة ، وهي تستيقظ يوما بعد يوم  وتكتشف وجه اليهود النازي المتوحش الذين أذهلتهم هذه الانتفاضة ، كما أذهلت كل من تواطأوا معها ، وصمتوا على عدوانها

فانتصرت المقاومة ، وأصاب الذعر الإسرائيليين ، ومعهم المتخاذلون الذين صمتوا على عدوانهم ، وباعوا ضميرهم وأشقاؤهم ، وهذا ﻟﻴس جديداً ﻓﻲ ﺗﺎﺭﻳﺦ ﺍﻟﺘّﺨﺎﺫﻝ ﻭﺍﻟﻤﺘﺨﺎﺫﻟﻴﻦ،ﻓﻘﺪ ﺣﺪﺙ في التاريخ ﺍﻟﻘﺪﻳﻢ ﺃﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﻣﺮﺓ ، ﺳﺎﺩ فيها ﺍﻟﺘﺨﺎﺫﻝ ﻭﺍﻟﻀّﻌﻒ ﻭﺍﻟﻬﺰﻳﻤﺔ وﺍﻟﺘّﺸﺎؤﻡ ،ﻭﻣﻦ ﺟﺪﻳﺪ ﻋﻼ‌ ﺻﻮﺕ ﺍﻟﺤﻖ، ﺍﻟﺬﻱ ﻻ‌ ﻳﻜﻮﻥ، ﺇﻻ‌ ﻓﻲ ﺍﻟﺠﻬﺎﺩ ﻭﺍﻟﻤﺮﺍﺑﻄﺔ، لينتصر  ﺍﻟﻤﺴﻠﻤﻮﻥ  وﻓﻲ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺸّﺄﻥ ، ﻧﺘﺬﻛﺮ حالهم ، كحال إبي رغال ، أو يهوذا الأسخريوتي ، الذي تآمر على سيدنا المسيح .

فما منكم صلاح الدين  ولا أحفاد جنود حطين

فما أراكم إلا ظلال     لرجولة قد فسدت

فبئس لصمت أمتكم    على أحلام قد قتلت

وبئس لصوت عروبتكم  بقول العار قد صرخت

فما انتم سوي أشباح    لرجولة  قد انتحرت

قد ضاقت بنا الأرض   ورحمه ربنا وسعت

فسحقا لقوميتكم      على قتلانا ما دمعت

وفي تاريخنا الحديث أبطال ، تعلموا عزة النفس ، والشجاعة والإيمان بالله ، وحتمية النصر ، والفوز بالشهادة، ولهذا سادوا وارتقوا إلى أعلى الدرجات ، أبطال حاربوا نتنياهو فهزموه ، لأنه حارب أحفاد كل رموز العروبة والإسلام ، الذين دخلوا التاريخ من أوسع أبواب الشجاعة   والإيمان بالنصر  حتى نالوه، أو استشهدوا من أجله ، كما انهزم كل متخاذل ، وشريك له في هذا العدوان ، فقد سمعنا التصريحات التي تؤكد لنا مجدداً  بأن الولايات المتحدة شريكة في هذا العدوان، ومسؤولة جنبا إلى جنب مع الحكومة الإسرائيلية، عن كل قطرة دم تسفك في فلسطين ، الذين حقق أبطالها اكبر المعجزات ، فصمدوا إلى الآن ، ولم يتسولوا وقفا لإطلاق النار، مثلما يريد المتخاذلون ، ولم يستعينوا إلا بالله وليهم وناصرهم، على الجيش الذي يصف نفسه ويصفه حلفاؤه، وداعميه في الغرب، بأنه يطبق أعلى المعايير في الدقة والأخلاقيات  جيش لم يقتل إلا الأطفال ، لذا نتمنى  على المتخاذلين ، ألا يعتمدوا على الأنظمة والحكومات ، التي وقّعت اتفاقيات السلام مع اليهود ، فالأنظمة زائلة ، والشعوب باقية  لأن اليهود ، يريدون إذلال الشعوب ، التي تأبى التطبيع ، واتفاقيات السلام ، فلماذا خنتم وطنكم ، وغدرتم بأهلكم , وتنكرتم لهويتكم ، وتحالفتم مع الأعداء ، فلا تركنوا للذين ظلموا، وخانوا واستسلموا ، ولا تعطوا السلام ، لقاء جزء من وطنكم ، وارفعوا شعار المقاومة ، لأن اليهود لا يريدون أن يتحول الحدث إلى عاصفة ، توقظ الأمة من رقادها، ولا يريدون أن تتعالى صيحات الجهاد ، ولا يريدون أن يكون المسلمون يداً واحدة، أما النفوس التي قتلت، والأرواح التي أُزهقت، والدماء التي سالت، والبيوت التي خُرِّبت، فهي من أقدار الله ، التي يجريها ، لتوقظ القلوب الميتة ، وتحي النفوس التي طال صدأها ، وتقول للمسلمين: انهضوا من سباتكم ، فإن من أوجب الواجبات على كل مسلم ، أن يجدد في قلبه ووجدانه ، تقديس مدينة المقدسات وأرض النبوات ، وبلد الإسراء والمعراج.  وليعلم المتخاذلون أن الخير في هذه الأمة لا يفنى ، مصداقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته في الحديث الذي رواه عمار بن ياسر: (مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أو آخره) أخرجه أحمد في مسنده بسندٍ صحيح على شرط مسلم   وها هم الشهداء الذين أفهموا كل عاقل معنى قول رسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم (إنما أنا قاسم والله يعطي ولن يزال أمر هذه الأمة مستقيما حتى تقوم الساعة أو حتى يأتي أمر الله) يريد الله تبارك وتعالى ، أن يقطع دابر كل من ختم على الأمة بالهلاك ، وأن يحقق بفوز الشهيد  وسبَقَه معنى قول محمد صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة : (من قال هلك الناس فهو أهلكهم) فما مات من هذه الأمة ، إلا من أماتها في نفسه ، عندما استسلم لعجزه وفشله. وما مات من هذه الأمة ، إلا من أماتها في ولده ، عندما أهمل تربيته ، وما مات من هذه الأمة ، إلا من لم يقدم شيئاً في الدفاع عن مسرى نبيه ، وما مات من ميت في هذه الأمة ، إلا من تغافل وجحد صورا من صور البطولة الفلسطينية  التي ضربت المثل الأعلى للكون كله  وليكف لسانه ، من أصر على خذلانهم فحسبهم أن نبيهم محمدا صلى الله عليه وسلم قال فيهم  عن عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ الذي قال سمعت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  يَقُولُ : ( لَا تَزَالُ عِصَابَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ قَاهِرِينَ لِعَدُوِّهِمْ ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ ، فَقَالَ  عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ : أَجَلْ ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ رِيحذًا كَرِيحِ الْمِسْكِ مَسُّهَا مَسُّ الْحَرِيرِ ، فَلَا تَتْرُكُ نَفْسًا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنَ الْإِيمَانِ إِلَّا قَبَضَتْهُ ثُمَّ يَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ عَلَيْهِمْ تَقُومُ السَّاعَةُ ) رواه الألباني في جامعه الصحيح .  نسأل الله تبارك وتعالى أن يفرغ على قلوبهم صبرا ، وأن يثبت أقدامهم ، وأن يمتع مستضعفيهم بالنصر  وتحرير الأقصى ، كما متع مجاهديهم بالشهادة ، شكرا لأبطال المقاومة في فلسطين ، الذين رفعوا رؤوسنا عاليا   وشكرا لأمهات الشهداء والجرحى وآبائهم  والعار كل العار، لمن تواطئوا مع العدوان وما زالوا ، والعار كل العار لكل المتخاذلين  والمجد كل المجد لأمتنا . 

 

 

  بين الأمس واليوم

 ذكر ابن كثير في البداية والنهاية ما كتبه ملك الروم إلى حاكم بغداد أمير المؤمنين هارون الرشيد قائلاً : من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب ، أما بعد فإن الملكة التي كانت قبلي أقامتك مقام الرخ ، وأقامت نفسها مقام البيدق ، فحملت إليك من أموالها ما كنت حقيقاً بحمل أمثاله إليها ، وذلك من ضعف النساء  وحمقهن ، فإذا قرأت كتابي هذا فاردد إلي ما حملته من الأموال وافتد نفسك به ، وإلا فالسيف بيننا وبينك .

فلما قرأ هارون الرشيد كتابه أخذه الغضب الشديد حتى لم يتمكن أحد أن ينظر إليه  ولا يستطيع مخاطبته ، وأشفق عليه جلساؤه خوفاً منه ، ثم استدعى بداوة وكتب على ظهر الكتاب : بسم الله الرحمن الرحيم ، من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم . قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة ، والجواب ما تراه دون ما تسمعه والسلام .

ثم شخص من فوره وسار حتى نزل بباب هرقله ففتحها واصطفى ابنة ملكها ، وغنم من الأموال شيئاً كثيراً ، وخرب وأحرق ، فطلب نقفور منه الموادعة على خراج يؤديه إليه في كل سنة فأجابه الرشيد إلى ذلك .

لقد انقلبت الموازين ، وبدلاً من أن نُملي عليهم  أصبحوا يملون علينا ، ففي هذه الأيام كتب رئيس أميركا إلى حاكم بغداد قائلاً : من جورج بوش الابن قائد التحالف الصليبي إلى صدام حسين قائد أم المعارك ، أما بعد : "فإن والدي جورج بوش الأب قد أخرجك من الكويت ذليلاً ، وأبقى على ملكك في بغداد لحاجة في نفسه ، فإذا بلغك كتابي هذا فاعلم أن أيامك في الحكم قد أصبحت معدودة ، وسواء عليك أتعاونت مع فريق المفتشين الدوليين أم لا فإن رأسك مطلوب ، وقصرك مقصوف و جسرك منسوف وسترك مكشوف  وسنرسل حاملات طائراتنا لتذل كبريائك ، وتبيد خضراءك   واعلم أن أصدقائنا قد فتحوا لنا الحدود والممرات والأجواء ، وقدموا لنا كافة التسهيلات كي نقلعك ، ولا خيار أمامك إلا الاعتزال ومغادرة البلاد ، ولنأتينك بجنودٍ لا قبل لك بها ، ولنخرجنك منها" . ولما قرأ صدام الكتاب طلب من كبار معاونيه أن يستجيبوا لقرارات الأمم المتحدة وأن يستقبلوا فرق التفتيش التي تدخل المنشآت والقصور والبيوت دون استئذان ، وأن يعتذروا للشعب الكويتي عن المعاناة التي سببها غزو عام 1990.

فهل بعد هذا الإذلال إذلال ، لقد وصلنا إلى مرحلة مللنا والله فيها قرارات المذلة والمسكنة  والخضوع للكفار وقوانينهم الجائرة ، ألسنا قوم أعزنا الله بالإسلام ، فلماذا نبتغي العزة بغيره ؟ ألسنا بحاجة إلى قرار مثيلٍ لقرار هارون مع ملك الروم ، لقد اشتقنا والله لقرارات العزة والكرامة في ظل حكم الإسلام  وطاعة الله ورسول e .

وإذا كانت العزة الحقيقية لا تكون إلا بالموت فمرحباً به ، لأن الموت في طاعة الله خير من الحياة في معصيته ، ولقد أحسن عنترة العبسي عندما قال :

موت الفتى في عزةٍ خيرٌ له        من أن يبيت أسيرَ طَرْفِ أكحلِ

لا تسقني ماء الحياة بذلةٍ         بل فاسقني بالعزِّ كأسَ  الحنظل

ماءُ الحياة بذلةٍ كجهنمٍ          وجهنمٌ بالعزِّ أطيـبُ منـزلِ

هذا الجاهلي ! فما بالكم بالمسلم الذي يرجو من الله إحدى الحسنيين ، النصر أو الشهادة ؟ لا شك أنه أجدر بالشجاعة  وأولى بالتضحية والإقدام ! أما من لا يرجون لقاء الله فعقابه ينتظرهم جزاء الكذب والتخلف، وإن كانوا يتظاهرون بالإسلام وهم فيه منافقون وماذا يتربص المؤمنون بالمنافقين ؟ إنه عذاب الله أن يأخذهم كما أخذ من قبلهم ، أو يبطش المؤمنون بهم كما وقع من قبل قال تعالى : } قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ، ونحن نتربص بكم أن يصيَبكُمُ الله بعذاب من عنده أو بأيدينا ، فتربصوا إنا معكم متربصون  { .

إنهم جبناء يلجأ ون بكل الوسائل ليأمنوا على ذواتهم وليحققوا أطماعهم ، وإن كان في ذلك ذِلةٌ وصغارٌ لهم ، متناسين أنه لا يذل من يخضع لله ، إنما يذل من يخضع لعباد الله  ولا يصغر من يخشاه  إنما يصغر من يعرضون عنه فيخشون من دونه من عباد الله . قال تعالى : } أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه {      

 

ترك الجهاد سبب مصائبنا

إن من أعظم ما ينبغي تجريد النية له لإقامة الدين ، ورفع راية التوحيد الجهاد قال تعالى: ﴿ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنةٌ ويكونَ الدينُ لله ﴾ البقرة 193 . وقد شرع الجهاد ضد الأعداء حتى يكفوا عن عدوانهم قال تعالى : ﴿ وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ﴾ البقرة 190 . أمرٌ من الله إذا اجتمع الأعداء على حربنا أن نجتمع على حربهم ونقاتلهم ، وألا نكتفي  بالإدانة  ورفع الشكاوى  والتداعي لعقد المؤتمرات والاجتماعات قال تعالى: ﴿ وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة ﴾ التوبة 36   فالمعركة معهم معركة العقيدة والمنهج الذي ينبثق من هذه العقيدة ، وهذه لا تعالجها الاتفاقات ولا التداعي لعقد المؤتمرات ، إنما يعالجها الجهاد في سبيل الله ، لذا حض القرآن الكريم على الجهاد لتخليص المستضعفين من أيدي الكفرة الذين يسومونهم سوء العذاب قال تعالى : ﴿ وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القريةِ الظالمِ أهْلُها ﴾ النساء 75 . فيجب على المسلمين نصرة إخوانهم عند حاجتهم لذلك قال تعالى:﴿ وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر ﴾ الأنفال 73 . لأن التقاعس عن ذلك يؤدي إلى فتنٍ عظيمة من اختلاف الكلمة إلى ضعف الإيمان ، إلى ظهور الكفر والفساد الكبير المتمثل في سفك الدماء قال تعالى :  ﴿إلا تفعلوه تكن فتنةٌ في الأرض وفساد كبير ﴾ الأنفال 73  . وإذا كان الإنسان قد يفقد حياته في موقف من مواقف الرجولة والشجاعة فهل الجبن والتخاذل يحمي حياته من شرّ المهالك ؟ بالطبع لا ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍! لأن الذين يموتون في ميادين الحياة وهم يولون الأدبار، ويعيشون في ذلة واحتقار ، أضعاف الذين يموتون وهم يقتحمون الأخطار بحثاً عن حياة العز والفخار ، والأمة التي تخاف على رجالها في ساحة الجهاد تفقدهم أيام السلم والاستسلام ، وإذا لم تقدمهم إلى ساحات الجهاد أبطالاً يستشهدون وهم سادة كراما ، فإنها  تقدمهم  للعبودية   يشنقون  على مذابح  الشهوات  والخيانات .

 وإذا كانت سنة الحياة تقضي بأن الشيء وضده يكلفان الكثير ، فلماذا نرضى بالحقير ولا نطمع في الخطير ؟ وإن الذين يتجاهلون التضحية في سبيل الله ، هم أناس ليسوا من الدين في شيء ولا من الدنيا في شيء ، وقليل عليهم أن يفنوا وهم أحياء . ولماذا هذا الصمت المريب والسكوت المشين على ما يجري من الدول القوية التي تضرب وتدمر ؟ ولماذا تولّي الدول المضروبة المغصوبة الأدبار ؟ أليس من سخرية القدر أن يضحي أصحاب العدوانية وينكص أصحاب الإيمان ؟ ولماذا لا يلتفت المسلمون إلى قوله تعالى الذي خاطب به المؤمنين في صراحة  مبينا لهم أن المغارم قسمة عادلة ، بين المؤمنين والكافرين جميعاً في ميادين الشرف والبقاء  فأيما إنسان نكص على عقيبه مهزوماً ، فقد خسر رعاية الله وعنايته   قال تعالى لأصحاب الحق : ﴿ إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله  .آل عمران ، فالشدَّة بعد الرخاء والرخاء بعد الشدَّة ، هما اللذان يكشفان عن معادن النفوس وطبائع القلوب ، ودرجة الثقة بالله أو القنوط من رحمة الله ونصره .

 قال تعالى: ﴿ ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون ﴾  النساء 104 ، إنه لا يفرُّ من الجهاد والاستشهاد في سبيل الله إلا خائن مجرم ، وفي الآية ما يدل على تشجع المؤمنين على الجهاد ، يتوجه المؤمنون به إلى الله  ويرتقبون عنده الجزاء وقد جاء في القرآن آياتٌ أخرى ، تشجع على الجهاد والإقدام على قتال الأعداء ، وعدم اللجوء إلى غير هذا الخيار ، وإلا حل غضب الله بالمتقاعسين قال تعالى : ﴿ ومن يولهم يومئذٍ دبره إلا متحرِّفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير ﴾ الانفال 16 .

وإن قلب المؤمن ينبغي أن يكون راسخاً ثابتاً ، لا تهزمه في الأرض قوة ، لأنه موصول بقوة الله الغالب على أمره القاهر فوق عبادة ، وما يجوز للمؤمن أن يترك الجهاد خوفاً على الحياة ، لأن الله  يوهن  كيد الكافرين  ويضعف  تدبيرهم  وتقديرهم قال تعالى : ﴿ ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين ﴾ فلا  مجال للخوف ولا مجال للهزيمة ولا مجال لأن يولّي المؤمنون الأدبار ، عندما  يعلن الكفار الحرب على الإسلام والمسلمين . وليحمل المسلمون مواثيق الكرامة بعزة وإباء وشمم ، وليدفعوا الثمن في سبيل الله طوعاً وإلا دفعوه في سبيل الشيطان رغماً عنهم قال تعالى : ﴿ قل لن ينفعَكُم الفِرارُ إن فررتم من الموت أو القتل وإذن لا تُمَتعون إلا قليلا ، قل من الذي يَعْصِمُكم من الله إن أراد بكم سوء أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله ولياً ولا نصيراً ﴾ الأحزاب 16 . فقدر الله هو المسيطر على الأحداث والمصائر   يدفعها في الطريق المرسوم وينتهي بها إلى النهاية المحتومة ، والموت قدر لا مفر من لقائه في موعده   ومن يعيش لنفسه فقط لا ينتفع به وطن ولا تعتز به عقيدة ولا ينتصر به دين ، ومن يعيش من أجل إشباع شهواته فهذا لا قيمة له ، ومثل هؤلاء الناس لا يساوي في ميزان الإسلام شيئاً ، ولا يستحق في الدنيا نصراً ولا في الآخرة أجرا ، ولا قيمة لإنسانٍ آمن ولم يسترخص في سبيل الله النفس والمال ، وقد بين لنا القرآن أن الرجل قد يعيش آمنا في سربه سعيداً في تجارته ومطمئناً في وظيفته مستقراً في بيته ومستريحاً بين أولاده وزوجته ، لكنه إذا دعى داعي الجهاد وجب عليه أن ينهي هذا كله ، ولا يفكر إلا في نصره لربه وحماية دينه ، وإلا فإن الإسلام منه بريء .

قال تعالى : ﴿ قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارةٌ تخشون كسادَها ومساكنُ ترضونها أحبَّ إليكم من الله ورسوله وجهادٍ في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمرهِ والله لا يهدي القوم الفاسقين ﴾ التوبة 24 . وضعت الآية كل الأقرباء في كفة ، والعقيدة ومقتضياتها وحب الله ورسوله والجهاد في سبيله في كفة أخرى .

فحب الله ورسوله وحب الجهاد في سبيله ، جهاد مجرد من الصيت والذكر والظهور مجردٌ من المباهاة والفخر والخيلاء ، مجردٌ من إحساس أهل الأرض به ، وإشارتهم إليه وإشادتهم بصاحبه   وإلا فلا أجر ولا ثواب جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : الرجل يقاتل للمغنم والرجل يقاتل للذكر والرجل يقاتل ليرى مكانه ، فمن في سبيل الله ؟ فقال : ( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ) . ومن هنا يؤخذ على من يعلنون عمن يقومون بالعمليات الاستشهادية ، لما يجرُّ ذلك من أذى يصيب ذويهم وإخوانهم المسلمين علماً بأن هذا النوع من العمليات جائز ، عند وجود التعذر أو الصعوبة في التغلب على العدو ، كما أن في هذا النوع من العمل نوعاً من الردع ، وهي من قبيل الاستشهاد المبرر لأن الذين يقومون بها قد يقتلون على يد الكفار وسلاحهم ، كما أنهم يقدمون عليها من غير أي تفكير للخروج منها وهم على قيد الحياة ، وهي جائزة بالقياس على مسألة التترس  التي جاز فيها قتل المسلمين إذا تترس بهم الكفار في الحرب  وذلك في حالة الضرورة التي لا بد منها ، تفادياً لضرر أشد ، والمقتول فيها شهيداً في الدنيا والآخرة ، ويكون قد حصل على المنـزلة الشريفة في قوله تعالى : ﴿ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ﴾ التوبة 111.  

إن الأمة المسلمة لتخدع عن حقيقة المعركة بينها وبين الأعداء ، إذا فهمت أو أُفهمت أنها معركةٌ  أمنيةٌ لمنع الإرهاب ، كلا وألف كلا ! إنها معركة العقيدة والمنهج الذي ينبثق من هذه العقيدة  وهذه لا ينفع معها عقد المؤتمرات ولا تعالجها الاتفاقات ، لأن علاجها لا يكون  إلا بالجهاد   يتوجهون به إلى الله بلا خوف ولا و جل ، وما ساد المسلمون إلا يوم أن قهروا نوازع الخوف وقتلوا القعود ، وعرفتهم ميادين الموت أبطالاً يركبون الصعاب ، وما طمع الطامعون فيهم إلا يوم أن أخلدوا إلى الأرض ، وأحبوا معيشة السلم والجري وراءه ، وكرهوا أن يدفعوا ضرائب الدم والمال ، التي لا بد منها لحماية الحق وصيانة الشرف ، ولا بد منها لمنع الحرب وتأييد السلام إن كرهنا الحرب وأحببنا السلام .

أما الذين يحبون عيشة الراحة والاستكانة ، رغم ما يتهددهم من أخطار ، قانعين بما يسد جوعة المعدة ويواري السوءة ، فتلك لعمري أحقر حياة وأذلها ، ولا يليق ذلك بأمة كريمة على نفسها كريمة على الله اورثها كتابه وكلفها أن تعمل به وأن تدعوا الناس إليه .

وأي نصر يطلبه أهل الحق إذا أغلوا حياتهم ، على حين يرخص أهل الباطل أنفسهم في سبيل ما يطلبون ؟ وإذا بخلنا على الله بضريبة الدم والمال فكيف نطمع في نصره والأمل في جنته وهو يقول : ﴿ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة   يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون ﴾ التوبة 11 . إن الإسلام دين فداء واستشهاد ، وهو ما سلكه  أسلافنا الذين جاهدوا في سبيل الله تحت شعار : اطلب الموت توهب لك الحياة .

وقد كان هذا الشعور هو الدعامة التي بنو عليها تاريخهم فعاش من عاش سعيداً  ومات من مات شهيداً ، أما الذين ينصرفون إلى الدنيا تاركين دينهم ينهزم في كل ميدان ، فلن يُؤمَّنُ لهم نصيب من خير الدنيا   ولن يذوقوا حلاوة الإيمان ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم  : ( لن يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وولده والناس ) .

 

 

 

احتفالات المسلمين بالمناسبات المتعلقة برسول الله عليه السلام

اعتاد المسلمون أن يحتفلوا بالذكريات المتعلقة برسول الله صلى الله عليه وسلم ومنها الاحتفال بمولده ، والذي في اعتقادي أنه لا يترجم عن الحب الواجب لصاحب الرسالة ، ولو أن المسلمين عطلوا هذه الاحتفالات وأقاموا بدلاً منها حداً من الحدود المعطلة أو قانوناً من القوانين الإسلامية المهملة لكان ذلك أرضى لله تعالى وأحب لرسوله صلى الله عليه وسلم ، ومما ينبغي أن  نؤكد عليه في هذه الذكرى ولاءنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم واعتزازنا بالتراث الذي تلقيناه عنهه والدعوة إلى تطبيقه كاملاً غير منقوصٍ لأن التدين الشكلي والتمسك بالقشور لا يغير واقعاً فاشلاً ، ويوم تمسك المسلمون بدينهم وحملوا لواء الجهاد انفتحت لهم البلاد ودان لهم الناس  ولكنهم خسروا كلَّ شيء عندما تحول الدين إلى شكليات .

فليس المطلوب منا تجاه رسولنا صلى الله عليه وسلم في مناسبة مولده الاحتفال بهذه المناسبة بالطريقة التقليدية التي اعتادها المسلمون هذه الأيام ، بل المطلوب من المسلمين أن يلتزموا بما حدده القرآن الكريم  والذي طلب منا أن نتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم والتأسي : هو الاتباع قال تعالى : ﴿ لقد كان لكم في رسول الله اسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً ﴾ الاحزاب 21. وطلب منا أن نتبعه ونطيعه في آية أخرى فقال تعالى :﴿ قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم ﴾ آل عمران 31 . هذا هو المطلوب أما ما اعتاده المسلمون هذه الأيام فليس هو المطلوب شرعاً ولو كان هذا النمط مطلوباً لسبقنا إليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .

تأنى الذكرى والأمة تعيش واقعاً مريراً حيث اشتدت المحن وكثرت المصائب وأًصبحت تعاني من القتل وسفك الدماء وسلب الأموال والارزاق والكيد للإسلام ، وهي تقف مكتوفة الأيدي لا تحرك ساكناً وقد سيطر عليها الجبن الذي افقدها النخوة والرجولة والعزة والكرامة وفتح للاعداء سبيل الظلم والفساد والعبث بحياة الناس ، فتراهم يتلاعبون بمصالحهم كيفما ارادوا وكما شاءوا يصولون ويجولون بفسادهم في الأرض دون مقاومة أو اعتراض .

تأتي الذكرى وقد افقد الجبن الأمة العزة ، وقتل فيها الشعور والإحساس بالمسؤولية لإنقاذها  مما تعاني من الذل والهوان .

 إن الحديث الصادق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء ما يتعلق بمولده أو إسرائه أو هجرته وحتى سيرته عبادة ، كيف لا ؟ وقد هيأ لنا الرشد في الدنيا والنجاة في الآخرة فديْنُه في رقابنا ضخم وجميله في أفئدتنا مغروس .

والاحتفالات التي تقام هذه الأيام ، تشْعرُ المسلم الحق بأنها صلة مفتعله بين المسلمين ونبيهم ، وأن ما يلقى فيها من خُطَبٍ فيها دعاوى حب لا يساندها دليل ولا يؤيدها واقع  والناظر إلى هذه الاحتفالات ، لا يجد فيها ما يدل على صدق الإتِّباع ، وحسن التأسي ، وقد يشارك في هذه الاحتفالات ، ناسٌ لا يصلّون ، لأن الأمر بالنسبة لهم عبارة عن المشاركة في تقليد مكرر مألوف جرت عليه العادة ليس إلا ، وإذا ما قرأت قول البوصيري عن رسول الله .

فإن فضل رسول الله ليس لـه    حــدٌ فيُعْرِبُ عنه ناطقٌ بفم

وكيف يُدْرك في الدنيا حقيقته    قـومٌ نيامٌ تسلَّوا عنه بـالحُلُم

وكأنه يعنى المسلمين في هذه الأيام ، الذين لم يدركوا وإن أدركوا تغافلوا عن حقيقة النبوة التي أيقظت العقول من سباتها ، وفكَّتْ أغلال الذل عن أجيال عاشت عمرها في الذل والهوان ، وقد وصل الكثير من المسلمين إلى حدٍ لا يعرفون فيه حقيقة النبوة ، ولا يفقهون معنى الرسالة ولا يدركون الواجبات المطلوبة منهم تجاه هذه الرسالة المحمدية ، فهم نيام كما وصف البوصيري يتسلَّون عن الحقائق بالأحلام ، وما أكثر النيام الذين يبدون في صورة الأيقاظ . وقد أعجبني وصف أبي الطيب للمجتمع المعتل بقوله .

أراذلُ غـير أنهم ملوكٌ        مـفتحةٌ عيونهم نـيام

بـأجسام يحرُّ القتل فيها   وما أسيافها إلا الطعام

إنه وصفٌ رائعٌ لعبيد الشهوات وصرعى الملذات  والأمم التي تستلم لما أصابها ويصيبها أمم لا تصلح للحياة ، ولا يمكن أن تخدم رسالة عالمية  ولا أن تحقق نصراً على عدوٍ سلبها كلَّ شيء ، حتى أصبحت كقول القائل : "لا في العير ولا في النفير" إن أمةً مخدرةً في مشاعرها متبلدةً في أفكارها هي عبءٌ على عقيدتها التي تعتنقها. وهنا سؤال : هل الذين يحتفلون بهذه المناسبات منطقيون مع أنفسهم ومبادئهم ؟ لا أظن ذلك لأن إقامتهم لهذه  الاحتفالات مع تركهم لأركان الدين  وصدهم عن سبيله ، مرضٌ نفسيٌ يحتاج إلى الدراسة و المراجعة ، لأن كثيراً من الناس يكتفي في إثبات ولائه للجهة التي يحب بكلمات مَلَقٍ يزوِّرها ومظاهر تزلف يجيدها ، وكم في الدنيا من يخدعون الآخرين بهذا الأسلوب ، يتقربون به ما دام ذلك رخيص الثمن ، سريع النفع ، وإلا لم تجد لهم أثرا ، إنهم مؤمنون  عندما يكون الإيمان كلاما ، أما عندما يكون جداً وإقداماً فللأمر وجه آخر مصداقاً لقوله تعالى : ﴿ بل قلوبهم في غمرةٍ من هذا ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون ﴾ المؤمنون 63 . لقد كثرت الأحفال من قبل أمة هزمتها شراذم اليهود ، وأنزلت بها خزياً ليس له نظر في تاريخ المسلمين . فأيُّ علاقةٍ بين النبي صلى الله عليه وسلم المجاهد الشجاع وبين هذه الأمة ، وحتى تكون العلاقة مقبولة تنال رضا الله ، فذلك يكون بالتأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم والسير تحت لوائه والاهتداء بهديه ، بذلك تكون الأمة أولى به في الدنيا والآخرة ، وإن لم تحتفل بذكرياته ، وإلا فالرسول بريء ممن لا يتبع هداه ، ولا يسير على نهجه  وإن أقيمت الاحتفالات

ما أحوج الأمة إلى الاقتداء بجيل الصحابة الكرام أهل الفداء والنجدة ، ليذودوا عن العقائد والحرمات والى أمثال أولئك الذين تربوا في مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم، وتعلموا منه كيف يحبون الله وكيف يموتون لله أولئك الذين دمّروا معاقل الظلم ، وتركوا الأعداء يولون الأدبار في أقطار الأرض .

إن حبه صلى الله عليه وسلم ليس بالاحتفالات إنما يكون بمعرفة الله وإحلال حلاله وتحريم حرامه وتوقير أحكامه وتربية الأجيال على خلقه وعبادته وجهاده .

لقد قال أحد قادة اليهود يوماً كما ورد في الصحف :" نحن نقاتل من أجل التوراة واليهودية وأرض الميعاد" ، في وقت لا يجرؤ زعماء العرب على إرسال مثل هذا التصريح في الدفاع عن القرآن ، مما يدعونا للتساؤل : هل ذكر التوراة شرف وذكر القرآن جُرْم ؟ وهل يحق للغير أن يتبجحوا بباطلهم ونتوارى نحن بحقنا ؟ إن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أجدر إنسان في العالم لأن يقتفى أثره ويرتقب الخير في اتباع النهج الذي جاء به .

إن أمر دينه وأمته أعظم عند الله وعند الناس من هذه الاحتفالات ، وإذا لم نقرَّر ونعمل لبناء المجتمع على عقيدة محمد صلى الله عليه وسلم و شريعته  فلا داعي لهذه الاحتفالات وإظهار الولاء المكذوب  لأن هذه المظاهر لا تعمِّر قلبا خاليا من الإيمان بالله ، ولا تصوغ خلقا ، ولا تسوي صفا ، ولا تصنع مثلاً أعلى ، فهل يتعظ المسلمون ؟ ويعودوا الى الله أم تمضي فيهم سنة الأولين الذين لم يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ؟ إن الناظر الى وضع المسلمين وما حل بهم من الهزائم المتلاحقة أمام الأعداء خلال ما مضى من سنوات ، يشعر بأن الغزو الثقافي قد حقق مراده  وأن ما غرسه الغرب في بلادنا قد آتى ثماره المرة  وأن جهوده لم تضع سدى ، حيث ركَّز جل اهتمامه على بناء مجتمعات منسلخة عن الإسلام  وتعاليمه ، مرتدة عن هويته في البيت والشارع  والمدرسة والمحكمة وسائر مناحي الحياة ، وموقف الغَرْبِ هذا ليس مستغربا منهم أياً كان القدْرُ الذي يشتمل عليه من الخسّة و المكر و الخديعة واللؤم والوحشية ، فهم كما وصفهم الله في كتابه المنزل.

بقوله تعالى : ﴿ ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق ﴾ البقرة 109 .  والمسلمون يعانون من تبعة ما حل بهم من كيد أعدائهم   ومن الهوان والضعف الذي حذَّرنا الله منه بعد أن علَّمنا كلَّ شيء عن مواقف الأعداء و كيدهم ومحاولتهم الدائمة لفتنة المسلمين عن دينهم ، فقال تعالى : ﴿ وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً﴾ آل عمران 120 . إن الصبر المذكور في الآية والتقوى كذلك لم تكن تميمة يعلقها المسلمون على صدورهم فترد عنهم الكيد والمكر ، إنما الصبر والتقوى قوة إيجابية تصد الكيد بإيجابيتها وفاعليتها بقدرٍ من الله ، لقد فسد مفهوم الصبر والتقوى عند المسلمين هذه الأيام  كما فسد كل شيء في حياتهم وتصوراتهم   فتحول إلى مفهومٍ سلبي لا يغير شيئاً في واقع الحياة ، وحتى نعرف المقصود الحقيقي للصبر والتقوى يجب أن نعرف ماذا يريد الأعداء ، إنهم بالطبع يريدون أن يردوا المسلمين عن دينهم  .

أما الصبر المطلوب : فهو تحمل المشاق التي تعترض طريق الدعوة إلى عودة الحياة الإسلامية والإصرار على ذلك مهما فعل الأعداء  .

وأما التقوى المطلوبة : فهي اتقاء سخط الله وغضبه ، وذلك لا يكون إلا بتنفيذ أوامره والانتهاء عن نواهيه ، وحين يقع الصبر والتقوى على هذه الصورة فما الذي يستطيع الأعداء فعله  إنهم لم ينجحوا في زعزعة كيان الأمة الإسلامية  إلا يوم أن قصَّر المسلمون في تنفيذ ما أمر الله به سواء كان ذلك في التقاعس عن العدة التي أمرهم الله بإعدادها لإرهاب عدو الله وعدو المسلمين أو التقاعس عن الإنفاق في سبيل الله ، وإعداد هذه القوة كما أمر الله بقوله تعالى : ﴿ وأعدو لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم ﴾ الأنفال 60   

أو كان التقصير في ترك العدل الذي أمر الله به   سواء في سياسة الحكم أو المال ، أو كان التقصير في الفرقة التي نها الله عنها وحذَّرنا منها ، أو كان في اتخاذ بطانةٍ من دون المسلمين لا يألوننا خبالا ، أو كان مما وقع فيه المسلمون من البدع والمعاصي والخرافات والجهالات  فأصابتهم السنة التي لا تتبدل ولا تتخلف وأصابهم النذير الذي حذَّرهم  منه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قضعتها) .

وقد تحقق النذير بقدر من عند الله ، ولكن ذلك يسبب تهاون الأمة في حمل أمانتها التي كلفها الله بها ولا خلاص لهذه الأمة مما هي فيه ، إلا بالعودة إلى الله تعبده حق عبادته ، حتى يذهب عنهم الكيد ويرد لهم التمكين الذي وعدهم به وحققه لهم حين استقاموا على الطريق ، ثم نزعه منهم حين أخلّوا بالشرط . 

 

 

       

 

أسباب شقاء المسلمين

لقد كثر التساؤل عن واقع المسلمين الحاضر ، وعن المصائب والنكبات التي تحل بهم  وأسباب ذلك  بالرجوع إلى الكتاب والسنة نجد بأنه تساؤلٌ لا مبرر له قال تعالى: ﴿ وما أصابكم من مصيبةٍ فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير ﴾ الشورى 30 . قال علي رضي الله عنه : هذه أرجى آية في كتاب الله عز وجل    وإذا كان يُكَفِّر عنا بالمصائب ويعفو عن كثير ، فماذا يبقى بعد كفارته وعفوه ؟ حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( سأفسرها لك يا علي ! ما أصابكم من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا فبما كسبت أيديكم ) فما أصاب الناس من مصائب وآلام وأسقام وقحط وزلازل ، ما هي إلا بسب السيئات والمعاصي التي تقع منهم ، فهي عقوبات الذنوب وكفاراتها ، فالعقوبة عن الذنب في الدنيا في حق المؤمن كفارة له في الآخرة   ونظير هذه الآية قوله تعالى : ﴿ من يعمل سوءاً يجز به  ﴾ النساء 123 . وقوله تعالى : ﴿ ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ﴾ فاطر45. فما يرتكبه الناس من كُفْرٍ لنعمة الله ، ومن شرٍّ في الأرض وفساد   ومن ظلمٍ وطغيان ، فلو آخذ الله الناس بهذا كله وعجَّل العقاب ، لأهلك جميع أهل السموات والأرض ، روى أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا كثرت ذنوب العبد ، ولم يكن له ما يكفرها ، ابتلاه الله تعالى بالحزن ليكفرها )    والله يعفوا عن كثيرٍ من معاصي العباد ، فلا يعاقب عليها ، وقد تكون المصائب لغير ذنب بل لزيادة الأجر ورفع الدرجات . وما عفا الله عنه فهو أعز وأكرم من أن يعود إليه كما أن ما عاقب عليه في الدنيا فهو أكرم من أن يعيد العذاب عليه في الآخرة ، وقد يصيب ضرر المعاصي من لا علاقة لهم بها ، روى الترمذي عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قـال : ( يكون في آخر هذه الأمة خسف ومسخ وقذف قالت : قلت : يا رسول الله ! أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال نعم إذا ظهر الخبث ) . وقد وردت أحاديث كثيرة في معنى التواصي بالخير والمنع عن الشر ، وإلا فالله يسلِّط عذاباً من عنده عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أوحى الله عز وجل إلى جبريل أن اقلب مدينة كذا وكذا فقال : يا رب ! إن فيهم عبدك فلاناً لم يعصك طرفة عين قال : فقال : اقلبها وعليه فإن وجهه لم يتمعّر فيَّ ساعة قط ) . روى مسلم عن أبي هريرة قال : لما نزلت ﴿ من يعمل سوءاً يجز به ﴾ شق ذلك على المسلمين فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( سددوا وقاربوا فإن في كل ما يُصاب به المسلم كفارة ، حتى الشوكة يشاكها والنكبة ينكبها ) .مثل هذا الحديث يدل على أن الأمراض والمصائب في الدنيا ، يكفِّر الله بها الخطايا   ومن يعمل السوء لا يجد له غير الله يتولى أمره ويدفع الجزاء عنه ، ولا نصيراً ينصره وينقذه مما يحل به ، وإنما المدار على الإيمان والأعمال ، لا على الأماني والأحلام  ولذلك قال الله تعالى :      ﴿ ليس بأمانيكم ﴾ فليس الجزاء منوطاً بالأماني ، ولكنه منوطُ بالعمل واتباع ما شرعه الله ، أخرج ابن أبي شيبة عن الحسن موقوفا " ليس الإيمان بالتمني لكن ما وقر قي القلب وصدقه العمل " وقال الحسن " إن قوماً غرتهم المغفرة   فخرجوا من الدنيا وهم مملوؤون بالذنوب ، ولو صدقوا لأحسنوا العمل " . فحسن الظن بالله هو حسن العمل نفسه ، وكلما حسن ظن العبد بالله حسن عمله ، وإن حسن الظن مع إتباع الهوى والوقوع في المخالفات عجز .   ورد في حديث الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت  والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني ) .   لقد أصبح المسلمون لا يهتمون بارتكاب المعاصي ، ولا يفكرون بأن ما حل بهم من مصائب ، ناتج عما كسبت أيديهم من الذنوب والمعاصي ، ولا يوجد حكمٌ  يحاسِبُ على ارتكابها ، خذ مثلاً الربا فإنك لا تجد ما يخلو من تعامل ربوي إلا من عصم الله   رغم ما يترتب عليه من عقابٍ وسخطٍ من الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الربا سبعون جزءاً   أيسرها أن ينكح الرجل أمه ) . وفي حديثٍ آخر ( لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال : هم سواء ) . ومع ذلك تصدر فتاوى من هنا وهناك في استباحة الربا ، مع أنه لا إيمان مع تعاطي الربا ، لأن الإيمان طاعةٌ والتزام   ولا إيمان مع المعاصي  والربا من أكبر المعاصي ، وقد اعتبر الله آكلي الربا بأنهم محاربون لله ورسوله أي أعداء خارجون عن شريعته وهذا معنى قوله تعالى :       ﴿ فأذنوا بحربٍ من الله ورسوله ﴾ وحرب الله غضبه وانتقامه من أكلة الربا في الدنيا بإلحاق الضرر وفي الآخرة بالعذاب في النار  .                        

كما أغلق المسلمون على أنفسهم باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، الذي تحدث عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ببالغ الاهتمام فقال : ( والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهونَّ عن المنكر ، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عذاباً منه ، فتدعونه فلا يستجيب لكم ) وفي حديثٍ آخر جاء في شرح السنة ( إن الله لا يعذِّب العامة بعمل الخاصة ، حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم ، وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكرون ، فإذا فعلوا ذلك  عذَّب الله الخاصّة والعامّة ) . فكم من المعاصي ترتكب والتي أنذر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم والتي نعاني منها هذه الأيام ، والتي تؤدي إلى نتائج وخيمةٍ جدا من المصائب والنكبات ، حتى أن شؤم الأعمال أدى إلى اختلاف المواسم والطقوس ، فأصبحنا نعاني من قلة الأمطار والجدْب يروي كعب الأحبار أنه قال : " أصاب الناس قحطٌ شديد على عهد موسى عليه السلام فخرج ببني إسرائيل يستسقي بهم فلم يسقوا ، حتى خرج ثلاث مرات ولم يسقوا ، فأوحى الله عز وجل إلى موسى : إني لا استجيب لك ولا لمن معك وفيكم نمام فقال موسى : يا رب ومن هو ؟ حتى نخرجه من بيننا ، فأوحى الله عز وجل إليه : يا موسى أنهاكم عن النميمة وأكون نماما ! فقال موسى لبني إسرائيل : توبوا إلى ربكم بأجمعكم عن النميمة   فتابوا فأرسل الله تعالى عليهم الغيث "  وعن عمر بن الخطاب قال حدَّث موسى أو عيسى قال : " يا رب ما علامة رضاك عن خلقك ؟ قال : أن أنزل عليهم الغيث إبان زرعهم ، وأحبسه إبان حصادهم   وأجعل أمورهم إلى حلمائهم ، وفيئهم في أيدي سمحائهم قال : يا رب فما علامة السخط ؟ قال : أن أنزل عليهم الغيث إبان حصادهم  وأحبسه إبان زرعهم ، وأجعل أمورهم إلى سفهائهم  وفيئهم في أيدي بخلائهم " . وذكر أحمد عن قتادة قال : قال موسى : ( يا رب أنت في السماء ونحن في الأرض فما علامة غضبك من رضاك ؟ قال : إذا استعملت عليكم خياركم فهو علامة رضائي عنكم ، وإذا استعملت عليكم شراركم فهو علامة سخطي عليكم ) . إن غالبية المسلمين اليوم تنصلوا عن أصول الدين وأحكامه سائرين في طريق البعد عن الله  ناسين أن الذنوب تزيل النعم وتحل النقم ، فما زالت عن العبد نعمة إلا بذنب ، ولا حلَّت به نقمةٌ إلا بذنب كما قال علي بن أبي طالب : " ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة " . فإذا ما غيَّر المسلمون المعصية بالطاعة ، غيّر الله عليهم العقوبة بالعافية والذل بالعز قال تعالى : ﴿ إن الله لا يغيِّر ما بقومٍ حتى يغيِّروا ما بأنفسهم  ﴾ الرعد 11 .

 

نداء إلى الذين آمنوا ولم يعملوا

إلى الذين يقولون ولا يعملون ، ويظنون أنهم مظلومون ، وما ظلمهم الله ، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ، إلى الذين يُكادُ لهم نهارا  ويُدَبَّرُ لهم علانيةً ، ويُتآمَرُ على إذلالهم ، وهم في غفلةٍ لاهون ، إلى الذين يطلبون العزة من غير سبب ، والنصر من غير جهد ، والنهوض من غير طاقة . إلى الوارثين الذين ملك آباؤهم أقطارَ الأرض ، وملاؤها علماً وحضارة بإيمانهم وجهادهم ، وعقلهم وعلمهم ، ثم جاءوا من بعدهم فبددوا ما ورثوا ، وجهلوا ما علموا . إلى الذين يأكلون ويلبسون ، ويركبون مما صنع غيرهم ، ولا يعرفون كيف كان إعداد ما أكلوا   ولا نسج ما لبسوا ، ولا تصميم ما ركبوا ، فهم يستهلكون ولا ينتجون .

إلى الذين يؤمنون ولكنهم لا يلتزمون بتكاليف الإيمان ، أو يعرفونها ولكنهم لا يعملون ، إليهم نسوق ما روى أهل العلم بتفسير القرآن ، فقد روي أن مجلساً ضم طائفة من اليهود والنصارى والمسلمين ، فزعم كلُ فريق منهم ، أنه أولى الناس بعون الله ، وتأييده في الدنيا ، ونعيمه وثوابه في الآخرة .

قال اليهود : نحن اتباع موسى الذي اصطفاه الله برسالاته وبكلامه . وقال النصارى : نحن أتباع عيسى روح الله وكلمته ، وقال المسلمون : نحن أتباع محمد خاتم النبيين . وشاء الله سبحانه ، أن يفصل بينهم في هذا النزاع  وأن يبين لهم أن قاعدة التأييد والجزاء ، ترتكز على الإيمان والعمل . لا على مجرد التبعية والانتساب ، فلا الانتساب إلى رسول الله أو إلى الإسلام ينجي من عذاب الله وحسابه ، وقد حسم الله هذه المسألة بقوله : ﴿ ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب ، من يعمل سوءاً يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ، ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا ﴾ النساء 124 ، وقد روي أن خديوي مصر ، عقد اجتماعاً بين ممثلين عن اليهود والنصارى والمسلمين ، وطلب من كل واحد منهم ، أن يثبت أنه هو الذي سيدخل الجنة  فقال ممثل المسلمين : إن كان اليهود سيدخلون الجنة فنحن سندخلها لأننا آمنا بموسى ، وإن كان النصارى سيدخلون الجنة  فنحن سندخلها لأننا آمنا بعيسى  وإذا كنا داخليها داخليها فلن يدخلها اليهود ولا النصارى لأنهم لم يؤمنوا بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم . إن الإيمان بغير عمل شجرٌ بلا ثمر .. إن إبليس كان يعلم أن ربه الله ، وأنه واحد لا شريك له   وكان يعلم أن مصيره إليه يوم سيبعثون  ولكن لما صدر الأمر الإلهي بالعمل " اسجد " استكبر وتمرد وقال : لا ، فلم تشفع له معرفته بوحدانية الله ، لأن المعرفة المجردة عن معنى الخضوع المطلق لرب العالمين لا وزن لها ، ولأن العلم الذي لا يصاحبه العمل لا قيمة له ، لدا كان جزاؤه : ﴿ فاخرج منها فإنك رجيم ﴾ الحجر 34 . وكما أن الإيمان من غير عمل لا يغني ، فكذلك العمل من غير إيمان ، كبناء على غير أساس كهشيمٍ تذروه الرياح قال تعالى : ﴿ مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرمادٍ اشتدت به الريح في يومٍ عاصف لا يقدرون على شيء مما كسبوا  ذلك هو الضلال البعيد ﴾ إبراهيم 18 .  إن الإيمان الحق بالله ، والإيمان الصادق برسول الله  وبكل ما جاء به عن الله  قوة إيجابية محركة     لا بل طاقة بناء هائلة ، تملأ قلب المؤمن ، وتسري في دمه  وتنفذ إلى عقله وفكره ، وتسيطر على شعوره ووجدانه ، وتتحكم في عزيمته وإرادته  وتلازمه في الليل والنهار ، وتصاحبه في السرِّ والعلانية ، فلا يعصي لله أمرا ، كما تظهر آثارها في السلوك ، والتصرف في العمل الجاد لله والطاعة المطلقة لحكم الله ، والتضحية بالهوى ابتغاء مرضاة الله .

لقد قرن الله الإيمان بالعمل ، كما حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على لفت أنظار المؤمنين ، وتوجيه انتباههم ، إلى أن يكون سلوكهم مع الله ، ومع الناس ، وتصرُّفِهِمْ في كل شئون الحياة ، مُصَدِّقاً لإيمانهم ، ومُظْهِراً لعقيدتهم   فقال لمن سأله قولاً في الإسلام لا يُسأل عنه أحداً غيره : ( قل آمنت بالله ثم استقم ) . إن الظن بأن مجرد دعوى الإيمان والانتساب لرسول الله والإسلام  والنطق بالشهادتين  والتسمي بأسماء المسلمين ، يكفل للمدَّعين نصر الله في الدنيا  ويفتح لهم أبوب الجنة في الآخرة  وهم بعيدين عن منهج الله ، غارقين في المعاصي  مفسدين في الأرض ، إن هذا الظن ، وهم وخطأ وضلال بعيد .. إن هذا إيمان صوريّ لا ينجي صاحبه من خزي الدنيا وعذاب الآخرة ، فالسعادة ليست للفارغين الهازلين ، والجنة ليست للعاصين المتمردين ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :  (ليس الإيمان بالتمني ، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل ، وإن قوماً خرجوا من الدنيا ولا عمل لهم  وقالوا نحن نحسن الظن بالله وكذبوا ، لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل ) .  إن الناظر في ماضي المسلمين وحاضرهم ليعجب أشدَّ العجب ، مما كانوا فيه ، وما صاروا إليه : فقد أتوا في أول أمرهم بالعجائب ، غزوا وفتحوا وسادوا .. حين استنجدوا بالله ، فأنجدهم نجدةً نادرة ، لم تكن لغيرهم من قبل ولا من بعد   نجدةً جعلت منهم قادة الشعوب والأمم ، نجدةً زلزلت عروش الأكاسرة تحت أقدامها ، وتهاوت جيوش القياصرة بضربات سيوفها ، أنجدهم الله فجعلهم ملوك  الأرض ، وملَّكَهم كنوز الدنيا . إن ذلك ليس دعوى أو إدعاء ، والتاريخ أصدق دليل على ما نقول ، وكان ذلك نتيجة استنجاد الأمة بربها ، ومن نجدة ربها لها ، لأنها آمنت بالله رباً ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد عليه السلام نبياً ورسولاً وقائداً ، لذا رتب الله نصره لها ، لأنها نصرته بالقيام بطاعته ، وإعلاء كلمته وإيثار شريعته ، فتلقت الجزاء الموعود ﴿ وكان حقاً علينا نصر المؤمنين ﴾ الروم 47 . لقد آمنت أن النصر من الله ، لا من جيوشٍ رادعة ولا من حصونٍ مانعة ، وإنما منه وحده فقال تعالى : ﴿ وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم ﴾ الأنفال 9 . آمنوا بذلك فلم ترهبهم الجيوش على كثرتها ، ولم تخفهم العدد على تنوعها وشدَّتها . كما آمنوا بأوصاف المؤمنين المؤيدين بنصر الله  وآمنوا أنهم إن أرادوا نصر الله ينبغي أن يستجيبوا لما طلبه الله منهم في قوله : ﴿ الذين إن مكناهم في الأرض ، أقاموا الصلاة ، وآتوا الزكاة  وأمروا بالمعروف ، ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور﴾ الحج 20 . فحينما لبوا نداء الله ،لم يبخل عليهم بالنجدة ، ولم يمسك عنهم النصر ، فجعل لهم الغلبة على أعدائهم ، في كل معركةٍ خاضوها  ولا أريد أن أذكر بدراً وأحدا ، أو فتح مكة ويوم حنين ، خوفاً من قول القائل : لقد كان ذلك ورسول الله القائد بين أظهرهم ، وربما كان ذلك معجزةً له ، إنما أريد أن أستشهد بمعركةٍ من مئات المعارك التي خاضها المسلمون العاديون .

روى بن عساكر وغيره من المؤرخين ، فحوى هذه القصة الآتية :" لما أخذت جيوش الروم  تنهزم أمام المسلمين ، راع ذلك هرقل فأخذ يستصفي عقلاءَهم  ويختار كبرائهم ، ويقول لهم : ويلكم أهؤلاء القوم الذين يقاتلونكم : أليسوا بشراً مثلكم ؟ قالوا بلى . قال : أأنتم اكثر أم هم ؟ قالوا : بل نخن أكثر أضعافاً منهم  في كل موطن   قال : فما بالكم تنهزمون كلما لقيتموهم ؟ فوجم القوم وسكتوا دون جواب . ولكن شيخاً من عظمائهم  تشجَّع ورفع رأسه لهرقل : أتريد أن تعرف يا سيدي الملك ، السبب في ذلك ؟ فقال هرقل : نعم  ، فقال الشيخ : إنهم ينتصرون علينا ، من أجل أنهم يقومون الليل ويصومون النهار ، ويوفون بالعهد  ويأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر ويناصفون بينهم -أي ينصف بعضهم بعضاً من غير محكمة ولا قضاء . ومن أجل أننا نشرب الخمر  ونرتكب الزنا ، ونفعل الحرام ، وننقض العهد ، ومن أجل أننا نظلم ، ونأمر بما يسخط الله ، وننهى عما يرضي الله ، ونفسد في الأرض . فقال هرقل : أنت صدقتني . وسأل هرقل رجلا كان قد أُسر مع المسلمين  والذي يبدو من سياق القصة ، أنه قد عرف شيئاً من أحوالهم ، وتعرَّفَ على بعض صفاتهم وأخلاقهم . سأله هرقل فقال له : أخبرني عن هؤلاء القوم . فقال : أخبرك عنهم كأنك تنظر إليهم  فرسان بالنهار . رهبان بالليل ، لا يأكلون في ذمتهم إلا بثمن ، ولا يدخلون إلا بسلام . يقفون على من حاربوا حتى يأتوا عليه . لقد وصف هذا الرجل الأسير ، الذي خبر المسلمين عن كثب ، وصفاً ، أرهب هرقل  وأشاع الخوف في نفسه ، فلم تكد تحمله رجلاه  فتهافت على نفسه ، وأدرك بفطرته ، أن قوماً مثل هؤلاء  لن يُغْلَبوا ، وأن جحافل الروم أمامهم لن يصمدوا . فقال : لئن كنت صدقتني ، ليملِكُنَّ موضع قدمي هاتين . ولما توالت هزيمة الروم ، وأدرك هرقل أنه غير قادر على صد هذا الزحف الرباني  وأدرك أنه ليس من طاقة البشر ، الوقوف أمام هذه الغارة الإلهية ، عندما أدرك ذلك ، وقف على رابية من ربى الشام مودعاً فقال : السلام عليك يا سورية  سلاماً لا لقاء بعده . وداعاً فلن يدخلك رومي بعد اليوم إلا خائفاً مذعوراً .

عجيب أمر هذه الأمة التي استنجدت بالله  ، واعتصمت بالقيم الإسلامية .

نعم عجيب أمرها ، لقد فتحت أقطار الدنيا بمبادئها ، وآدابها وأخلاقها ، قبل أن تفتحها بسواعدها وسلاحها. فدخلت إلى قلوب البشر  وإلى عقولها ، قبل أن تدخل حصونها وتدك أسوارها ، لقد طارت سمعتها في الآفاق ، فهابتها أمم الأرض ، وملوكها وسلاطينها . وهاكم صفحة أُخرى من صفحاتها .  عندما فتحت مدائن كِسرى على المسلمين  وتوغلوا في أرض العجم ، أرسل ملكهم (يزدجرد) رسولاً يستنجد ملك الصين ، على العرب . ومن عادة الملوك  أنهم ينجد بعضهم بعضاً ، عند الأزمات . ولما عاد الرسول  عاد مثقلاً بالهدايا  من قبل ملك الصين ، وقال(ليزدجرد): لقد سألني عن القوم الذين غلبونا ، وقال : إنك تذكر قلة منهم  وكثرة منكم   ولا يبلغ أمثال هؤلاء القليل  الذين تصفهم منكم -فيما أسمع- من كثرتكم  إلا بخير عندهم وشرٍّ فيكم . فقلت : سلني عما أحببت إن شئت . فقال : أيوفون بالعهد إذا عاهدوا ؟ قلت نعم  وماذا يقولون لكم ، قبل أن يقاتلوكم؟ قلت يدعوننا إلى واحدة ، من ثلاث .. أن نتبع دينهم  فإن أجبناهم أجرونا مجراهم . لنا مالهم ، وعلينا ما عليهم . أو الجزية والمنعة ، أو المنابذة . قال : كيف طاعتهم لا مرائهم ؟ قلت : أطوع قوم لمرشدهم . قال : فما يحلّون وما يحرِّمون ؟ فأخبرته أنهم يحرِّمون الخبائث  والفواحش  والأضاليل ، وكل منكر وشر . فقال : أيحرِّمون ما يحللون ؟ أو يحللون ما يحرِّمون ؟ قلت : لا . فهم يؤمنون بأن شريعتهم ثابتة خالدة بكتابهم المنزل، الذي يعتقدون أنه في حفظ الله أثبت من الأرض ، وأبقى من السماء . وقاعدتهم ألا طاعة لمخلوق في معصية الخالق .  قال ملك الصين : فإن هؤلاء لا يهلكون أبداً  حتى يحلّوا حرامهم ، فيصبح الشر عندهم خيراً  ويحرِّمون حلالهم ، فتصبح الفضيلة عندهم رذيلة  ثم قال ملك الصين لرسول ملك الفرس : أخبرني عن لباسهم ، فأخبرته أنهم يقولون : ولباس التقوى ذلك خير .  فقال : أخبرني عن مطاياهم . فقال : العقل والمشورة، وحكمتهم المأثورة " أن من أُعجب برأيه ضل . ومن استغنى بعقله زل " .  قال : ما الذي وصل إلى علمكم من معاملتهم . فأجبته : إنهم يتقيدون بما أمرهم به رسولهم . وهو أن أحدهم ، لا يحيف على من يبغض ، ولا يأثم فيمن يحب . يعترف بالحق وإن لم يشهد عليه  ولا يغلبه الشحُّ عن معروف يريده . فكتب ملك الصين ، مع الرسول إلى (يزدجرد) الكتاب الآتي : "إنه لم يمنعني شيء ، أن أبعث إليك جيشاً أوله بمرو ، وآخره بالصين  ولكن هؤلاء القوم يعني  (المسلمين) الذين وصفهم لي رسولك ، لو يحاولون الجبال ، لأزالوها ، ولو خلا لهم الطريق  أزالوني ما داموا على وصف رسولك .

 فسالمهم ، وارض منهم بالمسالمة ، ولا تهجم ما لم يهيجوك ".                      

هذا هو ماضي المسلمين ، أما حاضر المسلمين فإنه يدعوا للعجب العجاب ، فقد ذلّوا واستكانوا وضعفوا  مع أن القرآن هو القرآن ، وتعاليم الإسلام هي لم تتغير .. فلماذا ساد الأولون وذل الآخرون ، لا لسبب إلا أن الأولين ، عملوا والآخرين تركوا ، ولن يستقيم حالنا إلا بما استقام به ماضينا ، إيمانٌ وعمل ، ولن يصلح آخر هذه الأمة ، إلا بما صلح به أولها .. اعتصامٌ بالله  ووقوفٌ عند أمره ونهيه ، واقتداء برسول الله  وعمل بسنته : ﴿ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ﴾ .         

 

نتائج العبث والفساد والتآمر على الأمة

لقد أصبح كل ذي بصيرة ورأي يلمس ويحس ما تعانيه الأمة من الضياع الذي يساهم في تعطيل كثير من الفعاليات ، وشل الكثير من النشاطات ، فقد عم البلاء وضاعت ثقتنا بأنفسنا وحاضرنا ومستقبلنا وإيماننا ، فعميت البصيرة وحبط الكثير من العمل ، وفقدنا سبل النجاح مما نحن فيه ، حتى أن الجامعات ودور التعليم والتثقيف لم تؤد الرسالة المطلوبة منها فاعتراها ما اعتري غيرها من فراغ وضياع . ورد في إحصائية : أن في فرنسا كلها ثلاثة آلاف محامٍ ، بينما تقذف جامعاتنا السوق كل سنه بعشرات الألوف من الأدباء والمحامين والصحفيين   أما العلماء فالعدد ضئيل جداً ، الأمر الذي يؤدي إلى البطالة ، ويكثر أنصاف المتعلمين الذين لا يجدون لهم مجالاً في المجتمع . بينما نجد عدونا يعمل على اجتذاب المتعلمين والمفكرين والعلماء لأنهم يخططون للغد ويرسمون آفاق المستقبل فيتقدَّمون بقدر ما نتأخر ويبنون بقدر ما نُدَمِّر. 

فقد وضعوا سياسة تعليمية للدول النامية ، تؤدي بها إلى عدم الانتفاع بأبنائها المبدعين ، أو فتح المجال لهم لتنمية قدراتهم ، فينتقلوا إلى الدول الغربية حيث تُعرض المغريات المادية على من يظهر نبوغاً ، فتجنده لمصلحتها ويُعطى الجنسية ويُصبح واحداً منها ، فيرتد تخصصه خيراً على دول الأعداء وشراً على الدول التي ولد وتربى فيها .كما نلاحظ في بلادنا فئةً لا تشعر بالمسؤولية   وإذا شعرت بها لا تستطيع ممارستها   وآخرون يضعفون أمام المغريات ، وكثير ممن ذهب إلى دول الغرب لمتابعة الدراسة ، يعود إلينا بلا دين ولا إيمان مغسول الدماغ ملوث العاطفة   لأن الأكثرية من الأساتذة الجامعيين الذي أنشأوا الدراسات الشرقية وتولوا تدريسها هم يهود  ويتلقى على أيديهم طلابنا الأدب العربي والتاريخ العربي والحضارة الإسلامية ، ناهيك بما يزيفون ويحرِّفون فتعود العقول على جانب عظيم من ألزيغ والضلال تتنكر لرسالتها ودينها .

إن أمة هذا بعض حالها تخدع ابنائها وتكذب على نفسها وتتآمر على قضاياها  فمن عبث القادة الى فساد السياسة ، ويزيد الطين بلة بطانات السوء وألسنة الضلال التي تحف بالقادة فتزين لهم المغامرة والانحراف ، والأقلام المأجورة التي لا تعرف إلى الحق سبيل  .  فهذا الدكتور نديم البيطار يقول في كتابه من النكسة إلى الثورة : " إنه يرفض شعار الوحدة الوطنية ضد الغزو الإسرائيلي ، ويفضل الحرب ضد الدول العربية الرجعية على الحرب ضد إسرائيل لأن العدو هو الدين الإسلامي وليست إسرائيل ". وشعاره الذي يرفعه في كل صفحه من كتابه هو الحض على محاربة الإسلام .

بهذا المنطق الساقط يعبِّر هذا الوغد عن نواياه . وما أكثر الأوغاد في مجتمعنا اليوم ؟ وما أكثر من باعوا قلوبهم للشيطان ، وأسلموا عقولهم للأعداء   حتى أصبحنا نعايش أمة تغمض عينها كيلا ترى مصيرها الأسود.

أمة ليس أجرأ منها في معارك المهاترات والمناورات ، ولا أخسأ منها في معارك الشرف والبطولة والاستشهاد ، امة جعلها الله بالإسلام خير أمة اخرجت للناس وجعلها بلا إسلام أحقر أمةٍ على الإطلاق ، فلو أفاقت من غفلتها وعادت إلى دينها ، ووضعت طاقاتها المادية والمعنوية في خدمة قضاياها لما احتاجت إلى الاستجداء   ولكن لو تفتح عمل الشيطان .

إننا نعيش في زمن نبرر تقاعسنا وتخاذلنا بإلقاء اللوم على الآخرين ، ونحن وحدنا الملومين لأننا نلهث وراء السراب ، إذ نؤمن بعدالة الدول الكبرى وقدسية ميثاق الأمم المتحدة ، ونتصعلك على عتبة البيت الأبيض . والمنطق يقول : إن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب ، وما أخذ اقتداراً لا يسترد إلا اقتدارا ، ذلك هو منطق التاريخ في دنيا مجنونة ، وكل منطق خلافه جبنٌ وانحلال  اسمعوا ما قيل عنا في الصحف يوماً ، قال انتوني ناتنغ في الصنداي تايمز "إن مصيبة العرب الكبرى هي فرديتهم ، فأنت لو جمعت خمسة منهم في غرفة مغلقة ، لخرجوا بستة أحزاب سياسية" . لقد أصبحنا من الهوان بحيث يحكم في أمة الإسلام من لا يخشى الله  ومن لا يخاف الله قد يصبح خائناً ومجرماً وعميلاً ، لأن الدين رداع وحافز  وحين يذهب الدين تهون كرامة الإنسان ، ولا يبقى إلا خراب الضمير وعفن النفوس  وقد تناست الأمة أن أمضى الاسلحة مع الأعداء هو الايمان ، ولا معنى لصراعنا مع عدونا بدون أن نوطن أنفسنا بسلاح التقوى واليقين والايمان على حرب طويلة أزلية بين الصليبية والإسلام ، فلا نستسلم ولا نتخاذل حتى يأتي أمر الله  فأعدائنا يخططون لسنوات آتية ونحن نمضغ ذلنا ، وقد دمرت أمتنا الكراهية  ولوثت نفوسنا الأحقاد  وإذا لم نعد إلى ايماننا بالله وبأنفسنا فلن يثبت الله أقدامنا في صراع البقاء ، وكأني اسمع منادي الجهاد ينادي : تعالوا نأخذ مكاننا في الصابرين ونتلمس طريقنا إلى الخير من جديد ونهتف كما هتف أسلافنا : الله أكبر والعزَّة للمؤمنين . لقد شدد الإسلام على الوفاء بالأمانة وجعل عقوبة الجماعة عامة بما يقع فيها من شرّ إذا هي سكتت عليه ، روى الامام احمد عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لما وقعت بنوا اسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا فجالسوهم في مجالسهم وواكلوهم وشاربوهم ، فضرب الله بعضهم ببعض ، ولعنهم على لسان داود وعيسى بن مريم وكان الرسول صلى الله عليه وسلم متكتماً فجلس فقال : (لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطرا ) .

إن أعداء الأمة الإسلامية يدركون أن سرَّ حياة المسلمين وسرَّ قوتهم هو في اعتصامهم بالقرآن يلتقون حوله ويتخذونه مصدراً لسن جميع الأنظمة التي ترعى شئونهم وتعالج مشاكلهم  ويدركون أن كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم هما الطريق إلى نهضة الأمة وحصانتها من المفاهيم الغربية   وإن أعداء الأمة الإسلامية ، يدركون أن سرَّ حياة المسلمين وسرَّ قوتهم إنما هو في  اعتصامهم بالقرآن يلتقون حوله ويتخذونه مصدراً لسن جميع الأنظمة التي ترعى شؤونهم وتعالج مشاكلهم  ويدركون أن الكتاب والسنة هما الطريق إلى نهضة الأمة وحصانتها من المفاهيم الغربية ، لذا يعملون على زعزعة الثقة بالإسلام وأحكامه وأفكاره    مما صعب مهمة الدعاة في العمل على إعادة هذه الثقة ، لأنهم حركوا كثيراً من العقول في العالم الإسلامي وأثاروا النفوس ضد أفكار الإسلام وأحكامه حتى يتم اقتلاعها من عقول المسلمين .  كما عملوا على الصاق مختلف الاتهامات الزائفة بالدعاة ، بقصد تنفير الناس منهم وإبعاد تأثيرهم عليهم فصوروا للناس أنهم اصوليون ومتطرفون وإرهابيون . مما يحقق لهم هدفهم من الخطط والأساليب للقضاء على تمسك المسلمين بقرآنهم وسنة نبيهم ، وإن ما يعانيه المسلمون من الضعف والتشرد والتجزئة ، وما يقاسونه من نهب لثرواتهم وامتهان لكرامتهم ، وما يجري في كثير من بلاد المسلمين من تقتيل وتعذيب وعدوان على البلاد والعباد وغير ذلك من صنوف المكر والخداع . إن كل ذلك ناتج عن عدم التمسك بحبل الله الذي أمر المسلمين أن يعتصموا به فقال : ﴿ واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ﴾ . ومن الأساليب التي اتخذها الأعداء لتفتيت وحدة المسلمين والحيلولة دون إعادة هذه الوحدة : زرع إسرائيل في فلسطين .  يروي التاريخ القريب أن الدول الاستعمارية طلبت من بريطانيا أن تدرس بدء اليقظة في منطقة الشرق الأوسط ، فانتدبت اللورد كامبل لعمل الدراسة المطلوبة  وتقديم تقرير . ومما جاء في ذلك التقرير " هناك شعب واحد متصل يسكن من المحيط إلى الخليج لغته واحدة ودينه واحد وأرضه متصلة وماضيه مشترك وآماله واحده وهو اليوم في قبضة أيدينا ، ولكنه أخذ يتململ ، وتسائل كامبل : ماذا يحدث لنا إذا استيقظ العملاق ؟ ثم يقول : يجب علينا أن نقطع اتصال هذا الشعب بإيجاد دولة دخيلة تكون صديقة لنا وعدوة لأهل المنطقة   وتكون بمثابة الشوكة التي تخز العملاق كلما أراد أن ينهض ".  لقد عمل الاستعمار بهذه التوصية وزرع الكيان اليهودي في قلب البلاد العربية من العالم الإسلامي ، كما يمكن القول أن ما يحصل في بلاد الإسلام من ضيق إنما هو صنع دول الغرب وتخطيطها  وما تقديم المساعدات الإنسانية للشعوب المنكوبة نتيجة صراعاتها إلا أسلوبا آخر من أساليب استعمار هذه الشعوب وتدخلهم في شئونها ، وقد حققت هذه المساعدات من المصالح ما لم تحققه الحروب الاستعمارية ، كما عملت هذه الدول على منع الدول النامية من التحول من دول مستهلكة إلى دول منتجة كي تبقى أسواقاً لها . إن أعدائنا يعرفون على مدار تاريخهم الطويل ، أنه لم يغلبهم إلا هذا الدين يوم كان يحكم الحياة وإنهم غالبو أهله طالما لم يحكِّموه في حياتهم   لذا ندعو باسم الإسلام إلى إيقاف ذلك المد المسيء لديننا وقيمنا والذي بلغ حداً لا يحتمل وندعو في الوقت نفسه إلى تطبيق شرع الله حتى نكون من المؤمنين قال تعالى ﴿ : فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم  ﴾. 

 

   

 

نتائج الإعراض عن ذكر الله

قال تعالى : ﴿  ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ، ونحشره يوم القيامة أعمى ﴾ طه 124 . إن الإعراض عن الدين وذكر الله تعالى ، سقوط لإنسانية الإنسان ، وعمى بصيرته ، ودخوله في حياة الضنك ، ومن هنا فإن دعوات ومحاولات عزل الدين عن الحياة ، والعدول عن أحكامه  وجعله شأناً شخصياً وأمراً فردياً ، مجاله ضمير الإنسان ، بعيداً عن مسالكه وممارساته على الإنسان ، والعودة به إلى تسلط الإنسان على أخيه الإنسان ، وعبودية البشر للبشر ، والاقتصار على القيام ببعض العبادات ، كأداء الصلاة والصيام والحج ، بعيداً عن المساهمة في قضاء حاجات الناس ، ومعالجة مشكلاتهم ، ومجاهدة الظلمة ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .  إن فهماً كهذا لدى فئةٍ من المسلمين ، بحاجةٍ إلى المراجعة والتقويم ، ولو صاموا وصلوا وحجوا وزكوا ، فإن إيمانهم يبقى منقوصاً .  لأن الانسحاب من الدنيا  وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لا ينسجم مع الإسلام الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم لتقويم مسيرة الحياة ، ومدافعة الظلم والظالمين  حتى لو كلف ذلك الإنسان عُنَقهُ .

 إن هذه الظواهر السلبية ، من انتقاص في التدين  وانسجام في الفهم ، وغياب في الفقه ، وإدراكٍ لوظيفة الدين في الحياة ، ليست جديدة ولا مبتكرة ، فهي موجودة ومستمرة ، يرعاها الظلمة  ويشجعها سدنة الاستبداد السياسي ، والظلم الاجتماعي ، ويروجون لها ويمتدحونها ، ويعتبرونها معياراً للتدين السليم   ويصورون ما وراءها من المجاهدة والمدافعة ، نوعاً من المغالاة  واستغلال الدين وتسْييسه ، حيث يغيب العلماء العدول العاملون ، وتنشأ طبقةٌ من العلماء   الذين يدافعون عن الاستبداد ، ويتصيدون له المبررات .

 إن المشكلة الخطيرة ، تكمن في قطع النصوص الشرعية عن سياقها ، وتفسيرها وتوظيفها من خلال مناخ التخلف ، وحالات الهبوط ، فبدل أن تكون الآيات والأحاديث ، عامل نهوض وفاعلية ، تحولت لتصبح مسوغاً لحالةٍ من التخاذل ، وذلك بالتأويل الجاهل . وبدل أن يكون الاجتهاد لإيجاد الحلول ، وكيفية التعامل مع المشكلات ، وتقديم برامج الحل الإسلامي لقضايانا ، أصبح سبيلاً للعثور على التبريرات ، وإيجاد الذرائع لتكريس الواقع الظالم ، والدفاع عن مشروعيته ، وبدل أن يصبح هوانا  تبعاً لما جاء به الإسلام ، جعلنا ما جاء به الإسلام تبعاً لهوانا والعياذ بالله ، والرسول صلى الله عليه وسلم يخبرنا بأن هذا يتنافى مع الإيمان فيقول (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به).  إن التدين الصحيح ، هو التكيف مع مقتضيات الدين وأحكامه ، وتقويم سلوك المجتمع ، وليس تكييف نصوص الدين ، لتوافق هوى الناس  ورغبة الظلمة المتسلطين . لقد عمت الفتنة وكثر الخبث ، وأصبحت الأمة الإسلامية مهددة بالهلاك ، لانعزال العلماء الصالحين ، عن المهمة الملقاة على عاتقهم  وانسحابهم من المجتمع وقعود الكثيرين منهم عن القيام بمهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر  والدعوة إلى الخير . إن المشكلة تكمن في مناخ الفتنة ، والهزيمة النفسية ، وتربية حواس الذل في الأمة ، والتطبيع على الهزيمة والمنكر ، وتأليفه للنفوس ، وانعكاس هذا التطبيع ، على فهم النصوص الداعية إلى القوامة على الحق ، والتضحية في سبيله ، والجهاد من أجله ، ومحاولة تفسير النصوص ، وتأويلها بما يكرِّس الهزيمة  ويوطن الفساد  ويمكن له في الأرض ، ويؤذن بتتابع الأزمات ، وخراب البلاد ،  إن عملية تطبيع الهزيمة ، وتفسير نصوص الكتاب والسنة ، وتأويلها وفق مقتضاها ، وتقطيع الرؤية القرآنية ، وبيانها في السنة والسيرة ، ومحاولة إسقاطها عن واقع معين لتسويغه ، والتمكين لشريعته  ومحاصرة الدعوة إلى الحق ، والتكريس للانسحاب عن واجب العودة بالأمة ، إلى ما يبني مجدها ، ويحمي كرامتها ، وإيثار السلامة الخادعة ، إن هذا ليس جديداً على الأمة ، فقد تعرضت لهذا في فترة من الفترات ، حيث كثرت فتاوى الحيل والمخارج ، ورغم ذلك لم تغب الحقيقة  ولم ينقطع النهي عن المنكر ، إذ لم يسجل على هذه الأمة التواطؤ على الخطأ ، والتوافق على المنكر ، والتنكر للحق ، حتى في أشد الفترات ظلاما واستبدادا . إن الخزي والهزيمة النفسية   التي لحقت بهذه الأمة ،لم تعد تقتصر على أضعف الإيمان ، الوارد في الحديث الذي رواه مسلم :(من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطيع فبلسانه ، فإن لم يستطيع فبقلبه ، وذلك اضعف الإيمان) . واضعف الإيمان في تقديري ، هو الاحتفاظ بالحق في مرحلة العجز ، وتحيُّنِ الفرص للتَّقوي وبناء الذات ، لمعاودة طرحها والعمل على إظهارها .

في الوقت الذي يُهمَّشُ  فيه مفهوم الجهاد ويُعْبَثُ به ، بوضع المقدمات الخاطئة ، التي أملتها ردود الفعل ، وحالات الهزيمة والانكسار ، للوصول بالأمة إلى النتائج الخاطئة ، وهذه من أخطر مراحل الخزي ، إلى درجة أصبح فيها القائم على الحق غريبا ومستغربا ، ومتشددا ومتطرفا وأصوليا  إلى آخر هذه المصطلحات ، التي لا علاقة لها بنا  ولا هي ثمره لفكرنا ومعاناتنا ،حتى شلت حركة الدعوة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر  والأدهى من ذلك وأمَرّ ، أنها تمارس تطبيع المنكر ثقافياً  وتجعل المعروف منكراً والمنكر معروفا  وهذه الحالة التي تنقلب فيها الأمم على أعقابها  وتصبح سلعة يُتَصَرَّفُ فيها ، من قبل خصومها  والحقيقة أن مهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،لم تَمتْ  في هذه الأمة ، على الرغم من تبعيتها ، وخضوعها لسيطرة الغرب ، لأن الإسلام في جوهره  هو القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، حيث لخصه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : (الدين النصيحة ، قلنا لمن ؟ قال : لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامَّتِهِمْ ) . إن تغيير المنكر ، والأخذ على يد الظالم وردع المفسدين ، هي الفريضة الموءودة في أمتنا ، ولن تستقيم حياة أمة ، بغير القيام بها قياماً ناجحاً .

الأمر الذي يحققُ الخير للإنسانية جميعا ، ليعم السلام والخير ، تحت راية الإسلام ، الذي ارتضاه الله لعباده المؤمنين .

 

مؤتمر القمة وذكرى الهجرة دروس وعبر

إن هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرها من أحداث السيرة  أصبحت واضحةً للناس ، وكثر الحديث عنها وتعددت الكتابة حولها ، وما يهمنا أن نأخذ منها العبر والعظات ، وأن نحدد على ضوئها معالم الطريق ، وأن نستمد منها المنهج القويم ، وأن نهتدي بها على الصراط المستقيم ، وأن نضيء أمامنا مشاعل النور والهدى والإيمان ، وأن نلمس فيها أحكام الله في خير التطبيق والتنفيذ ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ترجمة عملية للقرآن الكريم  وهجرته صلى الله عليه وسلم مليئة بالفوائد والمواعظ ، لمن أراد أن يتأمل ويتدبر ويتذكر ، لقد هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم معتمداً على الله مستعيناً به ملتجئاً إليه ، وكانت الرعاية الإلهية تحوطه في كل لحظة ، وكانت المعجزة الربانية تؤيد مسيرته  وتكشف الطريق أمامه حتى  وصل إلى المدينة المنورة واستقر فيها . 

لقد كانت الهجرة نتيجة إيمان قوم بالإسلام فهاجروا من أجله ، أما اليوم فهجرتنا تكون بالعودة إلى تعاليمه والمجاهدة في سبيل تحكيمها في حياتنا ،حتى نستعيد المجد والقوة والدولة والعدالة ، مصداقاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه مسلم : ( لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا ) . يعني إذا طُلبتم لحماية الدعوة ، ونصرة الدولة الإسلامية ، فلبوا ولا تكسلوا  والنفير ركيزة تجمع القوة ، والقوة أساسها الإيمان بالعقيدة ، وحتى ننجوا من عذاب الله  علينا أن ننفر ونترك الدعة والخمول والترف والفرقة قال تعالى : ﴿ إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم ولا تضروه شيئاً والله على كل شيء قدير  ﴾ . إن ما نرجوه من دراسة سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ليس التسلي بها أو التبرك بأخبارها ، وإنما السير على خطاها فقد كانت إيذاناً بتأسيس الدولة ، وبداية إلى استعلاء العقيدة ، وسمو المبادئ وانتصار الحق على الباطل ، وتحقيق العزة لله ورسوله والمؤمنين ، وكانت حداً فاصلاً لانتقال الدعوة من تربية الأفراد وغرس الإيمان في القلوب ، إلى بناء الدولة وتربية المجتمع الكامل ، وبناء المؤسسات الحكومية من جميع أطرافها  لأن الأمة بحاجة إلى دولة تسوسها وتحرس حدودها وتدافع عنها وتتولى التشريع والتنظيم لها ، كما تحتاج إلى مبادئ تحكمها وشريعة تطبقها ، ولا يمكن لأمة أن تقوم لها قائمة إلا بقيام دولة فيها وإلا أصبحت لقمة سائغة للطامعين ، كما أنه لا وجود لحق ولا لحياةٍ تشريعيهٍ إذا لم تقم سلطة الدولة بالسهر على تنفيذها . إن الإسلام الذي رضيه الله لعباده وختم به رسالاته وأكمل شريعته وجعلها دائمة خالدة  لا بد أن يؤمن الوسائل الكفيلة لهذه المبادئ والقيم ، فكان عقيدة وشريعة وديناً ودولة في وقت واحد ، فلا يمكن أن تنفصل العقيدة عن الشريعة ، ولا يصح أن ينحصر أمر العقيدة في الخلق والإيجاد والحياة والرزق ، ثم يترك أمر التشريع بيد البشر حسب الأهواء والشهوات وبالتالي لا يقبل الإسلام فصل الدين عن الدولة  ولا يتفق مع كماله تعدد السيادة والسلطة ، ولا ينسجم مع عزته أن يخضع أتباعه لغير سلطة الشرع وسيادة القرآن والسنة ، ولا يسلم قطعاً بالمبدأ القاتل "دع ما لقيصر لقيصر  وما لله لله ". بل يعلن القرآن منهجه فيقول : ﴿ هل لنا من الأمر من شيء ؟ قل إن الأمر كله لله ﴾ آل عمران 54 .   ويقول : ﴿ إن الحكم إلا لله ﴾ يوسف 40 . ووصف المؤمنين بأنهم يردون السيادة والسلطة والحكم لله قال تعالى : ﴿ إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون ﴾ النور 51 . وصرح بالنص على الاحتكام لله وللرسول فقال : ﴿ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ﴾ النساء 65  . ثم بين القرآن الكريم حكم من أعرض عن شريعة الله ورضي بالشرائع الوضعية قال تعالى : ﴿ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ﴾ وفي الآيتين التي بعدها ﴿ الظالمون والفاسقون ﴾ المائدة 44 . تأكيداً على أن الحاكمية لله تعالى ، وأن السلطة والسيادة في الدولة الإسلامية لا تكون إلا إلى شريعة الله وأحكامه  وأن مقام النبي صلى الله عليه وسلم كان لتنفيذ حكم الله ، وكذا كانت وظيفة الخليفة من بعده ، فقد أعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الفئة المؤمنة التي لبت نداء ربها من أول البعثة  وتحملت الأذى وصبرت على البلاء ، لتكون قاعدة متينة فكان كل صحابي معداً ليكون ركناً من أركان الأمة ، التي تولت نشر الدعوة في أرجاء المعمورة  فكان كل واحد منهم أمةً في نفسه ودولة في كيانه   هذه هي النخبة التي رباها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهاجر معها لإقامة الدولة في المدينة ، فلا عجب أن تكون الهجرة أعظم حدث في تاريخ الإسلام .

تأتي ذكرى الهجرة في الوقت الذي قرر حكام العرب اجتماع القمة ، وهو لقاء خطير وهام وعظيم ، لأن أي قرار يتخذه لا يدعو إلى التمسك بالدين عقيدة وشريعة لا فائدة منه ، لأنه لا نصر ولا توفيق بدون العودة إلى الله والتمسك بمبادئ الدين ، هذا بالإضافة إلى أن يصدق العمل القرارات التي تتخذ ، لأن علامة الصدق في القول أن يتبعه العمل ، ونحن بحاجة ماسة إلى أن يفي الحكام بالواجب الذي رسمه الله لعباده في شريعته التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والمسؤولية في هذا الاتجاه كبيرة وحاسمة ، وهم يعلمون ذلك ولا ينقصهم إلا التطبيق العملي . فما أحوجهم لأن يتماسكوا ويسيروا على طريق الحق  طريق القوة والمنعة طريق الإسلام  الذي دعا الله إلى التمسك به ديناً ومنهج حياة ، وإنا لنرجو الله أن يعودوا إلى شريعة الله  ويعملوا على تطبيقها في كل شؤون الحياة   فكم هو جميل اللقاء الأخوي ، ولكن الأجمل اتخاذ القرارات الحازمة التي تتبعها الأعمال الجادة ، بعيداً عن  الوقوف عند الوعود والأقوال  قرارات تعمل على رفع العار والذل  الذي تعاني منه الشعوب التي تتطلع بشوق ولهفة إلى اتخاذ القرارات التي تحقق للأمة النصر .  لقد سئمت الأمة الكلام والخطب ، وهي تنادي كل ذي قلب يعي أن لا حاجة الآن لأقوال مجردة عن الأفعال لأن الأمة بحاجة إلى أعمال إيجابية ، تلبية لنداء الله : ﴿ وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ﴾ . ففي كل اجتماع أو مؤتمر يعقد  يذاع البيان الختامي  والذي يطمئن على أن اللقاءات كانت مثمرة للغاية وهادفة وناجحة ، تساعد على وحدة الصف والهدف  ولكن الشعوب في كل مرة يسمعون كلاماً ووعوداً لا يلمسون لها حقيقة في واقع التطبيق العملي .

 لقد نسوا أو تناسوا الذين اجتمعوا وجوب الالتزام بكتاب الله وسنة رسول الله شريعةً ومنهج حياة  والذي خلا منه البيان الختامي ، كما هو الحال في كل قمة عقدت من قبل  وبوجوب إلزام إسرائيل بالكف عما يعاني منه شعب فلسطين ، والتزامها بالقرارات الدولية وإلا فالحرب والمقاطعة ، ولأن البيان خلا من قرارٍ كهذا فقد كانت رسالة إسرائيل للمؤتمر القصف المدفعي والصاروخي لشعبنا في فلسطين . هذه المواقف تذكرني بقصة أبي جعفر المنصور حين وقف يوماً خطيباً في جماعة من الأعراب فقال : أيها الناس احمدوا الله على أن وهبني لكم ، فإنني منذ وليت أموركم أبعد الله عنكم الطاعون ، فقال له أحد الحاضرين " إن الله اكرم من أن يجمع علينا الطاعون والمنصور ". وبقصة ذلك الوالي الذي وقف يخطب الناس فأرْتِجَ عليه فمكث ساعة ثم قال : والله لا أجمع عليكم عيّاً ولؤماً ، من أخذ شاةً من السوق فهي له وثمنها علي . ما أكثر ما يجمع على الأمة الإسلامية هذه الأيام ، من عيّ ولؤم وفساد وإلحاد وعمالة وخيانة ، والمخفي أعظم والله المستعان . إنا لنرجوا الله أن لا تكون القرارات هراء ، وتظل الحقيقة تائهة ضائعة ، ولو وجد من يقول للمجتمعين عودوا إلى دينكم وضمنوا بيانكم الختامي ضرورة الالتزام بالإسلام نظاماً ومنهج حياة ، والعودة إلى الجهاد لاسترداد ما فقد من الأرض ، أقول لو وجد من يقول ذلك ، لأداروا له ظهورهم وقلبوا له شفاههم ، وجعلوه سخرية الاجتماع وأخذوه مأخذ الهزل واستخفوا بما قال ، علماً بأننا إن لم نتخذ منهج ربنا دستوراً لحل قضايانا ، فإن معالجة ما تعاني منه الأمة داخلياً وخارجياً هو حلم حالم .  إن من بين العرب والمسلمين من يؤيدون السياسة الإسرائيلية . وهم كثرٌ لا أستطيع حصرهم وبالمناسبة تذكرت قصة الرجل الذي حلف بالطلاق أن الحجاج في النار ، فأتي ابن شيرمه يستفتيه فقال : يا ابن أخي امضي فكن مع أهلك ، فإن الحجاج إن لم يكن من أهل النار فلا يضرّك أن تزني  .

تأتي ذكرى الهجرة وقد تخلينا عن قرآننا ، فأصبحنا أضحوكة الأمم ومهزلة التاريخ ، فلا نعيش إلا تابعين ولا نحيا إلا موجهين ، تُرسم لنا الطريق ونبحث عن سند وصديق ، متناسيين أن الأقوياء لا صداقة عندهم  لأن همهم مصلحتهم وما يحقق مجد أمتهم ، نعيش حياة الذل بدل مجد ضيعناه ، ونهوى الهزيمة بدل النصر الذي فقدناه يتفاوض على قضايانا الأقوياء ، حتى غدونا سلعاً تباع في الأسواق ، أسواق السياسة الدولية . إن عزتنا وقوتنا لن تكون إلا بالإسلام ، لأنه عماد صمودنا وباعث مقاومتنا ، ومكون حضارتنا وحافز تقدمنا  وذخيرتنا التي لا تنفذ مع الأيام ، إننا بالإسلام نتحرر من اليأس ولاستسلام ، لأنه يولد فينا الثقة بالنصر والتصميم على الجهاد ، ويدفعنا إلى الأخذ بما يحقق النصر وأسبابه ، ويرتفع بنا إلى ذروة التضحية .

إن الأوضاع العالمية التي عايشها المسلمون بعد الهجرة  تشبه الأوضاع العالمية هذه الأيام ، كان الروم يومئذٍ يمثلون الدولة الأولى في العالم ، صحيح أن الفرس نازعوهم السيادة ، غير أن حرباً نشبت بين القوتين العظميين انتهت بانهزام الفرس انهزاماً ساحقا ، فانفرد الرومان بالسطوة في أرجاء العالم كله ، تماماً كأمريكا هذه الأيام ، وقد قام الرومان بمطاردة الدعاة الإسلاميين ومنعهم من نشر الدعوة . وعندما قرَّر النبي صلى الله عليه وسلم محاربة الروم والتصدي لعدوانهم  فزع الكثيرون وتثاقلوا عن الخروج ، وقال بعضهم لبعض : أنى لنا مقاومة هذه الدولة العظمى ؟ فنـزل الوحي يقطع دابر الضعف ، ويستأصل روح الهزيمة  ويطلب إلى المؤمنين آن يسارعوا إلى النفير ، وان يسيروا إلى الروم حيث كانوا دون أي تهيب . وذكَّر المتثاقلين عن الجهاد بأن النصر من عند الله وحده ، لا تمنعه قلة عدد أو عدة ، وساق إليهم درساً من الهجرة النبوية ، وكيف كان العزاء الوحيد للرسول وصاحبه في الغار ، إزاء الأعداء المتربصين : ﴿ لا تحزن إن الله معنا ﴾ ، فماذا كانت النتيجة ؟ إن الله لم يخذل من تعلق به واستند إليه ، وها هو ذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يبلغ المدينة ، ويبقى بها سنين معدودة ، ثم يعود إلى مكة فاتحا رافعاً راية الحق .  إن الذي دبَّر هذا الفوز قادر على أن يصنع مثله لدولة فتية ناشئة ، تشتبك مع أعتى دول الأرض وأوسعها سلطانا  قادر على أن ينصر المسلمين وهم قلَّة تعتز بالإيمان على الروم وهم كثرة تريد الطغيان بباطلها .

إننا في هذه الأيام من المفرِّطين ، والله لا ينصر المفرِّطين ، تماماً إذا تكاسل الواحد منا عن أداء ما عليه وهو قادر   فكيف يرجو من الله أن يساعده وهو لم يساعد نفسه ؟ هذا درس من دروس الهجرة ، يُساق إلى المتواكلين  الذين ينتظرون من الله أن يُقدِّم لهم كل شيء ، وهم لم يقدِّموا شيئا . في الوقت الذي يهب فيه الأعداء لاجتياح الإسلام ، والإتيان عليه من القواعد ، فهل نستحضر من معاني الهجرة ما يخزي أعداء الله ويرد كيدهم في نحورهم ، وما يساعدنا على استئناف رسالتنا ودعم حضارتنا في الوقت الذي يترنح فيه الوضع الدولي في هذه الفترة ، والدواء عندنا وحدنا  فهل ننقذ أنفسنا وننقذ العالمين ؟ .     

 

 

 

  

أكبر المقت لمن يقول ولا يفعل

الإسلام ابتداءً هو دين العمل ، الذي يمقت الذين يقولون ما لا يفعلون ، قال تعالى : ﴿ يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ﴾ الصف 2 . وهذا إنكار على من يعد وعداً أو يقول قولاً لا يفي به ، قال ابن كثير : ولهذا استدل علماء السلف بهذه الآية على أنه يجب الوفاء بالوعد مطلقا ، سواء ترتب عليه غرم للموعود أم لا   فكبر مقتاً أي عظم جرما ، أن تقولوا قولاً وتفعلون غيره، لأن خلف الوعد دليل على حب الذات   وإهدار المصلحة ووقت الآخرين  وإخلال بالثقة بين الأفراد والجماعات ، وما أسوأ خلف الوعد ، لذا كان مبغوضاً عند الله اشد البغض ، ومعاقباً عليه ، وفي مقابل ذلك ذم التاركين للقتال الهاربين منه .

بخلاف جمهور الفقهاء ، الذين حملوا الآية على أنها نزلت ، حين تمنوا فريضة الجهاد عليهم ، وفي الأثر "رب قارئ للقرآن والقرآن يلعنه "  وأول من يلعنهم القرآن هم أولئك الذين يقولون ما لا يفعلون ، أو لا يلتزمون بأحكامه   ويظهرون ما لا يبطنون ، وأولئك هم المنافقون ، الذين حذرنا منهم كتاب الله وحديث نبيه ، عن ابن عباس قال : كان ناس من المؤمنين قبل أن يُفْرض الجهاد يقولون : لوددنا أن الله عز وجل دلنا على أحب الأعمال إليه فنعمل به ، فأخبر الله نبيه أن أحب الأعمال ، إيمانٌ به لا شك فيه ، وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الإيمان ولم يُقِرّوا به ، فلما نزل الجهاد ،، كره ذلك ناس من المؤمنين   وشق عليهم أمره ، فقال تعالى : ﴿ إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا ﴾  ذكرت الآية حب الله للذين يقاتلون في سبيله صفاً ، لا لأن الإسلام يشتهي القتال ويريده حباً فيه ، بل لأن الواقع يفرضه ويجعله حتما ، لأن الهدف من وراء القتال ، إقرار منهج الله حتى يستقر في النفوس ، التي يحب أن تكون على جانب عظيم من القوة ، حتى تغلب عملاء الشرّ وأعوان الشياطين ، وهذا بحاجة إلى إيمان يصدِّقه العمل ، لأنه لا قيمة لإيمان إنسانٍ يقول أنا مؤمن ويملأ الدنيا كلاما ، حتى إذا دعاه الله للعمل بالأيمان الذي يدّعيه أخلد إلى الأرض .

وفي تاريخنا الأمثلة الرائعة على صدق اليقين والتمسك بالدين ، فكان الواحد منهم إذا ما خالف الله في غفلة من غفلات القلب ، سارع إلى تطهير نفسه . جاء عمر بن سمرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني سرقت جملا لبني مازن ، فأرسل إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : إنا فقدنا جملا لنا ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم فقطعت يده ، قال ثعلبة وأنا أنظر إليه حين وقعت يده ، وهو يقول : الحمد لله الذي طهرني منك ، أردت أن تُدْخليني النار ، لقد هوَّن عليه يقينه بالحساب قطع يده . فهل نضحي كما ضحوا ؟ ولم لا ، إذا كانت التضحية وسيلةٌ للنجاة من عذاب النار .

إن ما يلاقيه المسلمون من ذلٍّ وهوان ، ما هو إلا نتيجة من نتائج قولهم ما لا يفعلون ، ولأنهم لا يؤمنون الإيمان العملي ، الذي يدلُّ على رسوخ العقيدة في نفس صاحبها ، ولا يكتفون بالإغضاء عن المخالفات الشرعية ، بل يجاملون المخالفين للشّرع ، المجاهرين بالعصيان ، الماضين في مخالفة الدين ، طلباً للنجاة من الأذى الذي يتوهمونه ، ناسين أن الله بيده الضرّ والنفع ، وقد حذرنا أن نلجأ إلى غيره فقال تعالى : ﴿ ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ﴾ كما تناسوا أن الرضى بصنيع خصوم الدين ، وتبـرير تصرفاتهم ظلم ، وأن عاقبة الظلم البوار  وفي تاريخنا الأمثلة الكثيرة لمن لا يخشى الظلمة ، ولا يعينهم على ظلمهم ، دفع الحجاج إلى سالم بن عبد الله سيفاً ، وأمره أن يقتل رجلاً ، فقال سالم للرجل أمسلمٌ أنت ؟ قال : نعم قال : وصليت اليوم صلاة الصبح ؟ قال نعم ، فرجع إلى الحجاج ورمى إليه بالسيف ، وقال له : إنه ذكر أنه مسلم ، وانه صلى صلاة الصبح ، فهو في ذمة الله ، فقال الحجاج لسنا نقتله على صلاة الصبح ، ولكنه ممن أعان على قتل عثمان ، فقال سالم ها هنا ، من هو أولى بعثمان مني ؟ وهكذا كف الظالم عن ظلمه ولم يُعِن عليه . 

وهنا سؤال للذين يعيشون ويموتون ولم يعرفوا الله ، ومن يؤمنون بوجود الله ، ولا يقومون بحقه ، ما هي رسالتهم ؟ أهي مجرد الأكل والشرب ، فهكذا الأنعام  ثم ما قيمة من لم يعرف الله ولم يعبده ؟ إذا علمنا أن معرفة الله وعبادته هي الغاية التي من أجلها خلقنا لكن للأسف فإن بعض الناس يعيشون موجوداً كمفقود  حياً كميت وحاضراً كغائب ، ومن هذا حاله فليس بإنسان ، لأن من يعيش للتمتع وقضاء الشهوات ، ومهمته الكيد لخلق الله ، وتوجيه التهم لهم ، والإفساد في الأرض فهو ليس بمؤمن ، لأن المؤمن هو الذي يعرف الله ، ويعبده ويقوم بحقه  ويقيم أمر دينه ، وما جاء الإسلام إلا بهذا ، فلنعرف ذلك جيدا ، ولنعيش من أجل هذه الغاية ، ولنطلب من الله أن يوفقنا للعمل من أجل عزة المسلمين ، لأن الإسلام دين العمل , فقد كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم   يحفظون الآيات العشرة من القرآن , لا يبرحونها إلى غيرها ، حتى يفقهوها ويطبقوها في حياتهم ، لأنهم فهموا من نبيهم صلى الله عليه وسلم أن دينهم دين الحياة   لذلك لا بد من تطبيقه في كل مناحي حياتهم وشؤونها ، وفق ما جاء به كتاب الله وسنة رسوله.  قال بعض الحكماء  العلم خادم العمل ،  والعمل غاية العلم   فلولا العمل لم يطلب العلم ، ولولا العلم لم يطلب عمل  ، ولو أن أدع الحق جهلا به ، أحب إلي أن أدعه زهدا فيه ، فالجاهل معذرته أقل من العالم كما قال  أبو الدرداء  " ويل لمن لا يعلم مرة ، وويل لمن يعلم ولا يعمل سبع مرات "

إعمل بعلمك تغنم أيها الرجل   لا ينفع العلم إن لم يحسن العمل

والعلم زين وتقوى الله زينته          والمتقون لهم في علمهم شغل

وحجة الله يا ذا العلم بالغة       لا المكر ينفع فيها لا ولا الحيل

تعلم العلم واعمل ما استطعت به   لا يلهينك عنه اللهو والجدل

وعلّم الناس واقصد نفعهم أبدا       إياك إياك أن يعتادك الملل

وعظ أخاك برفق عند زلته          فالعلم يعطف من يعتاده الزلل

وإن تكن بين قوم لا خلاق لهم    فأمر عليهم بمعروف إذا جهلوا

فإن عصوك فراجعهم بلا ضجر   واصبر وصابر ولا يحزنك ما فعلوا

فكل شاة برجليها معلقة  عليك   نفسك إن جاروا وإن عدلوا

لذا ينبغي للآمر بالخير أن يكون أول الناس إليه مبادرة، وللناهي عن الشر أن يكون أبعد الناس منه قال تعالى:﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ  ﴾ .

 

 

 

 

الإسلام دين السلام

إن الإسلام دين السلام ، وهو ينفي معظم الأسباب التي تثير في الأرض الحروب   ويستبعد الحروب التي تثير القومية العنصرية ، لأنه لا مكان لها في الإسلام   الذي يقرر أن الناس كلهم من أصل واحد ، وخلقوا من نفس واحدة ، وجُلوا شعوبا وقبائل ليتعارفوا ، ويستبعد الحروب التي تثيرها المطامع والمنافع والتي يثيرها حب الأمجاد الزائفة وإن الحروب الوحيدة المشروعة في الإسلام هي التي في سبيل الله . جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : (الرجل يقاتل للمغنم والرجل يقاتل للذكر والرجل يقاتل ليرى فمن في سبيل الله ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ﴿ من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ﴾ .

فالسلم في الإسلام قاعدة والحروب ضرورة لتقرير سلطان الله في الأرض ، ليتحرر الناس من العبودية لغير الله ، ولتحقيق كلمة الله وعدله في الأرض ودفع بغي البغاة ، وما حمل الإسلام السيف إلا ليذود عن مبدأ أساسي من مبادئه وهو مبدأ حرية الدعوة وحرية العقيدة ، فلا سلام للعالم ضمير الفرد فيه لا يستمتع بالسلام ، كما لا يمكن إقرار السلام في جماعة لا يتوفر فيها الأمن والسلامة لجميع الناس ، كما لا يمكن أن تكون هنالك سلاماً بالمعنى الضيق وذلك بتجنب القتال بأي ثمن والسلم الذي يقام على حساب الناس وعلى حساب المبادئ التي أرادها الله لبني الإنسان هو سلم رخيص حذرنا الله منه : ﴿ فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم  ﴾ محمد 35 . إن السلام الذي يرضى عنه الله للشعوب المسلمة هو السلام الذي تُحكم في ظلِّه بما أنزل الله ، وما يعترض المعترضون بعدم صلاحية تطبيق أحكام الله ، إلا خدمة لجهات أجنبية ، أو للغزو الثقافي الذي يسيطر على نفوس فئة عميلة لأعداء الإسلام والمسلمين .

والتاريخ خير شاهد على كذب ادعائهم ، فقد قدم الإسلام يوم كان مطبقاً الخير كل الخير للأمة الإسلامية ، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن إقامة حد من حدود الله أبرك للأرض من أن تمطر أربعين صباحاً .

وذلك لأن إقامة حدود ، توفر للناس الأمن والطمأنينة ، في حياتهم وأعمالهم . ففي مبادئ الإسلام يجد رجال القانون ما يناسب كل ظرف وزمان ، كما يجد الدارس لمبادئه ما يتناسب مع أحوال التي نعيشها اليوم ويعيشها العرب والمسلمون في كل مكان .

إننا نعاصر دعوات السلام ، الخالي من روح العدل والإنصاف ، والذي لا يخرج عن نطاق الادعاء باللسان ، دون أن ينبع من الضمير والوجدان ، انه سلام لصالح شعب دون شعب سلام يتردد على الألسنة للدعاية فقط ، أما حقيقة فاستعداد للبطش والظلم والعدوان وأكل حقوق الناس .

سلام يهدف إلى رفع معنويات الشعوب ، وتحطيم شعوب أخرى ، سلام المصالح و ادّعاءات ودعايات ، فلماذا يستورد دعاة السلام المزيف من أدعياء السلام  وكيف يستبدلون سلام الأرض بسلام السماء . إن أنصار السلام المستورد  يهدفون من وراء سلالهم خدمة الدول الكفر ، أما من يريد مصلحة أمة الإسلام فلديهم السلام الحق ، النابع من رسالات السماء ، لأن المسلمين هم أنصار السلام الحقيقيين أما غيرهم فقد كُشفت أعمالهم أمام العالم . إن الإسلام هو دين السلام ، لا دين الاستسلام ، سلام الأقوياء القادرين الذي يفرض احترامه لا سلام الضعفاء الذي لا يحترمه ولا يلتزم به أحد  

إن مبادئ الإسلام تفرض على المسلمين الدفاع عما أحتل من الأرض من قبل الأعداء ، ويكون الجهاد فرض عين ، والنفير العام فرض على كل مسلم ، حتى تستعاد أرض المسلمين أما السكوت والقعود عن الجهاد لنصرة المبادئ وإنقاذ البلاد فليس سلاما بل هو استسلام ، ولهذا تنظر دول الكفر إلى الإسلام نظرة عداء ويعتبرونه العدو الوحيد بعد سقوط الشيوعية . وبهذا صّرح نيكسون رئيس أمريكا السابق قائلاً : لقد انتصرنا على الشيوعية ولم يبقى لنا عدو سوى الإسلام مع أن الإسلام طريح الأرض لا حول له ولا قوة والأمم الإسلامية متخلفة ضعيفة ومدينه وتشتري خبزها وسلاحها من ي الغرب .

كما أن الإسلام مهدد من أهله ومحارب من داخله ، فكيف يتأتى له أن يخشى بأسه وإسرائيل تطبق قبضتها على أرض المسلمين ؟ كيف وإسرائيل تهدد كل العرب بسوء العاقبة إن فكروا في حرب ؟ كيف والدول الإسلامية تغرق بأوحال الحروب الداخلية والتمويل الأمريكي بالملاين وبالسلاح لجميع الفرق المتحاربة ليقتل بعضها بعضا ؟ وذلك بتدبير مدبر ، وكلنا يفهم من هم المنتفعون بتدمير الإسلام وتشويه اسمه وسمعته ؟ ومن هم أصحاب الإفساد الإعلامي ؟ ومن هم أباطرة صنع الرأي العام وغسل عقول الناس والترويج للفنون الهابطة التي تكتسح عقول الشباب ؟ إنها الصهيونية التي تمتلك الصحف ودور النشر ومحطات التلفاز والأقمار الفضائية وشركات الإنتاج السينمائي ونوادي لعب القمار لقد وصف الله اليهود بقوله : ﴿ ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة ﴾ البقرة 74 . إن اليهود شعب مستكبر في أردية الذل التي كان يرتديها قديما ، فلما تمزقت هذه الأردية وحانت له الفرصة لكي يكشف وجهه وطبيعته  إذا هي طبيعة ذئب مفترس قد هيئنا له الظروف المناسبة لينال غرضه منا على هذا النحو الشافي فجاء قول القائل يناسب واقعنا :

أنصفت مظلوماً فأنصف ظالماً     في ذلة المظلوم عذر الظالم

إن هذا وذاك قد يكون مصداقاً للعلو الدنيوي الذي ذكره القرآن في سورة الإسراء قال تعالى : ﴿ وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتُفْسِدُنَّ في الأرض مرَّتين ولتَعْلُنَّ عُلُّوّاً كبيرا ﴾ . لقد سماه الله علواً بل علّواً كبيرا ، وقد ساعد على هذا العلو حجم الفساد والإفساد وضعف المسلمين وتفرقهم ، لقد عاد اليهود إلى الإفساد في صورة دولة بني إسرائيل ، التي أذاقت العرب أصحاب الأرض الويلات ، وليسلطن الله عليهم من يسومهم سوء العذاب ، تصديقاً لوعد الله القاطع ، ووفاقاً لسنته التي لا تتخلف ... وإن غداً لناظره قريب ، ولا يفوتني في هذا المقام إلى أن أنبه إلى أن الله لا ولن يتولى عنا ضرب اليهود أو دول الكفر التي تتآمر على المسلمين ، وإن صلينا له ودعوناه ورجوناه .

لقد مرّت بالأمة مصائب توقظ النيام ولكنها كالمنافقين قديماً الذين قال الله فيهم   :  ﴿ أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرّة أو مرّتين ثم لا يتوبون ولا هم يذّكرون ﴾  التوبة 126 . إننا لا ننتصر ما دمنا بعيدين عن الإسلام ،وما دام الإسلام مبعداً عن التشريع والتثقيف ، وما دامت الأمة لا تفكر بالجهاد  ولن تكون هناك عزّة ولن يكون هناك نصر إلا يم أن يكون دستورنا كتاب الله وقدوتنا رسول الله ، أما إذا بقيت أمورنا هكذا بين متملق يحرص على الدنيا ومحبٍ للدنيا يسوق الآخرين إليها فلن تصلح أمورنا ، لأننا بحاجة إلى العودة الصحيحة إلى الإسلام ، في الوقت الذي أعرضت الأمة عن الجهاد ، ووجدنا من الشباب من يبحث عن الجنس والإباحية ، وعشرات الألوف منهم يحتشدون في ملاعب الكرة ، بينما الملايين يجلسون أمام الشاشة الصغيرة لمشاهدتها .

إن أمة صبغ الذل وجهها على هذا النحو الشائن ، تبدد جهودها في التسلية واللهو ، وقد فقدت الرجولة والإحساس بالألم والإعداد والاستعداد لقتال الأعداء  إن أمة هذا حالها لن تحرز نصرا إلا بالرجوع إلى الله قال تعالى : ﴿ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيِّروا ما بأنفسهم ﴾ . وإن خلاصنا مما نحن فيه يكمن في التضحية بكل القدرات والطاقات ضد الظلم والطغيان والفساد والعدوان ، وإننا نملك القدرة على ذلك بعددنا وديننا وعقيدتنا وتراثنا ومواردنا ، وما علينا إلا أن نستعملها ، ولا بد أن يتم ذلك في يومٍ من الأيام إن عاجلاً أو آجلاً وما ذلك على الله ببعيد    

 

       

 

 

الإسلام طريق الهداية الحقة

لا توجد الهداية إلا في الإسلام، أما من يزعم أنه يملك الهداية ، وتخليص الناس من الشقاوة والحيرة من أصحاب المبادئ الظالمة الجائرة ، والأديان المحرفة، ومن يدعون ذلك من اليهود والنصارى ، ورجال الفكر والتربية ، وعلماء النفس في الشرق والغرب ، نقول لهم ما فاله الله تعالى : ﴿ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى﴾  البقرة 120  فلا هداية للبشرية من ضلالها وشقوتها ، إلا في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، واستمداد الهداية من غير دين الله الخاتم كفر وضياع  قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ آل عمران 100 ، وإذا صُنَّا هذه الحقيقة التي صرح بها الله ربنا ﴿ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى ﴾ فقد وفرنا على أنفسنا جهوداً كثيرة في تلمس الهداية في الكتب السماوية المحرفة، وفي نظريات البشر وأفكارهم المتضاربة المتعارضة، وسرنا في الطريق المرسوم الذي ينبغي أن ندعو البشرية إليه، ونحاكم علومهم وعقائدهم إليه، تلك هي غاية الدعوة أن يهيمن الإسلام على هذه الحياة في الحكم والتشريع، وفي التعليم والتربية والاقتصاد والسلم والحرب، وأن لا نرضى بغير ذلك، ولا نساوم أبداً في هذه القضية، فإن استجاب الحكام لهذا فوالله إن في ذلك سعادتهم في الدنيا والآخرة، وإن أبوا إلا الأخرى صبرنا حتى يحكم الله بيننا وبينهم، ولكن لن نلتقي في منتصف الطريق، ولن نتنازل عن شيء من دعوتنا، فقد حذرنا الله من ذلك، ونخشى إن فعلنا ذلك أن تمسنا النار، قال الله تعالى محذراً من ذلك: ﴿ وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ﴾ هود 113، وإذا ما طلبوا التقارب بيننا وبينهم -وكلنا سمع بمؤتمرات التقريب بين الأديان _ رفضنا ذلك لأنهم لا يرضون منا إلا أن نتبع ملتهم قال تعالى: ﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ﴾ البقرة 120.وقد أوقف صلى الله عليه وسلم هذا الانحراف بعنف، وقال فيه كلمة الفصل بلا غموض ولا لبس، روى الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن ثابت قال جاء عمر بن الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! إني مررت بأخ لي من قريظة فكتب لي جوامع من التوراة ألا أعرضها عليك؟ قال: فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال عبد الله بن ثابت فقلت له: ألا ترى ما بوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال عمر : رضينا بالله تعالى رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً، قال: فُسريَ عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال : والذي نفس محمد بيده! لو أصبح فيكم موسى عليه السلام ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم، إنكم حظي من الأمم، وأنا حظكم من النبيين) . وهذا دليل على وجوب رفض ما يسمى بمؤتمرات التقريب بين الأديان التي تعقد في شتى أنحاء العالم، ويحضرها علماء مسلمون يبحثون في الالتقاء والتقارب بين الإسلام والنصرانية، ويبحثون في إزالة سوء التفاهم بين الإسلام والنصرانية، إننا نرفض هذه المؤتمرات؛ لأنها تضع الإسلام الدين الحق والنصرانية الدين المحرف الباطل في مرتبة سواء، نرفضها لأن الإسلام جاء مهيمناً على النصرانية وغيرها من الأديان، وليس هناك مجال للتقريب بين دين محرف مغير مبدل وبين الدين الحق . إننا نقف في مجامع النصارى لا لنبحث في دينهم الباطل؛ وإنما لنقول لهم: دعوا هذا الدين الباطل المحرف، ودعوا الشرك والكفر بالله، وتعالوا إلى الدين الذي بشر به موسى وعيسى، وهو دين الله الخاتم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه . إننا نعد قبول علماء المسلمين لعقد مثل هذه المؤتمرات انحرافاً يضربهم وبدينهم وبعقيدتهم، ولا يستفيد منه إلا الذين قالوا اتخذ الله ولداً، لأنهم بذلك يجرونا إلى باطلهم، ويوقعونا في شباكهم، ففي عام واحد عقدت ثلاثة مؤتمرات للبحث في الالتقاء والتقارب بين الإسلام والنصرانية، وقد أمَّ هذه المؤتمرات مئات من علماء المسلمين . ففي شهر إبريل سنة 1974م عقد مؤتمر من هذا النوع في باريس التقى فيه علماء دين سعوديون ورجال فكر أوروبيون للبحث في التقارب بين الإسلام والمسيحية، وزار الوفد السعودي الفاتيكان وألقى هناك محاضرتين، وقد مهد لهذا المؤتمر منذ عام 1972م، وقد وصفت الصحف هذا المؤتمر بأنه مهم . وفي شهر سبتمبر من العام نفسه 1974م انعقد المؤتمر الإسلامي المسيحي في مدينة قرطبة، وقد كانت مهمة هذا المؤتمر تقريب وجهات النظر بين العالمين المسيحي والإسلامي، ودراسة تزايد موجة الابتعاد عن الدين التي يواجهها الشباب المسلمون والمسيحيون، وكذلك السعي من أجل إزالة الخلافات وسوء الفهم الذي قد يكون قائماً بين الدينين بالنسبة للمعنيين بالأمر والرأي العام . وفي شهر نوفمبر من هذا العام أقيم المؤتمر المسيحي الثالث في مدينة تونس، وقد عقد مؤتمر إسلامي في مدينة لاهور في باكستان في شهر فبراير في هذه السنة 1974م، ومع كونه مؤتمراً إسلامياً خالصاً إلا أنه حضره ممثلون مسيحيون من لبنان، وقد أشاد المؤتمر بالتعاون الإسلامي المسيحي، وهذه المؤتمرات لم تكن الأولى ولا الأخيرة فقد عقدت قبلها مؤتمرات وبعدها مؤتمرات على النمط نفسه، وقد تحدث عن شيء من بلايا هذه المؤتمرات الباحث المجيد محمد محمد حسين في كتابه: (حصوننا مهددة من الداخل) عندما كشف عن الزيف والدجل في المؤتمر الإسلامي المسيحي الذي دعت إليه إحدى الجامعات الأمريكية ومكتبة الكونجرس الأمريكي في صيف عام 1953م، ونشرت قسماً من بحوثه مؤسسة (فرانكلين) الأمريكية، كما كشف الأهداف الخبيثة لذلك المؤتمر. إن بعض الذين يؤمون تلك المؤتمرات لا يدركون الدسيسة والمكيدة التي أوقعهم أعداؤهم فيها، وآخرون يعلمون ذلك لكنهم يريدون للإسلام والمسلمين شراً وعندما يوجه إليهم اللوم لا تكون إجابتهم إلا كإجابة إخوانهم من قبل . ومما يعصم العبد في تصرفاته وأعماله في حياته الدنيا: أن يكون خائفاً من ربه سبحانه وتعالى، فيراقب الله جل وعلا في أعماله وتصرفاته؛ لأنه يعلم أن الله ينظر إليه ويراقبه؛ فيخشى غضبه وانتقامه، ويحذر أن يقابل ربه سبحانه وتعالى بمعصية أو إثم فيستحق عذاب الله سبحانه وتعالى . إن المؤمن الصالح التقي دائماً يراقب الله سبحانه وتعالى في كل تصرفاته، ولا يراقبه في صلاته وصيامه وزكاته فحسب؛ وإنما يراقبه في كل عمل من الأعمال، 

 

 

 

مهرجانات الغناء دعوى للإباحية

قال تعالى : ﴿ زُينَ للناسِ حُبُ الشهواتِ من النساءِ  والبنينَ والقناطيرِ المقنطرةِ من الذهب والفضة ﴾ أل عمران14 . النساءُ والبنون شهوةٌ من شهوات النفس الإنسانية ، ذكرها القرآن ثم قرّرَ قيمتها الحقيقية ، لتبقى في مكانها هذا ، ولا  تطغى على غيرها ، قال تعالى : ﴿ ذلك متاع الحياة الدنيا﴾ . إلا أن فريقاً كبيراً من الناس ، أقبلوا على الترف والعمل على تلبية رغباتهم الدنيوية ، ولو على حساب دينهم ، في الوقت الذي تحتاج  فيه الأمة إلى شحذ العزائم ، واستثارة الهمم ، والتذكير بواقع الأمة المؤلم ، وما تلاقيه من الذل والهوان من قبل  الأعداء ، الذين تداعَوا لإلحاقِ الهزيمة بأمتنا   وتحقيق مطامعهم ، واحتلال أجزاء من بلاد المسلمين ، مما جعل الجهاد فرض عين على كل مسلم  في الوقت الذي يُرَوَّجُ فيه للمهرجانات الغنائية ، الخليعة الماجنة ، وإجراء لقاءاتٍ تافهة، مع نساءٍ شبهِ عارياتِ ،  وذلك يُعْرَضُ في تحدٍ سافر لمشاعر المسلمين ، عَبْرَ شاشات التلفزيون ، لتزيين حياة اللهو والمجون والعبث ، الأمر الذي يشكل دعايةً  مسمومةً  خبيثةً ، لأساليب الحياة الغربية ، إضافةً إلى ما  يُعْرَضُ من أفلام ومسلسلات ، بهدف دفع كثير من شبابنا إلى أحضان الرذيلة ، منساقةً إليها بالقدوة السيئة ، والدعوةِ الملحة ، لإثارة الغرائز البهيمية ، وجعلها تتحكم في حياة الناس . إن هذه المهرجانات والأفلام والتمثيليات تعتبرُ  من حيث الفكرة والأسلوب ، نمطاً من الدعوة لحياة الدول الغربية ، مما يدل على أن منظمي هذه المهرجانات ، ومنتجي  الأفلام الخليعة الماجنة  هم من الإباحيين ، الذين يسعون لإفساد الأمة  وكذلك  المجلات الفاجرة ، التي تَعْرِضُ مفاتن النساء ومحاسنهنَّ ، بقصد إثارة الغرائز السافلة وتلقين دروس الغواية ،ِ للغافلين والغافلات من الشباب والشابات  إن امتنا  إزاء هذه الأوضاع الفاسدة ، بحاجة إلى ما يُذْكي فيها روح الجهاد واستعذاب الموت من أجل أهدافها السامية   ورفع شأن الأمة ، في الوقت الذي يحاول أعداء الأمة ، إلهاءها بهذه التوافه ، عن المهمة المطلوبة منها ، بقصد تحطيم المبادئ الإسلامية ، التي تمنع الاختلاط ،وتُنَفِرُ من الفاحشة والتحلل الخلقي  ولن يُخَلِص الأمة من هذا  الضياع ، والذل والهوان، والهبوط المسف ، إلا الإيمان الذي   يقف في وجه هذه التحديات ، ورفع راية الجهاد لاسترداد الحقوق والقضاء على أعداء الأمة ومنع كل ما  يمس دينها وعقيدتها ، من أفلام   وتمثيليات ، وصحافةٍ خليعة ، وكل ما يتنافى مع القيم  والفضائل الأخلاقية  النابعة من تعاليم ديننا الحنيف .

إن دول الكفر لا تحارب أمة الإسلام بالأسلحة الحديثة فقط ، بل تعمد إلى وسائل أخرى خبيثة كالحرب بالألسنة والأفلام ، أو المؤسسات التي يبدو في ظاهرها البراءة ، وفي باطنها العذاب الأليم  كمراكز التعليم ، والمخابرات التي تشتري الصحف والضمائر الميتة ، وتربي الرجال الذين تعتمد عليهم في المهمات القذرة .  ولا يمكن أن يوقف هذه الدول عند حدها إلا الإسلام ، الذي يتولّى قيادة الشعوب ، إلى شاطئ السلام والأمان ن وتحريرها من كل أشكال الاستعمار ، وألوانه الخبيثة ومسالكه الخفية ، التي تكيد للإسلام وأهله .

إن أُمتنا مدعوةٌ اليوم ، أكثر من أي وقت مضى بعد أن ثبت عجز النظم المعاصرة ، عن حل مشاكل الإنسانية , إلى أخذ زمام المبادرة وقيادة الإنسانية من أرباب الظلم ، والانحراف والفساد وقد وعدها الله بذلك ، ولن  يخلف الله وعده  قال تعالى: ﴿ وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات  ليستحلفنهم في الأرض كما  استحلف  الذين من قبلهم ، ولَيُمَكِنَنَ لهم دينهم الذي ارتضى لهم ولَيُبدِلَنَّهُمْ من بعد خوفهم أمنا ﴾ النور 55 .

إن أمتنا مكلفةٌ بتحقيق الاستحلاف في الأرض  لأنها أمة الفضائل ، وأمةُ الدعوة إلى الخير ، أمةُ صيانةِ الأخلاق ، و أمةُ العدلِ والإحسان ، وسيتحقق ذلك إن شاء الله ، وسيبلغُ هذا الدين ما بلغ  الليل والنهار .

إن الجهود والمواعظ الفردية ، التي تسمع من هنا وهناك ، لا تكفي ولا تجدي نفعاً ، إلا إذا قامت الدولةُ بواجبها في تطبيق منهج الله ، وتربية الأمة على الالتزام بالأوامر والنواهي ، التي جاءت  بها شريعة الله ، وتطبيق العقوبات الرادعة على المخالفين ، لأن أهمية الدولة تأتي من أنها تمثل القوة التي لا بديل  عنها ، لردع المخالفين المنحرفين ، وإسناد الحقوق إلى أصحابها ورد المظالم ، وتحقيق الأمن والسعادة والسلام لبني الإنسان .

إن الأمة بحاجةٍ إلى دولة ،  تخضع  فيها النظم والقوانين إلى الشريعة السماوية ، وأن تكون وظيفتها شاملةً سياسياً واقتصادياً وأخلاقياً وحضارياً ، باعتبارها ممثلةً لاتجاهات الحياة البشرية ونشاطاتها  لأن الحياة كلٌّ لا يتجزأ وفصل الأجزاء ، يعني زعزعتها ، الأمر الذي يُلْحِقُ الضرر بالأمة ، كما  هو الحال هذه الأيام . إن أي دعوى تدعوا إلى حصر وظيفة الدولة  بناحيةٍ معينة في الحياة ، تجانب الفطرة والصواب ومن هنا فإن تربية الأجيال ، يحب أن تُبنى على الأسس التي  قررها الإسلام ، وأي دعوى تدعو إلى إبعاد الإسلام ، عن مجالات الحياة المختلفة ترتكب خطأً جسيماً، بل جريمةً كبرى في حق الأمة ، لأن هذه الدعوى تقف عائقاً أمام تربية  الأمة حسب  الشريعة السماوية ، التي استوعبت الحياة الإنسانية في كلّ المجالات .

إن القول بترك التمسك الكامل ، بأحكام الإسلام ، يعني أن قسماً كبيراً من المبادئ الإسلامية  سيتعطل عن التطبيق ، حيث لا يجد المسلم ، الجوَ الذي يستطيعُ فيه تنفيذ أمر الله والتقيد بأحكام شريعته.

وإذا ما ادَّعى جاهل أو متجاهل ، بأن المشاكل الحضارية قد تعقدت ، بحيث لا يستطيع معها الإسلام ، أن يقدم حلولاً تتوافق مع روح العصر  إن من يقول ذلك لا يفهم أصول الإسلام ، ولم يكلف نفسه دراسة شريعته ، وسرَّ خلودها وحتى  لم يطلع  على الأقل ، على الدراسات الحديثة التي عرضت الإسلام من مصادره الحقيقية ، فأثبتت فعاليته العظمى ، في إمداد الحضارة بكل خيٍر وفضيلة وتأمين اتزانها واستقرارها .

لقد أثبتت الشريعة الإسلامية صلاحيتها ، لتحكم ثلاثة أرباع العالم ،كنظام قانوني شامل ، ولم يكن انحسار مجال تطبيقها ، راجع إلى قصور في أحكامها ، بل إلى أسباب منها ، ما قام به الغرب من فرض قوانينه ، وإحلالها محل الشريعة الإسلامية . إن امتنا بحاجة  إلى إصلاح جذري شامل ، ولن يكون ذلك  على أيدي أفراد متحللين متفسخين بل على أيدي أبطال يتحسسون أمال الأمة ويسترخصون البذل من أجل عزتها ورفعتها وحسبنا في ذلك قول الله تعالى : ﴿ إن الله لا يغيرُ ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ﴾ الرعد 11.

 

 

من أرضى الله بسخط الناس

   أخرج الترمذي في الزهد بإسنادٍ صحيح عن رجل من أهل المدينة قال : كتب معاوية رضي الله عنه إلى عائشة رضي الله عنها أن اكتبي لي كتابا توصيني فيه ولا تكثري علي ، فبعثت عائشة رضي الله عنها إلى معاوية : سلام الله عليك أما بعد فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤونة الناس-أي شر الناس وأذاهم- ومن التمس رضا الناس- أي طلب - بسخط الله وكله الله إلى الناس)  ذكر الحديث طريقين لا ثالث لهما . طريق من التمس رضا الله تعالى ولو سخط عليه الناس ، وهو طريق ينبع من توحيد العبد لربه عز وجل ، إذ ليس للإنسان أن يتوجه إلا لله فلا يخاف إلا إياه ، ولا يرجو سواه ، ولا ينطلق في حياته إلا طلبا لرضاه في كل حركاته وسكناته في كل معاشراته ومعاملاته ، فينفذ ما أمر الله تعالى به ولا يلتفت في ذلك لمدح مادح أو ذم ذام ، ولا يضع في نفسه وهو يرضي الله عز وجل أدنى حساب لسخط أحد من الخلق أو رضاه مهما كلفه ذلك . وطريق من لم تخلص نفسه لله عز وجل ، وهو طريق ضعاف الإيمان ومن اهتزت عقيدتهم فهو يبحث عما يرضي الناس ويفعله ، وعما يعرضه لسخطهم فيتركه ، ولو كان ذلك على حساب دينه ، ولو كان في ذلك ما يسخط ربه عز وجل لأن المهم عنده ألا يخسر الناس وألا يكون في موضع نقمتهم وغضبهم . وهنا مكمن الداء لأن الإنسان لابد له أن يتعامل مع الناس ويعيش بينهم ولكنه يعيش بمنهج الإسلام موحدا لله عز وجل مطبقا لحدوده   فكثيرا من الناس حوله ينحرفون ويفجرون ويظلمون ويتعدون حدود الله تعالى ، وعليه أن ينكر ذلك وأن    يحارب تلك المنكرات والمخالفات حتى لو تعرَّض للضغوط وطلب منه أن يسكت أو يوافقهم على انحرافهم كما هو حال المسلم الذي  يعيش في المجتمعات المنحرفة وبين الضالين الظلمة والأسر الغافلة ، يسعى بينهم فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويجاهد لإقامة منهج الله في الحياة فيتعرض للمضايقة والمطاردة بجريمة الإنكار على ما اعتادوه من المنكرات ، ويواجه الاستهزاء والتهديد أو التعذيب أو السجن أو المحاربة في الرزق ، وهنا يقف المسلم ممتحنا أمام الطريقين اللذين لا ثالث لهما إما أن يرضي الله عز وجل ولا يبالي بسخط الناس وأذاهم ، فيسير مستقيما لا يميد ولا يحيد ، وإما أن يرضي الناس فيوافقهم على انحرافهم وضلالهم ويتميع معهم ليتجنب بطشهم أو سخطهم   فيسخط الله سبحانه والمسلم الحق عندما تظهر المنكرات ويعم الفساد والطغيان   يجب عليه الإنكار والتغيير وبيان الحق للناس لأنه لا يفكر إلا فيما يرضي الله عز وجل فيحارب الباطل ويفضح الظالم  وأقل درجات إنكار المنكر الإنكار بالقلب ، وليس وراء ذلك إيمان جاء في الحديث ( فمن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ) .

ومن الناس من يسير في ركاب الظالمين فيرضيهم طمعا بما عندهم أو خوفا من بطشهم ونقمتهم ، فلا يأمر ولا ينهى  يبيع دينه بعرضٍ من الدنيا ، وكم سمعنا من فتاوى لعلماء في وسائل الإعلام من صحف ومجلات وإذاعات عندما يسألون عن أمور قد تخفى على كثير من الناس كحكم فوائد البنوك وشهادات الاستثمار وتلك القوانين الوضعية التي يُكَبّلُ بها المسلمون أو تلك الموالاة الصريحة لليهود والنصارى  فتجدهم يداهنون ويدورون في فتواهم حول الحق ، بل قد تجد الفتوى الواحدة في المسألة الواحدة تتغير وتتبدل إذا طلب منه ذلك وكم شاهدنا وقرأنا لمن يكتب في تحريم الربا كله عاما ، ثم يكتب في حله كذلك عاما آخر  ورأينا من بارك الفجور وإشاعة الفاحشة بين الناس حتى لا يقال عنه متخلف أو متحجر ، وحتى لا يتهمه أرباب الصحف في مقالاتهم بأنه يعيش بعقلية القرون الوسطى . ومن الصور الخطيرة التي يقف الإنسان فيها ممتحنا ، إما أن يرضي الله عز وجل ، وإما أن يرضي الناس ما يحدث لبعض الدعاة عندما يتعرضون  للضغوط ، فيساوموا الدعاة للتنازل عن بعض الأمور أو السكوت عنها أو إيجاد خط مودة بينهم ، مقابل السماح لهم ببعض الحرية . وكثيرا ما تضعف نفوس وتزل الأقدام أمام تلك الضغوط والإغراءات ، أضف إلى ذلك ما يدب في قلوبهم من ملل بسبب طول العداء وكثرة الأذى ، فيميل البعض إلى المصالحة والمداهنة في أمور الدعوة   فيقدمون رضا الناس على رضا الله عز وجل  ويخطئون الطريق ، فالله عز وجل لا يرضى بالمداهنة في دينه ، ولا يرضى بأنصاف الحلول أو أن يتصافح الحق مع الباطل أبداً . ولعل من الصور التي يقف فيها المرء ممتحنا ، إما أن يرضي الله عز وجل أو يرضي الناس ما يحدث للشباب عندما يُضْغَطْ عليهم بأمرٍ فيه معصية لله عز وجل أو عندما يطلب الأصدقاء من صديقهم ألا ينكر عليهم بعض المخالفات التي يرتكبونها وألا يزعجهم بنصائحه وإلا قاطعوه . إن تلك الصور وغيرها كثيرة لو تأملناها لوجدنا الناس أمامها ينقسمون إلى قسمين : قسم لا يفكر إلا في رضا الله عز وجل  وقسم تضعف نفسه أمام الضغوط . وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم  لنا عاقبة كل طريق ونهايته . أما الطريق الأول فقد قال صلى الله عليه وسلم : (من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه  الله مؤونة الناس) فبين أن الله تعالى تكفل وتعهد بحفظ من يطلب رضاه ويقدمه على رضا الناس كما قال تعالى في كتابه الكريم : ﴿ أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فما له من هاد ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذي انتقام ﴾  يعني أنه سبحانه وتعالى يكفي من عَبَدَه وتوكل عليه ويخوفونك بالذين من دونه يعني المشركين يخوفون الرسول صلى الله عليه وسلم ويتوعدونه بأصنامهم وآلهتهم التي يدعونها من دون الله جهلا منهم وضلالا  فالله يحفظ من لجأ إلى بابه لأنه العزيز الذي لا أعز منه ولا أشد منه انتقاما .

قال ابن تيمية : " وكل من أرضى الله بسخط الناس كان قد اتقاه وكان من عباده الصالحين الذين يتولاهم الله " . وقال ابن القيم : " فمن هداه الله وألهمه رشده ووقاه شر نفسه امتنع عن الموافقة على فعل الحرام وصبر على عداوتهم – أي عداوة المنحرفين والظالمين من الناس – ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة كما كانت الرسل وأتباعهم كالمهاجرين والأنصار ومن ابتلي من العلماء وصالحي الولاة والتجار وغيرهم"   لقد كان علماء السلف الصالح يضربون الأمثلة الرائعة في الثبات أمام طغاة الناس ، وكان نتيجة هذا الثبات أن أكرمهم الله عز وجل بالنصر أو بالشهادة استدعى عمرو بن هبيرة والي العراق الحسن البصري والإمام الشعبي ليسأل عما يبعثه إليه الخليفة من أوامر تحتوي على ظلم هل ينفذها أم لا فسُأل عمرو الشعبي في هذا الموقف أولا ، فقال كلاما يرضي الوالي ، والحسن البصري ساكت ، فلما انتهى الشعبي من كلامه التفت عمرو بن هبيرة إلى الحسن وقال : وما تقول أنت يا أبا سعيد ، فوعظه الحسن البصري موعظة قوية أمره فيها بالمعروف ونهاه فيها عن المنكر ، ولم يداهن أو يواري فقال فيما قال : يا ابن هبيرة خف الله في يزيد ، ولا تخف يزيد في الله واعلم أن الله عز وجل يمنعك من يزيد وأن يزيد لا يمنعك من الله ، يا ابن هبيرة إنه يوشك أن ينـزل بك ملك غليظ شديد لا يعصي الله ما أمره فيزيلك عن سريرك هذا ، وينقلك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك حيث لا تجد هناك يزيد ، وإنما تجد عملك ، يا ابن هبيرة إنك إن تك مع الله تعالى وفي طاعته يكفك بائقة يزيد في الدنيا والآخرة  وإن تك مع يزيد في معصيته فإن الله يكلك إلى يزيد ، واعلم يا ابن هبيرة أنه لا طاعة لمخلوق كائنا من كان في معصية الخالق عز وجل ، فبكى ابن هبيرة حتى بللت دموعه لحيته  وأكرم الحسن البصري إكراما شديدا  ولم يلتفت إلى الشعبي فلما خرج الحسن والشعبي وذهبا للمسجد واجتمع الناس ليعرفوا خبرهما التفت الشعبي للناس بعد أن تعلم درسا هاما تعلم ألا يرضي أحدا دون الله تعالى بعد ذلك قال : يا أيها الناس من استطاع منكم أن يؤثر الله عز وجل على خلقه في كل مقام فليفعل  فوالذي نفسي بيده ما قال الحسن لابن هبيرة قولاً لا أجهله – يعني كنت أستطيع أن أقول مثل ما قال الحسن – ولكن أردت فيما قلت وجه ابن هبيرة ، وأراد الحسن فيما قال وجه الله " .  ولو تأملنا موقف الدعاة أمام الضغوط والتهديدات لوجدنا إمام الدعاة صلى الله عليه وسلم قد تعرض لضغوط ومساومات عديدة ليتنازل عن بعض أمور الدعوة كما قال سبحانه : ﴿ ودوا لو تدهن فيدهنون  ﴾  أي ود الكفار لو تدخل معهم يا محمد في مجال المساومة على الدين ولكن الرسول  صلى الله عليه وسلم كان حاسما في موقفه حتى وهو في أحرج الأوقات وأشد الأزمات وهو محاصر بدعوته وأصحابه يعذبون ويتعرضون للأذى لم يحاول أن يرضي الكفار ولو بكلمة واحدة تسخط الله عز وجل ، وكانت النتيجة أن فتح الله عليه ونصره وأيده وأعزه وأعز المسلمين ، ولو مال الرسول صلى الله عليه وسلم  إلى الكفار قليلا أو أرضاهم وهذا مجرد افتراض فقد قال الله عز وجل : ﴿ وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذاً لاتخذوك خليلاً ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً  إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا ً﴾ . إن الله عز وجل يصون ويرضي من يقدّم رضاه على رضا الناس وليس شرطا أن لا يؤذى أو يعذب فقد يؤذى المسلم لحكمة يعلمها الله عز وجل كأن يكون تكفيرا لسيئاته أو رفعا لدرجته أو لينال الشهادة وما أعظمها منـزلة كما في الحديث الحسن: (سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه، فقتله) . أما عاقبة من يقدم رضا الناس على رضا الله عز وجل فهي الخيبة والخسران يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( ومن التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس ) ومن وكله الله تعالى للناس وقع في المهالك ، وتخطفته الخلائق ، وأصابه الخذلان ، وتجرأ عليه كل إنسان ، بل أكثر من ذلك ، قد ينقلب الذي كان يسعى لإرضائه فيصير له عدو ، كما جاء في قول للسيدة عائشة رضي الله عنها : " من أرضى الناس بسخط الله عاد حامده من الناس له ذاما ". وكما ضرب الإمام ابن القيم في ذلك مثلا برجل متدين تقي حل بين قوم فجار ظلمة ، لا يتمكنون من فجورهم ، إلا بموافقته لهم أو سكوتهم عنه ، فإن وافقهم أو سكت عنهم سلم من شرهم في الابتداء ثم يتسلطون عليه بالإهانة والأذى وأضعاف ما كان يخاف لو أنكر عليهم وخالفهم ، وإن سلم منهم فلابد وأن يهان ويعاقب على يد غيرهم . وقال ابن تيمية : " والسعادة في معاملة الخلق أن تعاملهم لله فترجو الله فيهم ولا ترجوهم في الله ، وتخافه فيهم ولا تخافهم في الله " قال تعالى : ﴿ أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين  ﴾ .

 

 

 

 

 ش

 

مفهوم الهجرة

قال تعالى : ﴿ إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسِهِمْ قالوا : فيم كُنْتُمْ ؟ قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا : ألم تكن أرض الله واسعةً فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنَّمُ وساءت مصيرا ﴾ النساء97 . إن الإسلام يحرِّم الاستخذاء على أُمته  ويحظر عليهم قبول الدنية  والإقامة على الضيم ، لأن من سهل عليه الهوانُ ولان ظهرُهُ للأوزار ، فهو بذلك يرشحُ نفسه للنار وبئس القرار .

وإذا كانت هناك رخصةُ للمسلم أن يهاجر  فليهاجر إلى دارٍ يأمن فيها على دينه  ويجهر فيها بعقيدته ، ويحيا حياةً إسلامية في ظل شريعة الله  هذه هي الهجرة المعتبرة في الإسلام ، ليست هجرةً للثراء ، أو للنجاة من المتاعب أو هجرةً للذائد والشهوات ، أو لأي عرض من أعراض الحياة ، إنها الهجرة لإقامة شريعة الله في الأرض  وإلى دار تتخذ المنهج الإسلامي ، منهجاً للحياة  لأن الإسلام يحرِّم علينا ، أن نهادنَ قوى الكفر في الأرض ، وأن نعاون على الإثم والعدوان ، قال تعالى : ﴿ الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله ، والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت ﴾ النساء 76 . إن الإسلام يحرِّم علينا أن نمدّ أيدينا إلى الذين يؤذون المسلمين ، ويخرجونهم من ديارهم  ويظاهرون على إخراجهم ، قال تعالى : ﴿ إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم ، وظاهروا على إخراجكم ، أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون ﴾ الممتحنة 9 . إنها دعوة تحريرية تبدأ في ضمير الفرد    وتنتهي في محيط الجماعة ، ولا يلبى هذه الدعوة إلا المؤمنون ، الذين يجاهدون لتكون كلمة الله هي العليا ، وذلك يرفع الظلم والبغي عن الأمة .

أما الذين يبصرون الظلم ولا يحركون يداً أو لساناً  ويقصرون أعمالهم على الهمهمة بالأدعية  والتمتمة بالتعاويذ ، منتظرين أن تمطر السماء على الأرض صلاحاً وخيراً ، وحرية وعدلا ، فتلك هي الجريمة وذلك هو الخسران المبين ، لأن الله لا يمكن أن ينصر قوماً لا ينصرون أنفسهم ، ولا يلتزمون بشريعتهم .

إن أناساً هذا حالهم ،لم يعمرِّ الإيمان قلوبهم ، لأنه لو عمرها ، لانقلبوا مجاهدين للبغي والطغيان   ولا يمكن بحالٍ من الأحوال ، أن يمدّ المسلم الذي عمّر الإيمان قلبه للأعداء يدا ، أو يقدم لهم عونا  أو يُهادنَهم ، أو يكف عن حربهم ، وإنه لخائن لدينه قبل أن يكون خائناً لأمته ، كل من لا يعادي ملة الكفر ، ولا يشن عليهم حرباً فيما استطاع ، لأن الله يخاطب عباده قائلاً : ﴿ وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله ﴾ النساء 75 . نقاتل من اغتصب أرضنا ، واعتدى على مقدساتنا وسَخِرَ من عقيدتنا ، نقاتلهم لا نعاهدهُمْ ونصادقهُمْ ونحالفهُمْ ونَقِف لهم رداءاً وسترا . إن الإسلام يدعونا ، لأن نكون أمناء على تحقيق العدل في الأرض كلها   والعمل على منع الجور ورد الطغيان ، تحقيقاً لكلمة الله ، وحيثما كان ظلمٌ وبغي ، فالمسلمون مدعوون لدفعه ورفعه ، ولا يكون ذلك إلا بتحكيم منهج الله  وإقامة مجتمع على أساس العقيدة الصحيحة ، الحاكمية فيه لله وحده ، لا لفردٍ ولا لجماعة ، مجتمع ليس للحاكم فيه حقوق زائدة على حقوق بقية أفراد الأمة  مجتمع ليس فيه أشخاص فوق القانون  فالكل أمام القضاء سواء ، لا فرق فيه بين الإنسان العادي ، أو الأمير أو الوزير لا استعلاء ولا تمييز ، مجتمع يقيم علاقاته الدولية على أساس المسالمة ، والمودة بينه وبين كل من لا يعادونه  ويحارب المعتدين المفسدين الظالمين .

إن ديناً هذا منهجه وهذه سياسته ، يخافونه ويحاربونه ، ويقفون في طريق تحقيق منهجه   الذي يختلف في طبيعته ، وفكرته عن الحياة  ووسائله في تصريفها ، عن النظم المطبقة في كل دول العالم ، والتي لم تحل المشكلات التي تواجه شعوبهم ، وعندما أخذنا قوانينهمْ ومناهجهمْ  ازدادت مشاكلنا وانحرافاتنا ، والتي كثيراً ما يُستفتـى الإسلام فيها ، ويُطلب لها حلولاً ، مما يدعوا للعجب ، أن يستفتـى الإسلام في مشكلات لم ينشئها ولم يشترك في إنشائها .

والغريب أن الذين يستفتون الإسلام ، ناس لا يرضون له أن يحكم وأن يُطبق ، والأغرب من ذلك أجوبة رجال الدين ، حول رأي الإسلام وحكمة ، في تلك الجزئيات وترك الأساسيات  فمالنا بالمشاكل والنظم التي لا تمت إلى الإسلام بصلة ، نظم لا تطبق أحكام الإسلام ، ولا ترضى له أن يحكمها ، فلماذا إذن نطلب حكم الإسلام في هذا الاتجاه ، ونُحرِّمه في اتجاهات أخرى  فالإسلام كلٌّ لا يتجزأ ، فإما أن يؤخذ جملة أو يترك جملة ، لأن الالتزام بأحكام الشريعة كاملة الخير كلُّ الخير للأمة ، أما الترقيع بالشاذ والغريب من أنظمة الكفر ، التي كانت وما زالت الخصمُ الأكبر للأمة الإسلامية ، فهو الصدود عن دين الله الذي نتمنى أن تسير الأمة على خطاه . هناك فرق بين من هجر دين الله ، وبين من يقاتل لتحقيق منهج الله وإقرار شريعته ، وإقامة العدل بين الناس باسم الله ، اعترافاً بأن الله وحده هو الإله   ومن ثم فهو الحاكم ، وبين الذين انحرفوا عن المنهج ، يطبقون شريعةً غير شريعة الله  أولئك وصفهم الله بأنهم أولياء الشيطان ، الذين أمر الله المؤمنين أن يقاتلوهم قال تعالى : ﴿ فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا ﴾النساء 76

 

 

مفهوم الجهاد والسلم

قال تعالى : ﴿ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنه ، ويكون الدين كله لله ﴾ الأنفال 39 . وقال : ﴿  إلا تفعلوه تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ كبير ﴾ الأنفال 73 .

إن الإسلام ليس مجردَ مجموعةٍ من العقيدة الكلامية ، وجملةٍ من المناسك والشعائر ،كما يفهم من معنى الدين في هذه الأيام . إنه نظامٌ كليٌ شامل   يقضي على سائر النظم الباطلةِ الجائرةِ في العالم ويقطعَ دابرها ، ويستبدلَ بها نظاماً صالحاً ومنهاجاً معتدلاً خيراً للإنسانية منها  ذلك لأن فيه نجاةً للجنس البشري ، من أدواءِ الشرِّ والطغيان ، وفيه السعادة في الدنيا والآخرة .

إنه نظامٌ يشمل الدين والدنيا ويدعو البشر جميعاً إلى كلمة الله وإلى الوقوف عند حدوده ، ويمنعهم أن يطغوا في الأرض ، ويوجههم الى الدخول في كنف حدود الله التي حددها لهم ، وإلى أن يكفّوا أيديهم عما نها الله عنه ، ويحذرهم من أن يسلموا أمرهم لغير دين الله ، فإن أسلموا لأمر الله ودانوا لنظام الحق والعدلِ الذي أقامه للناس ، فذلك خيرٌ وبركه ، ولهم الأمنُ والدعة والسلام ، لأن الإسلام لا يعادي أحدا ، وإنما يعادي الجور والفساد والفحشاء ، وإن وجد مظلوم فمن الواجب أن يُنْتصر له ، وتُسْتَرد له حقوقه المغصوبة ، التي استبد بها الطغاةُ بغياً وعدواناً  وبهذا نطق القرآن : ﴿ وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين ﴾ النساء 75 . إن الإسلام يوجب على الجماعة المسلمة أن تدفع بالقوة من يتعرض لها بالأذى والفتنة ، ضماناً لحرية العقيدة ، وكفالةِ الأمن لمن هدى الله  وإقراراً لمنهج الله في الحياة ، وتحطيماً للقوى التي تعترض طريق الدعوة ، وفي حدود هذه المبادئ كان الجهاد في الإسلام ، يأمر به ويُقِره ويُثيبُ عليه ، ويعتبرُ الذين يقتلون فيه شهداء  

لذلك كان لابد للإسلام من نظام ، ولا بد له من قوة ، حتى تكون له هيبته وصولته في نفوس أعدائه ، وفي الدفاع عن معتنقيه ، وتوفير الأمن والحماية لهم  وفي هذا الصدد يقول على بن طالب رضي الله عنه : " أما بعد فإن الجهاد بابٌ من أبواب الجنة ، فتحة الله لخاصة أوليائه ، وهو لباس التقوى ودرع الله الحصينة  وجُنتّه الوثيقة  فمن تركة رغبة عنه ، ألبسة الله ثوب الذُل وشَمْلةَ البلاء " .

إن الواقع الفاسد المنحل الذي تعيشه مجتمعاتنا هذه الأيام يؤلمنا ، بعد أن وقفنا لا نقوى على دفع القضاء وردِّ البلاء ، والذود عن كرامتنا ومستقبل أمتنا ، حيث يبني أعداؤنا ونهدم  ويدنسون مقدساتنا ويحتلون أرضنا ، ويشردون ويضايقون أهلنا ، بالمطاردة والتجويع والسجن  ولا حيلة لنا أمام صلفهم وكبريائهم ، إلا أن نلقاهم بالشعارات والمهاترات ، ونزيف الدم العربي بالأيدي العربية ، حتى أصبحنا نَلمْسُ بأن أبناء ديننا ، يقومون بوظيفة أعدائنا ، في الملاحقة والاعتقال والسجن ، إرضاءً لرغبة عدونا وخدمةً له .

إن أعداءنا يخططون لعشراتٍ من السنين القادمة ونحن نجترُّ مآسينا ، ولا عمل ولا تخطيط ، حتى أصبحت أُمتنا ضائعةً مشلولة مفككة الأوصال  لأنها تنكرت لماضيها ، وأنكرت حاضرها ولعنت مستقبلها ، لدرجة أن الكوارث والأزمات أصبحت ، لا تحرك همةً ولا تثير عزيمة ، لقهر العدوّ الجاثم على أرضنا ، فلماذا لا نجمعُ قوانا ونعبئ طاقاتنا ، ونوحِدُ صُفُوفنا ونعلن الجهاد في سبيل الله ، ونستعلي على مِتَع الدنيا ، ونستخِفُ بوعيد العدو لوعيد الله .

قيل لأعرابي : أيما أحبُ اليك أن تلقى الله ظالما أو مظلوما ؟ قال : ظالما قيل له ويحك ولم ؟ قال ما عذري إذا قال لي ربي خلقتك سوياً قويا فلم لا تستعد ؟ .

وكان الواحد من السلف يخرج وحده للقاء جيش بكامله ، فيخشى علية صَحْبُه من هلاكٍ مؤكد  فيجيئونه بابنه ، عسى أن يراه فيحن اليه فيثنيه عن عزمه ، أتدرون ماذا كان يقول ؟ هل يتخاذل أو يتقاعس ؟ أم يختلق لنفسه المعاذير؟  وهل يتخلف عما يراه جهاداً في سبيل الله ؟ لا إنه ليس بهذا ولا ذاك ، بل كان يقول لمن جاءوه بابنه رجاء أن يثنوه عن حلمه الذي يعيش من أجله ويموت من أجله "والله يا قوم إني إلى طعنةٍ نافذةٍ  أتقلب فيها على كعوب الرماح ، احبُّ إليَّ من ابني ". والله لقد عقمت أمة المائة مليون أن تخرِّج لنا عدداً من أمثال هؤلاء ، ولو وُجِدَ أمثالهم لما كنا نذِلُ لإسرائيل ، ولما كنا نأكلُ خزياً ونشربُ هوانا ، ونتزاحمُ تحت أقدام الأعداء ، نستجدي مساعدتهم وعطفهم ، وإسرائيل تضرب بعرض الحائط  بالقرارات والإدانات الصادرة من هنا وهناك ، فطمعت فينا أمم الأرض ، وما قيمة هذه الكثرة العربية المسلمة ، إذا كانت كثرة بلاء وجُفاء وهباء ؟  ثم ما جدوى الفئة الكبيرة الجاحدة ، إزاء الفئة الصغيرة المؤمنة المتراصّة ؟ .

ألا نحس بالصغار والدونية عندما تغلبت فئتنا القليلة على دولتي الفرس والروم  يوم كنا نعوذ بإيماننا من غلبة الذل ، ونجاهد في سبيل الله ، ثم يصير حالنا إلى ما نحن فيه . ألا يُخزينا أننا أبناء أولئك الذين وضعوا نصب أعينهم ، أن يجاهدوا لإعلاء كلمة الحق ، ونحن المائة مليون ونملك من الأموال أموال قارون   نَقبلُ بعذاب الخزي في الحياة الدنيا . إن ما نراه من تفتت مجتمعنا بين يمين ويسار وتقدمي ورجعي  وبين من يرون قضايانا تجارةً وانتفاعاً  وبين من يرونها قدرا‍ً ومصيرا ، وبين من يجعلونها سلعة في سوق المساومات الدولية ، ومن  يعتنقونها مبدءاً وغاية . الأمر الذي يضعنا أمام قدرٍ محتوم وتحد مخيف ، فإما أن نكون فقدنا القدرة على البقاء  وإما أن نصمد بطاقاتنا الكامنة ، وحوافزنا الروحية ، ومقوماتنا الحضارية  لذا كانت معركتنا مع عدونا خاسرة ، لأن منا من  تنكر لإسلامه وتآمر عليه مع المتآمرين . إن الناظر إلى المجتمعات الإسلامية ، يجد أن سبب الكوارث التي حلت بها ، ترجع إلى التيارات الحاقدة ، والتي تذل أمام عدوها وتستأسدُ على شعوبها ، في الوقت الذي فقدت فيه القدرة على مواجهة مسؤولياتها . فهي مجتمعات ممزقة متفرقة  والعدو الجاثمُ على أرضنا بخير، بل ويُشْغَلُنا عن مواجهتة بأمورٍ جانبية ،كمؤتمرات السلم والسلام  ورياضة كأس العالم ، بدل الإعداد للجهاد والقتال الذي هو جزء من ديننا وإيماننا وعماد وجودنا ، على العكس مما يفعله أعداؤنا .

إن طبيعة السلام في الإسلام ليس سلاماً بالمعنى الذي يفهمونه ، بترك القتال على حساب المبادئ التي أرادها الله في الأرض لبني الإنسان ، وهذا ما حذَّرنا الله منه فقال : ﴿ فلا تهنوا وتدعوا إلى الله السلم وانتم الأعلون والله معكم ﴾محمد 35 ، قال الأعلون لأن المسلمين يمثلون الصورة العليا للحياة ، والتي لا بد لها من النصر ، حين يؤمنون بها تحقيقاً لوعد الله : ﴿ إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم﴾ وقوله تعالى: ﴿ ولينصرن الله من ينصره إن الله لقويٌ عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور ﴾ الحج 40 .  إن حملة الإسلام في جهاد دائم لا ينقطع أبدا  لتحقيق كلمة الله في الأرض ، وهم مكلفون ألا يهادنوا قوى الطاغوت على وجه هذه الأرض  وألا يفتروا عن مجاهدتها ما استطاعوا ، وألا يعاونوها ويقفوا في صفها بحال من الأحوال قال تعالى: ﴿ ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ﴾ .

 

 

مفهوم الجباية والهداية

الهداية لغةً : الدلالة والإرشاد ، وفي الاصطلاح : سلوك الطريق الذي يوصل الإنسان إلى غايته  وهي إتباع شرع الله ، أما الجباية : فهي مبلغ مالي تتقاضاه الدولة من الأشخاص والمؤسسات بهدف تمويل نفقاتها .

وميزان الأشياء عند الذين يتبنون مفهوم الجباية ، هو تضخم الميزانيات ، وتكثير الدخل والإيرادات ، ورفاهية الرجالات ، الذين يتولون المناصب المختلفة في الحكومات ، همهم جمع الأموال ، وببناء القصور الفاخرة وامتلاك السيارات   وأفخم العقارات ، وإيداع ألفائض في البنوك في الحسابات ، على حساب فرض الضرائب والأتوات ، والهيمنة على الموارد والشركات .     

أما الذين يصرفون جهدهم للجباية لا للهداية  وللانتفاع لا للنفع ، فعنايتهم مصروفة إلى فرض الضرائب وجمع الأموال ، ولو على حساب الأخلاق والفضائل في المجتمعات ، فتبيح أنواعاً كثيرة من الخلاعة والفجور ، فينحط مستوى الأخلاق، وتنتشر عدوى الأمراض الخلقية المنتشرة في الأقطار الأوربية ، التي تحمل مفاسد الحضارة الغربية ، ولأرباب الجباية، طابع خاص ونفسية خاصة ، لأن ميزان الأشياء ومناط الأحكام عندهم ، هو تضخيم الميزانيات ، وكثرة الدخل والإيرادات ، وان كان ذلك بامتصاص دماء الفقراء ، وفرض الضرائب المجحفة ، ورفع الأسعار وفرض الأتوات .  أما شعار أرباب الهداية : فهو الدعوة إلى تطبيق منهج الله ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر  والدعوة إلى مكارم الأخلاق ، ومنع الخمور وتحريم الفجور ، ومطاردة المفسدين . روي أن عمر بن عبد العزيز خليفة المسلمين قال لعامله مرة : ( ويحك إن محمداً صلى الله عليه وسلم بُعِث هادياً ولم يُبْعَثْ جابياً ) وهذه الجملة تعرب عن روح الحكومة الدينية ، التي تتأسس على منهاج النبوة ، وتسير على آثار الأنبياء وخطاهم ، فتكون عنايتها واهتمامها بالدين ، وبإصلاح أخلاق المحكومين ، وبما يعود عليهم بالنفع والضرر في الآخرة ، أكثر من اهتمامها بالجباية والخراج    والإيرادات ،وتنظر في جميع المسائل السياسة  الاجتماعية والمالية بما يتفق مع المبادئ الدينية والخلقية ، واجتناب المحرمات والمعاصي ، فتمنع الخمر ، وتحرم الزنا وأنواع الخلاعة والفجور ، والعقود المالية الفاسدة ، النافعة للأفراد ، المضرة بالمجتمع ، وتحظر الربا والقمار ، وتعنى بتهذيب النفوس ، وسمو الروح ، والتحلي بالفضائل ، والإقبال على الآخرة ، والزهد في الدنيا ، والقناعة في المعيشة  والتنافس في الخيرات، ومنع كل ما يفسد على الناس عقيدتهم وأخلاقهم  حتى يكونوا ممن قال الله فيهم : ﴿ الذين إن مكناهم في الأرض: أقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة  وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، ولله عاقبة الأمور ﴾ الحج 41 ، وعلى مدار التاريخ فإن الجباية لا تحتاج إلى شرح وتعريف ، فهي السائدة ، في الماضي والحاضر، وفي الشرق والغرب، وقد جربها الإنسان ، وعرفها في كل عصر، أما الهداية فهي نادرة ، فمنذ دعا الرسول صلى الله عليه وسلم الناس إلى الإسلام  كان الذين آمنوا ، هدف كل قسوة وظلم واضطهاد ، وبلاء وعذاب، فصمدوا وثبتوا ، حتى أذن الله في الهجرة، ولم تزل الدعوة تشق طريقها وتؤتي أكلها ، حتى قضى الله أن يحكم رجالها في الأرض، ويقيموا القسط، ويخرجوا الناس من الظلمات إلى النور، ومن عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها    فإذا دولتهم الوليدة على مفترق الطرق – طريق الجباية وطريق الهداية – هنالك سمعوا هاتفا يقول: ويحكم إن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يبعث جابيا  وإنما بعث هاديا ، وأنتم خلفاؤه ، فلم يترددوا في إيثار جانب الهداية على جانب الجباية، واتخاذ الدعوة والهداية ، شعارا ومبدأ لحكومتهم ، فكان لهم ذلك ، فقد علموا أنهم لو آثروا جانب الجباية   وأطلقوا أيديهم في أموال الناس، وطلبوا النعيم  ورتعوا في اللذات، لم يحل بينهم وبين ذلك أحد  ولم يقف في سبيلهم واقف. ولكنهم علموا أنهم لو فعلوا ذلك ، لغشّوا إخوانهم الذين سبقوهم بالإيمان، وقضوا نحبهم بدون أن يأكلوا ثمار غرسهم، وخانوا أولئك الذين لم يعرفوا إلا الجهاد والتعب والجوع ، فقد وصلوا إلى حكم الناس على جسر من متاعبهم وإيثارهم. ، وقفوا ولم يطب لهم الأكل والشرب، وأرادوا أن يلحقوا بإخوانهم ، ولم يأخذوا من الدنيا إلا البلاغ ، فقد تأسست دولة الإسلام ، وفتحت فارس وبلاد الروم  والشام ، ونقلت إلى عاصمة الإسلام – المدينة المنورة – كنوزُ كسرى وقيصر، وانصبت عليها خيرات المملكتين العظيمتين، وانهال على رجالها من أموال هاتين الدولتين وزخارفها، ما لم  يتوقعوه ، وقد انقضى على إسلامهم ربع قرن وهم في شدة وجهد من العيش، وفي خشونة المطعم ، وخشونة الملبس، لا يجدون من الطعام إلا ما يقيم صلبهم، ولا من اللباس إلا ما يقيهم من البرد والحر، فإذا بهم يتحكمون في أموال الأباطرة والأكاسرة، ولو أرادوا أن يلبسوا تاج كسرى ويناموا على بساط قيصر لفعلوا ، لكنهم آمنوا بقوله تعالى : ﴿ تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين ﴾ القصص 83. وما نسوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته : ( فو الله لا الفقر أخشى عليكم  ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا، كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم ) البخاري ومسلم . وقد هتفوا قائلين: " اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة " بهذا حافظوا على روح الدعوة الإسلامية ، وسيرة الأنبياء والمرسلين ، وكان شعار الدولة الإسلامية الأولى الهداية والدعوة إلى منهج الله ، وخدمة الناس ، وهكذا انتشر الإسلام ، وانتشرت الأخلاق الفاضلة ، في عقود من السنين ، من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، ثم أتى على المسلمين حين من الدهر ، نسوا أن الحكومة في الإسلام ، لم تكن إلا جائزة الدعوة والجهاد في سبيلها، ولولا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ودعوته إلى الله، لما دانت الدنيا للعرب  وعندما أهملوا الدعوة إلى الله  وعطلوا منهج الله ، وأضاعوا الصلاة ، واتبعوا الشهوات، ورجعوا يحتكمون إلى القوانين الفاسدة في مراكز الإسلام  وبالفوضى الدينية، كانت داهية عظيمة وفتنة كبيرة ، على رجال الإصلاح والدعوة في الأقطار الإسلامية .

 إن العالم الإسلامي بحاجة ماسة إلى حكومة تمثله تمثيلا صحيحا ، تقوم على أساس منهج الله ، شعارها الهداية والإصلاح والكفاح ، وإيثار الأرواح على الأرباح ، وكسب الرجال على كسب الأموال، وبعد أن جربت الإنسانية اليوم حكومات الجباية على اختلاف أنواعها وأسمائها – من ديمقراطية، ورأسمالية واشتراكية وشيوعية – فلم تر منها إلا الشر والمر ، لأنها نظم تساعد في إفساد المسلمين ، وإبعادهم عن دينهم ، وتوهين الروابط التي تصلهم به ، وخلق أجيال فارغة من عقائد الإسلام وتعاليمه ، وتبني رجالاً يزورون تاريخ الإسلام ، ويجعلون أمتهم دون ماضٍ تستند إليه ، أو تراثٍ تعتمد إليه ، وتشجيع الإسلاميين الذين تكمن في دمائهم جرائم البدع المفسدة   والمفكرين الذين يلمزون الإسلام  ويغمزون أصوله وفروعه ، ودفع العلمانيين إلى صدارة المجتمع ، ووضع مقاليد الأمور في أيديهم وتدويخ المسلمين المخلصين ، وإقامة السدود في وجوههم  وإبعادهم عن مراكز القيادة والتمكين ﴿ ويمكرون ويمكر الله ﴾ وسيبطل الله مكرهم إن شاء إنه على ذلك قدير .   

 

 

 

 

 

 

مطلب ووقفه مع الأحداث

قال لي أحد إخواني المصلين وفقه الله ، خطبك عبارة عن تعليق سياسي ، فلماذا لا تطرق لنا مواضيع فقهية وأخلاقية ؟ خطبة الجمعة هي لبحث الأمور المستجدة خلال الأسبوع ، ومحاولة طرح الحلول المناسبة لها لذا فإن طرق أي موضوع غير موضوع الساعة ، لا يتناسب وما يعاني المسلمون شيباً وشبابا ونساءً وأطفالاً ، من جراء استخدام الأسلحة الفتاكة والقنابل المدمرة ، من قبل دول لا تأخذهم بنا رأفة ولا شفقة ، ولا يرحموا طفلاً ولا شيخاً كبيراً ولا امرأة ضعيفة  ينقمون من إخوان لنا في الإسلام ، فظلموا وتجبروا وطغوا وزلزلوا الأرض تحت أقدامهم  يصبِّحوهم بالقنابل المدمرة ويمسّوهم بالصواريخ الحارقة ، فترى المهاجرين من الشيوخ والنساء والصبيان والعجزة الذين يهربون فراراً بأنفسهم وأعراضهم ، يواجهون التفرق والشتات ، فمن الصبي التائه الذي يلتفت هنا وهناك ، إلى المسن الذي يبدو حزيناً يتجرع الألم والحسرة والفراق ، بعد هدم البيت وتدمير الأملاك ، والبقية الباقية يبدو عليهم الفزع والهلع   وقد أحاط بهم الألم ، فلا يهنئوا بنوم ولا يجف لهم دمع .

وهناك فئة منهم ، تحس بأن قلوبهم عامرة بالإيمان   مطمئنة ساكنة يملؤها البشر والرحمة والشوق للقاء الله ، تحدوها أطايب الجنة إلى التسابق في التضحية والشوق إلى ملاقاة الكفرة الملحدين في قوة وثبات وشجاعة ، لم يخفهم التدمير الذي دفنهم أحياءً ، لأنهم يحرصون على الموت أكثر من حرصهم على الحياة ، ارتفعت رؤوسهم الشماء اعتزازاً بدينهم ، وشمخت أفئدتهم الكريمة ثباتاً وصلابة لا يضرهم من خذلهم ، لأنهم استعانوا بربهم ، وعضوا على دينهم بالنواجذ ، ولسان حالهم يقول : أيها الكفرة ! إنكم تدمّرون ديارنا وتقتلون رجالنا ، أتظنون أن الله مخلف وعده رسله ؟ افعلوا ما شئتم فإننا نرى بناءكم المترهل بدا يتساقط ويتمزق بإذن الله قال  تعالى : ﴿ ولينصرن الله من ينصره إن الله لقويٌّ عزيز ﴾ . الحج 40

إن الهجمة التي يلاقيها المسلمون ، ليست وليدة مخططاتهم المستقبلية لحرب الإسلام والمسلمين   فقد سمعنا وما زلنا الدعوات والصيحات من الغرب ، التي تبشر بصراعٍ قادم مع الأصولية الإسلامية ، باعتبارها العدو الأول للحضارة الغربية ، وقد جرى الربط المريب بين ثلاث مفردات ، لتصبح ذات مدلول واحد في النهاية ، وهي الإسلام والأصولية والإرهاب ، وقد اعتبروا التمسك بالإسلام أصولية ، والأصولية تعني الإرهاب وحتى بعض أجهزة الإعلام العربية تكرر هذه النغمة ، ببلاهة وخبث حيناً ، وبخبث ومكر أحياناً ، ولكثرة التركيز في الحديث عن الأصولية الإسلامية ، أصبحنا لا نسمع منهم حديثاً عن الإسلام ، وأخيراً قلَّ الحديث عن الأصولية ليحل محله الحديث عن الإرهاب ، حتى أصبح كل عدو لدود للإسلام يقول : نحن لا نحارب الإسلام بل نحارب الإرهاب ، حتى باتت تهمة دعم الإرهاب جاهزةً لأي دولة أو منطقة إغاثية أو دعوية تقوم بأي حركة لم يأذن بها الغرب ، فعندما يقتلون منا يبررون ذلك بما يتوافق مع أهوائهم ومخططاتهم العدوانية ، وتقام الدنيا وتقعد إذا ما قتلنا منهم أحدا ، ويعتبرون ذلك منا إرهابا .  وعلى هذا الزعم بدأت الحرب في بلاد المسلمين ضد الإسلاميين باسم محاربة الإرهاب ، وقد حرصوا على أن يعطوا هذه الحرب بُعداً دولياً بعد أن انطلقت الدعوة الصريحة إلى خوض حرب عالمية تُقاد ضد الإرهاب . 

والظاهر أن الصراع الذي بشَّر به هنجتون في كتابه صراع الحضارات ، والخطوات العريضة التي وضعها واينبرجر في كتابه الحرب القادمة ، والظروف المواتية التي تحدَّث عنها نيكسون في كتابه نصر بلا حدود ، يدل على أن الاحتفالية الألفية قد قص شريط افتتاحها رئيس كبرى دول هذا العالم ، فما هي أبرز معالم هذه الحرب ؟ إذا علمنا أن العدو الوحيد فيها هم الإسلاميون   كما أنها لم تقم وزناً لما يسمى بالشرعية الدولية ، وفي هذه الحرب ليس لأي معارض لها أي وزن لأنها ستدوس على سيادة أي دولة إذا ما تعارضت مع أهداف هذه الحرب   وستعتمد على أسلوب المباغتة ، حتى لا تترك أحداً في مأمن منها .

إن الهدف والاستمرار في هذه الحرب كما يبدو لي ، أنها ترمي إلى إبقاء المسلمين في ذيل الأمم ومؤخرة الركب ، وتجريدِهم من أي قدرة على المبادرة أو التطلع إلى الخروج من الأزمة المصيرية التي تعيشها الأمة الإسلامية .

 وتحالف الكفر، لا يخفي الإصرار العنيد ، على فرض كل أنواع الحصار على أمة الإسلام ، وقد ركزوا أخيراً على الاقتصاد والمال كسلاح آخر ، وهو لا يقل أهمية عن سلاح المعارك ، وإني أعتقد أن وقود هذه الحرب يُسْتمدُ من حقد اليهود  وليست أحقادهم القديمة  وتصريحاتهم العدائية بأفصح ولا أصرح من تصريحاتهم التحريضية الجديدة ، ففي عام 1993 قال هيرتزوج الرئيس الإسرائيلي السابق أثناء زيارة قام بها لبريطانيا "إن الأصولية الإسلامية هي الخطر الأكبر على العالم الحر " . وحول هذا المعنى كان تصريح رابين في نفس السنة قال :"إننا نريد التأكد من أن الرئيس كلينتون وفريقه يدركون تماماً خطر الأصولية الإسلامية  والدور الإسرائيلي الحاسم في محاربتها ، واستطرد قائلاً : إن مقاومتنا ضد الإرهابيين المسلمين القتلة ، مقصود منها إيقاظ العالم الذي يرقد في سبات عميق  على حقيقة أن هذا خطر جاد وحقيقي يهدد السلام العالمي ، والآن نقف نحن الإسرائيليين في خط النار الأول ضد الإسلام الأصولي ، ونحن نطالب كل الدول وكل الشعوب أن يكرسوا انتباههم إلى الخطر الضخم الكامن في الأصولية الإسلامية".  ولما جاءت الأغلبية اليهودية إلى الكونجرس الأمريكي ، بدأت تترجم هذه الصيحات التحذيرية إلى سياسات عملية ، حتى إن رئيس المجلس ترأس جلسة للمجلس عرض فيها برنامجاً شاملاً للسياسة المقترحة لمواجهة الأصولية الإسلامية في العالم ، وضمت الجلسة التي عُقدت في واشنطن ما يزيد على 400 من كبار الخبراء في الشؤون الأمنية والعسكرية ، وقدم خطة من أربعة بنود ، تهدف إلى كسر شوكة الإسلاميين في العالم ، وقد قال رئيس الكونجرس الأمريكي بالحرف الواحد :"الأصولية تعني إعلان الحرب علينا وعلى الحضارة الغربية ، فيجب التعامل معها من واقع الحرب المعلنة ". هذه هي مواقفهم قبل أيلول ، فلا يستغرب ما نراه منهم بعده ، فما هي مواقفنا إزاء ما يجري وما يدبر ضد الإسلام والمسلمين ؟! نعلم أن اليهود والنصارى مجتمعين ، لم يكونوا يوماً إلا أعداءً للإسلام نفسه ، قبل أن  يوصف بالأصولية والإرهاب ، لأنهم كما قال الله تعالى يتمنون أن يرونا كفاراً ولو كنا مسالمين مهادنين قال تعالى : ﴿ ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء ﴾ .النساء 89 . وهم سيناصبوننا ذلك العداء إلى حد القتال قال تعالى: ﴿ ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ﴾ .البقرة 217 . وقال تعالى : ﴿ إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون ﴾ الممتحنة 2 ، إنهم لن يرضوا عنا مهما أظهرنا لهم من رغبة في الود والحب وموافقتهم فيما يريدون إلا إذا كنا على دياناتهم الباطلة فقال تعالى : ﴿ ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملَّتهم ﴾ .البقرة 12، إن لهم من الحضارة والتمكين في الأرض والرخاء والمتاع والسلطان ، ما جعلهم مخدوعين بما هم فيه ، فبطشوا وظلموا ، ناسين أن هناك سنة ، وأن الله يستدرجهم وفق هذه السنة   والذين يدورون في فلكهم ، ويسيرون وفق خططهم التي تتمرد على سلطان الله ، وتعيث في الأرض فسادا ، وهي تظلم الناس بعد اعتدائها على سلطان الله ، وليس هذا إلا بداية الطريق   وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال : ( إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا- على معاصيه – فإنما هو استدراج ) ثم تلا قوله تعالى: ﴿ فلما نسوا ما ذُكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء ، حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون ﴾ . رواه ابن جرير . غير أنه ينبغي مع ذلك التنبيه إلى أن سنة الله في تدمير الباطل  تعتمد على أن يقوم في الأرض حق يتمثل في أمة ، ثم يقذف الله بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق .

فلا ينبغي أن يقعد أهل الحق كسالى ، يرتقبون أن تجري سنة الله بلا عمل منهم ولا كدٍ ولا تعب ، فإنهم حينئذٍ لا يمثلون الحق ، ولا يكونون من أهله وهم كسالى قاعدون ، فالحق لا يتمثل إلا في أمة ، تقوم لتقرّ حاكمية الله في الأرض ، وتدفع المغتصبين لها   عندها تكون الغلبة للحق وأهله ، وهذه حقيقة يجب علينا أن نؤمن بها ، فقد أخبرنا  سبحانه وتعالى بذلك  وأكد أن النصر حليفنا عليهم إن اعتصمنا بالله والتجأنا إليه فقال تعالى : ﴿ ولو قاتلكم الذين كفروا لوّلوا الأدبار ثم لا يجدون ولياً ولا نصيرا ﴾ .الفتح 22

 

 

 

 

مصير المعرضين عن منهج الله

تستوقفك بعض الآيات في كتاب الله ، وتتفكر فيها ملياً ، فتتحدد منها الأحكام والتوجيهات  التي تُشخِّصُ الواقع كأنه رأى العين ، وكلما قلَّبتَ فكرك  ازددت منها حكماً ومعاني لا تتوقف .  وترجع إلى كتب التفسير ، فتزيدك وتغنيك ، وتبتهج نفسك بهذه المعاني .  من هذه الآيات قول الله تعالى : ﴿ ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس ، لهم قلوبٌ لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ، ولهم أذان لا يسمعون بها  أولئك كالأنعام ، بل هم أضلُّ أولئك هم الغافلون ﴾ الأعراف 179 . هذا النص القرآني ، يضع يدنا على حقيقة ، هي أنه ليس المراد أن من يهتدي هو الذي يَخلق الله فيه الهداية ، ومن يضل هو الذي يَخلق الله فيه الضلال . كلا لأن الفطرة تأبى ذلك ، فالله ليس بظلاّم للعبيد ، ويأباه النص القرآني ، فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ، ومن ضلَّ فإنما يضلّ عليها . أما كيف يجمع الله بين وصفي الهداية والإضلال ؟ نعلم أن الشيطان هو المضل ، لقوله تعالى : ﴿ هذا من عمل الشيطان ، إنه عدوٌ مضل مبين ﴾ القصص 15 ، فالمهتدي من كان عند الله مهتدياً ، ولو كان عند الناس ضالاً ، ولا يكون من المهتدين إلا إذا آمن وعمل صالحاً ، لقوله تعالى : ﴿ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم}يونس 9 وقال : ﴿ والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين ﴾ العنكبوت 16 . فالله يهدي من يبغي الهداية لنفسه ، أما الضال  فإنه من كان ضالاً في حساب الله لا في حساب الناس ، لأن الله يضل من يبغي الضلال لنفسه  ويُعرض عن دلائل الهدى ، وموجبات الإيمان  ويُغلق سمعه وبصره دونها لقوله تعالى : ﴿ إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقاً ، إلا طريق جهنَّم خالدين فيها ﴾ النساء 168 . بهذا يتضح أن مشيئة الله التي يجري  بها قدره  هي أن يخلق الإنسان باستعداد مزدوج للهدى والضلال تحملهما معاً فطرته مع إعطائه العقل المميز للضلال والهدى . وإرسال الرسل بالبينات لإيقاذ الفطرة إذا تعطلت  وهداية العقل إذا ضلّ ، وكما اقتضت إرادة الله وجود هذه الفطرة ، فقد اقتضت أيضاً أن يجري قدر الله بهداية من يجاهد للهدى ، وإضلال من لا يستخدم عقله وسمعه وبصره ، للتمييز بين الهدى والضلال لقوله تعالى:﴿ ولقد ذرأنا لجهنم ﴾ فهؤلاء الكثيرين من الجن والإنس مخلوقون لجهنم مهيأون لها ، لماذا ؟ لأنه مكشوفٌ لعلم الله الأزلي   أعمالهم التي تقودهم الى جهنم ، ولأن الله لا يدفع الناس إلى الضلال الذي يستحقون به جهنم   لأن لهم قلوبٌ لا يفقهون بها وأعينٌ لا يبصرون بها ، وأذانٌ لا يسمعون بها ، فقد عطلوا هذه الأجهزة التي وهبوها ، ولم يستخدموها ، وقد وصفهم الله بقوله : ﴿ إن شرَّ الدواب عند الله الصمُّ البكم الذين لا يعقلون  ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم ، ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون ﴾ الأنفال 23 . لقد عطلوا هذه الأجهزة   فكانوا كالأنعام بل هم أضل ، لأن للأنعام استعدادات فطرية تهديها ، بخلاف الجن والإنس إذا مرّوا بالحياة غافلين لا تلتقط قلوبهم معانيها وغاياتها ، ولا أعْيُنُهُم مشاهدها ودلالاتها ، ولا آذانهم إيقاعاتها وإيحاءاتها ، بهذا يكونوا أضلَّ من الأنعام الموكلة إلى استعداداتها الفطرية الهادية ، ثم يكونون من ذرء جهنم يجري فيهم قدر الله وفق مشيئة ، حين فطرهم باستعداداتهم تلك ، وجعل قانون جزائهم هذا فكانوا في علم الله القديم حطب جهنم منذ كانوا . ثم يفصِّل الله صنوف الخلق في آيات أخرى ، فيذكر منهم المتمسكون بالحق الذين يدعون الناس إليه ويحكمون به ولا ينحرفون عنه  كما يذكر المنكرين للحق المكذبين بآيات الله ، أما المتمسكون بالحق فهم حرّاسٌ عليه ، حين يُكذِّب الناس به وينحرف عنه المنحرفون ، وهم الذين قال فيهم : ﴿ وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ﴾ الأعراف 181 . وما كان ليُكرِّم البشرية لو لم يكن فيها الجماعة التي يسميها الله الأمة ، وهي التي تدين بعقيدةٍ واحدة ، وتدين بقيادة واحدة قائمة على تلك العقيدة ، وثابتةٍ على الحق يهدون بالحق وبه يعدلون . إنهم دعاةٌ إلى الحق لا يسكتون عن الدعوة به واليه والقيادة باسمه ، لأنه ما جاء ليكون مجرد علم يُعَرَفُ ويُدرّسْ ، ولا مجرد وعظ يُهدى به ويُعَرَّف ، إنما جاء ليحكم أمر الناس كله ، يحكم تصوراتهم الاعتقادية فيصححها ويقيمها على وفقه ، ويحكم شعائرهم التعبدية وحياتهم الواقعية   فيقيم نظامها وأوضاعها وفق منهجه ومبادئه   ويقضي فيها بشريعته وقوانينه المستمدة من هذه الشريعة ، ويحكم بذلك عاداتهم وتقاليدهم   وأخلاقهم وسلوكهم ، ومناهج تفكيرهم وعلومهم ومكتسباتهم الثقافية . إن طبيعة الإسلام واضحة لا تحتمل التلبيس ، وإن الحملات ضد الإسلام لا تنقطع من قبل الذين يحرِّفون الكلم عن مواضعه  فيحلون ما حرَّم الله  ويباركون الفجور والفاحشة ، ويصورون الإسلام الذي حكم الحياة حادثاً تاريخياً مضى  ولا يُمكن إعادته .  إنهم يشيدون بعظمة هذا الماضي ، بالاحتفالات التي يقيموها في مناسبات دينيه . ليخدروا مشاعر المسلمين  وليقولوا في ظل هذا التخدير ، بان الإسلام اليوم يجب أن يعيش في نفوس أهله فقط عقيدة وعبادة لا شريعة ونظاما ، ويحاولون تغيير طبيعة هذه الأُمة ، حتى لا يجد هذا الدين قلوباً تصلح للهداية به    ويحولون هذه الأمة إلى فئاتٍ غارقةٍ في وحل الجنس والفاحشة والفجور  ومشغولةً بلقمة العيش لا تجدها إلا بالكد والعسر والجهد ، كي لا تفيق بعد اللقمة والجنس لتستمع إلى هدى أو ترجع إلى دين .

إنها معركتهم ضد هذا الدين ، جندوا لها كل قواتهم ، وأجهزة الإعلام العالمية والتشكيلات الدولية لتكفل من أجل ذلك أوضاعاً ، ما كانت لتبقى يوماً واحداً ، لولا هذه الاستعدادات العالمية للوقوف في وجه هذا الدين .

ورغم ذلك فإن طبيعة هذا الدين الواضحة   والأمة المسلمة القائمة عليه ، مع قلة عددها وضعف عدتها ما تزال صامدة ، في وجه عمليات السحق والإبادة الوحشية ، ورغم السجن والمطاردة ، إنها القوه التي لا يحسبون حسابها  وهم يشنون هذه الحملة الضارية ضد هذا الدين  وضد أهله ، إنها القوة التي يغفل عنها المكذبون بآيات الله ، إنه استدراج لهم حيث لا يعلمون أن كيد الله متين ، بل إن فئةً كبيرةً من المسلمين وصلوا لدرجة من اليأس ، فلا يؤمنون بذلك . إن دول الكفر يتولى بعضهم بعضا ، ويحسبون أن قوتهم ظاهره في الأرض  وينسون قوة الله الكبرى لكنها سنة الله مع المكذبين الكافرين ، ويزين لهم المنافقون من المسلمين ما يُرخي لهم العنان ، ويُمْلي لهم في العصيان والطغيان استدراجاً من الله لهم في طريق الهلكة ، وإمعانا في الكيد لهم ، لكنه مع من ؟ إنه الجبار ذو القوة المتين ولكنهم غافلون . 

 

 

 

 

 

مصير الظالمين والمفسدين

قال تعالى : ﴿ وكذلك جعلنا في كل قريةٍ أكابر مجرميها ، ليمكروا فيها ، وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون ﴾ الأنعام 123 . إن الذين عناهم الله في هذه الآية ، هم سفلة المجتمع  وأرذال الناس ، لأنهم خانوا ربهم وأمتهم  وعرَّضوا الناس للشقاء في الدنيا ، والعذاب الأليم في الآخرة .

وقد ورد في بعض التفاسير ، أن أكابر مجرميها هم الرؤساء الذين كبر جرمهم واشتد طغيانهم  ليمكروا  بالخديعة والدعوة إلى سبيل الشيطان  ومحاربة منهج الرسالة بالقول والعمل ، وإن مكرهم وكيدهم يعود على أنفسهم ، لأنهم يمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين . إن أكابر المجرمين يقفون موقف العداء من دين الله  لأنه يجرَّدهم من السلطان الذي يستطيلون به على الناس ، ومن الربوبية التي يتعبدون بها الناس   ومن الحاكمية التي يستذلون بها الرقاب . والقرآن يُخاطبهم بهذا النداء الرباني : ﴿ قل إنما أعظكم بواحدةٍ ، أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ﴾ سبأ 46 . فماذا إذن لو قام كل فرد مع نفسه أو مع صاحبه ، ثم فكر فيما هم عليه من فساد وصد عن سبيل الله ، وهل اقتنع كل ذي فكر ومنطق بما جرى ويجري ؟ وهل يرضى الله عنه ؟ وهل فيه خير للأمة ؟ لو قام الأفراد بذلك ابتغاء مرضاة الله ، وفكروا في الجواب البديهي ، بأن الفساد لا يحبه الله بل يمقته ويمقت أهله ، وسيأتي الوقت الذي يمقت فيه أهلُ الفساد أنفسَهم ، ويتحسرون على ما فرَّطوا وضيعوا وأفسدوا ، وذلك في يوم الحسرة حيث لا ينفع التحسر ولا الندم  . إن الذي يكره الخير وأهله ، وينشر الفساد ويصد عن سبيل الله تعالى ، إنما هو بين أمرين لا ثالث لهما ، إما أنه لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر ، وما الحياة عنده إلا هذه الدنيا ،فهو يسعى ليجمع فيها ويظلم ويبطش ، لأنه لا يرجو اليوم الآخر ولا يخافه ، لأن الدنيا ومناصبها أسكرت عقله ولبه  فأصبح في غفلة شديدة عن الآخرة ونعيمها وعذابها ،حتى استمرأ الفساد ، وصارت الدنيا أكبر همه يلهث وراءها ويجمع حطامها ، ولو كان عن طريق الفساد والإفساد . ولما كان الظلم قرين الفساد والإفساد ، فإنه جدير بالظالمين الذين يظلمون الناس ، ويبغون في الأرض بغير الحق ، أن يتذكروا يوم الفصل والحساب ، يوم لا ينفع مال ولا بنون ، ويوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار. وليتذكر الظالمون هذا اليوم المشهود ، الذي يقتص فيه الحكم العدل من الظالمين للمظلومين  ليتذكروا هذا اليوم العظيم ، إن كانوا يؤمنون بالله واليوم الآخر ، ما داموا في دار الدنيا دار التوبة والاستعتاب  . ليتذكروا أن للظالم يوماً ينكشف فيه الغطاء ، ويعض فيه على يديه من الخزي والحسرة ، وإن في كتاب الله لغُنْيةً عن أي كلام ، وكفايةً عن أيِّ موعظة فقال تعالى: ﴿ ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون ، إنما يؤخِّرُهم ليومٍ تشخص فيه الأبصار  مهطعين مقنعي رؤوسهم ، لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء ﴾ ابراهيم 43 . فالله لا يغفل عن ظلم الظالمين  وخيانة الخائنين لأمتهم ودينهم ، وإن أخذهم آت لا محالة ، في اليوم العصيب الذي تشخص فيه الأبصار من الفزع والهلع . وإن لم يجد واعظ الله في هذه الدنيا مع الظالمين شيئاً   ولا يخيفهم هذا المصير الذي ينتظرهم ، فلا أقل من أن يوجد عندهم بقية مروءة وحياء ، تمنعهم من إفساد أخلاق الأمة ، والوقوف في وجه المصلحين الداعين إلى إحقاق الحق ، وإقامة الخلافة وحكم الله في الأرض ، ماذا عليهم لو تركوا أولاد المسلمين يتربون على الخير والدين والخصال الحميدة ؟ وماذا يريدون من إفساد وتسليط برامج الإفساد المختلفة  ؟ هل يريدون جيلاً منحلاً يكون وبالاً على المجتمع ذليلا لإعدائه عبداً لشهواته ؟  ألا ليت الظالمين إلى ربهم يرجعون ، ويفكرون في  مصيرهم ، وليعلموا أن وراءهم أنباءً عظيمة وأهوالاً جسيمة ، تشيب لها الولدان وتشخص فيها الأبصار ، إن كانوا يؤمنون بذلك ، وما أظن ذلك ، فليستيقظوا من عقلتهم وليراجعوا أنفسهم  وليعلموا أن الله يعلم سرَّهم ونجواهم ، وقد حذَّرهم من طاعة الشيطان وحزبه ، وبراءته من أتباعه يوم القيامة فقال تعالى : ﴿ وقال الشيطان لما قُضي الأمر ، إن الله وعدكم وعد الحق  ووعدتكم فأخلفتكم ، وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي ، فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ، ما أنا بمصرخِكُمْ وما أنتم بمصرخِيّ  إني كفرت بما أشركتموني من قبل ، إن الظالمين لهم عذاب أليم ﴾ ابراهيم 22 . وقال تعالى قبلها : ﴿ وبرزوا لله جميعا فقال الضعفاء للذين استكبروا ، إنا كنا لكم تبعا ، فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء ﴾ . فالضعفاء الذين تنازلوا عن أخص خصائص الإنسان على الله ، حين تنازلوا عن حريتهم في التفكير والاعتقاد والاتجاه ، وجعلوا أنفسهم تبعاً للطغاة   والضعف ليس عذراً بل هو الجريمة بعينها ، فالله لا يريد لعبده أن يكون ضعيفاً ، وأن ينـزل عن نصيبه في الحرية ، التي لا يستطيع أن يستعبدها ما دام العبد يتمسك بها . وإن قصارى ما تملكه قوى الظلمة ، أن تملك الجسد تؤذيه وتعذبه وتكبله وتحبسه في الزنازن  السجون ، أما الضمير والروح والعقل فلا يملك استذلاها أحد، إلا أن يسلمها صاحبها لذلك  . من الذي يملك أن يجعل الأمة تبعاً للمستكبرين في العقيدة وفي التفكير وفي السلوك ؟ ومن ذا الذي يجعلهم يدينون  لغير الله وهو خالقهم ورازقهم؟  لا أحد بالطبع ، إلا أنفسهم الضعيفة ، هم ضعفاء لا لأنهم أقل جاهاً أو مالاً أو منصبا ، إنما هم ضعفاء لأن الضعف في قلوبهم وفي نخوتهم  وفي اعتزازهم بأخص خصائص الإنسان . إن المستضعفين كثرة والحاكمين قلة ، فمن ذا الذي يخضع الكثرة للقلة ؟ إن الذي يخضعها ضعف الروح وسقوط الهمة  وقلة النخوة والتنازل عن الكرامة التي وهبها الله لبني الإنسان . فالطغاة لا يملكون أن يستذلوا الناس إلا برغبتهم ،فهم قادرون على الوقوف لهم لو أرادوا ، ولكن الذي ينقصهم هي هذه الإرادة ، وإن الذل لا ينشأ إلا عن قابلية للذل في نفوس الأذلاء ، وهذه القابلية هي التي يعتمد عليها الطغاة ، إن العبد الذي يتوجه لله بالاعتقاد في ألوهيته وحده ، ثم يدين لله في الوضوء والطهارة والصلاة والصوم والحج وسائر الشعائر والآداب  بينما هو في الوقت ذاته ، يدين في حياته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية لشرائع من عند غير الله ، ويدين في قيمه وموازينه الاجتماعية  لتصورات واصطلاحات من صنع غير الله   ويدين في أخلاقه وتقاليده وعاداته وأزيائه  لأرباب من البشر ، تفرض عليه هذه الأخلاق والعادات المخالفة لشرع الله ، بهذا يكون الإنسان قد زاول الشرك في أخص حقيقته ، وخالف شهادة أن لا إله إلا الله ، في أخص حقيقتها  وهذا ما يغفل عنه الناس ويزاولونه في ترخص وتميع ، وهم لا يحسبونه الشرك الذي كان يزاوله المشركون من عبادة الأصنام  إن الأصنام في هذه الأيام ، هي الشعائر التي يختفون وراءها لتعبيد الناس باسمها وضمان ديونهم ، فالصنم لم يكن يومها ينطق أو يسمع أو يبصر ، إنما كان السادن أو الكاهن أو الحاكم يقوم من ورائها ، يتمتم ثم ينطق لتعبيد الناس وإذلالهم ، فإذا رفعت في أي وقتٍ شعائر ينطق باسمها الحكام ، ويقررون باسمها ما لم يأذن به الله ، من الشرائع والقوانين والقيم والموازين والتصرفات والأعمال ، فهذه هي الأصنام في طبيعتها وحقيقتها ووظيفتها ، فإذا ما تعارضت شريعة الله وقوانينه وتوجهاته وتعليماته ، مع تلك الشعارات ومقتضياتها  نُحِّيَتْ شريعةُ الله وقوانينه وتعليماته ، ونفذت إرادة تلك الشعارات .

إن الذين يظنون أنفسهم في دين الله لأنهم يقولون بأفواههم " أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله " ويدينون فعلاً لله في الآداب والأخلاق ، وشؤون الطهارة والشعائر والزواج  والطلاق والميراث ، بينما يدينون فيما وراء هذا الركن الضيق لغير الله ، ويخضعون لشرائع لم يأذن بها الله ، ويبذلون أرواحهم وأموالهم ليحققوا  ما يطلبه منهم حاكمهم ، فإذا تعارض طلبهم مع دين الله ، نبذت أوامر الله ونفذت مطالبهم .

إن من هذا حالهم ، ويظنون  أنهم مسلمين   عليهم أن يستفتوا أنفسهم على الأقل لما هم فيه من الشرك العظيم . إن دين الله منهج شامل لكل صغيرة وكبيرة ، ولجزئيات  الحياة اليومية وتفصيلاتها والدينونة لله وحده في كل تفصيلٍ وكل جزئيةٍ من جزئيان الحياة ،  فضلاً على أصولها و كلياتها ، ولينظر كل واحد منا لمن المقام الأعلى في حياته ، ولمن الدينونة الكاملة ؟ ولمن الطاعة والإتباع والامتثال ؟ إن كان هذا كله لله  فهو في دين الله ، وإن كان لغير الله ، فهو في دين الطواغيت والعياذ بالله : ﴿ هذا بلاغ للناس ولينذروا به ، وليعلموا أنما هو إله واحد ، وليذكر أولو الألباب ﴾ .                                                                                                                                                                                 

 

معاناة المسلمين في أوطانهم

قال تعالى : ﴿ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ﴾ البقرة 251 . تشير الآية القرآنية ، الى أن أي مجتمع لا تقوم فيه هيئة قويةٌ رادعةٌ ، لا بد أن تسوده الفوضى والانحلال ، حيث تتصارع القوى ، وتتنافس الطاقات في تدافع وتسابق ، إلى تحقيق المصالح والغايات ، وما يجري في البلقان وإبقاءه جرحاً تنزف منه دماء المسلمين ، من أجل تحقيق أهداف معينة ، باللجوء إلى أسلوب القوة والحروب المدمرة ، والصدامات الوحشية ، والكيد المتوالي على الإسلام والمسلمين

إننا في ظلِّ هذه الظروف ، نأمل من الله أن نرى الحق ينتصر ، وينتصف  المظلوم  وترتفعُ راياتُ الإيمان خفاقةً ، ويعم الخيرُ على كل المسلمين ، لأن يد الله الحكيمة المدبرة ، هي القادرة على أن تقود هذه المواكب المتصارعة ، إلى الخير والصلاح والنماء في نهاية المطاف .

وذلك بقيام الجماعة الخيَّرة المهتدية ، التي تعرف الحق وتسلك الطريق الموصل اليه ، وتؤمن بأنها مكلفةٌ بدفع الباطل ، وإقرار الحق في الأرض   وأنه لا نجاة لها من عذاب الله ، إلا أن تنهض الأمة بالدور المطلوب منها لهداية البشرية إلى المنهج الرباني ، وأن تحتمل في سبيل ذلك ما تتطلبه هذه المهمة ابتغاء مرضاة الله . ليمضي أمرُ الله ، ويكون النصرُ حليف الفئة المؤمنة في نهاية المطاف ، لأنها تمثل إرادة الله العليا في دفع الفساد عن الأرض . إن ما جري في كوسوفا وما جرى في فلسطين يعيد إلى الأذهان الأوجاع الإنسانية ، التي نشبت في الربع الأول والثاني من هذا القرن .

مما يدعو للتسائل أي الحضارات أرحم بالإنسانية؟  حضارةٌ أنتجها الإسلام ثم شوهها الغرب ، أم حضارةٌ قامت على أشلاء الملايين من البشر .

إن ملامح المأساةِ واحدة ، وقصة النازحين والمهجّرين متشابهة ، فالعنصرية والتطهر العرفي في إسرائيل ، أقدم وأسوأ مما هو عليه في البلقان ، فما انتهكت حقوق الإنسان في مكان مثلما انتهكت في فلسطين ، وإن عشرات الفيتو التي حصدتها إسرائيل لصالحها من أمريكا ، هو الذي دفع بإسرائيل إلى العمل الحثيث لتهويد القدس  وإلى بناء المزيد من المستوطنات اليهودية على أراضي فلسطين ، كما أن تهويدَ القدس كصربنة كوسوفا ، ذاك ظلم وقهر وتشريد    وهذا ظلم وقهر وتشريد ، وفي كلا الحالين يُستهدف الإسلام ، وتهدر الكرامة وتضيع الحقوق   وتتكررُ هذه الصورة في بلاد الإسلام ، وإن تعدد الفاعلون .

كما أن ردة فعلنا تكاد تكون واحدة ، تصريحات وبيانات واستنكاراتٌ ليس إلا

وعندما نطالب المسلمين بالتصدي لما أصاب الأمة من ضعف في فهم المبدأ الذي قامت على أساسه دولة الإسلام ، نسمع الجواب المتكرر وحتى من المتحمسين لنشر الدعوة ، لا نستطيع ، الله المستعان ، خلَّينا نأكل خبز ، وما شابه ذلك من الاعتذارات الواهية التي تتردد على ألسنة الكثيرين

إننا نتوجه إلى هؤلاء بهذه التساؤلات .

هل يستقسم فهم الأمة لمبدئها وهي تطلقُ العنان للهوى في التشريع ؟

وهل يستقيمُ لها ذلك وهي تمعن في موالاة أهل الكفر ، وإدخال أفكار الكفر بدل أفكار الإسلام وهل يمكن أن يطبق الإسلام إلا بدولةٍ تحمل دعوته إلى العالم بالحجة والجهاد ؟ ولماذا لا يغارُ المسلمون من أصحاب الأفكار الهدامة ، الذين يسترخصون كلَّ غالٍ ويستسهلون كلَّ صعب في سبيل تحقيق أهدافهم ، وإلا من سيعيد للأمة أمجادها ، هل هم الكافرون أم العَلْمانيون ؟ إنه لا هذا ولا ذاك ، لأن ذلك لا يكون إلا بالاقتداء بمن سبق من الدعاة ، الذين بذلوا كلَّ غال ورخيص من أجل دينهم وعقيدتهم  ، إنه الطريق الوحيد لرجوع الأمة إلى الإسلام  الذي جاء ليحقق الخير ويبسط العدل ويرفع الظلم عن كلِّ بني البشر .

إن الظلم يستحيل أن يبقى مستمراً في استعلائه على الحق ، لأن الله لا يريد للأمة أن تذل وتخزى ، فما جاء الإسلام إلا ليمنع الظلم والقهر الذي يصيب المسلمين ، كما حدث في فلسطين ويحدث في كوسوفا ، حيث يَحْرِقُ الصربُ قرى المسلمين ، فيقتلون من يقتلون ويجبرون الباقي على النـزوح من بلادهم .

إننا ونحن نعاني هذا النـزيف المستمر في الجسد الإسلامي ، لندرك أن واجباتنا حيال أزمات العالم كثيرة ، مما يدعو للتساؤل من يوقف هذا النزيف وكيف ؟ وهل ما يجري من حرب هو للدفاع عن المسلمين في البلقان ؟ أم هو العمل على تصفية الحسابات الاستراتيجية بين شطري أوروبا ؟ وما فائدة العالم الإسلامي والمسلمين من هذا الذي يجري ؟  إننا في هذا الوضع الذي نعيش ، لا نملك إلا أن نقول في غياب الموقف الإسلامي ، حيال هذه الأزمة بأن قوى الكفر تخطط لتمرير رؤيتها في رسم تسوية نهائية للمسألة البلقانية ، وستتبعها تسويات جغرافية وسياسية أخرى في أجزاء أخرى  الأمر الذي يدعو كل مسلم مخلص في هذا العالم إلى الرجوع إلى الله قولاً وعملاً ، وإلا فالنهاية لن تكون مرضية من وجهة نظر الإسلام ، الذي يدعونا للعمل بكل ما وسعنا من طاقات فكرية وجسدية ، حتى تنشأ أجيالٌ تندفع تحت راية التوحيد وعقيدتها قال تعالى : ﴿ وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ﴾ .

     

 

 

 

   

   

  

    

 

   

 

 محاربة الفساد

قال تعالى:{ظهر الفساد في البرِّ والبحرِ بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا  لعلهم يرجعون }الروم 41 .

إن فساد قلوب الناس وعقائدهم وأعمالهم ، يوقع في الأرض الفساد براً وبحراً ، وذلك في تقديري لا يتم عبثاً ، ولا يقع مصادفةً ، إنما هي سنة الله  ليذيقهم بعض الذي عملوا من الشرَّ والفساد ويتألمون لما يصيبهم بما كسبت أيديهم ، ولما هو عليه الحال من فساد في أنظمة الحياة وقوانينها  وفي الإدارة والحكم ، وحتى في الشوارع والمنتديات ، ولا يُطالب ذوو الرأي والبصيرة والجاه والنفوذ والسلطان  بمقاومة الفساد والرجوع الى الله ، وأن توزن الأمور بميزان الإسلام وتقاس بمقياس الشرع ، وعندما نطالبهم بأن يتصدوا لأفعال المنحرفين عن منهج الله   ببيان زيف أعمالهم ، وكشف تصرفاتهم للأمة  وإبداء رأى الإسلام وحكم الشرع في تلك التصرفات والأفعال ، يستشهدون في معرض الدفاع عن أنفسهم ، بأن المطلب فيه هلاك وتهلكة مُستدلين  بقوله تعالى:{ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة}  متناسين أن الآية نزلت في الدعوة إلى الإنفاق في سبيل الله والجهاد ، والتارك لذلك معرضٌ نفسه لهلاك الدنيا والآخرة ، بدليل قوله تعالى في أول الآية:{وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة}. ويتجاهلون قول رسول الله (ص):  (من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله ، ناكثاَ لعهده مخالفاً لسنة رسوله ، فلم يغيرَّ بقول ولا فعل ،كان حقاً على الله أن يدخله مدخله ) . وقول على رضى الله عنه : "وإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لا يقرِّبان من أجل ولا ينقصان من رزق ، وأفضل ذلك كلمة عدل عند إمام جائر" . وهو المعنى الذي أفاده حديث رسول الله ( ص ) :( إن من أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر) .

أن نظرةً إلى الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، وحتى علاقات الجنسين ، وما يسمى بالفن الساقط الرخيص ، نجد أن الفساد قد استشرى وعم ، ففي عالم السياسة نجد كثيراً من الدول    تدّعي أنها تحكم بإرادة الشعب  والذي لا وجود له في الواقع ،  والذي يحكم  بإرادة الطواغيت لا بما أنزل الله ، حيث أن كل حكم غير حكم الله ، لا بد وأن يكون طاغوتا  لأن الفساد في بنية النظام ذاته ، لا في الأداة المنفذة له ، ولا في وسائل التنفيذ ، والعلاج ليس في مزجه بالحرية والديمقراطية  وإنما بتغييره من أساسه ، وذلك بالرجوع إلى منهج الله دون سواه  والحكم بما أنزل الله جملةً وتفصيلاً  لأن الشقوة التي تعانيها البشرية ، لن يرفعها عنها تغييرارت طفيفة في جزئيات النظم والأوضاع  ولن ينجي البشر منها إلا تلك النقلة الواسعة البعيدة ، النقلة من مناهج الخلق الى منهج الرب ، ومن نظم البشر الى نظام رب البشر ، ومن أحكام العبيد الى حكم رب العبيد .

وإن الذين يقولون ، إن الإنحرافات والجرائم تصحَّح وتقوَّم وتردَعُ بالوعظ والإرشاد ويتجاهلون الدعوة إلى التطبيق الكلي للمنهج الرباني . إن هؤلاء نسوا أو تناسوا أن الجرائم لا تقاوم إلا بالقانون الرادع ، والعقاب الصارم والحكم العادل الذي لا جور فيه ولا محاباة ، وما تفشت الرذائل وانتشرت الجريمة ، إلا يوم أن ظهرت هناك دعوات تنادي بالوعظ والإرشاد وحده ، واعتماد المقولة :" إذا صلح البيت صلح المجتمع "، مما أدى إلى أزدياد العدوان والطغيان وتفشي الجرائم وانتشار الرذائل  وضياع القيم وفساد الذمم وأكل الربا ، مما أكد وجوب تحقيق مقولة القائل :" يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن" ، فالله لم يكتف بإنزل الكتب وإرسال الرسل ، بل شرع العقوبات ردعاً للمجرمين وقطعاً لدابر الجريمة .

أما لماذا يُستبعدُ منهج الله دون سواه عن واقع الحياة ؟ فهذا في تقديري له أسبابه ، ففي العالم  الإسلامي، لا يمكن للمسئولين فيه أن يطبقوا الإسلام ، لأنه يجعل ولاء الناس لله ، بينما هم يريدون أن يكون الولاء لهم من دون الله .

 وأما المثقفون فهم خلاصة الكيد الخبيث للقضاء على الإسلام ، لأن الغرب أوهمهم بأن الإسلام تأخرٌ ورجعية ، وأن الوسيلة الوحيدة للتحضر هي  إبعاده عن مجال الحياة العامة ، وإلغاء سيطرته على أي مفهوم من مفاهيم الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحتى الأخلاقية .

أما الكتّاب والقصّاصون والإذاعيون والتلفزيونيون والسينمائيون ، فهم ولا شك يكرهون الإسلام  لأن التجارة التي يربحون عن طريقها ، هي تجارة فساد الأخلاق ، وإشاعة الفاحشة في المجتمع  وإطلاق الأولاد والبنات بلا ضابط أو رادع  وهم يعرفون جيداً أنها تجارة محرمة ، وأن الإسلام يوم يجئ ، لن يدع لهم ذلك المستنقع القذر، الذي يعيشون في أوساخه ، إنها تجارة محرّمة ، كتجارة الأعراض والمخدرات سواء بسواء ، وهم يعلمون أن الإسلام بنظافته وطهارته ، وأخلاقه المترفعة التي يربيَ أبناؤه عليها ، لن يتيح لهم الوجود والتكاثر والربح ، لذا يكرهون الإسلام .

 أما الأولاد والبنات فقد فُتِحَ الباب على مصراعيه  ليُفْسِدوا ويَفْسِدوا في تيار الانحلال الخلقي  فصارت حياتهم أغنية مائعة أو رقصة داعرة فاجرة  أو لحظة جنس مسعورة يمارسونها خفيةً أو علانية  وهؤلاء ولا شك يكرهون الإسلام ، لأنهم يعلمون أنهم يختلسون هذه الأعراض التي ينتهكونها  والشهوات التي يمارسونها في غيبة من دين الله ، لأن الدين بنظافته وترفعه وتطهره ، لن يتيح لهم هذه القذارة الدنسة ، التي يعيشون فيها  وأما المرأة المتحررة ، فهي من أخطر القضايا التي جند لها الغرب جهوده ، لأن المرأة أقدر على جرِّ المجتمع بعيداً عن الدين ، فهي أم وهي التي تنشئ الطفل النشأة الأولى ، وهي  التي تبذر في أبناءها بذور العقيدة تلقائيا ، في السنوات الأولى من حياة الأطفال  وهؤلاء مهما فسدوا بعوامل خارجية ، ومهما خطط لذلك ، فستظل هذه البذرة التلقائية الأولى   تردهم عن الفساد الكامل  وتعيدهم إلى الصواب .

ومن هنا كان تخطيط الغرب لإفساد الأم   بإخراج العقيدة من قلبها ، وذلك بالعمل لإخراج جيل من النساء ، لا يعرف من الإسلام إلا الاسم  عندها لن تبذر في نفوس أبنائها بذور العقيدة  مادامت هي لا تؤمن بهذه العقيدة ، وليس لها في حياتها حساب ، لأنها تربت على كره هذا الدين  إنهم يريدون كما يقولون ديناً عصرياً ، بغير قيود ولا حدود . يريدون أن يتسللوا بالسينما ولو كانت فاجرة ، وبرقصات التلفزيون والأغاني الفاضحة على أنها مجرد تسلية ، فأوجدوا الستلايت (الدش) لهذا المهمة ، والذي غزا معظم البيوت . يريدون أن يكذبوا ويغتابوا ويتجسسوا بحرية ، يريدون أن يستمتعوا بالفتنة التي تعرضها المرأة في الطرقات ، وتريد فئة من النساء أن يستمتعن بالقدرة على إغراء الرجال ، وأن يتبرجن في الملبس والزينة بلا قيود ، وإذا كان لا بد من الشعور بالإسلام ، فليكن عقيدة مستسرة في القلب أو على الأكثر عقيدة صلاة وصيام فقط  إنهم لا يريدون للإسلام أن يحكم سلوك الناس  ويلزمهم بتكاليف الإسلام في الصغيرة والكبيرة  في الملبس الشرعي والمأكل الشرعي  والحكم بالشرع ، فهذا في رأيهم ليس له لزوم ، وهذا الذي يدعونا للعجب ، لأن الإسلام يوجب علينا أن نصهر ذاتية الأمم في ذاتية الإسلام ، لا أن تجترئ أمم الفساد والشر أن تذيبنا في ذاتيتها ، مما أوصل المسلمين الى الهوان الذي يعيشوه اليوم .  إننا نلاحظ تباشير جيل قادم ، سيحمل رايةَ الإسلام مهما عمل الكارهون للإسلام على إقصائه عن الحياة ، لأنهم ليسوا الموكلين بدين الله قال تعالى : {إن يشأ يذهبْكم أيها الناس ويأت بآخرين ، وكان الله على ذلك قديرا } .

محاربة الظلم والظالمين

قال تعالى : ﴿ فاستقم كما أمرت ومن تاب معك  ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير  ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ، وما لكم من دون الله من أولياء ، ثم لا تنصرون ﴾ هود12.  إن قضية الامتثال لأمر الله ، قضيةٌ جوهرية في بنية التشريع ، ولا أدل على ذلك من وصية الله تعالى لنبيه عليه السلام بالاستقامة ، التي هي المداومة على فعل ما ينبغي تركه ، وقد نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم بلزومها لمن سأله عن قول فصل ، يصلح به جماع أمره ، فقد جاء في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم أن سفيان بن عبدالله قال : قلت : يا رسول الله ، قل لي في الإسلام قولاً ، لا أسأل عنه أحداً غيره ، قال : ( قل أمنت بالله ثم استقم) . وأما قوله سبحانه : ﴿ ولا تطغوا ﴾ وقوله : ﴿ ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ﴾ .  فإن هذا النهي الذي أعقب الأمر بالاستقامة ، لم يكن نهياً عن القصور والتقصير ، إنما كان نهياً عن الطغيان والمجاوزة ، وفي الآية أيضاً ما يشير إلى الأمر بأن لا نطمئن إلى الذين ظلموا ، و لا إلى الجبارين الطغاة الظالمين ، أصحاب القوة في الأرض ، الذين يقهرون العباد بقوتهم ، ويُعَبِّدونهم لغير الله من العبيد ، وأن لا نركن إليهم ، لأن ذلك يعني إقرارهم على هذا المنكر الأكبر ، الذي يزاولونه  ومشاركتهم إياه .

إن على المسلمين أن يحاربوا المنكر والظلم والبغي حيث كان ، حتى ولو كان ظلم الدولة لرعاياها . فحيثما كان على وجه هذه الأرض ظلم ، فإن الأمة المسلمة مكلفة أن تحاربه وتزيل أسبابه  وتعمل على دفعه وتحقيق كلمة الله في الأرض  وهذا هو الجهاد لإعلاء كلمة الله ، لا بالإكراه بل بإتاحة الفرصة لعباد الله  ليتخلصوا من الظلم والذل ، وينالوا حريتهم بعيداً عن القوى الطاغية الضالة  ويستمتعوا بالعدل الذي يريده الله لعباده  قال تعالى : ﴿ الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله  والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت ﴾ النساء 76 .هذا هو الفارق بين الجهاد في سبيل الله ، و الجهاد في سبيل الشهوات .

لقد حقق الإسلام أكبر انقلاب عرفته البشرية ضد الظلم والجور ، بكل صنوفه وألوانه وفي كل المجالات ، ومحاربة النظم والحكومات والأوضاع  التي تسند الظلم ، وتستبقيه لحساب فرد على جماعة ، في صورة طاغية أو جبار ، أو لحساب دولة على دولة في صورة محتلين ومستعمرين ، ولا بد من العمل على تحكم منهج الله وكلمته في الأرض ، واستنقاذ البشرية أفراداً وجماعات ، من جور الأشخاص والحكومات  والنظم والأوضاع  وحتى يقام السلام على أساس العدل  وإرجاع الحقوق إلى أصحابها ، وعدم السكوت على إيقاع الظلم على الدول والشعوب ، وفرض السلم الرخيص عليها بأي ثمن .

إن الأمة المسلمة مكلفة بأن ترفع الظلم عن المظلومين ، وتمتعهم بالعدل   وتمنحهم الطمأنينة وتصون إنسانيتهم ، دون اهتمام بالسيطرة أو المغانم ، بل إلى تحقيق السلام بكل صنوفه وألوانه وأشكاله ، سلام الضمير والبيت والمجتمع  سلام الإنسانية كلها لمجرد أنه إنسان ، إنه تصوير لطبيعة الإسلام العالمية ، وليس هو سلام بالمعنى الضيق  بتجنب القتال بأي ثمن ، مهما كانت الأسس التي يقوم عليها ترك القتال ، لأن السلم الذي يقام على حساب الحقوق البشرية ، سلم رخيص دنيء لا شك في ذلك ، لأنه لا يقوم على المبادئ التي أرادها الله لبني الإنسان ، ولهذا فإن الإسلام في جهاد دائم لا ينقطع ، لتحقيق كلمة الله في الأرض ، ولتحقيق النظام الصالح .

إن الإسلام مكلف أن لا يهادن القوى الظالمة  وان يجاهدها ما استطاع ، وألا يعاونها ولا يقف في صفها بحال من الأحوال ، قال تعالى : ﴿ ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ﴾ . إن قوة الإسلام قوةً محررة ، واجبها أن تنطلق لتدك قواعد الظلم والاستغلال ، لا أن تداهن وتستكين للظالمين ، وإن المسلمين هم رواد الخير وصنّاع المجد ، وحملة الالوية الظافرة ، على طريق الأمن والنور والسلام ، ورسالة الإسلام تبني السلام العادل وتدعو إليه ، سلام يسعد البشرية ويهدئ روعها ، سلام لا يذل ولا يستسلم ، ولا يضعف ولا يهون ، وعندما يُضْطَهَدُ الإسلام فواجب المسلمين أن يبذلوا الأرواح رخيصة من أجله ، لأن أمة الإسلام ، هي أمة الخير والسلام ولأن واجب الجهاد جزء من طبيعة هذه الأمة  لتدافع عن عقيدتها ورسالتها ، هذه الرسالة التي تحارب الشرّ في أنفسنا ، فلا تدعها للشهوات .

إن الحضارات الإنسانية التي ازدهرت حيناً من الزمن ، وكانت لها صولة ودولة ومنعة ، وأثار ضخمة  وعمائر فخمة ، إنما سادت في ظل العدل والفضيلة  وبادت في ظل الفجور والرذيلة  وعلى الأمة المسلمة أن تتدبر ذلك وتستفيد منه وتنتفع به ، لأن ذلك هو سبيل بقائها ، وطريق عزها ومجدها .

إن التغيير هو وسيلة الإسلام لبناء مجتمع أفضل  تزدهر فيه قوى الخير ، وتنصرف فيه إرادة الحق ، وتُعزُّ فيه مشيئة الله .

إن التغيير من قديم الزمان ، هو سبيل الإصلاح  وأسلوب البناء ، وطريق البقاء  وعندما تتنكر الأمم لصوت الحق ، وتصم آذانها عنه ، وتغرق في المآثم والشهوات  فإن الله يأخذها بالنكال والعقوبة ويجعلها عبرةً لغيرها .

إن القارئ لتاريخ الأمم ، يلمس أن هناك أمماً طواها الظلم والجور ، وأودت بها المعاصي  فأصبحت أثراً بعد عين ، قال تعالى في أثر الظلم والظالمين : ﴿ فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا ، إن في ذلك لأية لقوم يعملون ﴾ رالنمل 52 . أقوام غيروا ما بأنفسهم من خير ، فغير الله حالهم إلى أسوأ حال .

أما ما هو سبيل الخلاص ؟ إنه يكمن في العودة إلى الله ، والتغيير الذي يقود إلى البناء ، والقضاء على المخالفات العفنة ، والرواسب الفاسدة ، واجتناب عوامل الفساد  وأسباب التردي  ودواعي الانحراف والضلال ، وما أروع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الصدد : ( أصلحوا بواطنكم يصلح الله ظواهركم ) . وصدق الله : ﴿ ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمةً أنعمها على قوم ، حتى يغيروا ما بأنفسهم ، وأن الله سميع عليم ﴾ الأنفال 53 .

فما أحرى الأمة المؤمنة ، أن تعتمد التغيير كلما لمحت بوادر التنكر لأوامر الله   أو الإغراق في شهوات الحياة ، حتى تظل المسيرة على منهج الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والإسلام يحتم علينا أن ندفع الظلم ، وليس ظلم أقبح على وجه الأرض أشنع من الاستعمار ، الذي يدعونا الإسلام لمجاهدته في كل ميدان ، وأن نعد أنفسنا في حالة حرب معه  حتى يزول خطره عن الإسلام والمسلمين .

قال تعالى : ﴿ وقاتلوا في سبيل الذين يقاتلونكم ﴾  إننا في حالة حرب مع الكفر وأعوانه ، حتى نسترد حقنا ، ونرد العدوان عنا ، تلك هي دعوة الإسلام التي تفتح لنا طريق الخلاص ، وترسم للبشرية كلها ، طريق السلام الكامل والشامل  المبرأ من البغي والفساد والعدوان .

إن استسلام المظلوم لظالمه ، جريمة لا تغتفر  ووقوفه في وجهه فريضة مقدسة  ومقاومته له مهما كانت التضحيات أمرٌ لا بد منه ،  والأمة مدعومة للرجوع إلى دينها ، الذي يؤمِّنُ لها حق العيش الكريم ، والأمل أن ينبثق فجر الإسلام بقدرته المذهلة ، على التقدم والانتشار ، رغم أشد الصعوبات وأقسى العقبات ، فيهيمن على عقول الناس وأفئدتهم ، ويملؤها بالنور واليقين ويعلمها كيف تتحرك في أجواء يسودها العدل والإخاء والتعاون .  إننا نؤمن بأن الإسلام هو طريق الخلاص ، لما نعاني من أحزان وآلام وتعقيدات وهو المنقذ والمخلص للأمة ، من أدران الفساد الواقع في حياتهم ، بسبب عدم تحكيم الإسلام .

ويوم يُحْكَمُ بكتاب الله يفرح المؤمنون بنصر الله وتوفيقه ، والتمكين في الأرض ، ألا إن نصر الله قريب من المؤمنين .

         

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

محاربة الظلم والظالمين

قال تعالى : ﴿ فاستقم كما أمرت ومن تاب معك  ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير  ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ، وما لكم من دون الله من أولياء ، ثم لا تنصرون ﴾ هود12.  إن قضية الامتثال لأمر الله ، قضيةٌ جوهرية في بنية التشريع ، ولا أدل على ذلك من وصية الله تعالى لنبيه عليه السلام بالاستقامة ، التي هي المداومة على فعل ما ينبغي تركه ، وقد نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم بلزومها لمن سأله عن قول فصل ، يصلح به جماع أمره ، فقد جاء في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم أن سفيان بن عبدالله قال : قلت : يا رسول الله ، قل لي في الإسلام قولاً ، لا أسأل عنه أحداً غيره ، قال : ( قل أمنت بالله ثم استقم) . وأما قوله سبحانه : ﴿ ولا تطغوا ﴾ وقوله : ﴿ ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ﴾ .  فإن هذا النهي الذي أعقب الأمر بالاستقامة ، لم يكن نهياً عن القصور والتقصير ، إنما كان نهياً عن الطغيان والمجاوزة ، وفي الآية أيضاً ما يشير إلى الأمر بأن لا نطمئن إلى الذين ظلموا ، و لا إلى الجبارين الطغاة الظالمين ، أصحاب القوة في الأرض ، الذين يقهرون العباد بقوتهم ، ويُعَبِّدونهم لغير الله من العبيد ، وأن لا نركن إليهم ، لأن ذلك يعني إقرارهم على هذا المنكر الأكبر ، الذي يزاولونه  ومشاركتهم إياه .

إن على المسلمين أن يحاربوا المنكر والظلم والبغي حيث كان ، حتى ولو كان ظلم الدولة لرعاياها . فحيثما كان على وجه هذه الأرض ظلم ، فإن الأمة المسلمة مكلفة أن تحاربه وتزيل أسبابه  وتعمل على دفعه وتحقيق كلمة الله في الأرض  وهذا هو الجهاد لإعلاء كلمة الله ، لا بالإكراه بل بإتاحة الفرصة لعباد الله  ليتخلصوا من الظلم والذل ، وينالوا حريتهم بعيداً عن القوى الطاغية الضالة  ويستمتعوا بالعدل الذي يريده الله لعباده  قال تعالى : ﴿ الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله  والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت ﴾ النساء 76 .هذا هو الفارق بين الجهاد في سبيل الله ، و الجهاد في سبيل الشهوات .

لقد حقق الإسلام أكبر انقلاب عرفته البشرية ضد الظلم والجور ، بكل صنوفه وألوانه وفي كل المجالات ، ومحاربة النظم والحكومات والأوضاع  التي تسند الظلم ، وتستبقيه لحساب فرد على جماعة ، في صورة طاغية أو جبار ، أو لحساب دولة على دولة في صورة محتلين ومستعمرين ، ولا بد من العمل على تحكم منهج الله وكلمته في الأرض ، واستنقاذ البشرية أفراداً وجماعات ، من جور الأشخاص والحكومات  والنظم والأوضاع  وحتى يقام السلام على أساس العدل  وإرجاع الحقوق إلى أصحابها ، وعدم السكوت على إيقاع الظلم على الدول والشعوب ، وفرض السلم الرخيص عليها بأي ثمن .

إن الأمة المسلمة مكلفة بأن ترفع الظلم عن المظلومين ، وتمتعهم بالعدل   وتمنحهم الطمأنينة وتصون إنسانيتهم ، دون اهتمام بالسيطرة أو المغانم ، بل إلى تحقيق السلام بكل صنوفه وألوانه وأشكاله ، سلام الضمير والبيت والمجتمع  سلام الإنسانية كلها لمجرد أنه إنسان ، إنه تصوير لطبيعة الإسلام العالمية ، وليس هو سلام بالمعنى الضيق  بتجنب القتال بأي ثمن ، مهما كانت الأسس التي يقوم عليها ترك القتال ، لأن السلم الذي يقام على حساب الحقوق البشرية ، سلم رخيص دنيء لا شك في ذلك ، لأنه لا يقوم على المبادئ التي أرادها الله لبني الإنسان ، ولهذا فإن الإسلام في جهاد دائم لا ينقطع ، لتحقيق كلمة الله في الأرض ، ولتحقيق النظام الصالح .

إن الإسلام مكلف أن لا يهادن القوى الظالمة  وان يجاهدها ما استطاع ، وألا يعاونها ولا يقف في صفها بحال من الأحوال ، قال تعالى : ﴿ ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ﴾ . إن قوة الإسلام قوةً محررة ، واجبها أن تنطلق لتدك قواعد الظلم والاستغلال ، لا أن تداهن وتستكين للظالمين ، وإن المسلمين هم رواد الخير وصنّاع المجد ، وحملة الالوية الظافرة ، على طريق الأمن والنور والسلام ، ورسالة الإسلام تبني السلام العادل وتدعو إليه ، سلام يسعد البشرية ويهدئ روعها ، سلام لا يذل ولا يستسلم ، ولا يضعف ولا يهون ، وعندما يُضْطَهَدُ الإسلام فواجب المسلمين أن يبذلوا الأرواح رخيصة من أجله ، لأن أمة الإسلام ، هي أمة الخير والسلام ولأن واجب الجهاد جزء من طبيعة هذه الأمة  لتدافع عن عقيدتها ورسالتها ، هذه الرسالة التي تحارب الشرّ في أنفسنا ، فلا تدعها للشهوات .

إن الحضارات الإنسانية التي ازدهرت حيناً من الزمن ، وكانت لها صولة ودولة ومنعة ، وأثار ضخمة  وعمائر فخمة ، إنما سادت في ظل العدل والفضيلة  وبادت في ظل الفجور والرذيلة  وعلى الأمة المسلمة أن تتدبر ذلك وتستفيد منه وتنتفع به ، لأن ذلك هو سبيل بقائها ، وطريق عزها ومجدها .

إن التغيير هو وسيلة الإسلام لبناء مجتمع أفضل  تزدهر فيه قوى الخير ، وتنصرف فيه إرادة الحق ، وتُعزُّ فيه مشيئة الله .

إن التغيير من قديم الزمان ، هو سبيل الإصلاح  وأسلوب البناء ، وطريق البقاء  وعندما تتنكر الأمم لصوت الحق ، وتصم آذانها عنه ، وتغرق في المآثم والشهوات  فإن الله يأخذها بالنكال والعقوبة ويجعلها عبرةً لغيرها .

إن القارئ لتاريخ الأمم ، يلمس أن هناك أمماً طواها الظلم والجور ، وأودت بها المعاصي  فأصبحت أثراً بعد عين ، قال تعالى في أثر الظلم والظالمين : ﴿ فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا ، إن في ذلك لأية لقوم يعملون ﴾ رالنمل 52 . أقوام غيروا ما بأنفسهم من خير ، فغير الله حالهم إلى أسوأ حال .

أما ما هو سبيل الخلاص ؟ إنه يكمن في العودة إلى الله ، والتغيير الذي يقود إلى البناء ، والقضاء على المخالفات العفنة ، والرواسب الفاسدة ، واجتناب عوامل الفساد  وأسباب التردي  ودواعي الانحراف والضلال ، وما أروع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الصدد : ( أصلحوا بواطنكم يصلح الله ظواهركم ) . وصدق الله : ﴿ ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمةً أنعمها على قوم ، حتى يغيروا ما بأنفسهم ، وأن الله سميع عليم ﴾ الأنفال 53 .

فما أحرى الأمة المؤمنة ، أن تعتمد التغيير كلما لمحت بوادر التنكر لأوامر الله   أو الإغراق في شهوات الحياة ، حتى تظل المسيرة على منهج الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والإسلام يحتم علينا أن ندفع الظلم ، وليس ظلم أقبح على وجه الأرض أشنع من الاستعمار ، الذي يدعونا الإسلام لمجاهدته في كل ميدان ، وأن نعد أنفسنا في حالة حرب معه  حتى يزول خطره عن الإسلام والمسلمين .

قال تعالى : ﴿ وقاتلوا في سبيل الذين يقاتلونكم ﴾  إننا في حالة حرب مع الكفر وأعوانه ، حتى نسترد حقنا ، ونرد العدوان عنا ، تلك هي دعوة الإسلام التي تفتح لنا طريق الخلاص ، وترسم للبشرية كلها ، طريق السلام الكامل والشامل  المبرأ من البغي والفساد والعدوان .

إن استسلام المظلوم لظالمه ، جريمة لا تغتفر  ووقوفه في وجهه فريضة مقدسة  ومقاومته له مهما كانت التضحيات أمرٌ لا بد منه ،  والأمة مدعومة للرجوع إلى دينها ، الذي يؤمِّنُ لها حق العيش الكريم ، والأمل أن ينبثق فجر الإسلام بقدرته المذهلة ، على التقدم والانتشار ، رغم أشد الصعوبات وأقسى العقبات ، فيهيمن على عقول الناس وأفئدتهم ، ويملؤها بالنور واليقين ويعلمها كيف تتحرك في أجواء يسودها العدل والإخاء والتعاون .  إننا نؤمن بأن الإسلام هو طريق الخلاص ، لما نعاني من أحزان وآلام وتعقيدات وهو المنقذ والمخلص للأمة ، من أدران الفساد الواقع في حياتهم ، بسبب عدم تحكيم الإسلام .

ويوم يُحْكَمُ بكتاب الله يفرح المؤمنون بنصر الله وتوفيقه ، والتمكين في الأرض ، ألا إن نصر الله قريب من المؤمنين .

          

ضرورة محاربة الفساد

قال تعالى: ﴿ ظهر الفساد في البرِّ والبحرِ بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا  لعلهم يرجعون ﴾ الروم 41 . إن فساد قلوب الناس وعقائدهم وأعمالهم ، يوقع في الأرض الفساد براً وبحراً  وذلك في تقديري لا يتم عبثاً ، ولا يقع مصادفةً ، إنما هي سنة الله ، ليذيقهم بعض الذي عملوا من الشرَّ والفساد ويتألمون لما يصيبهم بما كسبت أيديهم ، ولما هو عليه الحال من فساد في أنظمة الحياة وقوانينها ، وفي الإدارة والحكم ، وحتى في الشوارع والمنتديات ، ولا يُطالب ذوو الرأي والبصيرة والجاه والنفوذ والسلطان ، بمقاومة الفساد والرجوع الى الله   وأن توزن الأمور بميزان الإسلام وتقاس بمقياس الشرع ، وعندما نطالبهم بأن يتصدوا لأفعال المنحرفين عن منهج الله ، ببيان زيف أعمالهم ، وكشف تصرفاتهم للأمة ، وإبداء رأى الإسلام وحكم الشرع في تلك التصرفات والأفعال  يستشهدون في معرض الدفاع عن أنفسهم ، بأن المطلب فيه هلاك وتهلكة مُستدلين بقوله تعالى: ﴿ ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ﴾ متناسين أن الآية نزلت في الدعوة إلى الإنفاق في سبيل الله والجهاد ، والتارك لذلك معرضٌ نفسه لهلاك الدنيا والآخرة ، بدليل قوله تعالى في أول الآية: ﴿ وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ﴾ . ويتجاهلون قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:  (من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله ، ناكثاَ لعهده مخالفاً لسنة رسوله ، فلم يغيرَّ بقول ولا فعل ،كان حقاً على الله أن يدخله مدخله ) . وقول على رضى الله عنه : "وإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لا يقرِّبان من أجل ولا ينقصان من رزق ، وأفضل ذلك كلمة عدل عند إمام جائر" . وهو المعنى الذي أفاده حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن من أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر) . إن نظرةً إلى الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية  وحتى علاقات الجنسين ، وما يسمى بالفن الساقط الرخيص ، نجد أن الفساد قد استشرى وعم ، ففي عالم السياسة : نجد كثيراً من الدول تدّعي أنها تحكم بإرادة الشعب ، والذي لا وجود له في الواقع ،  والذي يحكم  بإرادة الطواغيت لا بما أنزل الله ، حيث أن كل حكم غير حكم الله ، لا بد وأن يكون طاغوتا ، لأن الفساد في بنية النظام ذاته ، لا في الأداة المنفذة له ، ولا في وسائل التنفيذ  والعلاج ، وليس في مزجه بالحرية والديمقراطية ، وإنما بتغييره من أساسه ، وذلك بالرجوع إلى منهج الله دون سواه ، والحكم بما أنزل الله جملةً وتفصيلاً ، لأن الشقوة التي تعانيها البشرية ، لن يرفعها عنها تغيرات طفيفة في جزئيات النظم والأوضاع ، ولن ينجي البشر منها إلا تلك النقلة الواسعة البعيدة ، النقلة من مناهج الخلق الى منهج الرب ، ومن نظم البشر الى نظام رب البشر ، ومن أحكام العبيد الى حكم رب العبيد . وإن الذين يقولون ، إن الانحرافات والجرائم تُصَحَّح وتقوَّم وتردَعُ بالوعظ والإرشاد ، ويتجاهلون الدعوة إلى التطبيق الكلي للمنهج الرباني . إن هؤلاء نسوا أو تناسوا أن الجرائم لا تقاوم إلا بالقانون الرادع  والعقاب الصارم والحكم العادل ، الذي لا جور فيه ولا محاباة ، وما تفشت الرذائل وانتشرت الجريمة ، إلا يوم أن ظهرت هناك دعوات تنادي بالوعظ والإرشاد وحده ، واعتماد المقولة :" إذا صلح البيت صلح المجتمع "، مما أدى إلى ازدياد العدوان والطغيان ، وتفشي الجرائم وانتشار الرذائل ، وضياع القيم وفساد الذمم وأكل الربا ، مما أكد وجوب تحقيق مقولة القائل :" يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن" ، فالله لم يكتف بإنزال الكتب وإرسال الرسل ، بل شرع العقوبات ردعاً للمجرمين وقطعاً لدابر الجريمة .  أما لماذا يُستبعدُ منهج الله دون سواه عن واقع الحياة ؟ فهذا في تقديري له أسبابه ، ففي العالم  الإسلامي، لا يمكن للمسئولين فيه أن يطبقوا الإسلام ، لأنه يجعل ولاء الناس لله ، بينما هم يريدون أن يكون الولاء لهم من دون الله .  ومن المثقفين من هم خلاصة الكيد الخبيث للقضاء على الإسلام ، لأن الغرب أوهمهم بأن الإسلام تأخرٌ ورجعية ، وأن الوسيلة الوحيدة للتحضر ، هي إبعاده عن مجال الحياة العامة ، وإلغاء سيطرته على أي مفهوم من مفاهيم الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحتى الأخلاقية . وفي بلادنا من الكتّاب والقصّاصون والإذاعيون والتلفزيونيون والسينمائيون ، الذين هم ولا شك يكرهون الإسلام ، لأن التجارة التي يربحون عن طريقها ، هي تجارة فساد الأخلاق ، وإشاعة الفاحشة في المجتمع ، وإطلاق الأولاد والبنات بلا ضابط أو رادع ، وهم يعرفون جيداً أنها تجارة محرمة ، وأن الإسلام يوم يجئ ، لن يدع لهم ذلك المستنقع القذر، الذي يعيشون في أوساخه  إنها تجارة محرّمة  كتجارة الأعراض ، والمخدرات سواء بسواء ، وهم يعلمون أن الإسلام بنظافته وطهارته ، وأخلاقه المترفعة التي يربيَ أبناؤه عليها ، لن يتيح لهم الوجود والتكاثر والربح ، لذا يكرهون الإسلام .  وأما الأولاد والبنات : فقد فُتِحَ الباب على مصراعيه ، ليُفْسِدوا ويَفْسِدوا في تيار الانحلال الخلقي ، فصارت حياتهم أغنية مائعة أو رقصة داعرة فاجرة ، أو لحظة جنس مسعورة ، يمارسونها خفيةً أو علانية  وهؤلاء ولا شك يكرهون الإسلام ، لأنهم يعلمون أنهم يختلسون هذه الأعراض التي ينتهكونها ، والشهوات التي يمارسونها في غيبة من دين الله ، لأن الدين بنظافته وترفعه وتطهره ، لن يتيح لهم هذه القذارة الدنسة ، التي يعيشون فيها  وأما المرأة المتحررة : فهي من أخطر القضايا التي جند لها الغرب جهوده ، لأن المرأة أقدر على جرِّ المجتمع بعيداً عن الدين ، فهي أم ، وهي التي تنشئ الطفل النشأة الأولى ، وهي  التي تبذر في أبناءها بذور العقيدة تلقائيا ، في السنوات الأولى من حياة الأطفال ، وهؤلاء مهما فسدوا بعوامل خارجية ، ومهما خطط لذلك ، فستظل هذه البذرة التلقائية الأولى ، تردهم عن الفساد الكامل  وتعيدهم إلى الصواب . ومن هنا كان تخطيط الغرب لإفساد الأم ، بإخراج العقيدة من قلبها ، وذلك بالعمل لإخراج جيل من النساء ، لا يعرف من الإسلام إلا الاسم ، عندها لن تبذر في نفوس أبنائها بذور العقيدة ، مادامت هي لا تؤمن بهذه العقيدة ، وليس لها في حياتها حساب ، لأنها تربت على كره هذا الدين ، إنهم يريدون كما يقولون ديناً عصرياً ، بغير قيود ولا حدود . يريدون أن يتسللوا بالسينما ، ولو كانت فاجرة ، وبرقصات التلفزيون والأغاني الفاضحة على أنها مجرد تسلية ، فأوجدوا الستلايت (الدش) لهذا المهمة ، والذي غزا معظم البيوت . يريدون أن يَكْذِبوا ويغتابوا ويتجسسوا بحرية ، يريدون أن يستمتعوا بالفتنة التي تعرضها المرأة في الطرقات ، وتريد فئة من النساء أن يستمتعن بالقدرة على إغراء الرجال ، وأن يتبرجن في الملبس والزينة بلا قيود ، وإذا كان لا بد من الشعور بالإسلام ، فليكن عقيدة مستسرة في القلب أو على الأكثر عقيدة صلاة وصيام فقط ، إنهم لا يريدون للإسلام أن يحكم سلوك الناس ، ويلزمهم بتكاليف الإسلام في الصغيرة والكبيرة ، في الملبس الشرعي والمأكل الشرعي ، والحكم بالشرع ، فهذا في رأيهم ليس له لزوم ، وهذا الذي يدعونا للعجب ، لأن الإسلام يوجب علينا أن نصهر ذاتية الأمم في ذاتية الإسلام ، لا أن تجترئ أمم الفساد والشر لتذيبنا في ذاتيتها ، وهذا ما أوصل المسلمين الى الهوان الذي يعيشوه اليوم . ومع هذا نلاحظ تباشير جيل قادم ، سيحمل رايةَ الإسلام مهما عمل الكارهون للإسلام على إقصائه عن الحياة ، لأنهم ليسوا الموكلين بدين الله قال تعالى : ﴿ إن يشأ يذهبْكم أيها الناس ويأت بآخرين ، وكان الله على ذلك قديرا  ﴾  .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

من المسئول إذا هزم المسلمون أمام العدو

إن المسؤولية أولاً تقع على عاتق ولاة الأمر، لأنهم المسؤولون عن رعاية أمور المسلمين والقيام بمصالحهم ، ومن تلك الرعاية رفع المظالم عن المظلومين منهم ، ونصرتهم والدفاع عنهم ضد الظالمين ، وما دام هناك ظلمٌ واعتداء على المسلمين وديار الإسلام ، فإن الإسلام كفاح لا يهدأ وجهاد لا ينقطع  ، واستشهاد في سبيل الحق والعدل والمساواة فهو يبدأ في ضمير الفرد وينتهي في محيط الجماعة ، وهذا هو سرّ خلوده ، فقد انتصر المسلمون انتصار عقيدة ، غرست في نفوسهم حب الضبط والنظام ، وحببت إليهم الاستشهاد في سبيل الحق ، وجعلتهم يرون هذا الاستشهاد نصراً دونه كل نصر ، كما بعثت فيهم الاعتزاز بالنفس ، والشعورَ بأن عليهم رسالة واجبة الأداء للعالم .   

لقد تقبل العرب الإسلام بما فيه من تكاليف البذل والجهاد والتضحية والفداء ، لذلك سادوا العالم ودوخوا الدنيا ، فلما اصبحوا يتقبلون الإسلام بدون تكاليفه  ، خسروا كل شيء ، واصبحوا أذلاء مستعبدين حتى في ديارهم .

فما أحرانا أن نتفهم الإسلام ، ونتفهم حياة النبي صلى الله عليه وسلم التي هي التطبيق العملي للإسلام كما تَفهَّم ذلك الصحابة الذين ملأت العقيدة قلوبهم في مبدأ سيرهم ، وصحبتهم وحالفتهم في كل الأحوال التي عاشوها هازمين ومهزومين ، وجعلتهم يثقون بوعد الله لهم في فتح الأرض والسيطرة عليها بالحق والعدل ، كانوا إذا هزموا أمام العدو لأي سبب من الأسباب ، يلجأون إلى الله عز وجل  ليهبَ لهم الصبَر على ما نزل بهم ، ويسألوه أن يوفقهم ليُبدِّلوا ضَعْفَهم قوة وهزيمتهم نصرا  ويسدِّد خطواتهم وهم يبحثون عن الأسباب التي أدت بهم إلى الهزيمة ، من أجل العمل على تفاديها أو اجتنابها ، ثم معاودة التصدي للعدو من قريب  لغسل عار الهزيمة في نفوس المسلمين ، سواء كانوا من المقاتلين أو من غير المقاتلين . ولنا في ما قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم  في أعقاب غزوة أحد أسوة حسنة  فبعد أن هزم المسلمون اثر مخالفة أكثر الرماة لأوامر النبي صلى الله عليه وسلم ، وانصرف المشركون منصورين ورجع المسلمون مهزومين ، قرر النبي صلى الله عليه وسلم أن يُنْسي المشركين طعم انتصارهم قبل أن يصلوا إلى بلادهم ، وأن يجددَ في نفوس المسلمين ثقتهم بنصر الله ، ويعيد إليهم قيمتهم بأنفسهم ، من حيث أنهم أصحاب رسالة وحمله دعوة ، يتخذون الجهاد في سبيل الله طريقةً لإعلاء كلمته ، وتحطيمِ كلِّ عقبةٍ تقفُ في طريقها ، كما يعيد إليهم هيبتهم بين من يُحيط بهم من قوى الكفر فخرج رسول الله عليه السلام غداة يوم أُحد  مرهباً للعدوِّ ولِيَبْلُغَهم أنه خرج في طلبهم لِيَظُنّوا به قُوَّة ، وأن الذي أصابهم لم يوهِنْهم عن عدوِّهم ، وكان المشركون قد عزموا على العودة إلى المدينة للقضاء على المسلمين ، ولكن خروج المسلمين لمطاردتهم جعلهم يُغيِّروا رأيهم .

إن على المسلمين إذا ما نزلت بهم هزيمةٌ أن يُضمِّدوا جراحهم ، ويتحاملوا على أنفسهم ويظهروا الجلادة للعدو ما أمكنهم ، وأن يعودوا إلى صفوفهم فيلمّوا شعثها ، وإلى قوتهم فُيعيدوا بناءها ، وإلى أسباب الهزيمة في فيجتنبوها  وليُوطِّنوا أنفسهم على الثأر للحق واسترداد هيبة المسلمين في أقرب فرصة تسنح لهم . وليقاوموا أيَّ شعور يُراودهم بالاستسلام إلى روح الهزيمة  وليثقوا أنهم هم الأعْلون بإذن الله . مصداقاً  لقوله  تعالى : ﴿ ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم  مؤمنين ﴾ آل عمران139 . قد يهلل العدو ابتهاجاً للقضاء على الإسلام والمسلمين ، ناسين أن القلب المؤمن يظل مطمئناً إلى أن الإسلام خالد لا يموت ، وكل مصيبة تلم به مهما تكن عظيمة لا بد أن تحمل إليه انتصاراً  فهذه أمريكا التي تنظر إلى مقاومة الشعب الفلسطيني للاعتداء الإسرائيلي على أنه إرهاب  يجب العمل على وقفه ومعاقبة الذين يمارسونه  هي نظرة ليس لها مصدر إلا الحقد الأسود الذي يعمي عن الحقائق ، ويتيح للهوى أن يتكلم ويصدر حكمه كما يشاء ، وإلا فكيف يوصف بالإرهاب من حمل حجراً ، ومن يضحي بنفسه في وجه من أعلن عليه الحرب ، وقرر الفتك به وصمم على القضاء عليه ومحوه من الوجود .

و صادر كل ما وصلت إليه يده من أمواله وممتلكاته  إنه لمنطق غريب ممن يهدرون كرامتهم ويستبيحون دمائهم ثم يسمونهم بالإرهابيين وهنا يحضرني ما قاله الجندي الإنكليزي مرة لزميل له يصف الأفريقيين المعتدى عليهم قال : إن هؤلاء الإفريقيين وحوش والله ، وعندما سُئل عن السبب قال : تصور أن أحدهم عضني وأنا أقتله. هذا منطق غريب في عالم جعله الله لنا ميدان اختبار قال تعالى : ﴿ وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا ﴾ .الفرقان 20 .

فلا بد أن نُختَبَرَ بهؤلاء ويُخْتَبَرون بنا ، فالله يمكن أن يرسل صواعق تحرقهم أو زلازل تخسف بهم وتدمر عليهم قال تعالى : ﴿ ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم﴾ . فالله يمكن أن يتدخل وكل شيء طوع أمره  ولكنه يختبرنا أنؤمن ونجاهد ونبذل ونؤدي ما علينا ، أم نجبن وننكص على أعقابنا ، ونستكثر تكاليف الجهاد ونولي الأدبار . وقد ورد في تكملة الآية : ﴿ ولكن ليبلو بعضكم ببعض ﴾ وختمت  الآية بقوله  تعالى : ﴿ والذين قُتلوا في سبيل الله فلن يُضل أعمالهم ﴾ . أما الذين ولو الأدبار وقبلوا الدنية والظلم  فإلى جهنم وبئس المصير قال تعالى : ﴿ إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا ﴾ النساء 97. فما يعتَدِ مُعْتَدٍ وما ينجو جبار وما يتفرعن متفرعن إلا إذا أمن العقوبة ، ولو علم أنه إذا لطم لُطم ، لما امتدت يده بظلم لأحد ، ومن هنا فإن نصر الله يتمثل في الدفاع عن بلدي وبيتي ودمي وعرضي حتى استحق نصره ومغفرته قال تعالى :  ﴿ إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ﴾ .  ويكفي أن تستقر هذه الحقيقة في أي قلبٍ  ليقف بها أمام الدنيا كلها عزيزاً لا يتزعزع ، ما دام على طريق العزة التي تطلب عنده ، وإلا فلا عزة ولا قوة عند الآخرين ، وما يستعزُّ المؤمن بغير الله ، وما يطلب العزة والنصرة والقوة عند أعداء الله مؤمن ، وما أحوج الذين يدَّعون الإسلام ، ويتسمون بأسماء المسلمين ، ما أحوجهم وهم يستعينون بأعدى أعداء الله في الأرض ، أن يتدبروا كتاب الله ، إن كانت بهم رغبة في أن يكونوا مسلمين ، وإلا فإن الله غني عن العالمين .

لقد وعد الله بأن لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا ، وعداً قاطعاً ولن يخلف الله وعده إذا استقرت في نفوس المؤمنين حقيقة الإيمان وتمثلت في حياتهم منهجا للحياة ونظاماً للحكم ، وتجرداً لله في كل حركة وعبادة قال تعالى : ﴿ ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ﴾ . النساء 141 . وهذه حقيقة وهي أن الهزيمة لا تلحق بالمؤمنين ولم تلحق بهم في تاريخهم الطويل ، إلا وهناك ثغرة في حقيقة الإيمان ، الذي يدعو إلى أخذ العدة و إعداد القوة في كل لحظة وفي كل حين بنية الجهاد في سبيل الله ، ففي معركة أحد كانت الثغرة في ترك طاعة رسول الله   وفي الطمع في الغنيمة ، وفي حنين كانت الثغرة في الاعتزاز بالكثرة والإعجاب بها ، ولو ذهبنا نتتبع كل مرَّة تخلَّف فيها النصر عن المسلمين في تاريخهم  لوجدنا شيئاً من هذا نعرفه أو لا نعرفه ، وليس بيننا وبين النصر في أي زمان وفي أي مكان إلا أن نستكمل حقيقة الإيمان ، ونستكمل مقتضيات هذه الحقيقة في حياتنا وواقعنا ، ومن حقيقة الإيمان أن نأخذ العدة ونستكمل القوة ، وأن لا نركن إلى أعداء الله إن تفوق الكفر في معركة ، ليس معناه أن الله تاركه ، أو أنه من القوة بحيث لا يُغْلَبْ أو يبقى مسيطراً على الحق وأهله ، وإن بقاء الحق ضعيفاً فترةً من الزمن ، ليس معنى ذلك أن الله مجافيه أو ناسيه ، كلا ! إنما هي حكمة الله وتدبيره ، يملي الباطل ويرتكب أبشع الآثام  ويحمل أثقل الأوزار ، حتى ينال أشد العقاب باستحقاق قال تعالى :﴿ ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئا  ﴾ آل عمران 176 .  فالذين يحاربون الله وعباده أضعف من أن يضروا الله شيئا ، وبالتالي لن يضروا دعوته  ولن يضروا حملة هذه الدعوة ، مهما سارعوا بالكفر ، ومهما أصابوا أولياء الله بالأذى . وهنا سؤال : لاذا يتركهم الله ؟ لأن الله يدبِّرُ لهم ما هو أنكى وأخزى قال تعالى : ﴿ يريد الله ألا يجعل لهم حظاً في الآخرة  ﴾ . يريد لهم أن يستنفذوا رصيدهم كله  وأن يحملوا وزرهم كله  وأن يستحقوا عذابهم كله ، وأن يمضوا مسارعين في الكفر إلى نهاية الطريق : ﴿ ولهم عذابٌ أليم ﴾ وذلك أشد إيلاماً مما يملكون إيقاعه بالمؤمنين من آلام ، وإذا كان المتوعد هو الله ! فأين المفر ؟ وكيف النجاة ؟ : ﴿ ولله ملك السموات والأرض والله على كل شيء قدير ﴾ . آل عمران 189 .    

        

 

 

 

ما حقيقة الواقع الذي نعيش

إننا نعيش في وقت ، أصبحنا فيه أمماً لا أمةً واحدة   ذات قاعدة واحدة ومصير واحد ، وبدلاً من أن نكون دولةً واحدة ، أصبحنا بسبب الفراغ العقائدي   دويلات متناقضة ممزقة الأوصال ، مشتتة الشمل .

 فلا يوجد ما هو أحب إلى إسرائيل ، وآثر عندها من هذا التفتت ...لا إلى كيانات هشة فحسب ، بل إلى  جهاتٍ متباينة في مواقفها ، متناقضة في  أفكارها ومفاهيمها واتجاهاتها ، وإن هم إسرائيل كان وما يزال ، أن تجعل العرب أقل ارتباطاً بدينهم ، لتسهيل السيطرة عليهم وتحويلهم إلى قطيع سائب ، في خدمتها . وغاب عنا في هذه الدوامة ، التي تطحن بلا كلل ولا ملل ، فلا تقف ولا تعف وتدعو كل من عنده ذرة من كرامة ، إلى أن الثأر ضريبة دم ، وان الجهاد في سبيل الله حتم ، حين تُهدر الكرامة ، وتُهان الحرمات  وتُداَسُ المقدسات ، في الهجمة الشرسة التي تقوم بها إسرائيل محتقرة كل الأنظمة المجاورة لها  ومتحدية كل القوانين والأعراف الدولية .

 لأنه يتولى أمر هذه الأمة المريضة ، كلُ ما فعلوه من أجل استعادة الحق والكرامة مناشدة أعدى أعدائنا لرفع هذا الظلم  والخطابة بدل التخطيط ، والكلام بدل الفعل ، والكراهية بدل المحبة ، والتشنج بدل الحوار ، فأصبحت انتصاراتنا بهذا خطباً مسرحيه ، لا أفعالاً حقيقية  وبياناتٍ كاذبة ، لا مروءة ولا تضحية ولا إيثارا .

إن نظرةً إلى أحوالنا ، وما يحيط بنا ، نرى ألقاباً ورتباً وأوسمةً ، تتلألأ على الأكتاف والصدور  والله وحده عالم بما في الصدور ، وجنرالات ومارشالات بأعدادٍ كبيرة ،  مهمتهم حماية الأنظمة ، صقور على أهليهم   حمائم أمام إسرائيل ، أشداء على قومهم ، أذلاء أمام  إسرائيل ، لا يصلحون لغير المراسم والمواسم ...والاستعراضات وشدِّ المهاميز ، ونفخ الأبواق  وقرع  الطبول .

إننا نلمس واقعاً مؤلماً ، حيث السرقات والتهريب والتخريب ، ومؤتمرات مؤامرات  ومناورات ومساومات وتنازلات ، تجر علينا الهزائم ، وأساطير انتصارات نصنعها لإسرائيل ، والكل يدعو إلى السلام والاستسلام ، والاستخذاء والركوع  مع تنوع الأساليب والأشكال والأهداف . هذا هو واقعنا ، فكل الأنظمة  فريسة لأبطال السمسرة والتهريب ، والرشوة واستغلال النفوذ  والإثراء غير المشروع ، أما الشرفاء الذين يتحملون تبعات الحاضر ، وأمانة المستقبل ، فلا مكان لهم في مفاوز الزلفى و النفاق , و مفاسد الأخلاق ، وإذا كان هذا هو واقعنا ، فلم لا نلتزم بعقيدتنا  ونحتكم إلى شريعتنا التي تعطينا القدرة على ايجاد الحلول النهائية لمشاكلنا ، وألا نكتفي بأن تتضمن الدساتير مادةً ، تقول إن دين الدولة الإسلام ،  ثم نكتفي من الإسلام بشهادة ميلاد  وانتماء اجتماعي فقط لا غير ، ولا نعتنق من مفاهيم ديننا شيئا   ولا نطبق من أحكام شريعتنا الغراء ، الكثير أو القليل .

إن قوتنا الحقيقية  تكمن في عزمنا وتصميمنا على الجهاد  والاستشهاد في سبيل الله ، لاسترجاع الأرض والمقدسات ، وحماية العرض والشرف ، وهذا لا يكون إلا بالرجوع إلى الإسلام . إن دول الكفر تسعى إلى تعكير أجواء الأمةِ  بالسفاهةِ  والتفاهة ، وإن العملاء  يفلسفون الهزيمة بألف تحليل و تحليل ، من المبررات الكاذبة البراقة ، خشية عودة الأمة إلى أصولها والى إيمانها  وترك ذلك سبب مصائبها ، فلو تسلح القادةُ الذين يتولوا قيادة جيش الأمة بالإيمان بالله ، لما طغت إسرائيل وبغت . إن الأنظمة التي تقوم على إبعاد الدين والعقيدة  عن المواجهة مع أعدائها ، يكتر فيها الخونة والعملاء ولم لا ، وهم لا يؤمنون بالله ، ولا يقيمون وزناً لمبادئ شريعته ، ويفضلون متاع الدنيا ، وشهوة الجاه الرخيص ، والطموح السخيف ، على الكرامة والنخوة والجهاد . إن قوة العدو ، لم تكن أمراً خارقا ، بل كانت الخيانات العربية ، هي الخوارق ، التي ليس لها نظير   ولم تكن أسطورة نصر عدونا تفوقاً معجزا بل هي انعكاسٌ للواقع الأَسود الذي نعيش . وهنا نتساءل : هل نتعظ ؟ وهل توقظنا العبر ؟  كلا  وألف كلا . فالملهاة تختلط بالمأساة ،كانت وما تزال  والممثلون هم الممثلون ...والمناخ العربي ما يزال مهيأً اليوم ، كما كان مهيأً بالأمس ، نراوح مطارحنا في انتظار فرج الله  والمعركة بعد طويلة ، بيننا وبين أعدائنا ، ومنطق الرفض الإيجابي ، مع المناجزة المستمرة والجهاد الموصول ، الذي يدعو إليه ديننا من الصدق  والإخلاص ، الذي يقوم على مبدأ التنافي بين العرب والإسلام من جهةٍ ، وبين اليهود وأعوانهم من جهةٍ أخرى ، فلا سبيل إلى المهادنة أو المصالحة أو التنازل أو الاستسلام .

إن طريق النجاة ، لا ولا يمكن ، أن يكون إلا بالعودة إلى الله ، وبما أن الإسلام قد جاء بشريعةٍ متكاملة  تصلح لكل زمان ومكان ، وهو الذي يقف في مواجهة سفه الصهيونية ، وجشع الرأسمالية . فان معركته هي معركة المصير الإنساني ، وإن أعمى البصيرة وحده ، هو الذي يرضى بواقع هذه الأمة   التي قال فيها عمر بن الخطاب : "كنا أذل قومٍ  فأعزنا الله بالإسلام" .

إن هذا العالم الفاجر الداعر ، الظالم الغادر  المنحرف عن المسار الصحيح ، لا ينقذه إلا الإسلام ، فقد شهدنا تغيرات كثيرة ، باسم شعارات متعددة ، ولكن الأمور تسير من سيئ إلى أسوأ ، لأن كل تغييرٍ لا ينبثقُ من خلال عقيدة وإيمانٍ صحيح ، فإنَّ مصيره إلى زوال  أو إلى مزيدٍ من المعاناةِ والآلام .

إن التغيير المنشود ، لا يتم إلا عن طريق تغيير  بنية المجتمع كلها من الأساس إلى القمة ، أما أن يكون البعض أسياداً والبعض عبيدا ، والبعض جائعا والبعض متخما  فإن ذلك يتنافى مع مبادئ ديننا وعقيدتنا .  

إن المعركة مع أعداء الإسلام طويلة وشاقه ، لذا ينبغي على الفئة التي تقوم بهذا العبء ، أن تُربى لتكون طويلة النفس ، شديدة الصبر ، عميقة الإيمان بالله  عميقة التوكل عليه ، مستعدة لما يتطلبه أمرها من المعاناة ، قادرةٌ على أن تبذل من نفسها ، من جهدها ومالها ودمها وفكرها ، ما يحتاج إلى إزالة الغربة التي ألمت بالإسلام ، ليعود مرَّةً أخرى راسياً في الأرض  وحين تكون هناك القاعدة المطلوبة لإعادة حكم الله في الأرض ، فإنه يمَكِّنُ لدينه بمشيئته سبحانه .                    

                                                  

 

 

 

ما الذي أصاب الأمة

لقد خسرت الأمة ثقتها بنفسها وقدرتها على تجاوز المحن والأزمات  حتى وصلت إلى حد من الشعور بالضعف الذي أوصلها إلى العيش مع أعدائها بنفسية المغلوب  فأقرت لهم بالتبعية والولاء ، وما نكبت ألامه وذلت إلا يوم توجهت للغرب ، تقتات من فتاتـه  وتتمسح بأعتاب، وتسير في ركابه ، وإن امة تعيـــش على فتات الغير و تقتات من موائده ، لا يمكن أن تصنع نصرا ، أمة تبحث عن الرخصة في الدين فنسيت : ﴿ خذوا ما آتيناكم بقوة ﴾ وقرأت : ﴿ أن تبروهم وتقسطوا إليهم ﴾ وتركت : ﴿ ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون ﴾ فأصبحت قراءتها للنصوص تناسب ضغط الواقع لا مقاصد الشريعة ، وحتى ترقى الأمة وتعود لها مكانتها فلا بد من بعث روح العزة والقوة فيها ، العزة التي جعلها الله ملازمه للإيمان قال تعالى : ﴿ ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ﴾ فمتى استقر الإيمان ورسخ فالعزة معه مستقرة ،لان المؤمن يجد في كتاب الله ما يغنيه ، وفي سنة نبيه ما يرويــه ، وفي عقيدته ما يكفيه ، ولأنه يؤمن أن المعاصي تورث الذل ، وأن العز كل العز في طاعة الله ، وكان من دعاء بعض السلف : " اللهم أعزني بطاعتك ولا تذلني بمعصيتك " والمؤمن العزيز لا يستجدي الناس أبدا بل يستغني بما عنده عما في أيدي الناس وقد قيل : " استغن عمن شئت تكن نظيره ، وأفضل على من شئت تكن أميره واحتج إلى من شئت تكن أسيره "  فمن عزة المؤمن أن لا يكون جبانا ، بل يستميت دون نفسه وعرضه وماله ، أما الخوف من الموت و تحمل العار طلبا للبقاء في الدنيا على أي صورة فذلك جهل وحمق ، لان القضاء يصيب العزيز وله أجره  ويصيب الذليل وعليه وزره فلم لا يكون المؤمن عزيزا ما دام لن يفلت من القضاء المحتوم إنسان ولقد أحسن القائل :

وإذا لم يكن من الموت بد    فمن العار أن تموت جبانا

لقد خُيل للبعض من الأمة أن الإسلام لم يعد صالحا لمواكبة التطور في هذا العصر متناسين أن الذي تخلف عن مواكبة التطور ، لم يكن الإسلام وإنما هم المسلمون لبعدهم عن حقيقة الإسلام ، لقد ذل المسلمون لبعدهم عن حقيقة الإسلام ، وإن بقيت لهم  بعض مظاهره كالنطق بلا إله إلا لله دون العمل بمقتضياتها ، وأداء بعض العبادات في أداء تقليدي خال من الروح ودون إدراك المقصود منها  والتمنيات بأن ينصر الله دينه ويعيد إليه عزه ومجده ، بدون الإعداد والاستعداد ، فهل هذا هو الإسلام ، أم أنها صورة مناقضة لحقيقته ؟ أستطيع القول أنها أوهام يحسبونها حقيقة .

توهم كثير من الناس حين يؤدون الركعات المفروضة ويصومون الأيام المفروضة على أي صورة ، ويؤدون الزكاة المفروضة أنهم قد أدوا كل العبادات ، ومن ثم خرجت أخلاقيات لا إله إلا لله من دائرة العبادة  كثيرون يصلون ويكذبون ويغشون ويخلفوا وعودهم ولا يخلصوا في عملهم ولا يؤمروا بالمعروف ولا ينهوا عن المنكر   ولا يحدثون أنفسهم بالجهاد ، وتوهموا أنهم ما داموا مسلمين فسينصرهم الله ويوفقهم ويقضي حوائجهم وم يعلموا أن قوة المسلم الحقيقية هي في الإيمان والسيرة الطيبة الناتجة عن رسوخ معاني لا إله إلا لله في القلب ، لأنها إن لم ترسخ في القلب واقتصر على مجرد النطق بها ، فإنه لا ينشأ عنها انقلاب في الحركات والأعمال ، ومن ثم لا يكون هناك فرق بينه وبين المنكرين لها من حيث الأعمال والأخلاق ، يستجدي غير الله كما يستجدون ،ويخاف ما  سوى  الله كما يخافون وتكون أفعاله وأقواله ومعاملاته مثل ما يكون لغير الله وإذا وصل الأمر بالمسلم أن يكون كغير المسلم من انعدام روح التقوى والإيمان ، فإن الغلبة تكون للأقوى في ميدان المبارزة والفرق واضح إذا ما قرأنا التاريخ ، فبسلاح الإيمان قامت قلة من المسلمين بهزيمة فارس والروم أعظم دولتين في ذلك العصر ، ونشروا راية الإسلام في أغلب أنحاء الدنيا ، وهاهم عندما تخلوا عن حقيقة الإيمان وقد زاد عدهم عن المليار خاضعون لدول الكفر ، إنها الغفلة عن السنن الربانية التي أشار الله إليها في قوله تعالى: ﴿ يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ﴾  محمد 7 . لقد هزم المؤمنون وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في معركة أحد حين عصوا أمر رسوم الله صلى الله عليه وسلم وهزموا يوم حنين حين أعجبتهم كثرتهم ، فكيف في هذه الأيام والناس غارقة في البدع والمعاصي أفكان الله ناصرهم وهم لا ينصرونه ؟ لمجرد دعواهم أنهم مؤمنون ، أفكان الله موفقهم وهم يعصونه وقلوبهم غافلة عن أمره ونهيه ؟ ولكنها المأساة التي أصابت الأمة يوم أبعدت الشريعة كشرط للتغيير ، إنها سنة الله لا تتبدل ولا تتحول ولا تحابي أحدا قال تعالى : ﴿ ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم  ﴾ الأنفال 53 .

 

 

 

ما الحل وما المخرج مما نحن فيه

  في وقت تتبرأ حكوماتنا من نية الحرب وحتى من نية الاستعداد له ، وتصرِّح دون خجل بأن الحرب ليست حلاً ، علينا أن نرجع إلى الله ، لأن بعدنا عنه والعياذ بالله لن يجدي ، بل سوف يزيدنا ضعفاً على ضعف ، كما يزيد طمع الطامعين ، ذلك أن الدول الكبرى منحازة إلى جانب المعتدي وتكيل بمكيالين ، بخصوص المشاكل التي تقع في أنحاء متفرقة من العالم .

فما حصل في زائير والملايين التي تموت جوعا وفي الصومال والبوسنة والشيشان ، وما يحصل في كوسوفو ، دليل واضح على أن لعاب هؤلاء المتحضرين يسيل شراهة وحقداً على الشعوب الضعيفة ، ثم يعلنون بأنهم يريدون إحلال السلام الذي يعرفون أنه ليس له وجود .

فما أن تخلصت الأمة من الاستعمار العسكري القديم ، وما كادت تنتهي من عصور الانتداب والوصاية ، حتى حلَّ مكان ذلك السيطرة على العالم الإسلامي ، بأساليب أكثر دهاءاً وخداعاً  إن عدونا لم يكتف بما حققه من هيمنة سياسية وسيطرة اقتصادية ، ولم يقف عند حد نهب ثروات الشعوب الإسلامية ، التي تدفع أحد عشر دولاراً مقابل كل دولارٍ تحصل عليه على صورة مساعدات ، والعمل على مصِّ دماء هذه الشعوب ، إذا علمنا أن ثلاثين ألف شخصٍ هم عدد الموظفين الأندنوسيين لمصنع نايك للأحذية الرياضية ، والذين يقلُّ إجمالي مرتباتهم السنوية عما يتقاضاه نجم كرة السلَّة الأمريكي مايكل جوردان لقاء ظهوره في الإعلان عن هذه الأحذية  وهذا مما نشرته مجلة تايم الأمريكية .

كما أن عدونا يحاول الدخول إلى عقل كل واحد من المسلمين ، فلا يعود المسلمون يرون المعالجات لواقع مشاكلهم إلا من زاوية حقوق الإنسان والتعددية والديمقراطية والحريات وسياسات السوق والعولمة وما إلى ذلك من المفاهيم الرأسمالية ، إلى جانب ما يجري من تحريفٍ لمفاهيم الإسلام وأحكامه ، تحت شعارات الوسطية والاعتدال والتسامح ، ونبذ التشدد والتطرف والتعصب ، بالإضافة إلى تسخير وسائل الإعلام العالمية إلى تشويه صورة الإسلام ، واستعداء العالم على المتمسكين به ، بوصفهم بالتشدد والتطرف والعنف والإرهاب ، كما تسخِّر لذلك عملاءها ومن يسيرون في ركبهم من المنافقين ، بل وحتى ممن يتظاهرون بالحرص على الإسلام .

إن استعمار الأمة الإسلامية والسيطرة عليها ليس المقصود منه الوجه المادي أو نهب الخيرات والثروات ، إنما المقصود الأساسي هو الحيلولة دون عودة الأمة إلى حمل رسالتها إلى العالم .      

فما المطلوب منا إزاء ما يجري ؟ إنه الإعداد والاستعداد ، وتثقيف الأمة تثقيفاً سياسياً والسياسة : هي رعاية شئون الأمة ، وتزويدها بالمعرفة الصحيحة في حمل الدعوة الإسلامية  وحشد الإمكانات لمواجهة هذا المصير المؤلم  وعدم التخوف من التفوق التقني لدي الأعداء  وتاريخنا خير شاهد على ما نقول ، فالنصر ليس دائماً للأكثر سلاحاً أو عتادا ، فالروم والفرس كانوا أكثر من المسلمين عدداً وعتاداً حينما هُزموا ، لأن أسباب النصر والهزيمة من عند الله  وما علينا إلا أن نُعدَ العدةَ كما طلب الله سبحانه منا ، لأنه ليس عند الله أزمة وسائل ، فهو يحي ويميت ، وعنده القدرة على أن ينصرنا عليهم يقول الرسول والمؤمنون : متى نصر الله ؟ استبطاءً لمجيء النصر ، وكان الإنسان عجولا ، وهنا يطمئن الله العباد بقوله : ﴿ ألا إن نصر الله قريب ﴾ . بشرط أن نؤمن به كما طلب منا ، لأن الإيمان هو القوه التي تصنع الإنسان ، وتصنع الأمل وتستجلب النصر .

إن الذين يؤثرون الدنيا ويحبون الحياة ، سوف يغادرونها رغم أنوفهم ، فلم الخوف والجبن ، إن الإيمان لا يريد منا أن نقف مكتوفي الأيدي ، أمام البغي الأكبر ، وأن نلتمس الأمان في أحضان الكفر ، بل يريد منا أن نجد في مواجهة الأخطار  وأن نكف عن الاسترخاء ، وأن نصحوا ونُفيق ؟ إذا علمنا مثلاً أن أمريكا تعتبر أن كثرة النسل في عالمنا ، يشكل خطراً عليها كما زعم كسينجر عندما قدَّم تقريراً منذ سنوات إلى الرئيس كارتر  مشيراً فيه إلى ارتفاع معدل المواليد في العالم الثالث ، وأن ذلك يُشكِّل خطراً على الأمن القومي الأمريكي ، ونتيجة لذلك بادرت أمريكا إلى عقد مؤتمرات السكان ، وقد جرى في البرازيل وحدها ، تعقيم خمسة وعشرين مليون امرأة في سن الإنجاب .

كما يجب أن نعلم بأن في إسرائيل تيارات مختلفة  منها التيار العلماني ، الذي يذكرنا بأن الصهيونية علمانية لا دينيه ، فهم لا دينيون ويطالبون بأرض الميعاد ، وأكبر دليل على ذلك الاحتفال المئوي بالصهيونية في مؤتمر بال في سويسرا ، لم يذهب رئيس دولة إسرائيل ولا رئيس وزرائها لحضوره وظل رئيس الحركة الصهيونية يلف على الموائد ليجمع التبرعات لتصب في خزائن إسرائيل .

إننا نذكر بأن سياسة نتنياهو ما هي إلا وجه من أوجه السياسة التوسعية ، التي مارسها التيار العلمانيّ ممثلاً في حزبي العمل الإسرائيلي . وأن سياسة إسرائيل تقوم على التوسع والعدوان  وضرب القوانين الدولية عُرض الحائط ، مما يدل على عداوتها المريرة الدائمة للإسلام ، مصداقاً لقوله تعالى :﴿ لتجدنَّ أشدَّ الناس عداوةً للذين آمنوا اليهود  ﴾ المائدة 83 .

إن اليهود كانوا وراء إثارة النعرات القومية في دولة الخلافة الأخيرة ، ووراء الانقلابات التي ابتدأت بعزل الشريعة عن الحكم ، وانتهت بإلغاء الخلافة جملةً على يدي أتاتورك اليهودي ، وليس هناك ما يماثل معركة اليهود مع الإسلام إلا معركة الصليبية ، لذا حذَّر الله الأمة المسلمة من اليهود والنصارى على حدٍ سواء فقال: ﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ﴾ المائدة 51 .

وهاهم يتولون محاربة حركات الإحياء والبعث الإسلامية في كل مكان على وجه الأرض  يساعدهم حكام يسالمونهم ويذلّون شعوبهم مخالفين بذلك تعاليم الإسلام ، الذي يتحقق بإقامة منهج الله في الأرض ، خضوعاً وطاعةً وإتباعا ، ويرفض أن يتحوَّل الإسلام إلى شعائر وعبادات أو تهذيباً خلقياً أو إرشاداً روحياً وكفى   بل يجب أن يتبع ذلك كله التطبيق العمليّْ الممتمثل في منهج الحياة الموصول بالله سبحانه وتعالى الذي تتوجه إليه القلوب بالشعائر والعبادات ، هذا هو الإسلام كما يريده الله ، ولا عبرة بما تريده أهواء البشر أو يصوره أعداؤه المتربصون به .

إن الإسلام دينٌ وعقيدةٌ ونظام ، دينٌ الهي وعقيدةٌ أخلاقية ، ونظامٌ متكامل يجمع بين اقتصادٍ عادل ومجتمعٍ سليم ، وتشريعٍ مدنيٍ وجزائي ودولي .. وهو قطعاً صالح للحاضر والمستقبل ، كما كان صالحاً للماضي ، وهو يجمع في الحكم ما بين عدل الحاكم وطاعة المحكوم  ، ألحا كمية فيه لله وحده ، وإن وظيفة الحاكم في الإسلام ، تنفيذ شريعة الله  ، فإن أحسن وجبت له الطاعة ، وإن أساء انتقضت طاعته ووجب تقويمه .

إن العودة إلى الدين هي زاد المجاهدين ، يشعر معها المؤمنون أنهم جند الله لا جند الطواغيت وأنصار الحق لا أنصار زيد وعمرو ، سلاحهم الإيمان وزادهم التقوى ، ويجري هذا النسق في كل مجرى وفي كل اتجاه ، فالقيادة بلا إيمان خيانة والسياسة بغير إيمان دجل ، والتجارة بلا إيمان غش ، والجندية بلا إيمان جبن ، وكل ما عدا ذلك باطل يدفع باطلا ، وشبهة تسوق شبهات  انه حتمية فوق كل الحتميات ، وروحيةٌ تصنع الأعاجيب وتحقق المعجزات .

إن من الظلم أن تُحرم هذه ألأمه من تطبيق كتاب ربها وسنة نبيها ، وألا تحتكم إليهما فيما يعرض لها من أحداث وشئون ، وإن من الضلال أن يصبح الإيمان بالله سبحانه لغوا .

إن دول الكفر تأبى علينا ذلك ، ونحن نأبى إلا ذلك ، ومما يؤسف له أن هذا الإباء لا يأتي من الخارج فقط ، فإن بيننا أُناس يضيقون بحكم الله ويحتكمون إلى الطاغوت ، وعندما وقعت السلطات في بلاد الإسلام في أيدي هؤلاء  أوقعت بالإسلام أبلغ الضرر . وإن هذه الفئات الضالة المضلة ، هي التي تستفيد من إفساد دين الله ودنيا الناس ، ويهمها أن تفسد سياسة الحكم والمال ، وتؤذيها الصحوة الإسلامية ، ورغم ذلك تجدُ من يتملقهم ويتزلّف إليهم كذباً ونفاقا . وقد يكون بعض هؤلاء من العلماء المعنيين بما ورد في الحديث : ( أن أناساً من أمتي سيتفقهون في الدين ويقرءون القرآن ، يقولون نأتي الأمراء فنصيب من دنياهم  ، ونعتزل بديننا ، ولا يكون ذلك . كما لا يجتنى من القتاد إلا الشوك كذلك لا يجتنى من قربهم إلا ... كأنه يعني الخطايا ) . وعن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لكعب بن عجرة : ( أعاذك الله من إمارة السفهاء . قال وما إمارة السفهاء ؟ قال أمراء يكونون بعدي ، لا يهتدون بهدي  ولا يستنون بسنتي ، فمن صدَّقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم ، فأولئك ليسوا مني ولست منهم ، ولا يردون على حوضي ، ومن لم يصدّقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم ، فأولئك مني وأنا منهم  وسيردون عليَّ حوضي ) .

إنا لنأمل أن يقوم للإسلام رجال لا يخافون في الله لومة لائم ، يردون عادية الإلحاد والفسوق   ويرفعون أعلام اليقين والمرحمة .                                                                                                                            ولله أوسٌ آخرون وخَرْرَجُ      فيدرك ثأر الله أنصارُ دينه

إنهم قادرون على الخلاص مما هم فيه من ذلٍّ وهوان ، والأعداء يدركون هذه الحقيقة ، لذا يشيعون بين المسلمين أجواء الخوف والرعب والإرهاب الذي حذَّرنا الله منه بقوله : ﴿ فلا تخافوهم وخافونِ إن كنتم مؤمنين ﴾ آل عمران 175 .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

                  

 

 

 

 

            

 

 

 

 

 

لضياع الُمْلك أسباب

قال تعالى : ﴿ قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنـزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير ﴾آل عمران  . إن الله مالك الملك بلا شريك وهو يُمَلِّك من يشاء ما يشاء من ملكه  يُمَلِّكُه إياه تمليك عارية ، يستردها ممن يشاء عندما يشاء ، و ليس لأحد ملكية أصيلة يتصرف فيها على هواه ، إنما هي ملكية معارة له ، خاضعة لشروط المملّك الأصلي وتعليماته ، فإذا تصرَّف المستعير فيها تصرفاً مخالفاً لشرط المالك ، وقع هذا التصرف باطلا ، وتحتم على المؤمنين رده في الدنيا ، أما في الآخرة فهو محاسب على باطله ومخالفته ، لشرط المملِك صاحب الملك الأصيل .

إن الله يؤتي الملك من يقوم به ، ولا ينـزعه إلا ممن فسق عن أمر ربه يقول تعالى  :  ﴿ لا ينال عهدي الظالمين ﴾ البقرة 124 . فالملك لله سبحانه وتعالى ، ولا يظن إنسان انه ملك شيئاً أو جاهاً في هذه الدنيا بغير مراد الله ، فإذا انحرف العباد فلا بد أن يولى الله عليهم ملكاً ظالماً . لماذا ؟ لأن الأخيار قد لا يحسنون تربية الناس قـال تعالى : ﴿ وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون﴾ الأنعام 126 . وكأن الله يقول سوف أضع ولاية ظالم أكبر على هذا الظالم الصغير لينتقم منه   فالله هو المتصرف في ملكه ، وحين يخرج الناس عن طاعة الله فإن الله يسلط عليهم الحاكم الظالم   ولا يظن ظانٌ أن أحداً قد أخذ الملك غصباً من الله ، إنما الملك يريده الله لمن يؤدب به العباد ، وإن ظلم المَلِكُ في التأديب فإن الله يبعث له من يظلمه ، ومن رأى ظلم هذا المَلِك أو ذاك الحاكم ، فمن الجائز أن يريه الله هذا أو ذاك مظلوما : قال تعالى : ﴿ وتنـزع الملك ممن تشاء﴾ ينبهنا الله إلى أن هؤلاء المتشبثين بكراسي الحكم نسو أن الله قادر على أن ينـزع ملكهم متى شاء . وقف أبو عبدالله آخر ملوك غرناطة بعد انكساره أمام جيوش فرديناند وايزابيلا على شاطئ الخليج الرومي ، وهي تحت ذيل جبل طارق قبل نزوله إلى السفينة المعدة لحملة إلى إفريقيا ، وقد وقف حوله نساؤه وأولاده وعظماء قومه من بني الأحمر ، فألقى على ملكه الذاهب نظرةً طويلة ، وأنشأ يبكي بكاءً مرّاً ، حتى بكى كلُّ من حوله لبكائه ، وقد أحس هاتفاً يهتف باسمه ، فرفع رأسه فإذا شيخ ناسك متكئ على عصاه ، واقف على باب مغارة من مغارات الجبل المشرف عليه ينظر إليه ويقول : نعم لك أن تبكي أيها الملك الساقط على ملكك بكاء النساء ، فإنك لم تحتفظ به احتفاظ الرجال ، لقد ضحكت بالأمس كثير   فابك اليوم بمقدار ما ضحكت بالأمس ، فالسرور نهار الحياة والحزن ليلها ولا يلبث النهار الساطع أن يعقبه الليل القاتم ، لو أن ما ذهب من يدك من ملك ذهب بصدمة من صدمات القدر ونازلةٍ من نوازل القضاء ، من حيث لا حول لك في ذلك ولا حيلة ، لهان أمره عليك ، أما وقد أضعته بيدك فابك عليه بكاء النادم المتفجِّع الذي لا يجد له من مصابه عزاء ولا سلوى ، لي سبعة أعوام انتظر فيها هذا المصير الذي صرتم إليه وأترقب الساعة التي أرى فيها آخر ملك من ملوك بني الأحمر ، يرحل عن هذه الديار رحلة لا رجعه بعدها ، لأن المُلْك الذي يتولى أمره الجاهلون الظالمون لا دوام له ولا بقاء .

وكان مما قاله ... ستقفون غداً بين يدي الله يا ملوك الإسلام ، وسيسألكم عن الإسلام الذي أضعتموه ، وهبطتم به من علياء مجده حتى ألصقتم أنفه بالرغام ، وسيسألكم عن المسلمين الذين أسلمتموهم بأيديكم إلى أعدائكم ، ليعيشوا بينهم عيش البائسين المستضعفين ، وسيسألكم الله عن الأولاد الذين سقتموهم إلى ميادين القتال ليقاتلوا إخوانهم المسلمين قتالاً لا شرف فيه ولا فخار " .

وها نحن نرى الأعداء بقوتهم وغطرستهم وباطلهم الذي صنعوه ، يحاكمون ويحكمون ويتوعدون رجالاتنا بلا خوف ولا وجل ، فلهم الحق أن يفعلوا ما يشاءون ، فقد خلا لهم وجهُ البلاد  وأصبحوا أصحاب القوة والسلطان فيها  وللسلطان عزة لا يبالي بعهد ولا وفاء ، إنهم يتعاملون مع شعوبنا تعامل الأقوياء مع الضعفاء ، إنه سيف قاطع ، وغلٌّ ملتف على الأعناق  لأنهم الأقوياء ونحن الضعفاء ، فليصنعوا ما يشاءوا لأنه الحق الذي خولته لهم قوتهم ، فملكوا علينا مشاعرنا وعقولنا ، حتى لا ندين إلا بما يدينون لأنا عجزنا عن أن نكون أقوياء  فنالنا ما ينال الضعفاء ، ظلمنا أنفسنا وقد تعهد الله أن ييُسَّر الله للظالم من يؤدبه قال تعالى : ﴿ وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون ﴾ الأنعام 129 .  فإذا أراد الله أن يؤدب ظالماً لا يأتي له بواحدٍ من أهل الخير ليؤدبه فالله سبحانه بتكريمه لأهل الخير ، لم يجعل منهم من يكون في مقام من يؤدب الظالم  إنها إرادة الله أن يجعل أهل الخير في موقف المتفرج على تأديب الظالمين بعضهم ببعض ، وعلى مدار التاريخ فقد صنع الظالمون بعضهم في بعض الكثير ، بينما لو تمكن منهم أعداهم الحقيقيون ، لرحموهم لأن قلوبهم مملوءة بالرحمة , فكان على الطاغية أو الحاكم المستبد أن لا يظن أنه أخذ الحكم بذكائه أو بقوته ، بل إن الله جاء به ليؤدب الظلمة ، بدليل أنه ساعة يريد الله أن تنتهي هذه المسألة ، فالله بجلاله ينـزع المهابة من قلوب حرّاسه ، وبدلا من أن يدافعوا عنه بالبندقية يصوبها عليه ، فلا يظن ظان أن مَلِكا يأخذ الُمْلك قهراً عن الله   والعباد إذا ظلموا وطغوا ، يسلط الله عليهم من يظلمهم وقد قيل "الظالم سيف الله في الأرض ينتقم به وينتقم منه " فكأن ما سلَّطه الله على الناس من شر إنما هو نتيجة لأعمالهم ، وقديماً قيل : " وما من ظالمٍ إلا سيبلى بأظلم " .  

 

لابد للحق أن ينتصر

إن ذهاب الباطل ناجياً في معركةٍ من المعارك ، ليس معناه ان الله تاركه ، أو أنه لا يُغلب ، ولا يعني بقائه ضعيفاً فترةً من الزمان ، أن الله مُجافيه أو ناسيه ، إنما هي حكمة الله ، يُملي للباطل ليمضي الى نهاية الطريق ، وليرتكب أشد الآثام  حتى ينال العقوبة من الله باستحقاق . وقد يُبتلى الحقُ ، ليميز الخبيث من الطيب ، ويعْظُمَ ألأجر ، لمن يَثْبُتْ ويمضي مع الابتلاء ، وذلك كسب للحق وخسارةٌ للباطل ، قال تعالى:﴿ ولا يحزُنْكَ الذين يُسارعون في الكفر ، إنهم لن يضروا الله شيئا يريد الله ألا يجعل لهم حظاً في ألآخره ، ولهم عذاب عظيم ﴾ فالذين يسارعون في الكفر ، ويلتجؤون الى دول الكفر ، إنهم يحاربون الله بذلك  لكنهم أضعف من أن يضروا الله شيئا ، أو يضروا حملة دعوته ، مهما سارعوا في الكفر ، ومهما أصابوا أولياء الله بالأذى . أما لماذا يتركهم الله سالمين وهم أعدائه المباشرون ؟ إنه يريد ألا يجعل لهم حظاً في ألآخره ، يريد لهم أن يستنفذوا رصيدهم كله وأن يحملوا وزرهم كله ، وأن يستحقوا عذابهم كله ، لقوله تعالى ولهم عذاب عظيم . إنه يريد بهم هذه النهاية الفظيعة ، لأنهم استحقوها بشرائهم الكفر بالإيمان ، وانهم لن يضرّوا الله شيئا ، ولن يوقفوا دعوة الله ، ولن يضروا أولياء الله ، ومهما أوقعوا بالمؤمنين من أذى وقتي ، فهو الى حين ، أما لماذا نرى أعذاء الله ، وأعداء الحق متروكين ،لا يأخذهم العذاب ، ممتعين بالقوة والسلطة والجاه والمال ، حتى يظن ضعاف النفوس أن الله - حاشاه - يرضى عن الباطل والشر ، والجحود والطغيان ، فيملي ويرخي له العنان ، أو يحسبون ان الله لا يتدخل في المعركة بين الحق والباطل ، ويدع الباطل يتغلب على الحق ، ويدع الظلمة الطغاة ، يسارعون في عتوهم وكفرهم ، ولا يوجد من يقوى على الوقوف في وجههم . إن مثل هذه التسائلات وهم باطل ، لأن ألأمر ليس كذلك ، والله يحذّرُ الذين كفروا أن يظنوا هذا الظن ، فإذا كان الله لا يأخذْهم بكفرهم الذي يُسارعون فيه ، وإذا كان يُعطيهم حظاً في الدنيا ، يستمتعون به ، ويلهون به . وإذا كان يأخذهم بهذا الابتلاء ، فإنما هي الفتنه ، وإنما هو الاستدراج والكيد المتين . قال تعالى : ﴿ ولا يحسبن الذين كفروا أنما نُملي لهم خير لأنفسهم إنما نُملي لهم ليزدادوا إثما ﴾ فلو كانوا يستحقون أن يُخرجهم الله من غمرة النعمة  بالابتلاء الموقظ لابتلاهم ، ولكنه لا يريد بهم خيرا ، وقد أشتروا الكفر بالإيمان  وسارعوا في الكفر ، واجتهدوا فيه ، فلم يعودوا يستحقون أن يوقظهم الله من غمرة النعمة بالابتلاء ، ولهم عذاب مُهين . إن الاهانة هي المقابل لما هم فيه  من مكانة ونعماء ، وفي هذا دلاله على أن الابتلاء من الله نعمه ، لا تُصيب إلا من يريد الله به الخير ، فإذا أصابت أوليائه ، فإنما تُصيبهم لخيرٍ يريده الله لهم . وقد يسأل سائل : أليس هذا الدين من عند الله ؟ فلماذا لا ينتصر ؟ إن الله قادر على تبديل فطرة الانسان ، لكنه شاء أن يخلق الانسان بهذه الفطرة ، وشاء أن يجعل لهذا الانسان إرادة واستجابة ، وشاء أن يجعل الهدى ثمرةً للجهد والتلقي والاستجابة ، وشاء أن يتم تحقيق منهجه في الحياة ، عن طريق الجهد البشري  وفي حدود الطاقة البشرية ، وشاء أن يبلغ الانسان من هذا كله ، بقدر ما يبذل من الجهد ، وليس لأحد من الخلق أن يسأل لماذا شاء هذا ، ما دام ليس إلها .  إن على الانسان ان يؤمن  بالمنهج ألألهي ، الذي يُمثله الاسلام ، كما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وهذا لا يتحقق بالقهر الالهي ، إنما يتحقق بأن تحمله مجموعه من البشر ، تؤمن به إيماناً كاملا ، وتستقيم عليه ، وتجعله وظيفة حياتها ، وتجاهد من أجل تحقيقه في قلوب الآخرين ، وفي حياتهم العملية ، تجاهد الذين يدفعهم الضعف ، والهوى ، والجهل ، للوقوف في وجه هذا المنهج ، وهناك عنصرٌ آخر هو مدى تمثيل هذه المجموعة لحقيقة منهج الله ، في ذات نفسها ، ومدى ارتباطها بالله ، وثقتها به ، وتوكلها عليه .  ان ترك المنهج الالهي ، يعمل  ويتحقق عن طريق الجهد البشري  ، الذي هو خيرٌ في عمومه ، وهو يُصْلِحُ الحياة البشرية ، ولا يُفسِدُها أو يُعطِلها .  إن حقيقة الايمان ،لا يتم تمامها في جماعه ، حتى تتعرض هذه الجماعة ، للتجربة والامتحان والابتلاء ، والصبر على الاذى والهزيمة ، وحتى يتميز الصف ، وتستقيم الجماعة على الطريق ، متوكلةً على الله ، متمسكةً بالعقيدة ، التي تجمع بين قلوب المسلمين .  لا كما يتصور الذين استعمر الغرب أفئدتهم وأرواحهم ، ومن خسروا أنفسهم ودينهم ، وارتضوا أن يُصبِحوا ذيولاً ذليلة ، لا حول لها ولا قوه ، مع أنه لا يجوز لهم أن يكونوا للكافرين أولياء ، ولا للمعتدين بطانه ، وأن يوادوا من حاد الله ورسوله ، ومن قاتلوا المسلمين ، واخرجوهم من ديارهم ، كما لا يجوز لهم أن يسيروا في ركابهم وهم أطوع لأوامرهم ، من الخادم ألأمين ، علماً بأن الله يُحرِّمُ عليهم ، أن يمدوا أيديهم ، الى الذين آذوا المسلمين ، وأخرجوهم من ديارهم ، وظاهروا على إخراجهم . قال تعالى : ﴿ إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين  وأخرجوكم من دياركم ، وظاهروا على إخراجكم ، أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظلمون ﴾ فلا مهادنة ولا معاهدة ولا تعاون مع ملة الكفر ، لأن ذلك حرام شرعا . وليعلم المسلمون ، أن المستقبل لهذا الدين ، ولهذه العقيدة ، وأن الحقيقة ، تقتضي انتصار أفكار الاسلام ، أمام أفكار الكفر وتحدياته ، ولا يمكن لسفاهة سفيه ، أن تنال من عقيدتنا ، التي تكفل الله بحفظها . ومهما حارب الكفر هذا الدين ، فلن يُفلح في النهاية ، لأن الكفر من الأرض والدين  تحميه وتحرسه قوةٌ السماء ، التي لا بد لها أن تغلب .  إن ديننا يدعوا الى نظام ، الحاكمية فيه لله ، ديناً يحقق المساواة ، ولا يكون لحاكم فيه حقوق زائده على حقوق الفرد العادي ولا يكون هناك من هو فوق القانون ، ديناً يجعلُ لجميع أفراد الأمة ، حقوقاً في ثروات الدولة ، لأن الملكية أصلها للجماعة المسلمة  مستخلفةٌ فيها عن الله ، ديناً يقوم على أساس التكافل الاجتماعي وتقوم علاقاته الدولية على أساس المسالمة ، بينه وبين من لا يحاربونه ، ولا يؤذون معتنقيه ، ولا يُفسدون في ألأرض ، ولا يظلمون الناس ، لأنه لا يُحارب إلا المفسدين الظالمين ، ديناً هذه نظمه ، ومبادئه ، لا بد أن يسود ، ويحكم العالم من جديد ، وما ذلك على الله ببعيد .

 

كيف ينتصر المسلمون

قال تعالى : ﴿ ذلك بأن الله لم يك مغيِّراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيِّروا ما بأنفسهم ﴾ . الأنفال 53 . كانت الأمة الإسلامية مكرَّمةٌ وممكنةُ في الأرض بنعمة من الله وفضل ، واليوم وصلت إلى ما وصلت إليه من الذل والمهانة والاستعباد في الأرض ، فلماذا غيّر الله لها هذه النعمة التي كان قد أنعم بها عليها ؟ ذلك لأن المسلمين غير مستقيمين على الطريق  وغير مقدّرين للنعمة الربانية   ولا موفين لها بحق شكرها ، فكانت العقوبة هي حرمانهم من التمكين والاستخلاف والتأمين ، التي وعد الله بها عباده الصالحين في قوله تعالى : ﴿ وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ، ليستخلفنَّكم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم ، وليمنكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم ، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني ولا يشركون بي شيئاً ﴾ . فلما تغبرت الأمة وابتعدت عن منهج الله , غيّر الله النعمة التي أنعم بها عليها ، وما أصابها لم يكن جزافاً ولا اعتباطاً ، فكل شيء يسير بحسب سنةٍ معينة وبقدر من الله ، والقدر يجري من خلال السنة   والسنة تقول إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم في جميع الأحوال  .

فما الذي غيره المسلمون حتى انحسر نفوذهم وتكالب الأعداء عليهم ؟ حتى استولوا في النهاية على مقدرات العالم الإسلامي وأذلوه تحت سلطانهم كما نرى الآن؟  فقد روى التاريخ أن أشد ما أصاب المسلمين من نكبات ، ابتداءاً من نكبة الأندلس والتتار والصليبين وانتهاءاً بفلسطين . وأن ذلك ليس جوهر القضية التي عانى ويعاني منها المسلمون  فالقضية هي قضية العباد مع ربهم وكيف حالهم مع الله ، لأن الذي يقدِّر المقادير ليس الغرب أو الشرق ، بل ليس أحد من البشر كائناً من كان فالذي يقدر المقادير هو الله  ولكنه يقدرها من خلال أعمال البشر ، فلو أن الأمة الإسلامية ظلت مستقيمة على الطريق ، لظل الوعد الإلهي بالاستخلاف والتمكين والتأمين ، ولما استطاعت أي قوة أن تفرض سيطرتها على المسلمين . ولكن المسلمين ضعفوا وزادوا ضعفاً ، فجاء الصليبيون واليهود  واحتلوا الأرض الإسلامية وعاثوا فيها فساداً   وعملوا على هدم الخلافة  وتنحية الشريعة الإسلامية عن الحكم في بلاد المسلمين .

ولم يتخلَّ الغرب الكافر عن الروح العدائية للإسلام  وهو ما يقول به الصرحاء منهم ، فقد ذكر دولفرد سميث في كتابه الإسلام في التاريخ الحديث " إن أوروبا لا تستطيع أن تنسى الفزع الذي ظلت تزاوله خمسة قرون متوالية والإسلام يغزوها من الشرق والغرب والجنوب  ، ويقتطع كل يومٍ جزءا من أجمل أجزاء الإمبراطورية الرومانية . لقد كان انتصار الإسلام كاسحا ، لا في الحرب فقط لكن في عالم القيم أيضا ، ويقول في نهاية كلامه : ذلك الفزع الذي لا تستطيع أوروبا أن تنساه" .  بهذه الروح الصليبية ، انطلقت أوروبا تستذل العالم الإسلامي , وكان أول إذلال لها هو تنحية الشريعة الإسلامية عن الحكم في بلاد الإسلام ، لأنهم يريدون تنصير المسلمين ، ولا يمكن لهم ذلك ما دامت الشريعة قائمة فعملوا على إبعادها ، لإرواء الحقد الصليبي الذي لا يطيق أن يرى شرع الله مطبقاً في الأرض   ومن أجل أمر آخر أخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أحمد والطبراني قال : ( لتنقضنَّ عُرى هذا الدين عروة عروة ، كلما نقضت عروة تشبث الناس بالتي بعدها ، فأولها نقضاً الحكم ، وآخرهن نقضاً الصلاة ) . وهكذا نجحوا في نقض العروة الأولى ، فعملوا على إلغاء الخلافة العثمانية ، وتفتيت العالم الإسلامي وإنشاء إسرائيل والتمكين لليهود في داخل الأرض الإسلامية . 

والسؤال هنا : ما الذي يجب على المسلمين فعله ؟

يجب عليهم إعداد العدة دائماً ، واستكمال القوة بأقصى الحدود الممكنة  لتكون قوة الإسلام هي القوة العليا في الأرض , ثم تجاهد أعداء الله ، بغض النظر عن عدَّة وعدد أعداء الله ، فالنصر حليفهم بعون الله   لأن فريضة الجهاد لا تنتظر تكافؤ القوى الظاهرة بين المؤمنين وعدوهم ، فحسب المؤمنين أن يعدوا ما استطاعوا من القوى  وأن يثقوا بالله ، وأن يثبتوا في المعركة ويصبروا عليها والبقية على الله ، وإن الصحوة الإسلامية هي قدر الله الغالب قال تعالى :

﴿ والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ﴾ يوسف 21 .

ومن قدر الله الغالب ألا تخلو الأرض من دين الله أبداً إلى يوم القيامة ، ففي الحديث الذي رواه أبو داود ( لا تزال طائفةٌ من أمتي ظاهرين على الحق إلى يوم القيامة ... ) فمهما حدث في الأرض من أحداث فلن ينتهي هذا الدين  لأن الله هو الذي تكفَّل بحفظه فقال تعالى : ﴿ يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم ، والله متم نوره ولو كره الكافرون هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق  ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ﴾ الصف 8-9 . أتم الله نوره وأكمل للمسلمين دينهم ، وأتم عليهم نعمته ورضي لهم الإسلام دينا يحبونه ويجاهدون في سبيله ، وما تزال هذه الحقيقة تنبعث بين الحين والحين   بالرغم من الحرب والكيد والتنكيل والبطش الشديد ، لأن نور الله لا يطمسه الحديد والنار في أيدي العبيد ، وإن خُيِّل للطغاة الجبارين المصنوعين على أعين الصليبين واليهود أنهم بالغوا هذا الهدف ، ناسين أنه جرى قدر الله أن يظهر هذا الدين فكان من الحتم أن يكون ، وجاء قوله تعالى: ﴿ ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ﴾ شاهداً على ذلك . إن لهذا الدين أدوارٌ في تاريخ البشرية سيؤديها تحقيقاً لوعد الله ، وها هي الأمة الإسلامية تنحرف وتشرف على الهاوية ، وإيماننا بالله أن قدره سيغلب ، وتعود الأمة إلى الطريق مرةً أخرى ، وإن ظن البعض أنها انتهت إلى غير رجعة ، فهي لا بد وأن تعود ، كما انحرفت فيما مضى وأعادها الله بقدره الغالب .

 والسؤال هنا : هل ننتظر حتى تستيقظ الأمة كلها   وتتربى كلها ؟

لا عاقل يقول بذلك بل إن هذا غير معقول ، لأن مجتمع الرسول عليه السلام   لم يكن كله على مستوى أبي بكر وعمر ، بل كان فيه المنافقون وضعاف الإيمان الذين ذكرهم الله بقوله : ﴿ وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجلٍ قريب ﴾ النساء 77 . وكان فيهم المثّاقلون والمثبطون الذين قال الله فيهم : ﴿ ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض ﴾ التوبة 38 . وكان فيهم الذين يتبعون الإشاعات الذين قال فيهم : ﴿ وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ﴾ النساء 83 . ولكن كانت هناك قاعدة صلبة مؤمنة ، حملت هؤلاء جميعاً وسارت إلى أهدافها  وهو ما لا بد من حدوثه هذه الأيام ، فلا بد أن تقوم هذه القاعدة المؤمنة المجاهدة الصلبة ، فتحمل المتخاذلين والمتقاعسين وتسير بهم إلى أهدافها ، وهذا الذي تشير إليه الآية : ﴿ هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين ﴾ . فلو قال: ﴿ هو الذي أيدك بنصره ﴾ لاختلف الأمر لأنه ليس بعد تأييد الله بالنصر شيء لقوله : ﴿ إن ينصركم الله فلا غالب لكم ﴾  وإذا تقرر النصر من عند الله  فلا غالب يستطيع أن يغلب المؤمنين ، لذا كانت هناك لفتة تربوية ودرساً في قوله تعالى : ﴿ وبالمؤمنين ﴾ لكي نعلم أنه لا بد من وجود مؤمنين يكونون ستاراً لقدر الله يجري قدره من خلالهم . مؤمنين ليسوا من الناس الذين يتصورون الدين ذلك التصور المسكين ، وذلك بالاقتصار على العبادات والشعائر أو الآداب والأخلاق المستمدة من كتاب الله ، بينما القوانين التي تحكمنا وتصرف بقية شئون حياتنا من موضع آخر ، فهذا إيمان ناقص ، لأن الذين يفعلون ذلك لم يدخلوا بعد في الإيمان  ولم يعترفوا بعد بأركان الإسلام وفي أولها : شهادة أن لا إله إلا الله التي ينشأ منها أن لا حاكم إلا الله ولا مشرِّع إلا الله . وهل يعجز الله عن نصرة دينه بغير المؤمنين ؟ إنه لا يعجز ، وهو الذي يقول للشيء كن فيكون . ولكن سنة الله اقتضت أن يبتلى بعض الناس ببعض : ﴿ ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ، ولكن ليبلو بعضكم ببعض ﴾ محمد 4 . وأن لا ينصر المؤمنين إلا إذا استقاموا على طريقه ، واتخذوا الأسباب تعبدا له دون أن يتكلوا على الأسباب  وعندما يجري اللقاء بينهم وبين الكفار على هذه الصورة ، يجري الله سنته  فينصر الفئة القليلة المؤمنة على الكثرة الضالة ويمكن لدينه في الأرض .

لقد لعن الله اليهود لحقدهم على الإسلام ، فكان مصيرهم الطرد من رحمة الله وفقدان النصير قال تعالى : ﴿ أولئك الذين لعنهم الله ، ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا  ﴾ النساء 52 .وقد يستغرب قارئ الآية  لتغلب اليهود علينا ومناصرة دول الكفر لهم ، فيسأل كيف يجدون النصير والله يقول ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا ؟ ليعلم كل ذي علم ، أن الناصر الحقيقي ليس الناس ولا الدول ، وحتى مع امتلاكها أفتك الأسلحة وأكثرها تطورا  ولكن الناصر الحق هو الله القاهر فوق عباده ، ومن هؤلاء العباد من يملكون القنابل الذرية والصواريخ ، ولكن النصر من عند الله لقوله تعالى  :  ﴿ ولينصرنَّ الله من ينصره ﴾ وذلك يحققه الله لمن يؤمن به حق الإيمان ، ويتبع منهجه حق الإتباع  ويتحاكم إلى منهجه في رضا وتسليم . والدارس للتاريخ الإسلامي يوم تمسك المسلمون بدينهم  يجد أن الله كان يُهَوِّنُ من شأن عدوهم وناصريهم ، وكان حليفهم النصر عليهم تحقيقاً لوعد الله . إن ما نشاهده من نصرة الغرب الكافر لليهود ، ليس بغريب ولا مستغرب لأنهم في الحقيقة ينصرونهم على الإسلام والمسلمين ، وليجرب المسلمون أن يكونوا مسلمين ولو لمرة ، ثم يروا بأعينهم إن كان يبقى لليهود نصيرا ، أو حتى ينفعهم هذا النصير ، والتاريخ خير شاهد على ما نقول ، فقد كان أعداء المسلمين دائماً اكثر عدداً وأقوى عدَّةً وأغنى مالاً  طيلة الفتوحات الإسلامية ، ورغم ذلك كان التفوق للمسلمين ، بما ملكوه من رصيد العقيدة والتصور والبناء الروحي والعقلي والخلقي والاجتماعي ، الذي انشأ المنهج الإسلامي في فترة وجيزة ، وأمد الإسلام وجيوشه بسلطانٍ لا يُقاوم .        

 

مستقبل الإسلام

إننا نعيش في بلادٍ إسلامية ، ومجتمعٍ إسلامي يؤمن بالعقيدة الإسلامية ، ولكن لا تحكمه الشريعة ولا النظام الإسلامي ، كما لا وجود فيه للإسلام ولا للحياة الإسلامية . لماذا ؟ لأنه لا يمكن أن تقوم في الضمير عقيدة ، ولا في واقع الحياة ديناً ، إلا أن تتمثل فيه العقيدة كنظامٍ واقعي في للحياة ، بتطبيق شريعة الله  وعدم التشريع بما لم يأذن به الله ، مما يُتَخَذُ من أنظمةٍ وقوانين غير مستمدة من شريعة الله ، ولا يمكن ذلك أيضاً ، إلا إذا كانت ألحا كمية لله  والتي تتمثل في قضائه وقدره  وشرعه وأمره  .

إن العودة إلى الإسلام ، لا تتم بمجرد وضع تشريعات وقوانين ، ونظم مستمدة من الشريعة الإسلامية ، فلا بد من العقيدة الصحيحة ، التي تفرد الله سبحانه بالألوهية والحاكمية ، وشريعة الله تعني كل ما شرعه الله لتنظيم الحياة البشرية .. وهذا يتمثل في أصول الاعتقاد ، وأصول الحكم ، وأصول السلوك والمعرفة .. ويتمثل في العقيدة والتصور ، كما يتمثل في الأحكام التشريعية ، والقيم والموازين التي تسود المجتمع   وفي هذا كله ، لا بد من التلقي عن الله .   

إن الناظر إلى النصوص القطعية الثبوت ، التي لا سبيل إلى تأويلها ، كقوله تعالى : ﴿ إن الحكم إلا لله ﴾  وقوله : ﴿ وأن احكم بينهم بما أنزل الله ﴾ يجد أن الذي يحدد مدلول الدين ، ومفهوم الإسلام  هو الله ، الذي يقرر أنه لا إسلام ولا إيمان ، بغير الإقرار بالحاكمية لله ، وتحقيق منهجه في الحياة .  

وعلى ضوء هذا التقرير الإلهي ، لمفهوم الدين والإسلام ، فإن وجودهما قد توقف  منذ أن تخلى المسلمون عن إفراد الله سبحانه بالحاكمية في حياة البشر ، وعن الحكم بشريعته وحدها في كل شؤون الحياة .

إن أعداء هذا الدين ، يعملون على تخدير مشاعر المسلمين ، وإيهامهم أن الناس بخير ، وأن الناس يمكن أن يكونوا مسلمين ، دون أن تحكمهم شريعة هذا الدين  بل دون أن يعتقدوا أن الحاكمية لله وحده ، علماً بأن الإصرار على ذلك كفرٌ وخروجٌ من هذا الدين .

إننا على ثقةٍ بأن المستقبل لهذا الدين ، وأن التوقف عن العمل بشريعته لن يستمر ، ولن يطول بعون الله ، وسيعود هذا الدين إلى الوجود إن شاء الله ، رغم العقبات القائمة في وجه وجوده الفعلي .

لقد توالت الصدمات التي تعرض لها العالم الإسلامي ، وفي كلِّ مرَّة كانت تعود للإسلام عزَّته ، ويعود له كيانه ، فمن غزوات التتار المدمرة ، إلي الحروب الصليبية ، فقد ظلت الأمة الإسلامية متماسكة قوية ، وقائمة على أصول الدين

وظل الإسلام يعاني العداء الوحشي،  من الروح الصليبية من ذلك الحين ، ظاهراً ومستتراً وحتى الآن  وقد أصاب العالم الإسلامي ما أصابه ، من العداء الصليبي للإسلام ، والكامن في النفس الأوروبية  وما اللورد أللنبي ، إلا مثلاً لضمير أوروبا كلِّها ، وهو يدخل بيت المقدس ويقول : " اليوم فقط انتهت الحروب الصليبية" إن هذا العداء نلمسه من أعداء الإسلام ، الذين عملوا ويعملون ، على إقامة الأوضاع التي تسحق الإسلام ، بكل مقوماته العقيدية والحركية في جميع أنحاء العلم . إن أعداء الإسلام عملوا ، وما زالوا يعملون  على تحطيم قوة الإسلام  ورغم ذلك فإن روح الإسلام باقية ، فما من حركة سياسيةٍ أو حزبيةٍ في هذا العالم ، إلا ويحسب فيها للإسلام حساب  ، إن العودة إلى النظام الإسلامي ، ليست مستحيلة  ولكن ذلك بحاجة إلى جهود غير عادية ، وقبل كل شيء ، بحاجة إلى حماسة في الإيمان به ، وصبرٍ على الجهد الشاق الواجب له ، وثقةٍ في ضرورته للعالم الإسلامي ، لا بل للعالم الإنساني كله .  إن التسلح بالإيمان ، هو الطريق الوحيد إلى النصر ، وليس بكثرة الجيوش والحصول على السلاح ، فقد مرَّ المسلمون بتجربة مؤلمة ، أدت إلى هزيمة منكرة  في ساعاتٍ قلائل ، خلَّفت وراءها أسلحة كالجبال ، وذخائر كالتلال . فلو كانت الجهود تنصب إلى إعداد المؤمنين الصادقين الذين لا يخونون بسلاح ، ولا يدعون السلاح يخونهم ، ويطلبون النصر على الأعداء من الله  بعد اتخاذ الأسباب التي طلبها الإسلام ، لكان النصر حليفهم .

قبل حرب حزيران في أحد الجامعات في لندن  وقف طالب يهودي ، يراهن طلاب الجامعة على إسرائيل قائلاً : سوف نكسب الحرب إذا وقعت  فلما انتهت الحرب وسئل عن أسباب ثقته بما يقول قال : ما دمتم تدعون إلي قومية .. وعروبة .. واشتراكية .. وغير ذلك من الشعارات غير الإسلامية ، فنحن لا نخافكم .. نحن منتصرون .. أما إذا ذكرتم الإسلام ، فإنا نخافكم ، وإن خضتم المعركة على أساسه كنا خاسرين . لقد حدد اليهودي الذي يعي حقيقة المعركة ، معالم على الطريق ، وكأنه يقرأ حديث رسول الله  صلى الله عليه وسلم حيث يقول : ( لا زلتم منصورين على أعدائكم ما دمتم متمسكين بسنتي ، فإن أنتم خرجتم على سنتي ، سلط الله عليكم من أعدائكم ، مَنْ يخيفكم فلا ينزع خوفه من صدوركم حتى تعودوا إلي سنتي ) .

فهل تصحو الأمة على هذه الحقيقة ؟؟ فتربي الجيل على القوة ، وتبعث فيه معاني العزة  وأحاسيس الكرامة والإيمان بالله ، والاعتزاز بالتراث ، وتنطلق في إيمان لا يعرف الكفران  وتنظيم لا يعرف الفوضى ، وعلمٍ يمزق ظلمات الجهالة ، وخلقٍ لا يعرف الفجور ، وعزةٍ لا تعرف الذل والمهانة . اللهم أعنهم على ذلك  واجعل النصر حليفهم ، اللهم آمين

          

 

 

 

                

كيف نصنع في دوامة الاقتصاد العالمي؟

المطلوب منا كمسلمين  ، أن لا نقع في الدائرة التي يحددها أعداء الإسلام  بخصوص الاقتصاد  وأن نحاول جلبهم إلى الدائرة التي حددها الإسلام  وذلك لاختلاف المنظور الاقتصادي الرأسمالي السائد ، عن المنظور الاقتصادي الإسلامي المنشود. إننا ننطلق من أسس عادلة ، مبنية على الأحكام الشرعية  المستنبطة من الكتاب والسنة ، أو ما أرشدا إليه من أدلة ، وهم ينطلقون من واقع الدعوة إلى جعل أساس النظام الرأسمالي ، أساسا للتنظيم الاقتصادي ، وجعل الحياة الاقتصادية أساساً للعلاقات بين الناس ، وكان من نتائج هذه الدعوة   ظلم أكثرية الناس وهم الضعفاء  وتركيز الفقر ، ونفي القيم الرفيعة في المجتمع   من منطلق القوة العمياء ، والربح السريع  والاستغلال الفاحش .

إن اقتصادهم يقوم على قانون الغاب ، ويبيح كل أشكال الإبادة  والقتل ، ويصب في خزائن تجار الموت ، وسماسرة السلاح ، وقادة العصابات والجريمة المنظمة . إنه اقتصاد قائم على الجور ، ونهب ثروات المستضعفين ، وإذلال الشعوب الفقيرة  وبث الفرقة بينها ، وتوكيل الوكلاء على مصائرها ، وقرار الدول الكبرى على طاقاتها ، واسعار مواردها الأولية  وكبرى المصائب ، تتمثل في المصارف العملاقة  بقروضها وفوائدها ، ويأتي في قمة المصائب ، البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وشركات عالمية أخرى  . تلك هي مؤسسات النهب والسلب ، وتزويق وجه الباطل ، بمساحيق النظام الاقتصادي العالمي الجديد ، من أجل تسويق الاعتقاد ، بأن العالم يخضع لقانون أبدي خالد ، هو الظلم المتمثل في النظام الرأسمالي ، وتحكم الدول الكبرى ، في مصائر الشعوب . ففي أحد اجتماعات الدول السبع الأغنى في العالم ، وقد حضرته روسيا ، بمدينة هاليفاكس الكندية ، تلقى صندوق النقد الدولي ، والبنك الدولي ، تعليمات من السبع الأغنياء أو المجلس الأعلى للوصاية ، لتشديد الرقابة على اقتصاديات العالم بأسره ، وفرض حراسة مشددة على البلدان النامية ، التي خضعت للتكليف الهيكلي  مقابل إعادة جدولة ديونها السابقة ، وفق الشروط المجحفة ، التي لا تبقي من حقوق السيادة الوطنية ، سوى المظاهر الشكلية .

وقد رافق تراكم الديون على هذه الدول ، حالةً من الركود الاقتصادي    والتضخم المتسارع والاختلال في الميزان التجاري ، ورافق ذلك ارتفاع متزايد  لفاتورة الواردات من السلع والخدمات  وانخفاض متزايدٍ ، للصادرات بطريقةٍ مفتعلة ، تتمثل في التلاعب بأسعار المواد الأولية والمضاربة على النفط ، بالتواطؤ مع حلفائهم  من كبار المصدرين للمحروقات أو عن طريق التلاعب بآلية العرض والطلب . والحقيقة المرة أن البلدان المسماة نامية في نظرهم  تتقدم الآن راكعة  الواحدةُ تلو الأخرى ، أمام الهيئة التنفيذية لصندوق النقد والبنك الدولي  والمنظمة الدولية للتجارة ، لتتلقى التعليمات الملزمة بخصوص المديونية  . لذا تجد هذه البلدان نفسها ، من الناحية الفعلية ، تحت الوصاية المباشرة السياسية والاقتصادية والمالية  للمجلس الأعلى للوصاية الدولية ، المتمثل في مجموعة السبع الأثرياء .

إن فخ المديونية الذي يتردد على أسماعنا ، في الإذاعة والتلفزيون والصحافة ، جزء من مؤامرة التفقير والتجويع والنهب والسلب على أوسع نطاق ، مما أوجد البطالة والكساد ، ثم الاستيراد الإلزامي من البلدان المقرضة ، وبشروطها السياسة والمالية  والتي تتنافى مع مصالح شعوب تلك الدول .

إن ما يسمى بمقتضيات ومتطلبات الاقتصاد العالمي ، ما هو إلا تكريس للهيمنة على خيرات تلك الدول ، لأقلية عالمية لها وسائل سخرتها لاستمرار المظلمة .

ومن تلك الوسائل ، ما فرضته من ضريبة الكربون على إنتاج البلاد المسلمة من النفط  حتى تخضع لضغوط السوق ، وتقبل بأسعار منخفضة لهذه المادة الحيوية ، وآخر تلك الوسائل القرارات القاضية ، بفرض حصارات لأسباب شتى على بلدان مسلمة ، والمشاركة في دفع التكاليف المترتبة على ذلك  حتى تنهار مُقَدِّراتها ، ومنها أيضاً الترويج لمشروع الشرق الأوسط الاقتصادي ، على حساب بلدان عربية مسلمة ويمكن أن يفهم أنهم يروِّجون للسوق ، لإذلال الشعوب المسلمة  وحصرها في دور الأيدي العاملة ، وتسخيرها للتمويل ،كأنما هي خزائن مال  وليست شعوباً أصيلة ، لها مجدها وكرامتها .

ويمكن أن تكون إسرائيل هي الأداة المنفذة  والعقل المدبر ، والقلب الاقتصادي الحي ، وما نحن إلا الأذرع الرخيصة ، والخزينة المليئة ، والأرض المفتوحة   والسوق المضمونة ، مما يشير إلى أن دار الإسلام ، ستكون لا قدَّر الله  لإسرائيل وحماتها  أذرعاً تصنع ، وبطوناً تبلع  وصيرَفِّياً يدفع .

والسؤال الذي يطرح نفسه بماذا نواجه هذا الاقتصاد ؟ وما هو البديل ؟

إن الإسلام ينظر في النظام الاقتصادي لا في علم الاقتصاد ، ويجعل الانتفاع بالثروة قائماً ، وكيفية حيازة هذه المنفعة ، هي موضوع البحث  ولم يركَّز على إنتاج الثروة ، ولا إلى وسائل المنفعة ، بقدر ما ركَّز حيازتها .

إن سياسة الاقتصاد الإسلامي ، تتمثل في الإشباع الكلي لكل فرد ، كما تمكنه من إشباع الحاجات الكمالية بقدر ما يستطيع ، بمعنى أن الأساس الذي توضع الأحكام والقواعد الاقتصادية لتحقيقه ليس تنمية الثروة وتكثيرها ، إنما هو توزيع الثروة توزيعاً يضمن إشباع جميع الحاجات الأساسية ، إشباعاً كلياً لكل فرد من أفراد الرعية ، ويمكِّنُ كل فرد منهم من إشباع حاجاته الكمالية .

إن الأساس من وجهة نظر الإسلام ، هو تنظيم توزيع الثروة بحسب القواعد الشرعية ، وليس تنميتها ، وفي الوقت نفسه يحث على الكسب  وطلب الرزق  والسعي لتحقيق أكبر درجة ممكنة من الرفاهية ، للفرد والمجموع ، لذلك كان السعي لكسب الرزق ، فرضاً على كل مسلم قال تعالى : ﴿ فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه ﴾ الملك 15 . وفي الحديث القدسي عن الله سبحانه : ( عبدي حرِّك يدك أنزل عليك الرزق ) .  لقد راعى الإسلام للحصول على المال ، عدم تعقيد الكيفية التي يحوزُهُ بها ، فجعلها بسيطة كل البساطة ، فحدد أسباب التملك ، وحدد العقود التي يجرى بها تبادل الملكية . لقد تجنب الإسلام تجميد الوضع الاقتصادي  ومساعدة الناس على الربح  والحيلولة دون وقوع الهزات الاقتصادية ، لذا حدد الإسلام أسباب التملك في النظام الاقتصادي ، كما حدد كيفية تنمية المال ، وحدد النظرة إلى التوازن . أما أسباب التملك ، فلا يجوز إلا بحدود وصفها الشارع ، فلا يجوز أن تعتمد على شركة غير إسلامية أو عمل غير إسلامي ، ولا يجوز الغش والاحتكار والقمار وغير ذلك ، مما يحد من النشاط الاقتصادي ، ومن حيث التوازن ، هناك الزكاة والركاز والمواريث والوقف  والإشراف الداخلي والخارجي على التجارة ، مع وجود النقد الذهبي والفضي .  إن المسلمين يسيرون من ضعف إلى ضعف  ويخرجون من جهل إلى جهل ، وهم لا يدرون أو يتجاهلون أن العلة الحقيقية لما هم فيه ، إنما هي الجهل أو التخلي عن الشريعة الإسلامية  وعدم تطبيقها على كمالها وسموها ، ولا يعلمون أن تشبثهم بالقوانين الوضعية الفاسدة ، هو الذي أفسدهم وأورثهم الضعف والذلة والمهانة . ولو عرف المسلمون حق المعرفة واجبهم نحو دينهم وشريعتهم ، لما تأخروا عن العمل لخدمة الشريعة  وتطبيق أحكامها . إن الأولى بالمسلمين وهم يملكون هذا الزاد الضخم ، أن يكونوا أول من يفئ إلى هذه العقيدة ، وينتفع بما فيها من طاقات . وأولى بهم ، أن يعودوا إلى مركزهم التاريخي لا أن يكونوا في ذيل القافلة ، وفي استطاعتهم أن يكونوا كذلك ، حين يؤمنون بالله ، ويعملون على تحقيق منهجه في الحياة : ﴿ ويومئذٍ يفرح المؤمنون بنصر الله  ألا بنصر الله تطمئن القلوب ﴾ .

 

 

 

 

 

 

 

قسوة الذل

ما زالت الحملة مستمرةٌ على ما أسمته الدول الغربية بالإرهاب ، لتتجاوز أفغانستان إلى حملةٍ أكثر ضراوة وشراسة على أهل فلسطين ، إن الحملة الصهيونية المحمومة ، والصمت العربي والإسلامي المستهجن ، يذكرنا بواقعة تاريخية مشابهة ، حينما ترك المسلمون في الأندلس العصابات النصرانية في الشمال تهاوناً بشأنها بينما النصارى يمدونها بالعدد والعتاد ، فكروا هاجمين على المسلمين حتى طردوهم منها . إن منطق القوة الإرهابي يتباكى على ضحايا إسرائيل جراء أية عملية ، أما ضحايا الفلسطينيين فلا بواكي لهم ، ويستحقون ما أصابهم ، ناسين أن الشعوب المستضعفة لن تبقى كذلك ، بل إن الإمعان في إهانتها واستذلالها هو الذي سيحيها بإذن الله ، وما أجمل قول الشاعر :  

وإذا الذئاب استنعجت لك مرَّة      فحذار منها أن تعود ذئابا

إن حياة الذل ليست أبدية ما دام هناك إسلام  قال عمر بن الخطاب : "لقد كنا أذلاء فأعزنا الله بالإسلام فإذا ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله "، ها هي الدماء تسفك ويقتل المسلمون على أرضهم وفي عقر دارهم ، وكأنه كتب عليهم أن يُشرَّدوا ويقتَّلوا ، بينما المسلمون في فرقة كالغنم الشريدة في الليلة الشاتية  والقائمون على أمرهم يلزمون الصمت ، بينما لو كانت المشكلة مشكلة بلد كافر  لرأيت الاهتمام أكثر ، ولرتفعت الأصوات منددة مستنكرة ، ولو كان الذين يقتلون منهم بالآلاف نتيجة لقصف الطيران الذي أحال العمار إلى خراب ، لقامت الدنيا وقعدت .

سائلوا الليل عنهم والنهار         كيف باتت نساؤهم والعذارى

كيف أمسى رضيعهم فقيد أم    وكيف اصطلى مع  القوم  نارا

كيف صاح العجوز تحت جدارٍ     يتهاوى  وأسقـف تتجارى

يستغيثون ولا مغيث ، والأمـة في غفلة معرضة ، لأنها ابتغت العزة في غير الإسلام ، فأذلها الله ، لدرجة أن وصل القتلى بالآلف نتيجة قصف طيران الكافرين ، ولا تجد من الأمة الإسلامية أية مساعدة لأنهم كما قال الله :        ﴿ جعلوا أصابعهم في آذانهم واستكبروا  استكباراً ﴾ نوح 7 . بينما الدعم على أشده لإسرائيل من قبل أمريكا  التي تمدها بالمال والسلاح والمسلمون تسيل دماؤهم ولا يجدون يدا تمتد إليهم ، دمهم نفيس ودمنا رخيص ولقد صدق القائل  

قتل امرئ في غاية    جريمةٌ لا تُغْتفَر

وقتل شعب آمن     مسألةٌ فيها نظر

نعيش في زمن التزمت الأمة الصمت ، كأنه صمت الخُرس إزاء ما يتعرَّض له المسلمين في ديارهم ، بينما لحادث العاشر من أيلول قامت الدنيا وقعدت  واعدت الجيوش وجردت الأساطيل ، وأعلنت الحرب ، والتهمة التي واجهناها أننا مسلمين وبالله موحدين مصداقاً لقوله تعالى : ﴿ أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ﴾ . وفي غمرة ما يجري نسي القائمون على أمر الأمة ، واجبهم في حمايتها والسهر على راحتها ، ويا لهم ساروا على خطى سلفهم الذين تخرجوا من مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم ، فهذا عمر بن الخطاب كان يمشي بالليل ومعه عبد الرحمن بن عوف ، فرأى في ظلمة الليل ناراً فذهب إلى مكان النار ، فوجد أماً معها أربعة من اليتامى ، وأمامها نارٌ عليها قدر ، واليتامى يبكون من الجوع ، فسألها عمر كيف حالك يا أمة الله ؟  فقالت له : الله الله في عمر .  فقال لها : ومن الذي أعلم عمر بشأنك . فقالت له : أيلي أمرنا ويغفل عنا ؟  فقال لها : وما في هذا القدر ؟  قالت : فيه ماء وحصى أغليه للأطفال ليناموا . فرجع عمر إلى بيت المال ، وطلب من حارس بيت المال أن يحمل عليه كيسان من الدقيق فقال الحارس في عجب : أحمل عنك أم عليك  ؟ فقال له أحمل علي  ثكلتك أمك أأنت تحمل ذنوبي يوم القيامة ؟ أحمل علي ، فحمل الدقيق على ظهره وبيده سمن وعسل ، ورجع إلى أم اليتامى فقالت له  والله إنك أحق بالخلافة من عمر ، فقال لها  يا أمة الله ، إذا كان الصباح فائتي إلى عمر وسأكون عنده لأكلمه بشأنك .  إنها رحمة ما بعدها رحمة ، وصلة ما بعدها صلة  لا تمثيل ولا دجل ولا نفاق ولا تزليف على حساب حق الأمة ، ولا رياء لنيل منصب ، ولا ركوع ولا سجود من أجل كرسي يزول . ثم توجه عمر ومعه عبد الرحمن بن عوف  وجلسا وراء صخرة بالقرب من اليتامى ، فقال له عبد الرحمن هيا إلى بيتنا يا أمير المؤمنين ، فالليلة شديدة البرد ، فقال عمر : والله لا أفارق هذا المكان حتى أراهم وهم يضحكون ، كما أتيتهم وهم يبكون  وما زال في المكان حتى أطمئن عليهم . ولما حان موعد صلاة الفجر وقف ليصلي ، يقول عبد الرحمن والله ما استطعت أن أتبين قراءة القرآن من عمر ، من شدة بكائه في الصلاة   وفي الصباح جاءته أم اليتامى إلى مقره ، فوجدته جالساً وعن يمينه عليّ وعن يساره عبدالله بن مسعود وكلاهما يقول يا أمير المؤمنين ، فلما عرفته خافت ، فقال عمر : لا بأس عليك لا تخافي ، أتدري لماذا أمرتك بالحضور إلينا ؟ فقالت عفواً يا أمير المؤمنين فقال لها : إنما جئت بك إلى هنا لأشتري مظلمتك ، فبكم تبيعيها ؟ فسكتت حياءً ، فأعاد عليها السؤال ، واشترى المظلمة بستمائة درهم من ماله الخاص وهو يقول : اشهد يا علي  واشهد يا ابن مسعود ، وأوصيكم أنني إذا مت أن تضعوا المظلمة بين كفني وجسدي حتى ألقى الله بها يوم القيامة .

هذه هي سيرة سلفنا الصالح ، هكذا كانوا لأنهم علموا بأن عين الله لا تغفل ولا تنام   وكان لسان حالهم ، إذا دعتك قوتك على ظلم العباد فانظر إلى قوة العزيز الجبار من فوقك . وللأسف فإن الخلف في هذا الزمان كما قال تعالى : ﴿فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً ﴾ مريم 59. فما هي مواقفهم ؟ اليهود قوم متعطشون للدماء خونة للعهود ، بينما نحن متعطشون  للمناصب نستجدي السلام من الأعداء ، هم يعملون على توفير الحماية والأمن والطمأنينة لشعوبهم ، بينما نحن نركض وراء تحقيق ملذاتنا ، التي لا قيمة لها عندما يكون هناك هلع وفزع .

لا تخضعن لمخلوق على طمع        فإن ذلك نقص منك في الدين

لن يقدر العبد أن يعطيك خردلة    إلا بإذن الذي سواك من طين

فلا تصاحب غنياً تستعز به         وكن عفيفاً وعظم حرمة الدين

إنهم يخططون لتصفية الإسلام في كل مكان فماذا نحن فاعلون ؟ إنهم يرتكبون المجازر تلو المجازر  وجيوش المسلمين مكبلة مقيدة ، رابضة في ثكناتها  والأسلحة مكدسة في مخازنها ، لا الجندي يثور ولا السلاح ينطلق ، وحتى ينطلق هذا السلاح إلى صدور الأعداء ، لا بد من سلطة تطبق منهج الله في الأرض ، لأن منهج الله في الأرض ليس مجرد وعظ وإرشاد فقط ، ولكنه دعوة لتطبيق أحكام الله في الأرض ، وإن ما يصيب المسلمين ناتج عن عدم الاحتكام إلى آيات الله وتنفيذها في واقع الحياة ، مما جعلنا عرضة لغضب الله والهزيمة أمام أعداء الله ، ولا نجاة لنا إلا بالاعتصام بحبل الله  ويوم  تمسك المسلمون في تاريخهم بحبل الله   وحققوا منهج الله في حياتهم ، عزوا وانتصروا ووقاهم الله كيد أعدائهم ، وكانت كلمتهم هي العليا ، وعندما تحالفوا مع أعدائهم الذين يحاربون عقيدتهم ومنهجهم ، واستمعوا إلى مشورتهم واتخذوا منهم بطانة وأصدقاء ، وأعواناً وخبراء ومستشارين ، كتب الله عليهم الهزيمة ومكن لأعدائهم فيهم وأذل رقابهم ، وأذاقهم وبال أمرهم ، ومما ينبغي تجديد اليقين به ، أن الأيام دول وأن الغلبة لغير المسلمين قد تكون إلى حين   ولن يدوم ذلك ، فهناك دورات قد تقوم فيها دول وتسقط أخرى ، فقد قرانا في التاريخ كيف كانت غلبة الفرس للروم ، وكيف كانت غلبة الروم للفرس ، وكيف كانت غلبة المسلمين للروم والفرس ، وإني على يقين أن الغلبة ستكون للإسلام بقدر الله كما أخبر رسول صلى الله عليه وسلم :

 ( ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ، ولا يترك بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله الدين بعزِّ عزيز أو بذل ذليل ، عزّاً يُعزُّ الله به الإسلام  وذلاً يُذِلُّ الله به الكفر) أخرجه أحمد  .  

 

عزّة المسلمين في التمسك بمبادئ الإسلام

قال تعالى : ) قد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها (الأعراف 89 

وقال في نفس الآية ) ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين ( . إن الإسلام يدعوا الناس إلى انتزاع السلطان من أيدي غاصبيه من البشر،  ورده إلى كلمة الله ويدعوهم لإنقاذ إنسانيتهم ، وتحرير رقابهم من العبودية إنقاذ أرواحهم واموالهم من هوى الطواغيت وشهواتهم .  إن الإسلام واحد من الأديان الخالدة، التي لم تتنـزل من السماء إلى الأرض في ليونة ونعومة ، فقد عاند من عاند ، وكفر به من كفر ، ولكنه ظل شامخاً في وجه التحديات، لأن القضية على المستوى الفكري والعقائدي ، هي أن يكون أو لا يكون

 في عالم يسوده الخوف والقلق ، والمجازر البشرية ضد المسلمين هنا وهناك ، وحروب دامية لا غاية من ورائها إلا حراسة مطامع الأقوياء ، واستبقاء سيطرتهم على ثروات الضعفاء ، فلا عهود ولا مواثيق ، ولا أمن ولا أمان ، ولا تعاون ولا تراحم إلا في القرارات المعطلة ، التي لا ترى النور ، فإذا قالوا بأن ديننا دين العزة والكرامة ، والوحدة والقوة والمنعة ، كان حاضر المسلمين وما هم عليه من ذلٍ وهوان ، وفرقة واختلاف ، وخضوع للحكم الأجنبي لا يتوافقان وما يتحدثون به . فالمسلمون بتنكرهم لدينهم ، وعدم تمسكهم بتعاليمه ، يحولون بينه وبين الناس ويقفون في وجه الدعوة إليه ، ولعلهم بحالهم هذه قد صاروا ممن تشملهم الآية الكريمة ) ولا تقعدوا بكل صراطٍ توعِدون وتصدُّون عن سبيل الله ( الأعراف 86 . فأنى توجهت بنظرك تجد حجاباً كثيفاً مسدوداً عن محاسن الإسلام ، من انحراف المسلمين ، والمسلمين بذلك يعرقلون الدعوة ، ويتحملون إثماً كبيرا في الصد عن سبيل الله ، فقد جاء في حديث المعراج : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم  أتى على خشبة في الطريق ، لا يمرّ بها ثوب إلا شقته ولا شيء إلا خرقته  ذلك فيما رأى من آيات الله ليلة المعراج فقال : ( ما هذا يا جبريل ؟ قال : هذا مثل أقوام

يقعدون على الطريق فيقطعونه ثم تلا قوله تعالى : ) ولا تقعدوا بكل صراط توعدون ( .

وبعكس ذلك لو كان المسلمون على هدى من ربهم ، وإتباعا لما جاء به نبيهم ، فعملوا برسالته الخالدة ، لكان كل واحدا منهم داعياً إلى الله ، ومبشراً بكلمة الحق ، ومستحقاً للثواب الجزيل الذي جعله الله للدعاة الهداة على جاء في الحديث الصحيح ( لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك مما طلعت عليه الشمس ) . ولكنهم تأخروا لأنهم لم يحافظوا على دينهم  وتدخل الغرب في شئونهم وسيطر على عقولهم مما أدى إلى شيوع التقليد ، وغياب الوعي  واستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير .

فلو تمثلت الأمة إسلامها ، واستشرفت ماضيها ، وأبصرت مستقبلها ، لما وقعت فريسة سهلة لسيطرة دول الكفر ، التي لا يرضيها أن يكون للإيمان في الأرض وجود ، لأن وجود جماعة مسلمة في الأرض لا تدين إلا لله ، ولا تحكِّم إلا شريعته ، يهدد سلطانها .

لذا فإنها تفرض المعركة فرضاً على الجماعة المسلمة ، لأن وجود الحق في ذاته يزعجهم ويخيفهم ، مما جعل علاقة الغرب بنا علاقة تسلط واستغلال للثروات ، ولو بدت غير ذلك بسبب التضليل الإعلامي ، إنها علاقة حقد وعدوان ، بشهادة التاريخ والحاضر ، بخلاف واقع الإسلام الذي كان على مدار التاريخ الذي سيطر فيه يتصف بالرحمة والاعتراف بحقوق الآخرين واحترامها ، ويدعوا إلى الحوار على كلمة سواء ، ويعتمد الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة ، ويتنكر للإكراه في الدين ، لأن الناس كل الناس هم محل الخطاب السماوي ، ولا تُشْرَعُ قوة إلا لحماية الاختيار ، وتحقيق إنسانية الإنسان .

لقد ربى الرسول صلى الله عليه وسلم  أصحابه على مبادئ القرآن والإيمان واليقين ، رباهم ليتسلموا زمام البشرية ويأخذوا بيدها ، حتى تنعم بحياة قوامها العدل والرحمة والسلام والعزة والكرامة .فارتفع الإيمان بتلك القلوب على الفتنة ، وانتصرت العقيدة على الحياة ، فلم ترضخ لتهديد الجبارين كما تحررت من عبوديتها للحياة ، فلم يستلذها حب البقاء ، ولم تعد لذائذ الحياة ومتاعبها ذا قيمة عندها ، لأن القيمة الكبرى في ميزان الله ، هي قيمة العقيدة ، وأن السلعة الرابحة في سوق الله هي سلعة الإيمان ، وأن النصر في أرفع صوره ، هو انتصار العقيدة والإيمان على الفتنة ، يروي التاريخ عن واحد من قادة الفتوح الإسلامية ، الذين اختارهم الحجاج لقيادة  جيش المشرق في مرو ، الذي فتح من حدود إيران إلى أواخر تركستان ، والذي دخل الصين ، إنه قتيبة بن مسلم ، الذي خلف الملهب في قيادة الجيش الذي عصفت به الفتن  فقام بهم خطيباً يذكرهم بالله ، ويرغبهم في ثوابه ، ويحضهم على الجهاد لإعلاء كلمة الله .

حتى هز نفوسهم ، بكلمات مست جوانب الإيمان في النفوس ، مما زاد الجيش عدداً إلى عدده ، وعُدداً إلى عُدده ، فإذا هو قوي بإيمانه وعقيدته ، ثم توجه بالجيش المؤمن على بركة الله  وما هي إلا جولات حتى عجم الأعداء عودة ، وعرفوا أي سهم ماضٍ رماهم به الحجاج ، فأقبلوا يتسابقون إلى الطاعة ، حيث جاءه ملوك الترك وملك بلاد الأفغان مستسلمين بلا قيد أو شرط . وتقدمت جيوشه التي لم تلق معارضةً تذكر ، مما دفع أمم الترك للتحالف على قتيبة ، وقد شددوا الخناق على الجيش الإسلامي ، وقد كان لقتيبة جواسيس في جيش العدو ، الذين أغروا كبيرهم بأن يكون معهم على قتيبة ، وشروه على أن يغشه فجاء قتيبة على إنفراد وقال له : إن العدو كثير ، وإن الحجاج فد عزلك وبعث آخر مكانك وأرى أن تنسحب ، فقال له قتيبة : أما كثرة العدو فكم من فئةٍ قليلةٍ غلبت فئةً كثيرةً بإذن الله والله مع الصابرين ، وأما عزلي فأنا أقاتل لله لا للحجاج ، وأما أنت فقد خنت ، فلما أعترف ضرب عنقه . وكانت المعركة واشتدت ، مما دفع بجيش الأعداء إلى طلب الصلح ، وكانت المعاهدة ، وما كاد يرجع حتى نقضوا المعاهدة ، فرجع إليهم وهزمهم شرَّ هزيمة ، وتوجه إلى بخارى التي فتحت بعد عناء ، وتابع سيره بالجيش الإسلامي ، حتى بلغ ما لم يبلغه قائد من قبل ، ولم يصل اليه فاتح ، إذ فتح في عام واحد ، خوارزم وسمرقند بعد معارك يشيب لها الولدان ، ثم تابع حتى دخل أول بلاد الصين .

وسأروي لكم أغرب قصةٍ في تاريخ الحروب في العالم ، قصةً لم يقع مثلها ولا أظن أنها ستقع لأمةٍ ، فقد كان من قتيبة في فتح سمرقند شيء من الغدر كما قال الناس ، فلما كانت خلافة عمر بن عبد العزيز ، رفع إليه أهل سمرقند دعوى على الجيش الإسلامي ، يدّعون أن بلدهم فتح غدراً ، فأمر عمر بتأليف محمكة خاصة من قاض فرد لرؤية هذه الدعوى ، والذي جلس في المسجد ، وأحضر المدعين والمدعى عليه القائد العام للجيش الإسلامي ، وسمع أقوالهما ، ثم أصدر حكماً يستطيع القضاء الإسلامي أن يفخر به على كل قضاء في الدنيا ، فقد حكم ببطلان الفتح لأنه كان غدراً ، ولأنه خالف قواعد الإسلام في الحروب ، وحكم بخروج الجيش الإسلامي منها ، وإعطائها مهلةً للاستعداد ثم إعلان الحرب من جديد ، ونُفِذَ هذا الحكم الغريب ، وشرع الجيش بالإنسحاب ، ولكن أهل المدعين الذين أدهشتهم هذه العدالة ، والذين ذاقوا نعمة الحكم الإسلامي ، عادوا يطلبون طوعاً واختيارا أن يبقوا تحت راية الإسلام .

بهذا الإيمان وهذا العدل لا بالسيوف فتح المسلمون العالم ، الذي شهد في صدر الإسلام رجالاً أحسنوا الجمع بين القول والعمل الجليل ، تكلموا فأصابوا ودُعوا فأجابوا ، وعملوا فأتقنوا وجاهدوا فأحسنوا ، وبدون ذلك لن يعود لنا عزنا ومجدنا ، قال تعلى : ) والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ، وإن الله لمع المحسنين ( .

 

 

 

   

    

 

عالمـية الإسلام

 لقد بدأت عالمية الإسلام منذ اللحظة الأولى لبعثة النبي صلى الله عليه وسلم فالإسلام عقيدة لا يختص بها شعب ، أو مجتمع أو بلد ، بل هو دين للناس جميعا ، بغض النظر عن العنصر أو الوطن أو اللسان ، ولا يعترف بأية فواصل وتحديدات جنسية أو إقليمية أو زمنية ، فهو عام في المكان والزمان . جاء في تفسير القرطبي في قوله تعالى : ﴿ تبارك الذي نـزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً  ﴾ الفرقان1.  المراد بالعالمين هنا الإنس والجن ، وها هو صلى الله عليه وسلم يخبر قومه قائلاً: ( والله الذي لا إله إلا هو إني رسول الله إليكم خاصة وإلى الناس عامة ) ولأن النبي صلى الله عليه وسلم رسولاً للجن والإنس ونذيراً لهما ، وأنه خاتم الأنبياء ، أمره الله أول ما بعثه أن يصدع بالحق ، بين عشيرته أولاً ، ولتتسع دائرة التبليغ والإنذار ، إلى أن تصل مباشرة إلى أسماع كل من يستطيع أن يسمعه ، أو يرسل من ينوب عنه في تبليغ ما جاء به من الله تعالى ، ولتحقيق ما كلف به من تبليغ رسالته لجميع الناس ، فبدأ النبي صلى الله عليه وسلم يرسل كتبه إلى كل حاكم حوله ، فأرسل إلى فارس وإلى الروم وإلى مصر  وإلى كل بلد يمكن أن يكون فيها من يستطيع تلبية الرسالة ، وما كتاباته صلى الله عليه وسلم إلى ملوك العالم في عهده إلا دليلاً قاطعاً على عالمية رسالته

وقد أتى الإسلام بتشريعاته وأحكامه ، في كل شؤون الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، وقد جاءت هذه الأحكام لمعالجة شؤون الناس جميعا ؛ مسلمين وغير مسلمين ، كما جاءت لتقضي على التفرقة بين الناس ، وحل النـزاعات الإقليمية أو الطائفية أو العنصرية أو القبلية أو الوطنية ؛ لأن الإسلام لا يفرق بين أبيض وأسود ولا بين جنس وآخر ، وقد حارب العصبية والعنصرية والطائفية ودعا الناس إلى رابطة واحدة هي رابطة العقيدة الإسلامية وهذا واضح في قول الله تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾   الحجرات13. وقد أخذ الخلفاء والمسلمون من بعده صلى الله عليه وسلم يمدون هذه الرسالة حيث تنقلوا ، فكانوا وهم يحطمون جبروت الاستعمار ، متجردين لله ، وكانت حياتهم مع بعضهم البعض ، ومسالكهم مع الآخرين ، سببا في دخول بقية الأمم في الإسلام ، حتى أصبحت في مقدمة الأمم المتعصبة له والمدافعة عنه ، فكان منها العلماء والفقهاء  الذين حملوا لواء التدريس في البلاد الإسلامية ، ومضت إلى أن بلغت عهدنا الحالي ، ولو تركنا نصرته والعمل له  فسوف يأتي الله بقوم آخرين ، يعملون لرفعة هذا الدين  ونصرته قال تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ  ﴾ المائدة54 وقال تعالى : ﴿ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ﴾ محمد 38 .  إن عالمية الإسلام ستبقى إلى قيام الساعة ، ولا بد أن يسيطر على العالم  قال تعالى : ﴿ هو الذي أرسل بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون  ﴾ الصف 9 . ثم يخبرنا الله أن الكفر مهما كان قوياً   ومهما كانت أعداده كثيرة ، ومهما كانت أسلحته ماضية ، يخبرنا الله أن لا نهتم لذلك فقال تعالى : ﴿ لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض ومأواهم النار ولبئس المصير  ﴾ النور 57 . فلن يغلبوا الله ، وقال الله تعالى : ﴿ وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة  ﴾ آل عمران 55 . معنى هذا أن عبودية البشر كافة لله ، وأن هذه العقيدة ظاهرة فوق غيرها إلى يوم القيامة   يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث طويل ( ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل ، عزاً يعز به الإسلام ، وذلاً يذل الله به الكفر ) أحمد . وفي حديث أخر ( مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خيرٌ أم آخره ) الترمذي   . وقد يسأل سائل : كيف نوفق بين هذه الأحاديث  والأحاديث التي تتحدث عن غربة الإسلام وضعفه ؟ أن الخط البياني لخط الإسلام خط متعرج ، لا يرتفع باستمرار ، ولا ينخفض باستمرار ، إنه يرتفع وينخفض ، وإن الإسلام بين مد وجزر ، حتى في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم  فالله نصر المسلمين في بدر  وهزمهم في أحد قال تعالى : ﴿ وتلك الأيام نداولها بين الناس ﴾ آل عمران 140 .  وكذلك إلى قيام الساعة ، سننتصر وننهزم ، وننتصر وننهزم ، وسيكون الإسلام غريبا في بعض الأوقات ، ثم يأنس ويعتز ويقوى ، ثم يستوحش لضعف الناصر وجهل العامل ، وما إلى ذلك ، ثم تذهب هذه العلل ، وتنقشع هذه الغُمم ، ويعود الإسلام قوياً عزيزا ، وهكذا إلى قيام الساعة ، ولكن الكلمة الأخيرة للإسلام كما قال تعالى : ﴿ وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ﴾ آل عمران 55 .وإذا كنا نمرُّ في أيام ضعف ، والأعداء ينالون منا ، فإن السبب ليس من الأعداء لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها ، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها ، وأعطيت الكنـزين الأحمر والأبيض ، وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسَنة بعامَّةٍ ، وأن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ، وإن ربي قال : يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد ، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بِسنة بِعامَّة ، ولا أسلط عليهم عدّواً من سوى أنفسهم ، فيستبيح بيضتهم ، ولو اجتمع عليهم من أقطارها  حتى يكون بعضهم يهلك بعض ، ويسبي بعضهم بعضا ) مسلم في الفتن . نعم إن أعدائنا لا يضربوننا بأيديهم ، بقدر ما يضربوننا بأيدينا نحن ، فالفرقة بين العرب والمسلمين حقيقة موجودة ، وستبقى حتى يعودوا إلى الإسلام ، وحتى تكون للقرآن مكانته العملية ويوم يطبق منهج الله .  

إن أي دارس للتاريخ يعلم أن العرب ينتصرون حين يعودون إلى ربهم ، ويرجعون إلى دينهم ، ويتمسكون بشرائعهم ، وإن الرباط الذي يربط بين المسلمين ويمنع تفككهم هو الدين ، وليعلم المسلمون أن راية الإسلام هي وحدها التي تجمع الشمل ، وتوحد الصفوف ، في وقت ازدادت جراحاتهم ، وشعر أعداء الإسلام بأن الإسلام سينتهي أو كاد ، ولما تعالت الصيحات بوجوب العودة إلى الدين والتمسك به ، أخذت المؤامرة ضد الإسلام طريقاً آخر ، بأن لا مانع من العودة إلى الإسلام ، ولكنه إسلام يمكن التخلص من نصوصه ، بل وأكثر من ذلك  يريدون منا أن نرتد عن ديننا ، وأن نتنازل عن بلادنا ، أما الارتداد عن الدين فلأنهم يحاربوننا على هذا الدين منذ أن ظهر ، وأما التنازل عن البلاد   فلأن خيراتها كثيرة ، وكنوزها موفورة ، والطاقات فيها لا تكاد تنتهي ، وأمام هذا الواقع لا خيار لنا ، إما أن نتمسك بالإسلام ، فننجوا وننجح ، وإما أن نهمله فنخسر دنيانا وآخرتنا .  والدارس للتاريخ الإسلامي يرى أن العقيدة الإسلامية والمبادئ الإسلامية ، مكنت المسلمين الأوائل ، من أن ينجحوا في تحمل عبء الحكم ومسئولياته ، ونجحوا في حمل الدعوة إلى العالم ، وهذا يجعلنا في الوقت الحاضر أن نتطلع إلى مستقبل الإسلام باطمئنان ، فنحن أكبر منهم قوة وأكثر عددا ، إذا استكملنا ما تفوقوا به علينا ، وهو الاستمساك بالدين ، والاعتصام بحبل الله المتين والالتفاف حول راية لا إله إلا الله ، أمكننا أن نستأنف دورهم في قيادة العالم : ﴿ وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ﴾ . 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

طريق الخلاص من الذل

إن سلسلة الهزائم التي شهدتها الأمة الإسلامية في هذا العصر ، أصابت الشعوب الإسلامية بالإحباط والوهن والتخاذل ، وجعلتهم يستسلمون للواقع المرّ الذي شلَّ حركتهم ، وسلبهم قدرتهم على الصمود والثبات . علماً بأن المسلم الحق لا يغلبه اليأس ، ولا يشعر بالإحباط ، لأنه يؤمن بأنه يستمد قوته من إيمانه بالله الذي قال : ﴿ ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ﴾ . آل عمران 139

والاستعلاء يكون بالإسلام والاعتزاز بالدين لأنه الطريق الصحيح لنهضة الأمة وعزتها . وليعلم كل مسلم أن من سنن الله الثابتة التي لا تتبدل ولا تتحول ، أن نهضة الأمة لن تتم بمعجزة خارقة بل بسنة جارية ذكرها الله في كتابه العزيز عندما قال : ﴿ إن الله لا يغيَّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم  ﴾ . الرعد 11 .

ولهذا توجهت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لبناء الإنسان وتزكيته قال تعالى : ﴿ هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب الحكمة ﴾ الجمعة 2.  يخطئ خطأ بالغاً من يبدأ في تغيير الواقع دون تغيير الإنسان نفسه ، فذلك هو الجهل بعينه لأن الدين ليس جهازاً يعمل من تلقاء نفسه ، ولو شاء الله لقهر الناس على الهدى ، فلا يستطيعون المخالفة ولا الهبوط ولا الانحراف ، ولكن الله كرَّم الإنسان فلم يجعله شيئاً يُقهر بل جعله كائناً فعّالاً مريداً قادرا على الاختيار  يتحمل تبعة عمله ، حسب سنن مقررة كشفها الله له لكي يهتدي على ضوئها ويضبط مساره بمقتضاها .

وقوله : ويزكيهم فيه حضٌ على تزكية النفس وتطهير الضمير والشعور والعمل والسلوك وتطهير الحياة الزوجية والحياة الاجتماعية . تطهير ترتفع به النفوس من العقائد الفاسدة إلى عقيدة التوحيد  التي ترتفع بالإنسان من رجس الفوضى الأخلاقية إلى نظافة الخلق الإيماني ، ومن دنس الربا والسحت إلى طهارة الكسب الحلال ، وبعبارة أخرى تزكية شاملة للفرد والجماعة ترتفع بالإنسان وتصوراته عن الحياة كلها وعن نفسه ونشأته . إن بناء الإنسان من أصعب ألوان التغيير والبناء  لأنه يتطلب قدراً كبيراً من المثابرة وطول النفس كما يتطلب قدراً من سعة الأفق وبعد النظر . وبقدر ضخامة المهمة التي سيقوم بها الإنسان يكون مقدار التربية ، ولهذا كانت قيادة الأمة تتطلب نوعيّة من الرجال مختلفة قال تعالى : ﴿ وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون ﴾ .السجدة 24 . والمتأمل للتربية النبوية لجيل الصحابة الذين أصبحوا رواد الأمم وقادة الشعوب لما آمنوا بالله حق الإيمان ، واعتصموا بحبله المتين ، لقد كانت تربيةً إيمانيةً فريدة ، فها هو خباب بن الأرت يقول : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بُردةً له في ظل الكعبة وقد لقينا من المشركين شدّة ، فقلت يا رسول الله ألا تدعو الله لنا ، فقعد هو ُمحْمَرُّ وجهه فقال : ( لقد كان من قبلكم ليُمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه ، ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنين ، ما يصرفه ذلك عن دينه ، ولُتَمنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت ، ما يخاف إلا الله والذئب على غنمه ) . إنها تربية إيمانية عظيمة يبنى بها الإنسان وترفعه عن مباهج الدنيا وأهوائها ، تربية تجعله قادر على تحمل تبعات الطريق المستقيم ، تربية تسمو به عن الفتن والأهواء فلا تضرّه فتنة ما دامت السموات والأرض . فكان أمر الله واجب الإتباع ، والعلاقة بينهم وبين ما عداه من شرع الكفر والناس ومن عاداهم ، علاقة جهاد وقتال ، لأنهم آمنوا بقول الله تعالى : ﴿ قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ، ولا يحرِّمون ما حرَّم الله ورسوله  ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون .التوبة 29 . ومن اليقين أن الضلالة والخسران والذل والهوان في اتباع المسلمين لأهل الكفر ، ومن هنا جاء التحذير من اتباعهم فقال صلى الله عليه وسلم ( لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء ، فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا ، فإنكم إما أن تصدقوا بباطل أو تكذبوا بحق ، فإنه لو كان موسى حياً بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني ) . واجب المسلم وهو يرى استباحة حرمة المسلمين أن يدعو إلى الجهاد ، لا الوقوف موقف المتفرج لا يحرك ساكناً ، ويتآمر على العباد والدين الذي أبعدوه عن الحياة عقيدة ومنهاج حياة ، علماً بأنه من صلب تعاليم ديننا ألا نطيع لهم أمراً ، لأن الضلالة في طاعتهم والخسران في اتباعهم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم  : ( ألا إن رحا الإسلام دائرة فدوروا مع الكتاب حيث دار ، ألا إن الكتاب والسلطان سيفترقان فلا تفارقوا الكتاب ، ألا إنه سيكون عليكم أمراء يقضون لأنفسهم ما لا يقضون لكم ، فإذا عصيتموهم قتلوكم ، وإن أطعتموهم أضلوكم ، قالوا يا رسول الله كيف نصنع ؟ قال : كما صنع أصحاب عيسى بن مريم ، نشروا بالمناشير وحملوا على الخشب ، موتٌ في طاعة الله خيرٌ من حياة في معصية الله )

وقد حذّر الله من اتباع الكفر وأهله ومن أعداء الدين ، خشية أن يفتنونا عن عقيدتنا التي هي سرُّ قوتنا وشأن عزتنا فقال تعالى : ﴿ ولا تتبع أهوائهم و أحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل إليك ﴾ . المائدة 49 . فمنذ قيام دولة إسرائيل ، والناس تخشاها وتظن أنها لا تقهر ، لأن الإعلام المبرمج أقنع الناس بذلك ، بما يضخمه من قدراتها وأنها تمتلك أسلحة نووية وبيولوجية لا قبل لنا بها ، وقد سمعنا مقولة أن إسرائيل إذا تضايقت من العرب فسوف تمدها أمريكا بجسر جوي ، وقالوا إسرائيل أقوى من العرب مجتمعين ، بما لديها من ترسانة عسكرية برية وبحرية وجوية ، وجاءت الأيام لتكشف أن إسرائيل انتصرت بالدعاية والتهويل ، ومشاركة فئة من المسلمين في التخويف من إسرائيل ، وقد أثبت الواقع ذلك باستعمال سلاح بسيط مقارنة بما تمتلكه إسرائيل ، كصواريخ الكاتيوشا والعبوات الناسفة ، وانتفاضة الحجارة والعمليات الاستشهادية ، التي جعلت إسرائيل تعيش في رعب ، فانكشف واقع اليهود وجبنهم والذي أشارت إليه وكالات الأنباء بهروبٍ يوميٍ لليهود خارج فلسطين ، وهروب العديد من المستوطنين من الضفة وغزة إلى داخل فلسطين ، ومن بقي منهم في المستعمرات لا يجرؤ على الخروج ، وهذا بسبب أعمال بسيطة ضد اليهود ، فكيف إذا ما قامت حرب حقيقية على يد دولة مخلصة لله ودينه والجهاد في سبيله . فعلى المسلمين أن يتداركوا الأمر بالرجوع إلى الإسلام  يعملوا من أجل تطبيقه  إسلام في جيوشه وقوته وجهاده ، إسلام لا يعرف هزيمةً ولا يخشى بأسا ، ولا يرضى خنوعاً أو استسلاما ، ولا يخاف قوةً ولا بطشا   وفي حالة تكتل الدول ضده يُعْمَلُ بالتوجيه الإلهي في قوله تعالى : ﴿ وإما تخافنَّ من قومٍ خيانة فانبذ إليهم على سواء ﴾ الأنفال 58 .

            

 

 

طبيعة المجتمع المسلم

جاء الإسلام لا ليكون تجمعاً قومياً أو وطنياً  تحت قيادة زعيم يُنْشئُ دولةً   ذات كيانٍ وحدود ، ولكنه جاء لينشئ أمةَ العقيدة ، التي استحقت من الله وصفها بهذا الوصف : ﴿ كنتم خير أمةٍ أخرجت للناس ، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ﴾ آل عمران 110 .

فكان هذا المجتمعُ ، لا مثيل له في كل المجتمعات المعاصرة والقديمة . تجمعٌ التفاضلُ فيه بين الناس ، على القيم التي يلتقون عليها ، ويجتمعون من أجلها  ويحرصون عليها ، ويجاهدون في سبيلها ، هذه القيم التي يمكن أن تُكوِّن الأمة  لأنها القيمة التي تستحق  أن تقوم عليها حياة الإنسان . ومن ثم تكونُ العقيدة  وهي أغلى ما يمكن ، أن تقوم عليه حياةُ الإنسان .

إن المجتمع الذي تتمثل فيه واقعيةُ الإسلام ومثاليتُةُ ، هو مجتمعٌ لازمٌ لإقامة الوجود الإسلامي الصحيح في الأرض ، والناس محاسبون إن قصّروا في ذلك  ومطلوبٌ من المسلمين أن يَرْقَوا لمستواه . إنه مجتمعٌ  يَعْتَبِرُ التوجُهَ بتوجيهات الإسلام ، على أنه أمرٌ ونهيٌ ملزم ، أمرٌ بمنهج لا إله إلا الله ، ونهيٌ عما هو خلاف ذلك ، مجتمعٌ يتوهجُ الحق في قلوب أبنائه ، إلى الحد الذي يعيشون فيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سيرته وسنته ،كأنهم يعايشونه ويتلقون منه التعاليم عن قرب ،كالجيل الأول  جيلُ النبوة ، الذين قاموا بتحقيق الخصائص الأساسية ، للوجود الإسلامي في عالم الواقع   بعد قيامهم بتحقيقها في ذوات أنفسهم . إنها درجةٌ لم بفرضها الله فرضاً على الناس ، إنما فرض عليهم الحدَّ الأدنى ، الذي لا تستقيمُ الحياة بدونه ، وترك الدرجات العلا للتطوع النبيل  الذي تقدر عليه النفوس ، حين تتربى التربية الصحيحة على الإسلام ، وتستضئ بنور الحق  وتعبد الله كأنها تراه ، وتقتدي بالرسول صلى الله عليه وسلم كأنها تعايشه  لذا لم تكن لا اله إلا الله ، منفصلةً في حسِّهم عن الحياة الإسلامية ، التي دعاهم إليها باسم الإيمان ، كما هي في الواقع من مقتضيات لا إله إلا الله .

فهل نعجب إذن ؟ حين نعرفُ الطريقةَ التي كانوا يتلقون بها توجيهات القرآن  وتوجيهات رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا رأينا تلك النماذج الفذةَ ، التي تُحدثنا عنها كتبُ السيرة ، بتلك الوفْرةِ التي وعاها التاريخ .

وهل نعجب من الذين باتوا على الطوى ، ليقدموا اللقمة القليلة ، التي يملكونها إلى ضيفهم  وأطفأوا السراج حتى لا يرى الضيفُ ، أنهم لا يملكون إلا ما قدموا له ، فانزل الله فيهم : ﴿ ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ﴾ الحشر 9 . وهل نعجب من الذي خرج من بيته وبيده تمرات  فلما رأى القتال قال : لئن عشت حتى أنتهي من هذه إنها لحياةٌ طويلة ، فألقى التمرات وأقتحم المعركة  شوقاً إلى الجنة فاستشهد . أو ممن كان في ليلة عرسه ، فسمع الهيعة فقام يطلب الجنة ، فلما استشهد غسلته الملائكة . أو ممن يقدم له رسول الله صلى الله عليه وسلم حصته من الفيء فيرده قائلاً ، ما على هذا بايعتك ، لأنه يبحث عن متاع من نوع آخر ، ويصدق الله فيصدقه  ويُدْخله الجنة شهيداً في سبيل الله . أو من عمر بن الخطاب يبكي ، حين رأى العجوز تلهى أبناءها ليناموا ، فيذهب بنفسه فيحمل الدقيق على ظهره ، ويعود يصنع للأطفال الطعام بيده  ولا ينصرف حتى يعلم أنهم شبعوا أو ناموا  وهل نعجب من ماعز تؤرقه نفسه  يُلح على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يقيم عليه الحد .

ومن الغامدية تلح لإقامة الحد عليها ، وتظل على عزيمتها لا تفارقها حتى تفطم ولدها ، تريد أن تلقى الله خالية من الذنوب .

وهل نعجب من ربعي بن عامر ، يدخلُ على رستم ، كما دخل مستعلياً على كل ما يملك من السلطان والجاه ، يصدعُ بكلمة الحق لا يرهبه ذلك ، ولا يقيم له وزناً فيدوسُ الفُرشَ بأقدام فرسه ، ويمزقها بطرف رمحه ، ويملي على صاحبها أمر الله . وهل نعجب من عمر بن العاص ، يطلب المدد من الخليفة ، لأن الروم يشدّون على جيشه  فيرسل إليه أربعة من أصحاب رسول الله ، فينتصر الجيش بالأربعة كأنهم مدد يبلغ الألوف ، وهل نعجب من عمر بن عبد العزيز ، الذي بعث يحى بن سعيد على صدقات أفريقية ، فلما جمعها وطلب الفقراء ليعطيها لهم ، لم يجد فقيراً ، ولم يجد من يأخُذْها منه  . والعجبُ كلُ العجب ، من انتشار الإسلام في تلك الرقعة الفسيحة من الأرض ، في تلك الفترة القصيرة من الزمن  فيبلغ من المحيط غرباً إلى الهند شرقاً ، في نصف قرن من الزمان ، على أيدي أولئك الأفذاذ من الرجال ، الذين لا مثيل لهم من قبل ولا من بعد ، والذين لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه ، لتفوق في العدد أو العدة أو الخبرة العسكرية  ولكن بضخامة الحقِّ ، الذي آمنت به تلك الأمة  والتقت عليه ، وضخامة المنطق الذي تنطلق منه   فتُحطم كلَّ ما تجد في طريقها  من صور الباطل وأشكاله .إنهم بشرٌ كباقي البشر ، ولكنهم كانوا كما وصفهم الله : ﴿ والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم  ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم  ومن يغفر الذنوب إلا الله ، ولم يصرّوا على ما فعلوا وهم يعلمون ﴾ آل عمران 126 . وفي المقابل أصبحنا اليوم ، نعيش في مجتمع وصل إلى حدٍ من الضياع ، والذل والهوان ، والهبوط المسف ، إلى حدٍ لا تكاد تدانيه أمةٌ في الواقع المعاصر ، إن هبوط هذه الأمة من الذروة العليا  إلى الحضيض السحيق الذي تعيشه اليوم .

مما يجعلنا نتسائل كيف هبطت ؟ ولماذا ؟ وأين الدين الإسلامي؟ لا يختلفْ أحدٌ مع نفسه ، أن العصر الذي نعيش فيه ، عصرُ طغيان المادة واستحكام أمرها ، وسيطرة نوازعها على تقاليد الحياة وقوانينها  ونعني بالمادة تغليب البدن على الروح ، وتغليب الدنيا على الآخرة . عصرٌ فيه الإيمان بالله  لا ينطوي على الجدِّ ولا يرتقى إلى الحدِّ الذي تهتم فيه الدول .

وأما الإيمان باليوم الآخر ، إيماناً يقذفُ في النفوس ، أن العمران البشري إلى انقراض ، فهذا أيضاً لا يكترث العالم به ، ولا يستعد له لا بل يهزأ به ويسخرُ منه . إن الدنيا تسيرُ اليوم ، بقوة خارقة إلى غير غاية  وهي مشغولةٌ أعظم الشغل  بالوقود الذي تستهلكه في هذا السير ، من غذاءٍ وكساءٍ ومتاعٍ وشهوة ، وذهبٍ وفضة ، وما يستتبعهُ الحصول على هذا الوقود من خصام وسلام ، واغتيال واحتيال ، وانقسام وانسجام . وقد فرغتْ كثيرٌ من الأفئدة  من الأيمان بالله واليوم الآخر ، ومتى اختفى الإيمان بالحق ، ظهر الإيمان بالباطل ، حتى ظهر جبلٌ ضل سبيل الإيمان الصحيح ، واستنفذ قواه في الباطل .

 ومن هنا فإن قوانين المنفعة، وانتهاز اللذائذ ، واشترائها بأي ثمن ، قد كسبتْ المعركة ، دون أن تجد أمامها ، مقاومة تذكر من المسلمين ، مع من لا يرعون في مؤمنٍ  إلا ولا ذمة . إن من الظلم القبيح للمسلمين ، ومن الإساءة لهذا العالم ، أن يُحْرَمَ من وجود أمة  تحترم كتاب ربها وسنة نبيها ، لتحتكم إليهما فيما يُعرضُ لها من أحداث وشؤون ، وتعتبرُ التدين شرفاً لا عارا  والإيمان بالله واليوم الآخر ، جداً لا لغوا . إنه يوجدُ بيننا أناس ، يضيقون ذرعاً بحكم الله  ويحتكمون إلى الطاغوت ، حتى أننا نلاحظ أن السلطات الحاكمة في بلاد المسلمين ، في أيدي هؤلاء فعلا ، مما أضرّ بالإسلام والمسلمين  وجعلنا بحاجة ماسة ، إلى سياسة حكم وسياسة مال تخضع لتعاليم الإسلام ، خضوعاً تاماَ مهما اختلطت الأجناس والألوان ، لأن الفساد الذي أصاب سياسة الحكم ، هو نفسه الذي أصاب سياسة المال ، كما أن الأزمات المتلاحقة على أهل الإسلام ، هي التي أوصلتنا إلى ما نرى ونسمع  من سوء التصرفات ، وإدبار أسباب العافية والقوة ، مما شلَّ حركة الأمة الإسلامية . لقد وصلت بنا في هذا العصر ، مراحل الأمراض الاجتماعية والسياسية ، إلى أقصى حدود الهوان والفوضى ، مما أوجب على المخلصين من الأمة  من المفكرين والدعاة ، أن يشقوا طريقهم وسط العقبات والصعاب ، لأن الذين تؤذيهم اليقظة الإسلامية كثيرون ، فكم من كبراء سيصغرون  ومن محتلّين سيزولون ، حين يحتشد المخلصين لله ورسوله جبهةً واحدة ، تستميت في المحافظة على المنهج  واسترجاع ما ضاع ، وتركزُ ضغطها على مصدر الخطر ، النابع من دول الكفر، التي أجرمت في حق الإسلام والمسلمين .

إن أهل الإسلام بحاجة ماسة ، إلى من يجاهد لإعلاء كلمة الإسلام وحكمه  في عصرٍ فقد فيه مظلة الإسلام ، وعليه فالذين يكتمون الحق ، ولا يجهرون به مقصرون ، والذين يقومون بطائفة من العبادات الفردية ، ويحسبون أنهم أدوا رسالتهم  مقصرون ، لأن الإسلام لا ينجو من لوثاث القاصرين ، وتراخي المقصّرين . إننا نأمل من الله أن يقوم للإسلام رجال ، لا يخافون في الله لومه لائم ، يردون عادية الإلحاد والبغي والفسوق ، ويرفعون أعلام اليقين والرحمة  ويوم يعودُ المسلمون إلى دينهم الحق ، فإنَّ التخلُّفَ المزري ، اللاصق بهم اليوم ستنجلي غُمتُهُ   وتنكشفُ ظُلْمتُهُ ، وسيأخذون طريقَهُمْ مرةً أخرى ، إلى الصدارة والتقدم : ﴿ وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ﴾ .                     

 

 

 

 

              

    

 

 

 

 

 

 

 

 

 

               

 

ضرورة العودة إلى الإسلام

نعيش في زمن ندّعي الإسلام ولا نطبقه ولا نلتزمه في حياتنا ، ولا نحيا الحياة الإسلامية التي أرادها الله لنا ، بل إننا نعيش على هامش الإسلام ، والواجب يدعونا إلى العمل بالإسلام ، والعودة إلى حياة إسلامية توجها عقيدة الإسلام ، وتحركها دوافع الإسلام وتربط بين الناس أخوة الإسلام ، فلا إيمان بغير هذا    لأن مقتضى الإيمان أن يُحَكَّم الإسلام ونعود إليه ونطبقه كله ، لأنه لا يمكن أن يوجد إيمانٌ بدون الاحتكام إلى شرع الله ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به )  وقد نفى القرآن هذا بصراحة فقال تعالى : ﴿ وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ﴾ الأحزاب 36.  ولا خيار للمؤمن بغير ذلك فهذا هو شأنه لقوله تعالى  :﴿ إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينتهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون﴾  النور 51 . وليعلم كل مؤمن بأن الصدود عما أنزل الله ، وحكم به رسوله صلى الله عليه وسلم هو نفاق ، سواء كان هذا الصدود من حاكم أو محكوم ، لأن مقتضى الإيمان أن نرجع إلى حكم الله ورسوله وإلا انتفى الإيمان ، وقد اقسم الله على ذلك قسماً مؤكداً قال تعالى : ﴿ فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما ﴾ النساء 65 . ومهما قيل أن الأمة الإسلامية قديماً انحرفت ، إلا أن الإسلام ظل أساس حياتها  ولم يكن هناك رفض لها ، فمهما اشتد الطغيان والجبروت ، فالسمع والطاعة عند المواجهة بحكم الله ورسوله ، فهذا الحجاج الذي كان يأخذ بالظنة ، ويقتل بالشبهة  سجن يوماً رجلاً ولم يكن هو الجاني ، وإنما جنى بعض أقربائه ، فلما سأله الحجاج ما الذي جاء بك ؟ قال جنى جان من أقاربي فأخذت به وسجنت بديلاً عنه ، فقال الحجاج إن الشاعر يقول :

جانيك من يجني عليك وقد   تُعدِى الصحاح مبارك الجُرب

ولربَّ مأخوذ بذنب عشيرة   ونجا المقارف صاحب الذنب

أي الإنسان يؤخذ بذنب غيره ، هكذا يقول الشاعر ، فقال الرجل إذا كان الشاعر قد قال هذا ، فإن الله قال على لسان يوسف عليه السلام : ﴿ قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذاً لظالمون ﴾   يوسف 79 . وهذا ما أكده القرآن حين قال : ﴿ ولا تزر وازرةٌ وزر أخرى  ﴾ الأنعام 164 . ولما سمع الحجاج هذه الآية من الرجل قال : خلو سبيله صدق الله وكذب الشاعر . هذا هو منطق الإيمان ، وإذا احتكمنا إليه يجب أن نعود إلى القرآن والسنة حكاماً ومحكومين ، وإلا رمينا بالنفاق والكفر والظلم والفسق ، والذي يرمينا هو القرآن كما قال تعالى : ﴿ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ﴾ . وبعدها ذكر الظالمين والفاسقين ، فأين القرآن من الآيات الثلاث ، هناك من يقول باطلاً وظلماً أن هذه الآيات نزلت في أهل الكتاب ولم تنـزل في المسلمين ، نقول لهم هذا صحيح ، ولكن لفظها عام والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، وإذا كان الله قد حكم على أهل الكتاب بالكفر أو بالظلم أو بالفسق ، فلأنهم لم يحكِّموا التوراة أو الإنجيل ، وهل يكون من ترك القرآن ولم يحكم بما أنزل الله أقل إثماً من هؤلاء ؟ وهل القرآن أدنى من هذه الكتب حتى يكون تركه والخروج عليه والإعراض عنه أقل في الإثم من ترك الحكم بالتوراة أو الإنجيل ؟ بالطبع لا ، وهل يكيل الله بكيلين أو يزن بميزانين اليهود أو النصارى إذا تركوا كتابهم كانوا كفره وظلاماً و فساقا ، والمسلمون إذا تركوا كتابهم واتخذوه وراءهم ظهريا يكونون معافين من الإثم والكفر والفسق والظلم ؟ لا وألف لا ، فعدل الله واحد وميزانه واحد ، فمن حكم بغير ما انزل الله فليس له إلا أن يرمى بالكفر أو بالظلم أو بالفسق حسب موقفه مما أنزل الله .

إن منطق الإيمان يحتم علينا الرجوع إلى الإسلام كل الإسلام ، وليس في زاوية من الزوايا أو ركن من الأركان ، كما هو في عصرنا هذا ، ومما يدعو للأسف أن يحصر الإسلام في البلاد الإسلامية في ركن الحديث الديني في الإذاعة ، وكثيراً ما يكون في وقت ميت والناس نيام ، وكذلك في التلفاز وفي بعض الصحف في بعض صفحة يوم الجمعة أو حصة الدين في المدرسة  وفي القانون موضوع الأحوال الشخصية  أما المعاملات الاقتصادية والتجارية والمدنية والدستورية والإدارية والجنائية ، كل هذه نجد الإسلام بعيداً عنها ومعزولاً ، إنها زاوية صغيرة يأخذها الإسلام ، يتصدقون بها عليه وهو صاحب الملك  وحتى هذه الزاوية تستكثر عليه في بعض البلاد ، وفي المسجد لم يترك المنبر للإسلام يريدونه منبراً موجهاً لا تقال فيه كلمة الحق التي طلبها الإسلام ، بل الكلمة التي تريدها السلطة ، ومن خرج على ذلك يمنع وقد يسجن ويعتقل .

إننا نعيش في عصر لم يُترك الإسلام حراً ليوجّه الحياة  يريدون له أن يأخذ جانباً  واحداً من الحياة ، يريدونها مسيحية أخرى تقبل أن تحكم بعض الحياة دون البعض ، علماً بأن الإسلام دين ودولة ، وعقيدة وشريعة وعبادة وقيادة وصلاة وجهاد ، لا يقبل التجزئة بين ما أسموه دينا وما أسموه دولة ، فلا يقبل الإسلام أن يترك جانباً دون أن يوجه ويحكم ، وإلا كان إيماناً ببعض الكتاب وكفراناً ببعض ، وقد وبخ القرآن الذين مزقوا الدين فقال تعالى : ﴿ أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ، فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزيٌ في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب ﴾ البقرة 85 . إنه منطق يحتم علينا أن نلتزم بالإسلام كله عقيدة وشريعة ، وعبادة وأخلاقا ومعاملات ونظاماً ويوجب علينا أن نعود إلى الإسلام باعتباره منهج حياة في كل شئون الحياة . إن تاريخ أمة الإسلام يفرض علينا أن نعود إلى الإسلام ، لأنها لم تكن شيئاً ولم تكن لها العزة إلا بالإسلام ، هذا هو منطق التاريخ ، لأن كل انتصار للأمة كان وراءه رجعة إلى الإسلام ، وكل مرحلة من المراحل التاريخية كان فيها عزٌ وازدهار وقوة وانتصار ، تدل على أن هناك إسلاماً تحرّك وحرّك ، هذا هو الثابت في التاريخ ، لنرجع إلى عصر عمر بن عبد العزيز الذي سار على نهج عمر بن الخطاب ، ورغم أنه حكم ثلاثين شهراً إلا أنه أقام الرخاء واعتبر خامس الخلفاء الراشدين ، فكيف لو طالت مدته ؟ ولننظر إلى عصر صلاح الدين  ومن قبله نور الدين ، لقد حكما بشرع الله ونفذا الإسلام ونفخا في الناس روح الإيمان . فلم ينتصر صلاح الدين بمجرد الكلام ، وانتظار الأعداء ليمدوه بالسلاح بل حاول أن يصنع من السلاح ما قدر عليه ، وأن يجد الإيمان في القلوب ، فقد كان بين الصفوف في المعركة ، يطلب أن يُقرأ عليه من صحيح البخاري   وكان يمرّ بالليل على جنود جيشه في الخيام ، فإذا وجد في خيمة من الخيام رجلاً يصلي أو يقرأ القرآن أو يذكر الله أو يسبح أو يهلل أو يكبر فرح وقال : الحمد لله بهذا ننتصر ، وإذا وجد خيمة من الخيام أهلها كلهم نيام يقول : أخشى أن تجيئنا الهزيمة من مثل هذه الخيمة .  بهذا انتصر صلاح الدين على الصليبيين . فإذا ما أردنا العزة والسيادة والنصر ، فلنرجع إلى الإسلام ، الذي جربناه في تاريخنا فوجدنا فيه الشفاء لكل داء والحل لكل عقده والعلاج لكل معضلة ، إن حكم الله هو قانون السماء لهداية الأرض قال تعالى : ﴿ ومن احسن من الله حكماً لقوم يوقنون ﴾. إن الواقع يفرض علينا العودة إلى الإسلام ، لأننا جربنا الأفكار والأنظمة المستوردة ، التي لم تسعد من شقاء ولم توحد من فرقة ، وظللنا نحن كما نحن ، لم تحل مشاكلنا بل ازدادت ، حيث نشكو فساداً أخلاقياً وانهيارا اقتصادياً وتحللاً أسرياً وضعفاً دينياً واضطراباً سياسياً ، نشكو التجزئة والتفرقة ، وقد كثر التذمر في أوساط الأمة التي تنتظر الفرج ، وتطلب العلاج والعلاج موجود في متناول اليد ، الذي لم يفكروا في اللجوء إليه ، نبحث عن هذا وذاك ونتسكع هنا وهناك نأكل من موائد غيرنا ، لذا ما زلنا متخلفين في المعركة فلا نستطيع أن ندافع عن أنفسنا ، لأن سلاحنا وقوتنا من عند غيرنا .

إننا بحاجة ماسة إلى الإسلام ، لنستقر ونشعر بالطمأنينة ، فهو وحده الذي يوجد التوازن والاعتدال في حياتنا ، وينقذنا مما نعانيه من مشكلات وويلات في جوانب الحياة ،فإذا كانت وجهتنا إسلامية ومفاهيمنا إسلامية ومشاعرنا إسلامية وقيمنا إسلامية فإننا بعون الله سنجد الإنسان الصالح والأسرة الصالحة والمجتمع الصالح ، ولا يصلح الإنسان إلا العقيدة والتزام المنهج الذي رسمه الله لعباده  بذلك يصلح الفرد وتصلح الأمة . لنفهم هذا جيداً ولنؤمن به ويوم يحكم هذا الإسلام حياتنا ، فإننا سنسعد في الدنيا والآخرة ، ونسأل الله أن يردنا إلى الإسلام رداً جميلا  قال تعالى : ﴿ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا بأنفسهم ﴾  .

  

 

         

 

 

 

سياسة دول الكفر للقضاء على الإسلام

لقد تكفل الله بالمحافظة على الإسلام وكتابه الخالد فقال تعالى : ﴿ إنا نحن أنزلنا الذكر وإنا له لحافظون ﴾ الحجر 9 . وقد بقي الإسلام موجوداً منذُ بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم وحتى الآن ، وعلى أساسه تكونت الأمة الإسلامية  وتم بناء دولتها التي بقيت حتى سقوط الخلافة العثمانية ، وهي باقية في دلالات نصوص الإسلام وكامنة حتى يبعثها الله . بخلاف كثير من النظم التي وُجدت في العالم واندثرت ، كما حصل مع الاشتراكية التي انتهت حين تخلت عنها الشعوب التي كانت تعتنقها .  أما الإسلام فهو موجودٌ  وسيبقى موجوداً إلى الأبد  وإن لم تكن هناك دولة تطبقه ، لأن الأمة الإسلامية على اختلاف شعوبها ، ظلت تعتنقه رغم إبعاده عن حياتها ، ورغم غياب وجود دولي له ، إلا أنه كمبدأ إلهي ظل موجوداً في العالم .  أما النظام الرأسمالي الذي تتبناه دول الكفر ، والتي عملت على أن يكون أساس العلاقات والأعراف والقوانين الدولية ، والتي تعمل على محاربة الإسلام لخوفها منه ، وطمعها في ثروات بلاد المسلمين من مواد خام ضرورية لصناعتها ، ولوجود الاحتياطي الضخم من النفط الخام في بلادها .

وإن كبرى هذه الدول تعتبر الإسلام خطراً عليها ، لذا تعمل على إضفاء الشرعية الدولية على الإجراءات التي تراها ضرورية ، سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو عسكرية ، واستغلال وسائل الإعلام لترويج شعاراتها  وتشويه صورة الإسلام ، واستعداء العالم على المتمسكين به ، ووصفهم بالتطرف والأصولية والتشدد والعنف والإرهاب وهم منها براء .

يساعدهم في ذلك المنافقون والمرتزقة والانتهازيون والنفعيون الذين يلهثون وراء المناصب الدنيوية مخالفين مفاهيم الإسلام وأحكامه ، بتطبيق أنظمة الكفر وعقد اتفاقيات ومعاهدات مع دول الكفر وما يصاحب ذلك من البطش والقمع بالمخلصين من أبناء المسلمين ، وتطبيق شعارات الرأسمالية كالديمقراطية  التي تعني أن يحكم الشعب نفسه بنفسه ، بالنظام الذي يضعه لنفسه ، مخالفين بذلك شريعة الله ، واتباع تشريعات المخلوقين ، كالديمقراطية التي ينادون بأن من مبادئها المساواة والعدل والمحاسبة ، وهي انتقائية وإن حصلت حالات شاذة بخلاف ذلك . أما التعددية : وهي من شعارات دول الكفر للقضاء على الإسلام ، والتي تسمح بوجود الأحزاب والحركات التي تبيح ما حرم الله ، كإباحة الشذوذ الجنسي   وتحلل النساء . أما ما يسمى بحقوق الإنسان : وهي نظرة الرأسمالية لطبيعة الإنسان ، والعلاقة بين الفرد والجماعة  وواقع المجتمع ووظيفة الدولة ، وقد اعتبرت الإنسان خيِّرٌ بطبيعته وليس شرّيراً ، وأن سبب الشرّ تقييد ارادته  فنشأت فكرة الحريات ، بخلاف الإسلام الذي يعتبر الإنسان مهيا للخير والشرّ معاً ، وأنه يختار أيهما بإرادته قال تعالى : ﴿ ونفسٍ وما سوّاها فألهمها فجورها وتقواها ، قد أفلح من زكّاها وقد خاب من دسّاها ﴾ الشمس 10 .

وقد قدموا مصلحة الفرد على مصلحة المجتمع ، بخلاف الإسلام الذي جعل للفرد حقوقا وللجماعة حقوقا وقد رتب على كل طرف واجبات تجاه الآخر  وأن على الدولة تأمين التوازن بينهما ، وفي وصف العلاقة بين الفرد والجماعة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضُهم أعلاها ، وبعضُهُم أسفلها ، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرّوا على من فوقهم فقالوا : لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ، ولم نؤذ من فوقنا ، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً ، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونَجَوْا جميعا ) .

والحريات عند الغرب : هي الأساس الذي انبثق عنه (حقوق الإنسان) وهي أساس البلاء في المجتمعات الرأسمالية التي تحولت بسببها إلى وحوش غابات يأكل القوي فيها الضعيف ، وينحدر الإنسان فيها إلى درْك الحيوان نتيجةً لإطلاق العنان لغرائزه وحاجاته .

كما أن الناس في المجتمعات الرأسمالية أشبه بالبهائم  همهم التمتع بأكبر قسط من المتع الجنسية ، ويُعْتَبَرُ ذلك قمة السعادة في النظام الرأسمالي ، مع أنها في الحقيقة مجتمعات لا تعرف للسعادة طريقاً بل ، يعمها الشقاء والاضطراب والقلق الدائم

وأما حرية العقيدة : فلا وجود لها بالنسبة للمسلمين  لأنهم ملزمون باعتناق عقيدة الإسلام . وأما حرية الرأي : فإنها تعني السماح للمنافقين وأعداء الإسلام بالدعوة ضد الإسلام ، وهدم كيان الأمة  والسماح لهم بالدعوة لأفكار الكفر التي تُروج لانحلال النساء والفساد ، بخلاف الإسلام الذي أشترط أن يكون الرأي منبثقاً عن العقيدة الإسلامية أو مبنياً عليها ، وأما حرية التملك : فللفرد عندهم أن يتملك كلّ شيء ما أُحِلَّ تملّكه وما حرِّم ، ويتصرّف بما يملكه كما يشاء سواء تقيد بأوامر الله ونواهيه أو لم يتقيد .

وأما الحرية الشخصية : فإنه لا يجوز لمسلم أن يقبل بها لأنها تُبيحُ ما حرَّم الله ، كحرّية الزنا والشذوذ الجنسي والتهتك وشرب الخمر ، وما إلى ذلك من آفات هذه الحريات التي دعا اليها المبدأ الرأسمالي .

أما من يدعو لها من المنتمين للإسلام ، فهو إما جاهل أو فاجر ، ومن لا يدرك تناقض (حقوق الإنسان) مع الإسلام فهو جاهل ، ومن يعرف التناقض مع الإسلام ويدعوا له عصياناً فهو فاجر ، أما من يؤمن بها باعتبارها منبثقة عن عقيدة فصل الدين عن الحياة  ويدعو لها على هذا الأساس فإنه كافر ، لأنه بهذا لا يعتنق عقيدة الإسلام .

 أما سياسات السوق : وهي تطبيق لحرية التملك على العلاقات التجارية بين الدول ، ويقصد بها تخفيف أو إنهاء تدخل الدول في النجارة بوجه خاص وفي الاقتصاد بوجه عام ، لذا نرى أن كبرى دول الكفر تعمل على رفع الحواجز الجمركية والقيود أمام التجارة الدولية ، وفي الاقتصاد بوجه عام .

إن الهدف من فرض سياسات السوق على الدول   هو تحويل العالم إلى سوق حرَّة ، وفتح أسواق هذه الدول أمام الاستثمارات الأجنبية ، وجعلها تتخلى عن دورها في إدارة اقتصادها بحملها على خصخصة القطاع العام .

لقد قامت كبرى دول الكفر لتحقيق ذلك بعقد إتفاقيات دولية ، وإنشاء تكتلات اقتصادية ، كالناتا والسوق الأوروبية المشتركة ، وأيباك ، والجات : وهي الإتفاقية العامة للتجارة والتعرفة الجمركية المرجعية للتجارة الدولية والتي  أوجدتهها أمريكا ، ولما كانت غير كافية لتحقيق أغراضها ، عملت على إيجاد اتفاقية بديلة لها على هيئة منظمة سمتها (منظمة التجارة العالمية) وميزتها أنها تُبيح للدول الرأسمالية الغنية والنافذة وعلى رأسها أمريكا ، التدخل في الشؤون التجارية والاقتصادية للدول الملتزمة بها ، من خلال الأنظمة التي تضعها للدول النافذة كما تهدف إلى تدويل سياسات السوق ، لفتح أسواق سائر دول العالم أمام منتجاتها المتفوقة . إن واجب المسلمين أن يرفضوا سياسات السوق لتناقضها مع الإسلام ، ولأنها من أبرز الشعارات التي تدعو اليها دول الكفر للقضاء على الإسلام ، وتشويه مفاهيم الإسلام وتحريفها ، بمساعدة عملائها في البلاد الإسلامية . لقد آن للمسلمين أن يكونوا على جانب عظيم من اليقظة لما يخططوا ويدبروا ، ولا نخافهم ونخشاهم لأننا نؤمن بالله الذي يأمرنا بعدم الخوف منهم قال تعالى : ﴿ فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين ﴾ وقد وعد الله من فعل ذلك بالنصر قال تعالى : ﴿إن تنصروا الله ينصركم ويثبِتْ أقدامكم ﴾ .

  

 

   

 

 

سياسة دول الكفر للقضاء على الإسلام

لقد تكفل الله بالمحافظة على الإسلام وكتابه الخالد فقال تعالى : ﴿ إنا نحن أنزلنا الذكر وإنا له لحافظون ﴾ الحجر 9 . وقد بقي الإسلام موجوداً منذُ بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم وحتى الآن ، وعلى أساسه تكونت الأمة الإسلامية  وتم بناء دولتها التي بقيت حتى سقوط الخلافة العثمانية ، وهي باقية في دلالات نصوص الإسلام وكامنة حتى يبعثها الله . بخلاف كثير من النظم التي وُجدت في العالم واندثرت ، كما حصل مع الاشتراكية التي انتهت حين تخلت عنها الشعوب التي كانت تعتنقها .  أما الإسلام فهو موجودٌ  وسيبقى موجوداً إلى الأبد  وإن لم تكن هناك دولة تطبقه ، لأن الأمة الإسلامية على اختلاف شعوبها ، ظلت تعتنقه رغم إبعاده عن حياتها ، ورغم غياب وجود دولي له ، إلا أنه كمبدأ إلهي ظل موجوداً في العالم .  أما النظام الرأسمالي الذي تتبناه دول الكفر ، والتي عملت على أن يكون أساس العلاقات والأعراف والقوانين الدولية ، والتي تعمل على محاربة الإسلام لخوفها منه ، وطمعها في ثروات بلاد المسلمين من مواد خام ضرورية لصناعتها ، ولوجود الاحتياطي الضخم من النفط الخام في بلادها .

وإن كبرى هذه الدول تعتبر الإسلام خطراً عليها ، لذا تعمل على إضفاء الشرعية الدولية على الإجراءات التي تراها ضرورية ، سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو عسكرية ، واستغلال وسائل الإعلام لترويج شعاراتها  وتشويه صورة الإسلام ، واستعداء العالم على المتمسكين به ، ووصفهم بالتطرف والأصولية والتشدد والعنف والإرهاب وهم منها براء .

يساعدهم في ذلك المنافقون والمرتزقة والانتهازيون والنفعيون الذين يلهثون وراء المناصب الدنيوية مخالفين مفاهيم الإسلام وأحكامه ، بتطبيق أنظمة الكفر وعقد اتفاقيات ومعاهدات مع دول الكفر وما يصاحب ذلك من البطش والقمع بالمخلصين من أبناء المسلمين ، وتطبيق شعارات الرأسمالية كالديمقراطية  التي تعني أن يحكم الشعب نفسه بنفسه ، بالنظام الذي يضعه لنفسه ، مخالفين بذلك شريعة الله ، واتباع تشريعات المخلوقين ، كالديمقراطية التي ينادون بأن من مبادئها المساواة والعدل والمحاسبة ، وهي انتقائية وإن حصلت حالات شاذة بخلاف ذلك . أما التعددية : وهي من شعارات دول الكفر للقضاء على الإسلام ، والتي تسمح بوجود الأحزاب والحركات التي تبيح ما حرم الله ، كإباحة الشذوذ الجنسي   وتحلل النساء . أما ما يسمى بحقوق الإنسان : وهي نظرة الرأسمالية لطبيعة الإنسان ، والعلاقة بين الفرد والجماعة  وواقع المجتمع ووظيفة الدولة ، وقد اعتبرت الإنسان خيِّرٌ بطبيعته وليس شرّيراً ، وأن سبب الشرّ تقييد ارادته  فنشأت فكرة الحريات ، بخلاف الإسلام الذي يعتبر الإنسان مهيا للخير والشرّ معاً ، وأنه يختار أيهما بإرادته قال تعالى : ﴿ ونفسٍ وما سوّاها فألهمها فجورها وتقواها ، قد أفلح من زكّاها وقد خاب من دسّاها ﴾ الشمس 10 .

وقد قدموا مصلحة الفرد على مصلحة المجتمع ، بخلاف الإسلام الذي جعل للفرد حقوقا وللجماعة حقوقا وقد رتب على كل طرف واجبات تجاه الآخر  وأن على الدولة تأمين التوازن بينهما ، وفي وصف العلاقة بين الفرد والجماعة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضُهم أعلاها ، وبعضُهُم أسفلها ، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرّوا على من فوقهم فقالوا : لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ، ولم نؤذ من فوقنا ، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً ، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونَجَوْا جميعا ) .

والحريات عند الغرب : هي الأساس الذي انبثق عنه (حقوق الإنسان) وهي أساس البلاء في المجتمعات الرأسمالية التي تحولت بسببها إلى وحوش غابات يأكل القوي فيها الضعيف ، وينحدر الإنسان فيها إلى درْك الحيوان نتيجةً لإطلاق العنان لغرائزه وحاجاته .

كما أن الناس في المجتمعات الرأسمالية أشبه بالبهائم  همهم التمتع بأكبر قسط من المتع الجنسية ، ويُعْتَبَرُ ذلك قمة السعادة في النظام الرأسمالي ، مع أنها في الحقيقة مجتمعات لا تعرف للسعادة طريقاً بل ، يعمها الشقاء والاضطراب والقلق الدائم

وأما حرية العقيدة : فلا وجود لها بالنسبة للمسلمين  لأنهم ملزمون باعتناق عقيدة الإسلام . وأما حرية الرأي : فإنها تعني السماح للمنافقين وأعداء الإسلام بالدعوة ضد الإسلام ، وهدم كيان الأمة  والسماح لهم بالدعوة لأفكار الكفر التي تُروج لانحلال النساء والفساد ، بخلاف الإسلام الذي أشترط أن يكون الرأي منبثقاً عن العقيدة الإسلامية أو مبنياً عليها ، وأما حرية التملك : فللفرد عندهم أن يتملك كلّ شيء ما أُحِلَّ تملّكه وما حرِّم ، ويتصرّف بما يملكه كما يشاء سواء تقيد بأوامر الله ونواهيه أو لم يتقيد .

وأما الحرية الشخصية : فإنه لا يجوز لمسلم أن يقبل بها لأنها تُبيحُ ما حرَّم الله ، كحرّية الزنا والشذوذ الجنسي والتهتك وشرب الخمر ، وما إلى ذلك من آفات هذه الحريات التي دعا اليها المبدأ الرأسمالي .

أما من يدعو لها من المنتمين للإسلام ، فهو إما جاهل أو فاجر ، ومن لا يدرك تناقض (حقوق الإنسان) مع الإسلام فهو جاهل ، ومن يعرف التناقض مع الإسلام ويدعوا له عصياناً فهو فاجر ، أما من يؤمن بها باعتبارها منبثقة عن عقيدة فصل الدين عن الحياة  ويدعو لها على هذا الأساس فإنه كافر ، لأنه بهذا لا يعتنق عقيدة الإسلام .

 أما سياسات السوق : وهي تطبيق لحرية التملك على العلاقات التجارية بين الدول ، ويقصد بها تخفيف أو إنهاء تدخل الدول في النجارة بوجه خاص وفي الاقتصاد بوجه عام ، لذا نرى أن كبرى دول الكفر تعمل على رفع الحواجز الجمركية والقيود أمام التجارة الدولية ، وفي الاقتصاد بوجه عام .

إن الهدف من فرض سياسات السوق على الدول   هو تحويل العالم إلى سوق حرَّة ، وفتح أسواق هذه الدول أمام الاستثمارات الأجنبية ، وجعلها تتخلى عن دورها في إدارة اقتصادها بحملها على خصخصة القطاع العام .

لقد قامت كبرى دول الكفر لتحقيق ذلك بعقد إتفاقيات دولية ، وإنشاء تكتلات اقتصادية ، كالناتا والسوق الأوروبية المشتركة ، وأيباك ، والجات : وهي الإتفاقية العامة للتجارة والتعرفة الجمركية المرجعية للتجارة الدولية والتي  أوجدتهها أمريكا ، ولما كانت غير كافية لتحقيق أغراضها ، عملت على إيجاد اتفاقية بديلة لها على هيئة منظمة سمتها (منظمة التجارة العالمية) وميزتها أنها تُبيح للدول الرأسمالية الغنية والنافذة وعلى رأسها أمريكا ، التدخل في الشؤون التجارية والاقتصادية للدول الملتزمة بها ، من خلال الأنظمة التي تضعها للدول النافذة كما تهدف إلى تدويل سياسات السوق ، لفتح أسواق سائر دول العالم أمام منتجاتها المتفوقة . إن واجب المسلمين أن يرفضوا سياسات السوق لتناقضها مع الإسلام ، ولأنها من أبرز الشعارات التي تدعو اليها دول الكفر للقضاء على الإسلام ، وتشويه مفاهيم الإسلام وتحريفها ، بمساعدة عملائها في البلاد الإسلامية . لقد آن للمسلمين أن يكونوا على جانب عظيم من اليقظة لما يخططوا ويدبروا ، ولا نخافهم ونخشاهم لأننا نؤمن بالله الذي يأمرنا بعدم الخوف منهم قال تعالى : ﴿ فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين ﴾ وقد وعد الله من فعل ذلك بالنصر قال تعالى : ﴿إن تنصروا الله ينصركم ويثبِتْ أقدامكم ﴾ .

  

 

   

 

 

سبب معاناة المسلمين

إن الكلمة تكاد أن تجف قبل أن يجف مدادها ، فلمثل هول هذه المؤامرة   يذوب القلب من كمدٍ ، ولمثل هذا الهوان تنفطر الأكباد ، ولأن كانت الغفلة قد رانت على القلوب ، فإنا نذكر المثل القائل " رب ضارة نافعة " فلعلَّ هذه الأحداث المؤلمة تحرك الضمائر، وتوقظ الهمم ولكن هيهات .

إن قوة العدو بعيدةً كل البعد عن ذاته لأنها  قائمةٌ على تخاذلنا وتخلخل صفوفنا وعدم حرصنا على إعداد العدة ، لمواجهة المأساة التي حلت بإخواننا الذين أصبحوا بين عشية وضحاها ملهاة الزمن وحديث المتفضلين .

إن إخواننا يتلقون المأساة على شكل معركة تدور واعتداءٍ يُدبَرْ ومؤمرات تُحاك  ومقدساتٍ تنتهك حرماتها ، وأرضٍ يعتدي عليها الغاصبون ، إنهم يتطلعون إلى الساعة التي يفرح فيها المؤمنون بنصر الله ، إنهم يبتسمون للموت ولسان حالهم وهم يقاومون اعتداء المعتدي قول الله تعالى : ﴿ والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سُبُلَنا وإن الله لمع المحسنين ﴾ . في الوقت الذي يولي المسلمون ظهورهم لما يجري ، ويطمئنوا لما هم عليه من ضياعٍ وفرقة ، ويهونوا على أنفسهم حتى تبلد منهم الحس ، فلماذا لا يستيقظوا على وقع المطارق التي لا تعرف إلاً ولا ذمة .

ولماذا يخضع القائمون على أمر الأمة الخضوع الأعمى للمؤامرة الدنيئة التي تستهدف قتل روح الجهاد والمقاومة في الأمة ، أليس من عجائب دهرنا ومصائب زماننا أن يعربد الكفر ويصول ويجول ويقتل ويدمر ؟ والمسلمون يسيرون في مواكبة ويركضون في ركابه ، أليس من سخرية القدر أننا لا نعرف أعدائنا وأصدقائنا ؟ أليست مصيبة الإسلام في مضيعة لا معين له عليها بين جهل أبنائه وعجز علمائه ؟ في  الوقت الذي يواجه هجوماً شرساً يهدف إلى القضاء عليه وإفراغ المسلمين من حوافزه الروحية .

إن المؤامرة ضد الإسلام والمسلمين في أوج شراستها وعنفوانها ، بسبب الصراع والفراغ العقائدي ، الذي مزق أوصال الأمة وشتت شملها  مما سهّل على إسرائيل أن تفترس شعباً بكامله  وهان علينا أن نغضي على الأذى ونحن نرى جناته  ونصبر على المكائد ونحن نعرف موقديها ونرتكس في مطارحنا الذليلة نقتات أوهاماً ونجتر آلاماً ، ونصبِّرُ أنفسنا على البلاء الذي يُمارس ضدنا ، حتى صار الذل جزءاً من طبيعتنا ، لا نكاد نحس به أو نُباليه ، في الوقت الذي نرى إسرائيل المزعومة كما نسميها ، وحده دينية واجتماعية وسياسية مترابطة متلاحمة ، ونحن فرديون أنانيون لا حقيقيون ، لكل منا قصة ولكل منا قضية ولكل منا درب وسبيل . إسرائيل أمة متكاملة تكونت خلال عقدين من الزمان ، من تسعين جنسية مختلفة ، لا يجمع بينها إلا رباط الدين ، ونحن أمة مشرذمة لا خطة ولا حافز ولا حاضر ولا مستقيل ولا مصير ، نتداعى إلى اجتماع أو مؤتمر فنخدع أنفسنا والناس  ويحتدم النقاش وقد يقع الخصام فتضيع الحقيقة بين التخدير والإيهام .

أنظر يا أخي فيما يحيط بنا من غفلة عامة توشك أن تَقْطع المسلمين من أرض الأحياء فلا تكاد ترى إلا ألقاباً في غير موضعها ، ورتباً وأوسمة تتلألأ على الأكتاف والصدور والله وحده عالم بما في الصدور ، ومسؤول هنا وآمرٌ هناك صقورٌ على أهليهم حمائم أمام إسرائيل ، أشداءُ على قومهم أذلاء أمام إسرائيل  لا يصلحون لغير المراسم والمواسم الاستعراضات .

وأسمع يا أخي المسلم لما يدور من حولك : صفقات وعمولات وسرقات وتهريب وتخريب وأسلحه صدئه مهترئة من نفايات الأعداء ، ومخلفات الحرب ، تستعمل للزينة أو للضرب ، ومؤتمرات تجتمع وتنفض لتنقض ونقاش وحوار ومساومات وتنازلات ، تنقشع عن هزائم نصنعها لأنفسنا ، وأساطير انتصاراتٍ نصنعها لإسرائيل ، وما تزال المأساة تحل بأمتنا وتلعب بأقدارها ومصائرها . ولكي نخرج من هذا المأزق ، لا بد أن نعرف حقيقة لا شك فيها ، وهي أن الحياة كما تتقدم بالرجال الأخيار ، فإنها تتأخر بالمنافق الخبيث منهم ، وكما أنه من حق الشجرة لكي تنمو أن تقلّم ، فذلك من حق الحياة لكي تصلح أن تنقى من السفهاء والعتاة والآثمين ، والمتآمرين على الشعوب والأمم ، الساكتين عن مساندة الحق وقول الحق ، وقديماً قيل : الساكت عن الحق شيطانٌ أخرس ، وقد أثبتت الأحداث الجارية أن الجبن والنكوص والخيانة والخذلان ، قد كشفا عن طوية المنافقين الذين يتفرجون على الأحداث ولا يتدخلون ، كما أثبتت الأحداث أن الأمة التي لا يحكمها آمرٌ واحد ، أو تغلب على قيادتها النـزعات الفردية ، لا تنجح في صدام بل لا تُشرِّف نفسها في حربٍ أو سلام ، فلماذا لا تنسى الأمة خلافاتها وتقف صفاً واحداً أمام قوى الشر المعادية لها ؟ ولماذا لا تكون الشدائد دافعاً من دوافع لم الشمل وتوحيد الصفوف ؟ وهو ما يحبه الله لعباده المؤمنين قال تعالى : ﴿ إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص ﴾ الصف4 . إن الثأر ضريبة دم حين تهدر الكرامة وتهان الحرمات وتداس المقدسات ، وليس بين صفوفنا من ينادي بذلك . لأن الذين يستطيعون تحمل تبعات الحاضر وأمانة المستقبل ، لا مكان لهم في مفاوز الزلفى والنفاق ومفاسد الأخلاق ، وإن معركة الإسلام ليست معركة ضد الصهيونية وحدها ، أو ضد أوروبا أو أمريكا ، بل هي معركة المصير الإنساني كله ، وإن أعمى البصيرة وحده هو الذي يرضى بواقع هذه الأمة أو واقع هذا العالم ، الذي تتحكم فيه قوةً واحدة متجبرة  فتنتحل الذرائع الكاذبة من أجل السيطرة على مقدرات هذا العالم بقوة السلاح ، وإن التحدي الصادق لهذه القوة يتطلب منا أن نفعل ما يجب علينا أن نفعله من الأعداد والاستعداد ، بإيمان صادق بأن الأرواح والأرزاق بيد الله .

وأن يكون هذا حافز لنا على الاستبسال والجهاد   وعندها نصنع الأعاجيب  أما الذين يخافون من ذكر الحرب مع الأعداء ، فقد اختاروا العمى على الهدى  والفساد على الضلال ، والذل على الجهاد ، كل فريق بما لديهم فرحون ، ناموا على الخزي حتى فقدوا القدرة على الإحساس بالعار  وقد سبقت كلمة الله عز وجل في وصف ما نحن فيه فقال تعالى : ﴿ يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله أثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل . إلا تنفروا يعذبْكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم  ﴾ التوبة 38 .  وهذا ما حصل أما الإيمان فقد غاب ،وأما العذاب فانتظروه ، وقد أمر الإسلام بتطهير الصفوف حتى يكون الجيش المقاتل ذا عقيدة لا عقائد شتى قال تعالى في حق مثبطي العزائم : ﴿ لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خيالا ولأوضعوا خِلالكم يَبغونَكُمُ الفتنة وفيكم سَّماعُون لهم ﴾ التوبة 46 . وكأن الله بواسع علمه قد رأى ما ستكون عليه حال الأمة فيما آلت إليه ، فقد أثاقلنا إلى الأرض ولم ننفر في سبيل الله ، فأذاقنا عذاب الهون  واستبدل بنا قوماً غيرنا في أرضنا ومقدساتنا وقد قال تعالى يصف تآمر الأعداء علينا . أعداء الداخل والخارج : ﴿ ود الذين كفروا لو تغفلون عن اسلحتكم وامتعتكم فيميلون عليكم ميلةً واحدة ﴾ النساء 102 .فكيف يقاتل عن شرفه وأرضه وعرضه من لا يؤمن بالله ، لقد عرف أعداؤنا مقتلنا فأغفلونا عن أسلحتنا  وشنوا علينا هجماتهم الشرسة لتفريغ المقاتل المسلم من هذه الشحنة التي لا يكون بدونها نصر ، قال تعالى : ﴿  وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس  ﴾ الحديد 25 . في الآية حث ظاهر على الاستعداد للمعركة  بإنشاء المعامل الحربية لصناعة الأسلحة بمختلف أنواعها ، لنواكب تقدم الأمم في هذا المضمار  ولنحمي أنفسنا من أسلحة الدمار. حتى لا نصرع أمام الكفّار ، أما الإسلام فلا يمكن أن يصرع لأنه من عند الله  وقد تكفل الله بحفظه

إن دولاب الزمن لا ولن يقف والحياة لا تنتظر متخاذلاً ولا تقبل عذر متخلف  وإن وقود الحركة التي تأخذ بيد الأمة إلى طريق النصر هو قلبٌ يعي ، وفكر يعمل ، وتضحيات تبذل بغير حساب ، ومن هنا كان لمداد العالم الصادق المخلص الذي لا تأخذه في قول كلمة الحق لومه لائم ، له وزنه في بناء كيان الأمة ، وكان لدم الشهيد قدره في الحفاظ على وجودها ، لأن عطاء العالم دليل السلامة في العقيدة والاستقامة على الطريق ، والمجاهد حين يبذل دمه خالصاً في سبيل الله  فذلك برهان الوفاء وصدق ما عاهد الله عليه ، إن كلمات المخلصين من إخواننا تحكي وقطرات دمهم تحكي ، والحركة مستمرة لأنها تنسمت بالدم معنى الحياة  لقد آن لنا أن نذكر ومطارق الغدر والخيانة والاعتداء تدق أبوابنا صباح مساء  آن لنا أن نذكر الكلمة المضمخة بالدم ، التي يطل بها صاحبها هازئاً بهذا العالم الفاني مختاراً الشهادة على حياة الذل والعار . آن لنا أن نفيق من الغفلة ونأخذ زمام المبادرة ونتسلم الراية من جديد ، ونجنب الأجيال القادمة جحيم الدنيا والآخرة . فهل نحن فاعلون ؟

 

 

 

 

ذكرى الإسراء والمعراج

في هذه الذكرى ، تحيا نفوس المسلمين معانٍ وذكريات ، منها ما يؤكد مكانة أولى القبلتين وثالث الحرمين ، ومنها ما نشعر به الآن ، من مرارة وألم  لأن موطن الإسراء ، والأرض التي بارك الله حولها  تئن تحت نير الاحتلال ، مما يدعو للتساؤل : أليس من المفارقات العجيبة ، أن تهتم الأمة الإسلامية ، أعظم الاهتمام بالاحتفال بهذه الذكرى ، والمسجد الأقصى يعاني ما يعاني ، من رجس الاحتلال ومطامع اليهود ، ببناء هيكلهم على أنقاضه .

 إن جميع المسلمين في هذه الدنيا ، يعرفون جيداً عن المطامع الصهيونية في فلسطين ، ومع ذلك لا يتحركون ، ويقولون ولا يفعلون ، واليهود جادون  وماضون إلى ما يريدون ، وما فائدة اهتمام المسلمين بليلة الإسراء ، والاحتفال بذكراها ، وهم في حالة ذُل إن الأمة الإسلامية تردد قوله تعالى :﴿ ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ﴾ المنافقون 8 . لكنها بعد ذلك  ترضى بالدون من المنازل ، وتقنع بالذليل من الأوضاع  وتجيء في أخريات الأمم والشعوب وتستكين لسلطان الغاصبين والظالمين . ناسيةً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تبرأ ممن ذلَّ لأعداء الله فقال :  (من أعطى الذلَّة من نفسه طائعاً غير مكره فليس مني ) . إن الذكرى تمرُّ في وقت ، سقطت فيه هيبة المسلمين  وذهبت ريحهم ، وديست أرضهم ، وصادر الغاصبون ما أحبوا منها ، ليبنوا عليها مستعمراتهم ، وكأن ما يجري لا يهم المسلمين ، ويا ليتهم تمثلوا الجاهلية الأولى في مواقفها ، فقد كانت القبائل المهزومة في الجاهلية ، تدع المتع والملذات ، حتى تدرك ما فاتها  فإذا نالت ثأرها ، ومحت العار عنها ، عادت إلى حيات الملذات واللهو . وفي هذا يقول شاعرهم :   

فساغ لي الشراب وكنت قبلاً   أكاد أغُـصُّ بالماء الفرات

تأتي الذكرى وقد هُزِمْنا ، وطمع بنا أعدائنا ، مما يتطلب منا ، حشد كل ما لدينا من طاقات ، لمواجهة أعدائنا ، ولا يكون ذلك ، بغير الرجوع إلى تطبيق أحكام الإسلام ، حتى نتمكن من القدرة والغلبة والانتصار .

إن الأمة إذا التزمت منهج الله ، لا يمكن أن يقف أمامها شيء في الوجود ، من غير أن تجد له حل وقضية الأقصى أمام العمل والمنهج ، يجب أن تجد حلاً  وذلك بإعلان الجهاد لاسترداده .

تأتي الذكرى وقد كثرت المغريات ، حتى أصبح الطريق إلى الله ، يتطلب عزماً أشد  وهمة أبعد ، في الوقت الذي ازدحم الناس فيه ، على موارد العيش  يقتتلون على نيل المستطاع منها ، فهم في تنافس لا يبقي على إيثارٍ أو رحمة .

تأتي الذكرى وفي المجتمع نفرٌ ، نُكِبَ العلم بهم  وفُضحت الأديان بسيرتهم  جعلوا علمهم بالحق مصيدةً للباطل ، فحفظوا منه كلمات ،ٍ يهدون بها الناس ، ثم انثنوا من جهةٍ أخرى ، يجرون المنافع ويصطادون المغانم ، وطلب المناصب  وهؤلاء وصف القرآن الصلة ، بين علمهم وطباعهم ، بقوله تعالى : ﴿ مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها ، كمثل الحمار يحمل أسفارا ، بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله ﴾ الجمعة 5 .  تأتي الذكرى والأنباء الموجعة ، تكتنفنا صباح مساء ، تحكي كيف يعربد اليهود من حولنا ، وكيف باءت قضايانا بالخذلان في المحافل الدولية . فهل توقظنا التجارب اللاذعة ، فنعود إلى دين الإسلام ونعمل وفقاً لمنهجه ؟  اللهم آمين .

تأتي الذكرى والمسلمين في أوضاعٍ متردية مُهينة ، تجعل الأوغاد يركبوننا وهم آمنون ، إذ نُضْرَبْ ولا نَضْرِبْ ، ويُنالُ منا ولا ننال من أحد . مما يدعوا للتساؤل : ماذا كسب المسلمون من ترك التناصر بالإسلام ؟ لقد ضلوا وأضلوا ، وضاعوا وأضاعوا ، أما آن لهم أن يستيقظوا من غفلتهم ، وإلا فالموت أو الخزي إلى الأبد  هو البديل .  إن العرب بعيداً عن الدين ، لن يكونوا في الآخرة إلا حطب جهنم ، أمّا في الدنيا فسيأكلُ بعضهم بعضا   ثم يأكل بقيتهم اليهود . وإذا كان الدين ضرورة إنسانية ، لإرشاد الناس وقيامهم بحقوق خالقهم ، فإنه بالنسبة للعرب ، الهواء الذي يُبْقي على حياتهم ، أو الغذاء الذي يُمْسِكُ كيانهم ، فليروا رأيهم ، إن شاءوا الحياة أو الممات . إن علينا ألا نفرَّ من أخطائنا ، بل نحاسب أنفسنا عليها  فذلك أحرى ألا نقع فيها ، لقد استن اليهود لأنفسهم البكاء عند حائط في المسجد الأقصى ، ومن العبرات المراقة كتبوا لهم تاريخاً آخر . أما نحن فما أكثر ما فقدنا ، وما أكثر البلاد التي عمرناها بالإسلام ، ثم طردنا منها بعد أن فقدنا أهلية البقاء فيها ، فلماذا لا نبكي على خطايانا ، لا بكاء اليائس بل بكاء التائب الآيب إلى الله . تأتي الذكرى وفريقٌ من الناس ، يتخذ من المدائح الفارغة ، بضاعةً يتملق بها الأكابر ، ويكيل المديح والثناء جزافاً لمن لا يستحق ، وربما وصف بالعدالة الظالمين ، ووصف بالشجاعة الجبناء الخائنين ، ابتغاء عرضٍ من الدنيا عند هؤلاء وأولئك ، هذا الصنف من المنافقين الكذبة ، أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم بمطاردتهم في الحديث الذي رواه أبو هريرة قال : ( أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نحثوا في وجوه المداحين التراب ) .

إنه لن يخرج المسلمين من أزمتهم ، ويرفع عنهم إصرهم ، ويردهم إلى عزتهم ، إلا العودة الصحيحة الصادقة إلى الدين ، الذي أنعم الله به عليهم    وحباهم إياه  ولن يخلِّص البشرية من أزمتها ، ويوجد حلاً لمشكلاتها ، إلا المنهج الرباني  الذي أنزله الله ليقوم الناس بالقسط ، قال تعالى : ﴿ ولقد أرسلنا رسلنا بالبينات  وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ، ليقوم الناس بالقسط ﴾ الحديد 25 .

إن تحقيق ذلك ، ليس أمراً سهلاً ، إنه طريقٌ يخوضه المؤمنون بهذا الدين ، رغم كل العقبات التي تواجههم  حتى يتم التمكين لهذا الدين من جديد ، وتزول الغربة الثانية ، التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال (بدأ الإسلام غريبا ، وسيعود غريباً كما بدا ، فطوبى للغرباء ) .  

 

خطورة مؤتمرات المرأة العالمية

إن المؤتمرات على تنوع طروحاتها ، وتعدد أساليبها ، ترمي إلى أشكال جديدة ، من الحياة الاجتماعية والاقتصادية ، تتعارض مع القيم الدينية ، وتعمل على نشر الإباحية باسم الحرية ، وتشجِّع على التحلل باسم التحرر . لقد عُقِدَتْ سلسلةً من المؤتمرات ، التي اتخذت طابعاً عالمياً ، من أجل تدمير الأسرة وتفككها ، حتى أن الناظر لواضعي هذه البرامج لهذه المؤتمرات ، يجد انهم لم يلتقوا عند حد التشكيك في اعتبار الأسرة هي الوحدة الأساسية للمجتمع ، ومطالبة الوالدين بالتغاضي عن النشاط الجنسي ، غير المشروع للمراهقين ، لكنهم قفزوا فوق الكثير من الضوابط ، والقيم الدينية الأخرى ، ليقرروا بأن مفهوم الأسرة ، بالمعنى الذي يشرعه الدين ، ليس إلا مفهوماً عقيماً ، وقيداً على الحرية الشخصية ، لأنه لا يتقبل العلاقات الجنسية الحرة بين مختلف الأعمار ، ويشترط أن تكون بين ذكر وأنثى فقط ، وضمن الإطار الشرعي ، ولأنه لا يمنح الشواذ حقهم في تكوين أسر بينهم ، ويتمسك بالأدوار الطبيعية التي يقررها الإسلام للأبوة والأمومة ، والعلاقات الزوجية ضمن الأسرة ، معتبرين أن ذلك مجرد أدوار وأشكال لا تخرج عن كونها مما اعتاده الناس ، ودرجوا عليه وألفوه ، حتى دخل في طور التقاليد المتوارثة .

لذلك حاولوا الترويج لأنماط أسرية بديلة ، دون أدنى اعتبار للنواحي الشرعية والقانونية والأخلاقية  مثل زواج الجنس الواحد ، والمعاشرة بدون أزواج ، وإعطاء الجميع حقوقاً متساوية ، ووضع سياسات وقوانين ، تأخذ في الاعتبار تعددية أشكال الأسرة ، إضافة إلى الدعوة إلى تحديد النسل باسم تنظيم النسل ، وتشجيع موانع الحمل ، وتيسير سبل الإجهاض  .

إن الأسرة في الحضارة الغربية ، قد تحللت من كل القيود ، والضوابط الخلقية ، والروابط الاجتماعية والعلاقات الأسرية والزوجية على حد سواء ، حتى لقد وصلت إلى مستويات ترقى عنها وتأنف منها بعض فصائل الحيوانات غريزياً ، إلى درجة يمكن معها ، أن ينال سجلُ الفضائح الجنسية ، أكبر الرؤوس وأعلى المناصب ، حتى بات الاعتراف بالزنى والخيانات الزوجية ، والتبجح بذلك في التلفاز وأجهزة الإعلام ، على مرأى ومسمع من الناس أمراً طبيعياً ، وأصبح لتجارة الجنس ودور الدعارة مؤسسات عالمية ، تجاوزت البالغين المراهقين ، والشاذين من الجنسين ، بسبب ما الحقت من إصابات مرضية رهيبة ، والتي أصبحت تهدد البشرية كالإيدز والأمراض الجنسية الأخرى . 

 أما قضية ملايين المرضى والشواذ ، فحدث ولا حرج ، حتى اعتبر مؤلفا كتاب أمريكا التي تخيف لا تخيف ، أن أحد الألغام الاجتماعية الكبرى ، التي سوف تنفجر عاجلاً أو آجلاً ، فتقضي على كل شئ ، هي قضية الجنس التي تعمل داخل المجتمع الأمريكي بقوة ، وتقترب من حافة الانفجار .

إن هذه المؤتمرات ، أو بعبارة أخرى هذه المؤامرات على الإسلام والمسلمين ، تعنى بالدرجة الأولى إلى استهداف الأسرة المسلمة ، لأنها تعتبر من أواخر الحصون الإسلامية ، سواء على المستوى الثقافي أو الاجتماعي أو القانوني ، لذلك لا بد من إسقاطها ، وإغراقها في الممارسات التي سقطت فيها الأسرة في الحضارة الغربية ، لذا نرى آثار هذه المؤتمرات على الأسرة في الغرب ، يكاد يكون معدوماً لانعدام وجود الأسرة تقريباً بالمفهوم الإسلامي .

إن الأسرة المسلمة هي المقصودة ، لأنها ما تزال متميزة ، وبعيدة عن التناول والتحكم . قال تعالى : ﴿ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونوا سواء ﴾النساء 89 . كما أن الأسرة المسلمة هي ميدان المواجهة  ومن هنا لن تتوقف هذه المؤتمرات عن التخطيط لتدميرها ، والذي سيفشل إن شاء الله ، لتأكيد الله بقوله : ﴿ لن يضروكم إلا أذى ﴾ آل عمران 111 . وذلك لن يتحقق إلا بالعزيمة الصادقة ،لحمل لواء الجهاد  للدِّفاع عن هذا الدين ومبادئه . ومن الملاحظ أن مثل هذه المؤتمرات ، قد بدا تحوّل انعقادها ، إلى عواصم بلاد المسلمين في القاهرة واسطنبول ، وطرح الكثير من المفاهيم ، التي كانت تبدوا مستغربةً ومنكره ، كما تمارس عملية التطبيع والقبول ، لمفاهيمها وطروحاتها ، والأخطر من ذلك كله ، محاولات تسويغ الإنتاج الفكري الغربي إسلامياً ، وإضفاء الصفة الإسلامية ، على الفكر الناتج عن عقل لا يؤمن بالإسلام ، وكيف يمكن أسلمة فكر له منطلقاته وأهدافه ، وعقيدته ومناهجه وممارساته ، ممن يقومون بتلك المحاولات  من تلامذة الفكر الغربي نفسه ؟  لقد كثرت ندوات وجهود الحوار ، التي تساند الفكر الغربي ، والتعبير عن الإسلام الوسطى ، واتهام الإسلام والمسلمين بالتعصب والتطرف ، والعنف والأصولية والإرهاب ، حتى أن كثيراً من المثقفين دعوا إلى تسويغ الفكر الغربي واعتماده ، وأن ذلك هو معيار الاعتدال ، وطرح أي فكر يخالف ذلك هو التطرف والأصولية من وجهة نظرهم .

لقد افتقد العالم اليوم أخلاقه ، حتى بات الإنسان ذئب الإنسان ، بعد أن قرر الدين أن الإنسان أخو الإنسان ، وغابت الرحمة التي من أجلها جاءت النبوات ، واصبح 80./. من ثروات العالم الطبيعية تتحكم فيها وتستهلكها 20./. من سكانه ، و20./. من أغنى أغنياء العالم ، يمتلكون 80./. من العائد ، بينما 20./. من أفقر فقراء العالم ، يمتلكون  1.5 في المائة فقط ، وأصبحت النتيجة أن 40.000 شخص يموتون كل يوم من سؤ التغذية والمجاعة .

إن الدول الكبرى المسيطرة سياسياً وإعلامياً ، والتي تعاني من نقص السكان ، والخوف والهجرة   هي التي عملت على إغراق الدول النامية بالديون ، لتبقى تعيش على المساعدات ، ولا نقوم لها قائمة  وتكون مستعدة لكل الحلول المطروحة . لقد اشتدَّ الهجوم من أعداء الإسلام عليه ديناً ، بعد نجاحهم في ضربه دنيا ، مما أدى إلى توهين قوته  وخفض رايته ، فأغراهم ذلك بالهجوم عليه في عقيدته ، وبثوا أفكارهم وثقافتهم ، في طول بلاد المسلمين وعرضها ، من خلال قنوات عديدة ، مسموعة ومرئية ومقروءة ، فأحدثوا غشاً ثقافياً في ميدان الدين ، من خلال تفوقهم في علوم المادة ، فانصاع لذلك من لهم عقول الطفولة الفجة ، الذين اعتنقوا آرائهم ، وراحوا يدافعون عنها ، ويقاتلون دونها ، ويحاولون أن يؤسسوا دعائمها في المجتمع المسلم .إن الخلاص لا يكون إلا بالرجوع إلى دين الله ، كشرط للتغيير .

: ﴿ إن الله لا يغير ما يقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم .

 

الثبات على المبدأ

إن الثبات على المبدأ ، وحمل الأذى في سبيله ، والتضحية بالنفس والمال من أجله واجب شرعي ، فعلى المسلمين عامّتهم والعلماء منهم على وجه الخصوص  أن يعملوا ليحفظوا على الناس دينهم ، وأن يأمن الإسلام شرَّ الطعن به ، إن الإسلام يريد من المسلمين وهم على مفترق الطرق ، أن يبذلوا أقصى الجهد في بيان أحكامه ، وأن يحملوا دعوته للناس كافة ، وإلا فما فائدة وجودهم إذا لم يأمروا بمعروفٍ أو ينهوا عن المنكر ولا يحاسبوا مسؤولاً ، وإذا لم يقوموا بهذه المهمة ، فإن بطن الأرض خيرٌ لهم من ظهرها .

ومن هنا علينا أن نحترم ونقدر أولئك الرجال من سلفنا الصالح ، الذين قاموا بهذه المهمة   وليس هذا تفضلاً عليهم نتطوع به ، بل هو أدبٌ ننـزل به على قول رسولنا صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أحمد والحاكم (ليس منا من لم يوفر كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه) . فقد أظهروا عزة الإسلام في صلابة موقفهم من الحكام المنحرفين عن الأحكام الشرعية ولو قيد أنملة ، كاشفين للأجيال المتأخرة أثر صلابة الإيمان ، متحملين بصبرٍ وشجاعة ما ينتج عن الجهر بكلمة الحق من تبعات ، غير هيابين سلطان الحكام   ولا غرابة في ذلك ، فهم أهل لتلك المواقف ، لأنهم حملوا لواء الشريعة الإسلامية .

وقد نبت في عصرنا هذا نابتة سوء تغمز الأكابر بما تراه مأخذاً عليها ، وتتعامى عن كل ما لهم من حسنات ، ويا ليتهم نظروا إلى الغرب الكافر الذين إذا رأوا من عظمائهم خيراً أذاعوه ، وإن رأوا شرّاً دفنوه ونتمنى لو أنهم تمثلوا سيرة العلماء العاملين من سلفنا الصالح ، الذين كانت لهم مواقف رائعة في إسداء النصح إلى الحكام ، وتعريفهم أنهم أجراء للشعوب وملزمون بالشورى ، وكانوا يحتكمون في مواقفهم إلى كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم ، وإذا كنا نلتفت إلى سيرة القرون الخيرّة الأولى ، ونتذكر الأمجاد التي حققوها لأسباب ، وفقدناها نحن هذه الأيام لأسباب ، وقد كانت لعلماء المسلمين مواقف تستحق الاحترام والتقدير .

نعيش اليوم مع قصة رائعة من قصص الثبات على المبدأ  وحمل الأذى في سبيله والتضحية بالنفس والمال من أجله ، قصة لتاريخ عالم من علماء المسلمين ، مع أحمد بن حنبل في محنته ، والتي بدأت بورود كتاب المأمون الخليفة العباسي ، وكان في خرا سان إلى عاملة في بغداد ، ليجمع العلماء الرسميين من قضاة وخطباء  ويسألهم عن القرآن فمن لم يقل إنه مخلوق عزله  وكانوا جميعاً لا يقولون بذلك ، لكن خوف بعضهم على المناصب دفعهم إلى التظاهر بالموافقة ، وهي نقطة الضعف حتى عند علمائنا هذه الأيام ، فترى التضارب بين أفعالهم وأقوالهم في كثير من المواقف ، ولجأ المأمون إلى الشدة مع من لا يقولون بذلك وأمر بوضعهم في السجن ، وقيدهم بقيود من حديد ، فاضطروا إلى موافقته في رأيه إلا احمد بن حنبل الذي وقف ضد الخليفة وقواده وسلطانه ، أما عامة الناس فكانوا كما يكونون في كل عصر ، قلوبهم مع علماء الحق ، ولكن سيوفهم مع أمراء الباطل . ومات المأمون وخلفه المعتصم ، وكان رجلاً قوي الجسم يستطيع أن يصارع أسداً ولكنه كان ضعيف العلم ، وكان يرى في المأمون مثله الأعلى ، فسار على طريقته ولكنه غلا حتى جاوز الحدود .  ولبث الأمام أحمد في السجن ، وبلغ كل مبلغ من الضعف ، ومع ذلك كان دائم العبادة حاضراً مع الله يصلي بأهل السجن وهو مقيد بقيود الحديد ، وحُمل يوماً إلى حضرة المعتصم ، وناقش علماؤه أمامه فقال لهم : هذه مسألة دينية فهاتوا لي دليلاً من كتاب الله أو من سنة رسول الله ، وكان يفحمهم بهذا الرد  وجربوا معه أنواع الترغيب بالعطايا والمناصب وأنواع الترهيب بالتعذيب الشديد ، فلم يؤثر ذلك فيه وبعثوا إليه بعلماء السوء ، فكان يقول لهم : إن من قبلنا كانوا ينشرون بالمنشار فلا يرجعون ، ولست أبالي بالحبس ما هو إلا ومنـزلي واحد ولا قتلاً بالسيف  إنما أخاف فتنة السوط ، وأخاف ألا أصبر ، فسمعه بعض أهل الحبس وهو يقول ذلك ، فقال لا عليك يا أبا عبدالله ، أنا ضربت عشرين مرة بآلاف الأسواط في سبيل الدنيا ، وأنت تخاف أسواطاً في سبيل الله   إنما هما سوطان أو ثلاثة ثم لا تحس شيئاً فهون ذلك عليه. ولما عجز المعتصم نصب آلة التعذيب ومدوه عليها وضربوه فانخلعت كتفه من الضربة الأولى فقال له المعتصم : يا أحمد قل هذه وأن أفك عنك بيدي وأعطيك وأعطيك وهو يقول : هاتوا آية أو حديثاً  فقال المعتصم للجلاد ، شدّ قطع الله يدك ، فضربه حتى تفتت لحمه ، فقال المعتصم يا أحمد ؟ لماذا تقتل نفسك مَنْ مِنْ أصحابك فعل هذا ؟ وقال له عالم من علماء الخليفة وليس كل العلماء ، لأنهم فهموا النهي الموجه للمسلمين أجمع بعدم الركون إلى تنفيذ رغبات السلاطين قال تعالى :﴿ ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ﴾ هود 11 . قال له : ألم يقل الله ولا تقتلوا أنفسكم ؟ تلك مقالة السوء وطلاب الدنيا وعبيد الأهواء ، حينما يخاصمون في المعتقد ويخالفون في الرأي ، فقال له أحمد انظروا وراء الباب ، فخرج إلى صحن القصر فإذا جمع لا يحصيهم إلا الله معهم الدفاتر والأقلام ، فقال لهم أي شيء تعملون ؟ قالوا ننظر ما يجيب به أحمد فنكتبه ، ولما عاد إلى الإمام أحمد قال له : أنا أُضِلُ هؤلاء كلهم ؟ أقتل نفسي ولا أضل هؤلاء جميعاً .

مَنْ مِنْ علماء المسلمين يضحي هذه التضحية ،لم ينس أحمد أمانة العلم وهو على حالة تلك ، واحتمل الأذى كله لأداء أمانة العلم . وقد بالغ المعتصم في تعذيب الأمام أحمد   فكان يقول للجلادين اضربوا وشدوا  فكان يجيء الواحد فيضربه سوطين ثم يتنحى ويأتي الآخر ، حتى سال الدم من كل مكان من جسمه . روي أنه أثناء تعذيبه أن انقطعت تكة لباسه ، فكاد يسقط وتنكشف عورته ، ورآه الناس يحرك شفتيه فيقف اللباس مكانه ، ويسألوه فيما بعد فقال : قلت يا رب إن كنت تعلم أني على حق فلا تهتك لي سترا  ولما أشرف على الموت من شدَّة التعذيب ، خاف المعتصم أن يثور الناس إن مات ، فرفع عنه الضرب وسلَّمه لأهله ، وبقي أثر الضرب فيه وبقيت كتفه مخلوعة حتى مات . لقد صبر على هذه المحنة ، من اجل الحفاظ على عقيدة الإسلام ، وحماية القرآن من القول المريب . لقد كانت محنة حقا وكانت امتحاناً للإيمان وللرجولة وقد نجح فيها الإمام أحمد وقد كافأه الله فلم يمت حتى بلغ من المنـزلة ما لم يبلغه ملك ولا قائد ولا أمير  ولقي من تكريم الناس وإعظامهم ما لا مزيد عليه  رحمة الله . لو قُدِّرَ للأمام أحمد أن يرى حال المسلمين الذين تراجعوا في أنحاء العالم ، بعد أن هدمت خلافتهم لمعاص اجتماعية وسياسية اقترفوها وتوارثوها ، ويرى حال الدعاة الجدد الذين لم يكلفوا أنفسهم دراسة خطأ أو تصحيح مفهوم ، فاضطرب الفكر الإسلامي ، إلى درك هابط لا يثمر خيراً في دين أو ديناً . ولو قُدِّرَ أن يرى حال جماعات متربصة تقف بعيداً دون عمل ، تنتظر بأعداء الله الويل والثبور وعظائم الأمور  وهي تضع قدماً على أخرى ثم ترتقب من جنّ سليمان أن تضع مقاليد الحكم بين أيديهم . لو قُدَّرَ له ذلك لنادى بأعلى صوته أين هذه الأمة الآن ؟ وأين هي مكانتها التي أرادها الله لها خير أمة أخرجت للناس ؟ وأين النماذج التي تقدمها لرسالة الإسلام ؟ ولكنها المأساة التي تكمن في جهل المسلمين لتاريخهم ، وبخاصة العرب الذين يجحدون ما صنع الإسلام لهم وكيف رفع خسيستهم .  إن حكام اليوم بحاجة أكيدة إلى من يذكرهم ويصارحهم  ويدلهم على مواطن الداء ونافع الدواء  وما أحوج المسلمين إلى معرفة شيء عن غيرة أسلافهم على الدين وأحكامه  ووقوفهم في وجه السلطات في زمنهم .  إن مسؤولية الإسلام تقع على عاتق ولاة الأمور  ولن ينجو أحد منهم متن الإثم إن قصَّر في جنب الإسلام وأهمل العودة إليه قال تعالى :  ﴿  فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألكن المرسلين  ﴾ الأعراف 6 .

 

 

 

 

 

 

    

    

 

السلام والإسلام

إن الشعوب المسلمة ترغب بأن تُحْكَمَ بما أنزل الله ، وما يعترض المعترضون بعدم صلاحية تطبيق أحكام الشريعة ، إلا خدمةً لجهاتٍ أجنبية ، أو للغزو الثقافي الذي يسيطر على نفوس فئةٍ عميلةٍ لأعداء الإسلام والمسلمين .

 والتاريخُ خيرُ شاهدٍ على كذب ادعائهم  فقد قدم الإسلام يوم كان مطبقاً الخير كل الخير للأمة الإسلامية , وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن إقامة حدٍ من حدود الله ، أبرك للأرض من أن تُمْطَرَ أربعين صباحاً . وذلك لأن إقامة الحدود ، توفر للناس الأمن والطمأنينة ، في حياتهم وأعمالهم . ففي مبادئ الإسلام يجد رجال القانون ما يناسب كل ظرف وزمان , كما يجد الدارس لمبادئه  ما يتناسب مع الأحوال التي نعيشها اليوم  ويعيشها العرب والمسلمون في كل مكان .

إننا نعاصر دعوات السلام ، الخالي من روح العدل والإنصاف ، والذي لا يخرج عن نطاق الادعاء باللسان ، دون أن ينبع من الضمير والوجدان , انه سلام لصالح شعب دون شعب ، سلام يتردد على الألسنة للدعاية فقط , أما حقيقته فاستعداد للبطش والظلم والعدوان ، وأكل حقوق الناس . سلام يهدف إلى رفع معنويات شعوب ، وتحطيم شعوب أخرى , سلام مصالح وادّعاءات ودعايات   فلماذا يستورد دعاة السلام المزيف من أدعياء السلام , وكيف يستبدلون سلام الأرض بسلام السماء .

إن أنصار السلام المستورد ، يهدفون من وراء سلامهم خدمة دول الكفر , أما من يريد مصلحة أمة الإسلام ، فلديهم السلام الحق ، النابع من رسالات السماء  لأن المسلمين هم أنصار السلام الحقيقين أما غيرهم فقد كُشفت أعمالهم أمام لعالم . إن الإسلام هو دين السلام لا دين الاستسلام ، سلام الأقوياء القادرين الذي يفرض احترامه  لا سلام الضعفاء الذي لا يحترمه ولا يلتزم به أحد . إن مبادئ الإسلام تفرض على المسلمين الدفاع عما أُحتل من الأرض من قبل الأعداء  ويكون الجهاد فرض عين  والنفير العام فرض على كل مسلم ، حتى تُستعاد أرض المسلمين . أما السكوت والقعود عن الجهاد لنصرة المبادئ وانقاذ البلاد فليس سلاما بل هو استسلام , لهذا تنظر دول الكفر الى الاسلام نظرة عداء ويعتبرونه العدو الوحيد بعد سقوط الشيوعية . وبهذا صرّح نيكسون رئيس أمريكا السابق قائلاً : لقد انتصرنا على الشيوعية ولم يبق لنا عدوّ سوى الاسلام ، مع أن الاسلام طريح الارض لا حول له ولا قوه , والأمم الاسلامية متخلفة ضعيفة ومدينه وتشتري خبزها وسلاحها من يد الغرب  .

كما أن الاسلام مهددُ من أهله ومُحاربٌ من داخله ، فكيف يتأتى له أن يُخشى بأسه وإسرائيل تُطْبِقُ قبضتها على القدس والضفة الغربية , كيف وإسرائيل تهدد كل العرب بسوء العاقبة ان فكروا في الحرب  كيف والدول الاسلامية التي تغرق بأوحال الحروب الداخلية والتمويل الأمريكي بالملايين وبالسلاح لجميع الفرق المتحاربة ليقتل بعضها بعضا وذلك بتدبيرٍ مُدَبَرْ , وكلنا يفهم من هم المنتفعون بتدمير الاسلام وتشويه اسمه وسمعته ، ومن هم أصحاب الإفساد الإعلامي ؟ ومن هم أباطرةُ صنع الرأي العام وغسل عقول الناس ، والترويج للفنون الهابطة التي تكتسح عقول الشباب ؟ إنها الصهيونية التي تمتلك الصحف ودور النشر ومحطات التلفزيون والأقمار الفضائية وشركات الإنتاج السينمائي ونوادي لعب القمار . ان هذا وذاك قد يكون مصداقاً للعلو الدنيوي الذي ذكره القرآن في سورة الإسراء قال تعالى: ﴿ وقضينا الى بني اسرائيل في الكتاب لَتُفْسِدُنَّ في الأرض مَرَّتين وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كبيرا  ﴾ . لقد سماه الله علواً بل علواً كبيرا ، ساعدَ على هذا العلو حجم الفساد والإفساد وضعف المسلمين وتفرقهم , لقد عاد اليهود الى الإفساد في صورة دولة بني اسرائيل ، التي أذاقت العرب أصحاب الأرض الويلات  وليسلطنَّ الله عليهم من يسومهم سؤ العذاب تصديقاً لوعد الله القاطع ، ووفاقاً  لسنته التي لا تتخلَّف ... وان غداً لناظره قريب ، ولا يفوتني في هذا المقام أن أنبه الى أن الله لا ولن يتولّى عنا ضرب اليهود أو دول الكفر التي تتآمر على الإسلام والمسلمين , وان صلينا له ودعوناه ورجوناه .

إن خلاصنا مما نحن فيه يكمن في التضحية بكل القدرات والطاقات ضد الظلم والطغيان والفساد والعدوان , واننا نملك القدرة على ذلك بعددنا وديننا وعقيدتنا وتراثنا ومواردنا  وما علينا الا أن نستعملها ، ولا بد أن يتم ذلك في يوم من الأيام إن عاجلا أو آجلا وما ذلك على الله ببعيد .  

 

الصبر على المحن في سبيل الله 

جرت سنة الله في خلقة ، إن يفتنهم ويختبرهم ليميز الخبيث من الطيب   قال تعالى : ﴿ أحسب الناس  أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون  ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ﴾  العنكبوت 3 .  اعتاد الظالمون إن يضطهدوا الذين يخالفونهم في سلوكهم المنحرف ، ويناهضونهم في أفكارهم الباطلة ، ولم يسايروهم في أهوائهم  وينزلوا بهم أنواع المحن ، بعد أن أعرضوا عن أشكال المنح ، التي قُدِمَتْ  إليهم في ذلةٍ وصغار ، ولكن أني للنفوس الكريمة ذات المعدن الطيب ، إن تغري بمال ، ويسيل لعابها على فتات الدنيا ، أو تستمال بعرض زائل من الحياة ، فلقد استعدوا للمحن ، وتحملوا نارها بصبر وجلد ، وصابروا شدة بأسها بعزم و احتساب ، لأنهم فقهوا قول الله : ﴿ قل نارُ جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون التوبة 84 .  كان أئمة المسلمين على مدار التاريخ ، في مقدمة الذين أصابتهم المحن ، ونزلت بهم الشدائد فخرجوا منها ظافرين  مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم (لا تزال طائفةٌ من أمتي ظاهرين على الحق منصورين ).رواه البخاري ومسلم .  كانت هذه الطائفة على مدار التاريخ ، تقف الى جانب الحق ، الذي آمنت به   مؤمنةً بتوفيق الله ونصره ، وأن النصر الحقيقي هو نصر العقيدة ، وظهور الحق جلياً للعيان ، وأن البقاء في الدنيا هو للعقيدة والحق ، وأن المُمْتَحَنون لهم الذكر الجميل على مرّ الأيام .

 يقول أبن القيم : الحق منصورٌ ومستحسن فلا تعجب ، فهذه سنة الرحمن  وعلى مدار التاريخ ، يقع النزاع بين الفجور والتقوى ، وتكون الغلبة للتقوى  والخسرانُ للفجور، في نفس من أضل الله ، فكان ولا يزال التنازع ، بين الخير والشر ، والعدل والظلم ، والحق والباطل ، فمنذ أن عصى إبليس أمر ربه في السجود لآدم ، بدأ الشرُ المتمثل بإبليس ، يتنازع مع الخير المتمثل في أمر الله . ومهما طال النزاع ، ومهما كسب الشر من نصر ، فالبقاء للخير لأنه الأصح ، ولأن سنة الله قضت بذلك قال تعالى :﴿ وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا الإسراء 81 . إن طريق الدعوة إلى الله  شاقٌ محفوفٌ بالمكارة ، ومع أن نصر الله للحق آت لا ريب فيه ، إلا أن هذا النصر ، إنما يأتي في موعده ، الذي يقدره الله ، وفق علمه وحكمته  وأما الذين يضعون الأقنعة على الإسلام ، ويصفونه بصفات كالديمقراطية هذه الأيام وما إليها ، ظانين بأنهم يخدمون الإسلام بهذه التقدمة الذليلة . متجاهلين أن الديمقراطية نظام للحياة أو للحكم من صنع البشر ، الذي يحمل القابلية للصواب أو الخطأ . وهي من مناهج البشر وتجاربهم ، لا يجوز لنا أن نقارنها بالإسلام . أما الذين يقدمون الإسلام باسم الديمقراطية ،لأنها زي من أزياء الاتجاهات المعاصرة ، ويحاولون تزيين الدين بغير اسمه وعنوانه ، إليهم نقول بأن الله غني عن العالمين ، ومن لم يستجب لدينه ، عبوديةً لله وانسلاخاً من العبودية لسواه ، فلا حاجة لنا به ولا لهذا الدين ، كما لا حاجة لله أصلاً لأحد من الطائعين أو العصاة .

 إن الذي يراجع التاريخ ، منذ أن قامت دولة الإسلام في المدينة ، إلى هذا الوقت الذي نعيش ، يدرك مدى الإصرار العنيد ، على الوقوف في وجه هذا الدين ، أو العمل على محوه من الوجود ، فقد استخدمت الصهيونية والصليبية في هذا العصر ، من الحرب والكيد والمكر ، أضعاف ما استخدمته في القرون الماضية ، وهي في هذه الأيام بالذات ، تعمل على إزالة هذا الدين بجملته ، وتحسب أنها تدخل معه المعركة الأخيرة ، لذلك تستخدم جميع الأساليب التي يمكن أن تحقق لها هذه الغاية .

في الوقت الذي يوجد من المسلمين ، من يَدْعو إلى التعاون بين أهل الإسلام ، وأهل بقية الأديان ، الذين يذبحون من ينتسبون إلى الإسلام في كل مكان ، ويشنون عليهم حرباً تتسم بكل بشاعة الحروب الصليبية  ومحاكم التفتيش في الأندلس ، سواء عن طريق الأوضاع التي يقيمونها ، ويسندونها في البلاد المستقلة ، لتحل محل الإسلام عقائدُ ومذاهبُ علمانية . تدعو الى تطور الأخلاق ، لتصبح هي أخلاق البهائم ، التي ينزو بعضها على بعض ، وإباحة الربا والاختلاط الجنسي وسائر المحرمات  التي يعاقب عليها الإسلام . إن المطلوب من المسلمين أن يتمسكوا بكتاب الله ، وسنة نبيه تصديقاً لقوله تعالى : ﴿ فاتبعوه لعلكم تهتدون الأعراف 158مما يدل على أنه ليس هناك رجاء ، في أن يهتدي الناس بما يدعوهم إليه رسولهم  إلا بإتباعه ، ولا يكفي أن يؤمنوا به في قلوبهم ، لأن هذا الدين يعلن عن طبيعته وحقيقته ، بأنه ليس مجرد شعائر تؤدي ، إنما هو الإتباع الكامل لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيما يبلغه عن ربه ، وفيما يشرعه ويسنه  والرسول لم يأمر الناس بالإيمان بالله ورسوله فحسب ، ولم يأمرهم كذلك بالشعائر التعبدية فحسب ، ولكنه أبلغهم شريعة الله في قوله و فعله ، ولا رجاء في أن يهتدي الناس إلا إذا اتبعوه في هذا كله ، فهذا هو دين الله  وليس لهذا الدين من صورة أخرى ، إلا هذه الصورة التي تُشيرُ اليها هذه اللفتة في قوله تعالى: ﴿ واتبعوه لعلكم تهتدون ﴾ ولنا وقفه عند هذه الآية  فما أكثر الذين يُعْطَوْنَ علم الدين ثم لا يهتدون ، وإنما يتخذون هذا العلم ، وسيلةً لتحريف الكلم عن مواضعه ، واتباع هواهم ، وهوى المتسلطين الذين يملكون لهم عَرَضَ الحياة الدنيا .  وكم من عالم رأيناه يعلم حقيقة الدين ، ثم يزيغ عنه ، ويستخدم عِلْمَهُ في التحريفات ، والفتاوى المطلوبة ، لسلطان الأرض الزائل ، لقد رأينا من يعلم ويقول بأن التشريع حق من حقوق الله تعالى ، من ادعاه فقد ادعى الألوهية ، ومن ادعى الألوهية فقد كفر ، ومن أقر له الحق بهذا الحق ، وتابعه عليه فقد كفر أيضاً ، لأنه مع علمه بهذه الحقيقة ، التي يعلمها من الدين بالضرورة ، فإنه يدعو للطواغيت ، الذين يدَّعون حق التشريع ، ويدَّعون الألوهية بادعاء هذا الحق . قال الشافعي :" من استحسن فقد شرع ومن شرع فقد كفر " ، لقد رأينا من هؤلاء العلماء هذه الأيام من يكتب في حل الربا ، ورأينا من بارك فجور الحكام وانحرافاتهم  ويخلع عليهم رداء الدين وشاراته .

إن هؤلاء يبذلون العلم لأهل الدنيا ، لينالوا من دنياهم ، فهانوا على أهلها  ناسين أن خُلُقَ العالم ، الخشيةُ من الله ، والإشفاقُ على الناس ، والنصحُ لأولى الأمر ، والوقوفُ في وجه الطغاة ، والتجردُ عن حظوظ النفس وشهواتها ، واليقظةُ في مداخل الأمور ومخارجها . 

دخل عمرو بن عُبيد على المنصور فقال له : يا أمير المؤمنين إن الله عر وجل يقفك ويسائلك ، عن مثقال ذرَّةٍ من الخير والشر ، وإن الأمة حُصَماؤك يوم القيامة ، وإن الله عز وجل لا يرضى منك ، إلا بما ترضاه لنفسك ، ألا وإنك لا ترضى لنفسك ، إلا بأن يُعْدَل عليك ، وإن الله عز وجل لا يرضى منك ، إلا بأن تعدل على الرعية ، يا أمير المؤمنين : إن وراء بابك نيراناً تتأجج من الجور ، والله ما يُحْكَمُ وراء بابك بكتاب الله ولا بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، فبكى المنصور . هذا مثال لمواقف العلماء الأتقياء ، وقد قيل إنما العالم من اتقى الله .

 

الطريق إلى الجنة

قال تعالى : ﴿ إن الله  اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيَقْتلون ويُقْتَلون ﴾ التوبة 111 . هذه الآية تكشف عن حقيقة العلاقة التي تربط المؤمنين بالله ، وعن حقيقة البيعة التي أعطوها بإسلامهم طوال الحياة ، ليس للبائع فيها من شيء إلا الطاعة والعمل والاستسلام ، والثمن هو الجنة  والطريق هو الجهاد والقتل والقتال ، والنهاية هي النصر أو الاستشهاد .

إنها لبيعة رهيبة في عنق كل مؤمن قادر عليها ، لا تسقط عنه إلا بسقوط إيمانه ، ورغم كلمات الآية المدوية ، إلا أن المسلمين في مشارق الارض ومغاربها قاعدون  لا يجاهدون لتقرير ألوهية الله في الأرض ، وطرد الطواغيت الغاصبة لحقوق الربوبية وخصائصها في حياة العباد ، ولا يقتلون ولا يُقتلون ولا يجاهدون جهاداً ما ، دون القتل والقتال  .

لقد كانت هذه الكلمات تطرق قلوب مستمعيها من سلفنا الصالح ، فتتحول من فورها في القلوب المؤمنة إلى واقع من واقع حياتهم ، ولم تكن مجرد معان يحسونها مجردة في مشاعرهم ، فقد كانوا يتلقونها للعمل المباشر بها ، لتحويلها إلى حركة منظورة لا إلى صورة متأملة . 

فهذا عبدالله بن رواحة وقد أدراك ذلك في بيعة العقبة الثانية يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم اشترط لربك ولنفسك ما شئت فقال : (أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا . وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم واموالكم) قال: فما لنا إذا نحن فعلنا ذلك ؟ قال : (الجنة) . قالوا : ربح البيع ولا نقيل ولا نستقيل ، هكذا ...ربح البيع .  

ولم يعد إلى مرد من سبيل ، لا نقيل ولا نستقيل فالصفقة ماضية لا رجعة فيها ولا خيار ، والجنة ثمنٌ مقبوض لا موعود ، أليس الوعد من الله ؟ أليس الله هو المشتري ؟ أليس هو الذي وعد الثمن وعداً ذكره في القرآن الكريم ومن أوفى بعهده من الله ؟ أجل ، ومن أوفى بعهده من الله ؟ وقد روى أن الآية : ﴿ ان الله اشترى من المؤمنين أنفسهم ﴾ نزلت في شأن صهيب بن سنان الرومي ، فإنه أقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الهجرة من مكة إلى المدينة ، فلاحقه نفر من المشركين ، فنـزل عن راحلته وأخرج سهامه وتناول قوسه وقال لهم : لقد علمتم أني أرماكم  وأيم الله لا تصلون إليَّ حتى أرمي بما في كنانتي  ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء ، ثم افعلوا ما شئتم ... فقالوا : لا نتركك تذهب غنياً  وقد جئتنا صعلوكاً فقيراً ، ولكن دلنا على مالك بمكة ونحن نخلي عنك ، وعاهدوه على ذلك ففعل  فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم نزلت الآية  فقال له النبي :ربح البيع يا أبا يحيى وتلا عليه الآية .

إنه من الأعلام الذين بذلوا اموالهم في خير ما تبذل فيه الاموال ، فأغناهم ربهم وشكر لهم وجزاهم خيرا ، وبذلوا لله ارواحهم في سبيل الله  فاعزهم واعلى شأنهم وخلّد آثارهم وصهيب واحد من هؤلاء الأعلام ، الذي كان من أوائل الذين أعلنوا عن اسلامهم وتعرضوا لألوان التعذيب من جبابرة الشرك والطغيان ، وكان أول من هاجر بعد الرسول وصاحبه ، وأن الرسول كان قد بعث إلى صهيب ليصحبه في الهجرة  ولكن صهيباً كان في صلاة حينئذٍ وما كان يعلم بهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، حتى سارع فحمل سلاحه وهاجر خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء قبل أن يتحول منها  فلما رآني قال : يا أبا يحيى ؟ ربح البيع ، فقلت يا رسول الله ؟ ما سبقني اليك أحد ، وما اخبرك إلا جبريل .  

لم يحرص صهيب على المال الذي جمعه ، لأن الله يحرض عباده المؤمنين على أن يسلكوا طريق البذل والتضحية والفداء ، لكي يكونوا اهلاً لشراء الله أنفسهم وأموالهم بالجنة ونعمها الدائم  قال تعالى :{ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجراً عظيماً ﴾. النساء 74 ، وقال صلى الله عليه وسلم محذراً من الخنوع للحرص على المال {يهرم ابن آدم ويشيب معه اثنتان (أي رذيلتان) الحرص على المال ، والحرص على العمر).   وقد قيل :" أذل الحرص أعناق الرجال " ،  لقد ضحى صهيب بكل شيء في سبيل الله  ضحى بالشباب والمال والتجارة وآثر ما عند الله على ما عند الناس ، فكان من أهل الجنة . وليست النساء بأقل حظاً من الرجال في هذا المجال ، فهذه صفية بنت عبد المطلب والتي كانت أول امرأة قتلت مشركاً في الإسلام ، وكان ولدها الزبير أول فارس سلَّ سيفاً في سبيل الله  وكانت إذا أحجم أو تردد تضربه ضرباً مبرحاً  وعندما قال لها احد اعمامه ما هكذا يُضْرَبُ الولد ... انك تضربينه ضرب مُبْغِضَةٍ لا ضرب أم ،  قالت مرتجزة :  من قال قد أبْغَضتُهُ فقد كذب ...  وانما أضربه لكي يلبْ -يصبح لبيباً- ...ويهزم الجيش ويأتي بالسَّلَبْ .

وكانت من اوائل المؤمنين المصدّقين ، وكان لها في ميادين الجهاد مواقفُ ما يزال التاريخ يذكرها  أولها يوم أحد ، وثانيها يوم الخندق ، أما ما كان منها يوم أحد لما رأت المسلمين ينكشفون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قليلاً منهم ، ووجدت المشركين يوشكون أن يصلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم  انتزعت من يد أحد المنهزمين رُمْحهُ ومضت تشقُّ به الصفوف وتَضربُ بسنانه الوجوه ، وهي تقول ويحكم انهزمتم عن رسول الله ، ولما رآها النبي صلى الله عليه وسلم مقبلةً خشي عليها أن ترى حمزة وهو صريع ، وقد مثَّل به المشركون ابشع تمثيل   فأشار الرسول صلى الله عليه وسلم للزبير ليرجعها ، لكنها رفضت بإصرار ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم خلِّ سبيلها ، وعندما رأت أخيها وقد مثل به  استغفرت له وجعلت تقول إن ذلك في الله ، لقد رضيتُ بقضاء الله ، والله لأصبرنَّ ولأحتسبن إن شاء الله . أما موقفها يوم الخندق ، فقد كان من عادة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عزم على غزوة من الغزوات أن يضع النساء والذراري في الحصون ، خشية أن يَغدر بالمدينة غادر ، وبينما كان المسلمون قد شغلوا عن النساء والذراري بمنازلة العدو   أبصرت صفية شبحاً يتحرك في الظلمة فإذا هو يهودي أقبل على الحصن متحسساً اخباره ، متجسساً على من فيه ، فأدركت أنه عين لبني قومه جاء ليعلم أفي الحصن رجال يدافعون عمن فيه أم لا ، فقالت في نفسها إنه يهودي من بني قريظة ، وقد نقضوا العهد مع رسول الله ولا يوجد أحد من المسلمين يدافع عنا ، وإن استطاع هذا اليهودي أن ينقل إلى قومه حقيقة أمرنا   سبى اليهود النساء والذراري . عند ذلك بادرت إلى خمارها فلفته على رأسها  وعمدت إلى ثيابها فشدتها على وسطها وأخذت عموداً ونزلت إلى باب الحصن ، وجعلت ترقب عدو الله في حذر ، حتى إذا تمكنت منه حملت عليه وضربته بالعمود على رأسه فطرحته أرضا  وضربته حتى أجهزت عليه ، وحزّت رأسه بسكين كانت معها ، وقذفت بالرأس من أعلى الحصن فتدحرج حتى استقر بين يدي اليهود الذين قالوا عندما رأوا رأس صاحبهم ، قد علمنا أن محمداً لم يكن ليترك النساء والاطفال من غير حُماة ثم عادوا ادراجهم .

ومن أسباب بلوغ الجنة التي لا ينالها الانسان بكثرة صلاة ولا صيام ، ولكن بصفاء القلب من الغش والحسد ، ومن كل منقصةٍ للإيمان والخلق  فمن تفاعلت نفسه بالمعاني السامية لكل عبادة أثمرت إيماناً عميقاً وخلقاً رفيعاً وتنـزهاً عن كل عيب ، وبلغت به مقام الأصفياء ودرجة الصديقين .

روى انس بن مالك قال : "كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال : (يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة ، فطلع رجل من الأنصار تنطُف لحيته من وضوئه ، قد علّق نعليه بيده الشمال ... فلما كان الغد قال النبي مثل ذلك ، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الاولى فلما كان اليوم الثالث أيضاً ، فطلع الرجل على مثل حاله الأول .

فلما قام النبي ، تبع عبدالله بن عمر الرجل فقال له : إني لاحيت أبي فأقسمت ألا أدخل عليه ثلاثاً  فإن رأيت أن تؤويني اليك حتى تمضي فعلت ! قال : نعم . قال أنس : فكان عبدالله يحدث أنه بات معه تلك الثلاث ليالي فلم يره يقوم من الليل شيئاً ، غير أنه إذا تعارَّ – تقلب في فراشه- ذكر الله عز وجل ، حتى ينهض لصلاة الفجر . قال عبدالله : غير أني لم أسمعه يقول إلا خيراً .

فلما مضت الليالي الثلاث وكدتُ أحتقر عملهُ قُلتُ : يا عبدالله ؛ لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجرة ، ولكن سمعت رسول الله يقول   ثلاث مرات  يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة فطلعت أنت . فأردت أن آوي اليك   فأنظر ما عملك فأقتدي بك . فلم أرك عملت كبير عمل !! فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله ؟ قال : ما هو الا ما رأيت . قال عبدالله : فلما وليَّتُ دعاني فقال : ما هو إلا ما رأيت ، غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشاً  ولا أحْسُد أحداً على خير أعطاه الله إياه . فقال عبدالله : هذه التي بلغت بك 

إنها نعمة علويةٌ فاضت بها نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت درساً بليغاً لعباد الله .

قلت إن بلوغ الجنة ليس بكثرة صلاة ولا صيام ولكن بصفاء القلب ، وقد يسأل من يسمع ذلك فمن لا يؤدون صلاة ولا صياماً ، أليس الدين المعاملة ؟ فنجيب : نعم فيبتسمون وكأنهم ربحوا الجولة الأولى ، ثم يقولون : كم في صفوف المصلين من المرابين فنقول : نعرفهم بأعمالهم فتتسع ابتسامتهم ثم يقولون : نحن  نتعامل مع الناس على أساس من الثقة والحق  فلا نريد صلاة ، أليس الدين المعاملة ؟

غاب عن بال هؤلاء لو أن المصلي أو الصائم يعيش في اجواء نفسه حقيقة العبادة ، لما ارتكب معصية أبدا ، صحيح أن الدين المعاملة ، ولكنك يا أخي كإنسان لا يقتصر تعاملك على الناس وحدهم ، فإين تعاملك مع نفسك ؟ واين تعاملك مع الله ؟ أليس المطلوب منك أن تعبده وبإخلاص لإنه السبيل الوحيد ، وحتى تعاملك مع الناس يجب أن يكون خاضعاً أولاً وقبل كل شيء للتعامل مع الله ، وإلا فقدت مقومات الإيمان ، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : (من أعطى لله وقنع لله وأحب لله وكره لله فقد استُكْمل الإيمان). وباستكمال الإيمان تُبْلَغُ الجنة .

 

 

 

        

 

الطغاة والإرهاب

نحن ممن ذقنا طعم الإرهاب ، فما يجري في فلسطين والعراق من قتل وهدم وتشريد لأعدادٍ كبيرة من أبنائه جراء الحصار الظالم ، واختراع أنواع خبيثة من القرارات كانت وما زالت ، ألا يعد ذلك إرهابا ؟ فاحتلال فلسطين وتشريد شعبها ، كان بإرهاب الدعم الأمريكي للصهاينة ، والمذابح التي نسمع عنها في الجزائر بين الحين والحين ، والتي يرتكبها اليهود   وما زالت ، ودعم شارون وعصابته بالتأييد السياسي والتسليح العسكري وإطلاق يده على شعب أعزل يطالب بوطنه ، ألا يعتبر ذلك أبشع أنوا الإرهاب ؟ إن في ذلك دلالة على أن الشعوب العربية والإسلامية هي محل تنفيذ كل عمل إرهابي ، على مرأى ومسمع العالم أجمع ، الذي اكتفى في بعض الأحيان بتوجيه اللوم لما يجري ، فلماذا أعلنت الحرب عندما حصل هذا وللمرة الأولى في بلادهم وقد يكون العقل المدبر لذلك هم الصهاينة  لاستفزاز أمريكا لشن حرب على المسلمين  في أفغانستان  وعلى كل من يقف حجر عثرة في طريق اليهود والهيمنة الأجنبية على مقدرات العالم الإسلامي  ولماذا يتهم العرب والمسلمون بالإرهاب ؟ وهم الذين تعرضوا ويتعرضون للإرهاب ؟ فمن الذي ارتكب مجازر صبرا وشاتيلا ؟ ومن الذي حرق وقتل وجرح عشرات النساء في ملجأ العامرية ؟ ومن الذي ارتكب ابشع المجازر ضد الفلسطينيين الذين طردوا من أرضهم ؟ ومن الذي دمَّر يوغسلافيا ؟ ألا يعد ذلك إرهاباً ولكنها السياسة الخرقاء ، والعنف يتوالى واليهود ينفثون حقدهم ويعرضون عبر وسائل الإعلام وكل القنوات السرِّية والعلنية عدائهم للعرب والمسلمين ، فلماذا لا يتوجع الساسة الأمريكيون على المدنيين الأبرياء ؟ لماذا لا يتوجعون على الإبادة الجماعية التي نفذوها في العراق ، وما زالوا بالقصف والحصار ؟ وعلى ما يقوم به اليهود في فلسطين بالتصفية الجسدية المنظمة جهاراً نهاراً وبالأسلحة الأمريكية . وعلى ما جرى  في مخيم رفح يوم أمس صورة مصغّرة لما حصل في أمريكا ، وما حصل للمسجونين المسلمين في الصين ، الذين اعدموا قبل أيام رمياً بالرصاص على مشهد عامة الناس ، ولماذا لا يقال هذا إرهاب صيني ضد المدنيين الأبرياء ذنبهم أنهم مسلمين وبالله موحدين ، فلماذا لا يتوجع الأمريكيون على هؤلاء وأولئك ولماذا هذا الإصرار الأمريكي الغربي والذي تنفخ فيه الصهيونية وتغذيه على لصق الإرهاب بالعرب والمسلمين ؟ أليس في أمريكا والغرب منظمات إرهابية ومافيات عديدة وعنيفة  فلماذا هذا العداء ضد العرب والمسلمين لا بل ضد الإسلام ، مما يدعو للتساؤل : هل الإسلام وتعاليمه ومن يعتنقونه على الهامش لا قيمة ولا كيان ؟ نعم هذا هو الواقع حيث يلتف المسلمون حول النظم الوضعية وواضعيها مهملين الإسلام ، ونظمه ، فأين الغيرة لله ولدينه ولرسوله وللمؤمنين ؟ وأين الغضب لله الذي هو عنوان الإيمان حينما يساء للإسلام وقيمه ورموزه ، ولماذا يُترك لأرباب الكفر الاساءة للإسلام ؟ ولا يجوز للمسلمين العمل على رد الإساءة ، ولماذا يحاولون دائماً النيل من الإسلام ؟ أتدرون لماذا ؟ لأنهم يعرفون من تاريخهم كله ، أنه لم يغلبهم إلا الإسلام يوم كان يحكم الحياة  وأنهم غالبوا أهله طالما لم يحكِّمه أهله في حياتهم ، وإذا كان هذا هو الواقع  فلماذا لا يرفع شعاراً واحداً يوجد بين المسلمين ، كما يرفعوا شعاراتهم التي وحدتهم   فشعار المجتمع الشيوعي (يا عمال العالم اتحدوا) والأمريكيون رفعوا شعار (بالله نثق) والفرنسيون (حرية  إخاء  مساواة ) أما المسلمون فتوحد بينهم كلمة الشهادة التي نرددها صباح مساء  هذه الكلمة تمثل شعاراً حقيقياً للإسلام عقيدة وفكراً ونظاماً ، ويمكن من خلال مفهومها أن تستيعد الأمة ما فقدته في ظل غطرسة الدول الطاغية لطغيانها الذي تنـزله بالأمم والشعوب ، فتدمر كيانها وتهلك أهلها وتأتى على الأخضر واليابس فيها ، وحين يزداد الطغيان بين الناس وتستشري شروره ، يركن الناس إلى الطغاة ويستمرئون الخضوع والاستكانة لمظالمهم وطغيانهم ، بدل مقاومتهم والوقوف في وجههم ، فقد يعمهم الله بالعذاب ويحاسبهم على ذلك محاسبتة للطغاة أنفسهم ، كان فرعون مثلاً صارخاً  للطاغية المتجبر ، وكان قومه صورة للأقوام التي خضعت وتابعت الطاغية  فوصل الأمر بفرعون إلى ادعاء الألوهية والاستخفاف بعقول الناس ، والإعراض عن كل الآيات التي جاءت من الله حتى أهلكه الله وقومه ، وقد ضربت المثل بفرعون لتقريب ملامح طغاة هذا العصر مع اختلاف الألوان وتغيير العناوين والشعارات ، وما قص الله علينا في القرآن الكريم قصة فرعون إلا لنتعظ ونعتبر ونتدبر ، فلا نقع فيما وقع فيه قوم فرعون ، والقصة كما وردت في سورة القصص ، تبرز يد القدرة الإلهية متحديةً تضرب الظلم والطغيان عندما يعجز عن ضربها البشر ، فتنصر المستضعفين الذين لا حول لهم ولا قوة ، وتمكن للمعذبين الذين لا حيلة لهم ولا وقاية ، كما دلت القصة على أن الشر حين يتمحص يحمل سبب هلاكه في ذاته ، والبغيَ حين يتمرد لا يحتاج الى من يدفعه ، بل تتدخل يد القدرة وتأخذ بيد المستضعفين المعتدى عليهم فتنقذهم ، فعندما علا فرعون وهو مثال الطاغية المتجبر   والطغاة تخدعهم قوتهم وسطوتهم   وينسون إرادة الله وتقديره ، ويحسبون أنهم يختارون لأنفسهم ما يحبون ولأعدائهم ما يشاءون   ويظنون أنهم على هذا وذاك قادرون ، ولكن الله يقدِّر غير ما يقدِّرون .

ومن استعرض الآيات القرآنية يتبين كثيراً من سمات من يكون فرعوني المنهج ، كالحكم بغير ما أنزل الله وادعاء الألوهية جاء على لسان فرعون قول الله تعالى : ﴿ ما علمت لكم من إله غيري ﴾ . فقد تحكَّم بالناس وأمرهم بما يراه متفقاً مع أهوائه ومصالحه بدعوى العمل لخير الناس وأمنهم وسلامتهم  وذلك مقترن بخضوع الناس للطاغية وسكوتهم عن مظالمه ، وخوفهم من سطوته ونسيانهم لقدرة ربهم وآخرتهم ، مما جعلهم مستعبدين للظالم  معلنين عن تبعيتهم له ولطغيانه  فاصبحوا من المضللين الذين استعبدهم الطغاة وأذلوهم حتى أفسدوا فطرهم ورموهم بشتى التهم والأباطيل .

والطاغية متجبر لا يصغي لغير نفسه ، ولا يستمع للبرهان القاطع ، ولا يصغي للحجة المقنعة ، بل يتوعد ويهدد ويلجأ إلى كل المحاولات للتنكيل بالمعارضين والبطش بهم مستعينا بالأعوان للتضليل والإفساد ، وتزيين الباطل للناس وإنفاذ رغباته   ويستمر في حشد الحشود والأعوان والأتباع التي تنكِّل بالناس وترصد حركاتهم وتبطش بهم   ويتعالى على الناس بما لديه من قوة وسلاح وسلطان ، تماماً كفرعون الذي قال الله فيه : ﴿ واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير حق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون ﴾ القصص 39 . ولكن الله للطغاة وأعوانهم ولكل من يشايعهم ويخضع لهم بالمرصاد قال تعالى : ﴿ وأتْبعناهم في هذه الدنيا لعنةً ويوم القيامة هم المقبوحين ﴾ القصص 42-40 . إن الله لا يقبل الحجج والمبررات في اتباع الظالمين ، والخضوع للطغاة والجبارين أياً كانت الأسباب والحجج ، لأن في ذلك إنكاراً لقدرة الله وتكذيباً لما عنده  والأصل في المؤمن أن لا يخشى إلا الله ولا يخضع إلا لسلطانه ، ولا يرضى بغير الحق ، ولا يشايع الباطل والظلم والطغيان ، حتى لا يرد مورد الطغاة ، كما حلَّ بفرعون وقومه   ولذلك ضرب الله لنا أمثله رائعة في إنكار المنكر والتبرؤ من الطغيان والخروج على طغيانه وعدم الاكتراث بما يحصل بالمنكرين . وإن نسيان ذلك من الناس يضلهم في الحياة ، فيجعلهم أشياعاً للباطل وجنوداً للطغاة الظالمين ، الذين لا يكفُّون عن تسخيرهم لغير ما انزل الله  وامتلاك إرادتهم وعقولهم وقلوبهم ، فهل يستيقظ الناس وهم يعيشون محنة من أقسى ما عرف العالم الإسلامي من المحن ، ويمرون في حنايا فتنة كبيرة ، نسأل الله أن يجعلها نصراً للحق والإسلام والمسلمين . لماذا يستأسدوا على الصديق والقريب ويستخذوا للعدو والغريب ، لماذا يتعاونوا مع من أهانونا ومرغوا كرامتنا بالتراب ، ويتلهون بآلامنا ويتاجرون بمآسينا ويتآمرون على مصيرنا ، لماذا ؟ ولماذا .. نستطيع أن نرسم ألف لماذا دون أن نجد لها جواباً شافيا .  أما آن لنا أن ندرك أن المواقف التي دوخونا بها وفرضوها علينا لم تثمر إلا الخزي ولم تنجب إلا عملاء وانهزاميين ، بدل أن يخلصوا للأرض والعقيدة ، أخلصوا للأنظمة الفاجرة الظالمة ، في صراعٍ مخيف تسقط له الضحايا ، وتنـزف فيه الدماء  

إن الطغاة يدركون أن حربهم موجهةٌ في عنفها وشراستها ضد الحضارة الإسلامية ، لإبعاد  المسلم عن دينه وإيمانه ، لأنهم يعلمون أن الإسلام هو الخطر الأكبر الذي يمحق الغزاة والمتآمرين عرفوا ذلك وتجاهلناه ، نراوح بين الرفض والقبول ولا نعرف ماذا نقول يا أمةً ضحكت من جهلها الأمم . أمّة ابتعدت عن الدين ففقدت الحافز وفقدت الإيمان . وما علينا أن نوطن أنفسنا بسلاح التقوى واليقين ، ونتلمس طريقنا من جديد ، ونهتف كما هتف آباؤنا الله أكبر والعزة للمؤمنين .  

 

 

المحن والشدائد التي عاناها المسلمون

لقد اتفق الشرق والغرب ، على انتزاع  فلسطين من ذويها ، وطردهم عنها  وتسليمها غنيمة باردة للصهيونية ، وما كان من أمتنا إلا الرضى بالأمر الواقع والصبر عليه ، حتى كاد الذل أن يصير جزءاً من طبيعتها ، ولا تكاد تحس أو تبالي   به ، كما أن النـزعة الصليبية لم تنس حقدها الأعمى  في محاربة الإسلام وأهله . لقد مرت بالعالم الإسلامي محنٌ كثيرة ، كان المسلمون يفقدون فيها تمكنهم في الأرض ، أو يفقدون أمنهم وطمأنينتهم ، أو ديارهم وأموالهم  ومع ذلك لم تمر بهم محنةٌ ، أقسى ولا أمر من محنتهم المعاصرة في تاريخهم كله ، وفي كل محنةٍ ابتداءً من حروب الردة وفتنة عثمان ، إلى الحروب الصليبية وحرب التتار ، كانت الهزيمة في البدء والنصرُ في النهاية ، وإننا إن شاء الله أننا سنتجاوز المحنة هذه الأيام ، وسيمكن الله لدينه مرةً أخرى في الأرض . أما كيف يكون المَخْرَج من هذه المحن ؟  كان المسلمون في المحن السابقة  ، قد شُغِلوا عن الإسلام الصحيح ، ببدعٍ وخرافاتٍ ومعاصٍ وتواكلٍ وتقاعس ، وقعودٍ عن الأخذ بالأسباب  ولكنَّ الإسلام ذاته لم يكن في نفوسهم موضع نقاش ، لا بوصفه عقيدةً ، ولا بوصفه نظام حكمٍ وحياة ، وحتى حين هُزموا وقتها ، لم يكن صدى الهزيمة في نفوسهم  هو الشك في الإسلام عقيدةً أو نظام حياة ، ولم تكن قضية الحكم بما أنزل الله  موضع شكٍ منهم ولا موضع نقاش ، لأنها كانت جزءاً لا يتجزأ من إسلامهم  لذا لم يهنوا حتى وهم مهزومون أمام أعدائهم ، ولم يشعروا أنهم أدنى من أعدائهم  بل كان يتمثل فيهم قولُ الله تعالى:{ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون ، إن كنتم مؤمنين ﴾ آل عمران 139 .  أما اليوم فقد انحرف المسلمون انحرافاتٍ شديدة   عن حقيقة الإسلام ، لا في السلوك وحده   ولكن في التصورِ كذلك ، فقد أصبح مفهوم لا إله إلا الله كلمةً تُقالُ باللسان ، ولا علاقة لها بالواقع ، ولا مقتضى لها في حياة المسلمين  فتحقق فيهم نذيرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ( يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها ) ، وصارت الأمة ألعوبةً في يد أعدائها   يجرّونها الى الهلاك في كل مهلكة من القول والعمل ، فضلاً عما أصاب العقيدة من خرافه  وعبادة للأولياء والمشايخ ، بدلاً من العبادةِ الصافية الخالصة لله تعالى دون وسيط  وانحصر مفهومُ العبادة في الشعائر التعبدية ، من أداها فقد أدى ما عليه من العبادة ، فضلاً عما أصاب الشعائر التعبدية ذاتها من عزله كامله عن واقع الحياة  كأنها شيء ليس له مقتضى ولا تأثير  في الحياة الدينا .

بخلاف فهم الأجيال السابقة ، فقد كان المسلم يحس بواجبه في الجهاد في سبيل الله ،كإحساسه بواجبه في الصلاة ، هنا يعبد الله وهناك يعبد الله . وكان مفهومُ القضاء والقدر في صورته الصحيحة قوةً دافعةً ، فصار في صورته السلبيةَ قوةً مثبطةً عن العمل والحركة والأخذ بالأسباب .

وأما مفهومُ الدنيا والآخرة ، الذي يربطُ الدنيا بالآخرة ، ويجعل الدنيا مزرعة للآخرة ، فقد تحوّل إلى فصل كامل بين الدنيا والآخرة ، فمن أراد الدنيا ترك الآخرة ، ومن أراد الآخرة ترك الدنيا واكتفى فيها بالكفاف . بخلاف المسلمين الأوائل الذين كانوا يعيشون واقع الحياة الدنيا  ولكن مشاعرهم وأفكارهم متعلقةٌ بالآخرة يعيشون كأنها أمامهم حاضرٌ مشهود .

لقد ذُمت الدنيا ولُعِنت في القرآن وعلى لسان رسول الله ، ونُصح الناس بالتخلي عن حبها والتعلق بها ، ولكن في أي مجال ؟ إنه في حين تكون الدنيا ، حاجزاً بين الناس وبين الإيمان بالله واليوم الآخر  أو حاجزاً بينهم وبين الجهاد في سبيل الله . وأما عًمارةُ الأرض ، فقد أُهملتْ حين أُهملت الدنيا من أجل الآخرة   فخيم على الناس الفقرُ والجهل والمرضُ ، وزاد الطينَ بله أنهم يقولون بأن ذلك قدرٌ مقدور من عند الله ، لا حيله لهم فيه إلا الرضا والتسليم وفضلاً عن ذلك كُلِّه فقد خلت حياةُ الناس من الوعي الإسلامي المستنير  واصبحت الحياة كُلها تقاليد موروثة ، يُحافَظُ عليها من أجل أنها تقاليد ، لا من أجل أنها جزءٌ من منهج الله ، يَحكمُ الحياة  . فأصبحت العبادةُ تقاليد ، والسلوكُ تقاليد ، وحجاب المرأة تقاليد .

كان المسلمون هم الأَعْلَين ، لأن الاستعلاء بالإيمان ، هو الذي يكيف حياتهم ويحددُ مواقفهم ، أما اليوم فالعقيدة تخلفت وتوارت تحت الركام  فلا عزة ولا استعلاء ، إنما هي الهزيمةُ والانهيار والأخذ بلا بصيرة بكل ما ينتجه الغرب ، بغير تمييز بين ما ينفع وما يضر ، ولا يبين ما يتفق مع الإسلام وما يتعارض معه ، لأن الإسلام لم يعد محورَ ارتكاز المسلم المعاصر ، ولم يعد له كيانُه المتميز المستمد من العقيدة الصحيحة ومن تطبيق منهج الله .

إن بشائر الأمل قد بدت تلوحُ في الأفق ، فشبابٌ مثقفٌ يعود للإسلام ، وحركاتُ بعثٍ إسلامي في كل مكانٍ  من الأرض ، وأُناسٌ يتطلعون إلى اليوم الذي يجدون فيه الإسلام مطبقاً بالفعل ، وفي الطريق عقباتٌ كثيرةٌ ، تعوقُ المسيرة ، لكنها لا تمنع المسير . فهناك الجهل بحقيقة الإسلام  والغزو الفكري الذي يزين للناس الانسلاخ من الإسلام ، فضلاً عن العداوات المرصودة للإسلام  تبطش بالدعاة في كل الأرض ، وتضعُ في طريق الدعوةِ ما وسعها من العراقيل .

إن الصحوة الإسلامية القائمة اليوم في كل مكان من العالم الإسلامي ، حدثُ تاريخيٌ له دلالته فقد بدأ التطلع إلى مخلَّصٍ جديد ، ولن يُخرج المسلمين من أزمتهم ،ويرفع عنهم إصرهم  ويردهم إلى عزتهم ، إلا العودة الصحيحة الصادقة  إلى الدين الذي أنعم الله به عليهم وحباهم إياه  ولن يخلِّص البشرية من محنتها ويَحلَّ لهها عقدتها  إلا المنهج الرباني ، الذي أنزله الله ليقوم الناسُ بالقسط .

 قال تعالى : ﴿ لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناسُ بالقسط ﴾ الحديد 25 . ولكن الأمر لن يكون سهلاً  إنه طريقٌ صعبٌ وشاق ، يخوضه المسلمون مع كل العداوات المحيطة بالإسلام ، حتى يتمَّ التمكينُ للإسلام من جديد ، وذلك لا يتم بمجرد رغبة الناس في إقامته ، لأنه سبق في مشيئة الله وقدره ألا يكون الناسُ أمةً واحدة ، قال تعالى ﴿ ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ، ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ، ولذلك خلقهم ﴾ هود 119 . إذن هناك من لا يؤمن بلا إله إلا الله ، ومن يكرهُها ويحاربُها ويحاربُ أهلها ويقاومُ منهجها .

إن إقامة المنهج تحتاج إلى مجاهدة الكافرين  والجهادُ من أجل إقامة المنهج ، يعرِّضُ الإنسان للأذى والموت ، والمحرمات من متع الدنيا   ويحتاج الجهاد من الإنسان ، لأن يُقويَّ إيمانهُ بلا إله إلا الله ، وأن الله هو الذي يُحي ويميت ، وهو الذي يضُّر وينفع ويقبض الرزق ويبسط ، وإلا تزلزلت قدماهُ على الطريق عند أول اهتزاز يحدث في هذا الإيمان ، ومن أجل ذلك كانت لا إله إلا الله هي الإعداد للجهاد ، كما كانت من قبل هي مفتاحُ الإسلام  .

يوم يعتقدُ الناسُ بأنَّ هناك شركاءَ لله ، في الخلق أو التدبير أو الرزق أو الأحياء أو الإماتة أو النفع أو الضرّ أو التوجه لغير الله بالشعائر التعبدية ، أو التشريع بغير ما أنزل الله أو الرضى بغير ما أنزل الله   فهو الشركُ الذي يخرجُ الناسَ من الإسلام قال تعالى : ﴿ أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون ﴾ المائدة 50 . وإذا حملت الأمة راية لا إله إلا الله ، وحملت معها مسئولياتها ، فقد اصبح الجهاد من لوازم وجودها  لأن البشر لا يستقيمون على منهج الله،  ولا يرضون أن يكون الدين كلهُّ لله ، ولا يتركون المسلمين أن يقيموا دينهم في مأمن من العدوان  ومن هنا قال تعالى: ﴿ وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة ﴾ التوبة 36  نقاتلهم لا نفاوضهم طلباً لسلام هزيل غير عادل لأنهم لن  يرضون عنا إ لا إذا تنازلنا عن كل شيء حتى ديننا قال تعالى  :  

﴿ ولنن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم  ﴾ البقرة 120 .

إنهم يحاربوننا ويكيدون لنا ولا يسالموننا ولا يرضون عنا إلا بتحقيق مطلبهم هذا  وهو الذي يرتضونه وما سواه يرفضونه ويردونه ، الأمر الذي حذَّرنا الله منه بقوله : ﴿ ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من وليٍ ولا نصير ﴾ البقرة 120 . 

 

 

 

المسلمون والكفار على مدى التاريخ

قال تعالى : ﴿ ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ﴾ البقرة 217 . هذا إعلام من الله عن الحقد الذي يحمله الأعداء في قلوبهم للإسلام ، إنه حقد دائم ضد الإسلام  وإن مجرد وجود الإسلام في الأرض كافٍ لتحريك ضغائنهم وباعث لهم على التحرك ضد المسلمين ليردوهم عن دينهم إن استطاعوا

كما أن حقدهم موجه لكل مؤمن بل للإيمان ذاته كما هو معهود من أعداء الدين على مدار التاريخ  قال تعالى : ﴿ قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله ﴾ . إن قصة الاعتداء أصيلة فيهم ، تبدأ من نقطة كرههم للإيمان وصدودهم عنه وتنتهي بالوقوف في وجهه وتربصهم بالمؤمنين ، وإن المسلمين يواجهون أعداءً يتربصون بهم ولا يقعدهم عن الفتك بهم بلا شفقة ولا رحمة إلا عجزهم عن ذلك

وإن حقيقة المعركة الطويلة بين الإسلام وأعدائه تصوره هذه الآية القرآنية الكريمة  ﴿ كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلاّ ولا ذمة ﴾ التوبة 8 .

فماذا صنع المشركون بالمسلمين أيام غزو التتار إنهم قتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشبان … وقد ذكرت الروايات التاريخية أن السيف مازال يقتل في أهل بغداد أربعين يوماً ، ولما انقضت الأربعون يوماً بقيت بغداد خاوية على عروشها  وليس بها أحد إلا الشاذ من الناس والقتلى في الطرقات كأنها التلول… .       

ثم تلى ذلك الحروب الصليبية والحروب في الأندلس والتي كانت دينية في أساسها  وكانت في كل مرة تؤدي إلى خسائر كثيرة وجسيمة .

وكان لحركات التبشير دوراً هاماً في خدمة دول الكفر ، فقد كان المبشرون يقترحون على دولهم أن يشلّوا حياة المسلمين بإبعادهم عن الشواطئ ذات الأمطار الوافية وطرق المواصلات الكافية والمراكز الحربية المهمة ، تم حصرهم في الداخل وفي الصحارى على الأكثر ، وهذا يذكرّنا بما فعله الإيطاليون في طرابلس الغرب من إعطاء الشواطئ للإيطاليين وطرد العرب إلى الداخل  وأن قيام دولة إسرائيل بدأ بإخلاء الشواطئ من العرب المسلمين ودفعهم إلى داخل البلاد وإلى ما وراء نهر الأردن ، ولم يرق لهيئة الأمم يومها أن ترى عدداً كثيراً من اللاجئين الفلسطينيين ذهابهم إلى لبنان ، وكان ومازال التخطيط جارياً لإبعادهم عن شواطئها ، كما كانت حركات التبشير تمهد السبيل إلى التسلل التجاري في محاولة لانتزاع السيطرة التجارية العالمية من المسلمين ، لإضعافهم والتقوي على حربهم  فكان من أعاجيب الزمان أن يكون الرائد الذي دلَّ فاسكودا جاما وأعانه على إتمام رحلته ، هو العربي المسلم ابن ماجد الذي أمده بالمعلومات والخرائط بل قاد بنفسه سفينته نحو جزر الهند الشرقية غفلة أم قهر ؟ لست أدري ! 

وحين أتم فاسكو داجاما رحلته بمعونة ابن ماجد قال قولته المشهورة والتي تفصح عن الهدف الحقيقي للرحلة والذي اغفل عندما قرأناها أيام الدراسة بتأثير من الغزو الفكري الغربي قال: "الآن طوقنا رقبة الإسلام ولم يبق إلا جذب الحبل فيختنق ويموت " .

وقبلها كانت رحلاتٌ قام بها أعداء الإسلام في العالم الإسلامي يدرسون مداخله ومخارجه  ويرجعون إلى حكوماتهم ليدلوها على طريقة التسلل إلى بلاد المسلمين وأشهرها رحلة ماجِلاّن والتي كان هدفها الاستيلاء على الأرض الإسلامية في الفلبين وإخضاعها لحكم الصليبيين والتي درسناها وندرِّسها لأبنائنا على أنها من أعظم الرحلات العلمية الاستكشافية في التاريخ  أما أنها استكشافية فنعم ! وأما أنها علمية فذلك من أشدّ التزوير في التاريخ .

وماذا يصنع الأعداء اليوم بالمسلمين في كل مكان ، إنهم لا يرقبون في مؤمن إلاّ ولا ذمة  فما وقع من الوثنيين الهنود عند انفصال باكستان

 وما فعله خلفاء التتار في الصين الشيوعية بالمسلمين هناك ، لا يقل بشاعةً ولا شناعةً عما وقع من التتار في ذلك الزمان البعيد . لقد أبادوا من المسلمين خلال ربع قرن ستة وعشرين مليوناً وما تزال عمليات الإبادة ماضية في الطريق ، هذا عدا عن وسائل التعذيب الجهنمية التي تقشعِرُّ لهولها الأبدان .

وما حصل في البلقان غنيٌ عن الذكر لأننا سمعنا وشاهدنا على أجهزة التلفزيون الكثير عما يجري من قتل وتخريب .

أما ما جرى في روسيا فيمتاز بأنه عملية إفناء منظمة تتم بمعرفة الدولة ، فقد وصل الاضطهاد الديني إلى حدٍ لا يُتَصَوَّرْ ، فبعد القتل والنفي  أُخذَ ما بقي من العلماء الى مبنى تكرير مياه المدينة المقام على شاطئ البحر الأسود ، ثمَّ زجوا بهم في عجلات الماكينات الخلفية المعدة بطريقة خاصَّةٍ من قبل الإدارة الشيوعية لتكون مذبحة للإنسان ، وحتى هذه الصورة البشعة المروعة   لم تبلغ بشاعة الصورة الوحشية التي تمت في التركستان الغربية والشرقية ، حيث كان يقطن أربعة وأربعون مليونا من المسلمين  والذين تناقص عددهم على يد آلة الإبادة السوفيتية الشنيعة إلى ستةٍ وعشرين مليوناً فقط ، وقد ذكر لنا الأستاذ عيسى يوسف آلب تكين في كتابه  "المسلمون وراء الستار الحديدي " عن وسائل التعذيب ما تقشعِرُّ له الأبدان والتي وصلت من القذارة بحيث يُخْرِسُ ذكرها كلَّ أدبٍ إنساني .

لقد كانت روسيا ذات أسلوبٍ خاصٍ بها مستمدٌ من استبدادها ، فقد كانت تحمل المسلمين على التنصر بقوة السلاح ، وما يجري في الشيشان هذه الأيام خير دليلٍ على جبروتها واستبدادها .

إن شجاعة الشيشان في مقاومة الروس كانت وما زالت مضرب المثل في روسيا ، فقد كانت علاقات الروس مع الشيشان سيئةٌ على الدوام  وكان انعدام الثقة هو الأساس في التعامل بين الجانبين ، وذلك منذ أن قام ستالين باتهام الشيشان بالتعامل مع الألمان عند احتلالهم للقوقاز أثناء الحرب العالمية الثانية ، وأمر بنفي الشعب الشيشاني بأكمله بتهمة أن بعض أفراده يتعاون مع الألمان .

وحتى هذه الأيام حيث تُدَمَرُ مدن الشعب الشيشاني وقراه ويُجْبَرُ تحت التهديد بالإبادة على مغادرة أرضه بحجة محاربة الإرهابيين ، والأمة الإسلامية غائبة عما يجري من اضطهاد المسلمين في كل مكان على ظهر هذه الأرض ، والذي لو وقع مثله لمسيحي واحد لارتجت الأرض واندكت الجبال واتهم المسلمون بالتوحش والهمجية . فلماذا هذا السكوت عما يجري في بلاد المسلمين ؟ وليعلم كل واحد منا أنه لا يمكن أن يُعَمِّرَ الإسلام قلباً ساكتاً على الظلم الذي يقع على المسلمين في أيِّ مكان ، وإذا رأيت المظالم تقع على المسلمين في أيِّ مكان في العالم ، ولم تجد في الأمة من يدفع الظلم عنهم ، فلك أن تشكَّ في وجود هذه الأمة ، لأنه لا يمكن لأمةٍ تؤمن بالإسلام عقيدةً ثمَّ ترضى بالظلم نظاماً ، كما لا يمكن أن ينصر الله قوماً لا ينصرون أنفسهم ولا ينفذون شريعته في الجهاد . وليعلم كل ذي عقيدة أن سنة الله توحي بعد هذه المظالم المريرة التي مرَّ ويمرُّ بها المسلمون بشيئين لا ثالث لهما إما الهداية وإما الضلال .  وإن الجاهليات تظلُّ تعيشُ بمقدار ما فيها من خير متناثر حتى يغلب ما فيها من شرٍّ طاغٍ فيختنق الخير ، ولا يكاد يستطيع أن يتنفس  وحين تصل الأمور إلى هذا الحد من السوء تتدخل إرادة الله لتحدث التغيير ، وذلك يكون من خلال سعي البشر وحركتهم قال تعالى: ﴿ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم﴾ الرعد 11 . فإذا لم يتم التغيير تتدخل إرادة الله تدخلاً حاسماً لتخسف الأرض بالطغيان كله أو تهدي الناس إلى الله ، ونحن على أبواب تدخلٍ من تدخلات الإرادة الإلهية الحاسمة  لأن الطاغوت الحاكم في الأرض وصل إلى حدٍ لا يطاق ، ولن يخلص الناس من ضلالهم واضطرابهم إلا الإسلام الذي يعطي الوضع الصحيح لكل انحراف في التصور والسلوك والسياسة والاقتصاد والأخلاق وكل شيءٍ في حياة الإنسان ، ومهما يكن أمر المسلمين اليوم … فالإسلام ليس مقيداً بهم ولا متوقفاً عليهم لأنه نورُ الله لكل البشرية ، قال تعالى : ﴿ وما أرسلناك إلا كافةً للناس بشيراً ونذيرا ﴾ سبأ 28 .                 

 

 

 

                                        

 

حرمة موالاة أهل الكفر

قال تعالى: ﴿  يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضُهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين ﴾ المائدة 51 . مطلوب من قارئ هذه الآية أن يعلم معنى الولاية التي ينهى الله عنها   فهي لا تتعلق بمعنى اتباعهم في الدين ، فغالبية الزعامات التي تتعاون مع النصارى واليهود ، لا يلتزمون بالتبعية لهم في دينهم ، إنما هو ولاء التحالف والتناصر ، وحتى هذا الولاء غير جائز ، لأن الله نهى عنه وأمر بإبطاله ، بدليل عدم قيام الولاء والتحالف والتناصر بين المسلمين واليهود في المدينة ، أما سماحة الإسلام مع أهل الكتاب فهي شيء  واتخاذهم أولياء كما هو حاصل هذه الأيام شيء آخر ، وإن الولاء لا يكون إلا لله ورسوله وجماعة المسلمين ، ومن السذاجة أن نفهم أننا نستطيع أن نضع أيدينا في أيديهم ، ناسين تعليم القرآن والتاريخ لنا بما وقع منهم  فهم الذين ألبوا المشركين على الجماعة المسلمة في المدينة ، وهم الذين شنوا الحروب الصليبية خلال مائتي عام  وهم الذين ارتكبوا فظائع الأندلس ، وهم الذين شردوا العرب من فلسطين ، ومازالوا يذيقونهم ألوان الاضطهاد والقتل والتعذيب ، بل هم الذين يشردون المسلمين في كل مكان ، في الحبشة والصومال وإرترية ، كما يتعاونون مع الإلحاد والمادية والوثنية ضد المسلمين ، كما حصل في يوغسلافيا والصين وتركستان والهند وفي كل مكان ، وبعد كل هذا ينادي القائمون على أمرنا بإمكانية التعايش السلمي والولاء والتحالف والتناصر بيننا وبين أهل الكتاب ، وكأنهم لا يقرأون القرآن ، بل إن الإسلام لا يعيش في حسهم ، لا بوصفه عقيدة لا يقبل الله من الناس غيرها ، ولا بوصفه حركة إيجابية تقف في وجه عدا وات أهل الكتاب ، لأنهم في غفلة عن المصير الذي أعده الله لهم ، حيث أدخلهم في زمرة اليهود والنصارى عندما قرر ذلك بقوله : ﴿ ومن يتولهم منكم فإنه منهم ﴾ . لكنهم مضوا كما تزَوِّرُ لهم أهوائهم ، يعللون ويبررون ويفسرون . لقد طمأن الله المسلمين بأن لا ييأسوا لأن فرجه قريب ، وقد هدد من يرتد عن دينه أنه ليس بمعجزه ، وأن لدينه أولياء وناصرين مدخرين في علمه سبحانه قال تعالى : ﴿ يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزةٍ على الكافرين ﴾ المائدة .

ورغم أن اليهود والصليبية الجديدة يتظاهرون علينا بالإثم والعدوان ، ويتجاهرون بضرورة الإجهاز على الإسلام وأمته ، لكن هذا الحلف الآثم سيتلاشى ، وهذا الضعف الذي ألم بنا سيزول ، وليست هذه المرة الأولى التي يفقد فيها المسلمون بيت المقدس ، فقد استعدنا المسجد الأقصى بعد أن احتل قبل هذه المرة   وسقط قتلانا حوله ألوفاً ، وسنستعيده مرة أخرى مهما كانت التضحيات  وسيكون مصير الفراعنة الجدد مصير الفراعنة القدامى ، وأما ما يشاع بأن الجيش اليهودي قوة لا تقهر من قبل العرب هذه الأيام ، فهي شائعة ليست بغريبة على المسلمين  فقد روى التاريخ قديماً أن هذه الشائعة انطلقت بين أيدي التتار الذين أغاروا على العالم الإسلامي  واسقطوا الخلافة العباسية ، ودمروا في النفوس أن الجيش التتاري لا يهزم ، وفي معركة عين جالوت سقطت قصة الجيش الذي لا يقهر وها هو التاريخ يعيد نفسه اليوم ، والمحاولات جارية لإشعارنا أن اليهود اليوم هم تتار الأمس الذين سفكوا وأهلكوا ولم يقفهم أحد .

والواقع أن اليهود أقل وأذل من أن ينهضوا بهذا الدور ، وإن الدول الكبرى يساعدها عملاء من أبناء المسلمين ، هي التي تريد توكيد هذه الخرافة  وهي تتدخل سافرة لترجيح كفتهم ، حتى يظلوا شبحاً مرعباً في المنطقة التي نكبب بهم  وإن الغفلة أو التغافل عن استرجاع ما ضاع من الأرض والمقدسات من يد اليهود ، جريمة دينية وتاريخية ضخمة .

آلمني أن هناك نزعة مجنونة تشغل العرب بقضاياهم الخاصة أو خدمةً لجهات أخرى تحبس تفكيرهم واهتمامهم عما يمس الأمة ، بل وتصرفهم عن مشكلاتها الأساسية ، حتى إن المتتبع للأخبار أٌصيب بالإحباط وخيبة الأمل ، لأنه شعر بأن ما يجري على الساحة لا يقلقهم ولا يحرك ضميرهم  علماً بأن السكوت في هذه الحالة يعتبر خيانة وطعنة نافذة تصيب الإسلام ، في يومه وغده وتهدد الأمة بالتمزُق والخسران .

ويا ليت العرب يعتبروا ويفكروا ولو للحظة ، بما كسبوه من ترك التناصر بالإسلام ، إنهم خسروا بل ضلوا وأضلوا وضاعوا وأضاعوا في غمرة التحدي اليهودي ، و يا ليتهم يتأسوا بالجيل المحمدي الذي ألان القلوب له وأخلص النبات  فاندكت أمامه حصون  الباطل  ولكن العرب نسوا مَعقِد شرفهم وعروة مجدهم ، وظنوا أنهم بغير الإسلام يمكن أن يكونوا شيئاً ، وأنهم بعيداً عن الإسلام لن يكونوا إلا حطب جهنم  . فلماذا لا يتنادى ولاة الأمر على حمل راية الجهاد  لماذا يغالون بالتمسك بقرارات السلام في وقت تعمد إسرائيل إلى نسف عملية السلام وحرب العزّل من المسلمين دون خوف  ولا وجل ، على حين يخجل رؤساء العرب من التنادي بالجهاد الذي حمل لواءه رسولنا صلى الله عليه وسلم وصحابته والتابعين ومن تبعهم . لقد أصبح قرار ساستنا وقادتنا المطالبة بالحل السلمي ، واستبعاد فكرة الحرب وفق مشيئة إسرائيل ، وهو عندهم غاية المراد من الجهد والجهاد ، وغدا استجدائنا للحلول المخزية هو سبب استعلاء إسرائيل وغطرستها ، وغرورها الذي يدفعها دفعاً الى مزيدٍ من المساومة والمراوغة والتلكؤ ، حتى تتملص نهائياً وتواجهنا بالأمر الواقع ودوام الاحتلال ، كما أصابنا سنة  1948 وما بعدها .

إنه منطق الجهالة العمياء والعمالة والنكوص عن الجهاد ، وإن جيوشنا من خيرة جيوش الأرض إذا تمسكت بدينها ورزقت القيادة الصالحة ، لكن العرب هزمتهم أزمة الإيمان في قلوبهم ، ففتكت بهم فوضاهم الداخلية قبل أن يفتك بهم الأعداء  وهذا المصير الحقير هو ما خطط له الاستعمار الضائق بالقرآن ومنهج الإسلام فصنع أجيال الهزيمة ، بدل أن نصنع أجيال النصر التي لا يصنعها قوم انحلوا عن دينهم وتنكروا لتاريخهم .

إن المتأمل في هزائمنا المتلاحقة أمام اليهود في الماضي والحاضر ، ليشعر بأن المستعمر وأدواته في المنطقة قد حقق مراده وفق ما يشتهي ، وأن ما غرسه في بلادنا قد أتى ثماره المرّة كلها ، وأن جهوده الماكرة منذ استعمر هذه البلاد والعقول لم تضع سدى ، لقد عملوا على تهميش موضوع الجهاد والتنادي به لقتال الأعداء ، والتجهيل في آياته ومحاولة حصرها في ركن بعيد عن الأضواء لتتلاشى على مرّ الأيام ، وما لمسناه هذه الأيام من القرارات التي اتخذت ، ليدل على أن ما مهد إليه أعداؤنا قد ساق الأمور إليه وبالقاعدة التي ساروا عليها منذ قديم الزمان ، وهي إن احتاج الأمر إلى المكر لانوا وإن احتاج إلى  القسوة بطشوا ، وهم في اللين يدّسون السموم ، وفي الشدة يحترفون الهمجية والجبروت وفي كلتا الحالتين لا يناموا عن غايتهم الأساسية ، في يناء مجتمعات منسلخة عن الإسلام مرتدة عن هديه في كل مناحي الحياة .

إن ما سمعناه من أخبار هذه الأيام لتدل على أنهم وصلوا إلى غايتهم المنشودة ، وهي تركيع الأمة أمام إسرائيل ، حتى خافوا من التعرض لذكر الحرب بحجة أنهم طلاب سلام وحق لهم ذلك لأنهم من عباد الشهوات في هذه الحياة الدنيا ، لذا لا ولن يرقى مستواهم إلى منـزلة المجاهدين   ويا ليتهم وقفوا عند حد التقاعس عن الجهاد   بل راحوا يعملون على إفهام الناس بأن الجهاد والحرب مع إسرائيل ، ليس وسيلة ناجحة باسم الحاجة إلى السلام ، الذي لن يتحقق لهم ماداموا بعيدين عن دينهم .

إننا ما دمنا في فراغ الجو من الإيمان الباعث على الحركة ، فليبس غريباً أن نجد ناساً ثرثرتهم أكثر من إنتاجهم ، ودعاواهم أكثر من حقائقهم  وشهواتهم ملك لأزمَّتِهم ، مما أوصلنا إلى هذه الهزائم المخزية التي نكَّست رؤوسنا ، وفي غمرة هذا نرى أقواماً يضحكون ولا يبكون ، مع أنه ينبغي أن تكون الجباة مقطَّبة والشفاه مزمومة  ولكن ما نسمعه من الأخبار المزعجة من دعاة الهزيمة ، الذين يلتمسون لحل المشاكل التي نعاني ألف دواء ودواء إلا دواءها الصحيح وهو الجهاد  الذي اجتهد الاستعمار خلال قرون يعوِّدنا على تركه  . أما قانون المؤمنين فهو رفضٌ للمذلة  وإباءٌ على الهوان ، ثم ثارٌ للكرامة مهما غلت التضحيات ، وإيمانٌ بما أمر الله به من جهادٍ في سبيله لا يقعد عنه إلا من ضُربت عليه المسكنة  وباء بخزي الدنيا وعذاب الآخرة .

                 

 

المسلمين بين الأمس واليوم

بعد غياب حكم الإسلام وسلطانه ودولته ، تاهت الأمة وتقطعت بها السبل  وصارت الرعاية فيها لدول الكفر وعملائها في بلاد الإسلام ، حتى أصبح المسلم يحس بأن أرض الإسلام صارت غريبة بما عليها من دول لا تقوى على قول لا للعدو ، لأنها وصلت إلى درجة كبيرة من الذل والهزيمة والخنوع ، والتهتك والتفكك ، والفساد والإلحاد ، ولانهزام والفجور ، مما جعلها غرضاً سهلاً ، وهدفاً هشاً للأعداء ، الذين كانوا يخشونها يوم كانت جيوشها  تدك قواعد الظلم والعدوان ، وعندما استنوق الجمل استأسد الحمل وتغير الحال ، فلا نرى إلا المواقف الهزيلة   والاستنكارات الفارغة ، التي لا تدفع  أذاً  ولا تحرر أرضاً ولا تردع عدواً ولا ترد كرامة .

 فيوم كان للمسلمين جيوش تجاهد تحت راية لا إله إلا الله  ، كانت لها العزة والمنعة والقوة  ويوم دعى ولاة أمور المسلمين إلى إسدال الستار على باب الجهاد   وصلوا إلى ما نرى من الذل والهوان وتاهوا عن قضيتهم ، وحُكموا بأنظمة الكفر وفقدوا الدور والوزن السياسي في حلبة الصراع الدولي ، فأصبحوا تابعين بعد أن كانوا سادة العالم أجمعين  .

وحدث ولا حرج عن التردي الاقتصادي والتخلف التقني والترهل الإداري  وتراجع المستوى المعيشي على مرأى ومسمع المسئولين عن مقدرات هذه الأمة   وحتى ندرك الفرق بين ما كانت فيه الأمة وما آلت إليه ، نستحضر الصور المشرقة لأولئك الرجال الذين سطروا مواقفهم الخالدة بأحرف من نور ، فكانوا حقاً حملة دعوة ورجال دولة في جميع المجالات  .

فهذا سعد بن أبي وقاص بعد أن فُتحت المدائن وهُزمت جيوش فارس ، أرسل رسله تحمل بشرى النصر ومعها الغنائم إلى عمر بن الخطاب ، الذي لما رأى الغنائم التي كان فيها تاج كسرى المرصع بالدرر ، وثيابه المنسوجة بخيوط الذهب ، ووشاحه المرصع بالجواهر ، وسواره اللذان لم تر العين مثلهما قط ، وما لا حصر له من النفائس الأخرى ، جعل عمر يقلب هذا الكنـز الثمين بقضيب كان بيده ، ثم التفت إلى من حوله وقال : إن قوماً أدوا هذا لبيت المال لأمناء   فقال على بن أبي طالب وكان حاضراً : إنك عففت فعفت رعيتك يا أمير المؤمنين ، ولو رتعت لرتعوا . وهنا دعا الفاروق سراقة بن مالك  ، فالبسه قميص كسرى وسرواله وقباءه وخفيه ، وقلده سيفه ومنطقته ووضع على رأسه تاجه والبسه سواريه ، عند ذلك لما رأى المسلمون كيف أنجز الله لنبيه وعده الذي وعده لسراقة وهو مهاجر هارب مطلوب ، هتف المسلمون الله أكبر الله أكبر ثم التفت عمر إلى سراقة وقال : بخٍ بخٍ أعرابي من بني مدلج على رأسه تاج كسرى وفي يديه سواريه ، ثم رفع رأسه إلى السماء وقال : اللهم إنك منعت هذا المال رسولك ، وكان أحب إليك مني وأكرم عليك ، ومنعته أبا بكر وكان أحب إليك مني وأكرم عليك ، وأعطيتنيه لتمكر بي ، ثم لم يقم من مجلسه حتى قسمه بين المسلمين . إن شعوب المسلمين هذه الأيام تتعرض لأقسى عمليات النهب والسلب لثرواتها ، وشعوبها تعاني ما نعاني من الضيق وشظف العيش ، وفئة قليلة تتمتع بأعلى مستوى من رغد العيش ، والأموال في أرصدتهم بالمليارات ، والبقية الباقية تعيش ارتفاع الأسعار التي طالت كل ضروري من ضروريات الحياة . روى البخاري ومسلم عن أبي حميد الساعدي قال : استعمل رجلاً من بني أسد على الصدقة  فلما قدم إلى بيت المال قال : هذا لكم وهذا أهدي إليّ فقام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : (ما بال العامل نبعثه فيأتي يقول هذا لكم وهذا أهدى إلىّ  فهلا جلس في بيت أبيه وأمه فنظر أيهدى له أم لا ؟ والذي نفس محمد بيده لا ينال أحد منكم منها شيئاً إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه ) . لقد علمنا رسول الله كيف يكون رجل الدولة الذي لا يرغب بنفسه عن نفوس الناس في كل مجالات الحياة حتى في القضاء ، ابتاع عمر بن الخطاب فرساً من أعرابي ، ونقده ثمنه ثم امتطاه فلم يمض عمر بعيداً حتى ظهر له به عيب ، فعاد للرجل وقال له : خذ فرسك فإنه معطوب ، فقال الرجل : يحكم بيننا شريح بن الحارث الكندي ، فقال عمر : رضيت به فلما سمع شريح مقالة الأعرابي   التفت إلى عمر وقال : هل أخذت الفرس سليماً صحيحاً يا أمير المؤمنين ؟ فقال : نعم ، فقال لعمر : إذن احتفظ بما اشتريت يا أمير المؤمنين أو رد كما أخذت ، فنظر عمر إلى شريح معجباً . وقال : وهل القضاء إلا هكذا قول فصل وحكم عدل ، سر إلى الكوفة فقد وليتك قضاءها  فظل شريح يقضي بعدها ستين عاماً بلا انقطاع ، حتى استعفى وعمره مائة وسبع سنوات . 

دعا الوالي  ابن هبيره كلاً من الحسن البصري سيد التابعين والشعبي وقال لهما : إن الخليفة يزيد بن عبد الملك قد استخلفه لله على عباده ، وأوجب طاعته على الناس وقد ولاني يزيد على العراق  وهو يراسلني أحياناً لتنفيذ مالا أطمئن لعدالته ، فهل تجدان لي رخصة في ذلك ؟ فأجاب العالم الشعبي جواباً فيه ملاطفة للخليفة ومسايره للوالي  والحسن البصري ساكت ، فالتفت إليه ابن هبيره وقال له : ما تقول أنت يا أبا سعيد ؟ فقال : يا ابن هبيره خف الله في يزيد ولا تخف يزيد في الله ، واعلم أن الله عز وجل يمنعك من يزيد وأن يزيد لا يمنعك من الله   يا ابن هبيره  إنه يوشك أن ينـزل بك ملك غليظ شديد لا يعصي لله ما أمره  فيزيلك عن سريرك هذا ، وينقلك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك ، حيث لا تجد هناك يزيد ، يا ابن هبيره إنك إن تكُ مع الله تعالى وفي طاعته يكفيك الله بائقة يزيد وأذاه في الدنيا والآخرة   وإن تك مع يزيد في معصيته الله ، فإن الله يكلك إلى يزيد ، وأعلم يا ابن هبيره ، انه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، فمال ابن هبيره عن الشعبي وبالغ في تكريم الحسن البصري ، فقال الشعبي والله ما قال الحسن قولاً أجهله ، ولكني أردت فيما قلت وجه ابن هبيره ، وأراد الحسن وجه الله ، فأقصاني الله ابن هبيره وأدناه منه . أين الرجال من أشباه الرجال ، وأين أولئك العلماء من العلماء الذين باعوا أخرتهم بدنيا غيرهم . فلو كان هناك إحساس بأن الأمة تحاسب على كل صغيرة وكبيرة وتقوم بواجبها الشرعي في المحاسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لما تمادى الظلمة في غيِّهم وطغيانهم ولكنهم وجدوا الأمة مخدَّرة لا مبالية فطمعوا وطّمعوا الأعداء ، فحصل ما نراه ونلمسه من مصائب ، والذي لن يدوم إن شاء الله . لقد رفعنا كلَّ الشعارات هذه الأيام ، إلا شعار الجهاد لتحرير ما سلب من البلاد والمقدسات ، وأصبحنا نلمس أن الأمة مخدرة منهوكة ، وكأنها أُعدت للهزيمة والعار ، حتى فقدت النخوة والأمل والقدرة على الإحساس بالذل ، و أصبحت عاجزة لا إيمان ولا قيادة ولا إعداد ، حتى أن القائمين على أمرها ، نسجوا من الهزيمة أساطير النصر، رغم الواقع الأسود الذي يحمل في طياته الخزي والعار ، ولا أدل على ذلك من أن العدو يعتقل ويقتل ، والسكوت يخيم على قادة الأمة وزعمائها ، وكأن الذين يُقْتلون ويُجْرحون  ليسوا من جلدتنا ولا من بني ديننا ، علماً بأنه لا توجدُ شريعة من الشرائع   ولا سنة من السنن ، تجيز الاعتداء على الإنسان الآمن في بيته  فيفجعُ فيه أهله لا لشيء إلا لأن الرأي العالمي ، يقف مع القوي ضد الضعيف   

 ومن هنا جاء الإسلام ، ليقضي على مثل هذه الهمجية والوحشية  التي يزعمون بأنها حق لهم  فشرع الجهاد لتحقق هذه الغاية  ليدفع  الظلم والجور  ويستل من القلوب الأحقاد ، ثم يملأها بعد ذلك محبةً ورحمةً ، ليعيش الناس في سعادة وهناء ، لا ليقتلوا الأبرياء العزّل ، بدافع  الغطرسة والانتقام .                                                                                     

إننا لم  نتعظ ولم نستيقظ من نومنا ، حتى ساوم الانهزاميون والانتهازيون والمتآمرون على قدر الأمة وشرفها ومصيرها ، وليس ذلك بمستغرب ، لأن من فرّط بإيمانه بربه   يسهلُ عليه إن يفرَّط في أرضه وعرضه وشرفه وحريته ، حتى أصبحنا لا نستبعد ، أن العدو زرع في كل بلدٍ وكالةً ، بأسماء عربية وأقلام عربية ، مهمتها إيقاظ الفتن وبث الفساد وتمزيق شمل الأمة ، وتفتيت خلفيتها الدينية  وتدمير قاعدتها الفكرية .

إننا حين تنكرنا لعقيدتنا ، هُزِمنا في معاركنا شرَّ هزيمة  هزمونا بهويتهم الزائفة ، حين أنكرنا هويتنا الأصلية  وسلكنا طريق الهتاف والتصفيق ، وتبرير الظلم والهزيمة  وتمجيد الظالمين وغض الطرف عن أخطاء الحاكمين والمحتلين ، الذين ينسجون خيوط المؤامرات  فوق أراضينا وبين صفوفنا  عملاءً للعدو، وآذاناً صاغية لهم عندها استهان بنا عدونا وعمل ويعمل على قهرنا وإذلالنا ، وسلبنا حقوقنا ، والاستيلاء على مقدراتنا .

تعست أمةٌ تقود نفسها ليسفك دمها ، وتسفح كرامتها على مذابح الشهوات ، إنها لن تقوم لها قائمة إلا إذا وجد فيها من يحترم دينه ، ويتخذ القرآن منهاج حياة ، ويجعل الجهاد والاستشهاد سبيلاً يؤدي إلى الفوز بإحدى الحسنيين النصر أو الشهادة ، ويكون شعاره احرص على الموت توهب لك الحياة .

إن تحقيق ذلك ليس أمراً سهلاً ، وسيخوضه المؤمنون رغم كل العقبات التي تواجههم ، حتى يتم التمكين لهذا الدين من جديد وتزول الغربة الثانية التي اخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدا ، فطوبى للغرباء ) .

           

 

 

 

تهديدات الأعداء لبلاد الإسلام

قال تعالى : ﴿ كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلاً ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبُهم وأكثرُهم فاسقون﴾ التوبة 8 . إن ما يجري على الساحة هذه الأيام ليس بغريب ، لأن أعداءنا يتعاملون معنا بمنطق القوه والجبروت ، فلا يجوز لنا أن نعارض أو نناقش القرارات الدولية  بينما غيرنا يضرب بها عَرْضَ الحائط , ولا يُلْقي لها بالا, ونحن علينا أن نقبل بها , ونحترمها ونطبقها وإلا تعرضنا لأشدِّ العقوبات . لأننا ضُعفاء وهم أقوياء , ضُعفاء لأننا تخلينا عن ديننا وعقيدتنا  وهذا ما أخبرنا به الحق سبحانه  بقوله : ﴿ كيف وإن يظهروا عليكم ﴾ . إنهم لا يعاهدونا إلا في حالة عجزنا ، وعندما تكون لهم الغلبة والقوه يفعلون الأفاعيل من  غير مراعاةٍ لعهدٍ قائم ، إنهم لا يقفون عند حد التنكيل  بل يوجهون حقدهم وانتقامهم للمسلمين ، لأن صفة الاعتداء أصيلة فيهم , تبدأ من  نقطة كرههم للإسلام , وتنتهي بالوقوف في وجهه .

إن العالم اليوم ينقسم إلى كتلتين : أمريكا في كفة وبقية العلم في كفة ، هذا ما يبدو لنا ، وما يعتقده عامة الناس ، لكن الحقيقة أنه انقسامٌ ظاهري لا حقيقي  وأنه انقسامٌ على المصالح لا على المبادئ ، وأنه صراعٌ على السلع والأسواق لا على العقائد والأفكار ، فطبيعة التفكير الأمريكي الأوروبي ، لا تفترق في حقيقتها عن طبيعة التفكير الروسي ، كلتاهما تقوم على تحكيم الفكرة المادية للحياة ، فلا اختلاف في طبيعة التفكير ، إنما الاختلاف في الظروف الاقتصادية والاجتماعية ولا يخدعنا أن نرى الصراع عنيفاً وقوياً بين الشرق والغرب ، إنهما لا يتنازعان على مبدأ أو فكرة  إنما يتنازعان النفوذ في العالم  والربح في الأسواق  ونحن هذه الأسواق . إن الصراع الحقيقي هو بين النظام الذي يجعل العبودية لله وحده ، ويخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد وهو الإسلام ، وبين سائر الأنظمة التي تقوم على أساس عبودية العباد للعباد ، لأن الإسلام هو القوة الحقيقية التي تقف لقوة الفكرة المادية ، التي تدين بها أوروبا وأمريكا وروسيا والصين على السواء ، وان هذه الدول مجتمعةً ، رغم ما بينها من منافسات ومن متناقضات  تعمل على حرب الإسلام في كل مكان .

والسؤال الذي يَطْرَحُ نفسه , ما هو الحل وما العلاج؟ إنه بالرجوع إلى منهج الله ، وإعداد العدة  وإعلان الجهاد تحت راية الإسلام , وعندها تكون الغلبة للإسلام  . وهناك خطر آخر أشد  من خطر الأعداء الأقوياء  انه في  الأتْباع السذَّج   الذين يقبلون من أعداء الله أن يَتَتَرْسَ بلافتةٍ خادعةٍ من الإسلام   بينما يرمون الإسلام من وراء هذه اللافتة الخادعة , مما يُمَكِّنُ الأعداء من الهيمنة على الإسلام والمسلمين ومن هنا خاطب الله كلّ ذي عقيدة , بالتهديد والوعيد فقال تعالى:{إلا تنفروا يعذبكم عذاباً  أليما  ويستبدل قوماً غيركم ولا تضروه شيئا}التوبة 34 . ليس العذاب الذي يتهدد هم عذاب الآخرة  وحده ، إنه كذلك عذاب الدنيا , إنه عذاب الذلة التي تُصيبُ القاعدين عن الجهاد , وما من أمةٍ تركت الجهاد , إلا  ضرب الله عليها الذل ، تدفع مرغمه صاغرة  أضعاف ما كان يتطلب منها جهاد الأعداء , إنها ضريبة الذل ، يؤدونها من نفوسهم وأقدارهم وسمعتهم ، ومن اطمئنانهم  وفي هذا يقول الله سبحانه : ﴿أولئك الذين طبع الله على قلوبهم فهم لا يفقهون ﴾ النحل 108 .

إن المسلمين يواجهون في هذا العصر أعداءً يتربصون بهم الدوائر ، ولا  يقعدون عن  الفتك بهم بلا شفقة ولا رحمة إلا إذا عجزوا عن ذلك هم أئمة  الكفرِ لا أيمان لهم ولا عهود ,  إنهم حرب على دين الله اعتقاداً وسلوكاً , حرب على المسلمين , لأنهم لا  يريدون للإسلام أن يحكم  ولا يطيقون ذلك , لأن الإسلام حين يحكم سَيُنْشِئُ الشعوب نشأةً أخرى , وسًيُعلِّمُ الشعوب أن إعداد القوة  فريضة لاستعادة كرامة المسلمين  وإلا فما معنى  صمت الأمة على هذه المذلة  والذي سيزيد من عجرفة الأعداء ورفضهم لكل نوايا السلام المزعوم .

إن الله عزّ وجل يأمر بنصر الحق ، ومجاهدة الكافرين بالنفس والنفيس , ويوصي عباده ألا يستكينوا للظلم , ويحرضهم على مقابلةِ العدوان بمثله قال تعالى:﴿ فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ﴾ البقرة 194 .

إن على المسلمين ألا يتركوا الضلال يستكبر  ولا يجد من يقمعه ويردعه , وإن الإيمان والإرادة الصادقة ، أقوى من أسلحتهم وأدوات دمارهم  فلم التخاذل والجبن . إن رسالة الله أعزّ في حقيقتها واعزُّ لدى حملتها  من أن تضعف أمام الباطل . ولهذا نجد أن الآية القرآنية : ﴿ وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى  التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين ﴾ البقرة 195 . هذه الآية  تمتاز بأنها تضمنت تهديداً خطيراً ، لمن يَجْبُنُ عن الجهاد ويبخل عن النفقة ، فالآية اعتبرت الفارّ بنفسه وماله ، ملقياً بنفسه وماله في الهلاك ، وأشارت إلى أن الأمة التي تتراجع عن المواقف الواجبة في ميدان الجهاد والاستشهاد  أمةٌ لا تلبث قليلاً حتى تذل وتخزى . إنه نداء للامةِ بردِ العدوان , والبذل في سبيل الحق  وإلا فالتسليم للعدوان ، والشحُّ  بالأموال طريق الضياع  والفناء والتهلكة , فلا تلقوا بأيديكم إليها . ألا ليت المسلمين يدركون هذه السنة في ازدهار الأمم واندثارها , لا سيما و هم مع اليهود والصليبين ، في حرب حياةٍ أو ممات , غير أن فريقاً  من المسلمين ظلم هذه الآية  أقبح  ظلم وفهمها  أغبى فهم ، وظن أن  الله يقول لعباده احرصوا على أعماركم فلا تعرضوها للاستشهاد في سبيل الله , وبهذا لا يكفيهم أنهم عصوا  الله وخالفوا أمره معرضين عن الجهاد , حتى ذهبوا يتلمسون الفتاوى لمعاصيهم وتخاذلهم ، ومواقفهم المخزية المخالفة  لشرع الله . إن أعداء الله وأعداء الحق لا يخلو منهم جيل  ,  ولئن كان الهجوم المسلح غير مطلوب ديناً كما يزعمون , فان السلم المسلح من أركان ديننا وصلب عقيدتنا .

لذا يجب على الأمة أن تأخذ أهبتها كاملة  فلا تبخل على عُدد الحرب بمال , وأن تبقى على حذر واستعداد , فإذا بوغتت ردت المعتدين وهي عزيزة قادرة . أما الأمة التي تنام على تفريط وتضنُ على حماية نفسها ورسالتها بالأرواح والأموال ، فهي لاشك هالكة في عالم لسان حاله " إن لم تكن ذئباً وإلا أكلتك الذئاب" . إن الإسلام ليس مجموعةً  من  الوصايا  الخلقية والعبادات  الشخصية وانتهى الأمر , إنه  نظامٌ شاملٌ للتحرر السياسي , والعدل الاجتماعي  وضمان  وثيق لحقوق الإنسان وكرامات الأمم . وإذا كان لصلاح النفس  حجر الزاوية في  كل دين فأن الإسلام ينشئ هذا الصلاح إنشاءً عن طريق خلق البيئة الفاضلة , ولا ننسى أن الحكم  في  نظر الإسلام أداةً  مهمةً من أدوات هذا التكوين العام  فإذا نسيَ وظيفته أو فرط فيها  كان مصدر خلل في الكيان الإسلامي.

إن هوان المسلمين في هذا العصر ، راجعاً إلى النتيجة الحتمية لفساد كثير من أنظمة الحكم القائمةِ في بلادهم .

إن الأمم أثبت من الدول ، وإن الجاهل أعدى على أمته من أعدى أعدائها , وما نكب الإسلام قط من حرب صليبية أو استعماريةٍ ، كما نكب من أبنائه الجهلاء , ومهما يكن الخطر فالجهل من أخطر الأخطار , فإن بقي للإسلام أيمانه والمؤمنون به على هدى وبصيرة , فلا خطر عليه من أقوياء اليوم مهما بلغوا من العدة والتقدم التقني ، وأخطر من كل الأخطار أن تتخلف مكانة العلم والبصيرة ، وتتقدم  مكانة الجهل والغباء ، وهذا  ما  يلاحظ عند قطاع كبير من المسلمين ، الذين يركزون على السنن والمندوبات والمستحبات في الدين ، حيث يحتدم الجدل  على التحريم والتحليل ، وقد  تطول الأقاويل وتتشعب  فيما لا داعي له ولا أهميه في صلب العقيدة .

 أنا لا أُمانع في البحث في الحلال والحرام في تلك الأمور ، ولا فيما هو  صحيح أو باطل في عقائد المعتقدين ، لكني أقول بأنه إذا بذل في هذه الجانبيات من الجهد فوق حقه ، وأضعاف حظه   فذلك لعمري الخطر الأكبر ، والطيبون أو السذج  البسطاء ، الذين يأخذون بسفاسف الأمور ويعيشون في دوامة  الأفكار الغربية ، التي تمنعهم من رؤية العلاج ، هؤلاء وأمثالهم سوف يستمر ضلالهم إذا استمر هذا الجدل حول هذه الأمور .

إن الفساد في هذه الأنظمة ، يرجع إلى البعد عن منهج الله ، والحكم بما أنزل الله , لأن كل حكم غير حكم الله لا بد وأن يكون  طاغوتاً مسلطاً على رقاب العباد , لأن الفساد في بنية النظام ذاته  لا في الأداة المنفذة له ، ولا في وسائل التنفيذ  والعلاج يكمن في تغير النظام من أساسه بالرجوع إلى منهج الله دون سواه قال تعالى : ﴿ وأن احكم بينهم بما أنزل الله ﴾ ومن هنا لا يمكن لدول الكفر التنازل عن سلطانها ، وإتاحة الفرصة لأمة الإسلام أن تسلبها  ذلك السلطان ، ولا يمكن بحال من الأحوال أن تتيح لنا أيَّ عمل يتعارض مع  مصلحتها ، أو يسلبها سلطة تشريعها ، كلا لن يحدث ذلك قط ، إلا بالرجوع إلى شريعة الله كمنهج للتغيير قال تعالى : ﴿ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ﴾ الرعد 11 .  

  

 

 

تدمير الأعداء في تدبيرهم

إن المعركة مع الإسلام ليست بالسهولة التي تريدها الصليبية الناقمة  والصهيونية الحاقدة التي تعمل على تدميرنا من الداخل وستكشف لنا الأيام بما لا يدع مجالاً للشك بأن الأحداث التي حصلت ما هي في حقيقتها إلا لإيجاد المبرر لضرب الإسلام والمسلمين . لقد برزت نظرية نتيجة أحداث الحادي عشر من أيلول تقول : بأن الموساد والحكومة الإسرائيلية وضعوا هذا المخطط للإضرار بالمصالح العربية والإسلامية عالمياً ، وهذا ما برز في موضع الحوار الخاص بصحيفة اندبندنت ، إذ كتب أحد المشاركين بأن ما حدث في 11 سبتمبر 2001م هو عمل من أعمال العنف العشوائي ، والسبب الخفي عدم ادعاء أي أحد في العالم الإسلامي مسؤولية القيام بذلك العمل وأنهم لم يقوموا به  وقد يكون العرب استخدموا كبيادق .

وسمعنا عن رواية تقول : إن الحكومة الإسرائيلية أحظرت سرياً 4000 إسرائيلي يعملون في منهاتن بالابتعاد عن ذلك المكان في يوم الاعتداءات  ، غير أن هذه الرواية أفشلها حقيقة وقوع عدد كبير من الإسرائيليين ضحايا في الكارثة التي ألمت بمركز التجارة العالمي ويقول روبين رامزي الكاتب البريطاني الذي ألف كتاباً حول نظريات المؤامرة تشير الرسائل الإلكترونية التي تتداول حالياً بخصوص مركز التجارة العالمي إلى أنه يشبه حريق الرايشتاغ ، وطبقاً لهذه النظرية فإن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية خططت لذلك العمل الإرهابي ، وذلك حتى تقوم إدارة الرئيس بوش بأنهاء الحريات المدنية ، وقد وجدت هذه الفكرة قبولا كبيراً بصفة خاصة لدى من يعتقدون أن حادثي واكو بولاية تكساس وتفجيرات أوكلاهوما سيتي خططت لهما الحكومة الأمريكية وقد أعلن الأمريكي شيرمان سلولنيك أحد منظري المؤامرات ، أن الحكومة الأمريكية كانت تعلم بتلك الاعتداءات ، وان المخابرات الأمريكية أبلغت كذلك قبل الاعتداءات الإرهابية التي تحدد لها يوم 911 رمز الطوارئ ورمز 11 سبتمبر 2001 يوم الطوارئ.

وقد ورد في موقع كونفورميست على الإنترنت  وهو موقع أمريكي متخصص في نظرية المؤامرة بأن الدليل على تورط عرب أصوليين في تلك الاعتداءات لا يقوم على أي أساس   ففي يوم السبت وبعد أيام فقط من الهجوم ، أعلنوا أنهم وجدوا بين مخلفات مركز التجارة العالمي جواز سفر أحد الإرهابيين ، ونحن شهدنا على التلفاز كيف اندلعت النار وأنها كانت من الشدة بحيث أذابت حديد المبنى وحولته إلى معدن سائل . والسؤال هنا كيف نجا جواز السفر بعد أن فتشوا 20 ألف طن من الأنقاض من أجمالي 104 مليون طن ؟ الجواب ببساطة كمن مد يده في كومة من القش فالتقط الإبرة الموجودة فيه .

وهناك رواية تذكر بأن الطائرتين وحدهما لا يمكنهما إحداث انهيار البرجين ، فمن الصعوبة تصديق رواية انهيار المبنيين من أعلى إلى أسفل  لأنه يبدو أن الطريقة التي أنهار بها قد تم بطريقة مهنية دقيقة ، بوضع متفجرات تحت كل عمود فيها .

وقد ترددت إشاعات بوجود علم مسبق بالأمر  لما روي أن جندياً في الأسطول الأمريكي يعمل على متن إحدى حاملات الطائرات ، اتصل هاتفياً بأسرته في أمريكا قبل وقت الحادث ينبه بأن أمراً مهماً في طريقه للوقوع في منطقة حضرية كبرى . لقد ذكرت هذه الملاحظات لأننا لا نستطيع مقاومة هذه المؤامرة إلا بمعرفة أبعادها أولاً واعتماد الجهاد في سبيل الله طريقاً لمقاومة هذا الاعتداء ثانياً ، لكن ما أنزله الأعداء بالمسلمين من هزيمة يضعنا أمام تحدٍ مخيف ، حتى اعتقد ضعفاء الإيمان أن معركتنا معهم خاسرة ، ناسين أننا أضفنا إلى استعدادهم استعداداً آخر ، وهو تنكرنا لمبادئنا وعقيدتنا وتآمرنا على ديننا مع المتآمرين ، وإذا لم يع المسلمون أبعاد هذه المؤامرة ولم يدركوا أهدافها ومراميها  فإن رواد الخير وطلائع الحق لن تفتر لهم همة ولن يعتريهم وهن  شعارهم الجهاد لإعلاء كلمة الله ، ولن ييأسوا من رحمة الله رغم  هذا الواقع الميئس  وهذا الوقت الطويل الذي يقطع الرجاء من هزيمة هذه القوة القاهرة للمسلمين بما تملكه من أسلحة متطورة  وحتى الحديث عن النصر على هذه القوة ، يقابل بالاستنكار أمام ما يجري على أرض الواقع ، إلا أن هذا لا يؤثر في إيمان المؤمن بنصر الله وتوفيقه  وهذه هي قيمة الإيمان بالله بعدم اليأس من روح الله ، ولوا أحاط بالمؤمنين الكرب واشتد بهم الضيق ، وهو ما أخبرنا به الله في قوله : ﴿ إنه لا ييأس من رَوْحِ اللهِ إلا القومُ الكافرون ﴾ يوسف 78 .  إننا نمر في وقت حرج طغى فيه الباطل وبغى  وبطش وغدر  حتى داخل كثير من النفوس عدم الرجاء في نصر الله ، لأن الشدة والحرج والضيق الذي يمرون به بلغ حداً لا يطيقه البشر العادي  وقد شعرت بقشعريرة من رؤية هذا الكرب المزلزل وما نحس به من ألم لا يطاق ، عندما قرأت قوله تعالى : ﴿ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلهم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ﴾ . وهو لسان حالنا هذه الأيام ، إنها اللحظة التي يستحكم فيها الكرب ويأخذ فيها الضيق بمخانق الرجال ، عندها يجيء نصر الله حاسماً فاصلاً قال تعالى : ﴿  حتى إذا استَيْئَس الرُسُلُ وظنوا أنهم قد كُذِبُوا جاءهم نصرُنا فَنُجِّى مَنْ نشاء ولا يُرَدُ بأسُنا عن القومِ المجرمين  ﴾ يوسف 110 .

إنها سنة الله فلا بد من الشدائد ولا بد من الكروب ، حتى لا تبقى بقية من جهد ولا بقية من طاقة ، ثم يجيء النصر بعد اليأس من كل أسبابه الظاهرة ، التي يتعلق بها الناس يجيء النصر من عند الله ، فينجو الناس من البطش والتعسف الذي يلاقوه من المتجبرين ويحل بأس الله بالمجرمين مدمراً ماحقاً لا يصده عنهم وليٌ ولا نصير ، وإذا كان هذا كائناً بدليل النص القرآني ، فلماذا يعمد كبراء الأمة إلى تضليل شعوبهم ، باتخاذ الأنداد من دون الله ولماذا يسلمون القيادة لمن يتلقون شرائعهم من أهواء البشر لا من وحي الله ؟ ولماذا هذا الخضوع والخنوع والخوف منهم ومن قوتهم ومكرهم الذي سيأخذهم الله به مهما يكن من العنف والتدبير ؟ قال تعالى : ﴿ وقد مكروا مكرهم وعند الله مكْرُهُمْ وإن كان مكْرُهُم لِتَزولَ منه الجبال ﴾ إبراهيم 45 .  إن الله محيط بهم وبمكرهم وإن كان مكرهم من القوة والتأثير حتى ليؤدي إلى زوال الجبال أثقل شيء وأصلب شيء وأبعد شيء عن تصور التحرك والزوال  فمكرهم هذا ليس مجهولاً وليس خافياً وليس بعيداً عن متناول القدرة ، فهو حاضر عند الله يفعل به كيف يشاء وصدق الله : ﴿ فلا تحسبن الله مخلف وعدِه رُسُلَه إن الله عزيز ذو انتقام ﴾ إبراهيم 46. ومن يشعروا بالفشل والخيبة إذا رأوا قدر الله يبطئ بهم عن الغلب الظاهر والتمكين في الأرض ، ندعوهم لدراسة تاريخ الأمم القوية الغنية ، كيف انتقص الله من قوتها وقدرتها  فهزمت أمام الحق وأنصاره ، والأمم اليوم ليسوا بأشد مكراً ولا تدبيراً ولا كيدا ممن كان قبلهم فأخذهم الله وهو أحكم تدبيراً وأعظم كيداً قال تعالى : ﴿ وقد مكر الذين من قبلهم فلله المكر جميعاً ﴾ الرعد 43. إن كل مسلم منا يستطيع أن يعرف سبب ما يحل بنا ، إذا ما عرف لمن المقام الأعلى في حياتنا و لمن الطاعة والإتباع والامتثال ؟ فإن كان لغير الله فهم في غير دينه ، وحتى يأتيهم النصر عليهم تفادي ذلك   حتى يأذن الله للأمة الضائعة بقائدٍ مؤمن يرفع راية الجهاد ويعيدها إلى الإيمان  هذا بلاغ للناس ولينذروا به  وليس لما يفعلونه من أثر ، ولا يمكن بحال من الأحوال أن يعوق بحقيقة وعد الله لعباده المؤمنين بالنصر  وأخذهم أخذ عزيز مقتدر . لأن الله لا ولن يدع الظالم يفلت ولا يدع الماكر ينجو ، ولن يخلف الله وعده ، وسيكون ذلك لا محالة ولو إلى حين  ولكننا لا ندري كيف يتم هذا . ولكن الله أعلمنا بأنه لا يغيِّر نعمة أو بؤس ، ولا عزاءً أو ذلة إلا أن يغير الناس من مشاعرهم وأعمالهم ، لأن ما يحل بالمسلمين هو نتيجة مترتبة على ما يكون منهم قال تعالى : ﴿ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ﴾ الرعد 11

 

 

المعاناة التي تواجه الأمة الإسلامية 

قال تعالى : ﴿ فأعرض عمّن تولى عن ذِكْرِنا ، ولم يُرِد إلا الحياة الدُنيا، ذلك مَبْلَغُهُم من العلم ، إن ربك هو أعْلم بمن ضلَّ عن سبيله ، وهو أعْلم بمن اهتدى ﴾ النجم 29 . إن المعاناة التي تواجه أمتنا هذه الأيام ، هي أكبر وأخطر مأساة في التاريخ ، والخروج منها لا يكون إلا بمواجهة الواقع الأليم الذي تعيشه أمتنا ، حيث التضليل والتهتك والتفكك ، والفساد والإلحاد والانهزام والفجور،  مما جعلنا غرضاً سهلاً ، وهدفاً هشاً للأعداء .

 لقد رفعنا كلَّ الشعارات هذه الأيام ، إلا شعار الجهاد لتحرير ما سلب من البلاد والمقدسات   وأصبحنا نلمس أن الأمة مخدرة منهوكة ، وكأنها أُعدت للهزيمة والعار ، حتى فقدت النخوة والأمل   والقدرة على الإحساس بالذل ، و أصبحت عاجزة لا إيمان ولا قيادة ولا إعداد ، حتى أن القائمين على أمرها ، نسجوا من الهزيمة أساطير النصر، رغم الواقع الأسود الذي يحمل في طياته الخزي والعار   ولا أدل على ذلك من أن العدو يعتقل ويقتل ، والسكوت يخيم على قادة الأمة وزعمائها ،وكأن الذين يُقْتلون ويُجْرحون ، ليسوا من جلدتنا ولا من بني ديننا ، علماً بأنه لا توجدُ شريعة من الشرائع   ولا سنة من السنن ، تجيز الاعتداء على الإنسان الآمن في بيته ، فيفجعُ فيه أهله ، لا لشيء إلا لأن الرأي العالمي ، يقف مع القوي ضد الضعيف .

 ومن هنا جاء الإسلام ، ليقضي على مثل هذه الهمجية والوحشية ، التي يزعمون بأنها حق لهم   فشرع الجهاد لتحقق هذه الغاية ، ليدفع كذلك الظلم والجور، ويستل من القلوب الأحقاد ، ثم يملأها بعد ذلك محبةً ورحمةً ، ليعيش الناس في سعادة وهناء ، لا ليقتلوا الأبرياء العزّل ، بدافع  الغطرسة والإنتقا .                                                                                    

إننا لم  نتعظ ولم نستيقظ من نومنا ، حتى ساوم الانهزاميون والانتهازيون والمتآمرون ، على قدر الأمة وشرفها ومصيرها ، وليس ذلك بمستغرب ، لأن من فرّط بإيمانه بربه ، يسهلُ عليه إن يفرَّط في أرضه   وعرضه وشرفه وحريته ، حتى أصبحنا لا نستبعد ، أن العدو زرع في كل بلدٍ وكالةً ، بأسماء عربية وأقلام عربية ، مهمتها إيقاظ الفتن ، وبث الفساد وتمزيق شمل الأمة ، وتفتيت خلفيتها الدينية  وتدمير قاعدتها الفكرية .

إننا حين تنكرنا لعقيدتنا ، هُزِمنا في معاركنا شرَّ هزيمة ، هزمونا بهويتهم الزائفة ، حين أنكرنا هويتنا الأصلية ، وسلكنا طريق الهتاف والتصفيق ، وتبرير الظلم والهزيمة ، وتمجيد الظالمين وغض الطرف عن أخطاء الحاكمين والمحتلين ، الذين ينسجون خيوط المؤامرات ، فوق أراضينا وبين صفوفنا  عملاءً للعدو، وآذاناً صاغية لهم .

 إن الدعوة لإسدال الستار على باب الجهاد في الإسلام ، هو الذي مهد للعدو سبيل النصر ، وشحنه بطاقات التجمع ، والاقتحام حتى غَزونا وطردونا ودكوا حصوننا ، فراح فريق من الأمة يدعو إلى العلمانية وحرِّية الإلحاد ، ويزعمون أنهم حماة هذه الأمة ، الحريصون على مصالحها ومستقبلها ، وهم في حقيقتهم الذين يخططون للأمة متاهات الضياع ، ويرسمون لها مفازات التمزيق والتبدد ، وعمل دعاة الخيانة والغش عملهم ، حتى أصبح الإسلام اسماً لغير مسمى ، وانفتح الباب على مصراعيه للغزو الفكري الغربي ، المعادي للإسلام والمسلمين ، مما مهد للغزو السياسي والعسكري  الذي شتت شمل الأمة الإسلامية ، والتي كانت دولة واحدة بلا حدود ، فتقطعت أوصالها ، إلى دويلات هزلية ، ليسهل استغلالها ، بعد تقويض الجامع الذي يجمعها وهو الدين ، حتى أن اتهام هذه الدويلات بالتخلف والجمود اتهام صادق ، لأن المسلمين فيها لا يمثلون حقيقة الإسلام ، الذي يخاف أعداء الإسلام ، من تبنية وتطبيقه ، لأنه يفقه قوانينهم الوضعية ، ويُثْبِتُ فشلها

 لقد تأثر نفر من أبنائنا ، الذين نشأوا في أحضان الغرب ، وأقسام الدراسات الشرقية في جامعاتهم  والتي يتولى فيها أساتذة يهود تدريس تاريخ الإسلام ، وعقيدته وشريعته ، فيزرعون في نفوسهم مختلف الشكوك والشبهات ، والأكاذيب والتحريفات ، فيعودوا وهم أشد عداوةً لدينهم ، وكثيراً ما يصل بعضهم ، إلى المراكز القيادية ، ليسوقوا أمتهم الى الهزيمة والعار ، لانحرافهم في تيار الشبهات والأكاذيب ، التي تلقوها على أيدي أساتذة يهود في الجامعات الغربية . فرجعوا لا يعرفون عن الإسلام من مبادئ وقيم ، إلا بما هو سائدٌ في ديار الإسلام ، من ضياعٍ وفراغ ، وجهلٍ وتهتك وفجور، حتى أوهموا بعض الناس ، بأن لا سبيل إلى النهوض ، إلا بالانسلاخ عن الدين مصدر قوتهم وعزتهم .

 وكان من نتيجة ذلك ، أن انطوت الشريعة وتقلصت ، واقتصرت في معظمها ، على تنظيم الأحوال الشخصية ، واقتصر نفر من المسلمين على البحث في سنن النبي صلى الله عليه وسلم، كيف كان يأكل ويشرب ويلبس ، ويمشي ويتحدث ،كأنهم من الدنيا في قانون المائدة ، وآداب الولائم .

 أما الحقيقة الكبرى ، وهي كيف كان يقاتل ، ويحارب لهداية الخلق ، وكيف كان يسمو على الدنيا وشهواتها ، وكيف يتوجه المسلم في تنظيم شؤون الحياة ، الاجتماعية والاقتصادية ونظام الحكم  وهذا من صلب تعاليم ديننا ، والذي يخطط الأعداء لإبعادنا عنه ، وغض الطرف عن التمسك بالقشور بل ويشجعوننا على ذلك .

 إننا نمالئ من جرعونا كأس الذل والهوان ، ونرتمي في أحضانهم ، ولا نقوى على الجهر بالحقيقة التي نؤمن بها ، رغم إيماننا بأن العقيدة ، هي التي أعزنا الله بها ،في كل معاركنا على مدار التاريخ فانتصرنا   وأذلنا الله حين تركناها .

 لقد أخذنا الأفكار الوافدة ، التي نخرت عظام الأمة ، وفتت في عضدها ، وقضت على كرامتها   وشلت طاقاتها ، حتى أصبحت أمثولة التاريخ ، في الذل والهوان ، قال صلى الله عليه وسلم(كفى بقوم ضلاله أن يرغبوا عما جاء به نبيهم إليهم ، إلى ما جاء به غيره إلى غيرهم ). ثم تلا قوله تعالى   : ﴿  أولم يَكْفِهمْ أنا أنزلنا عليك الكتاب يُتْلى عليهم ، إنّ في ذلك لرحمةً وذكْرى لقوم يؤمنون ﴾ .العنكبوت 51 .  ومن هنا لا بد من الإيمان ، لأنه تكليف وامتحان ، واحتقار للحياة في سبيل مرضاة الله  ، ومن لم يحمل تكاليفها، فليس بصادق ولا مخلص ولا أمين ، بل ليس مسلماً حقاً ، إلا بهويةٍ وشهادةِ ميلاد   مهما صلى وزكى وصام .

إن معيار النصر يكمن في حماية الأصالة وحفظ الذاتية ، والدفاع عن المقدسات ، وتحويل مبادئ الإسلام إلى إيمان وجهاد ، ولو التزم المسلمون بمبادئ هذا الدين ، لما وهنوا ولما هانوا ولا ذلوا ، ولا استجاروا بالأعداء ، ولا تمرغوا على أعتاب الطواغيت ، ولكانت نكبتهم منطلقاً إلى ترسيخ إيمانهم بربهم ، وأرضهم ومقدساتهم  ، لا إلى تكريس الهزيمة والذل والاستسلام ، وكيف يقاتل من ليس له مبدأ يتمسك به ، وعقيدة يدافع عنها ، وهل يقاتل من هذا حاله إلا مكرها ، ومن يقاتل مكرهاً يكون مهياءً للهزيمة ، ولو تسلح بالقنابل الذرية والصواريخ .

إن على الأمة المسلمة أن تعلم عدوها ماكر وخبيث ، وعليها أن تتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم(إن جبريل أخبرني أن أمتي مختلفة ، قلت : فما المخرج ؟ قال : كتاب الله ). إنه لنصح عظيم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوجه كريم يريد أن يقدمه لكل من أراد أن يذّكر ويعتبر ، وفي كتاب الله هذا النداء الخالد . قال تعالى : ﴿ واعتصموا بجل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم ، إذ كنتم أعداء فالف بين قلوبكم ، فأصبحتم بنعمته إخوانا  ﴾ آل عمران 103 .                      

المعيشة الضنك والضيق الشديد

قال تعالى : ﴿ و من اعرض عن ذكري فإن ن له معيشة ضنكا  ﴾ طه  123. هذه حال من  أعرض عن ذكر الله  لأن من آمن بالله لا تضيق به الحياة ولذلك قالوا : " لا كرب وأنت رب " . وعندما أعرضت الأمة عن شرع الله وهجرت كتاب الله علما و عملا ، وأدبرت عن سنة نبي الله ، واستبدلتها بقوانين وضيعة ، واجتهادات بشرية كانت النتيجة أن انتكست الأمة الإسلامية قوتها بضعف وعزتها بذلة ، واجتماعها بفرقة وشتات فأصبحت مستباحة الحمى ، يعبث بها العابثون ويفسد فيها المفسدون ، تنتهك حرماتها وتسرق مقدراتها ويستولى على أرضها ، وهي لا تملك حولا ولا قوة في كل أرض لها مأساة ، وفي كل بلد محنة ن أبناؤها يشردون ودعاتها يقتلون ن فما هو سر ذلك ؟ إنه الإعراض عن شرع الله والاستهانة به و هجره ، إنه الجزاء العادل من الله  قال تعالى : ﴿ وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه و لعذاب الآخرة أشد ﴾ طه 127 . فالله أنزل كتابه لنؤمن به ولنهتدي ونعتصم به ،لأنه مصدر القوة والعزة ، وأساس التمكين  والرفعة ، من آمن به هداه الله وأعانه على كل خير ، ومن هجره ختم على قلبه وبصره ، و صدق رسول الله إذ يقول : ﴿ إن الله يرفع هذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين  ﴾ . فالدين ليس احتفالا يقام بمناسبة من المناسبات ، والقرآن ليس آيات تهتز لها الرؤوس وتتمايل بها العمائم ويطرب لها الدراويش في الموالد والمآتم والاحتفالات ولكنه أمر بتطبيق المنهج الذي أنزله الله على رسوله  وأمر بتطبيقه  والحض على العمل الصالح المطابق  لكتاب الله  وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بأداء الفرائض والمندوبات والتمسك في كل الأحوال بالإيمان الصادق لقوله تعالى : ﴿ من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن ﴾ النحل 16. لقد أثبت التاريخ  أن الفترات التي استقرت فيها حقيقة الأيمان ، وتسلم أهلها  قيادة البشرية كانت القمة في التاريخ الإسلامي ، وأن حقيقة الإيمان تلك ما أقرت في الأرض إلا بالدعوة ، وما قامت تلك الحياة التي تمثل فيها منهج الله إلا بالدعوة التي لا بد أن تمضي في طريقها كما أراد الله ، دعوة للمنحرفين والغافلين لبعث هممهم للتمسك بالإسلام و لانتشال الأمة من تيهها الذي تهيم فيه ، فكان لا بد من الدعوة إلى الله لاستنقاذ العصاة ومن ألهتهم الشهوة و الغفلة عن ذكر الله ، فلا بد من الدعوة لله وإلا ذاقت البشرية الويلات من بعدها عن منهج الله غنه ليس من الدين أن يعتزل المسلم و يقعد عن الدعوة إلى اله ولو أكثر العبادة وما أروع من قال فيهم :

حسبوا بأن الدين عزلة راهب    واستمرءوا الأوراد و الأذكار

عجبا أراهم يؤمنون يبعضه       وأرى القلوب ببغضه كفارا

والدين حكم باسم ربك قائم    بالعدل لا جورا و لا استهتارا

قال ابن القيم :" والعالم الذي عرف السنة والحلال  والحرام  وطرق الخير والشر  فإن مخالطته للناس وتعليمهم ونصحهم  في دينهم ،أفضل من اعتزاله و تفريغ وقته للصلاة وقراءة القرآن والتسبيح " .

والإسلام اليوم أحوج ما يكون  إلى الدعاة الذين يدركون واجبهم ويبصرون موقعهم ، فلس القعود والتمني  ينقذ الأمة من غيبوبتها ، فما ينقذها إلا أن يحمل المنهج جماعة  من الدعاة  تؤمن به إيمانا كاملا ، و تستقيم عليه بقدر  طاقتها تجتهد لتحقيقه في قلوب الآخرين و حياتهم ، إنه أحرى بدعاة الحق والإسلام التجرد المطلق له وإن علا صوت الباطل ، فالأرض لا تقدس أحدا ، وإنما يقدس العبد عمله كما قال سلمان لأبي الدرداء :"إنما تقدسنا الدعوة والمرابطة عليها في ديار الإسلام " قيل لأحد فحول الرجال :" لنا حويجة فقل : اطلبوا لها رجيل " فالرحيل تشبع نفسه بعمل اليسير أما الرجل  فهو من كانت همته عاليه ، قد رصد نفسه لضخام  الأعمال ويأنف من صغارها ، وإن الدعوة لهي شان الرجال حقا ، أما أهل السكوت  والخرس فلس فيهم إلا رويجل . وما أحسن ما قرأت :

قالوا السعادة في السكون    وفي الخمول وفي الخمود

في أن تقـول  كما يقال       فلا اعتـراض ولا ردود

في أن تسير مع القـطيع        وأن تقـاد ولا تقـود

قلت السعادة أن تبلـغ       دين ذي العـرش المجيد

فالدعوة على الله ونصرة رسوله بيعة مع الله وعهد معه وللدعاة في عهودهم صفة الوفاء فهل نوفي لله بعهده و بيعته ؟ في الوقت  الذي يواجه الإسلام أكبر حملة إ علامية ظالمة ضده وأكبرها من الغرب الذي يتهم ويشوه كل م هو إسلامي ثم يتهم الدعاة بالتطرف والعنف و الإرهاب ، مما يوجب علينا أن نقاوم حملات  التشهير والتشويه التي تمارسها صحفهم تحت سمع العالم وبصره باسم حرية الرأي ن مما يدعو للتساؤل : هل يباح لهم أن يفعلوا ما بدا لهم ؟ ولا يباح للمسلمين رد الأذى ؟ أم يا ترى صار الاستهزاء بالإسلام هدفا مشروعا وأصبحت المطالبة بدفع  الأذى عن المسلمين ورسولهم عملا مستهجنا ؟ أي تعد  وأي إفك هذا ؟

أ ليس هذا حربا على الإسلام ؟ فأين الغيرة لله  ولدينه و لرسوله ؟ بل أين الغضب لله الذي هو عنوان الإيمان حينما يساء للإسلام  وقيمه ورموزه ، ولماذا يحاولون دائما النيل من الإسلام ؟ أتدرون لماذا ؟ لأنهم يعرفون من تاريخهم كله انه لم يغلبهم إلا الإسلام يوم كان يحكم الحياة ، وأنهم غالبوا أهله طالما لم يحكموه في حياتهم لذا فإن على ألامه إن ترد بكل وسيلة ممكنة على أكاذيبهم ، وما ينطبق على الدول في هذا المجال ينطبق على الشركات والأفراد والمؤسسات المالية والتجارية ، و علينا أن نوطن أنفسنا بسلاح التقوى واليقين ونتلمس طريقنا من جديد ونهتف كما هتف آباؤنا ألله أكبر و العزة للمؤمنين قال تعالى : ﴿ و لله العز ولرسوله  وللمؤمنين  ﴾ .

 

المواقف العدائية للإسلام والمسلمين

إن الناظر لما يجري في بلاد العالم الإسلامي ، يجد أن المسلمين في غفلة حيث يجنون العلقم من أقوامٍ يمارسون ضدهم الفتك والاستئصال ، وإذا لم يباشروه بأيديهم أعانوا من يباشر ذلك عنهم ، ووضعوا في أيديهم السلاح ، وأشاروا عليهم بالرأي . قُدِّمَ استجوابٌ من العرب في الكنيست اليهودي أيام بيجن عن مقتل شاب عربي في إحدى المظاهرات ، فوقف يرد في غضب شديد قائلاً : تريدون أن تقيموا الدنيا وتقعدوها لمقتل شابٍ عربي ؟ على حين خيم الصمت التام بعد مقتل الآلاف في مدينة عربية مجاورة ، وتسوية ثلث مساكنها بالأرض . إن السامع لهذه الإجابة إن كانت عنده ذرَّة من كرامة ليشعر بالخزي والعار وهو يسمع هذه الإجابة ، وإذا كانت هذه المجزرة التي ذكرها محنةً تقشعرُّ لها الأبدان ، فإن الصمت الذي لفت نظر هذا السفّاح يعتبر محنة أنكى وأشد .

وقد ذُكِرَ في بعض الصحف نبأ الكاثوليكي الذي تبنى ثلاثين ألف طفل مسلم في الصومال لينشئهم على النصرانية بداهةً ، علماً بأن المال العربيّ الضائع في أندية القمار ، كان من الممكن أن يحفظ مستقبل هؤلاء  ، وما أكثر يتامانا الذين استولت عليهم مؤسسات التبشير من جرّاء هذا التفريط . هذه أمثلة لبعض الجرائم في العالم الإسلامي  والغرابة ليست في فداحة هذه الجرائم ، وإنما في ذهول ناسٍ من المتحدثين في الإسلام عنها .

لقد عرف أعدائنا خطورة عودة الإسلام ، فكان مما ورد عنهم في بعض الوثائق في المركز العام بلندن دلالةً واضحةً على خبثهم ومكرهم ، فقد ورد في تقرير أحد وزراء المستعمرات البريطانية  "إن الحرب علمتنا أن الوحدة الإسلامية هي الخطر الأعظم الذي ينبغي على الإمبراطورية أن تحذره وتحاربه " . كما أن لفرنسا نفس الموقف المعادي فقد قال قائلهم : " إن من دواعي فرحنا أن الخلافة الإسلامية زالت  ، ونتمنى أن يكون ذلك إلى غير رجعة ، وسياستنا تهدف دائماً وأبداً إلى منع الوحدة الإسلامية ، ويجب أن تبقى هذه السياسة كذلك ، وإن سياستنا الموالية للعرب في الحرب العظمى كانت لإبعاد سيطرة الخلافة الإسلامية على المدينتين المقدستين مكة والمدينة التي كان العثمانيون يمدون سلطانهم إليهما لمعانٍ مهمة ، ومن أسباب سعادتنا أن كمال اتاتورك لم يضع تركيا في مسارٍ قوميٍّ علْمانيٍّ فقط بل أدخل إصلاحات بعيدة الأثر أدت إلى نفض المعالم الإسلامية لتركيا .

إن أعداء الإسلام يتابعون ضرباتهم حيث تدور رحى الحرب لسحق الإسلام من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب ، والذين يلفظون أرواحهم سرّاً  أكثر من الذين يلفظونها علانية ، والذين يغتالون في المنافي والسجون ، أكثر من الذين يغتالون في البيوت والشوارع ، والحرب ما تهدأ حتى تندلع .

ويوجد هنا وهناك في أماكن من العالم الإسلامي مدافعين لم يستكينوا ولم يملّوا رغم أن الأعداء ماضون في طريق العدوان كأي وحشٍ مفترس لا يقفه إلا العجز والموت .  والمسلمون يدفعون الثمن الفادح لمعاصيهم السياسية والاجتماعية  ولإخلادهم إلى الأرض وحبهم للدنيا ، في وقت يسود شعورٌ عام عند الأعداء أن الإسلام لا بد أن يزول وان أمته يجب أن تختفي  لذا تلاحقت  الهجمات ضد المسلمين هنا وهناك حيث لا يقفها شيء ، وفي أوساط المسلمين تنويمٌ متعمد للغيرة الإسلامية  واختصارٌ للمساحات التي لا يزال للإسلام بها وجود ، في وقت تضفي فيه الشرعية على المعتدين على بلاد المسلمين ووصفهم بأنهم شرفاء يعملون لنشر العدل والأمن  وإن المدافعين عن مدنهم وقراهم بل عن بيوتهم وأهليهم إرهابيون منبوذون .  إن الحملة على أرض الإسلام هذه الأيام استخدمت أسلحة جديدة ، وحققت أهدافاً رهيبة في السير قدماً على أمل القضاء على الإسلام أو إبعاده عن الحياة العامة ، وذلك بمنطق القوة العمياء في مواجهة العالم الإسلامي الذي أضناه الاعتدال والاختلال . وإن الأعداء يعملون لمحو معالم الإسلام في المدرسة والمحكمة والبيت  حتى كاد الإسلام يمسي أثراً بعد عين ، وتنوعت الوسائل بين الرغبة والرهبة  وكثيراً ما وقعت مجازر هائلة وراء أسوار من الصمت المطبق  والأمثلة على ذلك كثيرة ، فقد كانت ضحايا ضم جزيرة زنجبار إلى تنجانيقا لتكوين ما عرف بتنـزانيا هذه الأيام ، ما يقرب من ثلاثين ألف مُسلم والذين لم يبكهم أحد بل إن بطل هذه المذبحة نيريري استقبل استقبال الفاتحين في بعض البلاد العربية ، وتتكرر المأساة في البوسنة وكوسوفا وأخيراً  ضد مسلمي الشيشان ، الذين كان لهم مع الرّوس تاريخ طويل من القهر والاستعباد والنفي والتشريد والتجهيل والتضليل  وقد سطّر المسلمون تاريخاً طويلاً من الجهاد والاستشاد في مقاومة الروس ودفع عدوانهم  وسجلوا مواقفَ بطوليةٍ نادرة فداءاً لدين الله وحمايةً لأعراض المؤمنين : ﴿ عسى الله أن يكفَّ بأس الذين كفروا والله أشدُّ بأساً وأشدُّ تنكيلا ﴾ النساء 84 . وقد كتب الله لنا اليوم أن نشهد فصولاً من الجهاد الشيشاني ، الذي أدى في الاعتداء الأول للروس إلى خروجهم من أرض الشيشان صاغرين يجرون أذيال الهزيمة ، واتجهت الشيشان لتحكم نفسها فانتشرت فيها المحاكم الشرعية ، وانتشرت الدعوة والمعاهدة الشرعية ، وقامت اللجان الاحتسابية بمنع المنكرات في الأسواق والأماكن العامة ، حتى أصبح الناظر يرى المرأة المحجبة  وأُعيد بناء المساجد وانتشرت حلقات تعليم القرآن .

وهكذا ظهرت ثمار جهادهم على أرض الواقع  الأمر الذي أزعج الروس وبدلاً من أن يدفعوا تعويضاً عن التدمير الذي لحق بالشيشان من جراء الاحتلال وإعادة تغيير البنية التحتية للبلاد ، سعى الروس عن طريق عملائهم إلى زعزعة الأمن والاستقرار داخل الشيشان ، وانتهى بهم الأمر إلى التحرك لتدمير الشيشان بالاجتياح العسكري  وتكثيف القصف على المدن والمناطق الآهلة   وإحداث أكبر قدرٍ من التدمير والقتل والتهجير  وقد استعملوا المواد الكيميائية في قتالهم للشعب الأعزل إلا من سلاح الإيمان . ونحن نتفاعل ونخطب ونقنت لتحقيق مصالحنا ، لا عفواً ؟ بل لتحقيق مصالح الغرب من حيث لا نشعر.

إن الأمة الإسلامية في شوق لأن تساس بشريعتها  وإن الذين يحولون دون ذلك هم أعداؤها الذين يصوّرون للمسلمين بان المطالبة بتحكيم شريعة الله تطرُّف ورجعية ، ويصورون للمسلمين أنهم بالاعتداء على بلاد المسلمين إنما يحاربون التطرف الديني ، مع أن هجومهم في الحقيقة ليس على التطرف الديني وإنما على الدين نفسه على الدين كله أصوله وفروعه على ركائز الدين ونصوصه .

والمسلمون لم يحسنوا دراسة ما أصابهم من هزائم فادحة ، وما عملوا قط لعدم تكرارها ، ولا يزال ناس من المسلمين مشغولين بأنواع من المعرفة لا تَضرُّ عدواَ ولا تنفعُ صديقاً ، وتيار الأحداث يلطم الوجوه ، ولا يوجد من يربط النتائج بأسبابها ، ولا من يحاول القيام بدراسة ذكية جريئة للمعاصي السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، ولا أدري لم الخشية ؟ أو لماذا هذا الجمود ؟ وهل مستقيل أمة من مليار إنسان بالشيء الهين ؟  لقد دفعت أمة الإسلام الثمن غالياً في القديم حيث جرى التهام دولة الإسلام في الأندلس قطعة بعد قطعة ولم يتنبه أو يتحرك أحد لما يجري في الغرب ، وجرى التهام دولة الإسلام المغولية في الهند بالطريقة نفسها ، ولم يتنبه أو يتحرك أحد لما جرى في الشرق . وراح الغزاة الجدد الذين سيطروا على الجناحين يضغطون على القلب العربي فوصلت بريطانيا إلى عدن وفرنسا الى شمال أفريقيا ، بل إن نابليون حاول أن يبدأ بمصر . ويبدو أننا ندفع الثمن مرة أخرى ، ولن ينجينا من أعدائنا إلا الاعتصام بالله والحرص على رضاه لأنه اللواء الوحيد الذي ينبغي أن نقاتل تحته ليقودنا إلى النصر.  ثمَّ لماذا يسكت الغرب عما يجري في الشيشان بينما أقام الدنيا وأقعدها لحماية شعب كوسوفا ؟ إنها المصالح ليس إلاّ . لك الله يا شعب الشيشان ولسان حالك كقول القائل :

 - نَصْحوا على قصف المدافع ، والمجازر بالمئات

-وننام والخوف الرهيب يلفنا بالطائرات

-أمٌ هناك وطفلة : وأب تمزقه الشظايا المحرقات

-تبكي وقصف الطائرات يسوقها نحو الممات

-حتى متى يا أمتي… ؟!

-وإلى متى …؟!

-حنى تُهدَّم دورنا وديارنا ؟!

-حتى تقطَّع للعدا أشلاؤنا ؟!

-حتى يشرَّد أهلنا .. أطفالنا ؟!

-حتى تُقادَ عفيفةٌ بالأمس كانت لا تقاد ؟!

-إنا نصيح ولا مجيب ..!

-إنا نئن .. ولا طبيب ..!

-فأين .. أين المسلمون ؟!

-بل أين أهل العلم منهم من بقايا الصالحين

-لاذوا بأسوار السكوت

-لم يمنحوا إخوانهم حتى كليمات القنوت؟!

وعلى كل حال فمهما تخلى المسلمون عن إخوانهم فإن الله ناصرهم ومؤيدهم ، والذي يظهر لنا والله اعلم أن الحرب ستطول وقد يسيطر الروس على الشيشان ولكنهم لا يستطيعوا الاستمرار فيها والمحافظة عليها ؛ حيث ستستمر حرب العصابات ، والنتيجة أن يخرج الروس من خلال سيناريو يحفظ ماء الوجه لتقوم دولة حرة مسلمة على أرض القوقاز- بإذن الله – ما لم يتدخل الغرب لمنع قيام ذلك ، كما في البلقان حين أُجهضت آمال المسلمين بقيام دولة لهم على أرض البوسنة باتفاق دايتون الذي لم يكن في حقيقته إلا تبديداً للنجاح الذي حققه المسلمون على الصرب . وعلى كل حال فقد وعدنا الله بقوله : ﴿ وَلَقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثُها عبادي الصالحون ، إن في هذا لبلاغاً لقوم عابدين ﴾ الأنبياء 105 .

 

         

 

    

 

الموظف الكفء والإدارة الناجحة

إن انتظام الجهاز الإداري في الدولة ، يحقق العدل ويوفرِّ الأمن ، ويوصل الحقوق إلى أصحابها ، ولا يتم ذلك إلا بأمرين . رئاسة عادلة لا تغفل عن مكافأة المحسن ، ومعاقبة المسيء . وموظفين أكفاء ، يملؤون وظائفهم بعلمهم  وخلقهم وأمانتهم ونشاطهم . وتوفُّرِ هذين الأمرين في أي جهاز أدارى ، يعتبر عاملاً من أقوى عوامل الرخاء والعزة للأمة .

أما الرئاسة ، فهي ليست رئاسة الدولة فحسب ، بل رئاسة كلِّ دائرة من دوائر الدولة ، التي ينبغي أن يتصف رئيسها بالحزم واليقظة ، لانتظام الجهاز الإداري  لأن يقظة الرئيس في مراقبة موظفيه ، والإحاطة بسيرتهم و سلوكهم ، من أبرز مظاهر الحزم ، فالدائرة أو الوزارة التي ترزق برئيس يقظ يراقب موظفيه ، تكون من أقوى الدوائر عملاً ، وأنجحها وانفعها للناس .

أما إذا رأيت الموظف ، تتكدس أمامه المعاملات  التي تشتمل على مصالح الناس إن كان فيها ما يهمه لصديقٍ أو عزيز نفّذها ، وإلا تركت في زاوية الإهمال حتى يمل صاحبها ، من كثرة الترداد والمراجعة .

وإذا رأيت من يسمو فوق القانون ، بحيث لا تعد مخالفته مخالفة ، ولا إجرامه إجراماً ، أو رأيت زيداً من الناس يسكن في مكان ما ، سرعان ما يرصف له الشارع ، ويضاء بالكهرباء ، بينما تسكن أسر وأسر من الفقراء في حيّ من الأحياء  لا يعنى في إحيائهم ولا يلتفت إليهم .

وإذا رأيت الموظف الصغير ، ذليلاً أمام الموظف الكبير ، ثم هو يطغى على عامة الناس ، كالموظف تسأله في شأن من شؤونك ، إن كان لا يعرفك رد في غلظة وجفاء ، وإن كان يعرفك أو أُوصى عليك ، بش في وجهك وأجلسك ، وطلب قهوة أو شايا .  إذا رأيت هذا أو ذاك ، فهو من غير شك ، مذلةً للشّعور  وإذلالاً للنفس ، واستعباداً للناس   وضعفاً من الإدارة في مراقبة الموظفين ، ولن يستقيم الأمر ، حتى يقوم المسؤولون بواجبهم في مراقبة موظفيهم ، ويميلوا مع الحق حيث كان  ويعملوا على قطع دابر الرشوة والسرقة ، والإهمال في الدوائر والمؤسسات ، وهو ما يشكو منه الناس . فلو خلصت النيات ، وصدقت العزائم ، وطهرت الأيدي المشرفة على جهاز الدولة الإداري ، لانمحى  أثر الفساد وزال ، وهو ما يجب أن يتصف به الموظفون ، والمسؤولون على السواء .

دخل أبو حازم على معاوية ، وحوله كبار رجال الدولة ، فقال له السلام عليك أيها الأجير ، فعجب الحاضرون وقالوا : إنما هو أمير المؤمنين  فكرر نداءه بقوله : السلام عليك أيها الأجير   فعادوا ينبهونه إلى أنه أمير المؤمنين ، فقال لهم : بل هو الأجير ، ثم التفت إلى معاوية وقال له : اعلم يا معاوية ، أنك أجيرٌ لهذه الأمة ، استأجرك ربك لرعايتها ، فإن أنت أحسنت الرعاية ، وفاك ربك أجرك  وإن أنت أسأتها عاقبك وشدد عقوبتك . هكذا يجب أن تفهم الوظيفة في الدولة ، على أنها لخدمة الأمة ، لا استعلاء عليها وترفعاً عنها . كان أبو بكر يقول :إني وليت عليكم ولست بخيركم . وكان عمر يقول : إنما أنا واحد منكم ولكني أكثركم مسؤولية وواجباً .

مثل هؤلاء الناس وبهذه المواقف ، تجعل للدولة قوتها ، وللحكم سلطانه ، وتجعل قلوب الأمة تهفوا إلى الموظفين والرؤساء ، وحين تعلم الأمة  أن الموظف يشعر بهذا الشعور ، تخضع له النفوس  وتتفتح له القلوب ، ويتملك الناس حبه  والرهبة منه والركون إليه ، وعندما يكونوا خلاف ذلك تبعد عنهم القلوب   وينظر الناس إليهم على أنهم سوط عذاب ، وينسون أنهم أُجراء لخدمة الأمة  وعندما يتجاهل الموظف المراجع أو صاحب المعاملة ، ويهمل واجبه تجاهه  وينتهره إذا ما سأله ، ناسياً أنه مواطن من أبناء الأمة ، ينبغي ألا يُؤخِّر عمله  وأن فنجان القهوة الذي يشربه  والصحيفة التي يقرأها أثناء دوامه ، ما ذلك إلا من وقت الوظيفة التي أخذ راتبها ، من جيب هذا المواطن الذي انتهره وأهمل معاملته  ولولا هذا المواطن وذاك ، وما يدفعوا للدولة من ضرائب  ، لما قبض هذا الموظف راتبه الشهري . إن أسوأ ما يتصف به الموظف ، هو عدم إنهاء المعاملة إلا بعد الوساطة ، وهو ما كثر هذه الأيام حتى أصبح مظهراً من مظاهر الفساد ، والذي لا يدل على إخلاص ، ولا على يقظة ضمير ، ولا خوف من الله ، وإن اللجوء إلى الوساطات لحل المشكلات وإنجاز المعاملات ، مرض اجتماعي خطير سببه فساد الجهاز الإداري والحكومي ، مما جعلنا نعذر المواطن في البحث عن الوساطات لإنجاز المعاملات . ليذكر الموظف أن سوء الأمانة ، وسوء المعاملة  لا تزيده عند الناس إلا بغضا ، وعند الله إلا مقتا وأن الرجل الكريم ، لا تزيده الوظيفة إلا تواضعا  واللئيم لا تزيده إلا تكبرا . لما استُخْلِف عمر بن عبد العزيز ، أرسل إلى سالم بن عبد الله ومحمد بن كعب فقال لهما : أشيرا عليّ فقال له سالم : اجعل الناس أباً وأخاً وأبناً  فَبِرَّ أباك واحفظ أخاك وارحم ابنك . وقال محمد : أحبب للناس ما تحب لنفسك   واكره لهم ما تكره لنفسك . إن ما يجري وما يحدث في دوائرنا ومؤسساتنا  ليس نتاج مجتمع إسلامي ، ولا دولة دينها الإسلام وإنما هو نتاج مجتمع آخر ، يطرد الإسلام من حياته ، ويطبق نظاماً اجتماعياً آخر ، لا يعرف الإسلام ، إنهم نتاج مجتمع يسمح بوجود الجائعين والمحتاجين ، دون أن يقدم علاجاً حقيقياً ملموساً لهم .

مجتمع لا يربط الحياة بالله ولا بشريعته ، لأن الإسلام يربي النفوس تربية خاصة ، ويحكمهم وفق شريعة خاصة ، وينظم شؤونهم على أسس خاصة ، ويخلق مقومات اجتماعية وشعورية خاصة ، فإذا ما طبق الإسلام في نظام الحكم  وأسس التشريع ، وقواعد التربية فلن تبقى هناك مشكلات مستعصية ، وستزول بنفسها ، والخير كل الخير ، في منهج الإسلام ومبادئه وأحكامه : ﴿ ومن يتبع غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ﴾

 

النصح لأعداء الإسلام

قال تعالى : ﴿ ولا يزالون يقاتلوكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ﴾ البقرة 217 . وقال : ﴿ ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ﴾ البقرة 120 . لقد ركز القرآن الكريم ، على أعداء الإسلام   حيث نلمس ذلك ، إذا ما نظرنا إلى الحال الذي وصل إليه المسلمون في شتى بقاع الأرض ، من ضعف وسقوط وذله ومسكنه ، وتحكُّمٍ من قبل الأجنبي المستهتر بديننا وإسلامنا ، الأمر الذي لا يقبله مؤمن يوحد بالله . وإذا ما أمعنا النظر ، نجد أن العداء للأمة الإسلامية ، هو حديث الماضي والحاضر والمستقبل ، علماً بأن الإسلام وضع حلولاً  ومنهجاً للمسلمين في تقرير مصيرهم ، بعيداً عن الذلة والمهانة ، إلا أن واقع المسلمين ، وما هم عليه من جهلٍ وخلاف ، وبعدٍ عن الله ، يشكِّلُ حاجزاً أمام نور الإسلام ، ليراه الناس ويستفيدوا منه . إن العالم من حولنا ، يحاكم الإسلام بأعمال المسلمين ، وهذه المشكلة لا علاج لها ، إلا بصلاح البيت الإسلامي نفسه ، وهذا يحتاج إلى جهد كبير ، من العلماء والقادة والمفكرين ، بأن يتقوا الله في دينهم وأمتهم ، وأن يرتفعوا عن مستوى الخصومات والأحقاد بينهم . أعجبني قول ذلك الرجل الصالح الذي قال : لو كان يعلم أن له دعوةً مستجابة ، لوجهها للأمراء ليصلحهم الله ، لأنه بصلاحهم تصلح الدنيا ، ولا جدال في أن الأمراء الصالحين ، يستطيعون أن يؤثِّروا في المجتمع ، ويختصروا الطريق حتى على العلماء ، وقد صدق القائل :  يزع بالسلطان مالا يزع بالقرآن .

إن من كبرى المشاكل التي تعاني منها الأمة  تكمن في الفجوة الكبرى بين العلماء والحكام   في الوقت الذي يتطلع فيه الناس إلى العلماء  ليقدموا النصح للحكام ، وإقناعهم بأن الدين وحده هو القادر على استنهاض الهمم ، والوقوف في وجه الباطل وأعوانه . ولا ينبغي أن يكونوا مجرد أداة طيعة في أيديهم  يبررون تصرفاتهم وما يريدون ، مما يفقد هيبة العالم عند الناس ، فلا يسمع كلامه ويفقد احترامه . إن من واجب العلماء أن يكونوا كما كان سلفنا الصالح ، ينصح علماؤهم الحكام ، بالكلمة الطيبة الصالحة ، ويكون عند الحكام الاستعداد للاستماع للنصح ، فيجتمع الجميع على كلمة الحق ، وعدم الوقوع في الأخطاء التي تضرُّ بالأمة  والابتعاد عن التملق ، والثاء الكاذب والمديح الباطل ، الذي يؤدي إلى الاستخفاف بالإرادة  والإعراض عن النصيحة .

إن الصدق فضيلة ، والشجاعة فضيلة ، ومن الصدق والشجاعة ، تنبعث فضيلة الصراحة  والجهر بالحق ، والنصح للأصدقاء والحكام ، فمن كان عظيم الهمة  راجح العقل ، لم يترفع عن نصح الناصحين ، وموعظة الواعظين ، مهما عظمت مكانتهم ، وعلت أقدارهم ، وقوى سلطانهم . ولا تسوء أوضاع الأمة وأحوالها  إلا من ترك واجب النصح والجهر بالحق .

ومن استعرض التاريخ قديمه وحديثه ، واستعرض عظماء الرجال في الشرق والغرب ، أيقن أن سرَّ عظة الأمة ، يكمن في وفائها للحق ، مع من تحب من الزعماء وتطيع من الرؤساء ، فلا تبخل بتأييدهم حين يصيبون ، ولا تتردد عن نصيحتهم يوم يخطئون ، حتى إذا تخليت الأمة عن هذا الواجب ، آذن مجدها بالانهيار ، وكرامتها بالضياع والامتهان . كان عمر بن الحطاب يوماً مع أصحابه ، فقال له رجل : يا أمير المؤمنين ؟ اتق الله ، فقال بعض الحاضرين : أتقول ذلك لأمير المؤمنين ؟ فيقول عمر : دعوه فليقلها ، لا خير فيكم إن لم تقولوها ولا خير فينا إن لم نقبلها . والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : ( إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم يا ظالم فقد تودِّع منهم ) رواه الحاكم . فعلى المسلمين أن يكونوا للحق أنصارا  وللمخطئين ناصحين ، وللظالمين مقاومين منكرين إذا أرادوا أن يكونوا أمةً لها كرامتها  ومكانتها  وحقها الذي لا يهضم ، وإرادتها التي لا تحتقر وشخصيتها التي لا تطمس ، وإلا إن التف المنافقون حول الحاكمين ، والأقلام المأجورة أن تمجد المجرمين ، فذلك عين الفساد والخراب ، لأن عدالة الله تأبى أن تمنح الكرامة لمن يضيعها بيديه  قال تعالى : ﴿ إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون ﴾ يونس 44 .

       

 

         

 

 

 

 

 

 

 

 

          ما الفرق بين الإسلام والمسلمين 

 إن الإسلام اسم للدين الإسلامي ، أي اسم للقرآن والسنة النبوية ، والمسلمون هم الذين يعتقدون هذا الدين ، ويفعلون ما يؤمرون من الطاعات والصالحات ، ويطبقونه على أنفسهم  ويَدْعون سواهم إلى العمل به ، وتطبيقه بالحكمة والموعظة الحسنة .

قال تعالى :{ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين}فصلت 33 .

إن من يتربى التربية الإسلامية ، يكون أقدر على احتمال التبعة ، واكثر جداً في أخذ الأمور وتصريفها ، لأن له من ضميره عاصماً ، ومن دينه سنداً ، ومن قرآنه هادياً . قال تعالى :{إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} الإسراء 9.

إن الإسلام عقيدة ينبثق منها سلوك المجتمع  ويقوم عليها نظام الحياة ، الذي يحكم علاقات الإنسان في كل الميادين ، ويضع الشرائع التي تنظم هذه العلاقات ، فكان لا يمكن الفصل بين العقيدة والشريعة التي تحكم الحياة ، لأن الشريعة لا تقوم إلا على أساس العقيدة .

إننا نلاحظ أن علماء المسلمين ومفكريهم  يفكرون ويكونون الآراء ، ويطلقون الأحكام   وينظرون للأشياء والوقائع والأحداث ، بعيداً عن أحكام الإسلام ، وهذا ما نجح الغرب في تحقيقه بدليل رضاء المسلمين بالحلول الوسط ، وأنصاف الحلول ، حتى أن المسلم أصبح يشعر بأنه يعيش في جوٍّ فقد مقياس الجلال والحرام ، لأعماله وتصرفاته ، والذي استبدل بمقياس المنفعة أو المصلحة    حتى أصبح المجتمع في بلاد المسلمين  لا يسهم بتحقيق القيم التي يحتاجها ، والتي تضمن رفعته ورقيه وسعادته ، بل اتبع خطى الغرب ، الذي جعل القيمة المادية هي الأساس . 

وقد وجد من بين الشباب ، من يستحي من الانتساب إلى الإسلام ، أو يكره أن يُرى وهو يقوم بشيء من شعائره ، خصوصاً بين طبقات المثقفين بالثقافة الغربية ، والذين وصلوا إلى  درجة الحكم والنفوذ ، وإدارة المناصب العليا .

لقد زلزل الغزو الثقافي ، ثقة فئة كبيرة من الشباب بدينها ، حتى أصبحت مسلمة بالاسم فقط ، إن العقلية التي زرعها الكفار ، هي التي أوصلت الناس إلى هذا الحال ، حتى أن الأمة أصبحت تتبع ذليلة خطى الغرب ، وتسلمِّ له بحل قضاياها ، وتستبعد الإسلام عن مشاكل الحياة  وعلاقات المجتمع ووجد في هذه الأمة من يفصلون بين الدين والحياة ، كأن هذه الحياة ليست مخلوقة للخالق وكأنه ليس هناك حساب ولا عقاب .

إنه ليس من طبيعة الإسلام أن يعوق سير الحياة  ويسد الطريق على الآخذين بأسباب الوجاهة والجاه ، ومن الظلم أن يفهم الدين بهذا الفهم   بل من الخيانة لدين الله ، أن تكون للإسلام هذه المنزلة في الحياة .

لقد أصيب المسلمون بعلل أفسدت حياتهم  وأنزلتهم منازلتهم منازل الهوان في دنيا الناس  حتى تصور فريق من الناس ، بأن الدين هو السبب فيما وصلنا إليه من تأخر ، ونظروا للدين  والمتدينين نظرة ازدراء واحتقار ، حتى أصبح من المحال تغيير الحال ، إلا برد الاعتبار لدين الله باحترامه والاعتماد عليه في كل شؤون الحياة .

هذا هو حال المخدوعين بالغرب وحضارته ، فما هو حال بعض الفئات الإسلامية الأخرى ؟

إننا نجدهم وكما أشرت أكثر من مرَّةٍ ، يركِّزون اهتمامهم على الأحكام المتعلقة بالفرد ، كالصلاة والصوم والزكاة والوضوء ، والصفات الأخلاقية  والسنن والمندوبات ، وغيبوا أحكام نظام الحكم والنظام الاقتصادي والاجتماعي والتعليم  وأحكام السياسة الخارجية ، والتفاصيل المتعلقة بذلك  كله ، وكما نرى الكثيرين يركزون على اللحية وحكمها ، والدخان والطهارة ، وآداب الأكل ،  ودخول المساجد ، وآداب دخول الخلاء  وما يقال عند لبس الثياب الجديدة وعند النوم  حتى أنهم لم يتركوا شيئا متعلقاً بالفرد ، إلا فصَّلوه ودققوا فيه ، أو بحثو كلَّ جوانبه ، وأهملوا الأحكام المتعلقة بأنظمة المجتمع ، وفروض الكفاية المطلوبة من الأمة .

إن العقلية التي غرسها الكفار ، منذ أن احتلوا بلاد المسلمين ، جعلت مفهوم المنفعة ، من المفاهيم التي جعلت الأنانية وحب الذات ، هي الطاغية في المجتمع ، مما قضى على الروح الجماعية التي أرادها الإسلام ، وعبرت عنها النصوص الشرعية . كقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) . وقوله : ( من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم)

كما جعلت المسلمين ، يقصرون حياتهم على الركض ، وراء حياةٍ يُقْذف لهم فيها بالفضلات  مما فاض على موائد المترفين والمسرفين ، بل وصل الحد بالبعض ، إلى تقديم الروابط المنحطة ، من رابطة قبلية أو عائلية أو وطنية أو مصلحيه ، على رابطة المبدأ وما تتطلبه الآية القرآنية : ﴿ قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تحشون كسادها ومساكنٌ ترضونها أحبَّ إليكم من الله ورسوله وجهادٍ في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين  ﴾ التوبة 24 . إن الأمة الإسلامية ، أمةٌ مبدأ يحمل في باطنه السعادة للبشرية ، والهناء والاستقرار ، وهي مكلفةٌ بإيصال هذا المبدأ إلى الناس ، والعمل على تحرير البشرية من عبودية العباد ، إلى عبودية الله  وعلى تنظم حياة البشر بالعدل ، وما يحقق لهم الخير ، ويجنبهم ويلات الفتن والحروب .

إن الأمة مكلفة أن تنقذ نفسها باتباع الهدى الرباني ، والعمل على إنقاذ البشرية من التيه والضياع ، وإخراجها من الظلمات إلى النور  ومن القهر والإذلال والاستعباد ، إلى العز والسعادة والسلام .

إن سياسة تمويت الإسلام  ومخاصمة أهله والافتراء عليه ، ومحاربة دعاته وإعمال القتل والتعذيب والملاحقة لمعتنقيه ، لم يحقق لأعداء الإسلام رغباتهم ، فلا الإسلام مات ، ولا قرآنه باد ، ولا أمته هلكت ، وإذا أصابهم الذي أصابهم  إنما ذلك إلى حين ، ولا بد من استئناف المسيرة   إن تابوا من تقصيرهم وثابوا إلى رشدهم . إن سياسة تمويت الإسلام ، لا بد من إفشالها  ولن يكون حظ الصليبية الجديدة  بأحسن من حظ سابقتها القديمة ، وإن طال الزمن أم قصَّر  لأن الله تكفل بحفظ دينه ، ونصر أتباعه  ولينصرن الله من ينصره .                                        

 

 

 

 

 

 

 

النهي عن أكل الأموال بالباطل

قال تعالى : ﴿ ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون ﴾ البقرة 188 .

الأموال مضافة للجميع ، فالمال ساعة يكون ملكاً لي ، فهو في الوقت نفسه يكون مالاً ينتفع به الغير ، ولكن الذي يحكم حركة تداول المال هو الحق الثابت الذي لا يتغير   ولا يحكمه الباطل ، لأن الباطل زائل لا يدوم ، بينما الحق ثابت لا يتغير ، وفي الآية جاء النهي عن الأكل بالباطل ، أي لا تأكل مما يملكه غيرك إلا بحقٍ أثبته الله بحكم ، فلا تسرق ولا ترتش ، فإذا حدث ذلك تكن قد أكلت المال بالباطل ، وحين تأكل بالباطل فإن غيرك سيأكل بالباطل ، وعندما تُحكم بقضية الحق فإنك لا تأخذ إلا بالحق ، ويجب ألا يعطيك الغير إلا بالحق   وبذلك تخضع حركة الحياة كلها لقانون ينظم الحق الثابت الذي لا يتغبر ، لأن الباطل قد يكون له علو لكن ليس له استقرار ، فالله يريد أن تكون حركة حياتنا نظيفة شريفة فلا يدخل بطنك إلا ما تعبت من أجله والله يريد للإنسان أن يتحرك ليشبع حاجته من طعامٍ وشراب ومأوى وبذلك تستمر دورة الحياة .

ويجب ألا تكون الحركة في الباطل ، فمن يتحرك ليسرق تكون حركته حراما  ويكون كل مسروق نتيجة حركة باطلة ، وكل حركة في غير ما شرع الله تكون باطلة قال تعالى : ﴿ ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ﴾ أي إياكم أن تأكلوها بالباطل ثم تدلوا بها إلى الحكام ليبرروا لكم أن هذا الباطل هو حق لكم ، فهناك كثير من الناس يرون في فعل الحاكم مبرراً لأن يفعلوا مثله وهذا غير صحيح ، فلا تقل إن الحاكم قد شرع أعمالاً وتلقي عليه تبعة أفعالك  مثال ذلك ما نقول عنه فنون جميلة من رقص وخلاعة وغناء هل إباحة الحكومات لها وعدم منعها لها يجعلها حلالا ؟ لا بالطبع لأن الفساد إنما ينشأ في الحياة من مثل هذا السلوك .

فالذين يشتغلون بعملٍ لا يقرّه الله يأكلون أموالهم بالباطل   ويدخلون في بطون أولادهم الأبرياء مالاً باطلا ، وأسمع كثيراً ممن يقولون : إن الأعمال الباطلة أصبحت مسائل حياة ، ولم نعد نستطيع الاستغناء عنها ، مع أن الصحيح أن يرتبوا حياتهم من جديد على عملٍ حلال ، ومن يصر على أن يعمل عملاً غير حلال ليعول من هو تحته ،  فعلى المعال أن يصرّ على ألا يأكل من باطل ، وكم يكون الموقف قاسياً عندما يرفض الابن أن يأكل من عمل أمه التي ترقص أو والده الذي يعمل في الحرام ، وقد يقولون إن هذا رزقنا ولا رزق لنا سواه ، ناسين أن الله يرزق من يشاء بغير حساب ، ولا يظن إنسان أن عمله هو الذي سيرزقه ، إنما يرزقه الله بسبب هذا العمل ، فإذا ترك الإنسان العمل المحرم وبحث عن آخر حلال ، فلا بد أن يرزقه الله بعملٍ حلال ورزق حلال ليقتات منه ، وقد عالج هذه القضية عندما حرّم بيت الله على المشركين الذين كانوا يعيشون على ما يأتي به المشركون في موسم الحج ، فماذا يكون موقفهم ؟ أول ما يخطر على البال القول : من أين يعيشون ؟ لقد جاء المنع أولاً فقال تعالى : ﴿ إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا  ﴾ التوبة 28 . ثم رد على القائلين من أين نعيش ؟ فقال تعالى : ﴿ وإن خفتم عيلةً فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء  ﴾ التوبة 28 . فلا يقولنّ أحد إن هذا العمل وإن كان حراماً هو مصدر رزقي ، ولن أستطيع العيش لو تركته ، لا يا أخي لا تجعل الحرام مصدراً لرزقك لقوله تعالى : ﴿ وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله ﴾ وعندما تتقي الله فسيجعل لك مخرجا قال تعالى : ﴿ ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب﴾ إذن عليك أن تترك كل عملٍ فيه معصية لله وعندها ستجد يد الله ممدودة لك بكل خير .

وعلينا أن نعرف أن من أكل بباطل جاع بحق ، أي أن الله يبتليه بمرضٍ يجعله لا يأكل من الحلال الطيب ، فتكون النعمة أمامه وملك يديه ولكنه لا يستطيع أن يأكل منها   في الوقت الذي يتمتع بها أولاده ومن يعولهم ، مثل هذا نقول له لا بد أنك أخذت شيئاً بالباطل فحرمك الله من الحق . ومن هتا نستطيع القول أن من أكل بباطلٍ جاع بحق ومن استغل وسيلة في باطلٍ أراه الله قبحها بحق ، فالذي يظلم الناس بقوته لا بد وأن يأتي يوماً يصبح فيه ضعيفاً .

سمعنا ونسمع عن كثيرٍ من المنحرفين يذهبون للحج ويبنون المساجد ويتصدقون بأموالٍ مصدرها حرام ، متناسين أن الله غنيٌ عن عبادتهم وصدقاتهم ، ولا يقبل بناء المساجد أو التصدق من مال حرام ، لأن الله طيب لا يقبل إلا الطيب .

لقد ذكر الله الحكام في الآية لأن الحاكم هو الذي يقنن ويعطي المشروعية للمال ولو كان باطلا ، وقول الله تعالى : ﴿ وتدلوا بها إلى الحكام  ﴾ أي ترشوا الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالباطل ، ومن العجيب أن هذا النص هو نص الرشوة ، لأن الرشوة مأخوذة من الرشا : وهو الحبل الذي يعلّق فيه الدلو ، فأدلى ودلا في الرشوة ، أما لماذا يدلون بها على الحكام ؟ إنهم يفعلون ذلك حتى يعطيهم الحكام التشريع التقنيني لأكل أموال الناس بالباطل ، وذلك عندما نكون محكومين بقوانين البشر ، أم عندما نكون محكومين بقوانين الله فالحاكم لا يبح مثل هذا الفعل .

وعندما يُقنن الفساد فذلك لأن الحاكم يُقِرُّ ذلك ويأخذ الناس حكم الحاكم كأمر نهائي مثال ذلك الحكام لم يحرّموا الربا ويتعامل الناس به بدعوى أن الحكومات تحلله فلا حرج عليهم ، ومثل هذا الفهم غير صحيح ، لأن الحكومات لا يصح أن تحلل ما حرمه الله ، وإن حللت ذلك فعلى المؤمن ألا يخرج عن تعاليم دينه ، وأخيراً ما هو مقياس الحق والباطل ؟ هو أن تقبل لنفسك ما تقبله للطرف الآخر في أية معاملة أو تصرف لأنك لا ترضى لنفسك إلا ما تعلم أن فيه نفعاً لك .      

 

النهي عن اليأس والإحباط

إني لأعجب أن يصيب الإحباط أمةً القرآن كتابها  وحديث رسول الله  صلى الله عليه وسلم سنتها ، ورجال تاريخها ليس لهم مثيل في تاريخ الأمم الأخرى ، رجال لهم الأثر البالغ  على فكر قادة العالم عامة ، وقادة اليهود خاصة  وهذا ما دفع نائب الليكود داني نافيه ، في مقابلة له في الإذاعة الناطقة بلسان المستوطنين اليهود أن يتساءل : لماذا يدعو خطباء المساجد في طول الوطن العربي وعرضه ربهم ، أن يبعث لهم قائداً على غرار صلاح الدين لطرد اليهود  والقضاء على الحركة الصهيونية ، بنفس الطريقة التي تم بها القضاء على الصليبين في الماضي  وطالب المستشرق اليهودي يهشموع أحد حكومات إسرائيل ، أن تتوجه إلى العالم وعلى الأخص أمريكا للضغط على الدول العربية ، لتنقية مناهجها التعليمية  وبيئتها الثقافية من كل صلة بصلاح الدين وما يمثله ، وأضاف قائلاً : إن على إسرائيل أن تطالب العرب باستبدال أسماء الشوارع التي أطلق عليها اسم صلاح الدين بأسماء أخرى ، وكذلك أسماء الميادين والمؤسسات ، ووصف إصرار العرب على التمسك بتراث صلاح الدين ، بأنه إصرار على ثقافة العنف ، وكان الجنرال شلوموا باوم يوصف بأنه أسطورة الجيش الإسرائيلي   وكان بن غوريون يعتبره مفخرة الدولة اليهودية ، وكتب عنه شارون بأنه آلة حرب متحركة ، تتجسد في جسمٍ بشري ، وبالرغم من انه خدم 35 عاماً في الجيش ، إلا أنه رفض بإصرار الحصول على إجازة ولو ليوم واحد ، شارك في أكثر من ألف عملية عسكرية ، معظمها خلف مواقع القوات العربية  اشتهر بالقسوة الشديدة في تعامله مع العرب الذين وقعوا في أسره ، وكانت سيرته الذاتية تدرس لطلاب المدارس  وفي ذكرى وفاته  نشر كاتب إسرائيلي في صحيفة معاريف ، أنه لكثرة ما سمع من إطراء على باوم ، قرر التعرف عليه ، بعد تسرحه من الجيش  للتعرف على الدوافع الكامنة وراء معنوياته العالية  وشعوره المطلق بعدالة ما يقوم به  يقول الكاتب : عندما توجهت إلى باول في شقته ، وجدت إنساناً غير الذي سمعت عنه   وجدت شخصاً قد تملكه الخوف ، واستولى عليه الهلع   واستبد به القلق  وعندما سألته عن السر الذي دفعه لقتال العرب ، وحرمان نفسه الراحة لعشرات السنين   إذا به يصمت ، ثم يقوم ويحضر ملفاً كبيراً  ، فيقلب صفحاته ويقول : هل سمعت عن الحروب الصليبية ؟ هل سمعت عن معركة حطين ؟ هل سمعت عن شخص يدعى صلاح الدين ؟ وعندما قلت له مستنكراً : لكن العالم العربي في أعلى مستويات الضعف في كل المجالات  ضحك ساخراً وقال : لقد كانت أوضاع المسلمين قبل معركة حطين ، تماثل من حيث موازين القوى أوضاع العرب حالياً ، فقد كانت الدويلات العربية ، التي كانت قائمة في ذلك الوقت ، تقوم بدور كلاب حراسة للمالك الصليبية ، وإن مخاوفي جعلتني أحاول رصد الأسباب التي جعلت المسلمين ، يحققون ذلك النصر الأسطوري ، وفق منطق العقل والتحليل العسكري ، وما جعلني أتعلق بالحرب ، هو حرصي على أن أقوم بكل شيء ، من أجل عدم تهيئة الظروف ، لمولد صلاح الدين من جديد ، وفي مقابلة صحفية مع شارون   عندما سئل كيف تسير الأمور في إسرائيل ؟ أجاب وهو مهموم ليس على ما يرام  وقال : اخشي من ظهور صلاح الدين من جديد بين المسلمين  لأنه نشأ في مثل هذه الظروف .              

وإني لأعجب أن تقنط أمة يخاف أعدائها ، أن تسير على نهج سلفها ، وهي تملك من الثروات والمقدرات ، التي لا يملكها أعدائها ، وإني لا أتصور أمةً تؤمن بالله ربا   والقرآن نهجاً ودستورا ، أن يجد اليأس إليها سبيلا ، وكيف تقنط أمةٌ يدعوها القرآن إلى التفاؤل، وحسن الظن   وانتظار الفرج ، وأن تستبشر بالخير  وتطمئن بما قدره الله ، وتنتظر الفرج من الله عز وجل ، الذي نهى الله عن اليأس والقنوط ، مهما كانت الظروف والمصائب   حتى إن القرآن يضع اليأس في مرتبة الكفر، ويقرن القنوط بالضلال قال تعالى: ﴿ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ ﴾ الحجر56 . لكنها أصبحت حقيقة مشاهدة  وواقع لا ينكر ، ضاع فيه الأمل والحلم ، فخضعت الأمة خضوعاً مذلاً ، في حين يرجى لها الانتفاض  وركعت ركوعاً مخزياً ، في حين يرجى لها القيام ، فلماذا صارت إلى هذا المصير ؟ في تقديري أن ذلك راجع إلى تفريط المسلمين بدينهم   وابتعادهم عن منهج ربهم ، وتعاونهم على التخطيط لمستقبل أمتهم مع أعدائهم ، وقد اهتموا بالسنن والمندوبات والمستحبات ، وأهملوا الفرائض والواجبات ، أضف على ذلك ، ما تبثه القنوات الفضائية من الإباحية  والمجاهرة بكل فسق ومجون وانحلال ، وإهمال لمشاعر الأمة التي عاشت قروناً تحترم كل قانون وأدب إسلامي قال تعالى  :

﴿ وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا  ﴾  

وقد انعكس هذا على الواقع الاقتصادي ، الذي يعاني من الانهيار  والديون المتراكمة ، والسيطرة الهائلة للاقتصاد الأجنبي على معظم مقاليد الأمور في البلاد الإسلامية  وهذا ما أوجد في نفوس كثير من المسلمين  إحباطاً ويأساً يشعرون معه أن القيام من جديد ، إن لم يكن صعباً  فهو من ضروب المستحيل ، ناسين أن اليأس من رحمة الله   جريمة في حد ذاتها ؛ فلا يجوز لأنه من صفات الكفار  والذين لا يعرفون حقيقة دين الله ، بل إن القرآن يقرر أن اليأس من رحمة الله كفر بالله قال تعالى : ﴿ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾ يوسف 87. وأنه لا بد من اتخاذ الأسباب ، ويقرره القرآن ناموساً كونياً لا يتبدل، ونظاماً ربانياً لا يتغير  وسنة من سنن الله ، ولن تجد لسنة الله تبديلاً ، وإن الأيام دول بين الناس، وإن القوي لن يستمر على قوته أبد الدهر ، والضعيف لن يدوم عليه ضعفه مدى الحياة ، فهي أدوار وأطوار، تعترض الأمم والشعوب كما تعترض الآحاد والأفراد ، فمداولة الأيام بين الناس  من الشدة إلى الرخاء ، ومن الرخاء إلى الشدة ، ومن النصر إلى الهزيمة ، ومن الهزيمة إلى النصر ؛ هي من السنن الربانية  قال تعالى : ﴿ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ﴾ آل عمران140 . وهذه السنة نافذة بحسب ما تقتضيه سنة تغيير ما بالأنفس قال تعالى : ﴿ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ  ﴾ الأنفال 53 . وسقوط الأمم  وعدمه مرتبط بهذا التغيير النفسي في مسارها عبر التاريخ والحاضر والمستقبل، وهي سنة ماضية ثابتة لا تتغير ولا تتبدل . فحين يغير المؤمنون ما بأنفسهم ويستكملون أدوات النصر ، لا يضيرهم تفوق الأعداء عليهم ؛ لأن سنة أخرى تتدخل ، وهي وعد الله بالتمكين والنصر لعباده المؤمنين : ﴿ وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ  ﴾ الروم 47  وقوله تعالى : ﴿ وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً  ﴾ النساء 141 وقوله : ﴿ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ﴾ غافر51 . وقد يتأخر ويبطىء نصر الله لحكمة ما ، لكن في نهاية المطاف فهو آت لا محالة قال تعالى : ﴿ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ﴾ يوسف 110. ولم تتخلف هذه القاعدة الربانية -وهي أن النصر لا يأتي إلا إذا اشتد الضيق، وزاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر حتى في الأمم السالفة، فكم من أمة ضعيفة نهضت بعد قعود وتحركت بعد خمود ، وكم من أمة بطرت معيشتها وكفرت بأنعم الله فزالت من الوجود ، وأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون. 

فهذا رسول الله يعلن إعلاناً عاماً للبشرية كلها ويقول : (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، ولا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا فإن لو تفتح عمل الشيطان، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل) رواه مسلم.

ففي هذا الحديث تقوية للآمال، ورفع للهمم ، وحب للقوة والشجاعة وترك للفتور أو انتظار مقتضيات اليأس والإحباط، ودفع محاولة تبرير اليأس والقنوط، فالمؤمن هو الأقوى في كل الأمور: في الإيمان، في العلم والعمل، وفي كل شؤونه، يعد مؤمناً قوياً يستطيع بعون الله- أن يخرج من كثير من المشاكل والأزمات.. لا كما يفعله كثير من ضعفاء الإيمان من تبرير الفشل والكسل ، فالمؤمن القوي يحرص على ما ينفعه دوماً لا يخاف دون الله أحداً.. ثم هو مع ذلك الإقدام قد يصاب بمصيبة.. لكنه لا ييأس ولا يصاب بالإحباط بل يزيد إقدامه، ويقول عن تلك الأقدار والمصائب: قدر الله وما شاء فعل ، فما أعظمها من كلمات لو تدبرهن عاقل.. إنه تفويض للأمور وإرجاع لها إلى باريها..  الله الله بالتفاؤل والأمل، فإن ما ترونه اليوم من كيد أعداء الإسلام ، ليس إلا سحابة سوداء  سوف تنجلي عن قريب.. واعلموا أن ما أصاب الأمة من فتور ، وتركٌ لمسايرة الركب ، إنما جاء من حصول إحباط ويأس استولى على القلوب ، فلا تيأسوا فالنصر قادم ، أما تؤمنوا بقول الله تعالى : ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ التوبة 33 . ويقول صلى الله عليه وسلم : ( والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)  البخاري ومسلم . إن القرآن ليمد الصابرين الآملين الذين لا يجد اليأس إلى قلوبهم سبيلاً بمعين من القوة ، تتحطم أمامها قوى المخلوقين، وتعجز عن إضعافها والنيل منها محاولة العالمين ، وما يعلم جنود ربك إلا هو..وهل يليق بنا أن نقول : ماذا نصنع ونحن ضعاف وخصومنا أقوياء ؟ وفي صدورنا الأمل الواسع بنصر الله ، ومن ورائه التأييد الإلهي الشامل!! اللهم.. لا.. فأمِّلوا خيراً ، وإياكم والارتماء في مستنقع الذل والهزيمة واليأس من رحمة الله ، اللهم إنا نسألك عزاً للإسلام والمسلمين اللهم آمين .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

لا يأس  من نصر الله

إن أعداء الإسلام يريدون أن يوصلوا المسلمين إلى حالة من اليأس والإحباط  وإحساسهم بالعجز وعدم القدرة على مواجهتهم   وتهديد مصالحهم "فقد صدر في الولايات المتحدة تقريرٌ يسمى -ستراتفور- يفيد بأن التحدي الحقيقي الذي تواجهه أمريكام ليس في تنظيم القاعدة ، ولكنه في حالة الاستياء الشديدة في المجتمعات العربية والإسلامية من السياسات الأمريكية ، وإن الإصرار على ضرب العراق يهدف إلى خلخلة النفسية الإسلامية ، وإصابتها بالإحباط واليأس وإشعارها بالعجز الشديد من إمكانية تهديد مصالحها " . كما أكد وزير الدفاع الأمريكي في حوار له مع قناة –CBS – الإخبارية " بأن الحرب النفسية جزءٌ لا يتجزأ من أهداف الحملة الأمريكية على الإرهاب من اجل تأكيد هيمنتها وإيجاد فراغٍ نفسي يُعْجِز الآخرين عن المعارضة" . إن الخطر الأشد من تهديدات أمريكا لأمة الإسلام والذي يجعلها لقمة سائغة لأعدائها ، هو داء اليأس والقنوط ، وهو ما تسعى له أمريكا التي طغت وبغت ، وأمعنت في غدرها وبطشها ، إلا أن المؤمنين بالله يرون في بطش اليهود والأمريكان وطغيانهم بداية النهاية لهم . قال تعالى : ﴿ حتى إذا استيأس الرُّسُلُ وظنوا أنهم قد كُذِبوا جاءهم نصرنا فنُجِّيَ من نَّشاءُ ولا يُرَدُّ بأسُنا عن القوم المجرمين  ﴾ يوسف110 . حتى في الآية تدل على أن هناك غاية ، وما دامت هناك غاية ، فلا بد أن بدايةً ما قد سبقتها ، وما دام الله أرسل الرسل ، فقد ضمنوا النصر ، لكنهم استيأسوا عندما أبطأ ، مع أن هذا الإبطاء مقصودٌ من الله سبحانه ، لأنه يريد أن يُحمِّل المؤمنين مهمة هداية البشرية في الأرض ، وإلى أن تقوم الساعة ، ولقد مرَّ رسولنا عليه السلام والرسل من قبله بمحن ، ولا بد أن تمرّ الأمة الإسلامية بمحنٍ إلى يوم الدين   فمن صبر على هذه المحن وخرج منها ناجحاً ، فهو أهل لتحمُّل مهمة هذه الهداية  ويكون ممن استيأس ، لا من أهل اليأس ، لأن هناك فرقٌ بين من استيأس ، وبين من يأس ، فهناك أمل عند من استيأس ، بينما لا أمل عند من يأس قال تعالى : ﴿ ولا تيأسوا من رَّوحِ الله إنه لا ييأس من رَّوحِ الله إلا القومُ الكافرون ﴾ يوسف 87  ولعل إبطاء النصر لحكمة إلهية ، قد تكون لإعطاء الكافرين غروراً يجعلهم يتمادون في غيّهم ، وحين يأتي النصر تتضاعف فرحة المؤمنين ، ويتضاعف غمَُ الكافرين من الهزيمة التي تحل بهم .

أنا لا أدعو إلى الإسراف في التعلُّق بالأماني والتطلُّع إلى السراب ، كما لا أريد أن نظل منكسي الرؤوس في مستنقعات الهزيمة ومواطن الذل والإهانة ، ولا أريد أن نغالط أنفسنا ونركِّز على الخسائر والهزائم فقط ، وننظر إلى واقع الأمة بتشاؤم وإحباط ، لا أريد ذلك لأني اعتقد بأن الأمل بالخلاص من هذا الواقع الأليم هو عقيدةٌ راسخة نؤمن بها ، وإني أحذِّر من اليأس لأنه حيلة العاجز الذي يؤثر الانسحاب والانعزال ، ويفقد طريقه إلى النهوض من جديد ، وهذا من أعظم الخدمات التي نقدمها لأعدائنا .

قال صاحب الظلال : " والذي ييأس في الضرِّ من عون الله ، يفقد كلَّ نافذةٍ مضيئة ، وكلَّ نسمةٍ رخيّة ، وكلَّ رجاء في الفرج ، ويستبد به الضيق ويثقل على صدره الكرب ، فيزيد هذا من وقع الكرب والبلاء .. إذ لا سبيل إلى احتمال البلاء إلا بالرجاء في نصر الله ، ولا سبيل إلى الفرج إلا بالتوجه إلى الله ، ولا سبيل إلى الاستعلاء على الضرّ والكفاح للخلاص إلا بالاستعانة بالله   وكل حركة يائسة لا ثمن لها ولا نتيجة إلا زيادة الكرب ومضاعفة الشعور به " .

والمؤمن الحق لا تزلزله المحن ولا تهدّه المكائد ، بل يدعوه ذلك إلى مزيدٍ من العطاء والبذل والتضحية لدين الله ، ويبقى راسخاً بعقيدته . قال تعالى : ﴿ وكأين من نبيٍ قاتل معه رِبِيُّون كثير ، فما وهَنُوا لما لأصابهم في سبيل الله ، وما ضَعُفُوا وما استكانوا ، والله يحب الصابرين . وما كان قولَهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في امرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين ، فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسنَ ثوابِ الآخرة والله يحب المحسنين  ﴾ آل عمران 146 .

إن الوهن والضعف الذي تعاني منه الأمة ، ينبغي ألا يشغلهم عن الإعداد للمعركة مع أعداء الله  لأنهم لو أعدوا العدة وصبروا لأمدَّهم الله بمدد من عنده ، وكأن الله ينبهنا في قوله : ﴿ ربنا اغفر لنا ذنوبنا  ﴾ إلى أنه لا يصيبنا شيء إلا بذنبٍ من الغفلة ارتكبناه ، وقد فهم عمر بن الخطاب هذا الفهم عندما قال : " إنكم تنتصرون على عدوكم بطاعة الله ، فإن استويتم أنتم وهم في المعصية غلبوكم بعدتهم وعددهم " . فها هم اليهود لهم الغلبة بما وصلوا إليه من أعلى درجات الاستعداد وبما حدث منهم من شبه استقامة على المنهج ، أو على الأقل بمقدار ما تراجع المسلمون عن منهج الله ، لأن هذه سنة كونية ، فمن استحق الغلبة فهي له ، لأن الله سبحانه وتعالى منـزه عن الظلم حتى مع أعداء دينه ومنهجه ، والدليل على ذلك ما وصل إليه المسلمون بتخليهم عن منهج ربهم . وعند الرجوع إلى منهج الله ستكون لنا الغلبة والقوة ، وستعود لنا الكرَّةُ على اليهود الذين يشكلون مصدر قلق وإزعاج ، وقد يكون لوجودهم حكمة ، لأن شقاء الناس على أيديهم يلفتهم إلى الإيمان ، فلا يرون لهم راحةً إلا بالإيمان بالله ، وعلى مرّ العصور لو لم يكن الكفر الذي يؤذي الناس ويقلق حياتهم ما التفتوا إلى الإيمان .  

ولم لا يكون لنا في رسل الله عليهم السلام وأنبيائه قدوة ، فكم من نبيٍ قاتلت معه جماعات كثيرة ، فما ضعفت نفوسهم لما أصابهم من البلاء والكرب والشدّة ، وما ضعفت قواهم عن الاستمرار في جهاد الأعداء ، وما استسلموا للأعداء ، شأنهم شأن المؤمنين الذين يدافعون عن دين ٍ وعقيدة   وقد كانوا في غاية الأدب في حق الله وهم يواجهون الشدائد والأخطار ، فكان توجههم إلى الله لا ليطلبوا النصر ، وإنما لطلب العفو والمغفرة والاعتراف بالذنب والخطيئة ، قبل طلب الثبات والنصر على الأعداء ، فكانوا من المحسنين بشهادة الله لهم . إنها تربيةٌ تملأ القلب بمعينٍ من القوة لا يضعف ولا ينهزم ، لأن من تربى في مدرسة النبوة لا يتطرق الوهن إلى قلبه ، بل تراه صابراً ثابتاً وإن أحاطت به المحن من كل جانب .

إن من أولى الأوليات أن نشيع الأمل في نفوس الناس   الأمل الذي يدعوا إلى الثبات على دين الله والسير على خطاه وتحقيق منهجه في الحياة  كما يجب أن نفهم بأن نصر الله لن يتنـزل على المؤمنين بمعجزة خارقة ولكن بسنة جارية ، يمتحن فيها العباد ليبلوهم الله أيهم احسن عملا ، وهذا لن يتحقق بموعظة تتلى أو خطبةٍ تلقى فحسب ولكن بقدرات صالحةٍ قوية في دين الله ، صدَّقت بما وعد الله به عباده المتقين قال تعالى : ﴿ ولو يشاءُ اللهُ لأنتصر منهم ولكن ليبلو بعضَكُم ببعض والذين قُتِلوا في سبيل الله فلن يُضلَّ أعمالَهم  سيهديهم ويُصلِحُ بالَهُم ، ويُدخِلُهُم الجنَّةَ عرَّفَها لهم يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينْصُرْكُم ويثبتْ أقدامكم  ﴾ محمد 7.6 .

 

 

النهي عن موالاة أهل الكفر

قال تعالى : ﴿ لتجدنَّ أشدَّ الناس عداوةً للذين آمنوا اليهود والذين اشركوا ﴾ المائدة 82 . هذا النص يدفع كل مؤتمرات التعايش بين الأديان   ووقوف الرهبان والأحبار مع المنحرفين من علماء المسلمين ، وتركيز مفهوم أن الإسلام دين السلام بشكلٍ مغلوط ، لإبعاد الأمة عن منهج عقيدتها  وما هو لازم لهذه العقيدة من وحدانية الله وربوبيته من الولاء لعباده والبراء من أعدائه . قال تعالى : ﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ، بعضهم أولياء بعض ، ومن يتولهم منكم فإنه منهم ﴾ المائدة 51 . إن الصراع بين الحق والباطل دائم ما دامت السموات والأرض ، واتباع فئة من الأمة الإسلامية للمشركين من اليهود والنصارى ، ووجود طائفة ظاهرة على الحق رغم كل الضغوط والمضايقات ، كل ذلك من السنن الكونية المقدرة ، ولكن ذلك لا يعني الاستسلام وسلوك سبيل الضالين بالجمع بن المسلم والمشرك   بإزالة العداوة وإيجاد روح المودة بنهما ، وهذا ما تقوم به دول الكفر لتجعل المسلم يأخذ من دينه الجانب الذي يتناسب مع أجواء المودة مع أعداء الله والمؤمنين اليهود والذين أشركوا .

إن الثبات على الدين مهما قوي الزائفون وكثر المنحرفون ، له منـزلة عظيمة عند الله في زمن للعامل فيه مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمل الصحابة ، فقد أخرج أبو داود والترمذي عن أبي ثعلبة الخشني عن أقوام من أمة محمد ينحرفون عن الحق صوب الباطل يغيِّرون ويبدِّلون وعقوبتهم أنهم سيحجزون عن الحوض حينما يرده الذين استقاموا ويشربون منه ، قال عليه السلام : ( أنا فرَطُكم – أي متقدمكم - على الحوض ، وليُرفعن إلىَّ رجال منكم حتى إذا هويت اليهم لأناولهم اختلجوا – أي انتزعوا - دوني فأقول : أي رب أصحابي فقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ) وفي رواية فأقول: ( سحقاً لمن بدل بعدي ) 

إن أعظم مظاهر التغيير والتبديل والتنكير لدين الله   اتباع اعداء الله في كل كبيرة وصغيرة باسم التآخي بين الأديان ، وتحت شعارات التعايش السلمي والأخوة الإنسانية والنظام العالمي الجديد والعولمة ، وغبرها من الشعارات والاحتفالات بالمناسبات المتعلقة بهم وبدينهم من قبل المسلمين الذين قلدوهم في شعائر دينهم وعاداتهم وتقاليدهم مخالفين بذلك قول الله تعالى : ﴿ ولا تتبع اهواءهم عما جاءك من الحق لكلٍ جعلنا منكم شرْعةً ومنهاجا ﴾ المائدة 48 . وإذا اغتر الكثيرون باحتفالات أعداء الله في أعيادهم ومناسباتهم ، فشاركوا فيها بحجة أن تلك الاحتفالات في الأماكن التي تقع ضمن أراضي المسلمين ، أو بحجة اعتبارها مناسبة عالمية   وما علموا أن المشاركة بها يعتبر مشاركة في شعيرة من شعائر المشركين ، وأن الفرح بها فرح بشعائر الكفر وظهوره وعلوه ، وفي ذلك خطورة على عقيدة المسلم وإيمانه ، فقد أخرج احمد وابو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من تشبه بقوم فهو منهم ) . فكيف بمن يشاركهم في شعائر دينهم ، علماً بأنه لا يطلب من المسلم معرفة شعائرهم وعاداتهم ، ولا يشاركهم فيها إلا من هزموا في أنفسهم ، ففسدت قلوبهم وضعف وازع الدين عندهم . فترى كثيراً من المسلمين يصفهم بالرقي والتقدم والحضارة حتى في عاداتهم واعمالهم المعتادة فاندفعوا في تيار التقليد وانفتنوا به ولم يرد بخلدهم هذا السؤال ؟ هل هم يدينون دين الحق من الإسلام الصحيح ؟ أم يدينون بدين الباطل ؟  إن كثيراً من المسلمين انساقوا وراء التقليد الأعمى ، بالانسلاخ عن آيات الله فأخلدوا إلى أرض الأهواء والشهوات فغفلت قلوبهم عن ذكر الله واتبعوا الأهواء فكانوا من الغاوين ، لأن اهتمامهم منصبٌ على طلب الرئاسات وكثرة الأتباع ومتع الحياة الدنيا ، فسلكوا في سبيل ذلك كل طريق يوصلهم إلى غاياتهم  وإن تشوهت صورة الدين الحق الذي هو معرفة الله والإيمان به   وعمل كل ما يقتضيه ويستلزمه هذا الإيمان ، والذي انعكس عندهم إلى الإيمان بالمشركين وكتبهم المحرفة حتى تملكهم ذلك ، ووجههم إلى العمل بكل ما يقتضيه دينهم المحرّف ، واتخاذ اقوالهم وأهوائهم شرائع بحيث تقدّم على شرع الله   مما كان له أسوأ الأثر في توجيه المجتمع الإسلامي في طريق الضلال بعيداً عن العزة والقوة والفلاح والهدي والتمكين في الأرض ، حتى تكالب عليهم الأعداء من كل جانب فاستهانوا بكل مقدرات هذه الأمة التي اصبحت كغثاء السيل لما ضربها من الوهن والضعف والصغار والذل بإعراضها عن الإسلام الحق ، وبإعلانها المشاقة لله ولكتابه ولرسوله ولدينه من كل ناحية ، عقيدة وعملاً وخلقا وحكما في استهتار مهين  وفي ظل هذه الاحوال أصبحت العبادات تقاليد ورسوم آلية لا تزيد النفوس إلأ رجسا ولا القلوب إلا قسوة وظلمة ولا الأخلاق إلا انحلالا ، جاهروا بالفسق والعصيان ، وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل وتحاكموا إلى الطاغوت ، وعملوا بعادات الجاهلية وتقاليدها . والطامَّة الكبرى أنهم يزعمون أن ذلك من الإسلام وأنهم يسيرون على الدرب الذي ينالوا به رضى الله ونصره في الدنيا والآخرة   ناسيين أن سنن الله وآياته تنادي بأنهم على غير هدى ، لأن الله لا يخلف وعده فقال : ﴿ ولن تجد لسنة الله تبديلا ﴾ وقال : ﴿ ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ﴾ النساء 141. هذه الآيات وامثالها في كتاب الله تشهد على أنهم من أشد المحاربين للإسلام والهادمين لقواعده ، إنها تناديهم لعلهم يرجعون إلى العقل والرشد والصواب ، ويطلبوا الإسلام الصحيح من مصدره كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وسيرة أصحابه ، لتعود لهم العزة التي كانت لأمة الإسلام من قبل . ولكننا نلاحظ وللأسف أن الآيات والنذر لا تزيدهم إلا بعداً عن الإسلام  وبعداً عن الهدى والرشد ، لأن مصيبتهم تكمن في التقليد الأعمى الذي لا يرتضون عنه بديلا والذي قتل عقولهم وسلبهم انسانيتهم المفكرة ، فاسلموا قلوبهم وانفسهم لما زين لهم الشيطان بأنهم سائرون في الطريق الصحيح الذي رسمه الإسلام ، وزاد في تماديهم ما تمدهم به حاشية السوء وبطانتهم الغاوية من لابسي ثياب العلماء الذين يحرِّفون القول الصحيح عن موضعه ، وسعوا إلى رضاهم أكثر من سعيهم لمرضاة الله عز وجل ، وقد حذّر الله من هؤلاء أشد التحذير فقال تعالى : ﴿ فلا تطع المكذبين وَدُّوا لو تُدْهن فيدهنون ﴾ القلم 9. وقال تعالى : ﴿ فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين إنا كفيناك المستهزئين الذين جعلوا القرآن عضين ﴾ الحجر 94.  لقد بالغ النبي صلى الله عليه وسلم في أمر أمته بمخالفة المشركين في كثير من المباحات وصفات الطاعات لئلا يكون ذلك ذريعة إلى موافقتهم في غير ذلك من أمورهم ، ولتكون المخالفة في ذلك حاجزاً ومانعاً من سائر امورهم .

وكان من شروط عمر رضي الله عنه والتي اتفقت عليها الصحابة وسائر الفقهاء بعدهم أن أهل الذمة من أهل الكتاب لا يظهرون أعيادهم في دار الإسلام .

وإذا كان المسلمون قد اتفقوا على منعهم عن اظهارها ، فكيف يسوغ للمسلمين اظهارها والمشاركة بها ، وإنما منعوا من اظهارها لما في ذلك من الفساد إما لأنها معصية أو شعار للمعصية والمسلم ممنوع من المعصية ومن شعائر المعصية .

روى البهيقي بإسناد صحيح قول عمر رضي الله عنه :"لا تعلموا رطانة الأعاجم  ولا تدخلوا على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم فإن السخطة تنزل عليهم ".

وروي عنه قوله "اجتنبوا اعداء الله في عيدهم". أليس في هذا نهياً عن لقائهم والاجتماع بهم فيه ؟ فكيف بمن عمل عيدهم  ؟ وكيف  إذا اقتضت المشابهة إلى ما هو كفر بالله من الترك بالصلب والتعميد ؟ كما أن التهنئة بشعائر الكفر المختصة محرم ، مثل أن يهنئهم بأعيادهم كأن يقول عيد مبارك عليك   فهذا ان سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات  وهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصليب  وذلك أعظم إثماً عند الله من التهنئة بقتل النفس ومن هنأ أحداً بمعصية أو كفر فقد عرض نفسه لمقت الله . ذكر ابن القيم أن تهنئة الكفار بأعيادهم الدينية حراما لأن فيه اقراراً لما هم عليه من شعائر الكفر ورضى به لهم ، وإن كان هو لا يرضى بهذا الكفر لنفسه لكنه يحرم لمنع المسلم أن يرضى بشعائر الكفر أو يهنىء بها غيره لأن الله تعالى لا يرضى بذلك كما قال : ﴿ إن تكفروا فإن الله غنيٌ عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم ﴾ الزمر7.  وإجابة المسلم دعوتهم بهذه المناسبة حرام ، لأن هذا أعظم من تهنئتهم به لما في ذلك من مشاركتهم فيها ومن فعل شيئاً من ذلك فهو آثم   سواء فعله مجاملة أو تودداً أو حياءاً أو لغير ذلك من الاسباب ، لأنه من المداهنة في دين الله ومن اسباب تقوية نفوس الكفار وفخرهم بدينهم . أما الذين يجيزون ذلك باسم التسامح والأخوّة الإنسانية ، فإن ذلك مردود ولا حيلة لنا إلا أن نذكر بأن ذلك عين الضلال والشك في الإسلام   من اناس اتهموا الإسلام بتسامحه واجازة المشاركة في شعائر الكفر ، وحتى لا نجرح مشاعر الكفار ونكدِّر عليهم صفو احتفالاتهم والتي تحصل في وقتٍ شهد دماءً إسلاميةً غزيرة نزفت في ارجاء المعمورة على أيدي المعنيين بهذه الأعياد في حروب عقائدية دينية غير متكافئة .

   

 

 

 

أما آن لنا أن نستيقظ

في جلسة من الجلسات  أمام التلفاز ، قال أحد الحضور ألا يتضايق الشيخ من مشاهدة الرقص وسماع الغناء ، فقال آخر : معه حق فالشرع ينهى عن ذلك  أليس ذلك صحيحاً ؟ والتفت إلى َّ والجلوس يتبادلون الضحك العالي ، وهم في غاية الأنس والصفاء ، قال أحدهم : يا شيخ أنت ممن يجيزون النظر للصور باسم الدين ، أجبته ساخراً : كان للدين سفراء يمثلونه عند رجال الدنيا ، أما اليوم فعند رجال الدنيا أقوامٌ يمثلون باسم الدين .  فقال : باعتبارك رجل دين نسألك عن حكم الشرع في الموضوع ، فقلت : تسألون عن حكم الشرع في أشياء لا تكاد تخدش حتى القشور في الدين ، أما ما يتعلق باللب وقد أُبعد واستأُصلت جذوره ، فلا تسألوا عنه أحداً هذه الأيام ، لماذا لا تسألوا عن الخيانات التي طغت وعمَّت وعصفت بكل الأحكام الشرعية  وقهرت القلوب المعذبة ؟ ولماذا لا يستفتى الدين فيها ليقول كلمته ويعطي حكمه ؟ ولماذا لا نعرف طبيعة الدنيا التي نعيش والأساليب التي يشيعها خصومنا لكسب معاركهم ضدنا ؟ ولماذا يندفع الناس إلى الجدل الطويل وإلى السؤال في مسائل الدين الصغرى   وينصرفون عن الأمور الخطيرة التي تتعرض لها الأمة ؟ ولماذا يسأل الناس في الهزل ولا يسألوا في الجد ؟ ولماذا يستفتون في المضحكات ويتجاهلون المبكيات ؟

ولماذا تقام الدنيا وتقعد لمخالفة سنة من سنن الدين من أحد الناس ، ولا نكلِّف أنفسنا عناء العمل لإقامة حكم الله في الأرض ، مع أننا أصحاب دعوة عالمية ، أما الذين في موقع المسؤولية والذين يتجاهلون الأصول في الدين ، فلا سؤال ولا استفسار ، بل لسان الحال لينعم بالاً من يعنيهم الأمر بما يفعلون ، دون اعتبار للشعوب المقهورة  والطوائف المغصوبة . إننا وبكل أسف ننتمي للإسلام وننكره في آنٍ واحد   منتمون له بالميراث ، وخارجون عليه في التطبيق العملي . دخلت فاطمة زوجة عمر بن عبد العزيز عليه يوماً وهو جالس في مصلاه ، واضعاً يده على خده فقالت : مالك ؟ قال : ويحك يا فاطمة ، قد وليت من أمر هذه الأمة ما وليت   فتفكرت في الفقير الجائع ، والمريض الضائع  والعاري المجهود ، واليتيم المكسور ، والأرملة الوحيدة ، والمظلوم المقهور ، والغريب والأسير   والشيخ الكبير ، وذي العيال الكثير والمال القليل ، وأشباههم في أقطار الأرض وأطراف البلاد ، فعلمت أن ربي عز وجل سيسألني عنهم يوم القيامة ، وأن خصمي دونهم محمد صلى الله عليه وسلم ، فخشيت أن لا يكون لي حجه عند خصومته فرحمت نفسي فبكيت " . إن الفرق واضح بين السلف والخلف كانوا أتقياء شديدو الحساسية بالله ، تفيض عيونهم بالدموع من خشية الله ، فخلف من بعدهم خلف بعيدون عن الله ، وقد نسوا أن الله هدد الذين خالفوا سيرة آبائهم بالضلال والهلاك فقال تعالى: ﴿ فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيّا ﴾ مريم 59 ، والغي الشرود والضلال   وعاقبة الشرود الضياع والهلاك . انت تلك الفئة لا أبهة ولا زينة ولا فخامة   تقف بمالها وبسلطانها وجاهها من أجل المصالح تحققها والمغانم توفرها ، تَسْخَرُ من الجاه والسلطان ، وتدعو الناس إليها لا باسم مصلحة   ولا قربى من حاكم  ولا اعتزاز بذي سلطان   ولكن باسم العقيدة بغية القرب من الله ، فخلف خلف لا يتحرَّج من ارتكاب أشد الجرائم وحشية وأشنعها بربرية وأبعدها عن كل معاني الإنسانية  لا يدركون أن للعقائد رصيداً من الإيمان ورصيداً من عون الله ، وأن الغلبة تكون بهذا وذاك لا بالظواهر والأشكال .  فإذا تدبرنا قول الله تعالى : ﴿ إن الله لا يصلح عمل المفسدين ﴾ يونس 81 . وقوله تعالى : ﴿ ذلك بأن الله لم يك مغيِّرأً نعمةً أنعمها على قومٍ حتى يغيّروا ما بأنفسهم  ﴾ .

في الآيات من القوانين ما يحصِّن الأمم ، وفي دراستها حياةٌ ونماءٌ للعقائد والأخلاق   ومهما كان الوزن لفروع الفقه ، التي هي الشغل الشاغل لبعض الفئات ، إلا أن هذه الأصول أسبق   والعكوف عليها أجدى ، لأن الاختلاف في كثير من الأحكام الفقهية  لا يعدو أن يكون وجهات نظر ، قد تكون متساوية الأجر عند من يصوِّبون كل اجتهاد أو متفاوتة الأجر عند من يرون المجتهدين عرضة للخطأ والصواب ، فمثلاً قراءة الفاتحة لا بد منها وراء الإمام  بينما يقول آخرون لا تجوز قراءتها  فليختار من شاء ما شاء   فما يقوم الدين أو ينهدم بأحد المذهبين ، إنما يضيع الدين والدنيا معاً بذهاب الخشوع وإطاعة الهوى وإهمال المنهج الرباني ، ومن الناس من يهتم بالقشور من الدين ويهمل اللباب ، وإني على يقين بأن الإنسان لو قضى عمره قائماً إلى جوار الكعبة  ذاهلاً عما يتطلبه مستقبل الإسلام من جهادٍ علميٍ واقتصاديٍ وعسكري ، ما أغناه ذلك شيئاً عند الله ، لأن بناء المصانع يعدل بناء المساجد ، وإن حراسة الحق كتعليمه ، وإقامة سياج حوله لا يقل عن الاعتناء بنصوصه .

إن أول ما أصاب الأمة من عطب ، توهمها أن الصالحات لا تعدو القيام بأداء العبادات   وإهمال كل ما يتعلّق بشؤون الدنيا ، من طب وهندسة وعلوم الإلكترونيات ، وفنون القتال في البر والبحر ، أيظنون بهذا الإهمال لهذا الجانب من العلوم نحمي ديارنا ونحرس إيماننا ، ونرد أعدائنا ونصون حمانا ؟ كلا وألف كلا ، فقد كان من نتائج جهلهم بالجوانب الأخرى التي طالبهم الإسلام بها   أن خذلتهم قوانين الأرض وبركات السماء فإذا العرب والمسلمون يقعون في ورطات رهيبة ، وتجتاحهم هزائم مذلَّة في كل ساحة لقد نسي هذا القطاع الواسع من الأمة ، أن رسالتنا الكبرى قاعدتها أمة مؤمنة بها حريصة عليها   وأداتها الأولى جهاز الحكم فيها ، لذا فإن المطلوب من كل مسلم غيور على دينه ألا يضيع وقته في الجدال ، وألا ينخدع عن فساد الموضوع بفساد الشكل وأن يتجه بالعمل المخلص للأمة للنظر في العلل التي تنخر في كيانها ، وتباعد بينها وبين كتاب ربها وسنة نبيها ، فيا من تركزون جلَّ اهتمامكم على جوانب من الدين وقد يكون بعضها من القشور التي لا تنفع الدين شيئاً في التطبيق العملي ، نقول لكم بأن الإسلام كلّ لا يغني بعضه عن بعض ، والحكومة فيه إفراز طبيعي لأمة مؤمنة ، تختار الأكفاء والأصلح وتأتمنه على دينها ودنياها ، وتضعه تحت رقابتها  ولها الحق المطلق في تنحيته يوم لا يقوم على أمر الله وستة رسول الله صلى الله عليه وسلم . إن مهمة الدعاة ليست في تلمس الأخطاء وهجاء أصحابها  ولكنها مهمة تتركز لبناء الأمة في كل المجالات ، وإن أي عمل فيه الغلو والتعصب لجانب دون آخر ، يصيب الإسلام في مقتل   ويكون صاحبه من حيث لا يدري عوناً لخصوم هذا الدين . وهذا ما يرضي السلطات المستبدة   التي تسرُّها الخلافات التي لا تمسها ، بل يتمنى القائمون على أمرها لو غرق الجمهور في هذه القضايا ولا يخرج منها . ولا حيلة لي إلا أن أشكو إلى الله من يخذلون الإسلام ويمالئون أعداءه ، كما أشكو إلى الله المتدينين الذين قست قلوبهم على عباد الله وذهبوا مذهباً مستعليا ، حتى رموا بالكفر والفسق من شاءوا ، لا سند لهم فيما ذهبوا إليه ، إلا فقه قليل وترتيلٌ كثير ، قشورٌ من العبادة على باطنٍ خرب ، وتطاول غريب لا يحترم عالماً ولا علما ، وقد يقول قائل : إننا نُمْنَعُ من العمل في الميادين التي تنادي برفع راية الإسلام فما العمل يا ترى ؟ نقول لهؤلاء : لماذا لا نقتدي بالأنبياء ، ألم يمنعوا من قبل عن أداء رسالتهم وقد مضوا في الطريق الطويل ، يتحملون التكذيب والتعويق ، مضوا يبنون ولا يهدمون   ويحسنون ولا يسيئون ، حتى تخيَّر الله لهم مكان النصر وزمانه قال تعالى : ﴿ ولقد كُذبت رُسُلٌ من قبلك فصبروا على ما كذِّبوا وأوذوا حتَّى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ﴾ الأنعام 34 .        

 

 

 

شرع الله مقدّم على هوى النفس

إن المؤمن الحق خاضع لأوامر الله، منقاد لشرعه ، مقدم شرع الله على هوى نفسه ومشتهياتها ، ويكون هواه تبع لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم بقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به ) فلا ينقاد إلى الهوى ، بل يخالف الهوى وينقاد إلى الشرع ، ويتذكر قول الله سبحانه ذاماً من اتبع هواه: ] أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ [ 23الجاثية  

فالمؤمن هواه تبع لما دلَّ عليه الكتاب والسنّة ، يتلقى أوامر الله بالقبول فينفذها ، ونواهيه  فيجتنبها ويبتعد عنها ، أما الذين ثقلت عليهم أوامر الشرع، فلم ينقادوا لها، سواء كان ذلك في أصول الدين أم في فروعه ، فقد ذمهم الله تعالى في قوله : ] كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ [ 13 الشورى . دعاهم إلى عبادة الله، وإخلاص الدين لله ، وأن يكون الله وحده المعبود دون سواه وأن العبادة بكل أنواعها حق لله لا حق لمخلوق كائناً من كان ، فلما دعاهم إلى ذلك كبر عليهم وشقّ عليهم وقالوا: ] أجعل الآلهة إلهاً واحدا إن هذا لشيءٌ عجاب[ 5 ص ،  كبر عليهم هذا الدين بأحكامه وأوامره ونواهيه ، وكبرت عليهم الدعوة إلى تحيكم الكتاب والسنة والاقتصار عليهما وتلقي الأحكام منهما   كبر عليهم وجوب تحكيم الكتاب والسنّة والتحاكم إليهما والرضا بأحكامهما ، وأنها هي الأحكام العادلة التي تعطى كل ذي حق حقه، وفيها ردع الظلم وتحقيق العدل وإرساء دعائم الأمن ، و إذا ما دعونا الى ذلك اعترض المعرضون واعترض المنافقون  وقالو ا: هذه أحكام لأمة مضت وأجيال سلفت ، ونحن في القرن الحادي والعشرين يجب أن تكون لنا نظم وقوانين تحاكي واقعنا وتتحسس مشكلاتنا ، وكل هذا من الضلال البعيد ، فهم كما وصف الله سابقيهم قال تعالى: ] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا [ 61 سورة النساء .

هذا واقع من لا يقبلون أحكام الله ، ولا يرضون بها ويحاولون الحط من قدرها، ويحاولون انتقاصها بكثير من الشبه الضالة والآراء الباطلة نفاقاً وكفراً - والعياذ بالله - ولذا حكم الله على من لا يحكم شرعه بالكفر وبالظلم وبالفسق، لأن من لم يقبل شرع الله ولم يحكم شرع الله، فإن ذلك دليل على فقدان الإيمان من قلبه .

لقد كبر على ضعفاء الإيمان والبصائر إذا ذكرت لهم بعض الأوامر أو بعض النواهي، رأيت ذلك ثقيلاً عليهم وشاقاً ] وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ ٌ[  143 البقرة .  وإذا ما تعرض لبعض النواهي التي نهى عنها الشرع ، قابلك بالتشكيك في نواهي الله ، وبعدم الإيمان والرضا بها ، فعندما تقول لهم الربا حرام ، حرَّمه الله في كتابه وحرَّمه نبيه صلى الله عليه وسلم وأجمع المسلمون على تحريمه ؛ ومن استحله بعد العلم بحقيقة تحريمه فقد ضل وخرج من الإسلام  ، فيجيبون بتكبر وعناد ،  كما قالت الجاهلية هذا بيع والله يقول : ] وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [ 275 البقرة ، رداً على من قال: ] إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا [275 البقرة ، يقول هذا الجاهل ضعيف  الإيمان ، كيف تحرِّم الربا علينا ، أتمنع عجلة الاقتصاد ، أتحول بين الناس وبين الرقي الاقتصادي المادي؟ فإذا منعت الربا تعطَّلت المصالح وضعفت الموارد وأصبحنا بمعزل عن العالم ، ولسان حالهم الربا يجب أن يكون حلالاً طيباً ، وإن كان الشرع يقول بخبثه ، ولا يريدون أن يسمعوا صوتاً يقول : هذه معاملات محرمة ، ملعون آكل الربا ، ملعون موكل الربا ، ملعون كاتب الربا ، ملعون شاهدا الربا ، فيكبر ذلك عليهم ويضيقون بذلك ذرعاً لقلة الإيمان ولضعف الإيمان في النفوس ، كما كبر على رجال شركات التأمين التجارية المبنية على الفسق والغبن والغرم التي لا تحقق للشخص هدفاً ، ولكنها تأخذ أموال الناس بالباطل ، ما بين غانم وغارم ، لا تتحقق فيها المصالح ، وإنما فيها المفاسد والمغارم ، فيقول: تلك معاملة طيبة وتلك معاملة نافعة وإلى غير ذلك مما تسمعه من المبررات لهذا العقد الخبيث الفاسد ، وهكذا يتصور ضعفاء الإيمان، ويكبر عليهم إذا حذَّرتهم من بعض المحرمات ، لأنه لا يتفق مع أفكارهم المنحرفة ، وآرائهم الضالة ، وعندما تبيِّن موقف الإسلام من محاربة الرذائل وسقوط الأخلاق ، يعترضون بقولهم لقد أغلقتم على الناس حرياتهم ، سلبتموهم حرياتهم ، قضيتم على شخصياتهم، تدخلتم في شؤونهم الخاصة قلتم وقلتم، نعم نحن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، ونبيِّن للأمة المسلمة أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خلق وصفت به هذه الأمة المحمدية التي هي خير أمة أخرجت للناس ] كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ [ 110 آل عمران .

أما من يقول إذا أمرت بهذا ونهيت عن هذا ، تكون قد تدخلت في الحقوق الشخصية لكل فرد ، وعطّلت حريته ، فهذا لا يقول به ديننا ، الذي يدعونا لأن   نكون أمة واحدة كلمتها واحدة ، ورأيها وفكرها متحد ، واتجاهها سليم ، وعقيدتها عقيدة التوحيد ، وأخلاقها مصانة من كل من يريدها بالفساد والسوء ، وإذا ما قلت هذا دين الله ، قالوا : أنت تريد إرجاع العالم إلى قرون خالية وقرون ماضية ، وتدعو إلى أمور انتهى زمانها وذهب دورها ، ونحن نريد أن نصبغ منتدياتنا ومواسمنا وثقافاتنا بصبغة عصرية بعيدة عن الدين والأخلاق ، لأنهم يرون الدين منغصاً لشهواتهم ، قاضياً على انحرافهم ، فهم يريدون أن يصبغوا كل شيء بصبغة بعيدة عن الإسلام ، وصدق الله العظيم إذ يقول: ] وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [ 72 الحـج  

إن الإسلام يريد من المؤمنين أن يرتبطوا بدينهم الإسلامي في أنظمتهم وفي كل أحوالهم ، لأن ارتباطهم بدينهم هو سبيل عزهم وكرامتهم ورفعتهم في الدنيا والآخرة ] مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ [  10 فاطر . وقال تعالى: { وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ } (18) سورة الحـج فعز الأمة وشرفها إنما يكون باتباع شرع الله وتحكيمه والتحاكم إليه ،  إن قصور أفهام الناس عن إدراك ما دلَّ الكتاب والسنة عليه شيء، وكمال الشريعة وانتظامها لمصالح العباد في الحاضر والمستقبل شيء آخر والله يقول: { مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ } (38) سورة الأنعام ، وإن قصور الأمة وضعف الإدراك وقلة التصور هو الذي حمل بعض الناس أن يجعلوا ضعف البشر وقلة إدراكه يميناً في الشريعة وحاشا أن يكون فيها عيب، فهي شريعة أكملها الله وأتمها ورضيها لنا وإن التمسك بها والثبات عليها نعمة من أجل نعم الله على العباد وإن العدول عنها وقلة التمسك بها هو الشقاء والبلاء {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ، وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا ، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} 126 سورة طـه .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

1

الثقـة بنصر اللـه

 إن الثقة بنصر الله والتوكل عليه . صفة المؤمن الذي يثق بربه ويتوكل عليه لأن الله سبحانه وتعالى على كل شيء قدير والأمر كله له قال تعالى : ] إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [ يس 82 . والله يورث الأرض من يشاء من عباده كما قال تعالى : ] إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [ الأعراف 128 .  سبحانه وتعالى الذي يضُر و ينفع ] وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ [ الأنعام 17. ولمّا قام أعداء الله على النبي صلى الله عليه وسلم وأجمعوا مكرهم وأمرهم فإن الله عز و جل أذهب ذلك فقال تعالى : ] وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [ الأنفال 30 . وقال ] قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ } النحل 26 . أتى الله بنيانهم من القواعد ، فإذاً المكر بمن مكر بالله ، فالله يمكر به  ، وقد لفت علماء الإسلام ومنهم ابن القيم رحمه الله إلى قضية خطيرة يقع فيها كثير من المسلمين وهي سوء الظن بالله عز و جل ، يظنون أن الله لا ينصر شريعته و لا ينصر دينه ، و أن الله كتب الهزيمة على المسلمين أبد الدهر وأنه لا قيام لهم ، إذاً فلماذا أنزل الله الكتاب ؟ لماذا أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم ؟ لماذا شرع الدين ؟ لماذا جعل الإسلام مهيمناً على كل الأديان ؟ لماذا لا نثق بنصر الله وقد قال عز وجل ] مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ [ الحج 15 . قال العلماء في تفسير هذه الآية : من كان يظن أن لن ينصر الله محمداً صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة فليمدد بحبل يخنق به نفسه ، يتوصل إلى هذا الحبل الذي يشنق به نفسه إن كان ذلك غائظه لأن الله ناصر نبيه لا محالة ، قال تعالى : {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ  يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [ غافر 51-52 .  ]وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ ، وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [  الصافات 171-173 . وقال تعالى : ] إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [ المجادلة 5 .  وفي الآية الأخرى  ]إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ ، كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [ المجادلة 20-21 . فإذاً إذا تحققت شروط النصر فلابد أن ينصر الله الذين حققوا الشروط ، و إذا هُزموا فإنما يُهزموا لتخلّف تحقق الشروط
و هذه الأمة تتربى بأقدار الله التي يجريها عليها ، والنبي صلى الله عليه وسلم قد علّمنا من سيرته كيف ينصر ربه فينصره قال تعالى : ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [ محمد 7 . وقال تعالى : ] إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [ آل عمران 160.  و الله عز و جل فعّال لِما يريد ، فقد كتب المقادير قبل أن يَخلق السماوات والأرض ، ولذلك فإن كل ما يقع و يحدُث مكتوب عنده سبحانه وتعالى ، و قد يظن المسلمون بشيء شراً فإذا هو خير لقصر النظر وعدم معرفة الغيب ، وما كان الله ليطلعكم على الغيب قال تعالى : ] لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [ النور 11 . وقال سبحانه وتعالى : ] وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ [ البقرة 216 . و هذه القاعدة العظيمة التي جرت عبر التاريخ قال تعالى : ] إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [ الرعد 11 . و لذلك فإنه لابد من الثقة بنصر الله عز و جل ، و لابد من الاعتقاد أن القوة جميعا لله سبحانه وتعالى ، ولا يجري في الكون إلا ما يريد ، و لا يجري شيء ولا يقع إلا لحِكَم يُريدها سبحانه ولا يَدري الإنسان ماذا يترتب على الأمور ولذلك فلابد أن يوقن المسلمون بربهم ، لابد أن يكونوا على صلة بربهم معتمدين عليه متوكّلين ، يطلبون منه القوة و المَدد لأنه سبحانه وتعالى مالك القوة جميعاً وهو الذي يمنح أسبابها من يشاء عز وجل ، إن على المسلمين في زمن الضعف  أن يستحضروا الثقة بالله والتوكل عليه واستمداد القوة منه والركون إليه وأنه عز و جل ينصر من نصره ، فإذا التجأ العبد إليه فقد أوى إلى ركن شديد ،  لقد كان من ثقة النبي صلى الله عليه و سلم بربه أنه كان دائما يعتقد بنُصرة الله له ، وأنه لن يخذله و لن يتخلى عنه سبحانه وتعالى، وكان بعض الصحابة يصابون بإحباط ويأس من كثرة رؤيتهم لقوة الكفار ورغم ضعف المسلمين وقلة عددهم فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُذَكّر أصحابه في أحلك المواقف بأن المستقبل للإسلام ، ولمّا جاء خبّاب بن الأرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم  يشكو له الشدة التي أصابته و أصابت أصحابه المسلمين في مكة ، لقد حُرق ظهره   لقد كَوته مولاته الكافرة بأسياخ الحديد المحمّاه فلم يطفئها إلا وَسخ شحم ظهره لمّا سال عليها و هو يقول : ألا تدعو لنا ، ألا تستنصر لنا ، فيقول صلى الله عليه وسلم : ( و الله ليتمّنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون ) أوردها في أحلك الظروف في مكة ، وقال صلى الله عليه وسلم : (  ‏تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها ثم تكون ملكا ‏‏عاضا ‏ ‏فيكون ما شاء الله أن يكون ثم يرفعها إذا شاء أن ا ثم تكون ملكا ‏‏جبرية ‏فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ثم سكت ) رواه الإمام أحمد رحمه الله تعالى و هو حديث صحيح ، هذا لابد أن يتحقق من الله سبحانه وتعالى ، ولابد أن يعتقد المسلمون بأن المستقبل للإسلام قطعاً ، كيف وقد أفلس الغرب والشرق من القيم والمفاهيم ؟ عندها يكون النصر إن نصرنا دينه ورفعنا رايته فالمسلم يوقن بأن الله ناصره وناصر دينه مهما طال الزمن ومهما قويت شوكة الباطل قال تعالى :] وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء105 وقال تعالى ] وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [ الصافات173وقال تعالى:] إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ [ غافر51 . ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريباً . 

 

 

 

 

 

 

 

 

                   

 

إتباع المنهج أساس العدل

قال تعالى : ﴿ أفلم يدَّبروا القول أم جاءهم مالم يأت آباءَهمُ الأولين ، أم يقولون به جِنَّةُ بل جاءَهم بالحقِّ وأكثرُهمُ للحق كارهون ، ولو أتبع الحقُّ أهواءَهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهنَّ بل أتيناهُم بذكرهم فهم عن ذِكرِهِم مُعْرِضُون ﴾ المؤمنون 66-71 . إن الحياة ينبغي أن تقوم على أساس العدل والمساواة  لا ظالم فيها ولا مظلوم وأن يعيش الناس في هذه الدنيا لا يخشون إلا الله ، ولا فضل لأحدٍ على أحدٍ إلا بالتقوى والعمل الصالح . وذلك لا يتوفَّر إلاّ في مجتمعٍ توجِّهه وتحكمه وتسوده عقيدة الإسلام ، ومفاهيم الإسلام  وشعائر الإسلام ومشاعره  وأخلاق الإسلام وتقاليده وقوانينه ، لأنَّ الإسلام يعلوا ولا يُعْلى  ويقود ولا يُقاد ، ويوجِّه ولا يتوجَّه ، لذا نظر الأعداء للإسلام نظرة عداء ، وحاربوه وما زالوا ولكن الله لهم بالمرصاد فقد جعل التشريع للحياة البشرية جزءاً من الناموس الكوني ، تتولاه اليد التي تدبر الكون كله ، فكان حكم الله ورسوله لا يحيد عن الحق ، ولا ينحرف مع الهوى ، ولا يتأثر بالمودة والشنآن وكان الرضى بحكم الله دليل الإيمان الحق ، ودليل استقرار حقيقة الإيمان في القلب ، وهو الأدب الواجب مع الله ورسوله  وما يَرْفض حكم الله ورسوله إلا الذي لم يتأدب بآداب الإسلام ولم يشرق قلبه بنوره الإيمان .

إن حكم الله هو الوحيد المبرأ من مظنَّة الحيف ، لأن الله هو العادل ولا يظلم ربك أحداً ، فكل خلقه أمامه سواء ، وكل حكم غير حكمه هو مظنة الحيف .

فالبشر حين يشرعون لأنفسهم لا يملكون أن يميلوا الى مصالحهم  أفراداً كانوا أم دولاً ، فالفرد من البشر حين يشرع أو يحكم يلحظ في التشريع حماية نفسه ومصالحه ، وما ينطبق على الفرد ينطبق على الدول ، أما حين يشرع الله فلا حماية ولا مصلحة ، إنما هو تحقيق العدل المطلق الذي لا يطبقه تشريع غير تشريع الله ولا يحققه حكم غير حكمه .

لذا فإن الذين لا يرضون بحكم الله وتطبيقه على عباد الله ، ولا يريدون للعدل أن يستقر ، ولا يحبون للحق أن يسود ، فإنهم ظالمون لعباد الله  أما الذين يرضون حكم الله ، فلهم أدب غير هذا مع الله ورسوله ، إنه السمع والطاعة بلا تردد ولا جدال ولا انحراف ، السمع والطاعة المستمدة من الثقة المطلقة في أن حكم الله ورسوله هو الحكم وما عداه الهوى : ﴿ ومن يطع الله ورسوله ويخشى الله ويتقه فأولئك هم الفائزون  ﴾ .  

لقد جاء القرآن ليربي أمة ، وينشىء مجتمعا ويقيم نظاما ، جاء بمنهاج شامل كامل للحياة كلها ، جاء ليكون منهج تربية ومنهاج حياة ، لا ليكون كتاب ثقافة يقرأ لمجرد اللذة أو لمجرد المعرفة أو اثناء السير في الجنازات ، جاء لتكون آياته هي الأوامر اليومية التي يتلقاها المسلمون في حينها ليعملوا بها فور تلقيها ، وعندما غفل المسلمون عن هذا المنهج ، واتخذوا القرآن فقط للتعبد بقرائنه لا منهج تربية وحياة ، فإنهم لم ينتفعوا منه بشيء ، لأنهم بهذه النظرة إلى القرآن ، يكونوا قد خرجوا عن منهجه الذي رسمه الله لعباده .

لقد ظلت أمة العرب لا ذكر لها في تاريخ العالم حتى جاءها الإسلام ، وسيظل ذكرها يدوي طالما   تمسكت به ، وعندما تخلت عنه هذه الأيام  أصبحت كقول القائل : "لا في العير ولا في النفير" ولن تقوم لها قائمة إلا يوم ترجع إلى دينها وتعود إلى ربها متمسكة بعقيدتها ومنهج ربها . 

أمّا أن لا يعرف القائمون على أمر هذه الأمة الحق  إلا إذا وافق أهوائهم وإن خالفها تنكروا له ، فإنها الأنانية البشعة وهي صفة المنافقين الذين يدَّعون أن تصرفاتهم من الدين ووفق مبادئه   والله يعلم انهم لكاذبون ولكتابه مخالفون ، لأن حقيقتهم المجاهرة بالحق الذي يوافق أهوائهم وما عداه باطل  فأي باطل ينكرون وبأي حق يجاهرون ، فهل الحق في مفهومهم وإيمانهم هو الذي يتفق مع مصالحهم والباطل ما يخالفها ؟ إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور .

إن مثل القائمين على أمر هذه الأمة كرجلان جاران أحدهما غنيٌّ يملك فرساً والآخر فقيرٌ يملك بقرة فولدت بقرة الفقير عجلا ، فقال الغني : إن العجل ابن فرسي ، فقال الفقير للغني : ما سمعنا ان فرساً تلد عجلا ، فاحتكما الى القضاء فقال القاضي : نحكم بأن العجل ابن الفرس ، الا ترى عينيها تشبه عيني الفرس ، وأن لها أربعة أرجل كالفرس ، ثم أصدر حكمه بان العجل ابن الفرس  واستأنف الفقير الحكم ، فأصدرت المحكمة الثانية نفس الحكم الأول ، فرفع الفقير الأمر الى محكمة التمييز وكان قاضيها رجلاً يعرف الله ، فلما وقف الغني بجانب الفقير ، نظر القاضي في القضية وخاطب المحتكمين وقال لهما : أعتذر اليوم عن القضاء ، فقال له الغنيُّ : لماذا ؟ فقال له القاضي : لأن دم الحيض قد نزل علي وأنا لا احكم وانا حائض فقال له الغني : أيـنـزل دم الحيض على الرجال يا سيدي فقال له القاضي : إذا كنت لا تصدِّق أن دم الحيض ينـزل على الرجال فكيف أصدِّق أن الفرس تلد عجلا ، وأصدر برد العجل للفقير .  

هذا هو حال القائمين على أمر الأمة ، يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير ، إنهم في غفلة عن واقعهم الأليم ، لأنهم يؤمنون أو يوهمون الناس بأنهم ما يفعلون إلا الحق ولا ينطقون إلا بالصدق  وهم في حقيقتهم لا يتحركون إلا بدافع من أهوائهم ومصالحهم . إنهم بمواقفهم هذه أسوأ حالاً من المنافقين ، الذي يخدعون الناس ولا تخدعهم أنفسهم ، لأنهم على يقين من كذبهم ودجلهم ، أما من هم على شاكلتهم فإنهم يسيئون وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ولا يظلم هؤلاء وأولئك من ينفي عنهم صفة الإيمان ، لأن المؤمن لا يخدع أمته ونفسه بالحيل والأباطيل التي يصورها له شيطانه ، فليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقة العمل . إن الهدف من قيام شريعة الله في الأرض ليس مجرد العمل للآخرة ، فالدنيا والآخرة معاً مرحلتان متكاملتان   وشريعة الله هي التي تنسِّق بينهما  وبالتزامهما تتحقق عبودية البشر لله وحده . قال تعالى :﴿ أفغير دين الله يبغون ، وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرها واليه يرجعون ﴾ آل عمران 83 .  

الالتزام والانحراف

الالتزام : هو الوفاء بما يتعهَّد به المسلم ويفرضه على نفسه من الصالحات ، حين يرضى أن يكون في صفوف الدعاة وضمن قافلة العاملين ؛ من أجل التمكين لمنهج الله في الأرض ، وهو ضروري لأنه إذا زاد في أفراد الأمة بالإسلام الشامل ، زادت الأمة قوةً وتماسكًا وارتفاعًا ، وتحققت السعادة ، وهو مهم لأنه يريد للفرد أن يصبح  نموذجًا قائمًا لما يريده الإسلام ، الذي يريد للفرد أن يكون ذا إرادة حازمة لا تضعُف ولا تلين في مواقف الحق ، وأداة صالحة لتحقيق الإرادة الصالحة ، ونصر الحق والخير ؛ وهو ضروريٌ  للأسرة ، لأن صلاح الرجل والمرأة وحسن التزامهما ينشأُ عنهما بيتٌ نموذجيٌّ، يتميَّز باحترام الفكرة ، والمحافظة على آداب الإسلام في كل مظاهر الحياة المنـزلية، ووقوف كل فردٍ على حقِّه ، وما يجب عليه ، وحسن تربية الأولاد   وتنشئَتُهم على مبادئ الإسلام ، وضروري للمجتمع لنشر دعوة الخير فيه ، ومحاربة الرذائل والمنكرات وتشجيع الفضائل ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والمبادرة إلى فعل الخير وكسب الرأي العام إلى جانب الفكرة الإسلامية ، وصبغ مظاهر الحياة العامة بها دائمًا ، بهذا يكون المجتمع مهيَّأً لتطبيق شرع الله ، والالتزام بأحكامِه ، والفوز بوعدِ الله لعباده المؤمنين في الدنيا والآخرة ، لهذا فإن الالتزام في الإسلام ، شرطٌ أساسي لا يُقْبَلُ إيمان أحد إلا به . وهناك نفوسٌ طيِّعة متى استمعت إلى أوامر الله ، فسارعت إلى التلبية  وحملها الإيمان على الالتزام بأوامر الله ورسوله .

وكلما كان مجتمع الإيمان على درب الالتزام والطاعة  كان قريباً من الله ، ينظر إليه نظرة رحمة ، ويسدد خطاه ، ويقوده إلى كل نصر ورفعة .

ومتى استقر الإيمان في القلب ، ظهرت آثاره في السلوك ، ولا تملك النفس الرجوع عنه ، متى استقرت حقيقته في الضمير ، وقد لخص الله سبحانه شعار المؤمنين الملتزمين في قوله تعالى: ﴿إنما كان قول المؤمنين إذا دُعُوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون ﴾ النور 51 . فالنفوس الملتزمة ترى في امتثال أوامر الله ، تحقيق ذاتها وتكريم وجودها  واستقامة منهجها في الحياة ، وأول ما تجده النفس الملتزمة من ثمرات الالتزام ، الظفر بالطمأنينة القلبية  والسكينة النفسية ، لأن منهجها الذي ارتضته      هو الحق الذي لا يأتيه الباطل . أما المنحرفين الذين يدّعون الإيمان ، ويخالفون مدلوله حين يُدْعَون ليتحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على شريعة الله التي جاء بها ، فقد أخبر الله عنهم بقوله :﴿ وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون ، وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين ﴾ النور 48 .

وليعلم المنحرفون ، أن حكم الله ورسوله ، لا يحيد عن الحق ، ولا ينحرف مع الهوى ، ولا يتأثر بالمودة والشنآن ، إنهم لا يريدون الحق ، ولا يطيقون العدل  ولا يحتكمون إلى الله ورسوله ، ويتظاهرون بالإسلام  ولكنهم لا يرضون أن تقضي بينهم شريعة الله ، ولا ان يحكم فيهم قانونه . وعندما تنحرف النفوس عن صراط الله المستقيم ، فإن الله يلبسها ثياب المذلة والخوف والجوع ، ويجعل حياتها معقدة يسودها الضنك والبؤس .

إن تمكين شريعة الله ، هي السبيل إلى كل خير  وذلك طريق السعادة ، والفصل بين الشريعة وبين الحياة ، قطع لما أمر الله به أن يوصل ، فما كانت الشريعة إلا من  أجل الحياة ، وما صلحت حياة الناس إلا بشرع الله ، وقد توعد الله من يتهدد الأمة في مصيرها ، ويعملون على تسهيل مهمة المستعمر  وأصحاب الشهوات ، الذين يحتويهم الشيطان  فيقتلون البريء ، ويسعون في الأرض فسادا   هؤلاء يقول فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم : ( من خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها ولا يتحاشى من مؤمنها ولا يفي بعهد ذي عهدها  فليس مني ولست منه ) . لقد كان الالتزام بمعناه الدقيق هو أسلوب الحياة ومنهجها ، التزام بأحكام الله ، وامتثال لأمره ونهيه في السلم والحرب  والمنشط والمكره ، في أروع مظهر وأكرم جوهر وسرعة تنفيذ

لقد عاشت الأمة الإسلامية كلها في ظل الالتزام  فهذا خالد بن الوليد عندما وصله قرار العزل من الخليفة عمر على يد أبي عبيدة ، ومعه قرار المحاكمة ، الذي يقضي بأن تُحل عمامته ، ويُعْقَلَ بها ، ثم يحاسب على إسرافه أمام الناس في المسجد   وكان بلال الذي يقوم بالتنفيذ ، فلا يتكلم خالد أمام الالتزام ، ويقول له بلال وقد عَقَلَه : هكذا أمر أمير المؤمنين ، فيقول له خالد : سمعاً وطاعة لأمير المؤمنين ، ثم يوجه إليه سؤالاً ، أمن مالك تعطي الشعراء والوجهاء أم من مال الدولة ؟ فيجب بل من مالي الخاص ، فيطلقه بلال وهو يقول : هكذا نسمع ونطيع لولاتنا ، ثم يقاسمه أبو عبيدة ماله ، لأن فيه شبهة على المنهج العمري المتشدد ، فلا يبقى لخالد إلا نعلاه ، فيأخذ أبو عبيدة واحدة ويترك الأخرى لخالد . اذا حدث ؟ هل تمرّد خالد أو اعترض ؟ كلا إنما عبَّر عن التزامه بقوله :"ماكنت لأعصي أوامر أمير المؤمنين". ذلك هو منهج القوم لا مجاملة ولا مداهنة وإنما السمع والطاعة . أما المنحرفون الذين يلجؤون في تحاكمهم إلى الطواغيت ، فإنهم يسلكون سبيلاً غير سبيل المؤمنين ، ومع ذلك يدّعون الإيمان ، وهل الإيمان إلا الالتزام ، وكذلك الحكم إما لله أو الشيطان ولا واسطة ، وقد وصف الله تصرفات المنحرفين التي تكشف بواطنهم فقال : ﴿ وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا ﴾ النساء 61 . إنهم يكرهون التحاكم إلى الله ورسوله ، وينفِّرون من أوامر الدين ونواهيه ، وتسّوَدُ وجوهُهُمْ كلما ذكر اسم الله  ويرون في أوامر الدين ونواهيه رجعية وتخلفا ، إنهم بحكم انحرافهم لا يقوم على سواعدهم بناء ، ولا يتم على أيديهم نصر ، ولا يصلح بهم دين ولا دينا  إنهم نفعّيون يريدون مصالحهم ، لذا تآمروا على دين الله وعطلوا أحكامه في الأرض  .  ومن المنحرفين تلك الجبلة الخبيثة ، الذين يُقْبِلون على دين الله ما أقبلت عليهم الدنيا ، فإن كان في أخذهم بالدين خسارة دنيوية ، انقلبوا عنه وهجروه ، وهم يعلمون أنه الحق وأنه الدين المنزَّل من عند الله ، عناداً واستكباراً وحباً في الدنيا والجاه الرخيص .

روى البخاري ومسلم  أن هرقل ملك الروم عندما وصلت اليه رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوه فيها الى الإسلام ، طلب رجلاً يعرف الرسول  فاتوه بأبي سفيان ، وكان في تجارة الى الشام  فسأله أسئلة تنبيه عن صدق الرسول صلى الله عليه وسلم  وهو يعلم يقيناً أنه الرسول الخاتم ، الذي بشَّرَتْ به الرسل من قبل ، وقد اخبر ابا سفيان بأن الإسلام سينتصر وسينتشر ، ورغب هرقل في الإسلام  ولكنه أراد الإسلام والاحتفاظ بملكه معاً ، فلما كان بمدينة حمص ، أذن هرقل لعظماء الروم في دسكرة له ، ثمَّ أمر بأبوابها فأغلقت ، ثمَّ قال:" يا معشر الروم ، هل لكم في الصلاح والرشد ، وأن يُثَبِّت الله ملككم ، فتبايعوا هذا النبي ؟ فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب ، فوجدوها قد غُلِّقَتْ ، قال : علي بهم ، فقال : إني اختبرت شدتَّكم على دينكم ، فقد رأيت منكم الذي أحببت ، فسجدوا له ورضوا عنه " ، لقد كان هرقل صادقاً عندما شاور قومه في الإسلام واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولقد كان كاذباً عندما زعم أنه أراد اختبارهم ، لقد ضنَّ هذا الخبيث بملكه ، بخلاف النجاشي الذي آمن بالرسول صلى الله عليه وسلم واتبعه وآوى أصحابه

كثيرٌ من الناس يغرق في لجج الدنيا ، تسري عليهم قوانين اللذة والألم ، وتجعلهم يرغبون ويرهبون بواعث لا حصر لها ، وأولى ثمرات الإيمان تهذيب ذلك ، وبلوغ المنـزلة التي تجعل خشية الله أسرع الى الفؤاد من أي رهبة تخامر النفس أمام كلِّ ذي سلطان . أما المنحرفون الذين نسُوا ربهم ، وجاملوا على حساب دينهم ، وهاموا في هذه الحياة بلا رابطة تشدُّهم الى دين ، وبلا هدفٍ يميّزهم عن السائمة التي ترعى ، هؤلاء حذَّرنا الله منهم بقوله تعالى: ﴿ ولا تكونوا كالذين نسُوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون ﴾ الحشر 19 ، أي المنحرفون الخارجون .

  

 أساليب الأعداء في الكيد على الإسلام

قال تعالى : ﴿ إنَّهٍمً يّكٌيدٍونّ كّيًدْا ﴾ تؤكد هذه الآية القرآنية حقيقةً ثابتةً على مر العصور في مواجهة أهل الكفر والباطل لما سبحانه وتعالى من الشرائع، إنها حقيقة كيد أعداء الدين ، ووقوفهم ضدّه ، فالكيد من الأعداء مستمر لا ينقطع حتى يرث الله الأرض ومن عليها ، وفي هذه الآية الكريمة ما يردُّ على المستغربين من المسلمين في هذا العصر الذين ينفون فكرة مؤامرة الأعداء ضدَّ الإسلام والمسلمين   ومخطَّطات أهل الكفر والعصيان ضد دين الله وأهله وأنصاره ، متعددة ومتنوعة ، فمن الناحية العسكرية ، أعلنوا الحرب على المسلمين ، بأقوى الأسلحة ، ومن الناحية الفكرية ،  حاولوا التشكيك في دين الله وزعزعة العقيدة في قلوب المسلمين ، بما ينشرونه من كتب ورسائل ، وما يلقونه من خطب ومقالات بالطعن في الإسلام وقادته ، قال تعالى : ﴿ وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء ﴾ .  وإذا لم يعتنق المسلم ما هم عليه من الكفر والضلال اقتنعوا منه بالشك في دينه ، وفي ذلك خروجه من الدين ؛  فقد قالوا : " إننا نستبعد من المسلم أن يدخل في ديننا ، ولكن يكفينا أن يشك في دينه ثم يخرج منه إلى أي دين شاء " وهذا صموئيل زويمر رئيس جمعيات التنصير؟ يقول في إحدى المؤتمرات : " إنكم إذا أعددتم نشأً لا يعرف الصلة بالله، ولا يريد أن يعرفها، أخرجتم المسلم من الإسلام ، وجعلتموه لا يهتم بعظائم الأمور، ويحب الراحة والكسل، ويسعى للحصول على الشهوات بأي أسلوب، حتى تصبح الشهوات هدفه في الحياة، فهو إن تعلم فللحصول على الشهوات، وإذا جمع المال فللشهوات، وإذا تبوّأ أسمى المراكز ففي سبيل الشهوات، إنه يجود بكل شيء للوصول إلى الشهوات " يكيدون لأنهم يعلمون علم اليقين أن عز الإسلام هو ذلهم والقضاء عليهم ، وأن انتصار الإسلام يعني خذلانهم ، وأن قيام دولته يعني سقوط دولهم ، ومن الناحية الخلقية نشروا بين المسلمين ما تفسد به أخلاقهم ، وتفسد به آدابهم ، وتفسد به قيمهم ؛ إما بالأغاني الماجنة والقصص الخليعة ، وإما بالصور الفاتنة حتى يصبح المسلم فريسة لشهوته يتحلل من كل خلق فاضل، وينزل إلى مستوى البهائم ، وحتى لا يكون للمسلم إي هم سوى إشباع غريزته من حلال أو حرام ، وبذلك ينسى دينه ويهجر كل فضيلة ، وينطلق مع شهواته ولذاته  ومن الناحية العاطفية ، تظاهروا بمحبة المسلمين والولاء لهم ، والعطف عليهم ، ومراعاة مصالحهم ،حتى يغتر بهم من يغتر من المسلمين ، فيميلوا إليهم بالمودة والإخاء ، والقرب والولاء ، الذي جاء النهي عنه صريحا في قوله تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ ﴾ . يعلمون أن قوة الإسلام والمسلمين تكمن في عقيدتهم ، وما يملكون من  الثروات التي تعيش عليها الأمم الأخرى ، إنهم يتزودون بسبعين بالمئة من الوقود الذي تقوم عليه الحضارة الصناعية المعاصرة  ويملك المسلمون ضمن مجموعة الدول النفطية مردوداً مالياً نقدياً يوازي ميزانية أكبر دول العالم ثلاثة مرات سنوياً ، كما يملك المسلمون قدرةً على التنامي السكاني ، الذي يمكن أن يهدد العالم ولذلك يكيدون ، والله لهم بالمرصاد وسينصر عباده المؤمنين ، فقال تعالى :﴿ إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الحساب ﴾ وما علموا أنهم في حرب مع الله  ومن كان في حربٍ مع الله فهو خاسر ومهزوم قال تعالى : ﴿ كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله لقوي عزيز ﴾ . لقد تجمعت كل القوى على معاداة الإسلام ، فتحالفت الصهيونية العالمية التي تمثلها إسرائيل ، وكل المجامع الماسونية والنوادي اليهودية   مع الصليبية العالمية ، وانضمت إليهم الشيوعية الملحدة ، لإبعاد        الإسلام من الطريق ، وظل تمزيق العالم الإسلامي حلماً بالنسبة لهم ،  وكان القضاء على الخلافة الإسلامية من أولى الأولويات عندهم ، لما لها من أهمية كبرى في الإسلام ؛ ففضلاً عن أنها تقوم بحماية الدين والسهر على تنفيذه، فهي تقوم على حماية المسلمين وتوحيد كلمتهم ، بحيث يتمكنون من الدفاع عن عقيدتهم وأوطانهم، وحتى ينفرط عقد هذه الخلافة ، فقد ركز الأعداء على إحياء النزعات القومية والعنصرية التي مزقت الخلافة الإسلامية ، وحتى تستمر الأمة المسلمة في حالة ضعف  أدرك العدو أنه لابد من الهيمنة على نظم الحكم في العالم الإسلامي ، عن طريق إعداد طبقة من الموالين لهم من أهل تلك البلاد وتسليمهم مقاليد الحكم ، وعن إبعاد الإسلام عن مجال الحياة العامة ، عملوا على إحلال القوانين الغربية محل القوانين الإسلامية  وعلى سبيل التمويه والخداع أُطلق على هذه العملية اسم (العلمانية) وتحقق لهم ما أرادوه ، من فصل الدين عن الدولة، فتمزق الشباب المسلم وتحللت المجتمعات الإسلامية وانتشر الصراع الداخلي بين أبناء الأمة الإسلامية الواحدة.

 وفى مواجهة المد الإسلامي الفكري شجع الأعداء على تكوين الفرق الهدامة المنسوبة للإسلام لضرب الإسلام وتشكيك المسلمين في دينهم، ومساعدة هذه الفرق ، في محو فكرة الجهاد من الشريعة الإسلامية والترويج لفكرة أن الإسلام لم يعد صالحاً للعصر الحديث، وليس خافياً أن هذه الفرق تحظى بحماية كاملة من أعداء الإسلام ، لإنجاح خططهم ومؤامراتهم، لإضلال المسلمين وإفسادهم وإخراجهم من دينهم،  قال تعالى: ﴿ ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ﴾  فقد تآمروا وأشعلوا الحروب بين المسلمين ، فقسموهم شيعة وسنة ، ولم يكتفوا بذلك بل واصلوا تجزيء المجزأ ،وتشتيت المشتت ، ولن يتوقفوا عن عبثهم بنا،حتى يصبح كل واحد منا أمة ، له مذهبه وطقوسه واستقلاله الذاتي.

تآمروا على نسائنا وبناتنا ، فأصبحن بعد التستر متهتكات ، وبعد الخلق الفاضل فاسقات ، وبعد التحجب عاريات ، وبعد الحياء والحشمة والوقار فاتنات ، وتآمروا على شبابنا في أخلاقه  وطريقة لبسه وموضة حلاقته وكل اهتماماته.. إنها المؤامرة على الإسلام والمسلمين ، والسؤال هنا : هل نستسلم لأصحاب نظرية المؤامرة ، أولئك الذين يردون كل انكساراتنا وخيباتنا وهزائمنا وأسباب ضعفنا ،إلى مؤامرة ،نسجها بليل أعداء الأمة ، وواصلوا تآمرهم علينا ، وهل وُجدت الدول والأمم إلا لكي يكيد بعضها لبعض؟ أوليس دأب الدول والأنظمة السياسية التآمر على بعضها لتحقيق المكاسب السياسية والاقتصادية؟  وكم هو طويل ومتشعب تاريخ المؤامرة ،وكم هي متداخلة سلاسله ، وهل مكتوب علينا أن تُكَبِلَنا من بين كل العالمين ؟ وبأي منطق ، وتحت أي ذريعة نستسلم لنظرية المؤامرة ؟ أما آن لنا الرجوع إلى كتاب ربنا وسنة نبينا ، وندع الأماني والتمني : 

وما نيل المطالب بالتمني  ولكن تؤخذ الدنيا غلابا

فكيف نطرب ولا نغضب ؟ وكيف نأمل ولا نعمل ؟ وكيف نتألم ولا نتعلم ؟  كفى أن نجعل من نظرية المؤامرة كابوساً مخيفاً، أو شماعة نلقي عليها كافَّة الأعذار ، التي تحول بيننا وبين ما نتطلع إليه من اللحاق بركب التنمية والتجديد والتنوير بمفاهيمها الإسلاميَّة ، قد يأتي هذا التبرير لدى كثير من الناس متدينين وغير متدينين، فبعضهم يعتقد أنَّ كل شر أتى لهذه الأمة  بسبب الكفار والغربيين تحديداً، وكل خطأ يقع في بلادنا من نواح سياسيَّة أو اقتصادية فهو بسبب عدونا، ويتناسون أنَّ هنالك الكثير من الأخطاء التي صنعناها بأيدينا ونحن عنها غافلون.  قال تعالى : ﴿ وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون ﴾ هود 117 .

 

 

 

 

 

 

رجال المبادئ

من الناس من إذا نزل به ضيم لم يعرف لنفسه عملاً إلا العمل على إبعاده بكل ما يستطيع من وسائل  غير مبال بالنتائج ، ومثل هذا لا يلتوي طبعه مع سياسة المنفعة ، ولا يطيق السير مع ألاعيب السياسة ، وما تنطوي عليه من مكر الرجال ، وهو منطق سار عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهذا أنس بن النضير في غزوة أحد لما شم ريح الموت قال : إني أشم ريح الجنة ، ومات مقبلاً لا مدبراً  ، مفتخراً لا معتذراً .

وهذا طلحة بن عبيد الله التَّيمِِيُّ الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من سرَّه أن ينظر إلى رجلٍ يمشي على الأرض وقد قضى نحبه فلينظر إلى طلحة ) . كان مثال الرجل الصابر الذي أوُذي وعذِّب ونُكِّلَ به ، فلم يثنه ذلك عن دينه ، فقد حاول قومه أن يثنوه عن دينه وعندما لم يفلحوا ، لجؤوا إلى تعذيبه ، فقد حدَّث مسعود بن خَراش قال : بينما كنت أسعى بين الصفا والمروة ، إذا أُناس كثيرٌ يَتْبَعون فتىً أوُثقت يداه إلى عنقه ، وهم يهرولون وراءه ، ويدفعونه على ظهره ويضربونه على رأسه ، وخلْفَه امرأة عجوز تسبَّه وتصيح به   فقلت ما شأن هذا الفتى ؟ قالوا هذا طلحة صبا عن دينه ، قلت ومن هذه العجوز ؟ قالوا هي أم الفتى ، ثم قام طلحة بن خويلد وأوثق طلحة في حبل ، وأوثق معه أبا بكر وقرنهما معاً ، وأسلمهما إلى سفهاء مكة ليعذبوهما ، ودارت الأيام وازداد بلاء طلحة في سبيل الله ورسوله ، حتى أطلق عليه المسلمون الشهيد الحي ، ولهذا اللقب قصة ، ففي يوم أحد حين انهزم المسلمون ، ولم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غير أحد عشر رجلاً من الأنصار وطلحة بن عبيد الله ، كان النبي صلى الله عليه وسلم يصعد ومن معه الجبل ، فلحقت به عصبةٌ من المشركين تريدُ قتلَهُ فقال عليه السلام : من يردُّ عنا هؤلاء وهو رفيقي في الجنة ؟ فقال طلحة أنا يا رسول الله  فقال عليه السلام : لا ، مكانك   فقال رجلٌ من الأنصار : أنا يا رسول الله فقال : نعم  أنت ، فقاتل الأنصاري حتى قُتِل ، ثم صَعِدَ الرسول صلى الله عليه وسلم بمن معه فلحقه المشركون ، فقال : ألا رجلٌ لهؤلاء ؟ فقال طلحة : أنا يا رسول الله ، فقال عليه السلام لا مكانك  فقال رجل من الأنصار أنا يا رسول الله ! فقال نعم  أنت ، ثم قاتل الأنصاري حتى قُتِل أيضا ، وتابع رسول الله صلى الله عليه وسلم صعودَه والمشركون يلحقون به ، والرسول يقول مثلَ قوله وطلحة يقول أنا يا رسول الله والنبي يمنعه ويأذن لرجلٍ من الأنصار ، حتى استشهدوا جميعاً ولم يبق معه إلا طلحة ُ، والمشركون يلحقون به ، وعندها قال صلى الله عليه وسلم لطلحة الآن نعم ، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد كُسِرت رباعيته وشُجَّ جبينه وجُرِحَتْ شفتُه ، وسال الدم على وجهه ، وأصابه الإعياء ، فجعل طلحة يكرُّ على المشركين حتى يدفَعُهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ينقلب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فَيَرْقى به قليلا في الجبل ثم يُنْشِدُه إلى الأرض ، ويَكُرُّ على المشركين من جديد ، وما زال كذلك حتى صدَّهم عنه ، قال أبو بكر : وكنت آنئذٍ أنا وأبو عبيدة بنُ الجرّاح بعيدين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما أقبلنا عليه نريد إسعافه قال : اتركاني وانصرفا إلى صاحبكما ، يريد طلحة فإذا طلحة تنـزف دماؤُهُ ، وفيه بضعُ وسبعون ضربةً بسيف أو طعنةً برمح أو رميةٍ بسهم ، وإذا هو قد قُطعت كفُهُ وسقط في حفرة مغشيّاً عليه  فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول بعد ذلك : ( من سرَّه أن ينظر إلى رجل يمشي على الأرض  وقد قضى نحبَهُ فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله )  

إن سيرة هؤلاء الأبطال تدعونا إلى صدق الجهاد   وترسم لنا طريق العزة والنصر ، وتذكرنا بصفات هؤلاء المجاهدين ، التي تحتاج لها الأمة التي ذاقت هوان الهزيمة والاحتلال ، وليقتدي شبابها بهم   لغسل العار وتحرير الديار .

إننا نعيش في زمن أصبح فيه الكثير من الناس يقيسون نتائج عملهم ، بمقدار ما يعود عليهم من ربح وخسارة ، يوالون المعتدين ويؤثرون صداقتهم ، ويقدموا لهم ما يستطيعون من مساعدة ، وقد يلجئوا إلى العمل لمصلحتهم أو السعي لمصالحتهم ، ولو كان ذلك على حساب أمتهم ، غير مبالين بتعاليم دينهم ، الذي أوضح أن ذلك ارتداد عن الإسلام ومروق من الملة   وفي هذا يقول الله تعالى : } يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ، ومن يتولَّهم منكم فإنه منهم ، إن الله لا يهدي القوم الظالمين ، فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة {. المائدة 51 .

في الآية تصوير لدعاة الهزيمة في مستقبل كل كفاح يدور بين الحق والباطل ، فتخوفهم من الهزيمة يبيح لهم الاتصال بالعدو ، ليأمنوا على أنفسهم ويؤمِّنوا حياتهم . وهذا قمة الخيانة وأي محاولة لإحداث ثغرة أو إيقاع فرقه بين المسلمين  ، يستفيد منها عدو الله وعدونا فهي جريمة نكراء في حق الأمة  وكفران بالله ورسوله ، وإن إنزال أقسى العقوبة بحق هؤلاء هو ثأر لشرف الإسلام وكرامة الأمة   والأمور واضحة تماماً لكل ذي رأي وبصيرة بيننا وبين خصومنا ، إن هجمة الغرب الصليبي المسلح  الذي اقتحم البلاد واستذل العباد  توجب علينا أن نقف صفاًً واحداً لمقاومته ، وأن ننـزل على منطق الإيمان الذي رسمه القرآن }لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حادَّ الله ورسوله ولو كانوا آباؤهم أو أبناؤهم أو إخوانهم أو عشيرتهم{.المجادلة 22

فكيف ودول الكفر قتله المسلمين ومشردوا الأهل والإخوان ، فإن موالاتهم وتأدية أية خدمة لهم أو أي نفع لهم أو مد يد العون لهم ، فإن ذلك كله خيانة وخروج على تعاليم الدين ، وقد جاء النهي عن الولاء لليهود والنصارى والكافرين ، لأن الولاء مسألة عقيدة ومسالة تنظيم ، ولأن الولاء هو النصرة ، ولا تناصر بين المؤمنين وأهل الكتاب   لأن التناصر في حياة المسلم ، هو تناصرٌ في الدين وفي الجهاد لإقامة منهجه ونظامه في حياة الناس   وقد جاء التنفير من موالاتهم ، لأنهم حاربوا المسلمين ، وما زالت هذه الحرب الشعواء التي لم تضع أوزارها قط ، ولا يمكن أن يكفوا عن هذه الحرب إلا أن يردوا المسلمين عن دينهم ، وهو ما أكده الله بقوله : } حتى تتبع ملتهم { ، ولأن المسلمين يؤمنون بالله  وهي الحقيقة التي واجههم الله بها في قوله تعالى : } قل : يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله {  ولأنهم يأتوا إلى بلاد المسلمين للقتل والفساد في الأرض   والاستيلاء على مقدرات المسلمين وثرواتهم   وهم أصحاب مبدأ الويل للمغلوب ، ومبدأ الغاية تبرر الواسطة ، وقد لوثوا تاريخ العالم بغدرهم وخيانتهم  وإن المؤسسات التي أقاموها لتنظيم العلائق العامة  تحولت الجلسات فيها إلى أسواق تباع فيها الذمم  فأصبحت لا رجاء فيها لأوسع الناس أملا ، لذا ينبغي علينا أن نهجرها إلى غير رجعه  وأن نركِّز جهودنا لإصلاح أحوالنا في بلادنا ، وتحويلها إلى ميادين للجهاد ضد الاحتلال الداخلي والخارجي معاً . لأنه الطريق الوحيد للعاملين المخلصين لأمتهم ودينهم ، أما السمسرة الدبلوماسية في بورصة مجلس الأمن   فعمل باطل ابتدعه اليهود ليلعبوا بالفضائل ويقامروا بمستقبل الشعوب . والغرب إجمالاً ماضون في سياسة القتل والاغتصاب ، يقاتلون المسلمين في أرضهم وفوق ترابهم باسم محاربة الإرهاب ، وعداوتهم لنا بالمرصاد ، وتخاذلنا أمامهم في ازدياد ، واليهودية تساعدها اليد الصليبية تقتل وتدمر ، فلا نرى إلا قتلاً وتدميرا   وكأنهم يتسابقون في تكثير ضحاياهم ، وباتوا يعتقدون أن هزيمة المسلمين اليوم هي القاضية   ولكن لا بأس ، فهذه هي ضريبة الفرقة والضعف والقعود عن الجهاد ، ولا ندري أيكون الغد قصاصاً لنا أم امتداداً لمحنتنا ، مع أنه من الخِسَّةِ أن نترك المآسي النازلة بنا دون نكير ودون تذكير   ونحن نرى العالم الإسلامي يُضْرَب ببأس   والجلادون طماعون في إخماد أنفاسه ، بسبب التخاذل والضعف الذي يعاني منه المسلمون .

إن المسلمين مسؤولون عما يقع الآن للإسلام من أحزان ، وكما كان تفرقهم الشائن أيام الحملة الصليبية الأولى هو الذي فتح الطريق إلى القدس   وجعل الجثث فيه أكواماً ، فإنهم اليوم يكررون نفس الخطأ القديم  فتجاهلوا في وضاعة عجيبة ما يلاقيه الإسلام والمسلمين وما على المسلمين إلا العودة إلى منهج ربهم ليصلوا إلى غايتهم ويسترجعوا مجدهم وإعداد العدة ليهزموا عدوهم   لأن إرادة الله أن يكون المسلمين رؤوساً بالإسلام   فإن آثرو الانتماء إلى غيره فنحن ننذرهم بقول الله تعالى } إن يشأ يذْهبْكُمْ أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا { النساء 133 .          

        

نصرة المسلمين فرض

ها هي إسرائيل تهاجم الفلسطينين وتفرض عليهم حصاراً ظالماً ، وهم يستغيثون ويستنصرون ولا مجيب لهم ، ولكنهم أثبتوا أن بطن الأرض خيرٌ من ظهرها لأمة كل مواقفها وفق هوى إسرائيل ومصلحتها ، وتحولوا عن مواقع النصر في داخل أنفسهم إلى مواقع الهزيمة أمام أعدائهم ، وأمام هذا الجبن والتخاذل المريب ، اعتمد الفلسطينيون على أنفسهم في مواجهة هذه الهجمة الشرسة التي أحرقت ومزقت ودمرت وأخرجت العديد من بيوتهم وقسماً كبيراً منهم وقع في الأسر ، إنها حملة ظالمة خلَّفت وراءها الكثير من المآسي  من بكاء الثكالى والأرامل إلى  ما رأيناه من الأوصال المقطعة ، إلى الأطفال الذين لا يجدون ما يسد رمقهم ، والجرحى الذين لا يجدون الدواء  بل منع عنهم الإسعاف فمات الكثير منهم ، ورغم ذلك ترى عجبا رغم القصف بالصواريخ والدبابات والحصار المحكم  فإنهم يتصدون لليهود بقوة وصلابة وبطولات فائقة ، ويوقعون في صفوفه ما يؤلمه ويخزيه ، وذلك بما قدمه ويقدمه الشباب الاستشهادي من بطولات فذة  ستكون مضرب الأمثال على مدار التاريخ  وقد كانت أم الشهيد فرحات مثالاً رائعاً وهي تودع ابنها الذي انضم إلى قافلة الشهداء الأبرار ، كان لها موقفاً عزّ أن يكون مثله في التاريخ المعاصر   أما تاريخنا القديم فقد كان لها فيه سابقة ، إنها الخنساء كما روى المؤرخون  أنها شهدت حرب القادسية تحت راية سعد بن أبي وقّاص ، وكان معها بنوها الأربعة ، فجلست إليهم وهي تحثهم على القتال والثبات ، وكان من قولها لهم :" أي بنيّ إنكم أسلمتم طائعين وهاجرتم مختارين . . وقد تعلمون ما اعد الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين ، واعلموا أن الحياة الباقية خيرٌ من الدار الفانية ، والله تعالى يقول : } يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون{.آل عمران 200 . فإذا أصبحتم غداً إن شاء الله سالمين ، فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين وبالله على أعدائكم مستنصرين ، فإذا رأيتم الحرب قد شمرّت عن ساقها فتيمموا وطيسها ، وجالدوا رئيسها تظفروا بالغنم في دار الخلد " .

فلما أصبحوا باشروا القتال بقلوب فتية وأنوف حميَّة  إذا فتر أحدهم ذكّره أخوه وصية الأم العجوز ، فزأر كالليث وانطلق كالسهم والصاعقة ، ونزل كقضاء الله على أعداء الله وظلوا كذلك حتى استشهدوا واحداً بعد واحد . وبلغ الأم نعي الأربعة في يوم واحد فلم تلطم خداً ولم تشق جيباً ، ولكنها استقبلت النبأ بإيمان الصابرين وصبر المؤمنين وقالت : الحمد لله الذي شرفني بقتلهم ، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته". فما الذي جعلها تقف هذا الموقف ؟ إنه الإيمان صانع المعجزات .

فماذا قدم العرب والمسلمون ، ولماذا لا تحارب   جيوشهم اليهود ، أم أنها أعدت للعرض والاستعراضات ، وقمع الاضطرابات والمظاهرات  والمحافظة على أمن الحكومات ، ولماذا يصمت المفكرون والمفكرات ، أم أن مهمتهم اقتصرت على  حقوق المرأة وحوار الأديان والتفاهم بين الحضارات ولماذا الأمة تائهة حيرى لا تسأل ، عما يجب فعله لنصرة المجاهدين في فلسطين أم أنها لا تعلم بأن نصرتهم فرض على المسلمين قال تعالى:}والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير{الأنفال 73 . فإذا لم يجانبوا المشركين ويوالوا المؤمنين  وقعت الفتنة في الناس ووقع الفساد في الأرض  بطغيان الجاهلية على الإسلام ، وطغيان ألوهية العباد على ألوهية الله  ويصبح الناس عبيداً للعباد ، وهذا هو أفسد الفساد  الذي يتحمل المسلمون تبعته  ويتحملون نتيجة تنكرهم لما فعله الإيمان بأمة العرب   الذي حولهم من رعاة غنم إلى رعاة أمم  ومن قبائل بداوة إلى أمة حضارة ، والذي يرجع إلى الإيمان الذي صبه محمد صلى الله صلى الله عليه وسلم في نفوس أصحابه ، فنقلهم من حال إلى حال ، وفي تاريخنا الأمثلة الكثيرة على صدق ما نقول ، فهذا عمر بن الخطاب الذي رووا أنه بلغ من انحراف العقل أن عبد إلهاً من الحلوى ثم جاع يوماً فأكله ، ومن انحراف العاطفة ، أن وأد بنتاً صغيرة له كانت تمسح الغبار عن لحيته وهو يحضر لها مكانها في التراب  عمر هذا يبلغ من سمو العاطفة ورقة قلبه وخشيته لله ، ما ملأ صفحات التاريخ بآيات الرحمة الشاملة للمسلم وغير المسلم ، بل للإنسان والحيوان حتى قال : " لو عثرت بغله في العراق لسألني الله عنها لم تصلح لها الطريق يا عمر " .

ومثال آخر لما فعله الإيمان من الأقدام إلى التضحية بالنفس في سبيل الله ، يتمثل في إقدام البراءُ بن مالك الأنصاري ، عندما التقى جيش المسلمين بجيش مسيلمة على أرض اليمامة في نجد  ورجحت كفةُ مسيلمة وأصحابه ، وتراجع المسلمون عن مواقعهم ، واقتحم أصحاب مسيلمة خيمة خالد بن الوليد ، واقتلعوها من أصولها وكادوا يقتلون زوجته لولا أن أجارها واحد منهم ، عند ذلك شعر المسلمون بالخطر الداهم   وأدركوا أنهم إن يهزموا أمام مسيلمة ، فلن تقوم للإسلام قائمةٌ بعد اليوم ، وهب خالد في جيشه فأعاد تنظيمه ، حيث ميز المهاجرين عن الأنصار  وميّز أبناء البوادي عن هؤلاء وهؤلاء وجمع أبناء كلِّ أب تحت راية واحدة منهم ، ليُعْرَفَ بلاءُ كُلِّ فريقٍ في المعركة ، وليُعُلَمَ من أين يُصابَ المسلمون ، ودارت بين الفريقين رحى معركة لم تعرف حروب المسلمين لها نظيراً من قبل  وكانت هناك بطولات خارقة ، كان من أكثرها إقداماً ما قام به البراء ، وعندما حميت المعركة واشتدت ، التفت إليه خالد بن الوليد وقال له : إليهم يا فتى الأنصار فالتفت البراءُ إلى قومه وقال يا معْشر الأنصار لا يُفكِرَنَّ أحد منكم بالرجوع  إلى المدينة  فلا مدينة لكم بعد اليوم ، وإنما هو الله وحده ثم الجنة ، ثم حمل على المشركين وحملوا معه وبدأت الهزيمة على مسيلمة وأصحابه فلجأوا إلى الحديقة ، التي عرفت في التاريخ باسم حديقة الموت ، لكثرة ما قتل فيها في ذلك اليوم ، لأن مسيلمة وجيشه لجئوا إليها واغلقوا أبوابها  وحصنوا أعالي جدرانها ، وجعلوا يمطرون المسلمين بنبالهم من داخلها التي تساقطت على المسلمين تساقط المطر ، عند ذلك تقدم البراء بن مالك وقال يا قوم  ضعوني على ترس وارفعوا الترس على الرّماح ، ثم اقذفوني إلى الحديقة قريباً من بابها فإما أن استشهد وإما أن أفتح لكم الباب  وفي لمح البصر جلس على ترس وكان ضئيل الجسم ورفعته عشرات الرماح ، فألقته في حديقة الموت بين الآلاف المؤلفة من جند مسيلمة فنـزل عليهم نزول الصاعقة ، وما زال يجالدهم أمام باب الحديقة ويُعْملُ في رقابهم السِّيف حتى قتل عشرة منهم وفتح الباب وبه بضع وثمانون جراحةً من بين رمية بسهم أو ضربةٍ بسيف ، فتدفق المسلمون على حديقة الموت ، ودخلوها وقتلوا مسيلمة والكثير جداً من جنوده ، وحُمل البراء ليداوى ، وأشرف خالد بن الوليد على علاجه لمدة شهر حتى أذن الله له بالشفاء .

ومثال آخر في معركة بدر عندما دنا المشركون قال رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم ( قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض ) فقال عمير بن الحمام الأنصاري يا رسول الله جنة عرضها السموات والأرض ؟ فقال : نعم ! قال : بخٍ بخٍ ؟ فقال رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم ما يحملك على قول بخٍ بخٍ ؟ قال لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها   قال فإنك منهم قم قال : لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها حياة طويلة ، قال فرمى ما كان معه من التمر ، ثم قاتلهم حتى قتل رحمه الله . 

بمثل هذه المواقف الجهادية التي سار استشهاديوا فلسطين على نهجها ، وقدموا من التضحيات ما تعجز عنه الشعوب المعاصرة ، التي تعيش حياةً كلها أقفالاً معقدة وأبواباً مغلقة ، وعقولاً مقفلة أعيا فتحها الحكماء والفلاسفة ، و ضمائراً مغلقة أعيا الوعاظ والمرشدين فتحها ، وقلوباً مقفلة أعيا فتحها الحوادث ، أقفال وأقفال أخفق الكبار وفشلوا في فتحها ، لأن القفل لا يفتح بغير مفتاحه وقد ضّيعوا المفتاح وجربوا غيره ، فإذا هو لا يوافق الأقفال ، والمفتاح الذي نقصده هو الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر ، الذي تخلى عنه المسؤولون المتخاذلون ، وسمحوا للعدو يصول ويجول  متجاهلين نصرة إخوانهم الذين يعانون أبشع أنواع البطش والظلم والقتل . أخرج أبو داود والبيهقي والطبراني بإسناد حسن عن جابر وأبى أيوب الأنصاري قالا : قال رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم : ( ما من امرئٍ يخذل مسلماً في موطن ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته ، إلا خذله الله في موطن يجب فيه نصرته ، وما من امرئٍ ينصر مسلماً في موطن ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطن يجب فيه نصرته ) . وفي هذا دليل على وجوب نصرة المسلم المحتاج إليها  والنصرة تكون بتجهيز المقاتلين ومشاركتهم في قتال الأعداء وقول الحق والدعاء لهم ، لا الوقوف وقوف المتفرج على ما يجري  ولا ندري متى يفيق المسلمون من غفلتهم ويثوبوا إلى رشدهم . وما علموا أن في قتل الإسلام  توسيعٌ لسطوة الإلحاد ، وإعانة لليهود على شعب فلسطين . اللهم أنت القادر على أن تفتح قلوبنا لذكريات أمتنا في الرجال ، وأن تأخذ بأيدينا إلى مواطن القوة والنصر ، إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .

                      

 

عصر الردة

إن العالم الإسلامي يواجه موجة ردة عنيفة ، في أعز أبنائه وأقوى أجزائه ، قديما كانت الردة ، هي الخروج عن الإسلام والدخول في دين آخر أي الانتقال من دين إلى دين , ولكن ردة عصرنا هذا هي الانتقال من الدين إلى اللادين ، إنها ثورةٌ على أعز ما نملك من عقيدة وخلق ودين ، الذي عرف العدو بأنه مكمن قوة العرب والمسلمين ، وسبب وحدتهم، وأنه لا يمكن القضاء على العرب والمسلمين، إلا عن طريق التخطيط لخلق ردة أخرى  تفصلهم عن مكمن قوتهم ، وما نشاهده اليوم من حروب أهلية طاحنة في البلدان العربية ، ما هو إلا نتيجة لذلك التخطيط  الممنهج الذي جرى الإعداد له منذ زمن طويل، تمهيداً لحدوث الردة التي نعاني ، كنا بالأمس، حتى ونحن نئن من وطأة الغزاة أكثر رجولة وغيْرَةً على أمتنا وقضاياها ، ومآلات وجودها، بينما  اليوم نقتبس سلوك أبي رغال الدنيء ، وثقافة الهروب إلى الأمام واصطلاح حايد عن ظهري بسيطة ، لذا لا غرابة أن يبتلى المجتمع المسلم بالمرتدين المارقين، وتشيع بين جنباته الردة، ولا تجد من يواجههم ويقاومهم ، لأن الأنظمة المرتدة تتبع مسيلمة في إراقة الدماء وغباء المسلك ، حتى إن قتل الواحد كقتل ذبابة  وإن قتل المسلمين في كثير من البلاد ، أضعاف ما قتل الاستعمار في طغيانه ، وأضعاف ما قتل الصهاينة من الفلسطينيين ، لأن الأنظمة المرتدة لا تتقي الله في معاملة الغير أو معاملة من ينكر عليها ارتدادها ، ويريد أن يستبقي الأمة على دينها ، فنشأ عن ذلك أوضاع اقتصادية فاشلة ، فنرى في عالمنا العربي من يأكل كثيرا ويعمل قليلا ، ويغتال قويهم الضعيف ، حتى رأينا وسمعنا عن مآسٍ ومجازر تفوق الوصف وتتجاوز المعقول ، بسبب ردة الأنظمة التي تحكم الشعوب  وبخصوص علاقات هذه الأنظمة بالشعوب ، أذكر الحديث الشريف عن عمر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ألا أخبركم بخيار أمرائكم وشرارهم ؟ خيارهم الذين تحبونهم ويحبونكم وتدعون لهم ويدعون لكم ، وشرار أمرائكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم ) هذا الحديث يذكرني بتبادل الحب بين الحكام والشعوب في بلاد الغرب ، ويذكرني بتبادل اللعنات في البلاد التي تُزور فيها الانتخابات وتُداس الجماهير ، وتُقتحم المساجد ، في الوقت الذي قررت اسرائيل ضم القدس شرقها وغربها ، وتقرر أن لا دولة للفلسطينيين ، الذين لا ظهير لهم في محنتهم إلا التمسك بالإسلام ومجاهدة اليهود دون المسجد الأقصى .  

 

الخيانة والخائنون

إن امتنا تمر بمحنٍ عظيمة ونكباتٍ متلاحقة متعددة ، تارةً من أعدائها وتارةً من خيانات أبنائها وهي الأقسى وقد أحسن القائل :

يجادلني العدو فلا أبالي ... وأبكي حين يخدعني الصديق

والخيانة : هي أن يؤتمن المرء على شيء فلا يؤدي الأمانة فيه  وهي قاسية ومريرة ، والأقسى أن يخونك من تنتظر منه العون  وقد حذر الله من الخيانة فقال تعالى : ﴿ ولا تكن للخائنين خصيما ﴾ النساء ١٠٥. ونهى المؤمنين فقال : ﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وانتم تعلمون ﴾  الأنفال ٢٧ . وحذّر من اتباع الخائنين فقال : ﴿ وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل ﴾ الأنفال ٧١ . وقال صلى الله عليه وسلم : ( يطبع المؤمن على كل خلق ليس الخيانة والكذب) السيوطي في الجامع الصغير عن ابن عمر . . يخون الخائنون لأنهم ضعاف وصغار ، ومن الناس منبوذون ومرفوضون ، إنهم عار هذه الأمة ، حتى إني لم استطع وصف ما جرى من سقوط أقنعة الخونة ، أو أن أتذكر الأسلحة الغادرة التي أشهرت ، لتطلق النار على الأمة ، فتصيبها في مقتل ، يوم كانت تنتظر منها وقفة مشرّفة تشدُّ كيانها وتوقف المتطاولين عليها ، إلا أن القلوب السوداء تأبى إلا أن يكون فعلها أسود مثلها ، إنها النفوس التي تشبعت بنسج المؤمرات والمكائد ، فكان نتاجها نتناً مظلما ، إنها النفوس الخائنة المتآمره على البلاد والعباد ، وإن لم تأخذ الأمة على أيديهم بالحزم والسيف ، وإلا باعتنا كمن باعونا وقبضوا الثمن ، وساعدوا عدونا على احتلال مقدساتنا وبلادنا ، ولعل أبرز مظاهر الخذلان لهؤلاء الطغاة الظلمة ما ابتلوا به من الحمق في سياساتهم وقراراتهم ومواقفهم وتصريحاتهم ، ليستحيل ما يدبرونه إلى موجات من السخط والنقمة التي تعتمل في النفوس ، قرأت مقولةً لجمال الدين الأفغاني : " خائن الوطن من يكون سبباً في خطوةٍ يخطوها العدو في أرض الوطن ، بل من يدع قدميّ العدو تستقرُّ على أرض الوطن وهو قادر على زلزلتها وهو خائن في أي لباس ظهر وعلى أي وجه انقلب " وسألوا هتلر : " من أحقر الناس الذين قابلتهم في حياتك ؟ قال : هؤلاء الذين ساعدوني على احتلال أوطانهم " . ولعظم جريمة الخيانة فقد قرر الله مصير الخائنين في قوله تعالى : ﴿ وأن الله لا يهدي كيد الخائنين ﴾ يوسف ٥٥ ،

 

حاجة الأمه إلى العدل

إن الأمة لا تحتاج إلى شيء مثل احتياجها إلى العدل ، الذي لا يتحقق ، إلا بجعل السيادة لشرع الله ، وبدونه لا يتحقق العدل ولا يقوم الحق ، ولا تنهض الأمة ، لأن الحياة الراقية المتصفة بالقيم الأخلاقية لا يمكن أن توجد إلا في ظل الإسلام ، وما ذاقت الأمة طعم العدل إلا في ظل دول الإسلام ، وما حرمت ذلك إلا في ظل الجور والظلم ، وما ذاقت الذل والهزيمة والانحطاط إلا بعد وقوع المسلمين تحت النظام الرأسمالي ، الذي قام على فصل الدين عن واقع الحياة ، وإقامة الحياة على الأساس المادي المحض ، ولذلك فإن العدل لا يتحقق إلا في الاحتكام إلى الشرع بدليل قوله تعالى : { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل } نزلت الآية تأمر الحكام بوجوب الحكم بين الناس بالعدل ، الذي لا يتحقق إلا بتطبيق شرع الله ، والتقيد بما انزل الله  لأن العدل في شرع الله ، وفي غيره الظلم ، ومن ولاّهُ الله تعالى شؤون خلقه ، وجبَ عليه أن يحوطهم بالنصح، ويحكمهم بالعدل، ومن قصّر في حق من حقوق الرعية ، فهو غاش لها ، وإن مات على ذلك حرّم الله عليه الجنة، وهذا وَعيد شديد لمن ولي أُمور الناس فلم يعدل بينهم ، ولم يتق الله في معاملتهم ، عن معقل بن يسار قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( ما من عبد يسترعيه الله رعية فيموت يوم بموت وهو غاش لرعيته، إلا حرّم الله عليه الجنة )

 

 فالعدل إذن مفتاح استقرار واطمئنان ، وحافز على العمل والإنتاج ومصدر النماء ، وكثرة الخيرات والأرزاق ، وزرع الثقة بين أفراد الأمة  يقول ابن خلدون: "اعلم أن العدوان على الناس في أموالهم ذاهبٌ بآمالهم في تحصيلها واكتسابها، لما يرونه حينئذٍ من أن غايتها ومصيرها انتهابها بين أيديهم ، وعلى قدر الاعتداء ونسبته ، يكون انقباض الرعايا عن السعي في الاكتساب والعمران" ولذلك فالبديل في المجتمع إذا اختفى العدل ، المشاحنات والفوضى والاضطراب ، كغضبة الشعوب المحتلة ضد محتليها أو ثورات الشعوب لرفع الظلم الواقع عليها من حكامها ، بالغلاء والبطالة والسرقات والاضطهاد ، وقد كان للعدل شأنٌ لدى الحكماء في التاريخ ، حين جُعل أساسًا للملك والحكم والسياسة؛ حيث قيل : " إن العدل أساس الملك " وما ذلك إلا لقيمة العدل وتأثيره في النفس والمجتمع وحياة البشر، وفي منهج الحكام والساسة في إدارة البلاد ، وقضاء مصالح العباد ، وهذا هو لبُّ السياسة. والعدل حين يسود ، تضيق الفجوة بين الأغنياء والفقراء، ويسهل تدارك الفقر ، ومعالجة البطالة ، ومحاربة الفساد   لأن أهم مقومات العدل تكمن في الاعتدال وعدم التطرف ، وإن الأمة اليوم في أمسِ الحاجة إلى العدل الذي أقامه الإسلام لإسعاد الدنيا وتصحيح مسار البشر ، ولا سبيلَ لاستقرار العالم إلا بالرجوع إلى العدل على كافة المستويات ، عالميًّا ودوليًّا وإقليميًّا ووطنيًّا فرديًّا وجماعيًّا من المساواة والحرية والعدالة والإقرار بالحقوق لأصحابها ، فهل يحسن العقلاء في هذا العالم من الحكام والسياسيين والمفكرين تلقي هذه الدعوة ، لاستعادة العدل الغائب ، وهل يفتح العقلاء عقولهم وقلوبهم ، ويتخلصوا من أي ميلٍ أو هوى ليخرجوا الأمة من الاضطراب والفساد الممسك بخناق العباد ، عندها إذا سلم السلطان من الحيف والظلم لم يُزاحمه أحد في الفضل ، بل إن مرتبة السلطان العادل ، تزيد في الفضل على قوام الليل وصوام النهار؛ لأن نفع هؤلاء لا يتعداهم على غيرهم ، أما نفع الأمام العادل فيتعداه  إلى جميع أفراد الأمة ، إذ بتدبيره وقيامه على شئون أمته ، وقضائه لحاجاتهم وأرزاقهم ، كأنه عبد الله بكل أنواع العبادات ، قال الثوري: " صنفان إذا صلحا صلحت الأمة وإذا فسد فسدت الأمة : السلطان والعلماء ". وقال الحسن البصري: " الإمام العادل قوام كل مائل, وقصد كل جائر ، وصلاح كل فاسد, وقوة كل ضعيف  ونصفة كل مظلوم ومفزع كل ملهوف , وهو كالقلب بين الجوارح تصلح الجوارح بصلاحه وتفسد بفساده.

حاجة الأمة إلى الإصلاح

الإصلاح : تغيير الأحوال من السيء إلى الحسن ، ومن الفوضى والمخالفة إلى الاستقامة والالتزام ، وهو مطلب يتمناه ويطلبه كل الناس ، لأن توقفه يؤدي إلى هلاكهم ، هناك من يظن أن الإصلاح   هي إعطاء الناس ما يشتهون ، وهو ما يسمونه الديمقراطية؛ أي أن الشعب يحكم نفسه بنفسه ، ولا يُحكم فيه بشرع الله الذي خلقه ويعلم مصالحه ، وإني أعتقد أن كافة الإصلاحات والتغييرات التي تتبناها الأنظمة العلمانية ، لن تفلح في حل المشكلات والأزمات المختلفة التي تعاني منها هذه الأنظمة ،  ولا يمكن أن تحقق إصلاحاً  لأن أهواء الناس تختلف ، ورغباتهم تتنوع، بل إن النتيجة من وراء ذلك هي الفساد؛ قال تعالى: ﴿ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ﴾ المؤمنون 71؛ ولذلك لم يكل الله الناس إلى أهوائهم ورغباتهم ، بل رسم لهم طريقاً يسيرون عليه في حياتهم ، فلا صلاح ولا إصلاح ، إلا باتباع شرع الله والتحاكم إليه  وقد سمّى الله اتباع شرعه إصلاحا ، ومخالفة شرعه إفساداً فقال تعالى:﴿ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ﴾ الأعراف 85؛ فإصلاحها باتباع شرعه ، وإفسادها بمخالفة شرعه؛ فالله أصلح الأرض بإرسال الرسل وإنزال الكتب ، فإذا قام الناس باتباع الرسل  وعملوا بشرع الله صلحوا ، وإذا كانوا بخلاف ذلك أفسدوا في الأرض وإن كانوا يزعمون أنهم يصلحون في الأرض كما قال تعالى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ. أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ ﴾ البقرة 11. والإصلاح المتمثل باتباع شرع الله ضمان من الهلاك كما قال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ﴾ هود 117 ، والإصلاح في الأرض إنما يتحقق بتحكيم شرع الله وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وإقامة الحدود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال تعالى: ﴿ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ. الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴾ الحج 40 ، وقال صلى الله عليه وسلم : ( لحدّ يقام في الأرض خير لها من أن تمطر أربعين صباحاً) وهذا هو إصلاح الأرض ، وإصلاح أهل الأرض ، وما خالفه فهو تدمير للأرض ومن عليها ، وإن قيل  أنه تعمير وإصلاح؛ فهذا من الغش والخداع ، كمن ينادون بالإصلاح وهم يطبقون أنظمة الكفر ، ويعطلون شرع الله ، الذي جعل خيرية هذه الأمة وقوامها واستمراريتها ، منوطاً بقيامها بالحق ، والدعوة إليه  والنشر له ، واستمرار حراسته  والدفاع عنه ، حيث لم يرض الله لها إلا أن تكون صالحة بذاتها ، مُصْلِحةً لغيرها ، مُضَحِيةً في سبيل تمكين الحق ، مدافعة للباطل ، حتى تستحق صفة الخيرية ، قال تعالى : ﴿ كُنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ﴾ آل عمران 11 ، هذه الخيرية التي تجيء ثمرة التكليف والمجاهدة والمعاناة ، والتضحيات في سبيل التصحيح ، لتقويم سلوك المجتمع المسلم بشرع الله ، وإيقاف تسلط الإنسان على الإنسان  الذي هو مصدر الشر والشرك في العالم ، وتأمين حرية الإنسان في الاختيار ، وتحقيق عبوديته لله ، وتحريره من سائر العبوديات ، وفي  ذلك استرداد لإنسانية الإنسان ، وتحقيق كرامته التي تميزه عن سائر المخلوقات . والأمة المسلمة لا يكون الحاكم فيها صالحاً في نفسه  منصرفاً عن غيره، مشتغلاً بحاله ، بل هو صالح في نفسه ، ومصلح لما حوله ، فلا يحرم شعبه حقه عليه في أن يحكمهم بما شرع الله ، لا بما شرعه هو وبطانته ، الأمر الذي يسقط حبه وهيبته والثقة فيه   فتمتلئ القلوب والعقول كرهاً له ، واتهامه بالخيانة ، فيسهل على شعبه الخروج عليه ، فيفسدون في الأرض ، فيكون المسؤول عن ذلك  إذ منع شعبه حقه ، وإذا ما كان الدال على الخير كفاعله ، فإن الحامل لغيره على الشر كفاعله ، وما خرجت أمة قط على إمام عادل  لأن العدل أساس الملك ، وإن الله ليقيم الدولة العادلة ، ولو كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة ، ولو كانت مؤمنة، وبالظلم تخرب الديار العامرة ، ولا يكون عدل البتة ، إذا لم يك وفقاً لما أنزل الله عز وجل ، إذ بشرع الله تستقيم حركة الإنسان وسلوكه فيما يملك ، فيعلم أن لحرية التصرف فيما ملَّكه الله تعالى حداً يقف عنده ، لا يتعداه  لأن في تعديه ضرباً من الاعتداء على الآخرين ، كما أنَّ صلاح الحاكم في نفسه غير كاف ، بل فرض عليه أن يكون صالحاً ، وأن يكون مصلحاً لما حوله ، قائماً بالاحتساب والرقابة  على ما حوله  فلا يدع أيدي العابثين ممتدة بالشر ولإفساد والفساد ، وإذا رفق الحاكم برعيته وحرص على مصالحها ، في دينها ودنياها ، أحبته رعيته  ودعت له بخير، وقد رغَّب النبي صلى الله عليه وسلم في الدعاء لولي الأمر الصالح الرفيق، وبيّن منزلة الحاكم المحبوب من رعيته فقال: (خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ، وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ، وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ ، وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ ) صحيح مسلم: 1855.

خطر الحكم المستبد
إن الاستبداد وباء فتاك ، تصاب به بعض الأمم في بعض مراحل تاريخها، وهو أسوأ أنواع الإدارة السياسية ، وأكثرها خطراً على الإنسان، وتأخيراً للعمران، وتمزيقاً للأوطان.
والاستبداد وفق المفهوم الغربي : هو الانفراد بالرأي والسلطة ، دون أن تكون هذه السلطة خاضعة للقانون ، ودون النظر إلى رأي المحكومين ، وقد اعتبر جمال الدين الأفغاني أن الاستبداد أساس بلاء الأمة وشقائها ، ومما قاله "أن الأمة التي ليس في شؤونها حل ولا عقد، ولا تستشار في مصالحها، ولا أثر لإرادتها في منافعها العمومية وإنما هي خاضعة لحكم واحد ، إرادته قانون، ومشيئته نظام، يحكم ما يشاء، ويفعل ما يريد، تلك أمة لا تثبت على حال واحد، ولا ينضبط لها سير" -العروة الوثقى- .
إن الحكم المستبد خطير جداً ، لأنه سرطان الأمم ، الذي يلتهم كيانها ويستهدف قواها ، ويذرها قاعاً صفصفا ، وكما يرى الكواكبي أن الاستبداد بأشكاله المختلفة: الديني والسياسي والاقتصادي ، هو أساس جميع الفساد ، وأن عاقبته لا تكون إلا الأسوأ، ويرى أن الاستبداد هو "من صفات الحاكم المنفرد والمطلق العنان، الذي يتصرف في أمور رعيته بإرادته ، دون خوف من المحاسبة أو العقاب" ويصف أفلاطون المستبد بقوله "المستبد يستولي على السلطة بالقوة ويمارسها بالعنف، بعد ذلك يسعى أولا إلى التخلص من أخطر خصومه، ويكثر من الوعود، ويبدأ بتقسيم الأراضي ، مما يجعله شعبيا ومحبوبا، وهو ما ينفك يفتعل حروبا ليظل الشعب بحاجة دائمة إلى قائد ، وهذه الحروب تنهك كاهل المواطنين ، من خلال ما يدفعونه من ضرائب باهظة، فيضطرون إلى زيادة ساعات العمل ، مما لا يبقي لديهم وقتا للتآمر على المستبد. والحرب تساعده على التخلص من معارضي سياسته، حيث يقدمهم إلى الصفوف الأولى في المعركة. إن ذلك كله يدعو إلى استياء الجماهير، حتى أعوانه الذين دفعوه إلى السلطة، وهنا لا يجد أمامه إلا القضاء على المعارضة ، بما يملكه من وسائل العنف والقوة، فيزيد من تسلحه، ومن حرسه الخاص من المرتزقة، مما يتطلب نفقات طائلة، فيلجأ المستبد إلى مزيد من نهب خزائن الشعب ، الذي يدرك بعد فوات الأوان ، أنه وضِع في حالة استعباد مسيس ، إن حكم القوة والإجرام ، وضيق الحظيرة ، وقلة الصبر عن الآراء المخالفة ، طبيعة ملازمة للحكومة المستبدة، ولا تلبث أن تنتشر هذه الطبائع في الدولة كلها ، وتعم العلاقات الاستبدادية المجتمع بهيئاته جميعها" . 
لقد ساهمت أنظمة الاستبداد ، في تبديد ثروات الأمة ، وأنفقت أموالا طائلة في شراء وتكديس أسلحة ، لن تستخدم قط إلا لقهر شعوبها ، كما أنها ساهمت في تجذر التجزئة والفرقة ، وأفرغت مفهوم وحدة الأمة من مضمونه وجعلت من وحدة الأمة حلما مستحيل التنفيذ ، وإذا كان موقف أنظمة الاستبداد ، مفهوما من كل الكوارث التي تحل بمنطقتنا، فإن الأمر غير المفهوم ، هو هذا الصمت المطبق الذي خيم على هذه الأمة إزاء هذه الكوارث، وحالة اللامبالاة بل البلادة تجاهها، وانعدام أي مظهر شعبي عفوي ضدها ، وكما قال الشيخ محمد الغزالي : " إن الناس في بلادنا ينتفضون ويثورون إذا هتك عرض فتاة ، ولا يبالون إذا هتك عرض أمة ". وهو خلل في فهم الفقه الإسلامي والفقه الدعوي ، وترك لترتيب الأولويات ينطبق عليه قول الجاحظ: " إنه سقم في العقل ، وسخف في الرأي ، ولا يأتيان إلا بخذلان من الله سبحانه وتعالي " .
إن النظم الاستبدادية ، تفرز أخلاقا سلبية في المجتمع ، فيصير النفاق إلى طبع مغروس، وعادة تمارس بلا تفكير ، ويصير الدرهم والدينار قبلة الناس وكعبتهم ، فيخرجوا وهم لا يشعرون ، إلى وثنية حقيقية تتسلل إلى نفوسهم ، مع أنفاس كل يوم يعيشونه في ظلال الخوف والقهر ، حتى ينتهي بهم الأمر إلى عبادة فرد أو أفراد ، وإلى اسقاط كل القيم التي ترتبط بها الحياة والمواقف والمشاعر والأفكار، وهذا منتهى التدني وقاع الهبوط ، وهو أول الشرك الذي يصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أشد خفاء في تسلله إلى النفوس "من دبيب الذر على الصفوان -أي الحجر الأملس- في الليلة الظلماء" .
إن الإسلام هو الدين الذي اهتم بمطاردة الاستبداد والاستعباد بكل معانيه، ومحاربته بكل ما في اليد من أداة، ولم نرَ في الحياة شريعة قاومت الاستبداد والاستعباد ،كما قاوم الإسلام، ولا نعرف ديناً صبّ على الاستبداد والمستبدين سوط عذاب، وأسقط اعتبارهم وأغرى الجماهير بمناوأتهم ، والانقضاض عليهم كالإسلام، ولا نعرف مُصلحاً أدّب رؤساء الدول ، وكبح جماحهم، وقمع وساوس الكبرياء والاشتهار في نفوسهم ،كما فعل نبي الإسلام ، وإني على يقين بأنه مهما اشتدت وطأة المستبدين ، وتعاظم خطرهم ، وتفاقم أمرهم واستفحل شرهم ، وزاد طغيانهم، فإن ذلك إيذانًا بانحسار أمرهم وآخر نهايتهم ، ونهاية طريقهم ، وأوان ذلهم وهوانهم ، ووقت انكسارهم ، فهذه سنة الله في الكون ، التي تجري على الدول والممالك، وإن لكل شيء نهاية، ونهاية الظالم مسطورة في ذاكرة التاريخ .

سياسة تفقير الشعوب

إن الهدف من سياسة التفقير ، هو اجبار الناس على الخضوع للسلطة ، لضمان لقمة العيش ، بل غالبا ما تكون لقمة العيش هذه  على حساب الشرف والكرامة ، أو على حساب حرية الانسان  وهي الحالة السائدة الآن ، اذ لا داعي للاستغراب ، لأنه لا يوجد ما يمنع من اندلاع الثورات حين تجوع الشعوب ، وتضيق بها سبل العيش ، ولما كانت الأنظمة مسؤولة عن كرامة عيش الفقراء والأغنياء على حد سواء، تعين عليها أن تضمن للجميع كرامة العيش، فلا يجوع فقير عندها ، ولا يخشى غني على نفسه من غضب وحقد الفقير ، ولا يجوز للأنظمة أن تتخذ مصادر الرزق كوسيلة من وسائل الضغط على الناس ، لإجبارهم على التنازل عن كرامتهم وتحويلهم الى عبيد وعملاء ، ومخبرين للمؤسسات الامنية ، او المراكز الفاعلة في النظام السياسي ، او استلاب حريتهم وتحويلهم الى اتباع  لولي النعمة  الذي قد يكون نظاما او حزبا سياسيا ، هناك بعض الأنظمة التي استطاعت أن تؤلف قاموس القهر والاستعباد ، والظلم والامتهان والتركيع والإذلال، بشتى الوسائل بما فيها لقمة العيش، وهي سياسة مورست مع الكثير من الشعوب، فولدت خزيناً من الغضب المجتمعي أضحى مادة إعصار الشعوب ضد جلاديها، ورحم الله آبا ذر الغفاري، عندما قال : " عجبت لمن لا يجد في بيته، كيف لا يخرج الى الناس شاهراً سيفه " . وها هي الشعوب تخرج شاهرة أرواحها لدفع الظلم والقهر ، الذي تم بعمالة البعض وفسادهم وسطوتهم ونهب الناس وتجويعهم ، ومصادرة مواقفهم وتوجهاتهم ، فأذلوا الشعوب بسلطة الأمن والمخابرات ، والسجون الظاهرية والسرية    التي يمارسون فيها اعتى درجات القسوة والعنف ، بينما ينبطحون على بطونهم أمام الأمريكان وإسرائيل والغرب. الم يقول الأمام علي ابن آبي طالب لعامله على مصر مالك ابن الاشتر : " أنصف الله وأنصف الناس من نفسك، ومن خاصّة أهلك، ومن لك فيه هوى من رعيتك، فإنّك إلا تفعل تظلم! ومن ظَلَمَ عباد الله كان الله خصمه دون عباده، ومن خاصمه الله أدحض حجّته، وكان لله حرباً حتّى ينزع أو يتوب " ثم يوصيه ، لا تكن ذئباً ضارياً عليهم " ، وقد رفض عمر رضي الله عنه وضع المال العام إلا في ثلاثة خانات ، أن يؤخذ بالحق  ويعطى بالحق ، ويَمنْع من الباطل ، ولهذا وضع الاسلام القاعدة الفقهية " الغنم بالغرم " ، وانطلاقا منها تتحول الأموال من الأغنياء إلي الفقراء ، وليس من الفقراء إلي الأغنياء ،كما هو الحال في كثير من البلاد ، ولهذا نجد اليوم الفقر المستدام ، مع كثرة الحديث عن التنمية المستدامة ، والسبب هو وضع المال العام في ثلاث خانات أخري ، لا يؤخذ بالحق ، ولا يعطى بالحق ، ولا يُمْنَع منه الباطل  فهذا النوع من التخطيط الذي يؤدي إلي تخريب المجتمع .

إن الفقر في بلادنا ليس قدرا ، كما أنه ليس ناتجا من البيئة وطبيعة أوطاننا ، بل هو ناتج من السياسات المتبعة من قبل الحكومات التي فشلت في تحقيق التنمية ، التي من شأنها إيجاد القدرة علي الحصول علي الخدمات الأساسية ، التي توفر الحد الأدنى من الكرامة  ذلك لأن الفقر يمثل نوعا من العبودية لغير الخالق ، ولهذا وجدنا النبي صلي الله عليه وسلم يستعيذ منهما معا : ( اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر ) ، فحذار من غضب الشعوب عندما يهب إعصارها، لأنه لن يتوقف إلا بإزاحتهم ، عندما يصبح الشعب مصدر الدخل الوحيد لضخ المزيد من الأموال ، في جيوب شريحة صغيرة من الطبقة المتنفذة من جيوب أشخاص يقضون أعمارهم في الخوف من العوز، وعدم الاستقرار، أو غارقون في ديون بفوائد مرتفعة ، تقض مضجعهم إلى آخر سنوات عمرهم ، وما لم يتم التراجع عن هذا التوجه المحفوف بالمخاطر ، فإن الأمور ستصير لا قدر الله إلى ما لا تحمد عقباه . ونسأل الله عز وجل أن تتحرك الضمائر ، وترق القلوب ، وتغلب الحكمة التهور ، وسياسة المجازفة والمقامرة والمخاطرة ، بأقوات الناس قبل فوات الأوان ، وحلول ساعة الندم ، ولات حين مندم . وعندها لن تجدي سياسة القمع ، لأن صيانة كرامة الشعب المعيشية هي صمام الأمن والأمان والسلام  .

 

الغوطة تحت النار

من الصعب أن نقول شيئاً حول ما يحدث في الغوطة في مناخ عربي وإسلامي ، يجعلنا نعجز عن إيجاد الكلمات المعبرة عن الأسى والخجل ، والشعور بالمرارة من رؤية المشاهد المروعة ، والمجازر التي ترتكب أمام صمت عربي  وإسلامي ، إنه صمت العار والهوان ، لأن من يتحركون لوقف هذه المجازر الوحشية هم من غير العرب، وكأن هذه الأمة غير موجودة ، وكأن هذه المجازر الوحشية، لا تعني زعماء الأمة ، ولا تحرك شعرة كرامة في رؤوسهم ، وصدق الشاعر حينما قال: "مررت على المروءة وهي تبكي ، فقلت علام تنتحب الفتاة  فقالت كيف لا أبكي وأهلي جميعا دون خلق الله ماتوا ، نعم لم تحركهم الجرائم التي فاقت في وحشيتها ما هو مدون في كتب التاريخ من جرائم الإبادة والتطهير، في تخاذل يرقى لصمت الشيطان الأخرس، عن وقائع الموت العلنية ، التي تكتبها على أجساد الأطفال والشيوخ والنساء ، طائرات الروس وبراميل بشار ومدافع نصر الله  بحق الآلاف من المدنيين في الغوطة الشرقية.

هل ماتت الأمة ؟ أم قَتَلها أعداؤها ، ورقص لجناياتهم أبناؤها ؟ كيف لمجرم الشام وأعوانه ومموّليه أن يفتكوا كيماوياً بالنساء والأطفال .    

إن ما يقوم به سكان الغوطة من تحد ، وما يظهرونه من صمود   يزرع الخجل في وجدان المتحاربين مع أنفسهم في أقطارنا العربية، إن كانوا لا يزالون يحتفظون بقدر من مشاعر الخجل ، وبشيء من الوجدان ، بعد أن تركوا ساحة الحرب الحقيقية والضرورية ، إلى ساحات حروب طائفية ، تثير التقزز وتبعث على السخرية والاحتقار. أما نحن فكلنا موجوع ومتألم، وكلنا حزينٌ وبائس، نترقب ونتوجس ونتابع ونقلق، ونحسب الدقائق والساعات، وننتظر متى يتوقف القصف، ويغيب شبح الموت، ويرحل غراب الخراب ، بعد أن   سقطت الأقنعة ، ومحرقة الغوطة مستمرة ، يشاهدها العدو والصديق فلا العدو ينفع ولا الصديق يدفع ، وكما يقول المثل، اللهم نجني من أصدقائي أما أعدائي فأنا أتكفل بهم.

 

مصائب حذرنا منها الرسول صلى الله عليه وسلم

   مصائب حذَّرَنا الرسول من الوقوع فيها، وها نحن اليوم نشهدها  عن عوف بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أخاف عليكم ستاً : إمارة السفهاء، وسفك الدم، وبيع الحكم ، وقطيعة الرحم ، ونشواً يتخذون القرآن مزامير، وكثرة الشُّرَط ) أخرجه الطبراني. والسفهاء : وهم الجهلاء ، وخفاف العقول ، الذين يقدمون هواهم على الحق ويعارضونه ، مع علمهم بأنه الحق ، والذين يفعلون ما يضر ، ولا ينفع ، ويضيّعون أموالهم ولا يحسنون التصرف فيها ، ولعل إمارة السفهاء من أكبر المخاوف وأهمها، بل لعل بقية المخاوف تندرج تحتها، وما ذلك إلا لتصدير النبي صلى الله عليه وسلم لها لتكون هي رأس مخاوفه ومقدمتها كلها.  

إن السفهاء هم أهل الخفة ، وناقصوا العقل والأهلية، وهم أهل الهوى والطيش وسوء التصرف والتقدير، وهم الذين لم يأتمنهم الإسلام على تسلم أموالكم قال تعالى : ﴿ ولا تؤتوا السفهاء أموالكم ﴾ وإذا كان السفهاء لا يؤتمنون على الأموال ، فكيف بهم إن تولوا رقاب الناس؟ وتعريف إمارة السفهاء ، جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال لكعب بن عجرة : ( أعاذك الله من إمارة السفهاء ) قال: وما إمارة السفهاء؟ قال: ( أمراء يكونون من بعدي لا يهتدون بهداي، ولا يستنون بسنتي، فمن صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم  فأولئك ليسوا مني ولست منهم، ولا يردون عليَّ حوضي، ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم ، فأولئك مني وأنا منهم وسيردون عليَّ حوضي ) رواه أحمد واللفظ له والبزار. وعندما يستن الحكام بسنن الغرب ، ويتخذوا شرائع الطغيان هدى لهم ، وعندما تخضع الأمة لإمرة السفهاء ، الذين يفاخروا بحكمهم العلماني ويجاهرون بعلاقاتهم المتميزة مع أكفر خلق الله ، وأشدهم حربًا على الإسلام ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يبين  لنا  المخرج من إمرتهم ، ويبين الحكم الشرعي في عنق كل مسلم تجاههم فيقول: ( فمن صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم  فأولئك ليسوا مني ولست منهم، ولا يردون عليَّ حوضي ) ولا شك أن التصديق هو دون الطاعة، فإذا كان تصديقهم هو بمنزلة إعانتهم على الظلم ، فكيف بطاعتهم ؟ إذ به نطيل عمرهم ، ونمد ظلمهم ، وإذا كان الرسول يحرِّم علينا طاعة السفهاء ، فكيف بمن يبرر لهم ظلمهم ؟  وكيف بمن يروِّج لهم ويعينهم ، ويدعو لانتخابهم وانتخاب أحزابهم وتياراتهم ؟ علماً بأن الرسول يتبرأ منهم بقوله : ( أولئك ليسوا مني ولست منهم ) ما أشد أن يتبرأ الرسول منهم ، يوم يهرع الناس كلهم إليه ويُطْرَدون ، بسبب سكوتهم عن إمارة السفهاء! التي نعاني منها في هذا الزمان ، فنراهم يبددون الأموال الطائلة التي تفوق الخيال من أجل بناء قصر أو شراء يخت أو حفل زفاف أو سهرة ماجنة ، ومنهم من يتهم الإسلام معتبراً أن مشكلة الإرهاب  تكمن بداخل الإسلام ، ويفاخر بمساعدة دول الكفر في ملاحقة المسلمين ، والحكم بغير ما أنزل الله ، وكفى به سفها. وقد بينت لنا الأحاديث النبوية الشريفة إمارة السفهاء ، جاء في الفتح -كتاب الفتن- في حديث لأبي هريرة رفعه ( أعوذ بالله من إمارة الصبيان، قالوا : وما إمارة الصبيان ؟ قال : إن أطعتموهم هلكتم – أي في دينكم – وإن عصيتموهم أهلكوكم ) أي في دنياكم بإزهاق الأنفس أو بإذهاب المال أو بهما . ولم يكتف الرسول صلى الله عليه وسلم بالتحذير من إمارة الصبيان والسفهاء ، وإنما وضع آليات محددة ملزمة للمسلمين ، جعلت كيفيات واجبة على الرعية الالتزام بتنفيذها ، وهي اعتزالهم وقلعهم من جذورهم لا إصلاحهم  دل على ذلك حديث حذيفة الذي رواه البخاري، عن أبي إدريس الخولاني أنه سمع حذيفة بن اليمان يقول: ( كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير ، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني  فقلت: يا رسول الله ، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير ، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، قلت : وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال : نعم ، وفيه دخن، قلت : وما دخنه؟ قال : قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر، قلت : فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم دعاة إلى أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها، قلت: يا رسول الله ، صفهم لنا، فقال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا ، قلت : فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، قلت : فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال : فاعتزل تلك الفرق كلها ، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك ) . ففي هذا الحديث رد واضح على القائلين بإصلاح هذه الفرق ، فدعاة الإصلاح يخالفون الأمر بالاعتزال، وهم آثمون بتقربهم إلى أمراء الفرقة ، وعدم اعتزالهم إياهم لأن الأمر بالاعتزال جازم، وهنالك قرينتان على أنه جازم: الأولى : وصفه صلى الله عليه وسلم إياهم بأنهم دعاة على أبواب جهنم. والثانية: أمره صلى الله عليه وسلم بأن يعض على أصل شجرة إمعانا باعتزالهم. وأمراء الفرقة هؤلاء الدعاة على أبواب جهنم ، الذين سماهم صلى الله عليه وسلم بالسفهاء والصبيان، وهم الذين لا يستنون بسنة محمد صلى الله عليه وسلم ، ولا يهتدون بهديه. وهنا ينبغي التنبيه إلى أن أمره صلى الله عليه وسلم ، باعتزال هذه الفرق كلها ، فالحديث يأمر باعتزال الفرق ، ولا ينهى عن العمل لإيجاد الجماعة على إمام  والأوضح في الدلالة من هذا حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنها ستكون أمراء تعرفون وتنكرون، فمن باراهم نجا، ومن اعتزلهم سلم أو كاد، ومن خالطهم هلك ) . فهذا الحديث واضح الدلالة لا باعتزالهم وعدم مخالطتهم وحسب، بل بمبارزتهم وقلعهم واستبدالهم ، وعدم السمع والطاعة لهم ، لقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري عن نافع عن عبدالله :( السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ، ما لم يؤمر بمعصية ، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة ) وعدم الدخول عليهم ، لقوله صلى الله عليه وسلم: ( فمن دخل عليهم فصدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه ، ومن لم يدخل عليهم ويصدقهم بكذبهم ويعينهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه ) حتى إن سفيان الثوري حرم النظر إليهم فقال : " النظر إلى وجه الظالم خطيئة " .

أما ثاني المصائب فهي بيع الحكم: يصبح الحكم صفقة يشتريها من يملك المؤهلات اللازمة لينتخب أميرًا برتبة سفيه! وبالطبع لن يكون من ضمن هذه المؤهلات من يستنون بالسنة ويهتدون بالكتاب، وثمن الحكم غالبًا ما يكون رشوة تُدْفع على حساب الدين ، وإذا وسد الحكم إلى غير أهله فانتظر الساعة ، وثالها سفك الدم: عندما يغيب رادع التقوى ، تغيب معه وسائل الحجة والبرهان ، ولا يتبقى للأمراء غير الأسلوب الفرعوني ، ورابعها : كثرة الشُّرَط: وهم أعوان الولاة وكثرتهم بأبواب الأمراء والولاة، إذ بكثرتهم يكثر الظلم ، حيث تحصى أنفاس الأتقياء، لأن أمراء السفه يخافون من أمتهم، فيخافون من أدنى حراك، لذا يكثر في البلاد أعوان الولاة، الذين يحملون السياط كأذناب البقر ، يرهبون بها الناس ويضربون ظهورهم، يغدون في سخط الله، ويروحون في غضبه ، وأما الخامسة فهي قطيعة الرحم: وإذا كانت إمرة السفهاء تمثل الفساد السياسي، وبيع الحكم يمثل الفساد الإداري والحياتي، وسفك الدم يندرج تحت الانفلات الأمني وكثرة الشُّرَط يمثل القمع العسكري، فإن قطيعة الرحم تختصر الفساد الاجتماعي في أجهزة حكم دولة السفهاء، فمن ينطفئ عنده وازع تقوى الله ، لن يحجزه عن معاصيه وازع خوف الأب أو الأم ، وأما السادس والأخير :( نشوا يتخذون القرآن مزامير ،يقدمون الرجل ليس بأفقههم ولا أعلمهم ، ما يقدمونه إلا ليغنيهم ) وهذا عندما لا يُتْخَذ القرآن دستورًا، وعندما يباع حكمه ، وتُنْبذ أحكامه وشرائعه، عند ذلك يتحول القرآن على ألسنة مقرئي السفهاء ومشايخ بلاطهم إلى ما يشبه الأغنية، ويصبح أهله عند سلطان السفهاء ، مغنين ومطربي مجالس، ويكون المقدم في برامج الإعلام ، هو صاحب الصوت الجميل لا صاحب الفقه الأصيل .

وها نحن نعيش فساد بعض الأنظمة ، وخطورة إمارة السفهاء ، وأثره المدمر على البلاد والعباد ، فأي بيان أبلغ، وأي نصح أشفق من نصح رسولنا صلى الله عليه وسلم ، وها نحن نشهد والله المخاوف الست التي ذكرها لنا ، ونذوق مرارتها ونكتوي بنارها، وكأننا برسول الله يخاطبنا وهو يتكلم مع كعب بن عجرة ، ويدعو الله أن يعيذه منها. اللهم يا من جعلت محمدًا إمام الأنبياء، نسألك أن تهدم بناء إمارة السفهاء، الذين ملؤوا الأرض فسادًا والبلاد ضلالًا .  

صراع السلطان والقرآن

 لقد ابتعد السلطان عن القرآن ، فأصبح لا يحكم بما أنزل الله ، مع أن القرآن هو الأصل، لأنه يشكل ضمير الأمة  ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَل ، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( خُذُوا الْعَطَاءَ مَا دَامَ عَطَاءً ، فَإِذَا صَارَ رِشْوَةً فِي الدِّينِ فَلَا تَأْخُذُوهُ ، وَلَسْتُمْ بِتَارِكِيهِ ؛ يَمْنَعْكُمُ الْفَقْرَ وَالْحَاجَةَ ، أَلَا إِنَّ رَحَى الْإِسْلَامِ دَائِرَةٌ ، فَدُورُوا مَعَ الْكِتَابِ حَيْثُ دَارَ ، أَلَا إِنَّ الْكِتَابَ وَالسُّلْطَانَ سَيَفْتَرِقَانِ ، فَلَا تُفَارِقُوا الْكِتَابَ ، أَلَا إِنَّهُ سَيَكُونُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ يَقْضُونَ لِأَنْفُسِهِمْ مَا لَا يَقْضُونَ لَكُمْ ، إِنْ عَصَيْتُمُوهُمْ قَتَلُوكُمْ ، وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ أَضَلُّوكُمْ )  قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ     كَيْفَ نَصْنَعُ ؟  قَالَ: ( كَمَا صَنَعَ أَصْحَابُ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ، نُشِرُوا بِالْمَنَاشِيرَ ، وَحُمِلُوا عَلَى الْخَشَبِ ، مَوْتٌ فِي طَاعَةِ اللهِ خَيْرٌ مِنْ حَيَاةٍ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ )  هذا الحديث في سنده ضعف ، وقد ضعفه الشيخ الألباني ، ولكن ضعفه ليس شديداً ، والمعاني التي تضمنها الحديث في مجملها صحيحة ، حيث تدور على التحذير من أعطيات السلطان ، إن كان يُراد به شراء الذمم ، وقول ما لا يرضي الله ، والتوصية بكتاب الله والتمسك به ، وأنه سيكون أمراء ينحرفون عن منهج الله ، فالحذر الحذر من متابعتهم والسير في ركبهم ، وكل هذا ثابت بنصوص أخرى صحيحة  ، ففي صحيح مسلم  عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ ، زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ   عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( إِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ  فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ ، فَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ بَرِئَ ، وَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ سَلِمَ  وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ ) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَا نُقَاتِلُهُمْ ؟ قَالَ: ( لَا، مَا صَلَّوْا )   قال النووي :" ( وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ ) مَعْنَاهُ : ولَكِنَّ الْإِثْمَ وَالْعُقُوبَةَ عَلَى مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ عَجَزَ عَنْ إِزَالَةِ الْمُنْكَرِ لَا يأثم بمجرد السكوت ، بل إنما يأثم بالرضى به أو بأن لا يَكْرَهَهُ بِقَلْبِهِ أَوْ بِالْمُتَابَعَةِ عَلَيْهِ "  في بداية الحديث أمر نبوي ينهى عن الرشوة، هذا الذي صار أمرا عاديا في إداراتنا ومؤسساتنا، كيف لا والنظام فاسد من أصله الحكام يتعاملون بها وحاشيتهم ، وهي ماضية إلى أصغر موظف في دولتهم إلى من رحم ربي، فيأتي النبي صلى الله عليه وسلم ليبين لنا أنه لا يمكن الابتعاد عنها وتركها ، لسبب الفقر والحاجة، فلن يمتنع عنها إلا من كان قلبه ممتلئ بتقوى الله ومتعفف ، للحفاظ على عرضه ودينه، فإن تحقق هذا تم الامتناع عنها ، بعد هذا يصور لنا  المصطفى صلى الله عليه وسلم مشهدا لمستقبل الإسلام، إذ قال عليه السلام ( ألا إن رحى الإسلام دائرة ) فمن حكمته صلى الله عليه وسلم أن شبه الإسلام بالرحى، لماذا ؟ فهذه الأخيرة ، لها نقطة انطلاق ، تتحرك منها وتعود إليها، ولتكتمل الصورة يجب أن ننظر فيما جاء بعد هذا التصوير النبوي الحكيم حيث يليه في قوله صلى الله عليه وسلم ( فدوروا مع الكتاب حيث دار، ألا إن الكتاب والسلطان سيفترقان فلا تفارقوا الكتاب )  من هنا نفهم على أن السلطان والقرآن كانا متلازمان غير مفترقان،  فقد كانت القاعدة التي تدور عليها رحى الإسلام هي القرآن ، والحلقة التي تدور عليه هي السلطان، لكن وقع الانحراف ، عندما دار السلطان على أساس غير القرآن ، وانفصل الدين عن السياسة، وأصبحت الشعارات والألفاظ الغربية التي لا تمت لهويتنا بصلة ، تنخر في الأمة الإسلامية  ، ثم يوضح لنا النبي صلى الله عليه وسلم صفة هؤلاء الأمراء الذين انحرفوا عن طريق القرآن، فيقول: ( ألا إنه سيكون عليكم أمراء يقضون لأنفسهم ما لا يقضون لكم إن عصيتموهم قتلوكم وإن أطعتموهم أضلوكم ) هنا نجد أنفسنا أمام صورة واضحة لا لبس فيها، صدق النبي صلى الله عليه وسلم في قوله، وها نحن نرى أن حكام أمتنا يقضون لأنفسهم وعائلاتهم  ، في حين أن المسلمين لا يجدون ما يلبسون ولا ما يأكلون ، فأين تذهب  خيرات البلاد ؟ الجواب تذهب إلى المسؤولين فيها من أكبرهم إلى أصغرهم، إذن فالنبي صلى الله عليه وسلم يعطينا الدواء والأمر الذي سيبعدنا عن الحكام الجبريين، حيث ينهانا صلى الله عليه وسلم من إتباعهم ، ويخبرنا إن اتبعناهم سنضلل عن طريق القرآن ، ولما سئل صلى الله عليه وسلم عن كيفية عدم اتباعهم قال: ( كما صنع أصحاب عيسى ابن مريم نشروا بالمناشير وحملوا على الخشب، موت في طاعة الله خير من حياة في معصية الله ) وهنا يذكرنا صلى الله عليه وسلم بأصحاب سيدنا عيسى عليه السلام لنعتبر ، لما عذبوا ، صبروا وفوضوا أمرهم لله، ونحن الآن في هذه المرحلة نحتاج إلى جهاد  لنبتعد عن ظلم الطغاة ، والرفق بخلق الله ، وأن نتقيد بما قيدنا به شرع الله من خير ورحمة وصبر على الابتلاء، وإن استبعاد شرع الله ليس معناه إلا تسجيل الهزيمة على هذه الأمة ، وإذا لم يستبعد غيرنا دينه ، فلم نستبعد ديننا ؟ وعلينا أن نؤدي ما علينا ، وكما أمر الله المجاهدين دائماً أن يتوقعوا أحد أمرين ، والحسنى في الأمرين معاً   ﴿ قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون ، قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم إن يصيبكم الله بعذابٍ من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون ﴾ التوبة 51 . وإني على يقين أن تنضج الزروع وتتحقق النتائج ﴿ وانتظروا إنا منتظرون ﴾ هود 122 .

 

من جنى على الأمة

ليست المصائب التي تعاني منها الأمة هي الأولى ،  ولن تكون الآخرة ، فالأحداث التي تلاحق الأمة ، والكيد الصليبي الصهيوني النفاقي ، لن يهدأ له بال حتى يستأصل هذه الأمة المجاهدة ، وهيهات قال تعالى : ﴿ يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون ﴾ وقال سبحانه : ﴿ هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ﴾  إن الأحداث المؤلمة على ما فيها من مشاهد تقطع القلوب ، وتذرف من أجلها الدموع ، إلا أن تحمل في ثناياها بإذن الله خيراً كثيراً قال تعالى : ﴿ وعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً ﴾ .

إن المتأمل في الأحداث التي تعانيها الأمة ، يجد أنها كشفت وجوه المنافقين الذين لم يعد عندهم حياء ولا خجل ، إذ أصبحوا أشد مكراً وكيداً من الصهاينة والصليبيين . لأن ما حدث ويحدث ما هو إلا نتيجة لاتفاقيات الذل والهوان من أيام كامب ديفيد ، وما تلاها حتى أصبحت بعض الأنظمة ، أشد على الأمة من اليهود .

وظلم ذوي القربى أشد مضاضة   على المرء من وقع الحسام المهند

لقد استطاع الصهاينة زرع تيار صهيوني ، داخل بعض الأنظمة العربية ، بحيث يكون أشد تأمراً على الأمة من الصهاينة المجرمين ، إنها سياسة المصالح والخداع والتوريط ، وإثارة الفتن في بلاد المسلمين ، إذ أثبتت الأحداث التي تعاني منها الأمة ، أن حكوماتها لم يعد فيها أمل لنصرة الإسلام والمسلمين ، بل إن الخوف كل الخوف والفتنة كل الفتنة ، أن يصبحوا أداة لضرب الأمة ، بدعوى محاربة الإرهاب ، الذي ترعاه دول الإرهاب الفاشية ، ما أشد محنة شعوب الأمة المسلمة المجاهدة ، فكم سعت شعوبها لنيل الكرامة والعزة ، فقوبلت بأسوار من جيوش العملاء ، مدججين بكل أنواع الأسلحة لقتل شعوبهم والقضاء عليهم ، ومنع كل أشكال المقاومة ، ولو لم يبق بالنسبة لهذه الحكومات المهزومة والمتآمرة إلا كراسيها لتحكم شعوبها لكفى ، فمتى تفيق هذه الحكومات ؟ التي بددت ثرواتها التي نهبتها من شعوبها ، ظلماً وعدوانا  ﴿ وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ﴾ فالله وحده سبحانه القادر على الانتقام من هؤلاء المجرمين المعتدين ، والمتآمرين المهزومين قال تعالى : ﴿ ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلوا بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم سيهديهم ويصلح بالهم ويدخلهم الجنة عرفها لهم ﴾ . إنه لا بد من كشف أساليب المنافقين ، وكيدهم لهذه الأمة المسلمة ، وتآمرهم مع الصهاينة والأعداء لطعن الأمة في خاصرتها ، ولإضعاف شوكة الجهاد وأهله  إنهم الخطر الحقيقي ، فلا بد من كشف أسرارهم وصفاتهم وتحركاتهم وتآمرهم على الأمة ، ولهذا خاطب الله نبيه بمجاهدتهم وكسر شوكتهم قال تعالى : ﴿ يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير  يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله من فضله فإن يتوبوا يك خيراً لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذاباً أليماً في الدنيا والآخرة وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير ﴾ ومنافقوا اليوم هم نسخة من منافقي الأمس ، الذين حاولوا قتل محمد صلى الله عليه وسلم لاستئصال الدين وأهله ، ومنافقوا اليوم يحاولون قتل أمة الجهاد ، وأمة الدعوة  لتستسلم للأعداء ذلاً وطواعية ، ولكي لا يبقى للإسلام إلا اسمه ، وللقرآن إلا رسمه ، إنهم على خطى الكافرين ، وأذنابهم من المنافقين سائرين قال تعالى : ﴿ إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم  أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة ومالهم من ناصرين ﴾ وإنا على يقين أن المؤامرة لا بد أن تنهزم بقوة الإيمان الصادق  وبالعودة إلى الحق ، علماً بأن هذه الأمة لا تؤتى إلا من قبل نفسها، ففي غزوة أحد ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو القائد وأصحابه هم الجيش، قال تعالى: ﴿ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفسِكُمْ ﴾ آل عمران:165 ، فلا تصيبنا مصيبة في أي مرحلة من مراحل تاريخنا إلا بذنوبنا، وكما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( إذا تركتم الجهاد، واشتغلتم بالدنيا، وأخذتم بأذناب البقر، وتبايعتم بالعينة ورضيتم بالزرع؛ سلط الله عليكم ذلاً لا يرفعه عنكم حتى تراجعوا دينكم ) وهذا يعني أننا إذا اشتغلنا بالدنيا، فإننا نكون لقمةً سائغةً لأعداء الله ، كتب عمر إلى سعد بن أبي وقاص وإلى جيش المسلمين، الذين واجهوا أمة الفرس المجوس قال : " ولذنوب الجيش عندي أخوف عليهم من عدوهم  فإن الله إنما ينصرنا بطاعتنا له ومعصيتهم له، فإذا استوينا نحن وهم في المعصية  كان لهم الفضل علينا في القوة" . وهذا واقع في كل وقت ، فأعداء الإسلام أكثر منا ولا توجد مرحلة من مراحل التاريخ الإسلامي ، إلا وكانت الجيوش الإسلامية أقل عدداً من محاربيها ، ومع ذلك كانوا ينتصرون إذا كان الإيمان بالله عز وجل أقوى  لذا علينا أن نحاسب ونراجع أنفسنا ، قبل أن نلقي اللوم على أعدائنا ، الذين يتآمرون علينا ، وأن نعرف عدونا، ونعرف مكره وخيانته ومخططاته الظاهرة  ، وما تخفي صدورهم أكبر وأعظم وأشد، فلا يرضون منا إلا أن ننسلخ عن ديننا، وأن نصبح عبيداً لهم، سواء كانوا من المنافقين أم من الأعداء الخارجين، وإذا بقيت الأمة الإسلامية في غفلة عن معرفة أعدائها ، ومن هم، فإن هذا يعيبها ويشينها ويجعلها لقمة سائغة لأعدائها ، والمشاهد والملاحظ في الأمة الإسلامية -وللأسف- أنها إذا ضربت أفاقت، وتبقى إفاقتها مادامت الضربة حارة ساخنة  فإذا بردت تعود إلى النوم فتأتي ضربة أخرى وهكذا، وهذه من الأخطاء التي حلت بالأمة الإسلامية، لذا يجب أن تكون دائماً مستيقظة، وحذرة؛ لأن الأعداء لا ينامون ولا يغفلون.

إن النهج الذي يربينا عليه ديننا ، هو أن نهتم بأخطائنا ، أكثر من اهتمامنا بأعدائنا وكيدهم ومكرهم؛ قال تعالى: ﴿ وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا ﴾ آل عمران:120 ، نعم لا بد من فضح الأعداء ومؤامراتهم, ولكن لا نجعلها الأساس وننسى الداء الأهم ، من التقصير ، وممن ضيعوا ويضيعون الأمة عن الحق والهدى والذين هم أخطر علينا من أعدائنا, وإن كانوا هم بأفعالهم صنيعة أعداء الدين   فإن تكلموا خدعونا بأنهم منا ، وحريصون على الخير لأمتنا.

وكأني بالماكرين من أعداء الدين -ممن يحركون أيدٍ خفية لتضييع المسلمين- يقفون فرحين بهذا النهج الذي يؤدي بشكل غير مباشر إلى إبعاد الأمة عن مكمن الداء وحماية أيديهم الخفية من المسؤولية تجاه هذا الواقع المؤلم المشين الخطير، الذي تعيشه أمتنا في عصرنا الحاضر، من هوان وذل وعجز وخذلان بلغ حداً لا يكاد يوصف.

 

 

ليس الإسلام مجرد تسابيح وأذكار وأدعيه

إن المدافع عن الإسلام ، لا ينقصه الحماس والإخلاص ، وإنما ينقصه عمق التجربة وحسن الفقه ، وحسبنا أن ثواب الله في كلمات تقال ، ومظاهر تقام، إن دين الله لا يقدر على حمله وتبليغه وحمايته ، الفاشلون في مجالات الحضارة الإنسانية ، كما أن العزلة عن الكون وعلومه ، جريمة في حق الإسلام ، وتأييد الحق الذي شرف الله به المسلمين لا يتم بالقصور العلمي ، إذ من المستحيل إقامة مجتمع إنساني ناجح ، إذا كان حملته جهالا بالدنيا عجزة في الحياة.

إن القطيعة بين الدين من ناحية‏,‏ وبين الكون والحياة من ناحية أخري ، ينكرها الإسلام كل الإنكار‏,‏ ويطلب من عباد الله الصالحين ، مسلكا يناقضها كل المناقضة‏ .

هناك من يريد المتاب ، والعمل للإسلام‏,‏ لكنه يدير ظهره للدنيا وعلومها‏‏ ، ويظن أن الذكر والشكر في العبادات المحضة‏!‏  ويتجاهل أن الإسلام رسالة توجب علي معتنقيها أن يجعلوا مجتمعهم أجدر بالحياة‏,‏ وأقدر على النجاح‏,‏ وكل ما يعين علي ذلك فهو دين وإذا نظرنا إلي العبادات السماوية ، نجد أداءها في اليوم والليلة لا يستغرق نصف ساعة‏   ويبقي الزمان بعد ذلك واسعا‏,‏ والمجال رحبا ، لفهم الحياة واكتشاف طاقاتها ، وتسخيرها   لخدمة الدين‏.‏ وكل جهد يبذل في ذلك يسمى عملا صالحا‏,‏ وجهادا مبرورا‏  ، يؤهل العبد لرضوان الله‏ ،‏ ومن المستحيل إقامة مجتمع ناجح ، إذا كان أصحابه جهالا بالدنيا  عجزة في الحياة‏,‏ لأن الصالحات المطلوبة ، تصنعها فأس الفلاح ، وإبرة الخياط وقلم الكاتب ، ومشرط الطبيب ، ويصنعها الغواص في بحره‏,‏ والطيار في جوه‏ والباحث في معمله‏,‏ والمحاسب في دفتره‏ ، يصنعها المسلم ، صاحب الرسالة ، وهو يباشر كل شيء‏‏ ويجعل منه أداة لنصرة ربه وإعلاء كلمته‏.‏

ولقد دفعنا الثمن باهظا‏,‏ حينما فشلنا في ميادين الحياة‏,‏ وحسبنا أن مثوبة الله في كلمات تقال ، ومظاهر تقام‏ ،‏ نقول لمن اختزلوا الدين على الصلوات والأذكار‏,‏ وظنوا أن الأمم تقام بالهمهمة والبطالة‏,‏ من ينصر الله ورسله‏,‏ إذا كان أولئك جهالا بالحديد وأفرانه ومصانعه؟ هناك صناعات مدنية وعسكرية ، تتعلق بالنفط واستخراجه ، والانتفاع بمشتقاته‏ ، لا نعرف منها شيئا‏,‏ فهل نخدم عقيدة التوحيد ، وما ينبني عليها بهذا العجز المهين؟ ألا نرى لو قيل لكل شيء في البلاد الإسلامية‏,‏ عد من حيث جئت‏,‏ لخشيت أن يمشي الناس عراة‏,‏ لا يجدون ـ من صنع أيديهم ـ ما يكتسون ولا ما ينتعلون‏,‏ ولا ما يركبون‏ ، ولا ما يضيء لهم البيوت‏ ، بل لخشيت أن يجوعوا‏,‏ لأن بلادهم لا تستطيع الاكتفاء الذاتي من الحبوب‏!‏

إن الله لا يقبل تدينا يشينه هذا الشلل المستغرب‏,‏ ولا أدري كيف نزعم الإيمان والجهاد‏‏ ونحن نعاني من هذه الطفولة التي تجعل غيرنا يطعمنا ويداوينا‏,‏ ويمدنا بالسلاح إذا شاء؟

هناك الكثيرين من الذين يستحبون خدمة دينهم ، لكنهم لا يحسبون عرق الجبين في البحث عن البترول‏,‏ أو تلوث الجبهة وراء آلة دوارة‏,‏ لا يحسبون ذلك جهادا‏,‏ إن الجهاد في وهمهم تلاوات وأوراد‏,‏ وتكرار ما تيسر من ذلك مادام في الوقت متسع‏!‏  ولو أراد أعداؤهم أن يسمموا أمتهم في ميدان الدواء لفعلوا‏,‏ ولعجزوا عن مقاومتهم‏ ، لأن الإسلام في هذا الميدان مهزوم.‏ اليس الأولي بهم أن يصنعوا شيئا لدينهم في ميدان خلا منه‏,‏ بدل أن يختزلوا الدين في تسابيح وأدعية وبعض التلاوات ، وهناك من العلماء كالشيخ الغزالي وأمثاله من ذوي البصيرة‏,‏ من يرون في التدين الخاص‏,‏ المقصور علي العبادات المباشرة‏ قصورا في فهم الدين‏,‏ لا ينفع إلا إذا خرج المرء من ذاته ، وترجم تدينه في شيء ينفع الناس‏,‏ وفي شيء يحقق خلاص المجتمع والأمة مما تعاني ‏.‏

من المسلمين من لا يدري أبعاد المأساة التي تعيش فيها أمته‏,‏ ولا مدي التخلف الرهيب الذي يهدد يومها وغدها‏,‏ ومنهم من يهتم بمظهره الديني غاية الاهتمام ، ويؤدي الصلوات في مواعيدها‏,‏ لكنه يتهرب من مواعيد عمله‏,‏ ولا يتقن ما يوكل إليه‏,‏ ولا يمانع من أكل أموال الناس بالباطل‏,‏ ولا يَسْلَمْ الخلق من بذاءة لسانه وخشونة طبعه ، ومن أسف أن هذه الصورة من التدين هي الأكثر شيوعا في زماننا‏ ، هذا التدين الذي يمارسه البعض دون أن يكلفوا أنفسهم بأي تبعات في الأخلاق والسلوك ، ويتضاعف الأسف حين تدرك أن شيوع ذلك التدين الطقوسي والسهل ، يُضَيّع على المجتمع فرصة الإفادة من طاقات أولئك المتدينين‏,‏ ومن ثم يحرم المجتمع من خير كثير ،كان يمكن أن يتوافر له    إذا ما بذل الجهد المطلوب في تصويب المفاهيم وترشيدها‏,‏ بحيث لا يعود الإيمان مجرد مشاعر وتصورات، ولا يعود الإسلام مجرد كلمات وشعارات، ولا مجرد شعائر تعبدية وصلوات. إنما هو إلى جانب هذا وذاك، وقبل هذا وذاك ، نظام يحكم ، ومنهج يتحكم وقيادة تطاع، ووضع يستند إلى نظام معين، ومنهج معين، وقيادة معينة. وبغير هذا كله لا يكون إسلام، ولا يكون مجتمع ، ينسب نفسه إلى الإسلام.

 

 

حاجة الأمة إلى ثورة الاستقلال

هناك ثورات تنتظر الأمّة ، وأوّلها وأهمّها ثورة الاستقلال عن الغرب الصّليبي، الذي مكّن للطّغاة، وغضّ الطّرف عن كلّ جرائمهم ، نحن بحاجة إلى ثورة لا يتحكّم الغرب في قراراتنا، ولا يؤثّر عليها بأيّ شكل من الأشكال ، ولا يتدخّل في شؤوننا الداخليّة ، ثورة  لتكون علاقاتنا به الندّ بالنّدّ ، لا التبعيّة والخضوع ، ثورة لنختار من يمثّلنا ويحكمنا ثورةٌ لنُحكم بشرع الله ، لا أن نُحكم بقوانينهم وفرض حكام يضطهدوننا ، ويحاربون الدّين وأهله، ويطمسون هويّتنا ويشكّكون في عقيدتنا، وتراثنا الخالد ، ثورة لكي نوجّه ثرواتنا الوجهة الصّحيحة ونستغلّها الاستغلال الأمثل، والتي لو سُيرت التّسيير الصّحيح لقضايانا، لقضينا على كلّ مشكلاتنا  ،كالفقر والمرض والبطالة وغيرها ثورة لنستعيد وحدتنا وإخوتنا، وأن نعيش في تكتّل قويّ يجمعنا  لنستطيع أن ندافع عن أنفسنا ،كعرب ومسلمين، ثورة تمحي الحساسيّات بين الشّعوب المسلمة، وإشكاليّات الحدود المصطنعة التي كوّنها الغرب لينخر في جسد أمّتنا ، ثورة لنعدّ العدّة لمواجهة كل الأخطار المحدقة بنا وبمقدّساتنا . ثورة لندرك أنّ الغرب هو سبب مآسي أمّتنا ، بدْءًا بإسقاط الخلافة الإسلاميّة، ومؤامرة سايكس بيكو التي شرذمت الأمّة إلى دويلات، متنافرة متناحرة، وأنّ ندرك أن الغرب هو الذي استعمر بلادنا ، وعاث فيها فسادًا وإفسادًا ، وأقصى الشّريعة الإسلاميّة، وأبدلها بالقوانين الوضعيّة الجائرة، ونهب خيرات أمّتنا ، وشيّد منها حضارته ، وزرع الكيان الصّهيوني في قلب الأمّة الإسلاميّة، ليحتلّ أرض فلسطين المباركة والأقصى المبارك، ولا ننسى أن الغرب هو الحامي للصّهاينة ، والضّامن لأمنهم وتفوّقهم على الأمة العربية والإسلامية ، ولا يزال يحتلّ أرضنا، ويظلمنا ويقتلنا بسياسته العدائيّة وتهديداته العدوانيّة.

ولا ينبغي أن ننسى أن الغرب شيّد حضارته على أشلاء الأمّة ودمائها ونصّب الظّلمة والعملاء له، فقتلوا وظلموا وبغوا ، باسم ديموقراطيّته المزعومة المزيّفة، وغضّ الطّرف لعقود عن جرائمهم التي ارتكبوها بحقّ شعوبهم، حتى إذ استيقظت الشعوب من سباتها وأفاقت من غفلتها في ثورات لم يشهد لها التّاريخ مثيلاً، قام الغرب بإفشالها واستغلالها  لمصلحته . نعلم ذلك جيداً ، ولكن لا مانع أن تكون علاقتنا معه مبنيّة على المصالح المتبادلة، والاحترام المتبادل، وقائمة على النّديّة وبدون أيّة شروط ، حتى المساعدات التي يقدّمها لا نريدها إنْ كانت بشروط، وأخيرًا يجدرُ بِنا القول إنّ ثورة الاستقلال عن الغرب، أو الشّرق أو عن أيّ قوّة كانت، هي الثّورة الكبرى التي تنتظر الأمّة، وهي الثّورة الحقيقيّة، التي ما بعدها ثورة، وإن غدًا لناظره قريب .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

أرخص الدماء

دماء المسلمين تسيل ، ولا يخشى القاتلون قصاصا ، هذا الدم أرخصته أحوال أمتنا ، فأصبح أرخص من التراب ؛ وأصبح المسلمون يعيشون في عالم حُرم من راحة البال ، ومن نعمة الأمن والأمان ، فأصبح الملايين من البشر ينتظرون الموت في كل لحظة ، والقتل في كل ساعة  أصبحوا لا يستشعرون بحلاوة العيش ، في عالم سُفكت فيه الدماء  ومُزِّقت فيه الأشلاء ، ودُمرت فيه البيوت والمصانع والمزارع والمدارس  صورة أخبرنا عنها الرسول صلى الله عليه وسلم في الصحيحين عن أبى هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا تقوم الساعة حتى يكثر الهرج قالوا وما الهرج يا رسول الله قال القتل القتل ) .

وفتن الدماء من أعظم الفتن ؛ لعظم أمرها ، وسهولة استباحتها بالتأويل، وعجز العقلاء عن كف المتقاتلين، يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى: " وَالْفِتْنَةُ إِذَا وَقَعَتْ عَجَزَ الْعُقَلَاءُ فِيهَا عَنْ دَفْعِ السُّفَهَاءِ " وَهَذَا شَأْنُ الْفِتَنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ﴾الأنفال: 25. وَإِذَا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ لَمْ يَسْلَمْ مِنَ التَّلَوُّثِ بِهَا إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ الله تعالى " ، ولعظم أمر الدماء ، فإن استحلال دم مسلم واحد ، كاستحلال دماء المسلمين جميعاً قال تعالى : ﴿ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ﴾ المائدة: 32، وقد دلت الأحاديث على أن قتل مسلم بغير حق من  أكبر الكبائر، ومن السبع الموبقات ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن : ( قتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا ) ، وحديث : ( ولو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار) .

إن فتن الدماء ظلم، والظلم سبب للهزيمة والفشل، وظهور الأعداء على المسلمين ، لأن المسلمين إذا ضرب بعضهم رقاب بعض  ،كان فيهم ظالم ومظلوم، والله تعالى لا يرضى الظلم، بل إن الله يؤيد بالعدل دولة الكفر، ويديل لها على المسلمين ، إذا استحلوا دماء بعضهم بعضا، ولأن يخطئ العبد بمجانبة سبيل فيه خير عظيم اتقاء فتنة مظنونة  خير من أن يرتكس في فتنة تتلطخ فيها يداه بدماء إخوانه المسلمين لأن الخطأ في العفو أهون من الخطأ في العقوبة ، وترك من يستحق القتل ، أخف إثما من قتل من لا يستحق القتل. وقد قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ، إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنِ، إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنُ، وَلَمَنْ ابْتُلِيَ فَصَبَرَ فَوَاهًا أي فطوبى له ) رواه أبو داود ، وما نراه ألان ونسمعه ان الكل يقاتل الكل  والناس منقسمون دون ان ينحازوا للحقيقة، ويتبصروا الواقع، منجرفين وراء سياساتهم ،مرهونين لمعتقداتهم ،دون النظر لمصالح أوطانهم، التي تآكلت وتهدمت ودمرت .

إنه الصراع على الحصول على متع هذه الحياة، وتعظيم شأن الدنيا والزهد في الآخرة ، وما عند الله تعالى، وهذا من أمارات النبوة التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم بأنها ستحصل بين المسلمين قبل قيام الساعة، وهذا ليس المراد منه واقعة بعينها ، وإنما المراد المعنى العام والاقتتال بين المسلمين ، قد وقع كثير منه في بلاد المسلمين حتى لا يعرف القاتل فيما قَتل، ولا المقتول فيما قُتل ، وقد روى البخاري في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَقْتَتِلَ فِئَتَانِ فَيَكُونَ بَيْنَهُمَا مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ دَعْوَاهُمَا وَاحِدَةٌ أي كلٌ منهما يدّعي نصر الحق ، وَلاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُبْعَثَ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ، قَرِيبًا مِنْ ثَلاَثِينَ، كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ ) وروى ابن ماجه بسند صححه العلماء عن أبي موسى قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ لَهَرْجًا  قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْهَرْجُ؟ قَالَ: الْقَتْلُ ، فَقَالَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نَقْتُلُ الْآنَ فِي الْعَامِ الْوَاحِدِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَيْسَ بِقَتْلِ الْمُشْرِكِينَ وَلَكِنْ يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، حَتَّى يَقْتُلَ الرَّجُلُ جَارَهُ، وَابْنَ عَمِّهِ وَذَا قَرَابَتِهِ ، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَعَنَا عُقُولُنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا، تُنْزَعُ عُقُولُ أَكْثَرِ ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَيَخْلُفُ لَهُ هَبَاءٌ مِنَ النَّاسِ لَا عُقُولَ لَهُمْ ثُمَّ قَالَ الْأَشْعَرِيُّ: وَايْمُ اللَّهِ، إِنِّي لَأَظُنُّهَا مُدْرِكَتِي وَإِيَّاكُمْ، وَايْمُ اللَّهِ، مَا لِي وَلَكُمْ مِنْهَا مَخْرَجٌ، إِنْ أَدْرَكَتْنَا فِيمَا عَهِدَ إِلَيْنَا نَبِيُّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَّا أَنْ نَخْرُجَ كَمَا دَخَلْنَا فِيهَا ) فهذه بعض أسباب الاستهانة بسفك الدماء المحرمة من المسلمين من قبل المسلمين أنفسهم ، غدر وانقلابات ومؤامرات وأدوات موت وإزهاق وفناء ، فالرصاص والدبابات والمدافع والطائرات  هي التي تتكلم وتزمجر، فتقتل وتدمر، والعقول نائمة،، والأفكار هائمة والشعوب تساق كالسائمة، والمنادي أين الحكماء والعلماء ، وأين رجال الدين الأتقياء ، وأين الملوك والرؤساء والأمراء ؟ هل هم أموات أم أحياء ؟ أم أنهم  يشعلون نار الفرقة والعداء، وصرف الأموال على الشهوات بسخاء، فهانت عليهم البلاد والأوطان ، وأصبحت الشعوب لا قيمة لها ، بعد ان الصقوا فيها صفة القتل والإرهاب ، و لماذا نجعل شعوبنا وأوطاننا ومقدراتنا وثرواتنا لقمة سائغة في أفواه الأعداء والعملاء؟ عجبا للتاريخ واسفاره وأقلامه، كيف ستسجل هذه الحقبة من تاريخ الأمة وهذه الانتكاسة والغمة ؟

 

ماضينا المشرق وحاضرنا المظلم

إن حاضر الأمة ومستقبلها مظلمٌ موحش ، وكيف لا يكون ذلك ؟ وهم يعيشون عصر الفقر وموالاة الأعداء ، حتى أصبح الفجور في الخصومة ، والاستهانة بالدين ، والإضاعة للأمانة شيءٌ مألوف ، فلا التزام بالدين في ميادين الأخلاق عامة إلا من عصم الله ، على حين نجد أتباع الملل الأخرى يتحرّون في معاملاتهم ومسالكهم مكارم الأخلاق ويترفعون عن الفوضى والتسيب ، في الماضي كان الصف مجتمعاً  فكيف انصدع ؟ إننا أمة تنتحر فهي كما جاء في القرآن الكريم ﴿ أو يلبِسكم شيعاً ويُديق بعضكم باس بعض ﴾ الأنعام 65 . لقد ابتليت أمتنا بما لم يُبتلَ غيرها بمثله، فقد انحدرت إلى أسفل السافلين ، وهي تعاني من جيوش المستعمرين ، الذين انتهكوا حرماتها واستباحوا عواصمها  وقالوا عنا بأننا خياليون، واننا حين نعتز بأسلافنا وتاريخنا نعيش في الخيال، ونعتمد على الماضي ، ونتكل على الموتى يقولون هذا عنا في معرض الاستهزاء بنا ، إنهم يريدون أن ننسى ماضينا فنعيش بلا ماض ،حتى إذا استيقظنا من تنويمهم ونومنا ، لم نجد ماضيا نبني عليه حاضرنا ، فنندمج في حاضرهم ، الذي يبنون عليه ماضيهم، إنهم يعتزون بماضيهم ، ويخلدون رجال الفكر والأدب والفلسفة والجنود والفاتحين، فيذكرون حاضرهم وماضيهم ليبنوا عليهما مستقبلهم، أليس من حقنا، بل من واجبنا أن نعرف ماضينا والرجال الذين عمروه في ميادين الحياة  فنعرف من هو أبو بكر؟ ومن هو عمر؟ وما صنع عقبة وطارق وموسى في الغرب وما صنع المثنى وسعد وخالد وقتيبة في الشرق،في حين يأتون أبنائنا بما يملأ عقولهم وأنفسهم ، حتى لا يبقى فيها متسع لذكريات ماضينا وأسلافنا ، فترى الكثير منهم من يعرف الكثير عن نابليون ، ولا يعرف شيئا عن عمر، ولا يحفظ شيئا عن عائشة وخديجة، إنها الخسارة التي لا تعوض  كما راحوا يحرفوا أسماء أعلامنا ، عندما كانوا يأخذون العلم عنا، كأنهم أُلهموا من يومئذ ، أن الزمان سيدول ، وسنعود للأخذ عنهم ، وهكذا يقرأ أبناؤنا اليوم هذه الأسماء ولا يهتدون إلى أصحابها ، ولولا النزعة الموروثة عن الأجداد الذين قهروا الرومان ، ودفعوا الصليبيين عن الشرق، لما بقي لنا شيء من ذلك التراث الجليل ، وإذا رأيت من يفتخر بالماضي ، ولم يمر على حاضره أو المستقبل فاعرف بأنه انسان فاشل، اما اذا خطط للمستقبل وأعد فإنه إنسان ناجح  خصوصاً إذا ذكر الماضي لأخذ الدروس والعبر لحاضره ومستقبله والسعي للاستفادة منها وتوظيفها في تحقيق النجاحات، ونحن إذ نستوحي من أعمال ماضينا الصفحات البيضاء ونسعى جاهدين في نشرها ، إنما نعمل على توعية شبابنا ، الذي أريد له أن لا يعلم شيئا عن ماضيه ، الذي قدم رجاله وضحوا وانجزوا ، ولكن ماذا عنا نحن الجيل الحاضر؟ وما الذي انجزناه؟ وماذا ينفعنا التاريخ المشرق، اذا كان الحاضر مظلما ، والمستقبل مجهول؟ وصدق الشاعر الذي قال :

ليس الفتى من يقول كان أبي إن الفتى من يقول ها أنذا

في الماضي ولاة كان همهم الاول والاخير، نصر دينهم والمحافطة على أرضهم وعرضهم ، والوقوف الى جانب المسلمين اينما حلوا ، أما زعماء اليوم فإن همهم المحافظة على كراسيهم ، وعندهم كامل الاستعداد  لتسليم الارض وإباحة العرض ، وسفك الدماء من أجل البقاء على عروشهم

 وأمة هذا حالها ، فيها من ينصر الظلم ويؤيد الاستعلاء والطغيان، وتباع فيها الذمم والهمم بيع البضائع في السوق السوداء، أمةٌ هذا حالها لا تنتصر على أعدائها ، وما انتصرت في الماضي إلا بصبر المؤمنين وثباتهم مع نبيهم  وتمسكهم بمنهج ربهم فأتاهم نصر الله ، ومكن لهم ، وصدق فيهم قول الله عز وجل ﴿ كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله﴾ ذلك هو ماضينا المشرق ، عندما طبقنا تعاليم الإسلام ، وكنا يدا واحدة ، نُحكم بشرع الله ، ونستقي من كتاب الله ، ونهتدي بسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام .

أما حاضرنا اليوم ، فالإسلام يُحارب من قبل أعدائه ، ويَحل التنكيل بالمسلمين في كل مكان ، وما بيدهم حيلة ولا يستطيعون تحريك ساكنا ، بل خالفوا تعاليم الإسلام ونبذوا سنة الرسول وهجروا كتاب الله ، ووالوا أعداء الله ، هذا هو حاضرنا المظلم ، وأما المستقبل فبيد الله ، ولنعلم أن الله سبحانه ﴿ لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ﴾  عندها نبني مجدنا من جديد ، ونؤسسه بتقوى الله ، لنسعد بمستقبل مشرق سعيد .

 

 

 

 

عاقبة التقصير والتنازع

التنازع من أعظم أسباب الهزيمة وهو ناشئ عن التقصير في طاعة الله ورسوله لذلك قرن الله بينهما في آية واحدة فقال تعالى : ﴿ وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ﴾ . ومن أطاع الرسول فهو منصور، ومن يخالفه مخذول كما قال تعالى: ﴿ ان الذين يحادون الله ورسوله ,أولئك الأذلين ﴾ .

إن ما تقاسيه الأمة من مرّ العذاب ، وذل الحياة ، وتفرق الكلمة ، راجع إلى سوء ًأعمالنا وتقصيرنا في كل ناحية من نواحي الحياة ، حتى أصبحنا دون الأمم سياسة واقتصاداً وعلما ، ولا عجب فالقصاص من نوع العمل وقد أحسن القائل   لا تعجبوا للظلم يُغشي أمة    فتنوء منه بفادح الأعمال

ظلم الرعية كالعقاب لجهلها   ألم المريض عقوبة الإهمال

لقد بلغنا من الذل دركاً أصبحنا فيه لا يقام لنا وزن ، ولا يحترم لنا دين ، ونحن نملأ الأرض عددا ، فأصبحنا عالة على هامش هذه الحياة حتى صدق فينا قول القائل   

يبكي علينا ولا نبكي لذاتنا   إنا لأغلظ أكباداً من الإبل

لم نعد أكثر من آلة ، تتصرّف بنا دول الكفر، تصرف المالك بالسلعة ، وأسلمنا رقابنا إلى أعدائنا ، يحزونها بأيدينا وأيديهم ، دون أن نفكر بالدفاع ، وكتاب الله الذي ساد به آباؤنا بين أيدينا ينادينا ﴿ إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ﴾ ونحن عنه غافلون ، و كيف ننتصر وحال ولاتنا  ،كحال الخليفة المعتصم الذي أرسل إلى المنجمين في فتح عمورية يسألهم : هل يصلح القتال الآن مع الروم ؟ وبماذا تشير الكواكب ؟ فقال المنجمون : الكلمة الآن لكوكب النحس ، وننصح بعدم خروج الجيش ، ولكن فورة الإيمان والحماس طغت ، والغضب للمسلمة التي صاحت : وامعتصماه غطّت على هراء المنجمين فخرج الجيش الإسلامي وفك قيود الأسيرة ، وعاد بها محررة ، فأنشد أبو تمام قصيدته :

السيف أصدق إنباء من الكتب    في حدّه الحد بين الجدّ واللعب

بيض الصحائف لا سود الصحائف في  بطونهن جلاء الشك والريب

ويوم يكون الحكم إسلامي ، لا يكون للتنجيم مكان ، ولا يطلب له راي فالذين لا يعملون لفك الحصار عن غزة ولا يفكرون بنجدتهم يأخذون برأي المنجمين والمثبطين ، الذين تجاهلوا أن قضية فلسطين هي الذل الذي ما بعده ذل ، وهي الألم الذي لا أوجع منه ألم ، بل الخذلان بكل مظاهره ، بسبب تفرق الأمة وانقسامها ، وعدم نصرة الضعيف والمظلوم فيها ، وإهمال قضاياها المصيرية! والبرود أمام جراحاتها ، الذي أثر بشكل كبير على قوتها ووحدة قراراتها ،  وهذا ما حذّر الله منه فقال : ﴿ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ﴾  قال الشوكاني رحمه الله عن معنى النزاع كما في فتح القدير : " الِاخْتِلَافُ فِي الرَّأْيِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَتَسَبَّبُ عَنْهُ الْفَشَلُ، وَهُوَ الْجُبْنُ فِي الْحَرْبِ " وقد جعل الله عاقبة النزاع والشقاق بين المسلمين ، العذاب العظيم وعدم الفلاح، فقال سبحانه وتعالى: ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾آل عمران: 105 ، فالنزاع والشقاق بين المسلمين سبب رئيس في فرقتهم وقطيعتهم ، الموقعان في الوهن والضعف. قال السعدي رحمه الله في التفسير : ﴿ وَلا تَنَازَعُوا ﴾ تنازعاً يوجب تشتت القلوب وتفرقها،﴿ فَتَفْشَلُوا ﴾ أي: تجبنوا ﴿ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ﴾ أي: تنحل عزائمكم، وتفرق قوتكم، ويرفع ما وُعِدْتم به من النصر على طاعة اللّه ورسوله ، وقال القشيري رحمه الله في لطائف الإشارات  : الموافقة بين المسلمين أصل الدّين. وأول الفساد ورأس الزّلل الاختلاف. وكما تجب الموافقة في الدين والعقيدة تجب الموافقة في الرأي والعزيمة.

قال تعالى في صفة الكفّار: ﴿ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ﴾ " وإنما تتحد عزائم المسلمين لأنهم كلّهم يجمعهم التبرّي من حولهم وقوّتّهم، فيتحدون في هذه الحالة  

وأمّا الذين توهّموا الحادثات من أنفسهم ، فضلّوا في ساحات حسبانهم، وأجروا الأمور على ما يسنح لرأيهم، فكلّ يبنى على ما يقع له ويختار، فإذا تنازعوا تشعّبت بهم الآراء، وافترقت بهم الطرق، فيضعفون، وتختلف طرقهم " .

وما على الأمة إلا الاعتصام بحبل الله ، لأن القيام بهذا الواجب أصل أصيل  وحصن حصين في خلاص الأمة من همومها ومحنها، قال تعالى : ﴿ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾آل عمران: 101 ، وإن اعتزت الأمة بمنهج ربها  أمكن لها أن تطهّر الأرض من دنس الاحتلال ، وتبقى فلسطين عربية إسلامية ، ويبقى المسجد الأقصى ، ونصيحتي للمفرّطين والمرتدين ، أن يخرجوا من الهاوية التي تردوا فيها ، ويعودوا إلى الإسلام ، قبل أن تتحول هذه الهاوية إلى مقبرة تخمد أنفاسهم  أو قبل أن يذهب الله بهم ، ويأتي بغيرهم كما قال تعالى : ﴿ وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ﴾ محمد 38 .   

  

 

 

 

 

 

  

الفراغ القاتل

نبَذ الله الفراغ، وحذَّر العباد منه، بل بيَّن في كتابه أنه لا يمكن للإنسان أن يكون فارغًا فقال تعالى : ﴿ فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ ﴾الشرح 7. أي إذا أتممت عملاً من مهام الأعمال ، فأقبِل على عمل آخر ، يشغل أوقاتك بالأعمال العظيمة التي تقربك من الله تعالى ، كالصلاة، والتهجد، وقراءة القرآن الكريم. واجعل رغبتك في جميع أعمالك وعباداتك، من أجل إرضاء ربك، لا من أجل شيء آخر، فهو وحده القادر على إبلاغك ما تريد، وتحقيق آمالك ، لأن المواظبة على الأعمال الصالحة مع الإخلاص فيها، تؤدى إلى السعادة التي ليس بعدها سعادة.

لذا لا بد من مَلء الفراغ ، إما بعمل الدنيا أو الآخرة  لأن الفراغ يورث الوساوس، ويرهق النفس، ويُجهِد الفِكر  ويُنهِك البدن! وقد لام الله المفرطين في أوقاتهم فقال جلّ اسمه : ﴿قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ * قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾ المؤمنون 112 . وقد حذَّر النبي صلى الله عليه وسلم من الفراغ؛ وبيَّن أن من نعم الله على العبد ملىء الفراغ في نفع الدنيا والآخرة ، وبيَّن أن المغبون من ضيَّع أوقاتَه وبدَّد ساعاتِه، وشتَّت أيامه ، لأنه لا يعرف قيمة الوقت ، وأنه رأس مال الانسان، كما قال صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبونٌ فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ)رواه البخاري.  فإذا أردت النجاح، فاصنَعْ من الفراغ عملاً، وإذا أردت الفلاح فاصنَعْ من البطالة شُغلاً ، قال الحسن البصري: " يا ابن آدم إنما أنت أيام إذا ذهب يومك ذهب بعضك " وانشدوا :

والوقت أعظم ما عنيت بحفظه   وأراه أسهل ما عليك يضيع

فقد حرص الإسلام على شغل أوقات الفراغ بعد الواجبات بالعمل النافع المثمر، بحيث لا يجد الإنسان الفراغ الذي يشكو منه، ويحتاج في ملئه إلى تبديد الطاقة أو الانحراف   لذا دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوة صريحة إلى الاستفادة من ساعات فراغنا قبل أن تمضي فقال: (اغتنم خمسًا قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك وغناك قبل فقرك) إنها دعوة للإفادة من ساعات الفراغ قبل أن تمضي فلا تعود، ليغتنمها المرء قبل حلول مرض مقعِد أو كبر مفنِّد أو بلاء مشغل ، ولقد صدَّق فعلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم قولَه في الحث على الاستفادة من الوقت، فلم يكن في حياته ثمة فراغ .

إنه لا علاج من الفراغ إلا بالرجوع إلى الله ، نظاماً ومنهج حياة وأداء العبادات ، وتطهير القلب من الأدران ، ومحبة الناس ، والارتفاع من درجات البهيمية إلى درجات الصديقين في سمو الأخلاق وصفاء النية ، فلا حسد ولا حقد ، ولا غرور ولا كبرياء ، ولا غش ولا خداع ، ولا كذب ولا رياء ، هذا هو ديننا ، وما نحن بحاجة إليه ، ومن لم يتمتع  بالفراغ لا يهتدى إلى الدين الحق ، لذا تجده يشكو الفراغ القاتل في حياته ، ويشكو مع هذا الفراغ ، الملل والضجر ، وسوء الظن بكل ما يحيط به ، فيتنكر لكل القيم ، ولا علاج لهذا إلا بالرجوع إلى الدين ، الذي يفسح المجال أمام أتباعه ، فيرفعهم إلى أعلى عليين  ويعطيهم الدنيا والآخرة ، ويصعد بهم إلى أعلى درجات الصلحاء والصديقين ، كما ينبغي أن نبدد الإحساس بالفراغ ، بمزيد من العمل ، لننهض ونصحو، ولا تسعد أمة تلهو وتلعب في وقت فراغها، فلنتحرك نحو المجد بدلاً من التسكع في الأسواق والمقاهي ، إذا كنا نعتقد بأن لنا دوراً في هذه الحياة مازال ينتظرنا لكي نقوم به .  ولله در أبي الطيب حين قال :  

لا تحسبِ المجدَ تمراً أنتَ آكلُهُ  لن تبلغَ المجدَ حتى تلعقَ الصَّبرا

وفي توجيه علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، علاج للفراغ القلبي والروحي والمبادئ الجادة ، حيث يقول علي رضي الله عنه: (من أمضى يومًا في غير حق قضاه أو فرض أداه أو مجد بناه أو حمْدٍ حصّله أو خير سمعه أو علم اقتبسه فقد عق يومه) فمن يعمل بهذا الوجيه ، لا يشكّل الفراغ  مشكلةً في حياته، لأنه لا يمكن أن يوجد فراغ في قلب عامر بذكر الله، ولا في روح متعبِّدة لله . وليَحذَرِ المُسلِمُ أن يملىء الفَرَاغِ  بما يُغضِبُ اللهُ، أَو يَقضيهُ فِيمَا يَشغَلُ عَن طَاعَةِ اللهِ قال تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلهِكُم أَموَالُكُم وَلا أَولادُكُم عَن ذِكرِ اللهِ وَمَن يَفعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ﴾ .

 

 

 

 

 

الواقع الإسلامي والعالمي

ليس المسلمون فقراء بمجموعهم ولا ضعفاء بإيمانهم ، ولا أقلاء بعددهم ،﴾ ولا جهلاء بجملتهم ، بل لديهم كل شيء من أسباب النهضة ، لا بل هم في القمة بالقياس إلى بقية الأمم لو اجتمعوا ، لكنهم تفرقوا ، وابتعدوا عن منهج ربهم ، لذا نجدهم في أسوأ حال واتعس بال ، فُرقةٌ وشتاتٌ، وتنازُعٌ واختلافٌ ، في الوقت الذي يصطرِعُ العالمُ  على رغَباتٍ سياسيَّة وقوميَّة، ودينيَّة واقتصاديَّة، ويعيشُ أزمَاتٍ حادَّةً نتيجة الأهواء الفردية، والمطامِع الإقليمية، واستِبدادًا يستمِدُّ بقاءَه بالبطش والاعتِداء ، الذي أنتجَ البغيَ والظلمَ، واشتِعالَ الحُروب، وسقوطَ الضحايا وخرابَ الديار، وقد نالَ المُسلمين قِسطٌ وافِرٌ من هذا البلاء، وأصابَهم ضِعفُ ما أصابَ غيرَهم، وتكالَبَت عليهم الأُمم، فاحتُلَّت بعضُ أوطانِهم، واستُنزِفَت خيراتُهم وسُرِقَت أقواتُهم، وضاعَ صوتُهم ، في الوقت نفسِه تسعى أميركا إلى تركيز جميع الضغوط على بلاد المسلمين من الناحية السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية وذلك من خلال العملاء والمشاريع المشبوهة، ومن خلال الغزو والقهر، ومن خلال تمكين الكيان اليهودي من التمدد في طول البلاد وعرضها، ومن خلال المؤتمرات والاجتماعات المشبوهة ، والمشاريع المميتة للاقتصاد، ومن خلال زيادة المديونية على الدول الإسلامية عن طريق المؤسسات المالية العالمية لإعناتها.

بينما تنتظِمُ كثيرٌ من الدُّول في تكتُّلاتٍ عالميَّة ، ضيَّقَت هُوَّة الخلافات بينها وتقارَبَ بعضُها مع بعضٍ من أجل مصالِحِها، مع أن ما بيننا من عُرَى الوحدة وأسباب التضامُن والتكافُل، والتعاوُن والترابُط أكثر مما بين أُمم الأرض جميعًا.

إن واقعَ المُسلمين اليوم لَيُشبِهُ واقِعَهم يوم الأحزاب قال تعالى : { إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ } الأحزاب 10. المسجد الأقصَى .. الأرضُ المُبارَكة وما حولَها .. شامُ العِزِّ وأهلُها .. بُورما وأفريقيا الوُسطَى .. فضلاً عن اضطِرابِ كثيرٍ من بلاد المُسلمين واحتِرابِ بعضِهم مع بعضٍ، وتكالب الأعداء عليهم من الشرق والغربِ.

ولم يزَل جُرحُ فلسطين كُلَّما شُغِل المُسلِمون عنه بقضايا حادِثة ، كلَّما حرَّك المُحتلُّ ما يُهيِّجُه ويُدمِيه، مُستفِزِّين بذلك شُعورَ مئاتِ الملايين من المُسلمين، التي تغلِي غلَيَان المِرجَل، وقد أدركَ الأعداءُ ذلك ، فانطلَقُوا جميعًا للوقوف أمام أمانِيهم وأجهَضُوا أحلامَهم، مُستعِينين بالنفوس المريضة، الذين يُريدون جرَّ شُعوبِهم إلى هاوِيةِ التردِّي والذُّلِّ والشَّتَات. هذه هي الاستراتيجية الأميركية التي وضعت لعزل وقهر العالم الإسلامي، وذلك من خلال محاولات استباقية لمنع قيام الدولة الإسلامية. إلا أن هذه الاستراتيجية لن تنجح أبداً في تحقيق أهدافها، خاصة وأن المد الإسلامي ما زال في حالة متنامية، بالرغم من كل هذه الهجمات الشرسة على المسلمين. ولن تستطيع أميركا إيقاف هذا المد بخططها الماكرة هذه، فالناحية العقائدية والحضارية لا يوجد أي حل أميركي غربي لمعالجتها؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه. يقول الرئيس الأميركي نيكسون في كتابه (ما وراء الإسلام): «ما يهدد العالم فعلاً هو أن بلدنا قد يكون غنياً بالبضائع، ولكننا فقراء في الروح. فالتربية والتعليم الرديئان، والجرائم المتزايدة، والعنف المتصاعد، والانقسامات العرقية النامية، والفقر المستشري، وآفة المخدرات، والثقافة المنهارة في وسائل التسلية، والانحدار في تأدية الواجب المدني والمسؤولية، وانتشار الفراغ الروحي، ساهمت جميعاً بفض الأميركيين وتغريبهم عن بلادهم ودينهم وعن بعضهم بعضاً». ويقول زبغينو بريجنسكي وهو مستشار سابق للأمن القومي الأميركي: «إن المجتمع المنغمس في الشهوات (المجتمع الأميركي) لا يستطيع أن يسن قانونا أخلاقياً للعالم، وإن أي حضارة لا تستطيع أن تقدم قيادة أخلاقية سوف تتلاشى». هذه هي الحضارة الأميركية والغربية باعتراف الأميركيين أنفسهم، إنها حضارة لا أخلاقية، حضارة تستشري فيها الآفات الاجتماعية، حضارة خواء فكري، إنها حضارة خاوية على عروشها.  واليوم وقد اختلَفَت الموازِينُ، وطغَت حضارةُ الآلةُ على حضارة الإنسان وتسيَّدَت المصالِحُ وتَوارَت الأخلاق، ووهَنَ كثيرٌ من حمَلَة هذا الدين، وأدرَكهم داءُ الأُمم قبلَهم، وقصَّر كثيرٌ من حُكَّام المُسلمين؛ أصبَحَت هذه الأمةُ مِزَعًا، وأمرُهم فُرُطًا ذهبَت رِيحُهم، وخبَت نارُهم، وتضعضَعَت بين الأُمم كلمتُهم ، فأصبحَ الناسُ ينشُدون الهُدى عند غيرِهم، ويبتَغون الرَّشاد عند سِواهم، وعوَّلُوا كثيرًا على ما أنتَجَته حضارةُ المادَّة، وعُصارة الفِكر الحديث، فما زادَهم ذلك إلا تِيهًا فوق تِيه. والعزاءُ هو أن الداء ليس في الدين نفسِه، وإنما في كثيرٍ من حمَلَته ، فلم تنطَفِئ الشُّعلةُ وإنما كلَّ حامِلُها، ولم تغِب الشمسُ وإنما عمِيَ البصير؛ فهذا الدينُ عصِيٌّ على الفناء، لا يقبلُ الذَّوَبان وإن ذابَ بعضُ أتباعه. وإذا قصَّر في حقِّه جيلٌ أتى الله من بعدِهم بأجيال ، وقد شرع الله جل شأنه سنة استبدال الأقوام وضوابطها فقال جل شأنه : ﴿ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاس ولِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ آل عمران 140 . وقال : ﴿ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ﴾ سورة محمد 38.  

 

 

 

الإسلام كل لا يتجزأ

إن الإسلام كل لا يتجزأ ، فإما أن يوخذ جملة ، وإما أن يترك جملة.

أما أن يُـستفتى الإسلام في صغار الشؤون، وأن يهمل في الأسس العامة التي تقوم عليها الحياة والمجتمع، فهذا هو الصغار الذي لا يجوز للمسلم – فضلاً عن عالم الدين – أن يقبله للإسلام.

إن جواب أي استفتاء عن مشكلة جزئية من مشكلات المجتمعات التي لا تدين بالإسلام، ولا تعترف بشريعته أن يقال: حكـّموا الإسلام أولا في الحياة كلها ثم اطلبوا بعد ذلك رأيه في مشكلات الحياة التي ينشئها هو، لا التي أنشأها نظام آخر مناقض للإسلام.

إن الإسلام يربي الناس تربية خاصة، ويحكمهم وفق شريعة خاصة، وينظم شؤونهم على أسس خاصة، ويخلق مقومات اجتماعية واقتصادية وشعورية خاصة. فالمطلوب أن يطبق الإسلام جملة في نظام الحكم،وفي أسس التشريع، وفي قواعد التربية. وسنرى هل تبقى هناك مشكلات يُسأل عنها، أم تزول من تلقاء نفسها

إن الإسلام كل لا يجزأ، فلا يؤخذ من العبادات ، تلاوة القرآن الكريم لترتيله وتجويده، أو صلاة نؤديها ركعات كل يوم أو تسابيح فحسب ، لأن الإسلام ليس فقط هو سنة السواك واللحية والاعتكاف ، بل الإسلام ما نجده في الكتاب والقران الكريم، وما نجده في الأحاديث النبوية الشريفة. وما نجده في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أفعال وإقرار وأقوال، وما نجده في سيرة الخلفاء الراشدين. وما نجده في تاريخ المسلمين من جهاد وتضحيات وفتوحات وانتصارات.

إن شعب الإيمان التي تعد بالعشرات ، من أركان ونوافل، وأصول وفروع، وأعمال قلبية وأعمال جسمية..! إلا أن بعض الناس يظن أن جزءاً ما من الإسلام ، يمتد على حساب بقية الأجزاء ،  وكان الخوارج أول من أصيب بهذا القصور العقلي أو بهذا الخلل الفقهي، قاتلوا علياً أو يتبرأ من التحكيم، وقاتلوا عمر بن عبد العزيز أو يلعن آباءه ملوك بني أمية.

هناك من  يقول أن من يسمع الموسيقى ، رجلٌ منحل يسمع الحرام ، وهذا كما أعتقد ممن يحفظون النصوص ، ولا يضعونها مواضعها ، ولا يجيدون الاستنباط منها  لأن المسيقى إن كانت عسكرية تثير الحماس والتضحية فلا بأس ، وإن كانت عاطفية تثير النشاط أو الرقة فلا بأس.. وإن كانت تثير العبث والمجون فلا ، إنهم أصحاب رأى يلمحون المصلحة ولا يحسنون مساندتها بالنص المحفوظ ، يعكفون على العبادات الفردية، فإذا بلغ الأمر النصح والزجر والأمر والنهى والتعرض لغضب الحكام ، لاذوا بالصمت الطويل.

وهناك أناس يتقنون مراسم العبادة ولا يفرطون ذرة في صور الطاعات الواردة، ومع ذلك لا يعون من حكمتها شيئا ، ولا يستفيدون منها خلقا ، فمثلاً الصلاة تورث النظام والنظافة، وهم فوضى شعثون ، والحج رحلة العمر التي تعمر القلب والجوارح بالسكينة والرحمة ، وهم في أثناء المناسك وبعدها قساة سيئون. جاء في كتاب الدعوة الإسلامية في القرن الحالي للشيخ الغزالي " إن الدعوة الإسلامية تحصد الشوك من أناس قليلى الفقه كثيري النشاط ، ينطلقون بعقولهم الكليلة فيسيئون ولا يحسنون. ماذا يستفيد الإسلام من شبان يغْشَون المجتمعات الأوروبية والأمريكية يلبسون جلاليب بيضاء ويجلسون على الأرض ليتناولوا الطعام بأيديهم ثم يلعقون أطراف أصابعهم، وهذا في نظرهم هدي الرسول صلى الله عليه وسلم في الأكل والسنة التي يبدأون من عندها ، عرض الإسلام على الغربيين بآداب الإسلام في الطعام ، وعندما يرى الأوربيون رجلاً يبغي الشرب فيتناول الكأس ثم يقعد وكان واقفاً ليتبع السنة في الشرب فهل هذا المنظر بالنسبة لهم هو الذي يغري بدخول الإسلام؟. لماذا تجسم المستحبات على نحو يصد عن سبيل الله ، ثم إن الدعوة إلى الإسلام لا يقبل فيها عرض القضايا الخلافية ، مهما كانت مهمة عند أصحابها والأكل على الأرض أو بالأيدي مسألة عادية وليست عبادية، ومن الجهل عرض الإسلام من خلالها ، ووضع النقاب على وجه المرأة أمر تناوله الفقهاء بالأخذ والرد  ولا يجوز بحال تقديمه عند عرض دين الله على عباد الله  .

روى البخاري حديثاً في أسلوب عرض الرسالة الإسلامية كما أحكمه رب العزة عن يوسف بن ماهك قال: إني عند عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها إذ جاءها عراقي فقال: أى الكفن خير؟ قالت: ويحك ! ما يضرك؟ قال: يا أم المؤمنين.. أريني مصحفك! قالت: لم؟ قال: لعلّي أؤلف القرآن عليه ، فإنه يقرأ غير مؤلف. قالت: وما يضرك أية قرأت قبله؟ إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شئ: لا تشربوا الخمر لقالوا: لا ندع الخمر أبدا ، ولو نزل: لا تزنوا لقالوا: لا ندع الزنا أبدا لقد نزل بمكة على محمد صلى الله عليه وسلم وإني لجارية ألعب: ( بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر ) وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده قال: فأخرجت له المصحف فأملت عليه ـ أى السورة .

هناك أناس يشتغلون بالدعوة لا فقه لهم ولا دراية، يسيئون إلى الدين ولا يحسنون وفيهم من يمزج قصوره بالاستعلاء ولمز الآخرين ، وقد تطور هذا القصور فرأينا بين أشباه المتعلمين ناسا يتصورون الإسلام ، يحد من جهاته الأربع بلحية فى وجه الرجل ، ونقاب على وجه المرأة ، ورفض للتصوير ولو على ورقة، ورفض للغناء والموسيقى ، ولو في مناسبات شريفة وبكلمات لطيفة..وما نرجوه ألا يظنها أصحابها ذروة الدين وسنامه، لأنها شئون فرعية محدودة، يعتبر القتال من أجلها قضاءً على الإسلام وتمزيقاً لأمته... فالدعوة إلى الإسلام لا يقبل فيها عرض القضايا الخلافية ، مهما كانت مهمة عند أصحابها، والأكل على الأرض أو بالأيدي مسألة عادية ، وليست عبادية، ومن الجهل عرض الإسلام من خلالها.

 

 

 

 

المضيّعون أوقاتهم

إنَّ للوقت أهمية عظيمة، فالمسلم إذا أدرك قيمة وقته وأهميته، كان أكثر حرصًا على حفظه واغتنامه فيما يُقَرِّبه مِن ربِّه سبحانه وتعالى والاستفادة من وقته استفادة تعودُ عليه بالنفع، فيُسَارِع إلى استغلال الفراغ قبلَ الشغل، والصحَّة قبل السقم  

 وتؤكِّد السُّنّةُ النبوية أنّ الوقتَ مِنْ نِعَمِ الله على عباده، وأنهم مأمورون بحفظه مسئولون عنه. فعن ابن عباس رضي الله عنهما : أنَّ النبي صلَّى الله عليه وسلم قال: ( نِعْمَتانِ مغبونٌ فيهمَا كثيرٌ منَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ والفَراغُ ) أخرجه البخاري  . ثم إنَّ المسلم سوف يُسأل عن الوقت أمام الله  يوم القيامة؛ نرى  الشاب الذي يتكلم مع أصحابه أو الشابة مع صاحبتها الأوقات الطويلة يضيعون فروضا وواجبات كثيرة غير ملتفتين لها ولا مبالين لضياعها وغير مكترثين أنها أوقات تذهب من العمر يحاسب عليها ، هذا ناهيك على قضاء الأيام على النت فيما هو غير إيجابي ومفيد ناهيك عن الوقوع في مستنقعات المحظورات وبؤر الفساد الموبوءة وكهوف الرذيلة! وكذا أيضا النوم الطويل جدا والتسوق في المراكز التجارية الساعات تلو الساعات ، فالمسلم الصَّادق هو الَّذي يُعِدُّ لكلِّ شيء عدَّته، ويحسب لكلِّ أمر حسابه، ويعلم - تمام العلم - أنَّه مُحاسب على هذا الوقت، الَّذي يقضيه في دنياه - منذُ بلوغه وتكليفه - إلى أنْ يلقى ربَّه؛ فلا تمرُّ لحظةٌ من لحظات هذا الوقت إلَّا كانت له أو عليه ، عن معاذ بن جبل  رضي الله عنه : أنَّ رَسُولَ الله  صلى الله عليه وسلم  قال: ( لا تزول قدما عبد يوم القيامة، حتى يُسأل عن أربع خصال: عن عمره: فيمَ أفناه؟ وعن شبابه: فيم أبلاه؟ وعن مالِه: من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ وعَنْ عِلْمِه: ماذا عمل فيه ) أخرجه التِّرمذي  

فالوقت أغْلَى من أن يضيع في أحاديثَ فارغة، أو مجالس غيبة، لا يتحرى فيها المسلمُ الصِّدق، ولا يأمر فيها بالمعروف، وكما قيل: الأيَّامُ ثلاثةٌ: الأمسُ قد مضى بما فيه، وغدًا لَعَلكَ تُدركه، وإنَّما هو يومكَ هذا، فاجتهد فيه.

 يقول ابن الجوزي : " رأيت عموم الخلائق يدفعون الزمان دفعًا عجيبًا: إن طال الليل، فبحديث لا ينفع، أو بقراءة كتاب فيه غزاة وسمر! وإن طال النهار، فبالنوم! وهم في أطراف في الأسواق! ورأيت النادرين قد فهموا معنى الوجود، فهم في تعبئة الزاد، والتأهب للرحيل، إلا أنهم يتفاوتون، وسبب تفاوتهم قلة العلم وكثرته، بما ينفق في بلد الإقامة ، فالمتيقظون منهم يتطلعون إلى الأخبار بالنافق هناك، فيستكثرون منه، فيزيد ربحهم، والغافلون منهم يحملون ما اتفق، فكم ممن قد قطعت عليه الطريق فبقي مفلسًا! فالله الله في مواسم العمر! والبدار البدار قبل الفوات! واستشهدوا العلم، واستبدلوا الحكمة، ونافسوا الزمان، وناقشوا النفوس، واستظهروا بالزاد، فكان قد حَدَا الحادي، فلم يفهم صوته من وقع دمع الندم " ، الله الله في مواسم العمر ، والبدار البدار قبل الفوات ، يا شباب هذه الأمة ، اللاهين الشاردين وراء كل ناعق ، يضيّعون الأوقات فيما لا يفيد ، الناكصون على أعقابهم  والمقصّرون في عباداتهم ، أما آن لكم أن تستثمروا أوقاتكم ، فالسعيد من اغتنم مواسم الشهور والأيام والساعات ، وتقرّب فيها إلى الله بما فيها من وظائف الطاعات ، فعسى أن تصيبه نفحة من النفحات التي يسعد بها سعادة يأمن بعدها من النار وما فيها من اللفحات ، فقد خرّج ابن أبي الدنيا والطبراني من حديث أبي هريرة مرفوعاً : ( اطلبوا الخير دهركم ، وتعرّضوا لنفحات رحمة ربكم ، فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده ) ، قال ابن القيِّم : " وقت الإنسان: هو عمره - في الحقيقة -، وهو مادَّة حياته الأبديَّة في النَّعيم المقيم  ومادَّة معيشته الضَّنك في العذاب الأليم وهو يمرُّ مرَّ السَّحاب ... فما كان مِن وقت لله ، وبالله فهو حياته وعمره، وغير ذلك ليس محسوبًا مِن حياته، وإنْ عاش فيه عيش البهائم، فإذا قطع وقته في الغفلة واللَّهو والأماني الباطلة، وكان خير ما قطعه به النَّوم والبطالة فموت هذا خيرٌ مِن حياته " ، قالت رابعة لسفيان : " إنما انت أيام معدودة ، فإذا ذهب يومٌ ذهب بعضك ، ويوشك إذا ذهب البعض أن يذهب الكل ، وأنت تعمل فاعمل " قال حكيم " من أمضى يوما من عمره في غير حق قضاه, أو فرض أداه أو حمد حصله أو خير أسسه أو علم أقتبسه فقد عق يومه وظلم نفسه " فلتحسن استغلال الوقت فيما يعود عليك وعل أمتك بالنفع في الدنيا ولآخرة فما أحوج الأمة إلى رجال ونساء يعرفون قيمة الوقت ويطبقون ذلك في الحياة .   

ابتلاء  الأمة بين اليأس والأمل

إن الناظر لواقع حال المسلمين يجد بلا شك ما يؤلمه ويؤرقه، فالمسلمون من هزائم كثيرة وفتن كبيرة، فهناك أرض محتلة، وهناك فتن داخلية تُهْدر فيها مقدرات الأمة وتُسْتغل خارجياً، كل ذلك لتحقيق هيمنة تسعى إليها قوى عظمى بهدف جعل قيمهم أو ما يطلق عليه مفهوم العولمة، هو الثابت الذي تنطلق منه تصورات مجتمعاتنا، مفهوم يهدف إلى الاستسلام التام لقيم الغرب وثقافته . امتِحان وابتِلاء وسُنَّةٌ من سُننِ الله ومُقتضَى من مُقتضَياتِ حكمتِه في الصِّراعِ بين الحق والباطِل للتمييز بين الصادقين والكاذبين، ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ﴾ العنكبوت: 2 . تمحيصٌ واختبارٌ لقياس مدَى قوةِ الإيمان واليقين، وتصفِيةٌ للمُندسِّين في صفوف المؤمنين، ﴿مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ آل عمران: 179. ومنهجٌ تربويٌّ يُنقِذُ الله به من كُتِبَ له حظٌّ من الهداية، فيستيقِظَ من غفلَتِه، ويُقبِلَ على ربِّه، ويعودَ إلى دينه.

والابتلاء يذكر العبد بذنوبه ليتوب منها ، والله عز وجل يقول : ﴿  وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيئَةٍ فَمِن نفسِكَ  ﴾ النساء79 ، ويقول سبحانه : ﴿ وَمَا أَصابَكُم من مصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَت أَيدِيكُم وَيَعفُوا عَن كَثِيرٍ ﴾ الشورى30 . والبلاء فرصة للتوبة قبل أن يحل العذاب الأكبر يوم القيامة ؛ والله تعالى يقول : ﴿ وَلَنُذِيقَنهُم منَ العَذَابِ الأدنَى دُونَ العَذَابِ الأكبَرِ لَعَلهُم يَرجِعُونَ ﴾ السجدة21 ، والعذاب الأدنى هو نكد الدنيا ، وما يصيب الإنسان من سوء وشر . لأن الحياة إذا استمرت هانئة  فسوف يصل العبد إلى مرحلة الغرور والكبر ، ويظن نفسه مستغنياً عن الله ، لذا من رحمة الله بعباده أن يبتلي الإنسان حتى يعود إليه .

 فكان لا بد من الوقوف في وجه المتغيرات ، وإن تفاقمت  الأزمات على الأمة  ولا بد من زرع الأمل في النفوس وإن حل البلاء ، ولا بد من بعث الأمل بالفرج القريب ، والأمل في الله تعالى لا ينقطع ، فلا نيأس من الإصلاح والتوجيه  والأمر بيد الله تعالى من قبل ومن بعد ، وأزمة هذا الكون تحت تصرفه وقهره وسلطانه جل وعلا ، ولو شاء الله لآمن من في الأرض جميعا ، فلا يأس ولا قنوط مهما تداعت الخطوب وتكالب الأعداء ، فالمستقبل لهذا الدين ، حينها ينبغي أن يهيمن الإسلام وينتصر ، وترتفع راية لا إله إلا الله ، ولا بد من بعث روح الأمل والثقة بنصر الله ، وموعوده في نصر أوليائه والانتقام من أعدائه، مع التذكير بنماذج إيمانية قد خلت من قبل كيف واجهت التحديات والأخطار ثم كانت لها العاقبة الحسنة في نهاية المطاف ، هذا هو الطريق، وقل دائماً: حسبنا الله ونعم الوكيل، وتوكل على الحي الذي لا يموت، حينها ينصر الله عباده . يقول عليه الصلاة والسلام لـابن عباس : ( احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف ) والله الذي لا إله إلا هو، لو اجتمع أهل الأرض جميعاً على أن يكيدوك والله معك لن يكيدوك شيئاً، وإن اجتمعوا على أن ينصروك والله ضدك لما فعلوا شيئاً في نصرك، فالقوة التي لا تُغْلب قوة الله، فاتقوا اللهَ – عبادَ الله – في نفوسِكم، واحذَرُوا اليأسَ والإرجاف بأمَّتكم؛ فإنه سلاحُ حربٍ ومَكيدةُ عدوٍّ يدُسُّها في صفوفكم. فأبشِرُوا وأملِّوا، وثِقُوا بالله فأنتم الأعلَون ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ  إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ الصافات: 171 .

  

عبادة التفكر

عبادة عظيمة غفل عنها الكثيرون ، إنها عبادة التفكر والتأمل ، فقد أمر الله سبحانه بالتفكُّر والتدبر ، وأثنى على المتفكِّرين بقوله: ﴿ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ آل عمران 191 . ونعى سبحانه على الغافلين عن النظر والتدبر في كونه، فقال عز وجل: ﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ ءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ الحج:46، يقول الإمام ابن القيم حين يصف التفكُّر وعظيم شرفه: "تفكُّر ساعة خير من عبادة سنة؛ فالفكر هو الذي ينقل من موت الفطنة إلى حياة اليقظة  ومن المكاره إلى المحاب، ومن الرغبة والحرص إلى الزهد والقناعة، ومن سجن الدنيا إلى فضاء الآخرة...". قال وهب بن منبه: "ما طالت فكرة امرئ قط إلا فَهِم، وما فَهِم إلا علم، وما علم إلا عمل" فما تفكر امرئ إلا علم وما علم امرؤ إلا عمل ولو تفكر الناس في عظمة الله ما عصوا الله عز وجل ، لأن الفكر مرآة تريك حسناتك وسيئاتك، قال الشاعر :

نُزْهَةُ الْمُؤْمِنِ الْفِكَرْ   لَذَّةُ الْمُؤْمِنِ الْعِبَرْ

رُبَّ لاهٍ وَعُمْرُهُ       قَدْ تَقَضَّى وَمَا شَعَرْ

ولذلك كان التفكر من أفضل العبادات ، لأنه يورث الحكمة ويحيى القلوب، ويغرس فيها الخوف والخشية من الله عز وجل. وفي القرآن الكريم آيات يمتدح الله بها من أحيا عبادة التأمل في قلبه وتفكّر في آيات الله، حيث قال الله تعالى: (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَـٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) آل عمران 191، ومن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله رجل ذكر الله خاليا ً ففاضت عيناه " رواه البخاري ومسلم. 

 ودلت السنن والآثار على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من تفكر وتدبر.. عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( تفكروا في خلق الله , ولا تفكروا في الله عز وجل ) وعن الحسن قال: تفكر ساعة خير من قيام ليلة. وقيل: كان لقمان يطيل الجلوس وحده، فكان يمر به مولاه فيقول: يا لقمان إنك تديم الجلوس وحدك فلو جلست مع الناس كان آنس لك، فيقول لقمان: إن طول الوحدة أفهم للفكر ، وطول الفكر دليل على طريق الجنة. وعن عمر بن عبد العزيز أنه بكى يوماً بين أصحابه ، فسئل عن ذلك فقال: " فكرت في الدنيا ولذاتها وشهواتها فاعتبرت منها بها ، ما تكاد شهواتها تنقضي حتى تدركها مرارتها، ولئن لم يكن فيها عبرة لمن اعتبر إن فيها مواعظ لمن ادكر.

وأنفع الفكر ، الفكر في الآخرة ، وفي آلاء الله ونعمه ، وأمره ونهيه وبأسمائه وصفاته، فإذا فكرت في الآخرة ودوامها ، وفي الدنيا وفنائها ، أثمر ذلك الرغبة في الآخرة ، والزهد في الدنيا، وكلما فكرت في قصر الأمل وضيق الوقت ، أورث الجد والاجتهاد ، لأن الفكر في الدنيا وفيما لا يعنى ، باب كل شر، والصيام من جملة الأسباب المعينة على التفكر، ومن هنا قال البعض: إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة ، وخرست الحكمة ، وقعدت الأعضاء عن العبادة. قال الشافعي: فكر قبل أن تعزم، وتدبر قبل أن تقدم. وكان ابن مسعود يقول لأصحابه: أنتم في زمان خيركم المسارع في الأمر وسيأتي على الناس زمان خيرهم المتوقف لكثرة الشبهات.

 توقف يا أخي ساعة وتفكر، من أنت، ومن خلقك، وإلى أين المصير، أراحل أنت أم مقيم، وإذا كنت مرتحلاً، فإلى أين أإلى جنة أم إلى نار؟ تفكر في الموت والقبور والآخرة، كان الإمام أحمد يقول: " من لم يردعه ذكر الموت والقبور والآخرة، فلو تناطحت الجبال بين يديه لم يرتدع " . تفكر.. فأنفاسك تعد، ورحالك تشد والتراب من بعد ذلك ينتظر الخد قال تعالى : ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ آل عمران: 185 . جلس عمر بن عبد العزيز يوماً متفكراً متأملاً ثم قال: قبور خرقت الأكفان ومزقت الأبدان، ومصت الدم  وأكلت اللحم.. ترى ما صنعت بهم الديدان؟! محت الوجوه، وكسرت الفقار وأبانت الأشلاء، ومزقت الأعضاء .. ترى أليس الليل والنهار عليهم سواء، أليس هم في مدلهمة ظلماء، كم من ناعم وناعمة، أصبحت وجوههم بالية وأجسادهم عن أعناقهم نائية ، قد سالت الحدق على وجوههم دماً صديداً، ثم لم يلبثوا والله إلا يسيراً، حتى عادت العظام رميماً.. ثم قال: ليت شعري كيف ستصبر على خشونة الثرى، وبأي خديك سيبدأ البلى؟ تفكر في أحوال المسلمين، فإن من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، واجعل الهموم هماً واحداً، هو هم الآخرة.. وقد يطول بك العجب عندما ترى انشغالك بكرة القدم، أو بالسينما والمسرح، أو بسماع الأغاني ، أو بمتابعة الموضات ، في الوقت الذي تجرى فيه المذابح الجماعية للمسلمين هنا وهناك، والكثرة منهم لا تجد رصيفاً آمناً تسكنه، تفكر فربما تشكر النعمة التي تعيشها ، وربما تستحي عندما ترى تقصيرك وتفريطك، فأعداء الأمس هم أعداء اليوم وهم لا يفرقون بين مسلم وكافر ﴿ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ ﴾ آل عمران: 118، تفكر في نفسك وفي عظيم نعمة الله عليك ﴿ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ الذاريات:21 وكفي بنعمة الإسلام نعمة، فهل أدينا شكر هذه النعم؟ اللهم أعنا على ذلك .  

 

خطر النفاق والمنافقين

المنافق: هو الذي يظهر غير ما يبطن ، والنفاق أخطر من الكفر ، وعقوبته أشد ، لأنه كفر بلباس الإسلام ، وضرره أعظم ، ولذلك جعل الله المنافقين في أسفل النار كما قال سبحانه : ﴿ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيراً ﴾ النساء/145 . والمنافقون دائماً في حيرة وتقلب ، في خداع ومكر ، ظاهرهم مع المؤمنين .. وباطنهم مع الكافرين ، حيناً مع المؤمنين وحيناً مع الكافرين ﴿ مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلاً ﴾ النساء/143 . فالنفاق دول ذات هيئات وأركان، إنه أحلاف وتكتلات وكيانات، بل معسكرات ذات قوة وسلطان، سلطان سياسي واقتصادي وإعلامي وثقافي  

والمنافقون أخطر على المسلمين من الكفرة  وقد أثبت التاريخ أن نكبة الأمة بالمنافقين تسبق كل النكبات ، فقد استطاع الكافرون أن يربُّوا أشخاصاً على النفاق ليعملوا في صفوف المسلمين في كل المجالات، منهم المعلمين والمربين والموجهين والسياسيين والصحفيين والكتاب والمؤلفين ورجال الفكر والعلم . تصنع لهم الأمجاد الزائفة عن طريق الإعلام، ويُلمّع هؤلاء ليتخذهم العامة منارات يستقى منها التوجيه والتحليل  ﴿ يخادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ ءامَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ وَ مَا يَشْعُرُونَ ﴾ البقرة:9. قال ابن القيم رحمه الله: "فلله كم من معقل للإسلام قد هدموه، وكم من حصن له قد قلعوا أساسه وخربوه، وكم من عَلم له قد طمسوه، وكم من لواءٍ له مرفوع قد وضعوه، وكم ضربوا بمعاول الشبه في أصول غراسه ليقلعوها، وكم عمّوا عيون موارده بآرائهم ليدفنوها ويقطعوها، فلا يزال الإسلام وأهله منهم في محنة وبلية، ولا يزال يطرقه من شبههم سرية بعد سرية، ويزعمون أنهم بذلك مصلحون، ﴿ ألا إنهم هم المفسدون، ولكن لا يشعرون، يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون ﴾ .

لقد افتتح ابن سلول طريق النفاق ثم سارت من بعده أفواج المنافقين عبر التاريخ، وفي عصرنا الراهن لا تخطئ العين ملامح العلمنة والنفاق الظاهر المتظاهر مع الكفار في القضايا الكبرى من قضايا المسلمين،  إن القرآن الذي أُمر النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه بجهاد المنافقين سيظل يُتلى إلى يوم الدين بقول الله تعالى:﴿ يا ٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ جَـٰهِدِ ٱلْكُفَّـٰرَ وَٱلْمُنَـٰفِقِينَ وَٱغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ ﴾ التوبة:73، والآية تدل على أن النفاق سيظل موجوداً وسيظل محسوساً ملموساً من أشخاص وهيئات ودول ، تُرى فيهم آيات النفاق ، بكافة أشكاله وصوره عندما يكون موجهاً إلى ضرر الدين وأصحابه ، سواء كان صادراً من أهل السياسة أو الثقافة أو الفن والقلم أو حتى من بعض المنسوبين للعلم والفتوى في بعض البلدان .

ومما زاد من خطورة النِّفاق وخطر المنافقين ظهور الأئمة المضلين والعلماء الزائفين عن الحق وأمراء الجور ، الذين يُضعّفون أركان الإسلام ، ويعطِّلونها باسم الإسلام . عَنْ زِيَادِ بْنِ جَرِيرٍ قَالَ: أَتَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، فقَالَ لِي : " هَلْ تَدْرِي مَا يَهْدِمُ الْإِسْلَامَ؟ يَهْدِمُهُ زَلَّةُ عَالِمٍ، أَوْ جِدَالُ مُنَافِقٍ بِالْقُرْآنِ، وَحُكْمُ الْمُضِلِّينَ " . قال الطيبي: "المراد بهدم الإسلام تعطيل أركانه الخمسة، وتعطيله إنما يحصل من زلة العالم، وترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، باتباع الهوى، ومن جدال المبتدعة وغلوهم في إقامة البدع بالتمسك بتأويلاتهم الزائفة، ومن ظهور ظلم الأئمة المضلين، وإنما قدِّمت زلَّة العالم، لأنها هي السبب في الخصلتين الأخيرتين "

إن الأمة تعاني من فئة منهم ظهرت في وسائل الإعلام المسموعة والمرئية، تتكلم باسم العلم والفتوى، تمرر قضايا خطيرة جداً فيها من التلبيس على عقول الناس ما الله به عليم، تصب في تحقيق أهداف أشخاص يخدمونهم باسم الدين ، يمارسون الدس والوقيعة بين المسلمين: وهذه من صفاتهم الخطيرة التي يستغلها المنافقون لإيقاع العداوة والخلافات بين المسلمين ، وما أكثرَ هؤلاءِ اليوم! أحسنوا زخرفة الألفاظ وأساءوا العمل، وتسلَّقوا منابر شتى، وأعملوا معول الهدم في دين الأمة، تارة باسم العقل، وتارة باسم الاعتدال، وتارة باسم التقدم وعدم الرجعية، وتارة باسم نبذ التطرف والإرهاب، وتارة باسم متطلبات العصر. ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ  أَلا إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ  وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ ﴾ البقرة:11 . قال الحسن البصري، التابعي الزاهد - رحمه الله -: " إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَمْ يَأْخُذْ دِينَهُ عَنِ النَّاسِ، وَلَكِنْ أَتَاهُ مِنْ قِبَلِ اللهِ عز وجل فَأَخَذَهُ، وَإِنَّ الْمُنَافِقَ أَعْطَى النَّاسَ لِسَانَهُ، وَمَنَعَ اللهَ قَلْبَهُ وَعَمَلَهُ. فَحَدَثَانِ أُحْدِثَا فِي الْإِسْلَامِ: رَجُلٌ ذُو رَأْيِ سَوْءٍ زَعَمَ أَنَّ الْجَنَّةَ لِمَنْ رَأَى مِثْلَ رَأْيِهِ، فَسَلَّ سَيْفَهُ، وَسَفَكَ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ، وَاسْتَحَلَّ حُرْمَتَهُمْ، وَمُتْرَفٌ يَعْبُدُ الدُّنْيَا، لَهَا يَغْضَبُ، وَعَلَيْهَا يُقَاتِلُ، وَلَهَا يَطْلُبُ . وَقَالَ : " يَا سُبْحَانَ اللهِ! مَا لَقِيَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ مِنْ مُنَافِقٍ قَهَرَهَا، وَاسْتَأْثَرَ عَلَيْهَا، وَمَارِقٍ مَرَقَ مِنَ الدِّينِ فَخَرَجَ عَلَيْهَا. صِنْفَانِ خَبِيثَانِ قَدْ غَمَّا كُلَّ مُسْلِمٍ. يَا ابْنَ آدَمَ، دِينَكَ دِينَكَ، فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمُكَ وَدَمُكَ، فَإِنْ تَسْلَمْ بِهَا فَيَا لَهَا مِنْ رَاحَةٍ، وَيَا لَهَا مِنْ نِعْمَةٍ، وَإِنْ تَكُنِ الْأُخْرَى فَنَعُوذُ بِاللهِ فَإِنَّمَا هِيَ نَارٌ لَا تُطْفَأُ، وَحَجَرٌ لَا يُبْرَدُ، وَنَفَسٌ لَا تَمُوتُ " . وما أبدعَ وأشملَ قولَه حيث يقولُ: " إِنَّمَا النَّاسُ بَيْنَ ثَلَاثَةِ نَفَرٍ: مُؤْمِنٌ وَمُنَافِقٌ وَكَافِرٌ، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَعَامِلٌ بِطَاعَةِ اللهِ عز وجل، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَقَدْ أَذَلَّهُ اللهُ تَعَالَى كَمَا رَأَيْتُمْ، وَأَمَّا الْمُنَافِقُ فَهَهُنَا وَهَهُنَا فِي الْحَجَرِ وَالْبُيُوتِ وَالطُّرُقِ نَعُوذُ بِاللهِ. وَاللهِ مَا عَرَفُوا رَبَّهُمْ بَلْ عَرَفُوا إِنْكَارَهُمْ لِرَبِّهِمْ بِأَعْمَالِهِمُ الْخَبِيثَةِ. ظَهَرَ الْجَفَا، وَقَلَّ الْعِلْمُ، وَتُرِكَتِ السُّنَّةُ. إِنَّا لِلهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، حَيَارَى سُكَارَى، لَيْسُوا بِيَهُودَ وَلَا نَصَارَى وَلَا مَجُوسَ فَيُعْذَرُوا" (أي بكفرهم) .

 

 

 

 

 

 

 

العولمة أداة الرأسمالية

إن العولمة هي أداة الرأسمالية الحديثة ، للسيطرة على العالم ، اقتصاديا وفكريا

وهي تعني : تلاشي الحدود بين الدول ، من حيث  خصوصياتها الاقتصادية والفكرية ، والثقافية والاجتماعية ، واعتبار العالم قرية كونية صغيرة أمام الهيمنة الرأسمالية ، بكل ما في نظامها الاقتصادي من سوء وظلم ، وجشع واستغلال ، وما لأفكارها من هدم للمبادىء والأخلاق والقيم .

وهي آخر إفرازات الرأسمالية ، بما جرَّته وتجرّه من ويلات ، وقد جاءت هذه الافرازات ، كنتيجة لما خلَّفه تطبيق هذا النظام من آثار سيئة ، أهمها : سوء التوزيع ، الذي جرّ إلى التركز، الذي أدى إلى تجمع المال في أيدي نسبة ضئيلة من الناس ، لا تزيد على نسبة 1% ، وهذه القلة هي التي تعمل أنظمة الحكم الرأسمالي على خدمة مصالحها ، بل إن هذه النخبة هي التي تأتي بالأحزاب والأشخاص التي تريد إلى سدة الحكم ، وما لازم هذا النظام من الأزمات الاقتصادية التي دقت ناقوس الخطر للقائمين على هذا النظام ، مما دفعهم إلى تشكيل لجان ، من علماء الاقتصاد ورجال الأعمال والسياسة ، للقيام بالبحوث والتوصيات اللازمة ، لتجنب الأزمات الاقتصادية ، وكانت بحوثهم وتوصياتهم ، أول رؤيا العولمة وباكورتها . وتضمنت توصياتهم فتح الأسواق     لما يسمى بالمنطقة الكبرى للسلع المنتجة ، والحصول على المواد الخام ، ونهب خيرات الدول ، وإقراضها الأموال ، لتعود بدورتها الاقتصادية لأيديهم ، بعد أن تكون قد رهنت إنتاجاتها القومية ، لصالح الجهات المقرضة ، وتصدير الأزمات الاقتصادية التي لا يمكن تجنبها إلى الخارج .

أننا نستطيع القول ، بأن النظام العالمي الجديد ، هو نظام العولمة أو هو جعل الفكر الرأسمالي فكرا عالميا ، تعتنقه جميع الشعوب طوعا أو كرها وفرض الحضارة الرأسمالية ، وقيمها على العالم ، واقتصاديا بجعل النظام الاقتصادي الرأسمالي على النمط الأمريكي ، هو السائد في العالم ، وذلك بتطويع ودمج الاقتصاديات المحلية ، ضمن الاقتصاد العالمي ، عن طريق تحكم النمط الاقتصادي المخصخص ، وحرية التجارة ، وآلية السوق في اقتصاد جميع الدول . وهذا يعني إزالة جميع القيود والحواجز أمام انتقال السلع والأموال والخدمات ، مستندين إلى ذراع الولايات المتحدة الطولي عند اللزوم ، وما منظمة التجارة العالمية ، والأمم المتحدة ، وصندوق النقد الدولي ، إلا أدوات تحكمها .

إن وسائل العولمة هذه هي مرْكَبَةِ العولمة ، هذه المركبة يقودها الآن نظام اقتصادي طفيلي امتصاصي ، حوَّلَ الاقتصاد العالمي إلى ناد للمقامرة بثروات الآخرين ومقدراتهم ، هذا النظام الاقتصادي نابع من النظام الرأسمالي الذي أورثت حضارته ، ثقافة الاستهلاك وإطلاق الشهوات والتفكك الأسري  والجريمة المنظمة ، والاختلاس والرشوة ، وسوء التوزيع الذي أوجد طبقة الـ 1% المسيطرة على مقدرات وثروات الأمم . وخلقت أيضا عوالم ثالثة من بقية الشعوب ، تعيش على الكفاف في أحسن الأحوال .فهي باختصار استعمار جديد ، فهل إلى ذلك من خلاص ؟ إن النظام الرأسمالي أخفق في تحقيق وتقديم ما وعدا به من حرية وأمن وسعادة ، بل على العكس من ذلك   قضى على البقية الباقية من قيم النصرانية ، ولم يأتي إلا بالعبودية بدلا من الحرية ، والخوف والجريمة المنظمة بدل الأمن ، والشقاء بدلا من السعادة .

إن الخلاص يكمن في نظام يمزج بين المادة والروح ، ويجمع بين الإنتاج وعدالة التوزيع  ، ويُقْنِع العقل ، ويوافق الفطرة ، ويملأ القلب طمأنينة ، هذا النظام هو ما يحتاجه عالم اليوم ، ويقع على عاتق المسلمين العمل على إيجاده في الواقع ، من خلال تجسيد مبادئه ، واقعا محسوسا على مرأى من العالم الذي يتخبط ، ويتلمس طريق النجاة . يقول لستر ثورو الذي ألف كتابا بعنوان  مستقبل الرأسمالية "نحن كسمكة كبيرة ، أُخرجت من الماء ، تتخبط وتضرب بذيلها ، لعلها تجد طريقها إلى الماء من جديد ، وفي حالة كهذه  فإن السمكة لا تعرف أين ستؤدي بها حركاتها تلك ، إنها تحس فقط أن وضعها القائم غير قابل للاحتمال ، وأن شيئا ما يجب محاولته" .

إن النظام الرأسمالي يحمل في طياته بذرة فنائه ، فهو نظام آيل إلى السقوط والانتهاء عاجلا أم آجلا . يقول لستر ثورو "فرانكلين روزفلت أنقذ الرأسمالية بعد انهيارها في أمريكا ، ولو لم تكن الرأسمالية مهددة ، لما حدث أي شيء من هذا القبيل" وكل مسلم غيور يقول : إن ما خلَّفه هذا النظام من هدم للقيم  وانحطاط في الأخلاق ، على كل المستويات ، وما أفرزه من شرور العولمة      والتي نسأل الله أن تكون آخر المسامير في نعش هذا النظام ، وعلى العولمة التي تقوم على فكرة باطلة ، ونظام باطل قال تعالى : ﴿ إن الباطل كان زهوقا ﴾  وإن المبدأ الإسلامي هو الذي يجب أن يقود مرْكَبة العولمة ، ناشرا مبادئه وحضارته ، ومطبقا نظامه الاقتصادي على العالم ، ليحقق سعادة البشرية وأمنها  ويحررها من العبودية للمال والشهوات ، إلى عبودية الله وحده .

 

الخوف من كلام الناس

نظرتُ في دُنيا الناسِ فرأيتُ أعظمَ ما يَشغلُهم الكلام عن الناس ، ولو اشتغل الناسُ بذكر الله، وصرَفوا لذلك مِنْ أوقاتهم وأعمارهم ما يَصرفونه بذكر الناس وحكاياهم وقصصهم وأمورهم - حلالاً وحرامًا - لصاروا مِنْ كبارِ العُبَّادِ والصالحين، وارتفعتْ منازلُهم عالية في مراتِب المقرَّبين ـ قال الإمام أحمد بن حنبل يخاطب بعض أصحابه: "اعلموا أن الرجل من أهل العلم ، إذا منحه الله شيئاً من العلم، وحُرِمَهُ قرناؤه وأشكاله حَسَدوه، فرموه بما ليس فيه، وبئستِ الخصلةُ في أهل العلم" . فإذا حصل هذا من (بعض) أهل العلم، فلا يُستغرب حصوله ممّن هو دونهم ، سأل الإمام أحمد بن حنبل حكيماً فقال : يا حكيم كيف أسلم من الناس أخبرني . قال الحكيم: بثلاث ، تعطيهم ولا تأخذ منهم ، تقضي حقوقهم ،ولا تطالبهم بحقوقك ، وتصبر على أذاهم وتحسن إليهم ولا تسؤهم . فقال الإمام أحمد : إنها لصعبة ، فقال الحكيم : وليتك تسلم " وليت للتمني فقد تسلم وقد لا تسلم , وهذا التوصيف كان في زمن الإمام أحمد بن حنبل !! أما في زماننا ، فلن تسلم ، بل تفتح على نفسك أبواباً من كلام الناس   فمن الناس إذا رضوا مدحوا ، وإذا سخطوا شتموا ، فإرضاء الناس غاية لا تدرك . احرص على ما ينفعك ودع كلام الناس  تأملتُ حال الناس فإذا بهم تطاولوا وتكلموا على كل شيءٍ ، يقول الإمام الشافعي : " من يظن إنه يسلم من كلام الناس فهو مجنون ، قالوا عن الله ثالث ثلاثة ، وقالوا عن نبينا محمد ساحر ومجنون ، فما ظنك بمن هو دونهما ؟ " . فكلام الناس مثل الصخور ، إمّا أن تحملها على ظهرك فينكسر أو تبني بها برجًا تحت أقدامك فتعلو وتنتصر"! احتفِظ بكرامتك ، قدّس هدُوءك  وتجاهل ما يقوله النّاس عنك ، دعهم يُثرثرون بما يريدون ، الأهم أن ترضيَ الله ، كُن اصم عن كلام الناس ، ابكم عن عيوبهم ، اعمى عن عوراتهم ، من اعتز بمنصبه فليتذكر فرعون ، ومن اعتز بماله، فليتذكر قارون ، ومن اعتز بنسبه، فليتذكر ابو لهب  إنما العزة والجلالة لله وحده سُبحانه.."  وفي مجتمعاتنا ، المطلقة ، تخشى كلام الناس  الأرملة تخشى كلام الناس  العاطل عن العمل ، يخشى كلام الناس ، الفقير يخشى كلام الناس ، العانس تخشى كلام الناس ، فما الحل ؟ الحل أن ننزّه ألسنتنا عن الخوض اعراض الناس ،  وأن نتثبّت فيما نقوله عن الناس ،روى أبو نعيم في الحلية : "عن أبي قلابة قوله: إذا بلغك عن أخيك شيءٌ تكرهه فالتمس له العذر جُهْدَك    فإن لم تجد له عذراً فقل في نفسك: لعلّ لأخي عذراً لا أعلمه". وقال الشافعي : "ليس إلى السلامة من الناس سبيل، فانظر الذي فيه صلاحُك فالْزمْه".  

الخوف من كلام الناس، ظاهرة اجتماعية خطيرة، وهي قضية اهتم بها الدين، وحذّر منها الشرع الحكيم، وأثبتت في كتاب الله عز وجل، وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، يقول الله تعالى ﴿ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ، وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾. فهذه وصفة ربانية، وعلاج ناجع لمن ضاق صدره من كلام المغرضين، والسفهاء المثبطين .

إن الناس بسبب بعدهم عن امتثال أمر الله عز وجل ونهيه، لا يتورعون عن تسليط ألسنتهم على غيرهم، ولا يكترثون بما يقولونه عن مسلم من إخوانهم، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ)، وقد صدق صلى الله عليه وسلم، كيف تكون مسلماً حقيقياً، ولسانك يتسبب في ضيق صدر إخوانك، تغتابهم، وتحط من قدرهم، وتكذب عليهم، وتصفهم بما هم منه براء ، فهذا من قول الزور الذي حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم، كما في الحديث، الذي رواه البخاري في صحيحه، قال صلى الله عليه وسلم يسأل الصحابة: (أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الكَبَائِرِ؟» ثَلاَثًا، قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ – وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَالَ – أَلاَ وَقَوْلُ الزُّورِ»، قَالَ راوي الحديث: فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ).  

إن الخوف من كلام الناس، قضية يجب على المسلم، أن لا يأبه بها، ولا يجعلها مانعاً له من فعل ما يقربه من الله عز وجل، وما يبعده عن غضبه يقول الله تعالى: ﴿ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ﴾ ، وفي الحديث الذي صححه الألباني يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مَنِ الْتَمَسَ رِضَا اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَأَرْضَى النَّاسَ عَنْهُ، وَمَنِ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ سَخَطَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَأَسْخَطَ عَلَيْهِ النَّاسَ). وفي حديث آخر صحيح، عن عائشة رضي الله عنها تقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (مَنِ الْتَمَسَ رِضَا اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ، كَفَاهُ اللَّهُ مَئُونَةَ النَّاسِ، وَمَنِ الْتَمَسَ سَخَطَ اللَّهِ بِرِضَا النَّاسِ، وَكَلَهُ اللَّهُ إِلَى النَّاسِ). فاحرص على ما ينفعك، ودع الناس وكلامهم:

لا تلتفت إلى تخذيل حاسد    ولا إلى شماتة هامز

فالإنسان لا يسلم من كلام الناس وخاصة من  الغيورين والحاسدين ومن جعل همه كلام الناس  فلن ينجح في حياته إذ إنه من الصعب والعسير  إرضاء جميع الناس!! ومن جعل كلام الناس مبعث همه الوحيد، عاش عيشة ضنكا وخسر الأهل والأقرباء

وفي الصحيحين مِن حَدِيثِ أَبِي شُرَيحٍ العَدَوِيِّ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: "مَن كَانَ يُؤمِنُ بِاللَّهِ وَاليَومِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيرًا أَو لِيَصْمُتْ" . وروى الإمام أحمد في مسنده مِن حَدِيثِ عَبدِ اللهِ ابنِ عَمرٍو رضي اللهُ عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: "مَن صَمَتَ نَجَا" . وروى الترمذي في سننه مِن حَدِيثِ عُقْبَةَ بنِ عَامِرٍ رضي اللهُ عنه قَالَ: قُلتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا النَّجَاةُ؟ قَالَ: "أَمْسِكْ عَلَيكَ لِسَانَكَ، وَلْيَسَعْكَ بَيتُكَ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ" . قال الإمام النووي: اعلم أنه ينبغي لكل مكلف أن يحفظ لسانه عن جميع الكلام إلا كلامًا تظهر المصلحة فيه، ومتى استوى الكلام وتركه في المصلحة فالسنة الإمساك عنه لأنه قد ينجر الكلام المباح إلى حرام أو مكروه، بل هذا كثير وغالب في العادة، والسلامة لا يعدلها شيء. اهـ

أنه ينبغي للمؤمن أن يكون جادًا في حياته، حافظًا لوقته، مشتغلًا بما ينفعه، كما وَرَدَ فِي الحَدِيثِ: ( احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ ) وأن يكون بعيدًا عن سفاسف الأمور، مترفعًا عن الرذائل، وما يثلم المروءة .

 

 

 

 

 

 

 

اللجوء إلى الله

عجائب نسمع وأمور تحدث، ولا ندري ماذا بعد ، مؤامرات واعتقالات ، وقتل وتشريد فما الحل ؟ لا حل إلا باللجوء إلى الله، فما على الإنسان إذا حوصر، وإذا أصابه الكرب وإذا أصابته الشدة ، إلا أن يسلِّم الأمر إلى الله ، ويفوض إليه سبحانه لقوله سبحانه تعالى : ﴿ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ﴾ غافر 44 ، هذا شعار المسلم، التوكل على الله لا إله إلا هو عليه نتوكل وإليه ننيب. قرأت عن السلف درساً من دروس اللجوء إلى الله عند المخاوف  والتوكل عليه عند الشدائد ، من بيده قلوب الجبارين ، يقلبها كيف يشاء . عن الفضل بن الربيع قال : حج الخليفة المنصور ، وجاءه من الوشاة من يوغر صدره على جعفر الصادق ، فدعا الربيع وقال له : اذهب إليه فأتني به ، قتلني الله إن لم أقتله ، فلما أقبل معه ، عجب مما سمع ورأى  فما أن وقع بصر أبي جعفر عليه حتى أقبل نحوه مرحباً مادحاً ، مبرّئاً ساحته من كل سوء  ولما خرج جعفر تبعه الربيع وقال له في عجب : اتيت بك ولا شك أنه قاتلك ، فكان منه ما رأيت ، وقد رأيتك تحرّك شفتيك بسيءٍ عند دخولك فما هو ؟ قال له : دعوت بكلمات أعلّمك إياها إن شئت ، قال الربيع : علمني إياها جُعلتُ فداك ، قال : قلت : اللهم  احرسني بعينك التي لا تنام ، واكنفني بركنك الذي لا يرام ، وارحمني بقدرتك علي ، ولا تهلكني وانت رجائي ، رب كم نعمة أنعمت بها علي ، قلَّ لك عندها شكري ، وكم من بلية ابتليتني بها ، قلَّ لك عندها صبري ، ويا من قل عند نِعمتِه شكري ، فلم يحرمني ، ويا من قلَّ عند بلائه صبري ، فلم يخذلني ، ويا من رآني  على المعاصي فلم يفضحني ، يا ذا المعروف الذي لا ينقطع أبدا ، ويا ذا النعم التي لا تُحصى عددا ، اللهم إنه عبد من عبادك ألقيت عليه سلطانا من سلطانك ، فخذ سمعه وبصره  وقلبه ، إلى ما فيه صلاح أمري  وأعوذ بك من شره ، اللهم أعني بديني على دنياي ، وعلى آخرتي بالتقوى ، واحفظني فيما غبت عنه ، ولا تكلني إلى نفسي فيما حَطَرتْ ، يا من لا تَضُّره الذنوب ، ولا تنقصُه المغفرة  اغفر لي ما لا يضرُّك ، إنك أنت الوهاب ، يا إلهي أسألك فرجا قريبا ، ورزقا واسعا  وأسألك العافية من كل بلية ، وأسألك الشكر على العافية ، وأسألك الغنى عن الناس ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، برحمتك يا أرحم الراحمين .

التسليمُ لله وحده واللجوءُ إليه، منزلة عظيمة من منازل الإيمان واليقين بالله، والتوجه والاعتماد عليه سبحانه، قال تعالى: ﴿ وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ يونس107. كم نحن بحاجةٍ إلى اللجوءِ إلى اللهِ في أوقاتِ الأزماتِ والشدائد، وفي كلِّ ما يَعرضُ علينا من ظُلمٍ وعدوان، أو فقرٍ وحرمان، أو مرضٍ في الأبدان، أو غيرِ ذلك مما لا يملكُ كشفَهُ وإزالتَهُ إلا اللهُ الواحدُ القهار: ﴿ قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً ﴾ الإسراء56 . إذا حَلَّ الهمُ، وخيَّمَ الغَمُّ، واشتدَّ الكربُ، وعَظمُ الخَطبُ، وضاقتِ السُّبلُ ، فنادِ الربَّ بدعاء الكرب: "لاَ إلهَ إِلاَّ اللهُ العَظِيمُ الحَليمُ، لاَ إلهَ إِلاَّ اللهُ رَبُّ العَرْشِ العَظيمِ، لاَ إلهَ إِلاَّ اللهُ رَبُّ السَّمَاواتِ، وَرَبُّ الأَرْضِ، وَرَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ".

يا صاحبَ الهمِّ إنَّ الهمَّ مُنفرِجٌ    أبْشِر بخيرٍ فإنَّ الفارجَ اللهُ

إذا بُليتَ فثِقْ باللهِ وارضَ بهِ     إنّ الذي يكشفُ البلْوى هوَ اللهُ

اليأسُ يقطعُ أحياناً بصاحِبِه     لا تيأسنَّ فإنَّ الفارجَ اللهُ

اللهُ حَسْبُكَ مِمَّا عُذْتَ منهُ بهِ    وأين أمنعُ مِمَّن حسبه اللهُ؟!

اللهُ يُحْدِثُ بعْدَ العُسْرِ مَيسرةً    لا تجزعنَّ فإنَّ الكافيَ اللهُ

واللهِ مالكَ غيرُ اللهِ من أحدٍ    فحَسْبُكَ اللهُ في كُلٍّ لكَ اللهُ

فاللهُ هو الملاذُ في الشدة، والأنيسُ في الوَحْشَة، والنصيرُ في القلة. ومن عَرَفَ اللهَ حقًا ناجى ربَهُ إذا أمسى وإذا أصبح ألا يتولاه أحدٌ إلا الله، ويسألُ ربَهُ وهو يُناجيه أنه جل وعلا يتولاه بولايته، وأن لا يجعلَ في قلبِهِ أحدا إلا الله، عن أبي عُمَارة البراءِ بن عازب -رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: ( يَا فُلانُ، إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فراشِكَ فَقُل: اللَّهُمَّ أسْلَمتُ نَفْسي إلَيْكَ، وَوَجَّهتُ وَجْهِي إلَيْكَ، وَفَوَّضتُ أَمْري إلَيْكَ، وَأَلجأْتُ ظَهري إلَيْكَ رَغبَةً وَرَهبَةً إلَيْكَ، لا مَلْجَأ وَلاَ مَنْجَا مِنْكَ إلاَّ إلَيْكَ، آمنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أنْزَلْتَ؛ وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ، فَإِنَّكَ إِنْ مِتَّ مِنْ لَيلَتِكَ مِتَّ عَلَى الفِطْرَةِ، وَإِنْ أصْبَحْتَ أَصَبْتَ خَيرًا ) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .

 إن الله سبحانه وتعالى محيط بكل شيء، وهذه الإحاطة بكل شيء لا تكون لأحد إلا لله عزَّ وجلَّ، والله خالق كل شيء، قادر على كل شيء، عالم بكل شيء، ولذلك فإن قدرته فوق كل قدرة، وقوته سبحانه وتعالى فوق كل قوة، ولا يعجزه شيء في السموات ولا في الأرض ﴿ وّاللَّهٍ مٍحٌيطِ بٌالًكّافٌرٌينّ ﴾ وقال تعالى : ﴿ إنَّ اللهّ بٌمّا يّعًمّلٍونّ مٍحٌيطِ ﴾   هنالك إحاطة إلهية بكل شيء، صَغُر أم كَبُرَ، ضَعُفَ أم قوي، إحاطةٌ يضعف معها كل قوي من البشر، ويصغر أمامها كل كبير في هذا الوجود. هنا يكون اللجوء إلى اللَّه سبحانه وتعالى هو الطريق الموصِّل إلى النجاة ، حينما تنزل الشدائد، لجوء إليه لا تشوبه شائبة من شك في قدرته على كشف البلاء، ورد الأعداء ، ونحن المسلمين في هذا العصر بأمسِّ الحاجة إلى هذا اللجوء الصادق إلى الله العلي القدير ، نعم.. لا بد لنا من إعداد ما نستطيع، والتفكير السليم في أفضل الطرق لمواجهة الباطل وأهله، والكفر وأساطيله، ولا بد لنا من مراجعة أنفسنا في هذه المرحلة الحرجة من حياة الأمة، مراجعة الناقد الناصح المنصف ، الذي يشير إلى موطن الداء بوضوح وصراحة، ليكون العلاج نافعاً. كل ذلك وغيره من الإعداد والتجهيز مهم جداً، ولكن اللجوء إلى اللَّه سبحانه وتعالى بصدق هو الأهم في هذه المرحلة ، التي   فرَّطت فيها الأمة في إعداد نفسها مادياً ومعنوياً، سياسياً وعسكرياً، لمواجهة أعدائها.

فرَّطت الأمَّة حينما شغلت نفسها بنفسها ، وحينما تصول وتجول في صراع داخلي أضعف الأمة كلها، وتركها تبني علاقاتها على الخضوع للغرب أو الشرق فكراً وثقافة ونظاماً   وتصطنع لترسيخ ذلك صراعات داخلية، وحروباً ومطاردات أنتجت لنا أجيالاً تائهةً عن الطريق، معرضةً عن الحق ، لقد فرَّطت الأمة عندما رفعت شعاراتٍ لا تمتُّ إليها ولا إلى دينها وشخصيتها بصلة، شعارات قومية  ، ويسارية، وشيوعية، ورأسمالية ووجودية واشتراكية وبعثية، ومذاهب تلفيقية صاحبتها حملات إعلامية، وبرامج تربوية وتعليمية وثقافية   أسهمت كلها في خلخلة بناء أمتنا وفكرها وثقافتها، وأصابت أجيالها بالبلبلة والإحباط والإحساس بالضياع، وها هي ذي أمتنا تجني نتائج هذه المرحلة خضوعاً لأعدائها  واستسلاماً لهم ولبرامجهم وأفكارهم، وذلة كبيرة أمام برامجهم العلمية وقواتهم العسكرية.

وفي غضون ذلك ، ضاعت أصوات المرشدين والموجِّهين، والعلماء الغيورين، والعقلاء المثقفين، ضاعت أصواتهم في زحام الهرولة نحو النموذج الغربي، وحينما انكشف الغطاء ظهرت الوجوه السوداء، وتهاوت مظاهر الادعاء.

لا بد من مراجعة جوانب حياتنا المختلفة لنصحِّح أخطاءنا، ولنرسم معالم بيوتنا ومدارسنا ومراكزنا المختلفة وفق شرع الله الصحيح، ولا بد مع ذلك من عمل كل الأسباب المادية الممكنة لمواجهة الهجمة الشرسة، ولنتذكر دائماً أن اللجوء إلى الله بصدق هو طريق النجاة. مصداقاً لقول القائل :

إذا لم أستعن بك يا إلهي    فمن عوني سواك ومن مجيري

 

  سنة الله بالاستبدال

  هدد الله تعالى عباده المؤمنين بالاستبدال في حالات منها : الردة عن هذا الدين، قال تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾المائدة:54 ، ومنها : عدم نصر دين الله وإعلاء كلمته، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ، إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير ﴾ التوبة:38 . ومنها : عدم الإنفاق من أجل هذا الدين قال تعالى: ﴿ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ﴾ محمد:38. فمن تولى عن هذا الدين وعقيدته، أو تولى عن نصره، أو تولى عن الإنفاق من أجله، فلن يضر إلا نفسه ، فالحقيقة واضحة عندما تلمس وترى آثار عمل يد الله تعالى، وتعلم أن هذا الكون ليس متروكًا عبثًا ولا سدى، بل هناك رب فوق العرش لا يترك الحياة للباطل ، وإنما يدفع مرة بعد مرة : ﴿ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ البقرة من الآية:251 . وتبقى الحقيقة من وراء هذا الاستبدال وهي أن هذا الدين ماضٍ في طريقه ليحدث في الأرض ما شاء الله تعالى من أقدار، وأنه غالب ، ولا بد أن يتشرف به وبنصره من شاء الله له الرفعة، ويخذل عنه وعن نصره من سقط من عين الله تعالى ، فعندما يسقط من يسقط ، ويتراجع من يتراجع ، يتولى الله تعالى الدفع بنبت آخر، ليبقى للحق مدافعوه، ويبقى الباطل في حال انزعاج دائم من كرّ الحق عليه.. هذه هي حقيقة الأمور ﴿ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ﴾ الأنبياء 18. إذن الأمان أن تقف إلى جانب الحق حتى لو بدا منكسرًا إلى حين، لأن الموازين والتقلبات مؤقتة، والأمور تتغير وما زالت أنهار الحياة جارية تتقلب أمواجها، والباطل خفيف وبيء، مليء بالثقوب! فلا يخدعنك أحد أن الباطل مستقر   بل ابق مع الحقيقة التي أخبر الله تعالى بها.

إن مطابقة السنن القرآنية للسنن الكونية ، هو قانون التغيير   للمجتمعات البشرية ، ففي سيرة النبي صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى ، في تغيير واقعه ، من واقع تفشت فيه عبادة الأوثان ، والاستبداد والظلم ، سواء تمثل في تطبيق القانون على طائفة دون أخرى ، أو في الاستبداد الربوي فضلا عن الانغماس في رذيلة الخمور والفجور، وقتل البنات ؛ عندها اصطفى الله نبيه ، لتبدأ جهود التغيير ، فبدأ النبي صلى الله عليه وسلم دعوته الناس سرا ثم جهرا ، يدعو لعبادة ربه وحده لا شريك له، مع غرس مفاهيم خشية الله في نفوس أصحابه   وقد بدأت بوادر الصراع بالتعدي على كل من أعلن إسلامه  مما اضطر الصحابة الكرام للهجرة إلى الحبشة ، وقد مضى النبي صلى الله عليه وسلم داعيا إلى الله بإذنه إلى أن جاءه الأمر:﴿ قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدِّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴾ الأنعام 135، ومن الطبيعي والنبي صلى الله عليه وسلم يطالب قريش بالعمل بما في الوسع ، بأن العاقبة ستكون له ، وكله ثقة بربه ، أن الله لا يفعل إلا خيرا، ويثبت المؤمنين ويؤكد وعده بقوله : ﴿ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاء بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴾ القصص 85 ، ويؤسس الرسول الكريم دولة الإسلام بالمدينة المنورة .   

 أما كيف استطاع النبي صلى الله عليه وسلم الانتقال عبر معايير السنن الإلهية من شخص مهمش منبوذ من قومه إلى أمير دولة الإسلام ؟ ذلك لأن القواعد الكبرى للسنن الإلهية هي القواعد التي يبين فيها الله إرادته في ملكه ، ومن المعلوم أن قول الله فعل ، وإن فعله قول:﴿ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ﴾ القصص ، وقد اقتضت إرادة الله المنُّ بالنصر على المستضعفين ، ورأينا كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه يرزحون تحت التعذيب والإهانة إلى أن اضطروا للهجرة بدينهم أولا إلى الحبشة ثم منها إلى المدينة ثم ما كان من عاقبة أمرهم النصر والظفر بمكة وفق ما وعد الله .

ومن هنا نستخلص كيف انقلب المستضعف وارثا ممَّكنا في الأرض ، ومن هنا قرر العلماء بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب . فالعهد بالنصر لكل المستضعفين أيا كان جنسهم ، ودينهم ولغتهم ، والآية نزلت تخبر بما ستصير إليه الأمور في شأن موسى وقومه ، حيث كانوا مستضعفين من فرعون وملئه : ﴿ فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ ﴾ يونس 83 ﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴾القصص 4 ، ولما عزم فرعون على اجتثاث موسى وقومه ليحسم أمرهم ، حسم الله الأمر لمصلحة موسى ومن معه ، وأهلك فرعون ومن معه  أرادوها حسما ، فكانت كذلك ، لكنها لصالح المستضعفين.

 وهنا نتساءل أهذه السنن خاصة بمن سلف ذكرهم أم هي عامة لكل من سلك سبيلهم ؟ يجيب القرآن :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّـكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّـكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ ﴾ إبراهيم 14، إذن القاعدة عامة لكل من سلك مسلك النيين ، وسار على دربهم   وقد يقول قائل : رأينا كيف ينقلب المستضعف وارثا، فكيف ينقلب الوارث مستضعفا ، أو كيف كانوا بالأمس هم الأسياد ؟ وكيف انقلبوا أذلة ؟ إنها السنة لكل من سار على دربهم   وما كانت السنة إلا بتكرار الفعل ، لكل وارد على نفس الدرب.  

 سنة الله في الاستخلاف في الأرض

إنَّ لله  سننًا يسير عليها العالم، وتخضع لها حياة الأمم، وتُؤثرِّ في قيام الحكومات والقيادات وسقوطها. وهي سنن ثابتة لا تتغيَّر ولا تتحوَّل. فكلَّما حدَث حدثٌ   يتطلَّب تلك السنن، نفذ وتحكَّم ، لا يحول دون نُفوذه حائل ﴿ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ﴾ الأحزاب62 . وقد ورد ذكر سنة الاستبدال في القرآن الكريم فقال تعالى : ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ محمد/38 وقال: ﴿إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ التوبة/39. فلا يظن المتخاذلون بعدم رغبتهم في قتال المعتدين  سيضروا الله لأن الله قادر على أن يأتي بخلق جديد ، وهو على ذلك قدير ، وإننا ندرك سنة الاستبدال في سقوط الحكومات والقيادات وقيام الأخرى مقامها، وانحطاط الأمم والجماعات وحلول غيرها محلها. فإذا رأينا حكومة أو قيادة أو أمة أو جماعة استبدلت بأخرى، فمعنى هذا أنَّ الظاهرة قد خضعت لهذه السنة ، فإذا عهد الله إلى أمة، برسالة، أو إلى حكومة أو قيادة بمسؤولية، فإن كانت تؤدي رسالتها، وتقوم بمسؤوليتها، أبقاها الله على منصبها، وأدام لها نعمتها التي خوَّلها ووفَّر لها أسباب البقاء، وأفسح لها مجال العمل ، وإن تهاونت أو قصَّرت في أدائها أو أعرضت عنها وتولّت، أو ظلمت وطغت، استبدل الله بها أخرى صالحة للقيام بالمسؤولية، لذا ليس غريباً ما نرى من اعتداء الكفار على الإسلام والمسلمين وبلادهم ، فمنذ أن بُـعث رسول الله رحمةً للعالمين، والكفار يجيِّـشون الجيوش للعدوان على الإسلام وأهله. والحروب الصليبية السابقة، وغزوات التتار ومؤامرة القضاء على الخلافة الإسلامية ، شواهد على ذلك ، ثم إنشاء الكيان الصهيوني  فـي فلسطين ، وجرائم هذا الكيان، ومجازره فـي فلسطين لا زالت حيةً تنطق بعداوة الكفار للإسلام والمسلمين ، إلا أن الغريب والملاحظ أن غزو أراض المسلمين منطلقاً من بلاد المسلمين، جواً وبحراً وبراً ، وحكامها ينظرون لا بل يساعدون فـي الدعم والإسناد، وأحسنهم من اكتفى بالوقوف على الحياد! مع العلم بأنَّ العدوان على بلد من بلاد المسلمين هو عدوان على بلاد المسلمين كلها،  ومع ذلك يغزو الكفار بلادنا بلداً بلدا ، فإذا فرغوا من واحدة انتقلوا إلى الأخرى، ونرى من يهيئون لهم ذلك ويمهدون لهم السبيل ، ومع ذلك فالأمة صامتة، ساكتة عن الذين يسلمونها لعدوها، وهي ترى وتسمع، وإذا سمح لها أن تجمع المساعدات للمعتدى عليهم ، كان ذلك عندها خطواتٍ إيجابيةً محمودةً! والجميع يدرك أن البلد المعتدى عليه يحتاج لمن يقف معه لرد العدوان بقوة السلاح أكثر مما يحتاج هتافاً باسمه أو شتماً لعدوه ، يحتاج إلى قرار بخوض الحرب معه ضد المعتدي وطرد العدو من قواعده ، هذا هو المطلوب لو كان هناك أمناء صادقين لا خونةً مارقين.

 

 الكيل بمكيالين

من يتابع ويسمع تصريحات ومواقف الدول الكبرى مما يجري في الشرق الأوسط لا يرى أنها على نسق واحد، وعلى معيار واحد، فهي مختلفة في الحكم مع تشابه ذات القضية! يُظلم شعب ويعتدى على حقوقه ومقدساته على مسمع ومرأى من دول العالم، فيسكتون أو يبررون أو يرفضون على خجل، بينما في مكان آخر يتحركون ويصرخون بقوة ويرسلون قواتهم، بحجة الدفاع عن حقوق الإنسان، نحن مع هذا الشعار، ولكنا لسنا مع الكليل بمكيالين، لماذا يعمل هذا الشعار في بلد ولا يعمل في بلد آخر؟ لماذا هذا الموقف يكون تجاه شعب دون آخر؟ السبب واضح وهو وجود المصالح، اقرأ الواقع بعناية ستجد دور المصالح في تحديد المواقف، لو كان معيارهم بحق حماية المدنيين ورعاية حقوق الإنسان لتوحدت مواقفهم وردات فعلهم.

وكما اعتقد أن الكيل بمكيالين هي من ألاعيب السياسة وخداعها والتي لا يوجد في قواميسها مصطلحات الأخلاق و المبادئ والقيم الرفيعة انما غايتها تبرر لها الوسيلة مهما كانت وضيعة .

عندما أقرأ قوله تعالى : ﴿ ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ﴾ المطففين ، أتذكر كلما رأيت وسمعت ما أصبح يعرف اليوم بسياسة الكيل بمكيالين، وأتعجب كيف أن أول خطوة تشريعية في مجال العلاقات والمعاملات وضعها الإسلام ، هي إبطال الكيل بمكيالين والوزن بميزانين، أو الكيل والوزن بطريقتين مختلفتين، كما كان يفعل بعض التجار ، كانوا إذا اشتروا لأنفسهم من غيرهم وفَّوْا وألحُّوا في توفية المكيال والميزان، فإذا كالوا أو وزنوا لغيرهم أخسروا وطففوا وبخسوا.

هذا الأسلوب الأناني حرمه الإسلام ، وحذر من تبعاته الوخيمة يوم الوقوف بين يدي الله عز وجل، كما نهى القرآن عن هذا السلوك الفاسد حين قال تعالى في سورة الرحمن ﴿ وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان ﴾ . وقد أصبح اليوم الكيل بمكيالين أو بكيلين مختلفين سمة بارزة لدى كثير من الدول والحكومات، ولدى كثير من السياسيين وغير السياسيين، بل أصبح سياسة مطردة بلا خوف ولا حياء، لا من العباد ولا من رب العباد.

هناك مواثيق وقوانين وقرارات تتم إماتتها ودفنها ، لمجرد أنها في صالح المستضعفين من المسلمين وغير المسلمين. وأخرى يتم إبرازها وتفعيلها وإحاطتها بالنفاذ المعجل والمضخم، لمجرد أنها ضد المستضعفين وفي خدمة الأقوياء المستكبرين. وكل الناس هنا يعرفون النماذج البارزة المتعلقة بالسياسات الدولية عامة، والمواقف الأمريكية والصهيونية خاصة وحينما اهتم الناس بقضية الساعة نقول : أين أنتم من قضية فلسطين ومن قتل الأبرياء في الحروب جرت وتجري التي قتل فيها الملايين ؟ هل هم المسلمون ؟ بالطبع ، لكن تهمة القتل والارهاب يوصف بها المسلم ، أما غيره فلا تذكر ديانته ، ولم يشر الإعلام إلى إليها ولم يذكر مصطلح المسيحيون الإرهابيون ، علماً تهمة الإرهاب مرفوضة شرعا لأن الله سبحانه وتعالى أمرنا بالعدل مع كل الناس، وفي كل الأحوال، فقال تعالى: ﴿ ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا ﴾ وقال : ﴿ يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين أو الأقربين إن يكن غنيًا أو فقيرًا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرًا ﴾ وغضب النبي صلى الله عليه وسلم عندما تشفّع لديه أحد أصحابه في امرأة شريفة سرقت وقال: ﴿ والذي نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها، إن مما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الضعيف قطعوه، وإذا سرق فيهم الشريف تركوه ﴾ فهذا هو الكيل بمكيالين الذي نهي عنه الإسلام .

 

    شعائر الدين  ومعالمه المطلوبة منا

إنّ العالم اليوم يمرّ في محن وشدائد وكربات ، وخوف من مستقبل مليء بالفتن والقلاقل ، زمان يعجز العاقل عن وصفه، حروب هنا وهناك ، قتل وتشريد وتخويف وتهديد ، صراع في العالم يأكل فيه القوي الضعيف ويُسَوَّد فيه الخائن ويُقْصى منه الشريف ، انهيار اقتصادي يهدد العالم ، ويدق ناقوس الخطر  فيا ترى ما هو المخرج ؟ وما هو الحل ليطمئنّ القلب وينشرح الصدر ويألم الجرح؟ الحلّ هو قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم : ( تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلّوا بعدي أبدا كتاب الله وسنّتي ) كتاب الله الذي ختم الله به الأديان والشرائع ، شعائر عظيمة، ومعالم واضحة؛ أمر الله بتوقيرها، وحذر من العدوان عليها بتفريط أو إفراط، وجعل تعظيمها فرضاً على الفرد، وعلى الأمة، فهو حق لله سبحانه وتعالى على عباده، وامتثاله والعناية به برهان على تقوى القلوب، وما أصدقه من برهان، قال عنه سبحانه وتعالى: ﴿ ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾ الحج: 32. وكل ما جاء في كتاب الله العزيز، أو في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما تعبدنا الله به فهو من شعائره ومعالم دينه، فالشعائر هي جميع ما أمر الله به من أمور الدين، وكلُّ ما وجبت علينا طاعة الله فيه ، أو طاعة نبيه صلى الله عليه وسلم، وتختلف مراتبها بحسب الحال والزمان والمكان، بيد أنها تتفق في وجوب التعظيم، وأن الاستهانة بقدرها قد تردي المرء من حيث لا يحتسب ، وشعائر الله تحيط بحياتنا كلِّها، وهي متنوعة ومتعددة، تدخل فيها الشعائر الظاهرة والباطنة؛ لأن الدين باطنٌ وظاهرٌ، وشعائره عملية واعتقادية ومنها شعائر مكانية وأخرى زمانية، ومن ضمنها الأركان والواجبات والمستحبات، والمسلم مأمورٌ بأن يعظمها كلَّها، وأن يجلَّها ولا يحلَّها؛ وأن يمتثل أوامر الله فيها ويجتنب نواهيه، وهذا هو معنى التعظيم وحقيقته؛ فتعظيم شعائر الله إجلالها بالقلب، وإحلالها مكاناً رفيعاً في النفس، وأداؤها برغبةٍ ومحبةٍ، دون تضجر أو تثاقل، مع تكميل العبودية فيها بلا تهاون، أو تكاسل.

ويستلزم تعظيم شعائر الله عدة أمور، هي: تعظيم الله جل وعلا.

تعظيم ما جاء عنه في كتابه الكريم من أوامر وزواجر.

تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته القولية والفعلية والتقريرية الثابتة. تعظيم حرمات الله، وهي كل ما يجب احترامه.

وتنقسم شعائر الله إلى أقسام هي: شعائر مكانية، وشعائر زمانية، وشعائر ظاهرة، وشعائر باطنة.  ومن أمثلة الشعائر المكانية المساجد، وتعظيمها يكون بتعميرها، والتعبد لله فيها كما قال تعالى: ﴿ إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْـمُهْتَدِينَ ﴾ التوبة: 18، وقال: ﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ ﴾ النور: 36.

وأعظم الشعائر المكانية المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، ومسجد النبي والمسجد الأقصى؛ فقد أخرج البخاري في صحيحه عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ مرفوعاً للنَّبي صلى الله عليه وسلم: ( لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ والْمَسْجِدِ الأَقْصَى ) وتعظيم هذه المساجد يكون بمعرفة مكانتها ومنزلتها، واجتناب الذنوب فيها، وشدِّ الرحال إليها وحدها، والدفاع عنها، وحمايتها من الشرك والبدع والمنكرات والمظالم.

روى الألباني في صحيح الجامع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( فضل الصلاة في المسجد الحرام على غيره مئة ألف صلاة، وفي مسجدي ألف صلاة، وفي مسجد بيت المقدس خمسمئة صلاة ) . وفي عموم المساجد روى الإمام مسلم قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( أحب البلاد إلى الله مساجدها ) وما أعظم كره المنافقين والمبتدعة والكافرين على هذه الشعائر وأشد كيدهم لها، ولعمّارها، والله خير حافظاً.

وأما الشعائر الزمانية، فمثالها شهر رمضان، قال الله تعالى: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ البقرة: 185. وتعظيم شهر رمضان يكون بالاجتهاد فيه بسائر أنواع الطاعات، والابتعاد عما يخدش التقوى، ويضيع أجر الصوم. ومما يؤسف له أن هذه الشعيرة الزمانية تتعرض سنوياً لهجمات إعلامية شرسة؛ تسعى لتفريغه من مضمونه الطاهر، وتقليل بركته على الأمة وأفرادها، ولن تصح مقاومة هذا المدِّ الطاغي بغير بث الوعي في الناس عن قيمة هذه الشعيرة ومعانيها ووجوب تعظيمها.

ومنها الأشهر الحرم التي يدخل موسم الحج ضمنها، وتعظيمها يكون بأداء فريضة الحج فيها، والتقرب لله بسائر أنواع الطاعات، خاصة في العشر الأوائل من ذي الحجة، وأيام التشريق، مع ترك المعاصي والمنكرات، لأن إثمها في هذه الأشهر أعظم، ولذلك خصها الله بالنهي عن ظلم النفس خلالها، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ﴾ التوبة: 36. وروى الإمام أحمد مرفوعاً للرسول صلى الله عليه وسلم قوله عن العشر الأوائل من ذي الحجة: ( ما من أيامٍ العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام ) يعني: أيام العشر، قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله، قال:( ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجلاً خرج بنفسه وماله، ثم لم يرجع من ذلك بشيءٍ ) . وجاء في صحيح مسلم عن فضل يوم الجمعة: (خير يومٍ طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خُلق آدم وفيه أُدخل الجنة، وفيه أُخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة ) وفيه ساعة عظيمة قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يصادفها عبدٌ مسلمٌ وهو يصلي يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه ) .

ومن أبرز الشعائر الظاهرة الحج إلى بيت الله الحرام، والسعي بين الصفا والمروة وإسالة الدم الحلال في الهدي والأضاحي. ومن الشعائر الظاهرة المتكررة الأذان للصلوات، ورفع الصوت بالمناداة لها، ولذلك نُدب إليه المسافرون وعابرو الفلوات، وكان رفعه في أي بلدة مانعاً من قتال أهلها. وكم تتأذى منه شياطين الجن والإنس، وما برح أبالسة البشر يحاولون قطعه من ديار المسلمين، أو منعه في بلاد الكفار التي تدعي الالتزام بالحرية.

وتعظيم هذه الشعيرة يكون بترداد النداء وراء المؤذن، والتبكير للصف الأول وحضور صلاة الجماعة، كما أخرج البخاري في صحيحه عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِي مرفوعاً: ( إذَا سَمِعْتُمُ النِّدَاءَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ الْمُؤَذِّنُ )  وكما في الخبر المتفق عليه: ( لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا...)  الحديث . ومثال الشعائر الباطنة كل عبادة شرع الله تأديتها في الخلوات بعيداً عن أعين الناس، من جنس أعمال القلوب وقيام الليل، وصدقة السر، والبكاء من خشية الله، وترك الذنوب، وقد أخرج ابن ماجه في سننه عَنْ ثَوْبَانَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:( لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَاماً مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضاً فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ هَبَاءً مَنْثُوراً. قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ. قَالَ: أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا .

ويختلف تعامل الناس مع هذه الشعائر بأنواعها، فمنهم من غالى في تعظيم شعائر الله، حتى أدخل فيها ما ليس منها سواء أكان تعظيماً للأمكنة، أم تعظيماً للأزمنة. وقد روي مرفوعاً عند الشيخين: ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ) . ويقابلهم على الطرف الآخر أقوام لا يبالون بتعظيم حرمةٍ ولا شعيرةٍ، بسبب ما ضرب على قلوبهم من غفلة، أو ما ران عليها من ذنوب، وأما أهل الهدى وأهل السنة فهم القوم الوسط، الذين عظموا ما عظم الله، وتركوا ما لم يعظمه الله، واتبعوا سنة رسول الله؛ فاتبعوا ولم يبتدعوا.

إن تعظيم الشعائر من علامات سلامة القلوب وصلاحها، وفلاح أصحابها بإذن الله، قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ﴾ الحج: 30، وإن تعظيمها مرتبط بأعمال قلبية من جنس المحبة والإجلال وبأعمال ظاهرة، يأتي على رأسها الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمته، والدفاع عن دينه وعن المقدسات، والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، ونشر العلم الشرعي، وبث الوعي بدين الله ومعانيه وأسراره البديعة، وحكمه البالغة، ومن أجلِّها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بمعناه الواسع، وشموليته الكاملة وهي بحد ذاتها شعيرة واجبة، وبفعلها تُحمى الشعائر من التفريط والتبديل والتضييع ، وثمة أمر ينبغي ألا نُغفل ذكره ، وهو أن التزام العبد بالطاعات وفق ما أمر الله به ، واجتناب المحرمات وتركها ، يحتاج إلى عزيمة صادقة  ومجاهدة حقيقية للنفس ، وليس اتكالا على سلامة القلب ، وصفاء النية  وليس اعتمادا على سعة رحمة الله فحسب ، لأن للجنة ثمنا ، وثمنها هو العمل الصالح كما قال الله تعالى :﴿ وتلك الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون﴾ الزخرف 72  ، فإذا صدقت نية العبد ، أورثته العمل ولابد .

ومما يحسن التنبيه إليه، ضرورة بث مفهوم شعائر الله وتعظيمها في المساجد وخطب الجمعة وكلمات الوعاظ، وفي البيوت والمحاضن التربوية، حتى يعيش الناس لذة التعبد لله سبحانه وتعالى كاملة غير منقوصة، وكي يستشعروا عظمة ما هم فيه من عبادة أو حال أو زمان أو مكان، فيكون الإخلاص أعظم، والأثر أكبر، والأجر أكثر، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

 

 

 

 

 

 

 

 

الفتنة قد تعم الطائع والعاصي

الفتنة : هي الأمور والأحداث التي تحرف المسلم عن الطّريق المستقيم ، وتزيّن له الباطل   وقد شهد التاريخ الإنساني منذ القدم موجات من الفتن ، التي كانت سببا للاختلاف والفرقة ، والاقتتال وسفك الدماء ، والتدمير والخراب، وشهد التاريخ ضياع ممالك واندحار أمم ومجتمعات ، ونشوب حروب بسبب الفتن ، ومما لاشك فيه أننا نعيش في زمن تكثر فيه الفتن، ولذلك يجب على المسلم أن يتعوذ بالله جلَّ وعلا من الفتن، لأنها تحرق الدين وتحرق العقل، وتحرق البدن، وتحرق كل خير، ولا خير في فتنة أبداً؛ فإن النبي صلى الله

عليه وسلم كان يتعوَّذ بالله كثيراً من الفتن، وكان عليه الصلاة والسلام يحذَّر منها ، لأنها إذا أتت؛ فإنها لا تصيب الظالم وحده، وإنما تصيب الجميع، ولذلك يجب علينا أن نحذرها قبل وقوعها، وإنَّ من علامات آخر الزمان كثرة الفتن؛ كما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( يتقارب الزمان، ويقلُّ العمل، ويلقى الشح، وتكثر-أو قال : تظهر- الفتن ) .

 وإذا كانت قوانين الأرض تقرر : أنه لا عقوبة من غير جريمة، فإن القرآن الكريم -لاعتبارات معينة- يقرر : أن الذنوب إذا ظهرت في المجتمع فإن ذلك يستدعي عقوبة المجتمع بأكمله، وهو ما قررته الآية الكريمة في قوله تعالى: ﴿ واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب ﴾ الأنفال:2 ، فقد حذرت الآية بكل وضوح أفراد المجتمع المسلم، بأن الظلم بكل أشكاله وأنواعه ، إذا ظهر بينهم فإن العقوبة تشملهم جميعاً، ويكون مقصود الآية التحذير من فتنة تتعدى الظالم، فتصيب الصالح والطالح ، إذا لم ينكروا ، ثم يبعث الله الناس على نياتهم ، وذلك كإقرار المنكر بين الناس  والمداهنة في الأمر بالمعروف ، واقتراف الكبائر ، وظهور البدع ، والتكاسل عن الفرائض  وغير ذلك من أنواع الذنوب وفي الحديث : ( لتأمرنّ بالمعروف ولتنهُونَّ عن المنكر أو ليعُمَّكم الله بعذاب ) أخرجه الترمذي في الفتن ، أو كما قال صلى الله عليه وسلم قالت عائشة رضي الله عنها : ( أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال نعم إذا كثر الخبث ) أخرجه البخاري في الفتن . فليحذر العباد الزلة التي توجب لهم عقوبةً لا تخص مرتكبيها ، بل يعم شؤمها من تعاطاها ، ومن لم يتعاطاها ، ومع أن غير المجرم لا يؤخذ بجرم من اذنب  لكن قد ينفرد الواحد بجرم ، فيحمل أقوام من المخنصين بفاعل هذا الجرم ، كأن يتعصبوا له إذا أخذ بحكم ذلك الجرم فبعد الا يكونوا ظالمين ، يصيروا ظالمين بمعاونتهم وتعصبهم للظالم ، فتكون فتنة لا تخص بمن كان ظالما في الحال ، بل تصيب كذلك ظالماً في المستقبل بسبب التعصب للظالم ورضاه به . 

وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم خطورة إعانة الظالم على ظلمه في الحديث : (مَنْ أَعَانَ ظَالِماً لِيُدْحِضَ بِبَاطِلِهِ حَقّاً فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ ذِمَّةُ الله وَذِمَّةُ رَسُولِهِ) أخرجه الحاكم وقال: صحيح الإسناد . فأين من يعين الظالم على ظلمه من هذا التحذير النبوي؟ أين من يمشي مع الظالم لينصره من كلام حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم؟ أين من يفرح بظلم الظالم لإخوانه المسلمين من هذا الحديث؟ وقال تعالى وهو يحذر من الركون إلى الظالمين: ﴿ وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ ﴾ هود: 113، والركون يعني: المجاملة والمداهنة، والميل إليهم بالمحبة والمودة وآفة الدنيا هي الركون للظالمين؛ لأن الركون إليهم إنما يشجعهم على التمادي في الظلم والاستشراء فيه. وأدنى مراتب الركون إلى الظالم ألا تمنعه من ظلم غيره، وأعلى مراتب الركون إلى الظالم أن تزين له هذا الظلم؛ وأن تزين للناس هذا الظلم. روي أن الله أوحى إلى يوشع بن نون: ( أني مهلكٌ من قومك أربعين ألفًا من خيارهم وستين ألفًا من شرارهم فقال: يا رب، هؤلاء الأشرار فما بال الأخيار؟ قال: إنهم لم يغضبوا لغضبى فكانوا يواكلوهم ويشاربوهم ) .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ظاهرة الفساد المالي والإداري

هذه الظاهرة هي انتهاك القوانين ، والانحراف عن تأدية الواجبــــــــات الرسمية في القطاع العام ، لتحقيق مكسب مالي شخصي ، واخضاع المصلحة العامة للمصالح الشخصية ، أو هي إساءة استخدام السلطة واستغلال المنصب الإداري في الجهات الحكومية .

إن الآثار والنتائج السلبية لتفشي هذه الظاهرة ، تطال كل مقومات الحياة   فتهدر الأموال والثروات ، والوقت والطاقات ، وتعرقل أداء المسؤوليات وإنجاز الوظائف والخدمات، وبالتالي تشكل منظومة تخريب وإفساد وتسبب مزيداً من التأخير في عملية البناء والتقدم ليس على المستوى الاقتصادي والمالي فقط، بل في الحقل السياسي والاجتماعي والثقافي ناهيك عن مؤسسات ودوائر الخدمات العامة ذات العلاقة المباشرة واليومية مع حياة الناس ، أما الفساد الإداري فهو ظاهرة من الظواهر السائدة في عالمنا العربي والإسلامي ، وقد ينتج هذا الفساد عن تولية غير الكفء الذي يفسد أكثر مما يصلح ، والفساد الأخطر الناتج عن سوء استغلال السلطة وتسخيرها لقاء مصالح ومنافع تتعلق بفرد أو بجماعة معينة ، وتتمثل مظاهر الفساد السياسي في الحكم  الفاسد، وسيطرة نظام حكم الدولة على الاقتصاد وتفشي المحسوبية. إن الفساد الإداري بيئة خصبة لظهور الفساد المالي والاعتداء على الحقوق العامة والخاصة. ومن أهم العوامل التي ساعدت على تفشِّي هذه الظاهرة ، غياب فِقهِ الإنكار في الأمة لأنَّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، من أعظم ما يطهِّر المجتمع من أهل الأهواء والمفسدين. قال تعالى: ﴿ فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ ﴾ هود: 116. وسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم عامرة بالتحذير من الفساد والغلول والتعدي على حقوق الناس، وقد تواترت النصوص من الكتاب والسنَّة في تقرير ذلك، وقبل نزول كثير من الشرائع، تَـَنزَّل قول الله عز وجل : ﴿ وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ  الَّذِينَ إذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ المطففين: ١. وإذا نجح المفسدون في تطبيع الفساد، فإن الواجب يوجب على الأمة تبني مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأخذ على يد المفسد والاحتساب عليه. وتقصيرها في ذلك يكون سبباً لتولي غيرهم لهذه المهمة، مما يؤدي إلى تضييع واجب شرعي أمر الله عز وجل  بإقامته. 

وتتمثل هذه الظاهرة بمجمل الانحرافات المالية ومخالفة القواعد والأحكام المالية التي تنظم سير العمل الإداري والمالي في الدولة ومؤسساتها ومخالفة التعليمات الخاصة بأجهزة الرقابة المالية كالجهاز المركزي للرقابة المالية المختص بفحص ومراقبة حسابات وأموال الحكومة والهيئات والمؤسسات العامة والشركات، ويمكن ملاحظة مظاهر الفساد المالي في الرشاوى والاختلاس والتهرب الضريبي وتخصيص الأراضي والمحاباة والمحسوبية في التعيينات الوظيفية.

وكلا النوعين ينعكس سلباً على استقرار المجتمع  وتقدُّمه ، فعندما يضرب الفساد بأطنابه في أعماق المجتمع دون رقيــــب أو نكير، تتوالى المفاسد في شتى مناحي الحياة ، ويصبح الفاسدون هم وحدهم الممسكين بزمام المجتمع .

 الترغيب في الورع

من السهولة بمكان أن يكون المسلم مصليًا أو صوّامًا أو قوّامًا أو داعية أو خطيبًا أو معلمًا أو حتى عالمًا، ولكن من الصعوبة بمكان أن يكون وَرِعًا ، لأن الورع رتبةٌ عزيزة المنال، رفيعة المكان، ومتى ما ارتقى الإنسان إلى مرتبة الورع فقد نال أسمى المراتب، وتحلّى بأجمل المناقب التي تؤهّله لمنزلة النبيين والصديقين والشهداء، وإن ما نلاحظه من قلة البركة، وفساد الثمرة، وتردّي الأخلاق، وكثرة الشقاق، والتهاون بالذنوب، وضياع الحقوق، وانتشار الفسوق ومظاهر العقوق؛ لهو نتيجة لغياب مفهوم الورع .

فما هو الورع : الورع لغةً: الكَفُّ عن المحارِم والتحَرُّج منه، وفي الشرع ليس الكف عن المحارم والتحرُّج منها فقط، بل هو الكف عن كثيرٍ من المباح، والانقباض عن بعض الحلال خشية الوقوع في الحرام ، أي اجتناب الشبهات خوفًا من الوقوع في المحرمات . فأين نحن من تجنّب الشبهات؟ وأين نحن من عدم التسرّع إلى تناول أعراض الدنيا؟ وأين نحن من الإحجام عما يُخشى ضرره وتُخاف عاقبته؟ إن أكثر الناس اليوم لا يهمّه إلا أن يجمع المال وأن يحقق مآربه في الدنيا، أما السؤال عن الحرام والحلال والأجر والإثم والجواز والمنع، والريبة وعدمها، فذلك آخر ما يفكر فيه الإنسان ، ولذلك نرى كثيرًا من الناس ينساقون وراء معاملات   وعروض بنكية ربوية ، ومسابقات عجيبة، ودعوات غريبة دون   التفات للشرع ، وبعضهم قد امتلأ بطنه، وعظم رصيده، وغذي بالحرام جسمه ، لأنه لا يعرف معنى الورع .

نعم ما نعيشه اليوم من نهب الأموال واستغلال خيرات البلاد من قبل شرذمة قليلة ، وتجبر الحكام وشطط في استعمال السلطة لدى المسؤولين ، ما هو إلا نتيجة لغياب خلق الورع الذي تربى عليه الرعيل الأول من هذه الأمة فحققوا العدل ، وتربى عليه من جاء من بعدهم فساروا على نهجهم ، فهذا عمر بن الخطاب يقول لأصحابه : من يصف لي الورع فقال رجل : أهل الصلاة ، قال لا يصلي البر والفاجر ، قالوا اهل الصيام قال : لا يصوم البر والفاجر ، قالوا : أهل الصدقة قال: يتصدق البر والفاجر ويحج البر والفاجر ، فقال : الورع من إن عاملته بالدرهم والدينار صدق  وروى الحكيم الترمذي في أدب النفس : أن رجلًا أثنى على رجل عند عمر ـ رضي الله عنه ـ فقال: صحبته في سفر؟ فقال: لا، قال: فأتمنته على شيء؟ قال: لا، قال: ويحك! لعلك رأيته يخفض ويرفع في المسجد.

وهذا عبيد بن عمر أحد الفقهاء السبعة في المدينة قال له رجل بعد الصلاة : عظني يا إمام ، فأخذ حصاة من الأرض وقال له : والله لزنة هذه من الورع في حقوق الخلق ، أحب إلى الله من نافلة أهل الأرض جميعاً صلاةً وصياماً ، وهذا حذيفة بن قتادة المرعشي رأى بعض التجار في السوق عند الآذان يغلقون المحال ويتزاحمون على الصلاة في الصف الأول فقال لهم : يا أيها التجار كلوا الحلال وأدوا الحقوق ، ولا يضركم أن صليتم في الصف الأخير "    

أما الفرق بين الورع وبين الزهد كما قال ابن القيم: " الزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة. والورع ترك ما يخشى ضرره في الآخرة " وجاءت السنة النبوية ترغب في الورع ، عن سعد بن أبي وقاص وحذيفة بن اليمان رضي الله عنهما: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فضل العلم أحبُّ إليَّ من فضل العبادة، وخير دينكم الورع) رواه الحاكم والبيهقي وصححه الألباني في صحيح الجامع . قال المناوي في فيض القدير: " لأنَّ الوَرِع دائم المراقبة للحقِّ، مستديم الحذر أن يمزج باطلًا بحقٍّ ، وهو خير خصال الدين، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم  الذي رواه النعمان بن بشير رضي الله عنه يعتبر بيانا جامعا لحقيقة الورع قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الحلال بيِّن والحرام بيِّن وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام  كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ، ألا وإن لكل ملك حمى ، ألا وإن حمى الله محارمه ، ألا وإن في الجسد مضغه إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب ) . قال ابن دقيق العيد في شرحه لهذا الحديث من كتاب شرح الأربعين النووية: الأشياء ثلاثة أقسام: فما نص الله على تحليله فهو الحلال، وما نص على تحريمه فهو الحرام  والشبهات هي كل ما تتنازع فيه الأدلة من الكتاب والسنة وتتجاذبه المعاني… فالإمساك عنه ورع… ومن العلماء من اعتبر الشبهات حراما لقوله صلى الله عليه وسلم: ( فقد استبرأ لدينه وعرضه ) ومنهم من اعتبرها حلالا لقوله: (كالراعي يرعى حول الحمى ) ومنهم من جعلها في منزلة بين الحلال والحرام كما في الحديث… وبعض العلماء آثر التقسيم فقسكم الشبهات إلى ثلاثة أقسام:

– منها ما يعلم أنه حرام ثم يشك فيه هل زال تحريمه أم لا؟ كالذي يشك في حيوان مذبوح هل ذكاته شرعية أم لا؟ فالأصل حرمته قبل الذكاة حتى يحصل بها يقين… ومثاله حديث عدي بن حاتم قال: يا رسول الله إني أرسل كلبي وأسمي عليه، فأجد معه على الصيد كلبا آخر. قال لا تأكل إنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره.

– ومنها ما يعلم أنه حلال ثم يشك في تحريمه ، كرجل له زوجة فشك في طلاقها، فهذا يبقى على الإباحة حتى يحصل علم بالتحريم، وأصله حديث عبد الله بن زيد فيمن شك في الحدث بعد الطهارة ( شكا أنه يجد الشيء في الصلاة فنصحه النبي صلى الله عليه وسلم بألا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا).

– ومنها : أن يشك في الشيء فلا يدري أحلال أم حرام ويحتمل الأمرين معا، ولا دلالة على أحدهما، فالأحسن أن يتنزه عنه كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في الثمرة التي وجدها في بيته فقال: ( لولا أني أخشى أن تكون من الصدقة لأكلتها ).

 ومن مظاهر الورع : يكون في النظر بحفظه عن الحرام وغضّه عن الفتن ويكون في السمع، ويكون في البطن فلا يأكل أو يشرب إلا ما اطمأن إلى جوازه ونفعه، ويكون في الفرج بحفظه عمّا حرّم الله ، ويكون في المشي والسفر، ويكون في البيع والشراء.

ومن أهم مظاهر الورع: الورع في المنطق: وهو يدل على سلامة النفس، وصفاء القلب، وقوّة الإيمان، والورع في المنطق والأقوال أشدّ وأشقّ من الورع في الأفعال، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وهل يكبّ الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائدُ ألسنتهم)، ويقول أحد السلف: " الورع في المنطق أشد من الورع في الذهب والفضة، فإن من الناس من يستطيع أن يملك نفسه ويكفّها عن الشهوات والشبهات، ولكنه لا يستطيع أن يسجن لسانه، ويملك بيانه، فلا ينطق إلا بخير، ولا يتكلم إلا بمعروف   ولا يحدّث إلا بصدق وعدل وحق، ولا يخوض فيما لا يعنيه، ولا ينال مسلمًا بما لا يرضيه، ولا يرم بريئاً بما ليس فيه، ولا يتتبّع العورات، ولا يتصيّد العثرات، ولا يُشهر بالهفوات، فمن وُفِّق إلى الورع في حفظ اللسان فقد بلغ الغاية في مراتب الإيمان ".

 

 

 

 

لمن العبودية

العبودية التي أمر الله بها سبحانه وتعالى هي : مصطلح يجمع كل شيء يحبه ويرضاه الله من قول وفعل، سواء ظاهراً أو باطناً، والبراءة مما يخالف ذلك، فحياة العبودية مبنية على التسليم والانقياد والاستجابة لله في فعل المأمورات وترك المنهيات قال تعالى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } الأحزاب:36 ، ويدخل في هذا التعريف جميع أركان الإسلام .

وهي في المنظور الإسلامي ، تحرر الإنسان من شتى أنواع العبودية للبشر، وللنفس، والهوى ، فالعباد يحبون ربهم ويخافون عقابه، ويرجون رحمته وثوابه، فهذه هي أركان العبودية التي لا تقوم إلا بها، وبقاء المسلمين مشروطاً بقيام حياة العبودية بهم ، وقيامهم بها ، فإذا انقطعت لم يبق لهم حق أن ينصرهم الله ، وبذلك يكونوا كسائر الأمم خاضعين لنواميس الحياة وسنن الكون ، ولما حافظ المسلمون على هذا الشرط ، وفي سبيله هاجروا وجاهدوا ، ولأجله حاربوا وعاهدوا ، وآمنوا بأنهم خلقوا للسعي للآخرة ، وخلق أسباب الحياة لها عملاً بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الدنيا خلقت لكم ، وإنكم خلقتم للآخرة ) أما وقد تشاغل المسلمون بالدنيا وكأنهم خلقوا لها ، فسعوا وراء المادة في غير اقتصاد ، وجروا وراء الاكتساب من غير حساب ، وقضوا أوقاتهم في سهر في غير طاعه    وعمل في غير نيه ، وتجارة في لهو عن ذكر الله ، وحرفة في جهل عن دين الله ، ووظيفة في الإخلاص لغير الله  وحكومات تحارب منهج الله ، وشغل في ضلاله ، ومعبود في بطاله ، وحياة في غفله وجهاله ، بذلك تساوينا مع الكافرين ، الذين فاقونا استعدادا للحرب ، فانتصروا علينا ، لأننا تركنا عامل النصر ، الذي يضمن لنا التفوق عليهم  ذلك هو الإيمان الحق في قوله تعالى : { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا } ، ولما فقدنا هذا السلاح  وتخلفنا عنهم في العلوم التقنية ، والأسباب الحربية ، وسبقونا في القوة المادية ، والعدد الحربية ، وتساوينا معهم في المعاصي والمخالفات الشرعية ، انتصروا علينا ورجحت كفتهم ، واحتلوا بلاد المسلمين ، ونهبوا ثرواتهم ، وليس العالم اليوم بأقل ظلماً منه بالأمس ، إذ لا توجد أمة تتمسك بدعوة الإسلام ، كما تمسك بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، ولو تمسك المسلمون اليوم ، ذلك التمسك الذي كان بالأمس ، وصدقوا العهد مع الله ، ومع أنفسهم  وإلى الإنسانية الحائرة التي تنتظر من يقودها إلى منهج الله ،  لما وصلوا لهذا الحال ، ولن يصلح لهذه القيادة ، إلا أمة الإسلام ، التي وصفها الله بالخيرية فقال : { كنتم خير أمة أخرجت للناس } آل عمران .  

 

 

 

 

عزل الدين عن هموم الناس

جعل الله من لوازم استمرار خيرية الأمة المسلمة ، حمل الحق والدغاع عنه ، ومحاربة الظلم ، وحماية المظلومين من الناس ، قال تعالى : { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر } آل عمران 110 ،

وشرع الجهاد وأوجبه ، دفاعاً عن الحق ، واسترداداً لإنسانية الإنسان ، وحماية المستضعفين من الرجال والنساء والولدان قال تعالى : { وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان } النساء 75  وكان الإعراض عن الدين دخول في حياة الضنك قال تعالى : { ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا } طه 124 ، من هنا نقول إن دعوات عزل الدين عن الحياة وإبعاده عن هموم الناس ، والعدول عن أحكامه ، ومعالجة مشكلاتهم ، هي مؤامرة كبرى ، وتدمير لشخصية الإنسان  ، والعودة إلى تسليط الإنسان على الإنسان ،والتمكين لعبودية البشر ، والذين يحاربون الدين ، ويحاولون عزله عن الحياة ، إنما يخاربونه ليقيموا من أنفسهم آلهة ، ويضعوا للناس قوانين تمكنهم من التسلط ، واستلاب إنسانية الإنسان ، والذين يفهمون أن غاية ما في التدين هو أداء الصلاة والصيام وباقي العبادات ، بعيداً عن المساهمة في قضاء حاجات الناس ، ومعالجة مشكلاتهم ، ومجاهدة الظلمة ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإن فهمهم بحاجة إلى التقويم ، ولو صاموا وصلوا وحجوا وزكوا   فإن إيمانهم يبقى منقوصا ، وإن هذه الظواهر السلبية في الانسحاب من الدنيا ، والخروج من حمل هم الناس  والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لا أدري كيف تنسجم مع الإسلام الذي جاء لتقويم مسيرة الحياة ، ومدافعة الظلم والظالمين ، حتى لو كلف الإنسان حياته والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : ( سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ، ورجل قام إلى إمام جائر ، فأمرة ونهاه فقتله ) حديث حسن رواه الحاكم من حديث جابر ، ولا شك أن هذا اللون من التدين ، يرعاه الطلمة ، ويشجعه سدنة الاستبداد السياسي ، والظلم الاجتماعي  ويروجون له ، ويمتدحونه ، ويعتبرونه معياراً للتدين السليم ، حيث يغيب العلماء العدول العاملمون ، وتنشأ طبقة علماء السوء الذين يدافعون عن الاستبداد ويوجدوا له المبررات ، إن التدين الصحيح ، هو التكيف مع مقتضيات الدين وأحكامه ، وتقويم سلوك المجتمع بها ، وليس تكييف نصوص الدين ، لتوافق هوى الناس ، ورغبة الظلمة المتسلطين .  

 علماء الحق وعلماء السوء

 إن العلم الشّرعي من أرقى العلوم وأهمها وأعظمها منزلة، ولما كانت منزلة العلماء رفيعة ودرجتهم عند الله عظيمة، حسدهم الحاسدون ، على نعمة العلم ، فزاحموهم في طلب هذا العلم، ليس ليُورّثهم ذلك خشية لله وحبًا له وتعظيمًا، ولكن حبًا للدنيا ، وبحثًا عن المال والشّهرة ذلك الدّاء العضال الذي أهلك النّاس فأصبحوا يتسارعون لنيل شيء منها وإن كان على حساب آخرتهم ، قال الله تعالى: (كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ) [القيامة: 20]، وقال تعالى: { إِنَّ هَؤُلَاء يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا } الإنسان: 27،  

 من النّاس من طلب العلم الشرعي للتفقه في الدين ، فحصّل من العلم النّافع الشّيء الكثير ، ولما بدأ في الدّعوة إلى الله اصطدم بواقعٍ مرير ، فتعرض للأذى من النّاس والحكّام، فلم يصبر على الأذى ، وأصبح من الذين يفتون ليرضوا النّاس في سخط الله .

 ومن النّاس من حصّل العلم النافع ودعا النّاس إليه ، وصبر على الأذى فيه ، ولكنّه خالط الحكام الظلمه    فأصبح من العلماء الفجرة، وقبل أن يبيع نفسه لهم بثمن بخس قال تعالى : { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث} الأعراف: 176، وقال الإمام ابن الجوزي: " من تلبيس إبليس على الفقهاء: مخالطتهم الأمراء والسّلاطين، ومداهنتهم وترك الإنكار عليهم مع القدرة على ذلك، وربما رخّصوا لهم فيما لا رخصة لهم فيه ، لينالوا من دنياهم عرضًا فيقع بذلك الفساد "  وقد يفتنوا فيطعنوا في العلماء الربانيين النّاصحين فيصفونهم بالخوارج والتكفيريين ، لينفّر النّاس عنهم وتخلو لهم السّاحة فيفتون على حسب هواهم وهوى السلطان .  

ومن المهم أن يفرق المسلّم بين علماء الحق وعلماء السّوء ، كي يسلك سبيل المهتدين ، ويحذر سبيل المجرمين، وقد كان هذا الأمر سهلًا في القديم ، يوم كانت الأمّة مسلّحة بالعلم النّافع والعمل الصّالح ، فقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (اعرف الحق تعرف أهله)، ولكن في زماننا هذا بعد أن تركت الأمّة العلم الشّرعي وتوجّهت نحو الدّنيا ، وتنافست في طلبها، وأصبح النّاس لا يفرّقون بين الحقّ وأهله ، والباطل وأهله، قال النّبي صلّى الله عليه وسلم: (إنّ الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يُبْقِ عالمًا اتَّخذ النّاس رؤوسًا جهالاً، فسُئِلوا فأفتوا بغير علمٍ فضلوا وأضلوا) رواه البخاري .

من صفات علماء السّوء أنهم لا يتبعون الكتاب والسّنة ، وإجماع سلف الأمّة ، بل يتبعون أهواءهم، ويكتمون العلم، ويلبسون الحق بالباطل، ولا يعملون بعلمهم، ويجعلون غايتهم الدّنيا وجمع الدّينار والدّولار ، فلا يهمهم أمر الأمّة ولا جراحها ولا أحزانها، قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ } البقرة: 159، قال الإمام السعدي في تفسيره: " فإن الله أخذ الميثاق على أهل العلم، بأن يبينوا للناس ما منّ الله به عليهم من علم الكتاب ولا يكتموه، فمن نبذ ذلك وجمع بين المفسدتين: كتم ما أنزل الله، والغش لعباد الله، فأولئك (يلعنهم الله) أي: يبعدهم ويطردهم عن قربه ورحمته، (ويلعنهم اللاعنون) وهم جميع الخليقة، فتقع عليهم اللعنة من جميع الخليقة، لسعيهم في غش الخلق وفساد أديانهم، وإبعادهم من رحمة الله، فكان الجزاء من جنس عملهم " . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة) رواه أبو داوود ، وقال الله تعالى: { وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } البقرة: 42، فمن لبس الحق بالباطل، فلم يميز هذا من هذا مع علمه بذلك، وكتم الحق الذي يعلمه وأمر بإظهاره، فهو من دعاة جهنم، لأن الناس لا يقتدون في أمر دينهم بغير علمائهم "، قال الفضيل ابن عياض: " سئل ابن المبارك: مَن الناس؟ قال: العلماء، قيل فمن الملوك؟ قال: الزهاد، قيل: فمن السفلة؟ قال: الذي يأكل بدينه .

 

 

 

التحذير من علماء السلاطين

علماء السلاطين، هم الذين اشتغلوا بالدين لدنياهم ودنيا غيرهم، وصاروا يضعون فتاواهم وعلمهم تحت طلب كل حاكم أو زعيم ، ومع ذلك فإنهم لم يخطوا حرفاً ضد الصليبية أو الصهيونية أو الشيوعية ، وما يحز في النفس ابتعادهم عن قول الحق، ووصولهم إلى ما هو أسوأ من ذلك بكثير، هو ارتماؤهم في أحضان السياسيين، ملوكاً كانوا أو زعماء ، في الوقت الذي نرى من الظلمة جوراً وسفوراً جهاراً نهاراً ، ونراهم يجتهدوا في إيجاد المخارج والبحث عن التبرير لهم ، ولم يكتفوا بإعانة الظلمة، بل لووا أعناق النصوص من أجل أن تبرير أعمالهم ، والوقوف خلفهم مدحاً وإطراء وتبجيلاً ، أهانوا أنفسهم قبل أن يضعوا من قدر ما حملوا ، بينما العلماء الحقيقيين ، يقبعون وراء الزنازين في بقاع العالم الإسلامي المختلفة. إن الله تبارك وتعالى توعّد علماء السّوء والضلال ،وأهل البدع والأهواء ، كلاب الدينار والدولار، باللعن والخذلان ودخول النار، قال الله تبارك وتعالى: (أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ) محمد: 14، وقال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) [البقرة: 159]، وقال تعالى: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [الأنعام: 144]، وقال تعالى: (وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ) النحل: 116،

وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من علماء السوء والضلال المتشبهين باليهود الكافرين، وبين لنا الأئمة الهداة أنّ فتنتهم عظيمة وشرهم كبير، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين) رواه أبو داوود والأئمة المضلون هم الحكام الجورة والعلماء الفجرة ، وكان غير واحد من السلف يقول: " احذروا فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون " . وقال الإمام ابن القيم: " علماء السوء جلسوا على أبواب الجنة يدعون إليها الناس بأقوالهم، ويدعونهم إلى النار بأفعالهم، فكلما قالت أقوالهم للناس: هلمّوا، قالت أفعالهم: لا تسمعوا منهم، فلو كان ما دَعوا إليه حقا كانوا أول المستجيبين له، فهم في الصورة أدلّاء وفي الحقيقة قطّاع طرق "،  

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة) رواه الترمذي . إن علماء كهؤلاء يجب هجرهم وترك الاستماع لهم والابتعاد عن تكثير سوادهم، سواء في المساجد أو أماكن اجتماعهم أو حتى في مواقع التواصل الاجتماعي ولا يجوز نقل كلامهم ولا نشره والإعجاب به، وهذا هو منهج السلف الصالح رضي الله عنهم، قال الإمام بكر أبو زيد: " إن كشف الأهواء، والبدع المضلة، ونقد المقالات المخالفة للكتاب، والسنة، وتعرية الدعاة إليها، وهجرهم، وتحذير الناس منهم، وإقصاءهم، والبراءة من فعلاتهم، سنة ماضية في تاريخ المسلمين في إطار أهل السنة " .  

إننا نجد في أحاديث الرسول ﷺ المتعلقة بالتحذير من علماء السوء تحذيرًا شديدًا، مخوِّفًا… وذلك لخطورة موقفهم وأثره السيئ في حياة المسلمين.

فقد أفتَوا بفتاوى ما أنزل الله بها من سلطان، أفتَوا بجواز الصلح مع يهود، وبجواز الاستعانة بالأميركان والتطبيع مع اليهود ، وبجواز المشاركة في الحكم بأحكام الطاغوت، وقد جاءت الأحاديث التي تبين عاقبة أفعالهم ، أخرج أبو داود، والبيهقي، عن أبي هريرة، رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: (ومن أتى أبواب السلاطين افتتن )  وأخرج ابن ماجه عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ﷺ: ( إن أبغض القراء إلى الله تعالى الذين يزورون الأمراء ) . وأخرج ابن ماجه بسند رواته ثقات، عن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: ( إن أناسًا من أمتي سيتفقهون في الدين، ويقرؤون القرآن   ويقولون نأتي الأمراء، فنصيب من دنياهم، ونعتزلهم بديننا. ولا يكون ذلك، كما لا يجتنى من القتاد إلا الشوك، كذلك لا يجتنى من قربهم إلا الخطايا ) . وأخرج الترمذي وصححه، والنسائي، والحاكم وصححه، قال رسول الله ﷺ: ( سيكون بعدي أمراء، فمن دخل عليهم فصدقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم، فليس مني، ولست منه، وليس بوارد عليَّ الحوض. ومن لم يدخل عليهم، ولم يعِنْهم على ظلمهم، ولم يصدقهم بكذبهم، فهو مني، وأنا منه، وهو وارد عليَّ الحوض ) . وأخرج الحسن بن سفيان في مسنده   والحاكم في تاريخه، وأبو نعيم، والعقيلي، والديلمي، والرافعي في تاريخه، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ:(العلماء أمناء الرسل على عباد الله ما لم يخالطوا السلطان، فإذا خالطوا السلطان فقد خانوا الرسل فاحذروهم، واعتزلوهم ) . وأخرج أبو الشيخ في «الثواب» عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ﷺ:(إذا قرأ الرجل القرآن وتفقه في الدين، ثم أتى باب السطان؛ تَمَلُّقًا إليه  وطمعًا لما في يده، خاض بقدر خطاه في نار جهنم ) . أخرج الديلمي، عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله ﷺ: ( يكون في آخر الزمان علماء يُرغِّبون الناس في الآخرة ولا يرغَبون، ويُزهِّدون الناس في الدنيا ولا يزهَدون، وينهَون عن غشيان الأمراء ولا ينتهون ) . وأخرج ابن أبي شيبة، والطبراني عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله ﷺ: ( إنها ستكون أمراء تعرفون وتنكرون، فمن ناوأهم نجا، ومن اعتزلهم سلم، أو كاد، ومن خالطهم هلك ) . وأخرج ابن عساكر، عن أبي أمامة الباهلي، قال: قال النبي ﷺ: ( أبعد الخلق من الله، رجل يجالس الأمراء، فما قالوا من جور صدقهم عليه ) . ورد عند البخاري من حديث أبي سعيد وأبي هريرة، رضي الله عنهما، أن رسول الله ﷺ قال: ( ما بعث الله من نبي، ولا استخلف من خليفة؛ إلا كانت له بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر، وتحضه عليه، والمعصوم من عصمه الله ) .

 

 

 

 

 

دروس وخطب

نقدم بين يديكم مجموعة من الدروس والخطب والمواعظ 

واسال الله ان يتقبل منا جميعا