حتى يُغَيَّروا
إن المؤمن بالله لا يخاف على الإسلام من خصومة رغم ما يملكون من أسلحة الدمار المتطورة ، ومن وسائل الغلب ، كما لا يكترث بتلك القوى المعدَّة ولا ما يكمن فيها من دمار .
وإنما يخاف أشدَّ الخوف ، عندما يرى المسلمين يتحللون من عهودهم مع الله ، وينسلخون من لباس التقوى ، وينساقون مع أعداء الدين ، كما يحزن أشدَّ الحزن ، عندما يرى مجتمعاً تموت فيه الصلاة أو شارعاً يموج بالكاسيات العاريات أو نادياً يعكف رواده على تبادل الأفكار المنحطة أو بلداً يعيش في أكفان الجاهلية وتقاليدها … إن هذا وذاك ما هو إلا عارض من عوارض الفناء وجانب من جوانب الهزيمة ، بل إنه الانتحار المؤكد ، والضياع لرسالتنا وديننا ، مما يفقدنا تأييد الله وعونه لنا .
وإذا كان لا بد من الحفاظ على حياتنا والإبقاء على عقيدتنا والنجاة من عدونا . لا بد أن نعود إلى إسلامنا جملةً وتفصيلاً ، لنكون مع الله ويكون الله معنا . أما أن نكتفي بالدعاء إلى الله أن يهلك أعدائنا ، وينصرنا عليهم دون إعداد واستعداد ، فذلك لعمري هو الجهل بعينه ، لأن الدين ليس جهازاً يعمل من تلقاء نفسه ، ولو شاء الله لقهر الناس على الهدى ، فلا يستطيعون المخالفة ولا الهبوط ولا الانحراف ، كما يجري قدره في السموات والأرض ، فيمضي كلُّ شيء في فلكه المقدور له ، لا يخرج عنه قيد أنمله .. حتى يغيّر الله نظام الكون كله في الموعد المقدور .
ولكن الله كرّم الإنسان ، فلم يجعله شيئاً يقهر على غير إرادةٍ منه ، بل جعله كائناً فعّالاً مريداً قادراً على اختيار أحد الطريقين : إما طريق الهدى وإما طريق الضلال ، وفي مقابل ذلك صار يحمل تبعة عمله ، وصار ما يحدث له ، يجري نتيجة لأعماله ، حسب سنن مقررة ، كشفها الله له لكي يهتدي على ضوئها ، ويضبط مساره بمقتضاها ، قال تعالى :] إن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم [الرعد 11. وقال :] ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض[الأعراف 96 .
هكذا يعمل الدين ، من خلال النفوس التي تحمله بقدر إقبالها عليه أو إدبارها عنه ، فقد جرت سنة الله تعالى في عباده أن يصلح أحوالهم ، إذا صلحت قلوبهم واستقامت أعمالهُم وأن ينـزل عليهم بأسه وعذابه ، إذا فسدت قلوبهم وأعمالهم ويستطيع الناس أن يعرفوا منـزلتهم عند الله حسب حالهم في هذه الدنيا وهنا تساؤلات : هل نحن في أمن وسعادة وتقدم ورضا ؟
أم في تأخرٍ وشقاء وتعب وبلاء ؟
بالنظر في واقع الناس هذه الأيام ، نرى أنهم يعانون من الشقاء والعناء ، والخوف والبلاء وكساد الحال وانتزاع البركة ، بالإضافة إلى الديون الباهظة التي تعاني منها دولُهم ، وأخلاق الناس لا تقل عن حالهم فساداً ، قلوبٌ مظلمة ونفوسٌ متقاطعة ونساءٌ متهتكة وشبابٌ متمرد ومساجدٌ مهجورة ، وفروضٌ متروكة وأعراضٌ رخيصة مبذولة ، كما تغيِّرت قلوبنا وبَعُدنا عن ديننا ، وفَرَّطنا في أوامر الله ، وارتكبنا محارم الله وقمة المصائب أنَّ الحكم بغير ما أنزل الله فتسلط علينا الأعداء وحاك بنا الضنك والضيق وضرب بعضنا رقاب بعض ، وجُعِلَ بأسنا بيننا جزاء ما جنته أيدينا ، وما الله بغافلٍ عنا وعن أعمالنا ، والممعن المتفحص في حال الناس ، يجد حالهم لا يتفق مع دينهم الذي يؤمنون به ، فهذا يحاربُ هذا ، وهذا يكيد لذاك ، بوسائل ينكرها الدين وتأباها الفضيلة ، وتتبرأ منها الكرامةُ والشرف .
فيا ليت الناس تعتبر وتنـزجر مما هي فيه وتعمل على الخلاص من ذلك ، لأن الله يكلم الناس بلسان الحوادث والعبر التي أنزلها وهدد بأعظم منها ، لعل الناس تستيقظ من نومها وتفيق من غفلتها .
لقد بلغت الشدَّةُ مننتهاها ، واستفحل الداء ولم يفد الدواء ، لأن صلاح الحال لا يزال في أيدينا إن نحن رجعنا إلى الله ، وطهرنا قلوبنا من الغلِّ والحقد والحسد والبغض ، واعتبرنا أنفسنا مخلصين متحابين ، وتواصينا بالعمل بكتاب الله وسنة رسوله الكريم ، وتجملنا بفضائل الدين وآدابه فأدينا الواجبات وهجرننا المحرمات . إننا إن قمنا بذلك نعافى من هذه الأمراض التي تتهدد الأمة وحياتها ونأمن من كيد الأعداء ومكرهم ، لأن الله تكفل بالمحافظة على عباده المخلصين فقال تعالى : ﴿ إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور﴾ الحج 38 .
فعلى المسلمين إذن تدارك الأمر ، بالرجوع إلى الله وإحياء سنة رسوله بالتمسك بهما ، وأن الملجأ من الأذى وشر الأعداء والأنفس يكون بنيل رضا الله . قال تعالى : ] ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا [ الطلاق 5 . وقال في نفس السورة : ]ومن يتق الله يجعل له مخرج [الطلاق3 . أما أن ينقسم المسلمون إلى أحزاب وشيع مما يؤدى إلى تفريق الأمة وتخاذلها واستهانة الأعداء بها فهذه جريمة لا تغتفر ، وخروج عن مبادئ الإسلام ، فكثير من الناس يؤمن بالمعتقدات والمبادئ السائدة في العالم من الرأسمالية إلى الاشتراكية التي أثبتت فشلها فتراجع عنها أهلها وإلى الديمقراطية التي لا تمت إلى الإسلام بصلة .
إن ديننا واضح لا لبس فيه ، إنه شريعة غراء وطريقة سمحاء ، ودستور مستقيم لا عوج فيه وما ظهور تلك الفئات في المجتمع الإسلامي إلا نوعاً من أنواع العذاب ، يضرب الله به على أمةٍ سخط الله عليها مصداقاً لقوله تعالى : ﴿ قل هو القادرُ على أن يبعث عليكمم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يَلْبِسَكُمْ شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض أنظر كيف تُصرِّفُ الآيات لعلهم يفقهون ﴾ الأنعام 66 .
وإن كان في مذاهبهم من يدّعي رحمة الفقير واليتيم ومساعدة المسكين ، فإن نظام الزكاة في ديننا يحقق ذلك وأكثر ، حيث حث على السخاء ، ورغب في الكرم ، وأمر بإغاثة الملهوف ومساعدة المحتاج والإيثار والمساواة ، هذا هو الإسلام فلم لا يطبقوه ويسيروا مع الحكمة القائلة " إذا أراد الله بقوم خيراً ولى أمرهم الحكماء وجعل المال عند السمحاء ، وإذا أراد الله بقوم شرّاً ، ولى أمرهم السفهاء وجعل المال عند البخلاء . إن الدعوة إلى العروبة وإلى القومية والوطنية والتقدمية وما شابه تلك الدعوات ، هي وليدة أفكار سخيفة ، لم تع الإسلام وتفهمه ، ولم تحط بسمو ما جاء به من أحكام ، بل إن لسان حالهم التفرقة بين فئات الأمة ، والتخاذل الذي أدى إلى هيمنة الأجنبي على مقدراتها ، وتمريغ كرامتها في الوحل ، وإن خلاصنا في الرجوع إلى الإسلام نعمل من أجل تطبيقه ، إسلام في جيوشه وقوته وجهاده ، لا يعرف هزيمة ولا يخشى بأساً ، ولا يرضى خنوعاً أو استسلاماً ، ولا يخاف قوةً ولا بطشاً ، إسلام استمد منه الأولون الروح الحية فكانوا في انطلاقهم وجهادهم كالعاصفة ، وفي صبرهم وثباتهم كالرواسي ، صبروا على البلاد وصدقوا في اللقاء ، وثبتوا في الشدائد وحرصوا على الموت في سبيل الله فوهبت لهم الحياة ، حياة العزة والسيادة والحكم ، هذا هو الإسلام ] صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون [ البقرة 138 إنه دين يهتم بالنفس والمجتمع والدولة على السواء هذا الدين أهمل عند نسبة كبيرة من المسلمين حتى أن المسلم يلمس قدرة الأغاني الخليعة والصور العارية على استثارة الغرائز ، وقدرة الكتابات المنحرفة على الاعوجاج وقدرة الغزو الثقافي على المحو والإثبات في حضارتنا الموروثة ، في الوقت الذي نلمس فيه فشل دعاة الدين في صنع شيء حتى الآن ، لأن امتلاكهم للآذان نصف ساعة في اليوم لا يجدي فتيلا ، أمام صنوف المؤثرات التي يروَّجُ لها ليل نهار ، والتي تجعل جهود المرشدين كمن يحاول إصلاح مياه البحر بقليل من السُّكر .
إن الله يأبى أن تكون صلتة بخلقة ساعةً كل أسبوع في مسجد ، وكأنها تُسرقُ من أوقاتهم الطويلة ثم ينطلقون بعدها في الحياة يصنعون ما يشتهون وتبقى لهم حريتهم فيما يفعلون أو يتركون فالسجين يؤذنُ له أن يكون حراً ساعة من الزمن يخرج من زنزانته لكنه لا يعتبرها حرّا وعلى هذا النحو العابر يُقْبِل الناس على الدين وهو عند الله غير مقبول ، لأن الإسلام ما جاء ليكون هذا حاله تحفظ له قيمةٌ اسميةٌ تافهة ، وهو في الحقيقة بمعزل عن الحياة قولاً و عملاً ، لأن زمام الحياة في أيدي أناس يُبعدون تعاليم الدين عن البت في كل شيء، ويرسلون الشهوات حتى لا يستطيع أحد الوقوف في طريقها .
ومن هنا امتلأ القرآن بالنذر التي تحذِّر من الفساد وتحض على الاستقامة ، وبين كيف كان مصير الأمم التي ظلمت وضلت ، والأمم التي أهملت الصلاة والقيام والزكاة ، وقل اكتراثها بهذه الفروض المقدسة وشاعت فيها رذائل الغش والرشوة والظلم والزنا واللواط والسكر والجبروت وأكل الربا والحكم في كل ذلك بغير ما أنزل الله قال تعالى : ] ذلك إن لم يكن ربك مهلكَ القرى بظلم واهلُها غافلون ولكلٍّ درجاتٌ مما عملوا وما ربك بغافل عما يعملون [ الأنعام 32 1. قال الله تعالى : ) إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ( . إن لله تعالى سنناً لا تتغير وقوانين لا تتبدل ، سنها الله تعالى ليسير عليها الكون وتنتظم عليها أسس البنيان وهي أن الله إذا أنعم على قوم بالأمن والعزة والرزق والتمكين في الأرض فإنه سبحانه وتعالى لا يزيل نعمه عنهم ولا يسلبهم إياها إلا إذا بدلوا أحوالهم وكفروا بأنعم الله ونقضوا عهده وارتكبوا ما حرم عليهم. هذا عهد الله ومن أوفى بعهده من الله ؟ فإذا فعلوا ذلك لم يكن لهم عند الله عهد ولا ميثاق فجرت عليهم سنة الله التي لا تتغير ولا تتبدل فإذا بالأمن يتحول إلى خوف والغنى يتبدل إلى فقر والعزة تؤل إلى ذلةٍ والتمكين إلى هوان . والمتأمل اليوم في حال المسلمين وما أصابهم من الضعف والهوان وما سلط عليهم من الذل والهوان على أيدي أعدائهم . يرى أمةً أسرفت على نفسها كثيراً وتمادت في طغيانها أمداً بعيداً واغترت بحلم الله وعفوه وحسبت أن ذلك من رضا الله عنها ونسيت أن الله يمهل ولا يهمل .
ومع أن قـضية التغيـير قضـية شـائكة ، وصعبة لكن هذا لا يعنـي عـدم بحثها والخوض فيها . والمشكلة أن بعض الغيورين والصالحين قد يغلبهم ما يجدون من الحماس لدينهم والغيرة على دعوتهم والرغبة في الإصلاح فيندفعون مع الإخلال بشروط التمكين ، فيهلكون ويُهلكون ، وقد أشار إلى هذه الفكرة الإمام ابن خلدون في مقدمته ، إشارة الخبير العارف بأحوال الأمم ، وسنن التغيير حيث يقول : [ومن هذا الباب أحوال الثوار القائمين بتغيير المنكر من العامة والفقهاء ، فإن كثيراً من المنتحلين للعبادة وسلوك طرق الدين يذهبون إلى القيام على أهل الجور من الأمراء داعين إلى تغيير المنكر والنهي عنه ، والأمر بالمعروف رجاء في الثواب عليه من الله ؛ فيكثر أتباعهم والمتشبثون بهم من الغوغاء والدهماء ويعرضون أنفسهم في ذلك للمهالك ، وأكثرهم يهلكون في تلك السبيل مأزورين غير مأجورين ، لأن الله سبحانه لم يكتب ذلك عليهم ، وإنما أمر به حيث تكون القدرة عليه ؛ قال r : ( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه ) وأحوال الملوك والدول راسخة قوية لا يزحزحها ويهدم بناءها إلا المطالبة القوية التي من ورائها عصبية القبائل والعشائر كما قدمناه .
وهكذا كان حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في دعوتهم إلى الله بالعشائر والعصائب ، وهم المؤيدون من الله بالكون كله لو شاء ؛ لكنه إنما أجرى الأمور على مستقر العادة والله حكيم عليم . فإذا ذهب أحد من الناس هذا المذهب وكان فيه محقاً قصّر به الانفراد عن العصبية ، فطاح في هوة الهلاك . وأمَّا إن كان من الملبسين بذلك في طلب الرئاسة فأجدر أن تعوقه العوائق وتنقطع به المهالك لأنه أمر الله لا يتم إلا برضاه وإعانته والإخلاص له والنصيحة للمسلمين ؛ ولا يشك في ذلك مسلم ، ولا يرتاب فيه ذو بصيرة . وهذا ما جرى فعلاً في عدد من التجارب الإسلامية المعاصرة ، التي نظرت إلى ما معها من الحق ، وما لديها من القوة ، ولكنها لم تنظر إلى ما يواجهها وينتظرها ، وما مع الآخرين وما لديهم ، فاصطدمت بصخرة الواقع الثقيل الذي يصعب تغييره على غير المتمرسين الصبورين . هذا فضلا عن أن سنة التغيير نفسها تحتاج إلي معرفة من خلال نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية وعبر التاريخ وتجاربه وأحداثه .
إنّ العناية بجانب واحد فحسب ، واعتبار أن تغييره هو الحل ، كتغيير الحاكم مثلاً ، هو تقصير في النظر واختزال للمسألة ، وإلغاء للمجتمع بأبعاده المختلفة فالإصلاح يتطلب تصوراً شمولياً يستهدف تربية الأمة بكل جوانبها على الإسلام وقيمه وأحكامه .
والشرع وإن جاء بأصول وأحكام محددة وواضحة إلا أنه راعى في تحويلها إلى صورتها العملية اعتبارات الواقع وظروفه وإمكانياته ، ومن ذلك أن جميع الأحكام الشرعية مرهونة بالاستطاعة كما في قوله تعالى : ) فاتقوا الله ما استطعتم ( وقوله : ) لا يكلـف الله نفساً إلا وسعها ( وقوله : ﴿ من استـطاع إليه سبيلاً ( . وكما في السنة فإن لم يستطع ( صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً ) . والاستطاعة تكون للفرد وللجماعة وتحديد مدى وجودها من عدمه يخضع لاعتبارات كثيرة وإدراك متطلبات الموقف ، والفعل ، والفعل المضاد . وبالعجز تسقط جميع الواجبات لكن يبقى وجوب السعي لتدارك هذا العجز ، وعدم الركون إليه وفرضٌ على الأمة أن تسعى في رفع كفاءتها وقدرتها العلمية والعملية ، والمستحيل لا وجود له إلا في عقول العاجزين وليس المقصود بالعجز تبرير الضعف والقعود والإخلاد ، لكن المقصود عدم الاستطاعة الذي ينتقل به المرء أو الجماعة أو الأمة من واجب إلى واجب آخر ، وليس إلى القعود والاستسلام لليأس .
حتى يُغَيَّروا
إن المؤمن بالله لا يخاف على الإسلام من خصومة رغم ما يملكون من أسلحة الدمار المتطورة ، ومن وسائل الغلب ، كما لا يكترث بتلك القوى المعدَّة ولا ما يكمن فيها من دمار .
وإنما يخاف أشدَّ الخوف ، عندما يرى المسلمين يتحللون من عهودهم مع الله ، وينسلخون من لباس التقوى ، وينساقون مع أعداء الدين ، كما يحزن أشدَّ الحزن ، عندما يرى مجتمعاً تموت فيه الصلاة أو شارعاً يموج بالكاسيات العاريات أو نادياً يعكف رواده على تبادل الأفكار المنحطة أو بلداً يعيش في أكفان الجاهلية وتقاليدها … إن هذا وذاك ما هو إلا عارض من عوارض الفناء وجانب من جوانب الهزيمة ، بل إنه الانتحار المؤكد ، والضياع لرسالتنا وديننا ، مما يفقدنا تأييد الله وعونه لنا .
وإذا كان لا بد من الحفاظ على حياتنا والإبقاء على عقيدتنا والنجاة من عدونا . لا بد أن نعود إلى إسلامنا جملةً وتفصيلاً ، لنكون مع الله ويكون الله معنا . أما أن نكتفي بالدعاء إلى الله أن يهلك أعدائنا ، وينصرنا عليهم دون إعداد واستعداد ، فذلك لعمري هو الجهل بعينه ، لأن الدين ليس جهازاً يعمل من تلقاء نفسه ، ولو شاء الله لقهر الناس على الهدى ، فلا يستطيعون المخالفة ولا الهبوط ولا الانحراف ، كما يجري قدره في السموات والأرض ، فيمضي كلُّ شيء في فلكه المقدور له ، لا يخرج عنه قيد أنمله .. حتى يغيّر الله نظام الكون كله في الموعد المقدور .
ولكن الله كرّم الإنسان ، فلم يجعله شيئاً يقهر على غير إرادةٍ منه ، بل جعله كائناً فعّالاً مريداً قادراً على اختيار أحد الطريقين : إما طريق الهدى وإما طريق الضلال ، وفي مقابل ذلك صار يحمل تبعة عمله ، وصار ما يحدث له ، يجري نتيجة لأعماله ، حسب سنن مقررة ، كشفها الله له لكي يهتدي على ضوئها ، ويضبط مساره بمقتضاها ، قال تعالى :] إن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم [الرعد 11. وقال :] ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض[الأعراف 96 .
هكذا يعمل الدين ، من خلال النفوس التي تحمله بقدر إقبالها عليه أو إدبارها عنه ، فقد جرت سنة الله تعالى في عباده أن يصلح أحوالهم ، إذا صلحت قلوبهم واستقامت أعمالهُم وأن ينـزل عليهم بأسه وعذابه ، إذا فسدت قلوبهم وأعمالهم ويستطيع الناس أن يعرفوا منـزلتهم عند الله حسب حالهم في هذه الدنيا وهنا تساؤلات : هل نحن في أمن وسعادة وتقدم ورضا ؟
أم في تأخرٍ وشقاء وتعب وبلاء ؟
بالنظر في واقع الناس هذه الأيام ، نرى أنهم يعانون من الشقاء والعناء ، والخوف والبلاء وكساد الحال وانتزاع البركة ، بالإضافة إلى الديون الباهظة التي تعاني منها دولُهم ، وأخلاق الناس لا تقل عن حالهم فساداً ، قلوبٌ مظلمة ونفوسٌ متقاطعة ونساءٌ متهتكة وشبابٌ متمرد ومساجدٌ مهجورة ، وفروضٌ متروكة وأعراضٌ رخيصة مبذولة ، كما تغيِّرت قلوبنا وبَعُدنا عن ديننا ، وفَرَّطنا في أوامر الله ، وارتكبنا محارم الله وقمة المصائب أنَّ الحكم بغير ما أنزل الله فتسلط علينا الأعداء وحاك بنا الضنك والضيق وضرب بعضنا رقاب بعض ، وجُعِلَ بأسنا بيننا جزاء ما جنته أيدينا ، وما الله بغافلٍ عنا وعن أعمالنا ، والممعن المتفحص في حال الناس ، يجد حالهم لا يتفق مع دينهم الذي يؤمنون به ، فهذا يحاربُ هذا ، وهذا يكيد لذاك ، بوسائل ينكرها الدين وتأباها الفضيلة ، وتتبرأ منها الكرامةُ والشرف .
فيا ليت الناس تعتبر وتنـزجر مما هي فيه وتعمل على الخلاص من ذلك ، لأن الله يكلم الناس بلسان الحوادث والعبر التي أنزلها وهدد بأعظم منها ، لعل الناس تستيقظ من نومها وتفيق من غفلتها .
لقد بلغت الشدَّةُ مننتهاها ، واستفحل الداء ولم يفد الدواء ، لأن صلاح الحال لا يزال في أيدينا إن نحن رجعنا إلى الله ، وطهرنا قلوبنا من الغلِّ والحقد والحسد والبغض ، واعتبرنا أنفسنا مخلصين متحابين ، وتواصينا بالعمل بكتاب الله وسنة رسوله الكريم ، وتجملنا بفضائل الدين وآدابه فأدينا الواجبات وهجرننا المحرمات . إننا إن قمنا بذلك نعافى من هذه الأمراض التي تتهدد الأمة وحياتها ونأمن من كيد الأعداء ومكرهم ، لأن الله تكفل بالمحافظة على عباده المخلصين فقال تعالى : ﴿ إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور﴾ الحج 38 .
فعلى المسلمين إذن تدارك الأمر ، بالرجوع إلى الله وإحياء سنة رسوله بالتمسك بهما ، وأن الملجأ من الأذى وشر الأعداء والأنفس يكون بنيل رضا الله . قال تعالى : ] ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا [ الطلاق 5 . وقال في نفس السورة : ]ومن يتق الله يجعل له مخرج [الطلاق3 . أما أن ينقسم المسلمون إلى أحزاب وشيع مما يؤدى إلى تفريق الأمة وتخاذلها واستهانة الأعداء بها فهذه جريمة لا تغتفر ، وخروج عن مبادئ الإسلام ، فكثير من الناس يؤمن بالمعتقدات والمبادئ السائدة في العالم من الرأسمالية إلى الاشتراكية التي أثبتت فشلها فتراجع عنها أهلها وإلى الديمقراطية التي لا تمت إلى الإسلام بصلة .
إن ديننا واضح لا لبس فيه ، إنه شريعة غراء وطريقة سمحاء ، ودستور مستقيم لا عوج فيه وما ظهور تلك الفئات في المجتمع الإسلامي إلا نوعاً من أنواع العذاب ، يضرب الله به على أمةٍ سخط الله عليها مصداقاً لقوله تعالى : ﴿ قل هو القادرُ على أن يبعث عليكمم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يَلْبِسَكُمْ شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض أنظر كيف تُصرِّفُ الآيات لعلهم يفقهون ﴾ الأنعام 66 .
وإن كان في مذاهبهم من يدّعي رحمة الفقير واليتيم ومساعدة المسكين ، فإن نظام الزكاة في ديننا يحقق ذلك وأكثر ، حيث حث على السخاء ، ورغب في الكرم ، وأمر بإغاثة الملهوف ومساعدة المحتاج والإيثار والمساواة ، هذا هو الإسلام فلم لا يطبقوه ويسيروا مع الحكمة القائلة " إذا أراد الله بقوم خيراً ولى أمرهم الحكماء وجعل المال عند السمحاء ، وإذا أراد الله بقوم شرّاً ، ولى أمرهم السفهاء وجعل المال عند البخلاء . إن الدعوة إلى العروبة وإلى القومية والوطنية والتقدمية وما شابه تلك الدعوات ، هي وليدة أفكار سخيفة ، لم تع الإسلام وتفهمه ، ولم تحط بسمو ما جاء به من أحكام ، بل إن لسان حالهم التفرقة بين فئات الأمة ، والتخاذل الذي أدى إلى هيمنة الأجنبي على مقدراتها ، وتمريغ كرامتها في الوحل ، وإن خلاصنا في الرجوع إلى الإسلام نعمل من أجل تطبيقه ، إسلام في جيوشه وقوته وجهاده ، لا يعرف هزيمة ولا يخشى بأساً ، ولا يرضى خنوعاً أو استسلاماً ، ولا يخاف قوةً ولا بطشاً ، إسلام استمد منه الأولون الروح الحية فكانوا في انطلاقهم وجهادهم كالعاصفة ، وفي صبرهم وثباتهم كالرواسي ، صبروا على البلاد وصدقوا في اللقاء ، وثبتوا في الشدائد وحرصوا على الموت في سبيل الله فوهبت لهم الحياة ، حياة العزة والسيادة والحكم ، هذا هو الإسلام ] صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون [ البقرة 138 إنه دين يهتم بالنفس والمجتمع والدولة على السواء هذا الدين أهمل عند نسبة كبيرة من المسلمين حتى أن المسلم يلمس قدرة الأغاني الخليعة والصور العارية على استثارة الغرائز ، وقدرة الكتابات المنحرفة على الاعوجاج وقدرة الغزو الثقافي على المحو والإثبات في حضارتنا الموروثة ، في الوقت الذي نلمس فيه فشل دعاة الدين في صنع شيء حتى الآن ، لأن امتلاكهم للآذان نصف ساعة في اليوم لا يجدي فتيلا ، أمام صنوف المؤثرات التي يروَّجُ لها ليل نهار ، والتي تجعل جهود المرشدين كمن يحاول إصلاح مياه البحر بقليل من السُّكر .
إن الله يأبى أن تكون صلتة بخلقة ساعةً كل أسبوع في مسجد ، وكأنها تُسرقُ من أوقاتهم الطويلة ثم ينطلقون بعدها في الحياة يصنعون ما يشتهون وتبقى لهم حريتهم فيما يفعلون أو يتركون فالسجين يؤذنُ له أن يكون حراً ساعة من الزمن يخرج من زنزانته لكنه لا يعتبرها حرّا وعلى هذا النحو العابر يُقْبِل الناس على الدين وهو عند الله غير مقبول ، لأن الإسلام ما جاء ليكون هذا حاله تحفظ له قيمةٌ اسميةٌ تافهة ، وهو في الحقيقة بمعزل عن الحياة قولاً و عملاً ، لأن زمام الحياة في أيدي أناس يُبعدون تعاليم الدين عن البت في كل شيء، ويرسلون الشهوات حتى لا يستطيع أحد الوقوف في طريقها .
ومن هنا امتلأ القرآن بالنذر التي تحذِّر من الفساد وتحض على الاستقامة ، وبين كيف كان مصير الأمم التي ظلمت وضلت ، والأمم التي أهملت الصلاة والقيام والزكاة ، وقل اكتراثها بهذه الفروض المقدسة وشاعت فيها رذائل الغش والرشوة والظلم والزنا واللواط والسكر والجبروت وأكل الربا والحكم في كل ذلك بغير ما أنزل الله قال تعالى : ] ذلك إن لم يكن ربك مهلكَ القرى بظلم واهلُها غافلون ولكلٍّ درجاتٌ مما عملوا وما ربك بغافل عما يعملون [ الأنعام 32 1. قال الله تعالى : ) إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ( . إن لله تعالى سنناً لا تتغير وقوانين لا تتبدل ، سنها الله تعالى ليسير عليها الكون وتنتظم عليها أسس البنيان وهي أن الله إذا أنعم على قوم بالأمن والعزة والرزق والتمكين في الأرض فإنه سبحانه وتعالى لا يزيل نعمه عنهم ولا يسلبهم إياها إلا إذا بدلوا أحوالهم وكفروا بأنعم الله ونقضوا عهده وارتكبوا ما حرم عليهم. هذا عهد الله ومن أوفى بعهده من الله ؟ فإذا فعلوا ذلك لم يكن لهم عند الله عهد ولا ميثاق فجرت عليهم سنة الله التي لا تتغير ولا تتبدل فإذا بالأمن يتحول إلى خوف والغنى يتبدل إلى فقر والعزة تؤل إلى ذلةٍ والتمكين إلى هوان . والمتأمل اليوم في حال المسلمين وما أصابهم من الضعف والهوان وما سلط عليهم من الذل والهوان على أيدي أعدائهم . يرى أمةً أسرفت على نفسها كثيراً وتمادت في طغيانها أمداً بعيداً واغترت بحلم الله وعفوه وحسبت أن ذلك من رضا الله عنها ونسيت أن الله يمهل ولا يهمل .
ومع أن قـضية التغيـير قضـية شـائكة ، وصعبة لكن هذا لا يعنـي عـدم بحثها والخوض فيها . والمشكلة أن بعض الغيورين والصالحين قد يغلبهم ما يجدون من الحماس لدينهم والغيرة على دعوتهم والرغبة في الإصلاح فيندفعون مع الإخلال بشروط التمكين ، فيهلكون ويُهلكون ، وقد أشار إلى هذه الفكرة الإمام ابن خلدون في مقدمته ، إشارة الخبير العارف بأحوال الأمم ، وسنن التغيير حيث يقول : [ومن هذا الباب أحوال الثوار القائمين بتغيير المنكر من العامة والفقهاء ، فإن كثيراً من المنتحلين للعبادة وسلوك طرق الدين يذهبون إلى القيام على أهل الجور من الأمراء داعين إلى تغيير المنكر والنهي عنه ، والأمر بالمعروف رجاء في الثواب عليه من الله ؛ فيكثر أتباعهم والمتشبثون بهم من الغوغاء والدهماء ويعرضون أنفسهم في ذلك للمهالك ، وأكثرهم يهلكون في تلك السبيل مأزورين غير مأجورين ، لأن الله سبحانه لم يكتب ذلك عليهم ، وإنما أمر به حيث تكون القدرة عليه ؛ قال r : ( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه ) وأحوال الملوك والدول راسخة قوية لا يزحزحها ويهدم بناءها إلا المطالبة القوية التي من ورائها عصبية القبائل والعشائر كما قدمناه .
وهكذا كان حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في دعوتهم إلى الله بالعشائر والعصائب ، وهم المؤيدون من الله بالكون كله لو شاء ؛ لكنه إنما أجرى الأمور على مستقر العادة والله حكيم عليم . فإذا ذهب أحد من الناس هذا المذهب وكان فيه محقاً قصّر به الانفراد عن العصبية ، فطاح في هوة الهلاك . وأمَّا إن كان من الملبسين بذلك في طلب الرئاسة فأجدر أن تعوقه العوائق وتنقطع به المهالك لأنه أمر الله لا يتم إلا برضاه وإعانته والإخلاص له والنصيحة للمسلمين ؛ ولا يشك في ذلك مسلم ، ولا يرتاب فيه ذو بصيرة . وهذا ما جرى فعلاً في عدد من التجارب الإسلامية المعاصرة ، التي نظرت إلى ما معها من الحق ، وما لديها من القوة ، ولكنها لم تنظر إلى ما يواجهها وينتظرها ، وما مع الآخرين وما لديهم ، فاصطدمت بصخرة الواقع الثقيل الذي يصعب تغييره على غير المتمرسين الصبورين . هذا فضلا عن أن سنة التغيير نفسها تحتاج إلي معرفة من خلال نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية وعبر التاريخ وتجاربه وأحداثه .
إنّ العناية بجانب واحد فحسب ، واعتبار أن تغييره هو الحل ، كتغيير الحاكم مثلاً ، هو تقصير في النظر واختزال للمسألة ، وإلغاء للمجتمع بأبعاده المختلفة فالإصلاح يتطلب تصوراً شمولياً يستهدف تربية الأمة بكل جوانبها على الإسلام وقيمه وأحكامه .
والشرع وإن جاء بأصول وأحكام محددة وواضحة إلا أنه راعى في تحويلها إلى صورتها العملية اعتبارات الواقع وظروفه وإمكانياته ، ومن ذلك أن جميع الأحكام الشرعية مرهونة بالاستطاعة كما في قوله تعالى : ) فاتقوا الله ما استطعتم ( وقوله : ) لا يكلـف الله نفساً إلا وسعها ( وقوله : ﴿ من استـطاع إليه سبيلاً ( . وكما في السنة فإن لم يستطع ( صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً ) . والاستطاعة تكون للفرد وللجماعة وتحديد مدى وجودها من عدمه يخضع لاعتبارات كثيرة وإدراك متطلبات الموقف ، والفعل ، والفعل المضاد . وبالعجز تسقط جميع الواجبات لكن يبقى وجوب السعي لتدارك هذا العجز ، وعدم الركون إليه وفرضٌ على الأمة أن تسعى في رفع كفاءتها وقدرتها العلمية والعملية ، والمستحيل لا وجود له إلا في عقول العاجزين وليس المقصود بالعجز تبرير الضعف والقعود والإخلاد ، لكن المقصود عدم الاستطاعة الذي ينتقل به المرء أو الجماعة أو الأمة من واجب إلى واجب آخر ، وليس إلى القعود والاستسلام لليأس .