متفرقات

متفرقات

متفرقات

قصة خاتم سليمان عليه السلام

 لقد اشتهرت وانتشرت في معظم التفاسير المشهورة وتناقلها القصاص والوعاظ  وهي من الإسرائيليات الموضوعة ، التي تطعن في الأنبياء  وهي من المفتريات التي تصدّى لها علماء المسلمين ومحدثوهم وبينوا زيفها وبطلانها .

أما القصة كما وردت في تفسير الطبري ، روي عن ابن عباس قال: ( كان الذي أصاب سليمان بن داود في سبب أناس من أهل امرأة يقال لها جرادة ، وكانت من أكرم نسائه عليه قال : فكان هوى سليمان أن يكون الحق لأهل الجرادة فيقضي لهم ، فعوقب حين لم يكن هواه فيهم واحدًا . قال : وكان سليمان بن داود إذا أراد أن يدخل الخلاء ، أو يأتي شيئًا من نسائه ، أعطى الجرادة خاتمه  فلما أراد اللَّه أن يبتلي سليمان بالذي ابتلاه به أعطى الجرادة ذات يوم خاتمه ، فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال لها : هاتي خاتمي فأخذه فلبسه ، فلما لبسه دانت له الشياطين والجن والإنس، قال: فجاءها سليمان فقال: هاتي خاتمي، فقالت كذبت، لست بسليمان، قال: فعرف سليمان أنه بلاء ابتلي به، قال: فانطلقت الشياطين فكتبت في تلك الأيام كتبًا فيها سحر وكفر، ثم دفنوها تحت كرسي سليمان، ثم أخرجوها وقرءوها على الناس وقالوا : إنما كان سليمان يغلب الناس بهذه الكتب، قال : فبرئ الناس من سليمان وأكفروه ، حتى بعث اللَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه جل ثناؤه:  ] واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان [ يعني الذي كتب الشياطين من السحر والكفر : ] وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا [ البقرة 102 . وقد رويت  قصة أخرى باطلة ترتبط بهذه القصة تبين ما كتبته الشياطين .   عن شهر بن حوشب قال: ( لما سُلِب سليمان ملكه ، كانت الشياطين تكتب السحر في غيبة سليمان فكتبت  من أراد أن يأتي كذا وكذا  فليستقبل الشمس وليقل كذا وكذا ومن أراد أن يفعل كذا وكذا ، فليستدبر الشمس وليقل كذا وكذا ) . فكتبته وجعلت عنوانه: ( هذا ما كتب آصف بن برخيا للملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم )  ثم دفنته تحت كرسيه فلما مات سليمان ، قام إبليس خطيبًا فقال : يا أيها الناس ، إنَّ سليمان لم يكن نبيًا ، وإنما كان ساحرًا فالتمسوا سحره في متاعه وبيته ، ثم دلَّهم على المكان الذي دفن فيه ، فقالوا : والله لقد كان سليمان ساحرًا ، هذا سحره ، بهذا تعبَّدنا وبهذا قهرنا ، فقال المؤمنون : بل كان نبيًا مؤمنًا ، فلما بعث اللَّه محمدًا r جعل يذكر الأنبياء حتى ذكر داود وسليمان   فقالت اليهود : انظروا إلى محمد يخلط الحق بالباطل يذكر سليمان مع الأنبياء وإنما كان ساحرًا يركب الريح ، فأنزل اللَّه تعالى : ] واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان [    هذه القصة التي أخرجها ابن جرير في تفسيره  عن ابن عباس ، والقصة الأخرى المرتبطة أخرجها أيضًا ابن جرير في تفسيره عن شهر بن حوشب وأورد القصة الثعلبي في قصص الأنبياء وفيها بيان لأحد نساء سليمان وهي الجرادة بنت الملك صيدون ، تلك القصة التي وضعها الوضاعون وجعلوا هذه المرأة سببًا في سلب ملك داود ، حيث قال الثعلبي : روى محمد بن إسحاق عن بعض العلماء أن سليمان أخبر أن في جزيرة من جزائر البحر رجلاً يقال له: صيدون ملك عظيم الشأن لم يكن للناس إليه سبيل لمكانه في البحر ، وكان اللَّه قد آتى سليمان في ملكه سلطانًا لا يمتنع عليه شيء في بر ولا بحر، فخرج إلى تلك المدينة فحملته الريح على ظهرها حتى نزل عليها بجنوده من الجن والإنس فقتل ملكها وسبى ما فيها ، فأصاب فيما أصاب بنتًا لذلك الملك يقال لها جرادة لم ير مثلها حسنًا وجمالاً فاصطفاها لنفسه ودعاها للإسلام فأسلمت على يديه في الظاهر خيفة منه وقلة ثقة   فأحبها حبًا شديدًا لم يحبه أحدًا من نسائه وكانت منزلتها عنده منزلة عظيمة ، وكانت على منزلتها عنده لا يذهب حزنها ولا يرقأ دمعها ، فشق ذلك على سليمان فقال لها : ويحك ، ما هذا الحزن الذي لا يذهب والدمع الذي لا يرقأ ، فقالت : إني أذكر أبي وأذكر ملكه وسلطانه وما كان فيه يحزنني ذلك، فقال لها سليمان: قد أبدلك اللَّه ملكًا هو أعظم من سلطانه ، قالت : إن ذلك حق ولكني إذا ذكرته أصابني ما ترى من الحزن فلو أنك أمرت الشياطين يصورون لي صورته في داري التي أنا فيها أراه بكرة وعشية لرجوت أن يذهب ذلك حزني ويسليني عن بعض ما أجد في نفسي ، فأمر سليمان الشياطين أن يمثلوا لها صورة أبيها في دارها حتى لا تنكر منه شيئًا فمثلوه لها حتى نظرت إلى أبيها بعينه إلا أنه لا روح فيه ، فعمدت إليه حين صنعوه فأزّرته وقمّصته وعمّمته وردته بمثل ثيابه التي كان يلبسها   ثم أنها كانت إذا خرج سليمان من دارها تغدو ، إليه في ولائدها فتسجد له ويسجدن له معها كما كانت تصنع معه في ملكه .

هذه القصة كما رويت قصةٌ واهية ومنكرة ولا أصل لها عن النبي صلى الله عليه وسلم  بل هي من الأخبار المقطوعة والموقوفة المنكرة ، وهي من الأخبار التي أوردها ابن جرير رحمه اللَّه ، وقد أسندها   ومن التخريج يتبين أن جميع طرق القصة لم يوجد بها الخبر الصحيح المسند  . كما أن الأخبار المقطوعة والموقوفة التي جاءت بها القصة واهية منكرة  وإن تعجب فعجب كيف يكون هذا مصير نبي ابن نبي؟ والأعجب كيف يذكر في كتب التفاسير والسنن مثل هذه الأخبار ؟!

أما القصة الأخرى الباطلة التي ترتبط بهذه القصة تمام الارتباط كما بيَّنا آنفًا فهي أوهى من السابقة   كما أن قصة عبادة التماثيل في دار سليمان النبي : وهي قصة باطلة وهي مرتبطة بالقصتين السابقتين تمام الارتباط ، وهي أوهى من السابقتين حيث قال الثعلبي : وسند هذه القصة مظلم باطل بالتدليس والجهالة .  وهناك قرائن تدل على أن هذه القصة من الإسرائيليات : قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللَّه في «مجموع الفتاوى» (15/148- 150): «وما ينقلونه في ذلك ليس هو عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا مستند لهم فيه إلا النقل عن بعض أهل الكتاب ، وقد عرف كلام اليهود في الأنبياء وغضبهم منهم   كما قالوا في سليمان ما قالوا ، قالوا في داود ما قالوا ، فلو لم يكن معنا ما يرد نقلهم لم نصدقهم فيما لم نعلم صدقهم فيه ، فكيف نصدقهم فيما قد دل القرآن على خلافه  أما هذه القصص التي أوردناها فقد أوردها ابن كثير في «تفسيره» للآية (102 البقرة)30:  وقال: «وأرى هذه كلها من الإسرائيليات».وقال: «الظاهر أنه إنما تلقاه ابن عباس رضي اللَّه عنه - إن صح عنه - من أهل الكتاب وفيهم طائفة لا يعتقدون بنبوة سليمان عليه السلام ، فالظاهر أنهم يكذبون عليه ». اهـ. وقال: «وحاصلها راجع في تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيل إذ ليس فيها حديث مرفوع صحيح متصل الإسناد إلى الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى  وظاهر سياق القرآن إجمال القصة من غير بسط ، ولا إطناب فيها، فنحن نؤمن بما ورد في القرآن على ما أراد اللَّه تعالى، والله أعلم  .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

موقف الإسلام من العلاقات الجنسية

 

إن الإسلام يوجهنا توجيهات عملية مفيدة في جميع شؤون الحياة بما في ذلك العلاقات الجنسية البشرية ، وقد حرّمها خارج حدود إطار عقد الزوجية ، ورتب لها عقوبة دنيوية وعقوبة أخروية ، لأن الزواج هو القناة الوحيدة التي يسمح فيها بالعلاقة الجنسية بين الجنسين . وإن السلوك الجنسي وجميع الأفعال الجنسية ومقدماتها ليست مشروعة ، إلا تحت مظلة الزواج الشرعي ، لذلك جاءت النصوص تحث على الزواج وترغب فيه ، فقال صلى الله عليه وسلم : ( ثلاث حق على الله عونهم : المجاهد في سبيل الله ، والمكاتب الذي يريد الأداء ، والناكح الذي يريد العفاف ) رواه الترمذي     وقال صلى الله عليه وسلم : ( من كان موسراً لأن ينكح ثم لم ينكح فليس مني )  رواه الطبراني  . ويشدد الإسلام على الوقاية من الجرائم الأخلاقية ، والابتعاد عن الظروف والعوامل التي تساعد على انتشار هذه الجرائم ، وتنص الشريعة الإسلامية على عقوبات شديدة ضد جرائم الجنس ، كالزنا واللواط والاغتصاب التي يعتبرها الإسلام مخالفة لتعاليمه المتعلقة بالمجتمع والعائلة قال تعالي : { ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً } سورة الإسراء 32  .  ويشدد قانون العقوبات الإسلامي ، على استقرار وأمن الحياة العائلية ، فاعتبر الزواج  حجر الأساس في بناء العائلة ، وبالتالي أساس استقرار المجتمع ، فكان الزواج عقد شرعي قانوني بين الرجل والمرأة ، يتعاهدان فيه على الحياة المشتركة وفقاً لأحكام الشريعة التي يؤمنون بها .

 

ومن المبادئ التي قررها الإسلام ، أنه إذا حرم شيئاً حرم ما يؤدي إليه ويبعث عليه من وسائل ، كالإثارة ، والخلوة الآثمة  والصورة العارية ، ومن هنا قرر الإسلام أن   " ما يؤدى إلى الحرام فهو حرام " . ومما هو مقرر أيضاً في الإسلام حرمة النظر إلى العورات ، ولو كان من رجل إلى رجل ، أو من امرأة إلى امرأة بشهوة أو بغير شهوة ، وقد نهى رسول الله  صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : ( لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ، ولا تنظر المرأة إلى عورة المرأة ، ولا يُفضي الرجل إلى الرجل في الثوب الواحد ولا المرأة إلى المرأة في الثوب الواحد ) مسلم وأحمد وأبو داود والترمذي . ولهذا اعتبر الإسلام مشاهدة عورات الرجال والنساء حرام ، حتى ولو كانت العورات المشاهدة صوراً في أفلام ، اللهم إلا إذا دعت هناك ضرورة طبية تفرض إطلاع الطبيب على هذه العورات للعلاج . والضرورة تقدر بقدرها . وعليه فإنه يحرم النظر إلى الأفلام الجنسية التي تعرض مناظر العورات المكشوفة ، سواء للزوج أو للزوجة ، لأن النظر إلى هذه العورات محرم شرعاً   وهو انحراف عن الفطرة المستقيمة التي فطر الله الناس عليها  وإن إنتاجها ما هو إلا وسيلة لتفجير الغرائز وتدمير القيم  ولأن مشاهدة الأمور الإباحية تخرج الإنسان من سلامة النفس  وطهارة الروح ، وتدخله في حالة من الدنس النفسي والروحي   التي تؤرقه وتنغص عليه حياته وتقض مضجعه ، لأن الإنسان المسلم يعيش بذهنية وعقلية تعلي قيمة العفة عنده ، وتزدري الفحش والابتذال ، ولذلك عندما يشاهد هذه الأمور ، يحدث له ازدواجية وتناقض في نفسيته ، ومن جهة أخرى كيف يكون هذا الإنسان بين زوجته وأولاده مربياً وراعياً للفضيلة والأخلاق ، وبينه وبين نفسه إنساناً فاسقاً مشاهداً للفحش والدعارة والزنا والابتذال ، ألا يشعر في هذه الحالة بوخز الضمير ، كما يحدث لكل إنسان مقيم على معصية ، كمن يسرق ومن يشرب الخمر، ومن يسعى بالغيبة والنميمة بين الناس ، فهو يشعر ويعرف الذنب الذي اقترفه وضميره يؤنبه  وهكذا يعيش في رحلة تأنيب للضمير وازدواجية في النفس والروح ، وهذه أسوأ حياة يمكن أن يحياها الإنسان . إن مشاهدة الأفلام الجنسية حرام ، لأنها من الوسائل المؤدية إلى الانحلال والفساد الأخلاقي ، كما أن الصور العارية حرام لأن فيها انتهاكاً للمحرمات ، والنظر إلى ما حرم الله . والإسلام يحارب الفساد والانحلال بمختلف ألوانه وأشكاله ، ويقطع كل الطرق التي تؤدي إليه ، ولا شك أن الأفلام الإباحية والصور العارية مظهر من مظاهر الانحلال والفساد ، وأنها من الوسائل المؤدية إليه ، لذلك لا شك في حرمة مشاهدة الأفلام الإباحية والصور الخليعة ، لأن للوسائل أحكام المقاصد كما قرر فقهاء الإسلام .  قال العز بن عبد السلام :" للوسائل أحكام المقاصد   فالوسيلة إلى أفضل المقاصد ، هي أفضل الوسائل ، والوسيلة إلى أرذل المقاصد هي أرذل الوسائل" . ومن المعروف عند العقلاء أن مشاهدة الأفلام الجنسية ، والصور الخليعة وسيلة من وسائل انتشار الفساد الخلقي والانحلال ، وانتشار الموبقات  وقد تؤدي إلى الزنا واللواط ، وما أدى إلى الحرام فهو حرام  وقد سمعنا وقرأنا عن حوادث كثيرة كان سببها مشاهدة تلك الأفلام الساقطة  والصور الخليعة كالزنا واللواط وخاصة ممارسة اللواط مع الزوجات ، وغير ذلك من المفاسد الأخلاقية .

 

وإذا كان الرسول يحرِّم على الزوجة أن تصف لزوجها المرأة فيقول صلى الله عليه وسلم : ( لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها ) رواه البخاري . ومعنى الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم ينهى المرأة أن ترى امرأة أخرى وهي عارية ، وبعد ذلك تقوم بوصفها لزوجها فتجعله يفتتن بالمرأة الموصوفة ، ومن المعلوم أن هذا الوصف يجعل الزوج يتخيل تلك المرأة بصفاتها ، التي نُقلت إليه من زوجته ، ومع أن الأمـر يتعلق بالخيال فقط ، فقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عنه ، فما بالك بمشاهدة الأفلام الجنسيـة  حيـث الصوت والصورة ، ألا يؤدي هذا إلى مفسدة أعظم من مجرد التفكير بامرأة وصفت له .

 

جاء في كتاب أحكام النظر للشيخ علي الحموي معلقاً على هذا الحديث " تالله لقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في ما ذكر ، لأن الرجل الأجنبي إذا سمع وصف امرأة أجنبية ، تشكلت في قلبه ، وانطبعت في مرآة نفسه ، ويوحي الشيطان لعنه الله له عند ذلك كلاماً من غروره وأمانيه ، ويحول بينه وبين تقوى الله ومرضاته   وتخطر له هنالك خواطر قبيحة ، وهواجس ذميمة ، فتارة بالزنا وتارة بالفحشاء " . وهذا يحدث نتيجة التفكير في امرأة ، علماً بأن ما ينتج عن مشاهدة الأفلام الجنسية ، لهو أعظم وأخطر بكثير مما وصف الشيخ المذكور .

 

إنني لا أظن أن مسلماً تقياً يعرف مقاصد الشرع الشريف يقول بجواز ذلك ، هذا إذا أضفنا إلى ما تقدم ، أن إعداد الأفلام الجنسية والصور العارية حرام ، لأن فيها انتهاكاً للمحرمات ، والنظر إلى ما حرم الله ، كما أن نشر تلك الأفلام حرام   وطبع تلك الصور حرام ، وترويج ذلك ونشره حرام أيضاً ، بل إن القضية كلها تدور ضمن دائرة التحريم . لأن هذه الأفلام القبيحة قد تحوي ممارسات لا تحل في دين الله تعالى ، كإتيان الحائض أو إتيان المرأة في دبرها ، أو غير ذلك مما يكون فاعله عرضة لسخط الله عز وجل ، وقد يحاول مدمنها أن يطبق ما يرى ، فلا ينال إلا غضب الله ونكاله ، والنظر إلى هذه الأفلام لا شك في تحريمه مطلقا على الرجال والنساء ، المتزوج منهم وغير المتزوج  وهذا النظر المحرم له نتائج سيئة على الإنسان حيث أنه يضعف الإيمان ، ويقسّي القلب ، ويبعد عن الله سبحانه ، ويضعف هيبته في قلبه ، ويوهن البدن ، ويمحق بركة الرزق .  ولتدمير القيم والأخلاق عند المسلمين فإن هناك أكثر من 500 قناة فضائية مابين عربية وأوربية وأمريكية وآسيوية ، تنشر انحرافاتها العقدية والأخلاقية والاجتماعية على المجتمعات الإسلامية ، بلا خصوصية ولا مراعاة لدين ولا عرف .

 

وإن هذا الأمر لا يلقى اهتماماً لدى المسئولين في بلاد المسلمين   كاهتمام المسئولين   في دول الغرب ، كالصين واليابان وكندا وبريطانيا وفرنسا وغيرها التي أصبحت تخاف على ثقافتها ومواطنيها ، من أثر الانفتاح الإعلامي الغير منضبط ، ومن ذلك ما قام به وزير الثقافة البريطاني ( كريس سميث ) من فرض الحظر على بعض القنوات التي تعرض الجنس ، حمايةً للمجتمع البريطاني ، وما صرح به رئيس وزراء كندا ( ترونو ) من خطورة تأثير الثقافة الأمريكية على الشعب الكندي .

 

لقد أصبحت هذه القنوات مدرسة للانحراف ، وتعليم  الجريمة وتفجير الغرائز وتدمير القيم ، كما تشير بعض الدراسات والإحصائيات ، ولعل الواقع وما تشهده السجون ، خير شاهد على تلك الظواهر الخطيرة ، التي بدأت تتفشى في المجتمع  .

 

إنّ هذه القنوات تدور في الأغلب الأعم على الجنس ، فالذي يشاهدها  يكتشف أنّ موضة الجنس هي السائدة ، تقلب الريموت بين أصابعك ، فتشاهد المذيع الكبير يناقش الجنس على الهواء في أوربت . تنتقل إلي art فتجد الدكتورة تناقش الجنس  تهرب إلى LBC فيصدمك الحوار المباشر حول الجنس ، بالإضافة إلى المجلات الفضائية كمجلة الستلايت والفضائية التي تقوم بالدور المساند لما تقوم به هذه القنوات الفضائية ، وذلك بنشر أدلة برامج القنوات وتذليل المصاعب الفنية فيها  وقد اطلعت على استبيان يشير إلى أنّ ما نسبته 46% من أطفال الابتدائي شاهدوا لقطات جنسية حيّة من بعض الفضائيات   وذلك من خلال إحدى الاستبيانات المدرسية. إن هذه القنوات  هي من أخطر أنواع التدمير وإنها تصيب الأمة في مقتل وفي أعز ما تملك : في شبابها وشاباتها . ألقاه في اليمّ مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء .

 

إنّ آهات المجالس وأنّات البيوت ، وصيحات العقلاء لا تجدي  ما لم يتخذ قرار تنفيذي لا شكلي ، يعاقب على التحلل الأخلاقي والانفلات الاجتماعي ، قبل أن تغرق السفينة . ثمّ إنّ هذه الآهات والأنّات وتلك الصيحات ، لا تجدي ما لم تتحول إلى فعل  بشأن ضبط وتنظيم تلك القنوات . والمطالبة بدور فاعل لصنّاع القرار ، لاسيما وأنّ القدرة على الضبط والتنظيم مقدور عليها ، إذا صدقت النيات وبذلت الجهود والمساعي  واستشعرت المسئولية العظيمة تجاه هذا المجتمع المسلم وأجياله القادمة . اللهم إن هذا إعذار وإنذار ، وصيحة ورجاء ، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل أن تغرق السفينة . اللهم هل بلغنا ؟ اللهم فاشهد .

 

 

 

  

 

 

 

موقف الإسلام من الشائعات

  يمكن أن نعرف الشائعات بأنها: "الأقوال والأحاديث والروايات التي يتناقلها الناس دون التأكد من صحتها بل دون التحقق من صدقها ".

 إن الشائعات من أخطر الحروب المعنوية ، والأوبئة النفسية  لأنها تستهدف عمق الإنسان وعطاءه ، وقيمه ونماءه ، بل هي من أشد الأسلحة تدميراً  وأعظمها وقعاً وتأثيراً ، وهي ظاهرة اجتماعية عالمية ، لها خطورتها البالغة على المجتمعات البشرية   وهي جديرة بالتشخيص والعلاج ، وحرية بالاهتمام والتصدي لاستئصالها ، والتحذير منها ، والتعاون للقضاء على أسـبابها ودوافعها ، حتى لا تقضي على الروح المعنوية في الأمة ، التي هي عماد نجاح الأفراد ، وأساس أمن المجتمعات واستقرارها .

والدارس للتاريخ الإنساني يجد أن الشائعات وجدت حيث وجد الإنسان، بل إنها عاشت وتكاثرت في أحضان كل الحضارات، ومنذ فجر التأريخ والشائعة تمثل مصدر قلق في البناء الاجتماعي، والانتماء الحضاري لكل الشعوب والبيئات، ولمّا جاء الإسلام اتخذ الموقف الحازم من الشائعات وأصحابها ، لما لنشرها وبثها من آثار سلبية على تماسك المجتمع المسلم وتلاحم أبنائه ، بل لقد عدَّ الإسلام ذلك سلوكاً منافياً للأخلاق النبيلة ، والسجايا الكريمة ، والمثل العليا التي جاءت بها وحثت عليها شريعتنا ، من الاجتماع والمحبة والمودة والإخاء، والتعاون والتراحم والتعاطف والصفاء .

وهل الشائعة إلا نزف لتلك القيم ، ومعول هدم لهذه المثل ، لذا قالوا بأن مُروِّجَ الشائعات لئيم الطبع دنيء الهمة ، مريض النفس ،  منحرف الطبع ، صفيق الوجه  عديم المروءة ، لا يستريح حتى يفسد ويؤذي ، لذا حذَّر الإسلام من الغيبة والنميمة  والوقيعة في الأعراض ، والكذب والبهتان ، وقالة السوء بين الناس  وهل الشائعة إلا كذلك ؟ وأمر بحفظ اللسان ، وبين خطورة الكلمة فأخبر الله سبحانه وتعالى أن الإنسان مسئول أمام الله عز وجل ، ومحاسب عن كل صغير وجليل قال تعالى : ) ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ، ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ، إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد  ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد (   وحرم الله القذف والإفك وتوعد مروجي الإشاعات بالعذاب الأليم فقال تعالى:) إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون ( . وحث الإسلام على التثبت والتبين في نقل الأخبار قال تعالى : ) يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ( وفي قراءة أخرى فتثبتوا .. والشائعات مبنية على سوء الظن بالمسلمين ،والله عز وجل يقول : ) يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ( .

وأخرج الشيخان في صحيحهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال : ( إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ) .

كما نهى الإســلام أتباعه عن أن يطلقوا الكلام جزافا  ويلغوا عقولهم عند كل شائعة ، أو ينساقوا وراء كل ناعق  ويصدقوا كل دعي مارق قال صلى الله عليه وسلم : ( كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع ) مسلم . وسداً لباب الفساد أمام الوشاة ونَقَلة الشائعات ، ومنعاً لرواج الشائعات والبلاغات الكاذبة  والأخبار الملفقة المكذوبة على الأبرياء الغافلين يقول صلى الله عليه وسلم: ( ألا أخبركم بشراركم ؟ قالوا بلى يا رسول الله قال : المشاءون بالنميمة ، المفسدون بين الأحبة ) البخاري في الأدب . فكم حدثت من جناية على الأبرياء الذين لهم كفاءة في أعمالهم بسبب إشاعة أطلقها ، ذو لسان شرير ، وقلم أجير ، وكم هدمت الشائعة من وشائج ، وتسببت في جرائم ، وفككت من أواصر وعلاقات ، وحطمت من أمجاد وحضارات ، وكم دمرت من أسر وبيوتات .

 فمنذ فجر التاريخ والشائعات تنشب مخالبها لاسيما في أهل الإسلام ، يروجها ضعاف النفوس ، ويتولى كبرها أعداء الإسلام ، واليهود على وجه الخصوص بغية هدم صرح الدعوة الإسلامية ، والنيل من أصحابها والتشكيك فيها ، حتى أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ، لم يسلموا من شائعاتهم   

والسيرة العطرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم نموذج حي ، لتاريخ الشائعة  والموقف السـليم منها ، فقد رميت دعوته المباركة بالشائعات منذ بزوغها ، فرمي بالسحر والكذب والكهانة ، وتفنن الكفار والمنافقون الذين مردوا على النفاق في صنع الأراجيف الكاذبة  والاتهامات الباطلة ضد دعوته صلى الله عليه وسلم ولعل من أشهرها قصة الإفك المبين ، تلك الحادثة التي كشفت عن شناعة الإشاعات ،وهي تتناول بيت النبوة الطاهر ، وتتعرض لعرض أكرم الخلق على الله  صلى الله عليه وسلم وعرض الصديق والصديقة ، وقد شغلت هذه الشائعة المسلمين شهراً كاملاً بالمدينة ، وتولى كبرها المنافقون ، ولولا العناية الإلهية لعصفت بالمجتمع الإسلامي الناشئ في المدينة    

ومن المؤلم حقاً ، أن يتلقى المسلم الإشاعات المغرضة وكأنها حقائق مسلمة  قال الإمام الذهبي رحمه الله : ( لو أن كل عالم تركنا قوله لمجرد خطأ وقع فيه  أو كلام الناس فيه ، ما سلم منا أحد ، ونعوذ بالله من الهوى والفظاظة )

ومن أولى الخطوات في مواجهة حرب الشائعات تربية النفوس على الخوف من الله ، والتثبت في الأمور ، فالمسلم لا ينبغي أن يكون أذناً لكل ناعق ، بل عليه التثبت والتحقق ، ليسد الطريق أمام الأدعياء ، الذين يعملون خلف الستور .

والتثبت صفة أهل اليقين من المؤمنين وبسبب هذه الصفة التي فيهم  يبين الله لهم الآيات والعلامات في الأمم التي مضت   حتى يستخرجوا العبر التي تقيهم مما وقع به غيرهم من غضب الله تعالى . لذلك يقول سبحانه (قد بينا الآيات لقوم يوقنون) البقرة 118. والتثبت فيه معنى التبصر والاستيضاح ، والتأكد من الأمر قبل الحكم له أو عليه وقد حث الله عباده على التخلق بهذا الخلق في قوله تعالى : ) يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ( الحجرات 6. ليؤكد لهم أن هذا أصل لا بد منه من أصول الإنكار. فإننا نسمع كثيرا عن معاصي يقترفها بعض الناس. وربما سمعنا ذلك من أناس قد التزموا اتباع السنة في مظاهرهم. وقد يكونون في بعض الأحيان من الملتزمين مع جماعة صالحة ، ونسارع في تصديقهم ، واتخاذ موقف من زيد أو عمر دون أن نتثبت . لذلك جاءت هذه الآية لتكون قاعدة من قواعد فقه الإنكار. وسبب تحذير الله المؤمنين من التسرع  وتنبيههم للتثبت قبل اتخاذ الموقف. بينه سبحانه وتعالى بقوله : ) أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ( الحجرات 6. أي لئلا تصيبوا قوما من الناس الأبرياء. وأنتم تجهلون حقيقة الأمر. فتصيروا بعد ظهور براءتهم نادمين على ما ارتكبتم في حقهم ، وتتمنوا أن ذلك لم يقع منكم ، لأن الندم : هو الغم على وقوع شيء مع تمني عدم وقوعه . وهذا الغم الذي يصيب المؤمنين بسبب تعجلهم إنما هو نتيجة ما يأمر به الشيطان، ليجعلهم في حزن وأذى ، وليساعد على تفككهم بنشر الأحقاد فيما بينهم ، لذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( التأني من الله  والعجلة من الشيطان ) أخرجه البيهقي وحسنه الألباني .

قال الإمام ابن القيم : " إنما كانت العجلة من الشيطان ، لأنها خفة وطيش  وحدّة في العبد تمنعه من التثبت والوقار والحلم . وتوجب وضع الشيء في غير محله  وتجلب الشرور، وهي متولدة بين خلقين مذمومين ، التفريق والاستعجال " .    

لقد ربى الله سبحانه أنبياءه على هذه الصفة ليكونوا قدوات يحتذي بهم ورثة الأنبياء من الدعاة من بعدهم ، ومن بين هؤلاء الرسل موسى عليه السلام في قصته مع الرجل الصالح  الذي أثارته تصرفاته الغريبة ، فكانت الدهشة والاستغراب ، تحمل موسى على الإنكار والسؤال مرة بعد مرة .

مع أنه كان على موسى عليه السلام أن يتريث حتى يوضح له الخضر أسباب وحقائق ما يقوم به ، وقد حرم بسبب تسرعه علما كثيرا ) قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا (الكهف 78. فرد عليه أسباب قيامه بخرق السفينة وقتل الغلام ، وبناء الجدار ، كما جاء في سورة الكهف   وعلى غير ما بدا في ظاهرها ، ليعلم الدعاة من هذه القصة دروسا في التأني والتثبت قبل الإنكار . وليعلموا أن من امتثل هذه الصفة . فكأنما حاز على جزء من النبوة يقـول  النبي  :  صلى الله عليه وسلم( التؤدة والاقتصاد، والسمت الحسن جزء من أربعة وعشرين جزءا من النبوة ) أخرجه الطبراني والترمذي وصححه الألباني .

فأين الهمم التي تتسابق لامتلاك هذه الأجزاء النبوية ؟.

وقد جاءت هذه الصفة واضحة في قصة سليمان عليه السلام   مع الهدهد إذ يقول سبحانه وتعالى : )وتفقد الطير فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين. لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين( النمل 20   فسليمان الملك الحازم يتهدد الجندي الغائب  المخالف: ) لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه ( ولكن سليمان ليس ملكا جبارا في الأرض، إنما هو نبي ، وهو لم يسمع بعد حجة الهدهد الغائب ، فلا ينبغي أن يقضي في شأنه قضاء نهائيا قبل أن يسمع منه ، ويتبين عذره ومن ثم تبرز سمة النبي العادل: ) أو ليأتيني بسلطان مبين ( أي حجة قوية توضح عذره، وتنفي المؤاخذة عنه .

  وقد استنبط العلماء من القصتين أحكاما في الإنكار، والتي منها : التثبت والتروي والاستخبار قبل الإنكار .

  وإذا كان الأمر بالتثبت لعامة المسلمين واجبا ففي حق العلماء أوجب لما روى البخاري فيما يرويه الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه ( من عادى لي وليا آذنته بالحرب..) .   ذلك لما يؤثره التسرع باتهامهم من حرمان العوام من علمهم ، أو ظن السوء فيهم وربما كانوا منه براء لذلك على القائمين بأمر الإنكار أن يتثبتوا إذا سمعوا أو قرأوا ما يمس أحد العلماء وألا يخوض فيما يخوض به الآخرون ، ثم يندم إما في الدنيا إذا تبينت له الحقائق وإما بالآخرة حيث سيقف خصما لذلك العالم وهو يطلب من الله جل جلاله أن ينصفه مما اتهمه فيه من تهم باطله دون أن يتثبت    وقد ركّز القرآن على ضرورة أن تتبين الأمور، وذلك بأن تبحث عن الحقيقة بنفسك، وهو ما عبّرت عنه الآية الكريمة : ) يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا ( لهذا لا بدّ أن لا نستعجل في الحكم على الناس ، فوظيفتك أن تتثبت وفي هذا يقول الإمام علي : "ولا تعجلن إلى تصديق ساعٍ فإن الساعي غاش وإن تشبّه بالناصحين" . وقد قيل: " من ركب الْعَجَلَ أدركه الزلل " . ‏وعن حاتم الأصم العجلة من الشيطان إلا في خمس فإنها من سنة رسول الله عليه السلام ، إطعام الضيف وتجهيز الميت ، وتزويج البكر ، وقضاء الدين ، والتوبة من الذنوب ‏,‏ وفي رواية الترمذي عن علي رضي الله تعالى عنه ثلاثة لا تؤخرها الصلاة إذا أتت ، والجنازة إذا حضرت ، والأيم إذا وجدت كفؤا " ‏.‏ ‏

 

 

 

 

نعمة المرض

المرض ابتلاء من اللَّه تعالى يختبر به عباده ، فمن حمد اللَّه و صبر على ما أصابه فقد فاز ، و من لم يحمد اللَّه على ما أصابه و سخط و تضجّر فقد خسر و هو ناقص الإيمان ، لأنّ الرضا بالقضاء والقدر دليل كمال الإيمان أمّا التضجّر والسخط على ما قدّر اللَّه فهو دليل نقص الإيمان ، والمتضجّر يفقد الأجر الذي يناله لو صبر وربّما يلحقه الوزر . قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم :

( عجباً لأَمرِ المُؤمِنِ ! إنَّ أَمرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ - و ليس ذلكَ لأحدٍ إلاّ للمُؤمِنِ - إنْ أَصابَتْهُ سرّاءُ شَكَرَ فكانَ خَيراً لَهُ ، و إنْ أَصابَتهُ ضرّاءُ صَبَرَ فكَانَ خَيراً لَهُ  ) رواه مسلم .

 ما دعاني إلى اختيار هذا الموضوع  ما رأيت من جهل الناس بفوائد المرض  وإن كثيراً من الناس عندما يزور مريضاً مخطراً يقول : يا رب ارحمه أو ريحه ، وهو قولٌ غير مقبول لما روي أن نبيّاً من الأنبياء مرّ برجل قد جهده البلاء فقال: ( يا ربّ أما ترحم هذا ممّا به ، فأوحى اللّه إليه كيف أرحمه ممّا به أرحمه ؟)  

هناك مرضى ممن ابتلوا بأمراض مستعصية ، بلغ بهم اليأس مبلغاً عظيماً فتجد الواحد منهم قد ضعف صبره وكثر جزعه وعظم تسخطه وانفرد به الشيطان يوسوس له يذكره بالمعاصي الماضية   حتى يوقعه في القنوط ، يقول الله : ( إنما النجوى من الشيطان ليحْزُن الذين آمنوا ) المجادلة 10   مع أن المريض لا خوف عليه مادام موحداً ومحافظاً على الصلاة ، حتى ولو لم يصلِّ إلا لما مرض ،  فإن من تاب توبة صادقة قبل الغرغرة تاب الله عليه   ولو وقع في كبائر الذنوب   فإنه يرجى لكل من مات من الموحدين ، ولم يمت على الكفر ، ففي الحديث (من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة) فقال أبو ذر : وإن زنى وإن سرق ، قال : ( وإن زنى وإن سرق ) ويقول صلى الله عليه وسلم : (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل) رواه مسلم   ويقول الله (أنا عند ظن عبدي   فليظن بي ما يشاء)  0فعلى المؤمن أن يصبر على البلاء مهما اشتد ، فعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ، يقول أنس : إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو في الموت فقال : ( كيف تجدك ؟) قال : أرجو رحمة الله يا رسول الله ، وأخاف ذنوبي فقال : (لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وأمنه مما يخاف) فلا تسيء العمل وأنت صحيح ، فلعل الموت يأتي بغتة . والمؤمن يصبر ويرضى بقضاء الله ، فإن عاش لم يحرم الأجر ، وإن مات فإلى رحمة الله ، ويستحب للمريض احتساب المرض ، وأن يصبر عليه ويتحمل وجعه ويشكر الله عز وجل ، ففي مرضه يكتب له أفضل ما كان يعمل من خير في صحّته ، وإن سهر ليلة من مرض أو وجع ، لهو أفضل وأعظم أجراً من عبادة سنة ، وإنّ أنين المؤمن تسبيح وصياحه تهليل ، ونومّه على الفراش عبادة ، وتقلّبه من جنب إلى آخر جهاد ، وإن عوفي مشى وما عليه ذنب ، ومن فوائد المرض : تخويف العبد ، فما ابتلاه الله إلا ليخوفه لعلّه يرجع إلى ربه ، أخرج أبو داود عن عامر مرفوعاً : (إن المؤمن إذا أصابه سقم ثم أعفاه منه كان كفارة لما مضى من ذنوبه وموعظة له فيما يستقبل ، وإن المنافق إذا مرض ثم أعفي كان كالبعير عقله أهله ثم أرسلوه فلم يدر لم عقلوه ولم أرسلوه) 0  

ولولا المرض لما علمنا نعمة الصحة ، ولولا أن الله خلق العذاب والألم لما عرف المتنعمون قدر نعمته عليهم ، بل إن من نعيم أهل الجنة رؤية أهل النار ، وما هم فيه من العذاب ، مع العلم أن كل بلاء يقدر العبد على دفعه ، لا يؤمر بالصبر عليه ، بل يؤمر بإزالته ففي الحديث : ( ليس للمؤمن أن يذل نفسه ) أي يحمل نفسه مالا يطيق . وإنما المحمود الصبر على ألم ليس له حيلة على إزالته ، كما وقد تكون النعمة بلاءً على صاحبها  فإنه يبتلى بالنعماء والبأساء ، وكم من بلاء يكون نعمة على صاحبه ، فرب عبد تكون الخيرة له في الفقر والمرض ، ولو صح بدنه وكثر ماله لبطر وبغى) ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ( فكل نعمة سوى الإيمان وحسن الخلق قد تكون بلاء في حق بعض الناس وتكون أضدادها نعماً في حقهم   فكما أن المعرفة كمال ونعمة ، إلا أنها قد تكون في بعض الأحيان بلاء وفقدها نعمة ، مثل أجل العبد أو جهله بما يضمر له الناس  إذ لو رفع له الستر لطال غمه وحسده . وكم من نعمة يحرص عليها العبد فيها هلاكه ، ولما كانت الآلام والأمراض أدوية للأرواح والأبدان وكانت كمالاً للإنسان  فإن الله ما أمرضه إلا ليشفيه ، وما ابتلاه إلا ليعافيه ، وما أماته إلا ليحييه ، وقد حجب سبحانه أعظم اللذات بأنواع المكاره  وجعلها جسراً موصلاً إليها ، ولهذا فإن النعيم لا يدرك بالنعيم   وإن الراحة لا تنال بالراحة  فإذا أصيب العبد فلا يقل : لم هذا   أو شو اللي أنا عملته ؟ وليعلم العبد أنه ما أصيب إلا بذنب  وفي هذا تبشير وتحذير ، إذا علمنا أن مصائب الدنيا عقوبات لذنوبنا ، أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه) وقال صلى الله عليه وسلم : ( ولا يزال البلاء بالمؤمن في أهله وماله وولده حتى يلقى الله وما عليه خطيئة) فإذا كان للعبد ذنوب ولم يكن له ما يكفرها ، ابتلاه الله بالحزن أو المرض ، وفي هذا بشارة لأن مرارة ساعة في الدنيا أفضل من احتمال المرارة إلى الأبد ، وإن مرارة الدنيا حلاوة الآخرة والعكس بالعكس  ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : ( الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر)  وإذا نزل بالعبد مرض أو مصيبة فحمد الله ، بني له بيت الحمد في الجنة ، فوق ما ينتظره من الثواب ، أخرج الترمذي عن جابر مرفوعاً ( يود الناس يوم القيامة أن جلودهم كانت تقرض بالمقاريض في الدنيا لما يرون من ثواب أهل البلاء ) .

قال المناوي في فيض القدير : " أي يتمنى أهل العافية في الدنيا يوم القيامة قائلين ليت جلودنا كانت قرضت بالمقاريض ولنا الثواب المعطى على البلاء ، مما يرون من ثواب أهل البلاء " وقال بعض العارفين لو كشف للمبتلى عن سر سريان الحكمة في البلاء لم يرض إلا به " وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنـه قـال :

( يكتب أنين المريض فإن كان صابراً كتب حسنات وإن كان جزعاً كتب هلوعاً لا أجر له ) . وعنه صلى الله عليه وسلم قال: ( عجبت من المؤمن وجزعه من السّقم ولو يعلم ما له في السّقم من الثواب لأحبّ أن لا يزال سقيماً حتّى يلقى ربّه عزّ وجلّ) .

 وربما كان المرض رفعة للدرجات  أضف إلى ذلك القرب الخاص للمريض من لله وقد ورد أن عيادة المريض بمنـزلة عيادة الله عز وجل ، لقوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه يقول الله :

( ابن آدم ، عبدي فلان مرض فلم تعده ، أما لو عدته لوجدتني عنده) رواه مسلم ، وذلك كناية عن تقرب العبد إلي الله سبحانه وتعالى وفيه دليل على استحباب عيادة المريض وهي من حقوق المؤمن على أخيه   ولعيادة المريض فضلٌ عظيمٌ جداً   فأيّما مؤمن عاد مؤمناً في الله خاض في الرحمة خوضاً ، فإذا جلس غمرته الرحمة ، فإذا انصرف وكّل الله به سبعين ألف من الملائكة يستغفرون له ويسترحمون عليه ، ويقولون طبت وطابت لك الجنة قال صلى الله عليه وسلم : ( من عاد مريضًا نادى منادٍ من السماء: طِبْتَ وطاب ممشاك، وتبوأْتَ من الجنة منـزلا) الترمذي وابن ماجه.  وبالمرض يعرف صبر العبد ، وقد أثنى الله على أيوب لصبره على ما أصابه من المرض فقال تعالى : ( إنا وجدناه صابراً نعم العبد أنه أواب)  وقد ورد في بعض الآثار ( يا ابن آدم ، البلاء يجمع بيني وبينك ، والعافية تجمع بينك وبين نفسك) 0 ومن فوائد المرض : ظهور أنواع التعبد ، فإن لله على القلوب أنواعاً من العبودية ، كالخشية وتوابعها ، وهذه العبوديات لها أسباب ، فكم من بلية كانت سبباً لاستقامة العبد   وكم من عبد لم يتوجه إلى الله إلا لما فقد صحته    فكان المرض في حقه نعمة ، لأن قلبه يتعلق بالله وحده ، كما أنه علامة على إرادة الله بصاحبه الخير ، وإذا لم يُرِد الله بالعبد خيراً لا يصيب منه ، حتى يوافي ربه يوم القيامة ، ففي مسند أحمد عن أبي هريرة قال : ( مر برسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي أعجبه صحته وجلده ، قال : فدعاه فقال له : متى أحسست بأم لمدم ؟ قال : وما أم لمدم ؟ قال : الحمى ، قال : وأي شيء الحمى ؟ قال : سخنة تكون بين الجلد والعظام ، قال : ما بذلك لي عهد  وفي رواية : ما وجدت هذا قط ، قال : فمتى أحسست بالصداع؟ قال : وأي شيء الصداع ؟ قال : ضربات تكون في الصدغين والرأس ، قال : مالي بذلك عهد   وفي رواية : ما وجدت هذا قط ، قال : فلما قفا ـ أو ولى ـ الأعرابي قال : من سره أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إليه) وإسناده حسن  فالكافر صحيح البدن مريض القلب ، والمؤمن على العكس من ذلك .

وهذا يدل على أن الإصابة بالحمى كفارة للذنوب كما قال صلى الله عليه وسلم وقد دخل على   أم المسيب فقال : مالك يا أم المسيب تزفزفين  قالت : الحمى لا بارك الله فيها ! فقال : لا تسبى الحمى فإنها تذهب خطايا بني آدم كما يذهب الكير خبث الحديد ) رواه مسلم .

وإذا كان للعبد منـزلة في الجنة لم يبلغها بعمله ابتلاه الله في جسده ، أخرج ابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الرجل ليكون له عند الله المنـزلة فما يبلغها بعمل ، فما يزال يبتليه بما يكره حتى يبلغه إياها ) وبالمرض يستخرج الله الشكر من العبد ، فإذا منع الله العبد العافية وردها عليه عرف قدر تلك النعمة ؛ فلهج بشكره  شكر من عرف المرض الذي ذاق آلامه ، لا شكر من عرف وصفه ولم يقاس ألمه ، فكما يقال : أعرف الناس بالآفات أكثرهم آفات ، فإذا نقله ربه من ضيق المرض والفقر والخوف إلى سعة الأمن والعافية والغنى ، فإنه يزداد سروراً وشكراً ومحباً لربه  بحسب معرفته  وليس كحال من ولد في العافية والغنى فلا يشعر بغيره . وربما كان الابتلاء بالمرض طريقا للسلامة ! وكما قيل : فربما صحت الأبدان بالعلل . فكم من مرض دفع الله به أمراضا   وكم من علة كانت السبب في شفاء أمراض أخرى . وكم من محنة في طيها منحة ، ورب علة كانت السبب في الصحة  

ولقد أحسن القائل :

لا تجزعنّ لمكروه تـُصاب به    فقد يؤدّيك نحو الصحة المرضُ

واعلم بأنك عبدٌ لا فكاك لـه  والعبد ليس على مولاه يعترض

قلت في نفسي إن المرض بالنسبة للكبار قد يكون رفعة في المرتبة ، وقد يكون تكفير ذنوب وسيئات عند الله تعالى ، فما بال الصغار ؟ ولكني تذكرت قول الله تعالى : ) لا يسأل عما يفعل وهم يُسألون ( . وعدت ألتمس الحكمة من ذلك  فإن الحكيم سبحانه منـزه عن العبث وهو القائل : ) أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا ( ؟ ، والحكيم لا يفعل فعلاً ولا يأمر بأمر إلا لحكمة بالغة .

 ويُستحبّ بنا أن نساهم في تسلية من نزل به المرض ، بما يخفّف عنه من مرضه فلا نتقاعس عن زيارة أخينا المسلم إذا ألمّ به مرض قال صلى الله عليه وسلم : ( ما من مسلِم يعُودُ مسلماً غُدوَةً إِلاّ صلّى عليه سبعون ألف مَلَكٍ حتّى يُمسي وإن عاده عشيّةً إلاّ صلّى عليه سبعون ألف مَلَكٍ حتى يُصبح ، وكان له خريفٌ في الجنّة ) حديث حسن رواه الترمذي . والخريف : الثمر المخروف أي المجتنى . و قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : ( إنّ المسلم إذا عادَ أخاه المسلم لم يَزَل في خُرفَةِ الجنّة حتّى يرجع قيل : و ما خرفة الجنة ؟ قال: جناها  ) رواه مسلم . تشبيه ما يحصل عليه زائر المريض من الثواب ، بما يحصل عليه الذي يقطف من ثمار الجنة ، لذا يستحب للمريض أن يخبر إخوانه بمرضه ليعودوه .

روي عن أبي عبد الله أنه قال: " ينبغي للمريض منكم أن يخبر إخوانه بمرضه فيعودونه ويؤجر فيهم ويؤجرون فيه ، فقيل: نعم هم يؤجرون فيه لمشيهم إليه وهو كيف يؤجر فيهم ، فقال : باكتسابه لهم الحسنات فيؤجر فيهم فيكتب له بذلك عشر حسنات ويرفع له عشر درجات ويحط عنه عشر سيئات "  

ولعيادة المريض آداب ينبغي مراعاتها ، قال صلى الله عليه وسلم : ( تمام عيادة المريض أن يضع أحدكم يده عليه ويسأله كيف أنت ، كيف أصبحت ، وكيف أمسيت  وتمام تحيتكم المصافحة) . وأن نقول للمريض كما علّمنا رسول صلى الله عليه وسلم : ( لا بأسَ  طَهُورٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ ) رواه البخاري  . طهور : أي مرضك هذا تطهير لنفسك من الذنوب والآثام .  كما ورد ( المرض للمؤمن تطهير ورحمة وللكافر تعذيب ونقمة ) . ويستحب تخفيف الجلوس عند المريض ، إلاّ إذا أحبّ المريض الإطالة وسأل ذلك  كما يستحب للعائد أن يدعو للمريض بالصحة والعافية ، وأن يخبره بالثواب الذي يناله على مرضه ، فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد سلمان الفارسي فلما أراد أن يقوم قال: ( يا سلمان كشف الله ضرك وغفر ذنبك وحفظك في دينك وبدنك إلى منتهى أجلك ) . وأن يدعو الله أن يشفيه ويحمد الله على معافاته من المرض ، ويبشر المريض بالشفاء ويمنحه الأمل والتفاؤل ، ثم يدعو للمريض بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم : ( أذهب البأس ربَّ الناس، اشف وأنت الشافي، لا شفاءَ إلا شفاؤك ، شفاءً لا يغادر سَقَمًا) متفق عليه .

ويستحب أن يطلب من المريض أن يدعو له ، فإن دعاءه يعدل دعاء الملائكة على ما في الروايات : (إذا دخل أحدكم على أخيه عائدا له فليدع له وليطلب منه الدعاء فإن دعاءه مثل دعاء الملائكة) . كما يستحبّ الدعاء للمريض كما علّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال : ( مَنْ عَادَ مَرِيضاً لَمْ يَحْضُرْهُ أَجَلُهُ فَقَال عِنْدَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ : أَسْأَلُ اللَّهَ العَظِيمَ ، رَبَّ العَرْشِ العَظِيمِ  أَنْ يَشْفِيَكَ ، إِلاَّ عَافَاهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ المَرَضِ ) حديث حسن رواه أبو داوود .  وينبغي للمريض أن يحسن الظنّ بالله،  جاء في أمالي الشيخ المفيد أن رجلاً من الأنصار مرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده  فوافقه وهو في الموت، فقال: (كيف تجدك)  قال: أجدني أرجو رحمة ربي وأتخوف من ذنوبي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (ما اجتمعتا في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله رجاءه وآمنه مما يخافه) . ويستحب استصحاب هديّة إلى المريض ، ما لم يكن الإهداء مضرّاً به .

 ويستحب للمريض أن يتصدق كما يستحب أن يتصدق عنه .

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( داووا مرضاكم بالصدقة ) وعنه صلى الله عليه وسلم قال: ( الصدقة تدفع البلاء المبرم فداووا مرضاكم بالصدقة )  

 

 

 

 

هدف المنافقين

 

هدف المنافق تقويض دعائم الإسلام ، و نفث سمومه للتفريق بين المسلمين  والتفنّن في صنع الافتراءات وإثارة الفتن ، وزرع بذور الخلاف بين صفوف المسلمين ، وقصه ومكائد المنافقين ضد المسلمين بقيادة ابن أبي أشهر من أن تعرّف ، ومنافقي اليوم كمنافقي الأمس  فالفكر هو الفكر  والغاية هي الغاية وإن تغيرت الأسماء وتبدلت الوسائل وتعددت المصطلحات التي يستوردونها و يستترون خلفها.

 

لقد عرفت المجتمعات الإنسانية قديما هذه الظاهرة ،ُ وهي ظاهره عامه يعايشها ويلامسها البشر على اختلاف مذاهبهم وانتماءاتهم ، وتختلف بدرجات متفاوتة بين مجتمع وآخر   ويمكن أن تكبر هذه الظاهرة وتنمو بشكل كبير وخطير   لتهدد مستقبل المجتمعات والشعوب وتطيح بإنجازاتها ، إذا ما وجدت البيئة المناسبة لها ، وقد أصبح لهذه الظاهرة ثقافةً تمارسها ، سواء على مستوى الفرد أو الجماعة أو المؤسسات أو الأحزاب أو التجمعات المتنوعة التي تمثل النسيج الاجتماعي والسياسي والأمني والاقتصادي والفكري لأي مجتمع . ويمكن تعريف ظاهرة النفاق هذه ، على أنها وسيله ماكرة وخبيثة يلجأ إليها أصحاب المصالح ، والمنافع الشخصية لتحقيق أهدافهم الضيقة على حساب المصلحة العامة  ولتحقيق مكتسبات ليست حقا لهم وليسو أهلا لها ، ولهم صفات وسمات تبدأ من التلون والاختلاف الكبير ما بين السلوك الداخلي والخارجي ، والتكيف مع تغير المراحل والرموز والأحداث  واستخدام أساليب الغش والخداع والمكر والغدر لتحقيق أهدافهم ، ناهيك عن استخدام وسائل التعالي على الآخرين والتحقير والاستهزاء بهم ، في مرحلة بلوغهم أهدافهم الخبيثة كما يمتازون بالغرور لتعويض نقصهم ، وإخفاء الارتباطات المشبوهة التي يعملون لخدمتها.

 

وتظهر خطورة وتأثير هذه الظاهرة ، في المرحلة التي تتعرض فيها الأمة لاعتداء أو احتلال  ومن هنا اقترن ذكر المنافقين في القران الكريم مع الكافرين ، فكثيراً ما نُخدع في تصرفاتهم عندما نراهم يدّعون أنهم من أهل المنفعة فيخدعون أهل النوايا الحسنة ، ويتظاهرون بما ليس فيهم   ويعظمون أعمالهم القليلة ، ويفتخرون بها ، فينسبون الفضل لأنفسهم ويمجدونها بأعمال قاموا بها أو شاركوا فيها فهم يجيدوا تغطية وجوههم برقة الكلام ، هدَفهم تتبّع الزّلاّت  يفرَحون بكلِّ زلّة ويصطادون كلَّ خطيئة ، ليجسِّدوها ويجعَلوها وسيلةً إلى آرائِهم المضلِّلة وأفكارِهم المنحرفة  حمَانا الله من شرورهم ، وقد بلغ وصف الله لغَيْظ هؤلاء المنافقين   ومزيد بُغضهم وتكالبهم في العداوة للمؤمنين حداً أعلى  فقال: ﴿وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّوا ْعَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ﴾ والمبالغة والبلوغُ إلى هذا الحدِّ لا يكون إلاَّ لالتهاب صدورهم وتسعُّر قلوبهم ، فكثيراً ما نلاحظ من بلغ به الغيظُ إلى عضِّ أنامله ، ولا يكون ذلك إلاَّ لأمر قد بلغ منه إلى غاية  ليس وراءها غاية ، وقد أمر الله رسولَه صلى الله عليه وسلم أنْ يقول لهم:﴿مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ﴾ إنه الأدبَ الإلهي ، والتعليمَ الربَّاني  فلو جئتَ بكلِّ عبارةٍ في الردِّ عليهم لما وجدت جواباً أبلغ ولا أقطعَ لظهورهم ، ولا أنكأ لقلوبهم ولا أخرس لألسنهم من هذا  ، فغاية ما يتأثَّر عن مزيد العداوة هو الغيظ ، فإنْ تعاظمَ وتفاقم وأفرط بصاحبه بلغ به الـموتَ ، فأنت تقول لمن حقد عليك وجاهرك بعداوته من الغيظ: «مُتْ بغيظك» وبهذا الجوابَ يزدادُ غيظًا إلى غيظه ، وبلاءً إلى بلائه ، ومحنةً إلى محنته ، فكانت الثمرةُ التي استفادها من عداوته وما حمله من حسده هو هذا العذاب العظيم والبلاء المُقيم ، ولا يحيقُ المكرُ السيِّءُ إلاَّ بأهله، ولا يرجعُ بغيُه إلا إليه قال تعالى : ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم﴾ يونس 23 ونكثُه يعود إلى نفسه:﴿فَمَن نَّكَثَفَ إِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ﴾  وخداعُه يحلُّ به: ﴿ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم﴾ البقرة: 9 . ثم أخبر سبحانه عباده المؤمنين بأنَّه عليمٌ بما في الصدورُ وما تُخفي القلوبُ  وبيَّن سبحانه لعباده حالَ هؤلاء بأكمل بيانٍ، وأَوضحَه بأتمِّ إيضاح، بحيث لا يبقى بعده رَيْبٌ ، ولا يختلجُ عنده شكٌّ، فقال: ﴿إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا﴾ فجعل سبحانه مجرَّدَ مسِّ الحسنة للمؤمنين موجبًا لـمُساءة المُتخلِّقين بأخلاق المنافقين  ومجرَّدَ إصابة ما يُساءُ به المؤمنون مُقتضيًا لحصول الفرج لهم   وليس بعد هذا من العداوة شيءٌ، فإنَّه النهايةُ التي ليس وراءها نهايةٌ ، والغايةُ التي ليس بعدها غايةٌ.

 

ثم شدَّ سبحانه قلوبَ عباده المؤمنين، وطمَّنَ خواطرَهم، وأثلجَ صدورَهم أنَّهم مع الصبر والتقوى لا ينالُهم ولا يصلُ إليهم ضررٌ البتَّة ، كما يفيدُه قولُه سبحانه: ﴿لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُم ْشَيْئًا﴾، فجاء بلفظ شيء الذي يتناول مثقالَ الذرَّة وما دونه، فضلاً عمَّا فوقه، وليس بعد هذه التسلية الربَّانيَّة والتعزية الرحمانيَّة ، لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمعَ وهو شهيد ففي هذه الألفاظ اليسيرة والكلمات الموجزة أفادتْ ما لم تُفدْه بلاغاتُ البُلغاء ، وفصاحات الفُصحاء ، وإنَّ غاية ما نجدُه من كلامهم في هذا الشأن هو كقول القائل : إن يسمعوا سُبَّةً طارُوا بها فَرَحًا .

 

إن علينا أن نحذر كيد المنافقين ونعتزلهم ، الذين يعيشون على الكذب والخداع ، ويطربون لإيذاء الآخرين ، ولا يحفظون عهدا ، ولا يقيمون وزناً للدين والوفاء في حياتهم ، ولا يرون في الآخرين إلا كل نقيصة ، ولا يسلم من  سهامهم المسمومة أحد ، وكما يقول عمر بن الخطاب : " عليك بإخوان الصدق عش في كنفهم ، فإنهم زينةٌ في الر خاء وعدّةٌ في البلاء  واعتزل المنافقين ، ولا تصحب الفجار فتتعلم من فجورهم ، حتى لو كانت مكاسب الدنيا عندهم ، واحذر صديقك إلا الأمين   ولا أمين إلا من خشي الله ،  وتخشع عند القبور ، وذل عند الطاعة ، واستعصم عند المعصية ، واستشر الذين يخشون الله  .

 

عجباً لقومٍ أمروا بالعمل الصالح ، وعن الدنيا سيرحلون ، ما الذي ينتظرون ؟ ومن آثر دنياه على آخرته فلا دنيا ولا آخرة  والعاقبة للمتقين : { كل نفس ذائقة الموت } . وما أقبل عبد بقلبه على الله عز وجل إلا جعل الله قلوب المؤمنين تفد إليه بالود والرحمة  وكان الله بكل خير إليه أسرع .

 

 

 

حقيقة السحر والتحذير من السحرة

قال الله تعالى : ] يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون [ الحشر18. واحذروا أن تكونوا ممن قال الله فيهم : ] استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أُوْلَئكَ حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون [ المجادلة 19 .

 إن من نواقض الإسلام السحر، ذلكم البلاء المستشري والحقيقة المرة ، داء من أدواء الأمم قديما ، ولسوء آثاره اتهمت به الأنبياء ، وهم منه براء ]كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون [الذاريات52.

وهو مشكلة من مشكلات الزمن حديثا ، وفى عصر التقدم المادي تزداد ظاهرة السحر والشعوذة نفوذا ، وتجرى طقوسه في أكثر شعوب العالم تقدما ، وربما أقيمت له الجمعيات والمعاهد  أو نظمت له المؤتمرات والندوات . والسحر له حقيقة وإذا كان حقيقة فما جزاء الساحر؟ ولماذا يروج السحر في بلاد المسلمين؟ وما حكم الذهاب للسحرة والعرافين؟ وما عقوبة الذاهبين ؟  

أما السحر فيطلق في لغة العرب على كل شيء خفي سببه ولطف ودق ، ولذلك قالوا " أخفى من السحر " . أما تعريفه في الشرع وكما قال ابن قدامه :"عقد ورقى يتكلم به أو يكتبه أو يعمل شيئا يؤثر في بدن المسحور أو قلبه أو عقله من غير مباشرة له . وهو أنواع مختلفة وطرائق متباينة ، ولذا قال الشنقيطي رحمه الله : "اعلم أن السحر لا يمكن حده بحد جامع مانع ، لكثرة الأنواع المختلفة الداخلة تحته ، ولا يتحقق قدر مشترك بينهما يكون جامعا له ، مانعا لغيره ، ومن هنا اختلفت عبارات العلماء في حده اختلافا متباينا " .

ومن السحر: الصرف والعطف، والصرف هو صرف الرجل عما يهوى ، كصرفه مثلا عن محبة زوجته إلى بغضها  والعطف عمل سحري كالصرف ، ولكنه يعطف الرجل عما لا يهواه إلى محبته بطرق شيطانية .

والسحر محرم في جميع شرائع الرسل عليهم السلام وهو أحد نواقض الإسلام  ، حتى قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب : فمن فعله أو رضي به كفر ، والدليل قوله تعالى ك ] وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر [ . وقد دل القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة وأقوال أهل العلم على أن للسحر حقيقة ، كيف لا ؟ والله يقول : ] ومن شر النفاثات في العقد [ ويقول : ] واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر [ البقرة102. ويقول عن موسى عليه السلام : ] يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى فأوجس في نفسه خيفة موسى قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى [ طه 69 .

وفى الحديث المتفق على صحته : عن عائشة رضي الله عنها قالت : (سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم، يخيل إليه أنه يفعل الشىء، وما يفعله .. الحديث ).

قال النووي: " والصحيح أن السحر له حقيقة وبه قطع الجمهور، وعليه عامة العلماء، ويدل عليه الكتاب والسنة الصحيحة المشهورة " . بل قال الخطابى بعد أن أثبت حقيقة السحر، ورد على المنكرين :" فنفي السحر جهل، والرد على من نفاه لغو وفضل " . وإن مكمن الخطر في تعليمه ، والعمل به ، لما في ذلك من الكفر والإشراك بالله من جانب ، وإلحاق الأذى والضرر بعباد الله من جانب آخر قال الله تعالى : ] وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ماله فى الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون [البقرة 102 .

ويبين الشيخ السعدي وجه إدخال السحر في الشرك والكفر فيقول : " السحر يدخل في الشرك من جهتين : من جهة ما فيه من استخدام الشياطين ومن التعلق بهم ، وربما تقرب إليهم بما يحبون ، ليقوموا بخدمته ومطلوبه ، ومن جهة ما فيه من دعوى علم الغيب ، ودعوى مشاركة الله في علمه ، وسلوك الطرق المفضية إلى ذلك ، من شعب الشرك والكفر  " ، ويقول الذهبي : " فترى خلقا كثيرا من الضلال يدخلون في السحر  ويظنون أنه حرام فقط، وما يشعرون أنه الكفر .." ولهذا جاء تحذير المصطفى صلى الله عليه وسلم عن السحر أكيدا شديدا ، وجاء حكم الشريعة في السحرة صارما عدلا . يقول عليه الصلاة والسلام : ( اجتنبوا السبع الموبقات ... فعد منهن: السحر)، والموبقات هي المهلكات .  وفي حديث آخر قال عليه الصلاة والسلام :  ( ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن خمر، وقاطع رحم، ومصدق بالسحر ) . وفي حديث ثالث يبلغ تحذير النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول :  ( ليس منا من تطير أو تطير له ، أو تكهن له ، أو سحر له  ومن أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ) . وفي حكم السحرة وحدهم يقول ابن تيمية رحمه الله : " أكثر العلماء على أن الساحر كافر يجب قتله ، وقد ثبت قتل الساحر عن (عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان ، وحفصة بنت عمر، وعبد الله بن عمر ، وجندب بن عبد الله ... " .

وروى أن عمر بن الخطاب كتب أن اقتلوا كل ساحر وساحرة   فقتلنا ثلاث سواحر ، قال ابن قدامة معلقا على هذا الأثر : " وهذا اشتهر فلم ينكر ، فكان إجماعا " وإنما جاء حكم الشريعة بقتل الساحر لأنه مفسد في الأرض يفرق بين المرء وزوجه   ويؤذي المؤمنين والمؤمنات ويزرع البغضاء ويشيع الرعب   ويفسد على الأسر ودها ، ويقطع على المتوادين حبهم وصفاءهم ، وفي قتله قطع لفساده ، وإراحة البلاد والعباد من خبثه وبلائه ، والله لا يحب المفسدين .

أما لماذا يروج السحر وتكثر السحرة في بلاد المسلمين ؟

 1_ضعف الإيمان في نفوسنا أحيانا ، إذ الإيمان دعامة كبرى ، ووقاية عظمى من كل فتنة وشر ومكروه ] ومن يؤمن بالله يهد قلبه [ التغابن11. وفى الحديث : ( إن الإيمان ليَخلَق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم ) فحين يضعف الرجاء بالله، ويقل الخوف منه ويهتز جانب التوكل على الله ، والرضاء لما قدر ، واليقين بما قسم يتسامح بعض الناس بالذهاب للسحرة والمشعوذين فيزيدهم ذلك وهنا على وهنهم ، وتستلب أموالهم وعقولهم .

2_ الجهل بأحكام الشريعة ، وما جاء فيها من زواجر عن الذهاب إلى هؤلاء السحرة والعرافين، وما ورد في ذلك من ضرر على المعتقد والدين. وهل يذهب إليهم من عرف وقدر قول المصطفى صلى الله عليه وسلم : ( من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة ) الحديث .

أما إن سألهم وصدقهم فالخطب أكبر ، والخطر أعظم ، فقد روى الحاكم بسند صحيح عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من أتى عرفا أو كاهنا فصدقه فيما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ) وعند البزار بسند صحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه موقوفا قال : ( من أتى كاهنا أو ساحرا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم )   

3- سذاجة بعض المسلمين وجهلهم بحال أولئك السحرة والمشعوذين فتراهم يذهبون يستطبون عندهم ، وأولئك لا يملكون من أنواع العلاج إلا ما يضر ولا ينفع ، تخرصات وأوهام وتمتمات وطلاسهم وكتابات وربط تباع بغالي الأثمان   وهي لا تساوي فلسا عند أولي الألباب .

بل ولو ذهبت ترقب أحوال هؤلاء المشعوذين الدينية والخلقية لرأيت العجب العجاب ، ولأيقنت أنهم أحوج الناس إلى العلاج والاستصلاح ، وإن نصّبوا أنفسهم على هيئة الشيوخ وحذاق الأطباء  

4- طغيان الحياة المادية المعاصرة إذ قست له القلوب وجفت ينابيع الخير في أرواح كثير من الناس ، ونتج عن ذلك العقد النفسية والمشكلات الوهمية وارتفاع مؤشر القلق ، وزاد الطين بلة ظن أولئك المرضى أن شفاءهم يتم على أيدي السحرة والمشعوذين ، فراحوا يطرقون أبوابهم ويدفعون أموالهم وينتظرون الشفاء على أيديهم، فكانوا كالمستجير من الرمضاء بالنار .

5- لقد أصبحت بعض بيوت المسلمين مرتعاً للشياطين يقل فيها ذكر الله ، وقلَّ أن يقرأ فيها كتاب الله أو تردد فيها التعاويذ والأوراد الشرعية التي لا يستقر معها الشياطين ، وفي مقابل ذلك تجد هذه البيوت ملأى بأنواع المنكرات المرئي منها والمسموع والصور العارية وغير العارية ، وألوان الكتب والمجلات السيئة ، وقد لا تخلو من مأكول أو مشروب محرم  وهذه البيوت الخربة وإن كان ظاهرها العمران تصبح مأوى للشياطين وتصطاد أهلها وتصيبهم بالأدواء ، فلا يجدون في ظنهم سبيلا للخلاص إلا عن طريق السحر والشعوذة والكهانة   وهكذا يسري الداء ، وكلما ابتعد الناس عن الله ومنهجه عظمت حيرتهم وكثر بلاؤهم ، ووجد شياطين الجن والإنس لدجلهم رواجا .

6- ضعف دور العلماء والمفكرين وأهل التربية في التحذير من السحرة وبيان الأضرار الناجمة عن الذهاب للمشعوذين والعرافين ، وتلك وربي تستحق أن تعقد لها الندوات وأن تسلط عليها الأضواء في وسائل الإعلام المختلفة حتى يتم الوعي ولا يؤخذ الناس بالدجل .

7- عدم تنفيذ حكم الله في السحرة أو ضعف المتابعة لهم  فانتشروا وراج دجلهم وقد يكون من أسباب ذلك عدم الإثبات وضعف تعاون الناس في البلاغ ، إذ من الناس من يقل أو ينعدم خوفه من الله ، فيسعى في الأرض مفسدا إلا أن تردعه قوة أو يخاف الحد ، ومن المعلوم أن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن ، وقد جاء في حديث يصح وقفه – دون رفعه – ( حد الساحر ضربة بالسيف )

 9- استمرار المرض وضيق الصدر وقلة الصبر وضعف الاحتساب للأجر عند الله. وكل ذلك قد يدفع البعض للذهاب لهؤلاء. وإن لم يكن مقتنعا في البداية.

 10- والدعاية الكاذبة سبب للرواج والذهاب لهؤلاء الدجالين   فقد يكتب الله شفاء لمريض على أيدي هؤلاء لتكون له فتنة.

فيطير بالخبر و ينشر في الآفاق الدعوة للذهاب لهؤلاء ليفتن غيره كما فتن ، وبعض الناس لديه القابلية للتصديق لأي خبر دون تمحيص أو نظر في العواقب .

وهكذا يفتن الناس بعضهم بعضا. و يكونون أداة للدعاية الكاذبة الخاسرة من حيث يشعرون أو لا يشعرون؟ هذه بعض الأسباب لرواج السحر و الذهاب للسحرة .   وهناك بعض القنوات الفضائية مهمتها نشر السحر وتعليم السحر وتقريب المسلم للسحرة والكهنة ، ما إن تفتح هذه القنوات إلا وتجد أرقاماً خاصة تناديك بأن تجيبك وتقرأ لك حظك ومستقبلك ومستقبل أمرك وسعادتك وشقاءك وغناك وفقرك إلى غير ذلك من هذه الخرافات والأكاذيب  ، وهي – بلا شك - قنوات شيطانية وقنوات لعينة لا خير فيها ، وقاتل الله من أنشأها وأعدها ، إنها قنوات فيها إفساد للدين والعقيدة ، فلا خير في مشاهدتها والنظر إليها ، فالناظر إليها مرتكب وعيداً شديداً وإثماً عظيماً ، لأنها مبنية على الكذب والأوهام والتخرُّصات والظنون الكاذبة والله يقول ] قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [ 65 النمل .

إن هذه القنوات الخبيثة ، هي عداء للإسلام بنشر هذا السحر والدعوة إلى تعلمه ،  فلا تكن يا أخي المسلم عوناً للشيطان  واتق الله عند النظر إلى هذه القنوات ، فاختر منها ما فيه الخير وابتعد عن السيئ منها ، فهناك قنوات إلحادية تحارب ثوابت الأمة ، وقنوات خليعة تنشر الشر والفساد وتدعو إلى الرذيلة بكل ما أوتيت من إمكانات ، وقنوات سحرية شيطانية لا خير ولا مصلحة للفرد ولا للجماعة فيها ، فاتق الله أيها المسلم وكن حذراً من القنوات التي تروّج للسحر تعلماً وتعليماً  وتدعو إليه وتحبِّب النفوس إليه ، وهذه الأرقام والاتصالات بها يحرم مساعدتهم والتعامل معهم ، ولا يحل لأي جهة كائنة أن تعين أولئك أو تسهل الاتصال بهم ، فإن من سهل الاتصال بهم وأعانهم فهو شريك لهم في الإثم والعدوان ، نسأل الله لنا ولكم الثبات على الحق والاستقامة عليه .

 

 

الإيـثار

الإيثار في أبسط معانيه هو أن تؤثر منافع غيرك على منافعك ، وأن تحب لأخيك كما تحب لنفسك ، بل وأكثر مما تحب لنفسك ، أن تعطي لأخيك مثل أو أكثر مما تعطي لنفسك ، وبتعبير آخر أن تفضل منافع الغير على منافع نفسك رغبة في رضا الله .

وهو خلق وأدب رفيع ، من سمات المؤمنين وخصائصهم الكُبرى ، وصِفاتهِم العُظمى ، وقد أثنى الله على أهل الإيثار، وجعلهم من المفلحين  فقال تعالى : ] ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون [ الحشر 9 . وقال  ( أيما امرئ اشتهى شهوه فرد شهوته وآثر على نفسه غفر له )  وقد مدح الله المؤثرين على أنفسهم تشجيعاً لهم ، لأنه جوهرة فريدة ينشأ عن قوة اليقين ، وتوكيد المحبة والصبر على المشقة ، يجعل المسلم سعيدا طيبا رضيا ، وهو علامة الإيمان ، وسخاء النفس ، وبذل المعروف ، لا يصل إليه إلا مؤمن رفيع الأخلاق ، عالي الهمة ، واسع الأفق ، نقي السريرة ، طاهر القلب ، لا يرى له على أحد فضلاً ، ولا يرى له عند أحد حقاً ، به يزول الشح ، ويُعدم البخل  وينشرح الصدر ، وتزول القسوة والأنانية والتشفي وحب الذات ، به يقدم الإنسان حاجة غيره من الناس على حاجته ، برغم احتياجه لما يبذله ، فقد يجوع ليشبع غيره ويعطش ليروي سواه ، قال صلى الله عليه وسلم  : (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)  متفق عليه . وتقول السيدة عائشة  رضي الله عنها : " ما شبع رسول الله   ثلاثة أيام متوالية حتى فارق الدنيا، ولو شئنا لشبعنا، ولكننا كنا نؤثر على أنفسنا " . وما أجمل أن يتصف الإنسان بالإيثار وحب الآخرين ، انطلق حذيفة العدوي في معركة اليرموك يبحث عن ابن عم له ، ومعه شربة ماء ، وبعد أن وجده جريحًا قال له : أسقيك؟ فأشار إليه بالموافقة وقبل أن يسقيه سمعا رجلا يقول : آه فأشار ابن عم حذيفة إليه ؛ ليذهب بشربة الماء إلى الرجل الذي يتألم فذهب إليه حذيفة ، فوجده هشام بن العاص ، ولما أراد أن يسقيه سمعا رجلا آخر يقول : آه فأشار هشام لينطلق إليه حذيفة بالماء ، فذهب إليه حذيفة فوجده قد مات فرجع بالماء إلى هشام فوجده قد مات ، فرجع إلى ابن عمه فوجده قد مات ،  لقد فضَّل كلُّ واحد منهم أخاه على نفسه، وآثره بشربة ماء .
 جاءت امرأة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم  وأعطته بردة هدية ، فلبسها  وكان محتاجًا إليها ، ورآه أحد أصحابه ، فطلبها منه وقال : يا رسول الله ! ما أحسن هذه ، اكْسُنِيها   فخلعها النبي  وأعطاها إياه ، فقال الصحابة للرجل: ما أحسنتَ ، لبسها النبي   محتاجًا إليها، ثم سألتَه وعلمتَ أنه لا يرد أحدًا ، فقال الرجل: إني والله ما سألتُه لألبسها إنما سألتُه لتكون كفني ) البخاري . واحتفظ الرجل بها فكانت كفنه . وجاء رجل جائع إلى الرسول  وهو في المسجد ، وطلب منه طعامًا ، فأرسل النبي  ليبحث عن طعام في بيته ، فلم يجد إلا الماء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم  : (من يُضيِّف هذا الليلة رحمه الله)  فقال رجل من الأنصار : أنا يا رسول الله ، وأخذ الضيفَ إلى بيته ، ثم قال لامرأته : هل عندك شيء؟ فقالت: لا إلا قوت صبياني فلم يكن عندها إلا طعام قليل يكفي أولادها الصغار فأمرها أن تشغل أولادها عن الطعام وتنومهم ، وعندما يدخل الضيف تطفئ السراج ، وتقدم كل ما عندها من طعام للضيف ، ووضع الأنصاري الطعام للضيف  وجلس معه في الظلام حتى يشعره أنه يأكل معه ، وأكل الضيف حتى شبع ، وبات الرجل وزوجته وأولادهما جائعين  وفي الصباح ذهب الرجلُ وضيفه إلى النبي صلى الله عليه وسلم  فقال للرجل: (قد عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة) مسلم .   وفيهم قالالله تعالى : ] ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة [   والخصاصة: شدة الحاجة .

اجتمع عند أبي الحسن الأنطاكي أكثر من ثلاثين رجلا ومعهم أرغفة قليلة لا تكفيهم ، فقطعوا الأرغفة قطعًا صغيرة ، وأطفئوا المصباح ، وجلسوا للأكل ، فلما رفعت السفرة ، فإذا الأرغفة كما هي لم ينقص منها شيء ؛ لأن كل واحد منهم آثر أخاه بالطعام وفضله على نفسه ، فلم يأكلوا جميعًا .
 
 فانظر يا أخي إذا كنت ممن يسهل عليهم العطاء ولا يؤلمهم البذل فأنت سَخِي، وإن كنتَ ممن يعطون الأكثر ويُبقون لأنفسهم فأنت جواد ، أما إن كنت ممن يعطون الآخرين مع حاجتك إلى ما أعطيت ، لكنك قدمت غيرك على نفسك فقد وصلت إلى مرتبة الإيثار.

وكما أن الإيثار يطهر النفس من الشح والبخل ، فإنه يؤدي إلى السخاء والجود ، اللتان من اتصف بهما أحبه الله وأحبه الناس ، والإيثار والسخاء من أحسن الخصال وهما من أعلى المراتب ، لما فيهما من توكيد المحبة   والصبر على المشقة ، مع الرغبة في الأجر والثواب .

ومن مراتب الإيثار ، إيثارُ رضا الله على رضا غيره وإن عظمت فيه المحن ، وثقلت فيه المؤن ، وهو أن يفعل ما فيه مرضاته ، ولو أغضب الخلْق ، وهي درجة الأنبياء وأعلاها لِلرسل عليهم صلوات الله وسلامه. وأعلاها لأولي العزم منهم، وأعلاها لنبينا  ، فإنه قاومَ العالم كُله وتجرد للدعوة إلى الله ، واحتمل عداوة البعيد والقريب في الله تعالى، وآثر رضا الله على رضا الخلق في كل حال  ولم يأخذه في إيثار رضاه لومةُ لائم ،  بل كان همُّه وعزْمُه وسعيه كله مقصورًا على إيثار مرضاة الله وتبليغ رسالته وإعلاء كلمته، وجهاد أعدائه؛ حتى ظهر دين الله على كل دين، وقامت حجته على العالمين، وتمت نعمتُهُ على المؤمنين، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة ، وجاهد في الله حق جهاد، وعبد الله حتى أتاه اليقين من ربه، فلم ينل أحدٌ من درجةِ هذا الإيثار ما نالَ ، صلوات الله وسلامه عليه .

وقد جرت سنة الله التي لا تبديل لها ، أن من آثر مرضاة الخلق على مرضاته : أن يُسخط عليه من آثر رضاه ويخذُله من جهته ، ويجعل محنته على يديه ، فيعود حامدُهُ ذامًّا، ومن آثر  مرضاته ساخطًا، فلا على مقصوده منهم حصل، ولا إلى ثواب مرضاة ربه وصل ، وهذا أعجز الخلقِ وأحمقهم . قال الشافعي رحمه الله : " رضا الناس غايةٌ لا تدرك فعليك بما فيه صلاحُ نفسك فالزمهُ"  ومعلومٌ أن لا صلاح للنفس إلا بإيثار رضا ربها ومولاها على غيره ولقد أحسن من قال :

فليتك تحلُو والحياةُ مريرَةٌ   وليتك ترضى والأنامُ غِضَابُ

وليت الذي بيني وبينك عامرٌ   وبيني وبين العـالمين خرابُ

إذا صحَّ منك الودُّ فالكّلُّ هينٌ   وكل الذي فوق التراب تراب

وقال بعض الحكماء : عامل سائر الناس بالإنصاف وعامل المؤمنين بالإيثار ، وقال بعضهم : بالإيثار تملك الرقاب ، وقيل من آثر على نفسه استحق الفضيلة ، وقال حكيم : من آثر على نفسه بالغ في المروءة ، وسئل بعض الحكماء : من أجود الناس ؟ قال : من جاء من قلة  وصان وجه السائل عن المذلة . وقال علي رضي الله عنه : الإيثار أعلى الإيمان ، ولو لم يكن من فوائده إلا أنه دليل كمال الإيمان وحسن الإسلام ، ورفعة الأخلاق لكفى  فكيف وهو طريق إلى محبة الله سبحانه ، وحصول الألفة بين الناس ، وطريق لجلب البركة والوقاية من الشُّحِّ  

فهو يحرك في النفس السلوك الإيجابي ، الذي يوطد المحبة بين المسلمين روى أن قيس بن سعد بن عبادة كان من الأجواد المعروفين ، حتى مرض مرّة ، فاستبطأ إخوانه في العيادة ، فسأل عنهم ، فقالوا إنهم يستحيون مما لك عليهم من الدين ، فقال أخزى الله مالاً يمنع الإخوان من الزيارة ، ثم أمر منادياً ينادي : من كان لقيس عليه مال فهو منه في حل ، فما أمسى حتى كُسرت عتبة بابه لكثرة من عاده .

ما أجدر المسلمين أن يتخلقوا بخلق الإيثار رمز الأخوة الإسلامية ، وصورة من صور التكافل والتضامن الإسلامي .  

وأفضل الناس من بين الورى رجلٌ   تقضي على يده للناس حاجاتُ

قد مات قومٌ وما ماتت مكارمهم   وعاش قومٌ وهم في الناس أمواتُ

فمن عرف حق الله سعى لرضاه وآثر محبته على محبة ما سواه ،  ومن عرف حق رسوله  آثر محبته وطاعته على كل ما يحب ، ومن عرف حق الوالدين آثر راحتهم وطاعتهم على راحته ، ومن عرف حقوق الإخوان آثر إسعادهم وقضاء حوائجهم على حوائج نفسه, ومن عرف حقوق المجتمع سعى ليكون لبنة صالحة فيه, وتعاون مع أفراده على البر والتقوى ، وهذه كلها لابد أن يكون دافعها الإيمان بالله عز وجل ، والرغبة في ثوابه وصدق المحبة والمودة ، فمتى صدق المرء في محبته وأخلص في مودته   فإنه يؤثر من أحبه بالخير على نفسه ، وهو ما عناه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) .

  

 

 

 

اختيار الإداري الكفء

 

إن نجاح أي مهنة يرتبط بالسمات الشخصية لمؤسسها ، لأنها تلعب دورا رئيسا في نجاحه ، وحتى يحقق هذا النجاح ، فلا بد أن يمتلك المهارات التي تجعله قادرا اتخاذ القرارات وصياغة الأهداف ، ووضعها موضع التنفيذ بكفاءة ، وهذا بحاجة ماسة إلى المهارات الشخصية ، التي تعتبر من العوامل الرئيسية والهامة  في نجاح الفرد في الحياة العملية والوظيفية؛ وهيلا تقل أهمية عن العوامل المهنية والتخصصية ، بل قد تتفوق عليها، وأذكر منها على سبيل المثال لا الحصر   تنمية وتطوير مهارات الاتصال والتفاعل مع الآخرين ، واللباقة وحسن الأداء والأمانة في العمل ، ومراقبة الله سبحانه وتعالى في السر والعلن ، والإصراروالعزيمة على تطوير النفس وتنمية القدرات، وحسن تقدير الأمور وعواقبها ، واختيار الرجل المناسب في المكان المناسب ، بالنظر إلى المؤهلات العلمية أو الفنية ، وخاصة في المجالات العلمية والقطاعات الإنتاجية ، وأن يتم الاختيار على أساس الكفاءة والقدرة العلمية ، لأن نجاح أي مهنة وتطورها ، رهينة بالاختيار السليم لكوادرها وقياداتها  .

 

وقد حث الإسلام على انتقاء ذوي الكفاءات ،فمن العدل أن تجعل العالم  بالحساب محاسباً ، والمتأهل للإدارة مديراً  ، ومن الظلم أن تجعل الجاهل معلماً ، والضعيف في الإدارة مديراً ، بل يجب أن يختار الرجل المناسب للمكان المناسب  ولكل عمل من هو أصلح له .

 

وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم من علامات انتظار الساعة أن يوسد الأمر إلى  غير أهله ، وذلك تضييع للأمانة كما في الصحيح وغيره ، فالنجاح بصفة عامة يكمن في تكوين المجتمع على أساس الكفايات ، لا على أساسا  لمحسوبيات أو العصبيات أو الاعتبارات الأخرى ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : ( بعث النبي صلى الله عليه وسلم بعثاً وأمّر عليهم أسامة بن زيد ، فطعن بعض الناس في إمارته ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه منقبل ، وأيْم الله إن كان لخليقاً للإمارة .. البخاري .  ولما كان  التوظيف في الإسلام مبنيٌ على وضع الرجل المناسب في المكان المناسب ، حذر الشرع من تخطي هذه القاعدة ، واعتبر تجاوزها خيانة للأمة وغشاً للمجتمع ، وفتحاً لباب الضعف الإداري ، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :  (من ولى على عصابة رجلاً ، وهو يجد من هو أرضى لله منه  فقد خان الله ورسوله والمؤمنين)أخرجه الحاكم ،  فدل هذا الحديث على أن الوظائف في الدولة الإسلامية تقتضي شروطاً تجب مراعاتها في وضع الرجل المناسب في مكانته المناسبة ، مع مواهبه ومؤهلاته دفعاً لعجلة التقدم ، ورقياً بالأمة إلى مرتبة النجاح   وإرضاءً لله عز وجل ، وفي الإخلال بذلك بتولية من يكون أقل صلاحاً من ذاك ، أو تولية من لا يصلح أصلاً لأسباب خارجية ، كالعصبية والقرابة أو بسبب رشوة ونحو ذلك ، فإن هذا خيانة لله تعالى وللأمة 

 

 وقد جاء الهدي النبوي فرسخ هذه القاعدة ، فقد صرف النبي صلى الله عليه وسلم أبا ذر الغفاري   رضي الله عنه عن الولاية والإمارة حين طلب ذلك ، وقال له : ( يا أبا ذر إنك ضعيف ،وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأعطى الذي عليه فيها )مسلم ، وهكذا رأى النبي صلى الله عليه وسلم أن أبا ذر الغفاري لم تكن مواهبه الإدارية مؤهلة له لمرتبة الإمارة وسياسة الناس ، واعتبره ضعيفاً في هذا المجال ، فصرفه عن طلبه هذا مع محبته صلى الله عليه وسلم له ، وتزكيتهله بأنه أصدق الناس لهجة ،  وقد كان من هديه صلى الله عليه وسلم أن يختار للقضاء أناساً ، ولجمع أموال الزكاة أناساً ولقيادة السرايا والحملات العسكرية آخرين ، مراعياً في ذلك كله مؤهلاتهم ومواهبهم سيرة الرسول  صلى الله عليه وسلم حافلة بالشواهد على ذلك  . 

 

فلا يصلح المجتمع إلا بوضع الشخص المناسب في المكان المناسب، أما إذا وُسَّد الأمر  إلى غير أهله فقد ضُيَّعت الأمانة وقرُبت الساعة ، والدارس لتعاليم الإسلام وسيرة الأنبياء يجد أن التصدي لإدارة شؤون الأمة وفق مناهج الدين ، واجب شرعي ومسؤولية دينية ، فكان كل نبي أو رسول يبعثه الله سبحانه وتعالى هو مشروع قيادة وحكم للناس يقول تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ النساء الآية 64 . فقال على لسان موسى : { واحلل عقدة من لساني  يفقهوا قولي ، واجعل لي وزيراً من أهلي ، هارون أخي } طه 27  

 

كان موسى لديه رُتّه في لسانه ، أي يعجل في كلامه فلا يطاوعه لسانه   فطلب من ربه أن يجعل له وزيرا ناصحاً أميناً ، يكمل ما فيه من نقص بأخيه  ليعينه على تبليغ الرسالة ، ويقال إن هارون كان يمتاز على موسى في أمور أخرى ، فكان في لين وحلم ، وكان موسى حاداً سريع الغضب .

 

وقال تعالى على لسان نبيه يوسف  عليه السلام : ﴿قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ، وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ﴾ يوسف 55.

 

يوسف عليه السلام لم يطلب ولاية ، وإنما طلب الإصلاح ليتخذ من إصلاحه سبيلاً لدعوته ، وتحقيقاً لرسالته  فقد طلب الولاية لنفسه ، لثقته في إنجاح المهمة  كما أنه بذلك حجب من ليس له خبرة ، أن يتولى منصبا لا يعلم إدارته . كما يفهم من الآية ، أن يوسف جعل لنفسه بيتاً في أكثر من مكان ، وأنه حين أقام لنفسه بيتاً في أكثر من مكان ، فقد أحسن إلى أهل الأمكنة التي له فيها بيوت ، بارتفاع مستوى الخدمة لأجل بيته .

 

وقال عزّ من قائل على لسان نبيه سليمان  عليه السلام : ﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي....﴾ ص 35 . وقال عزّ وجلّ على لسان نبيه إبراهيم  عليه السلام : ﴿رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ الشعراء 83 . وقد تكررت في سورة الشعراء آية ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ﴾ على لسان خمسة أنبياء هم نوح، وهود، وصالح، ولوط وشعيب  عليه السلام ، حين كانوا يدعون الناس إلى طاعتهم، وكانوا هم  عليهم السلام يرشحون أنفسهم للسلطة وإدارة شؤون الأمة .

 

 

 

التطاول في البنيان

من علامات الساعة التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومازالت ظاهرة، بل هي في ازدياد: التطاول في البنيان  وذلك بأن يبني الناس العمارات الشاهقة، مع عدم حاجتهم إليها، وقد خص النبي صلى الله عليه وسلم صنفاً من الناس ممن يتولون ذلك التطاول ، وشدَّد في ذلك، وبين حال هؤلاء الذين يبنون من غير حاجة، لأن الأمر أسرع مما يؤملون  وأن الذي يبني ما لا حاجة له فيه ، فإنه سيحمل ما بناه على كتفيه يوم القيامة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان، تكون بينهما مقتلة عظيمة، دعوتهما واحدة  وحتى يُبعث دجّالون كذّابون قريبٌ من ثلاثين، كلُّهم يزعم أنه رسول الله، وحتى يُقبض العلمُ، وتكثر الزلازل  ويتقارب الزمان، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج- وهو القتل ـ وحتى يكثر فيكم المال فيقبض حتى يُهمَّ ربَّ المال من يقبل صدقته ، وحتى يعرضه فيقول الذي يعرضه عليه: لا أربَ لي به، وحتى يتطاول الناسُ في البنيان.. " الحديث بطوله رواه البخاري .

وقد خص النبي صلى الله عليه وسلم الذين يتطاولون في البنيان أنهم رعاة الإبل والغنم ، فقد جاء في آخر الحديث في قصة جبريل عليه السلام عن الإسلام والإيمان والإحسان قوله صلى الله عليه وسلم : ( وإذا كانت العُراةُ الحفاةُ رؤوسَ الناس فذالك من أشراطها، وإذا تطاول رعاء البهم ( وعند البخاري : رُعاة الإبل البهم ) في البنيان فذالك من أشراطها .." الحديث بطوله، متفق عليه .

وفي رواية مسلم قول جبريل عليه السلام: فأخبرني عن الساعة؟ قال صلى الله عليه وسلم :( ما المسؤولُ عنها بأعلمَ من السائل ) قال: فأخبرني عن أمارتها ؟ قال: ( أن تلد الأمةُ ربَّتها  وأن ترى الحُفاة العُراةَ، العالةَ رِعاء الشاء، يتطاولون في البنيان ) والتطاول ـ تفاعل ـ أي يتفاخرون في تطويل البنيان، ويتكاثرون به ، وفي الحديث إخبار ـ كما يرى الإمام القرطبي عن تغير الأحوال، واستيلاء أهل البادية على أهل الحاضرة، واتساعهم في حطام الدنيا، وانصراف هممهم إلى تشييد المباني ، ذلك لأن الإنسان يؤجر في نفقته كلها إذا خلص عمله، إلا ما كان في البناء ما لم يكن في مصلحة أو حاجة ، فعن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم : ( إن العبد ليؤجر في نفقته كلَّها  إلا في التراب، أو قال: في البناء ) رواه الترمذي وصححه، وابن ماجه والطبراني، وجوَّده الحافظ العراقي، ورواه البخاري موقوفاً ، والسبب في ذلك ـ والله تعالى أعلم ـ أن الإنسان لن يُعمّر في هذه الدنيا، وأنه ليس له من ماله إلا ما كان في حاجة أو في وجوه الخير، لذا لو أنه وضع ماله فيما ينفع المسلمين لكان خيراً له، أما إذا جعله في البناء فقد جمّد المال، واقتصر النفع على شخصه  ولم ينتفع المسلمون بما جّمِّد من هذا المال ، ثم إن الواقع الاقتصادي للمباني العالية يبقى محط تساؤل كبير ، سباق على بناء أطول الأبراج في دول الخليج وتساؤلات عن جدواها وجماليتها وتأثيرها البيئي . ترتسم ملامح معركة شرسة بين دول الخليج الغنية بالنفط ، لتشييد أعلى مبنى في العالم، خصوصاً بعد الإعلان عن تشييد برج يتجاوز ارتفاعه 1600 متر، متخطياً بذلك كل الحدود النفسية والهندسية . وقد تناسوا أن الإسلام اهتم ببناء الإنسان قبل بناء البنيان ، ووضع لذلك منهجاً عمرانيا للبناء بقدر الحاجة ، وذم التباهي والتفاخر بطول البنيان وزخرفته   سواء كان ذلك بالنسبة للمساكن أو حتى بالنسبة للمساجد ، ثم إن القضية ليست قضية قباب أو زخارف أو أشكال أو أطوال ، بل هي قضية المجتمع الإسلامي الذي يعاني من تكالب دول الكفر ، وقضية البعد عن منهج الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم .   

 لما بنى عبد الرحمن الناصر مدينة الزهراء في الأندلس   تفنن في بنائها وجعلها من أعاجيب مدن العالم ، وكان مما بناه فيها الصرح الممرد ، اتخذ لقبته قراميد من ذهب وفضة ، حيى أنفق عليها من خزينة الدولة مالاً عظيما وكان في قرطبة عالمها الفقيه الجريء منذر بن سعيد قاضي الجماعة ، فهاله انهماك الناصر في بناء الزهراء ، وما أنفقه من أموال الدولة عليها ، وكان الناصر يحضر صلاة الجمعة في المسجد الجامع ، ويستمع إلى خطبة قاضيه منذر الذي بدأ خطبة الجمعة في تقريع الناصر على إنفاقه الأموال في بناء الزهراء أن تلا قول الله تعالى : ] أتبنون بكل ريعٍ آية تعبثون ، وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون ، وإذا بطشتم بطشتم جبارين ، فاتقوا الله وأطيعون   واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون ، أمدكم بأنعامٍ وبنين   وجناتٍ وعيون ، إني أخاف عليكم عذاب يومٍ عظيم [ الشعراء 128 . ثم وصل ذلك بقوله تعالى : ] متاع الدنيا قليل والآخرة خيرٌ لمن اتقى [ النساء . ثم مضى في ذم الإسراف على البناء بكلام جزل وقول شديد ثم تلا قوله تعالى: ] أَفَمَنْأَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍخَيْرٌ أَممَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِجَهَنَّمَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [ التوبه 109 . وتابع يذم تشييد البنيان والإسراف في الإنفاق عليه ، حتى خشع القوم وبكوا وضجوا ، ثم التفت إلى الناصر وقال له : " ما ظننت أن الشيطان أخزاه الله يبلغ بك هذا المبلغ ولا أن تمكنه من قيادتك هذا التمكين ، مع ما آتاك الله وفضلك به على العالمين ، حتى أنزلك منازل الكافرين ، فاقشعرّ الناصر من قوله وقال : انظر ما تقول ؟ كيف أنزلتني منازلهم ؟ قال : نعم ، أليس الله يقول : ] ولولا أن يكون الناس امة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج عليها يظهرون ، ولبيوتهم أبواباً وسرراً عليها يتكئون [ الزخرف 33 . فوجم الخليفة ونكّس رأسه ملياً ودموعه تجري على لحيته خشوعاً لله وندماً على ما فعل ، ثم قال لقاضيه منذر بعد انتهاء الصلاة جزاك الله عنا وعن المسلمين كل خير فالذي قلت والله هو الحق ، وقام من مجلسه وهو يستغفر الله ، وأمر بأن ينقض سقف القبة ، وأن تكون قراميدها ترابا . موقف يشعرنا بأن سرّ عظمة الأمة يكمن في وفائها للحق مع من تحب من ولاة الأمر ، فلا تبخل بتأييدهم حين يصيبون ولا تتردد عن نصيحتهم يوم يخطئون ، حتى إذا تخلت الأمة عن هذا الخلق ، آذن مجدها بالانهيار وكرامتها بالضياع والامتهان .        

واضح من قوله تعالى :] أتبنون بكل ريع آية تعبثون [ أن الله ينكر الترف في البنيان لمجرد التباهي بالمقدرة   والإعلان عن الثراء ، والاستطالة في البناء ، وينكر الغرور بما يقدر عليه الإنسان في هذه الدنيا ، وما يسخر فيها من القوى ، والغفلة عن تقوى الله ورقابته ، وفي قوله ] فاتقوا الله وأطيعون [ تذكير لهم ليتذكروا فيشكروا  ويخشوا أن يسلبهم ما أعطاهم وأن يعاقبهم على ما أسرفوا . وقد استوقفتني هذه الآية وما بعدها ، لما فيها من عبرة ونقد وتوجيه : إنها افتتاح الانتقادات التي وجهها هود - عليه السلام - إلى قومه عاد بعد أن دعاهم إلى الله، وأمرهم بطاعته ، وقد انتقد عبثهم بالبنيان، والعبث بالبنيان: تشييده لمجرد التباهي بالقدرة عليه، قدرة جسمية في بنائه، وعقلية في تصميمه وهندسته، ومالية في الإنفاق عليه، إنه بناء لغير نفع  وفي هذا الانتقاد توجيه إلى أن الجهد والبراعة وإنفاق المال إنما يكون في البناء الضروري المثمر ، والذي فيه الخير والصلاح للإسلام والمسلمين ، والسداد في الدين والدنيا. والآية نزلت في قوم عاد ، فما هو نصيبنا منها ؟ لبيان ذلك انقل أثرين من آثار سلفنا الصالح : الأول: عن مجاهد بن جبر حيث قال:«ليس احد أشبه فِعالاً بعاد من امة محمد صلى الله عليه وسلم وتلا قوله تعالى : ] أتبنون بكل ريع آية تعبثون [  فقد والله فعلوا. أخرجه ابن أبي حاتم في  تفسيره /2794.

والثاني: ما أخرجه ابن أبي حاتم - أيضا - في تفسيره عن عون بن عبد الله بن عتبة، أن أبا الدرداء رضي الله عنه لما رأى ما احدث المسلمون في الغوطة من البنيان، ونصب الشجر قام في مسجدهم، فنادى : يا أهل دمشق! فاجتمعوا إليه   فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: ألا تستحيون ألا تستحيون، تجمعون ما لا تأكلون، وتبنون ما لا تسكنون  وتؤملون ما لا تدركون ، قد كانت قبلكم قرون يجمعون فيوعون، ويبنون فيوثقون، ويأملون فيطيلون، فأصبح أملهم غروراً، وأصبح جمعهم بوراً، وأصبحت مساكنهم قبوراً . ففي هذين الأثرين ما يغني عن التوسع في التعليق عما نعايشه هذه الأيام من البناء للتباهي لا للسكن، ابتداء من التنافس على شراء الأرض، من غير حاجة ونسيان الزكاة بل البعض من لا يفكر في زكاة ماله بالكلية

أنا لا أقصد إنكار البناء، فهذا لا يقوله احد، إنما أريد أن أوضح ما جاء به دين الإسلام في قضية البناء : فقد أجمع علماء المسلمين على انه يلزم كل امرئ تحصيل مسكن له  ولمن تلزمه نفقته فمن حصل مسكناً له ولأهله، ببناء بيت  أو اكترائه، فقد سلم من الإثم.

كما رغّب الاسلام في سعة البيوت بكبر مساحتها، حيث صحَّ عن النبي  صلى الله عليه وسلم إن من سعادة المرء المسكن الواسع وان المسكن الضيق من الشقاء .

وللإسلام موقف واضح من المساكن التي شيدت على أساس التفاخر والتباهي ، فليس لمن بنى بيتاً من غير حاجة، أو فوق ما يحتاجه، اجر، لما في الصحيحين عن خباب بن الأرت رضي الله عنه انه قال وهو يبني حائطاً له «إن المرء المسلم يؤجر في نفقته كلها، إلا في شيء يجعله في التراب» ورواه الترمذي مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قوله .

ومعنى في التراب أي البنيان الذي لم يقصد به وجه الله وقد زاد على ما يحتاجه لنفسه وعياله على الوجه اللائق.

وقد اخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن حال الذين يبنون للمباهاة بما يردع غرورهم وتعاظمهم، ففي حديث عمر بن الخطاب  رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم اخبر عن علامات الساعة فقال: ( وان ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان ) .قال الحافظ ابن رجب في جامع العلوم والحكم «1/137» والمراد: أن أسافل الناس يصيرون رؤساءهم وتكثر أموالهم ، حتى يتباهون بطول البنيان وزخرفته واتقانه ، والله أعلم .

        

 

 

 

 

 

 

 

 

التخطيط للمستقبل

إن الإسلام يربي المسلم على النظر دائماً نحو الأمام ، فمنذ البلوغ على أن يلقى الله سبحانه ، يتطلع نحو المستقبل ، بل يجعله حكماً في حاضره ، وهناك نصوص تتحدث عن المستقبل ، وهذه النصوص منها ما يقدم الإطار العام كقوله تعالى ] إن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم [ الرعد 11 . ومنها ما يقدم بعض التفصيلات كإخباره صلى الله عليه وسلم عن الفئة التي ستأتي من قبل المشرق  وإخباره عن فشو الأمراض الغريبة في الذين تفشو فيهم الفاحشة   وقد أوجدت معرفة السنن عند السلف حسّاً خاصاً بالتعامل مع الواقع من خلال إفرازاته المستقبلية   فهذا أبو بكر يقول " لا تغبطوا الأحياء إلا على ما تغبطون عليه الأموات ، وهذا عمر يأتيه خبر فتح خراسان فيقول للناس في المدينة " لا تبدلوا ولا تغيروا فيستبدل الله بكم غيركم ، فإني لا أخاف على هذه الأمة إلا أن تؤتى من قبلكم " الطبري 4- 173 . ولما جاءوا إليه بغنائم جلولاء فرأى ياقوتة وجوهرة فبكى ، فقال له عبد الرحمن بن عوف ما يبكيك يا أمير المؤمنين وهذا موطن شكر ؟ فيقول عمر : " والله ما ذاك يبكيني ، وتا الله ما أعطى الله هذا أقواماً إلا تحاسدوا وتباغضوا ، ولا تحاسدوا إلا ألقى الله بأسهم بينهم " الطبري 4-30 . وقد كان ما خافه . وقديماً قيل : لا مستقبل بلا عمل ولا حلم بلا أمل

إن النجاح مطلب يسعى إليه كل إنسان ، ولا يسعى للنجاح من لا يملك طموحاً، ولذلك كان الطموح هو الكنـز الذي لا يفنى ، فهذا عمر بن عبد العزيز يقول معبراً عن طموحه : " إن لي نفساً تواقة ، تمنت الإمارة فنالتها  وتمنت الخلافة فنالتها ، وأنا الآن أتوق إلى الجنة ، وأرجو أن أنالها " . فالنجاح عمل وجد   وتضحية وصبر، ومن منح طموحه صبراً وعملاً وجداً  حقق نجاحاً ، ومن جدّ وجد ومن زرع حصد.

ومن الطموح التطلع لمستقبل أفضل ، لأن المستقبل يُصنع في الحاضر، ومع أن المستقبل بيد الله ، إلا أن للإنسان دور في تحقيقه قال تعالى: ﴿وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يُرى

بعض الدعاة يكادون يلغون النظرة إلى المستقبل  ويعيشون على الماضي والدوران في ساقيته ، دون اهتمام كافٍ بمشكلات اليوم ، وتطلعات الغد ، شعارهم : ما ترك الأول للآخر شيئا ، وليس في الإمكان أبدع مما كان   متناسين أن الواجب يفرض علينا أن نكون عدولاً بين أمسنا ويومنا وغدنا ، نقتبس من الأمس ونعمل لليوم ونستعد للغد ، وقد قص القرآن علينا من أنباء الرسل والصالحين ما فيه عبرة لأولي الألباب ، في مواجهة احتمالات المستقبل ، قص علينا كيف أنقذ الله على يد يوسف عليه السلام مصر وما حولها من أزمة غذائية  خطط لها أحسن تخطيط لمدة خمسة عشر عاما ، وكان مما علمه الله ليوسف ، وقصة ذي القرنين الذي بنى سده العظيم ، ليقف حاجزاً ، ضد هجمات قبائل يأجوج ومأجوج ، فكان بناء السد من المشروعات الأمنية المستقبلية لمواجهة احتمالات الغد ، وهذا الرسول صلى الله عليه وسلم حين كان يعرض دعوته على قبائل العرب في مواسم الحجيج بمكة ، يطلب منهم الإيمان به ، والنصرة له  كان يفكر في مستقبل دعوته ، وكان الصحابة والخلفاء الراشدون من بعده ، يحسبون حساب المستقبل .  

فالوصول إلي المراد يتم بالعمل والاجتهاد ، ومغالبة الواقع   وان كان الهدف يبدو بعيدا ، فان الله لا يضيع أجر العاملين ، وقيل : لكل مجتهد نصيب. قال الشاعر :

بقدر الكد تكتسب المعالي  ومن طلب العلا سهر الليالي
ومن طلب العلا من غير كد   أضاع العمر في طلب المحال
 فالإنسان مجبول على التطلع للمستقبل ، على أن لا يكون هروباً من الحاضر، ولا تجاوزاً للسنن الربانية ولكنه الأمل الذي يدفع إلى العمل .

 والراشدون من أمة الإسلام ، كانوا يَعُدون النظر في المستقبل وتوقع أحداثه ، من الأسباب التي جاءت بها الشريعة ، كان عمر رضي الله عنه محدثاً ملهماً قلما قال لشيء : أظنه كذا ، إلا كان كما قال ، وكان يقول : تفاءل بما تهوى يكن فلقلما  يقال لشيء كان إلا تحققا

وهذا هو التفاؤل الإيجابي الحذر، وليس التمنيات العريضة الفارغة ، وقد استقبلت أنفسهم خبر الصدق عن هذا الدين وأهله ، وما سيقع له من التفوق والانتشار، وما سيطرأ عليه من النقص والخلل والفتنة ، حتى الموعودون بالجنة تبشيراً صادقاً ، لم يعن هذا لهم خروجاً على قانون الشريعة، ولا تنصلاً من الأمر والنهي، ولولا ما علم الله عنهم من الثبات على دينه ومحاذرة التجاوز ، ما كانوا أهلاً لذلك الوعد الكريم.

 

 

 

ومن الخلل المصاحب لهذا الضرب في الحياة الإسلامية المعاصرة ، اعتبار ضمان المستقبل لهذا الدين، ولذلك أخلدت الأمة للقعود والتواكل ومضغ الحديث ، مكتفين

بأن دين الله منصور، بينما هو منصور بجهود مباركة زكت فيها النية وحالفها الصواب، وقرأت المعطيات وتذرعت بالأسباب ،، وفي مثل هذه الحال يغدو التفريط والتساهل في دراسة المستقبل واحتمالاته ، تفريطاً في الضروريات وغفلة عما أوجب الله على العباد ، من التدبر والنظر والتخطيط ، ولعل من أثر ذلك الانشغالات الجزئية بالهموم الخاصة عن هم الأمة الكبير .

  

 

وما علموا أن النجاح في الحياة ما هو إلا ثمرة من ثمار التخطيط الناجح ، أما الفشل فيعود لغياب التخطيط للمستقبل ، ومشكلة الأمة تكمن في غياب ذلك ، بحيث لا يفكرون إلا في اللحظة الراهنة ، ولا ينظرون إلى تحديات المستقبل ، مما يجعلهم يفقدون القدرة على التعامل مع تحديات المستقبل وفرصه ، فلا يعرفون متطلبات الزمان ، فيقعوا في دائرة الفشل ، لعدم الشعور بالمسؤولية والإنسان الذي يعيش بدون أي شعور بالمسؤولية تجاه نفسه أو أهله أو مجتمعه أو أمته ، لن يشعر بأهمية التخطيط للمستقبل، بل  يعيش في حالة يرثى لها بحجة التفكير في الآخرة والابتعاد عن الدنيا! وبهذا نبرر تقاعسنا وكسلنا عن القيام بأعمال صالحة في الدنيا ، بمفاهيم خاطئة عن الدين، مما يدفعنا لعدم التخطيط للمستقبل فضلاً عن التفكير فيه ، والمطلوب أن نخطط لحياتنا الدنيوية والأخروية معاً!وأن نوازن بينهما، يقول الله تعالى ] وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [  ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً ، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً ) والتخطيط للمستقبل الدنيوي يجب أن يدفعنا للقيام بالأعمال الصالحة التي تقربنا من الله عز وجل، وتجعلنا نفوز بالآخرة .

من المدهش أن نجد في ظل غياب التفكير الجاد في أمر المستقبل، سواءً كان المستقبل الشخصي للفرد في حياته العملية والاقتصادية والاجتماعية، أو المستقبل العام للأمة   أن تجد حضوراً مذهلاً للكهنة والعرافين والمنجمين الذين

يفيضون على الناس خليطاً من التجربة العادية، ومن وحي الشياطين، ومن الحدس والبراعة، ومن الخداع والاستغفال، ويتفننون في توظيف المشتركات البشرية التي لا يخلو عنها أحد ، فيستهوون بذلك السذج والبسطاء ويخدرون عقول العامة، ويتقحمون حرمة الغيب المصون ] قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون [ النمل65 . والمستقبل في جانب منه غيب لا يعلمه إلا الله ولا ينبغي أن نقحم أنفسنا فيه  وهذا ما تجده في برامج الحظ والأبراج في القنوات الفضائية أو الإذاعات أو الصحف ، وهو ما تجده أيضاً في الزوايا المظلمة التي يقبع فيها السحرة ومستخدمو الجن والمشعوذون ، حيث تذبح الأديان والعقول، وتهدر الأموال بلا حساب .

وللمرء أن يطول عجبه من أمر هذه الأمة في غفلتها عما أوجب الله عليها، وهجومها على ما حرم، وانتهاك بعض منتسبيها لأستار الشريعة ، وادعاؤهم ما ليس لهم به علم  في الوقت الذي تمر البلاد الإسلامية بتحولات يُحَضّر لها  قد تشهد المنطقة أحداثها ، وأزمة مفتوحة يعلم الله وحده نهايتها ، وعن فوضى قد تضرب أجزاء من المنطقة في جانب أو آخر ، وإذا كان هذا من الغيب    فهو من الغيب الذي جعل الله له مفاتيح تلتمس بدراسة المقدمات والأسباب ، وقراءة الواقع في المنطقة ذاتها   وتحري أهداف السياسة الغربية، والأمريكية خاصة، في مرحلتها المقبلة ، والعوامل المؤثرة فيها، واستحضار التجارب المشابهة ، ليوجد الإنسان المؤمن القادر على أن يعيش عصره ، من غير أن يفقد نفسه ، وينسى أمسه  فقد جاء في الأثر : ( رحم الله امرءاً عرف زمانه  واستقامت طريقته ) وفي الحديث الذي رواه ابن حبان ( ينبغي للعاقل أن يكون عارفاً بزمانه ) فهل يصحو المخلصون من سباتهم ، وهل يستمع المعنيون إلى أصوات الرشد التي تدعو إلى تجاوز الماضي ، ومواكبة الأحداث ، والامتثال لمخاطبات التغيير الناصحة المشفقة ] إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب [ هود 88 .

 

 

 

 

 

 

 

 

الضمير أو النفس اللوامة

 ما هو الضمير ؟ هو تلك القوة الرّوحية التي تحكم مواقف الإنسان وتفكيره ، فتجعله يميز الخطأ من الصّواب وتقابله التقوى التي تزرع الرهبة في قلب الإنسان، فتجعله يبتعد عن السيئات ويقبل على فعل الحسنات· وكأن التقوى هي الضمير بعينه الذي يجنب الإنسان أفعال السوء ويدله على طريق الخير ، وكلمة الضمير جارية على كل لسان ، نرى صادقاً أو أميناً فنصفه بأنه إنسان ذو ضمير   ونسمع بمن يغش أو يسيء معاملة الناس , فنقول : عديم الضمير , وقد نمر بالأزمات السياسية و الاقتصادية والاجتماعية ، فنقول : الأزمة أزمة ضمير , ونناشد الضمير العالمي ولا مجيب   لأن  ضمائرهم ميتة كقلوبهم , والضمير العالمي الذي نناشده ما هو إلا وهم وسراب ، من أجل ذلك كان الواجب أن تتعلق قلوبنا بالله في جلب النفع ودفع الضر , وأن نسعى في تربيتها   على معاني الإيمان و المراقبة لله تعالى حتى تحيا بنور العلم النافع والعمل الصالح , فتكون الخشية في السر والعلن    والغضب والرضا ، قال عبد الله بن دينار : خرجت مع عمر بن الخطاب إلى مكة , فانحدر علينا راع من الجبل  فقال له : يا راعي , بعنا شاة من هذه الغنم ؟ فقال : إني مملوك , فقال : قل لسيدك : أكلها الذئب ؟ قال : فأين الله ؟ قال : فبكى عمر , ثم غدا إلى المملوك واشتراه من مولاه وأعتقه وقال : أعتقتك في الدنيا هذه الكلمة وأرجو أن تعتقك في الآخرة " . وقال رضي الله عنه : إذا جلست للناس فكن واعظاً لنفسك وقلبك , ولا يغرنك اجتماعهم عليك ، فإنهم يراقبون ظاهرك ، والله رقيب على باطنك , وسئل ذو النون : بم ينال العبد الجنة ؟ فقال : بخمس : استقامة ليس فيها روغان , واجتهاد ليس معه سهو , ومراقبة لله تعالى في السر والعلانية , وانتظار الموت بالتأهب له , ومحاسبة نفسك قبل أن تحاسب " .

إن المعاني الطيبة التي تنطوي عليها كلمة الضمائر , لا تخرج عما جاء في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما سوى ذلك لا يلزمنا , لأنه صلى الله عليه وسلم ما ترك خيراً يقرب الأمة من ربها إلا ودلها عليه ، وما ترك شراً يباعد الأمة عن الله عز و جل إلا وحذرها منه و نهاها عنه وأمرها باجتنابه  

والضميرَ هو مستودعُ السرِّ الذي يكتمُه القلبُ  والخاطرُ الذي يسكنُ النفسَ؛ فيُضيءُ ظلمتَها ويُنيرُ جوانبَها، وهو القوةُ التي تدفعُ نحوَ فعلِ الخيراتِ وتركِ المنكراتِ وحبِّ الصالحاتِ ، وهو سببُ تسميةِ النفسِ باللوامَّةِ كما قالَ سبحانه : ] لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ [ القيامة . ويتحدث الرسول صلى الله عليه وسلم كاشفاً النقاب عن الضمير الحي وأثره في الصلاح فيقول : ( إذا ساءتك سيئتك وسرتك حسنتك فأنت مؤمن ) وقد ضَربَ اللهُ مثلاً لذلكَ بيوسفَ عليه السلامُ حينما حجَزَهُ ضميرُه عن الانجرافِ وراءَ الهوى وقال تعالى :] مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [  فالضمير  يُنجي صاحِبَه منَ المهالكِ   ويُبعدُه عَنْ شرِّ المسالكِ، ومن صفاتِ الضميرِ المؤمنِ أَنّ صاحِبَه دائمُ التذكّرِ فإذا همَّ بأمرِ سوءٍ ارتدعَ وانزجرَ  وابتعدَ عن المعاصي وأدبَرَ  قال  تعالى: ] إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [  ولذلك وُصِفَ الضميرُ الصالحُ بالحيِّ اليقظِ فهو حيٌّ ما دامَ نورُه وهَّاجَاً؛ فكانت نفسُه لوَّامةً  ووُصِفَ الضميرُ الطالحُ بالميِّتِ متى ما انطفأَ نورُه فكانتْ نفسُه أمَّارةً.

 وإن بلوغ الضمير الإنساني تقواه ومراقبته لخالقه في السرّ والعلن ، وتعويده على الإخلاص لله وحده لهو الغاية الكبرى ، وقد جاء الإسلام لتحرير الضمير الإنساني من عبادة غير الله ، وقيادة البشرية بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه الطريق الذي يوصل إلى الصلاح والإصلاح   ويأخذ بيد صاحبه إلى الحلال الطيب ، ويستمد حياته ورؤيته للحق من تقوى الله ، وهو ما يفتقده عالم اليوم فعم الفساد في البر والبحر ، لأنه غفل عن الضمير الحي ولما غفلت الإنسانية عن الضمير الحي ، عميت ولم تعد ترى إلا الشيطان ، فأخرجها من النور إلى الظلمات  فكان مصيرها الضلال ، فأصبحت أحساداً بلا عقول وقلوباً بلا إيمان ، عالم ضاع فيه الحق ، ونهش القوي لحم الضعيف ، ومُزّقت فيه عرى التقوى ، التي تمد كيان الإنسان بأسباب حياته ، وتعطي الضمير القدرة على الإحساس بالحلال الطيب وإدراكه ، ولن يبلغ الضمير الإنساني هذه الدرجة ، إلا إذا كانت دعوة الحق مسموعة وأخذت التقوى مكانها ، في مشارق الأرض ومغاربها  لأن الضمير البعيد عن منهج الله ، يصبح عرضة للرياء والنفاق في النفوس وتزييف للحق والحقائق ، ولن يبلغ الضمير الإنساني مرتبة التقوى إلا بوجود الإنسان المؤمن التقي ، الذي يراقب الله في السر والعلن ، فيتصرف بدافع من تقوى الله ، التي يتغلب بها على الشيطان ووساوسه قال تعالى : ] إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون [ الأعراف 201 . وبدافع من الإيمان الذي يورث النفس ثباتاً وطمأنينة قال تعالى : ] الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب [ الرعد 28 . بذكر الله تطمئن القلوب وتسكن الخواطر ، فيكون القلب حياً لا يغفل عن مراقبة الله في السر والعلن ، وبذكره يلين القلب ويجعله أكثر قرباً من رحمة الله ، لأنه قلب آمن بالله حق الإيمان ، فهداه الله    واتاه تقواه ، فاتخذ التقوى زاداً في دنياه وأخراه ، وأخلص في الطاعة لله ، والعمل على تطبيق كتاب الله وسنة رسوله من حكم بهما عدل ، ومن قال بهما صدق ، ومن تمسك بهما هدي إلى صراط مستقيم ، ومن ابتغى الهدى في غيرهما أضله الله .

والضميرُ الإنسانيُّ يتأثَّرُ بما تتأثرُ به النفسُ؛ فيتضائلُ ويقلُّ قدرُه ويخبو نورُه إذا انجرفت النفسُ وراءَ وساوسِها قال تعالى : ] وَلَقَدْ خَلَقْنَا الأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ أو اتبعَت همزاتِ الشياطينِ وإغواءَهم ] وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ، وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ [  أو انساقتْ وراءَ ضلالتِها ] فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا [ أو كانت رَهْنَ هواها ] إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ  [  أو اختلَّ ضميرُها وضعُفَتْ قوّتُها وصارَ الإنسانُ عبداً لشهواتِه يَرَى الباطلَ حقَّا والشرَّ خيرا ، لا يردعُهُ رادعٌ ولا يحجُزُه حاجزٌ، ولذلكَ قيلَ: "مَنْ توهَّمَ أنَّ لهُ عدواً أعدى من نفسِهِ قلَّتْ مَعْرِفَتُه بنفسِه"، وقد يسمو الضميرُ ويعلو قدرُه إذا خالفتْ النفسُ هواها قال تعالى : ] وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [ والضمير إذا أهملْتَه فإنه يَضْمرُ ويَضْعُفُ  وضمورُه دمارٌ لصاحبِه في الدنيا والآخرةِ؛ إذ بغيابِه يزولُ الرقيبُ الذي يوجِّهُك إلى الخيرِ ويدفعُك إلى البرِّ ويَحْمِيكَ من ضَلالِ النفسِ ، ونموُّ الضميرِ يكونُ بالدوامِ على الأعمالِ الصالحةِ ، وتحرِّي صنائعِ المعروفِ والبحثِ عن جوانبِ الخيرِ في النفس ] مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [ كما ينمو الضميرُ ويترَبَّى بذكرِ اللهِ تعالى والمحافظةِ على العباداتِ؛ حتى تكونَ النفسُ مطمئنةً في كلِّ حينٍ ] يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي، وَادْخُلِي جَنَّتِي [ .

والضمير أو النفس اللوامة ، هو ما وضعه الله في قلوبنا ليدعونا إلي الخير ،  ويزجرنا عن فعل الشر ويلومنا إن أخطأنا لنندم ونتوب عن الإثم قال تعالى ] لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة [ وقال صلى الله عليه وسلم ( إذا أساءتك سيئتك وسرتك حسنتك فأنت مؤمن ) .

والضمير في أكثر الأحوال هاد حكيم مرشد لا يضل ومن الخير لنا أن نستمع إليه ونستجيب إلي هديه ونصغي إلي تأنيبه لأنه يصل بنا إلي الصلاح وبمجتمعنا إلي الخير والفلاح ، وفي بعض الأحيان يفسد الضمير وينحرف عن الحق فيستسيغ الشر متأثرا بجهل صاحبه أمور الدين أو بما شاع في عصر من فساد وانحلال كالذي نراه فيمن يميلون إلي الجريمة والمنكر من قتل وسرقة وغيرها من الجرائم الأخرى لذلك كان الضمير الإنساني في حاجة إلي تربية ليكون حكمه صادقا فيشع الخير ويقل الشر برقابته المستمرة ، المستمدة من صحة العقيدة والإخلاص في العبادة ، فيؤمن الإنسان بأن في الكون إلها مطلعا     ] يعلم خائنة الأعين وما تخطى الصدور [ ويعلم السرائر ويحاسب عليها ] وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء [ بذلك تستقر في القلوب خشية الله ومراقبته في السر والعلن ، وقد سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الإحسان فقال : ( أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك )  طاعة الضمير فيما يدعو إليه من خير ومخالفة النفس الأمارة بالسوء فيما تميل إليه من شر

استجابة لله تعالى ] قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها [ . فبطاعة الله المستمرة وعدم مخالفته ننمي الضمير ونقوي سلطانه ونصبح قادرين على حساب أنفسنا فنحملها على فعل الخير ونصرفها عن فعل الشر وإلي ذلك يدعونا الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله : ( الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني ) .

والضمير المؤمن في داخل النفس كنقطة حراسة ، تدرأ عنها كل ذنب يتهددها ، وتناصر قوى الخير فيها فإذا ذهبت تدقق خلف كل جملة ، وتبحث عن كل مقولة قيلت فيك ، وتحاسب كل من أساء إليك ، وترد على كل من هجاك ، وتنتقم من كل مَنْ عاداك   فأحسن الله عزاءك في صحتك وراحتك ، ونومك ودينك واستقرار نفسك وهدوء بالك ، وسوف تعيش قلقاً   كاسف البال منغص العيش ، كئيب المنظر سيئ الحال فإن الضمير يرتفع بك إلى حياة الطهر والنقاء والعفو والمسامحة ، واستخدام منهج التطنيش، فإذا تذكرت مآسي الماضي فطنش، وإذا طرقت سمعك كلمة نابية فطنش   وإذا أساء لك مسيء فاعف وطنش، وإذا فاتك حظ من حظوظ الدنيا فطنش، لأن الحياة قصيرة لا تحتمل التنقير والتدقيق ، بل عليك بمنهج القرآن : ] خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [ .

سبّ رجل أبا بكر الصديق فقال أبو بكر: سبُّك يدخل معك قبرك ، ولن يدخل قبري، الفعل القبيح والكلام السيئ والتصرف الدنيء يُدفن مع صاحبه في أكفانه ويرافقه في قبره ، ولن يُدفن معك ولن يدخل معك، قال   السعدي صاحب التفسير : وأعلم أن الكلام الخبيث السيئ القبيح الذي قيل فيك يضر صاحبه ولن يضرك  فعليك أن تأخذ الأمور بهدوء وسهولة واطمئنان ولا تُقِم حروباً ضارية في نفسك فتخرج بالضغط والسكري وقرحة المعدة ، والجلطة ونزيف الدماء ، لقد علمتنا الشريعة الإسلامية أن نواجه أهل الشر والمكروه والعدوان بالعفو بالتسامح ، والصبر الجميل ، الذي لا شكوى فيه والهجر الجميل الذي لا أذى فيه ، والصفح الجميل الذي لا عتب فيه ، إذا مررت بكلب ينبح فقل : سلاما وإذا رماك شرير بحجر فكن كالنخلة أرمه بتمرها    وإن أفضل حل للمشكلة أن تنهيها من أول الطريق ، لا تصعّد مع من أراد التصعيد ، انزع الفتيل تخمد الفتنة   صب على النار ماءً لا زيتاً لتنطفئ من أول وهلة، ادفع بالتي هي أحسن ، وتصرف بالأجمل وأعمل الأفضل  وسوف تكون النتيجة محسومة لصالحك ، لأن الله مع الصابرين ويحب العافين عن الناس وينصر المظلومين ] إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون [ .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

البـهائية

 البابية والبهائية حركة نبعت من المذهب الشيعي الشيخي سنة 1260ه‍ تحت رعاية الاستعمار الروسي واليهودية العالمية والاستعمار الإنجليزي بهدف إفساد العقيدة الإسلامية وتفكيك وحدة المسلمين وصرفهم عن قضاياهم الأساسية .

أبرز الشخصيات

- أسسها الميرزا علي محمد رضا الشيرازي 1266 ﻫ ، 1819 م  .

- في عام 1259 م ذهب إلى بغداد وبدأ يرتاد مجلس إمام الشيخية في زمانه كاظم الرشتي ويدرس أفكاره وآراء الشيخية . وفي مجالس الرشتي تعرف عليه الجاسوس الروسي كينازد الغوركي والمدعي الإسلام باسم عيسى النكراني والذي بدأ يلقي في روعهم أن الميرزا علي محمد الشيرازي هو المهدي المنتظر والباب الموصل إلى الحقيقة الإلهية والذي سيظهر بعد وفاة الرشتي وذلك لما وجده مؤهلاً لتحقيق خطته في تمزيق وحدة المسلمين . - في 1260 ه‍ ، 1844م أعلن أنه الباب نسبة إلى ما يعتقده الشيعة الشيخية من ظهوره بعد وفاة الرشتي المتوفى 1259 ه‍ وأنه رسول كموسى وعيسى ومحمد - عليهم السلام - بل وعياذاً بالله - أفضل منهم شأناً . - فآمن به تلاميذ الرشتي وانخدع به العامة واختار ثمانية عشرة مبشراً لدعوته أطلق عليهم حروف الحي إلا أنه في عام 1261 ه‍ قبض عليه فأعلن توبته على منبر مسجد الوكيل بعد أن عاث وأتباعه في الأرض فساداً وتقتيلاً وتكفيراً للمسلمين . - في عام 1266 ه‍ ادعى الباب حلول الإلهية في شخصه حلولاً مادياً وجسمانياً، لكن بعد أن ناقشه العلماء حاول التظاهر بالتوبة والرجوع ، ولم يصدقوه فقد عرف بالجبن والتنصل عند المواجهة . وحكم عليه بالإعدام هو والزنوزي وكاتب وحيه حسين اليزدي الذي تاب وتبرأ من البابية قبل الإعدام فأفرج عنه وذلك في   سنة 1266 ه‍  1850 م .

- قرة العين واسمها الحقيقي أم سلمى ولدت في قزوين للملا محمد صالح القزويني أحد علماء الشيعة ودرست عليه العلوم ومالت إلى الشيخية بواسطة عمها الأصغر الملا علي الشيخي وتأثرت بأفكارهم ومعتقداتهم ، ثم رافقت الباب في الدراسة عند كاظم الرشتي بكربلاء حتى قيل إنها مهندسة أفكاره. وفي رجب 1264 ه‍ اجتمعت مع زعماء البابية في مؤتمر بيدشت وكانت خطيبة القوم ومحرضة الأتباع على الخروج في مظاهرات احتجاج على اعتقال الباب ، وفيه أعلنت نسخ الشريعة الإسلامية . - اشتركت في مؤامرة قتل الشاه ناصر الدين القاجاري فقبض عليها وحكم بأن تحرق حية ولكن الجلاد خنقها قبل أن تحرق  

 - الميرزا يحي علي : أخو البهاء والملقب بصبح أزل ، أوصى له الباب بخلافته وسمي أصحابه بالأزليين فنازعه أخوه الميرزا حسين البهاء في الخلافة ثم في الرسالة والإلهية وحاول كل منهما دس السم لأخيه . ولشدة الخلافات بينهم وبين الشيعة تم نفيهم إلى أدرنة بتركيا في عام 1863 م حيث كان يعيش اليهود ، ولاستمرار الخلافات بين أتباع صبح أزل وأتباع البهاء نفى السلطان العثماني البهاء واتباعه مع بعض اتباع أخيه إلى عكا ونفى صبح أزل مع اتباعه إلى قبرص حتى مات ودفن بها وقد أوصى بالخلافة لابنه الذي تنصر وانفض من حوله الأتباع .

- الميرزا حسين علي الملقب بهاء الله المولود 1817م نازع أخاه خلافة الباب وأعلن في بغداد أمام مريديه انه المظهر الكامل الذي أشار إليه الباب وانه رسول الله الذي حلت فيه الروح الإلهية لتنهي العمل الذي بشر به الباب وان دعوته هي المرحلة الثانية في الدورة العقائدية . - حاول قتل أخيه صبح أزل ، وكان على علاقة باليهود في أدرنة بسالونيك في تركيا والتي يطلق عليها البهائيون أرض السر التي ارسل منها إلى عكا فقتل من أتباع أخيه صبح أزل الكثير ، وفي عام 1092 م قتله بعض الأزليين ودفن بالبهجة بعكا وكانت كتبه تدعو للتجمع الصهيوني على أرض فلسطين . - عباس أفندي : الملقب ب‍ـ عبد البهاء ولد في 23 مايو 1844 م نفس يوم إعلان دعوة الباب ، أوصى له والده البهاء بخلافته فكان ذا شخصية جادة لدرجة أن معظم المؤرخين يقولون بأنه : لولا العباس لما قامت للبابية والبهائية قائمة  ويعتقد البهائيون أنه معصوم غير مشرع ، وكان يضفي على والده صفة الربوبية القادرة على الخلق . - زار سويسرا وحضر مؤتمرات الصهيونية ومنها مؤتمر بال 1911 م وحاول تكوين طابور خامس وسط العرب لتأييد الصهيونية ، كما استقبل الجنرال اللنبي لما أتى إلى فلسطين بالترحاب لدرجة أن كرمته بريطانيا بمنحه لقب سير فضلاً عن أرفع الأوسمة الأخرى . - زار لندن وأمريكا وألمانيا والمجر والنمسا والإسكندرية للخروج بالدعوة من حيز الكيان الإسلامي فأسس في شيكاغو أكبر محفل للبهائية ، رحل إلى حيفا 1913 م ثم إلى القاهرة حيث هلك بها في 1921 م / 1340 ه‍ بعد أن نسخ بعض تعاليم أبيه وأضاف إليها من العهد القديم ما يؤيد أقواله . - شوقي أفندي : خلف جده عبد البهاء وهو ابن الرابعة والعشرين من العمر في عام 1921 م / 1340 ه‍ وسار على نهجه في إعداد الجماعات البهائية في العلم لإنتخاب بيت العدالة الدولي ، ومات بلندن بأزمة قلبية ودفن بها في أرض قدمتها الحكومة البريطانية هدية للطائفة البهائية . - في عام 1963 م تولى تسعة من البهائيين شؤون البهائية بتأسيس بيت العدالة الدولي من تسعة أعضاء أربعة من أمريكا ، واثنان من إنجلترا وثلاثة من إيران وذلك برئاسة فرناندو سانت ثم تولى رئاستها من بعده اليهودي الصهيوني ميسون الأمريكي الجنسية. أهم العقائد - يعتقد البهائيون أن الباب هو الذي خلق كل شيء بكلمته وهو المبدأ الذي ظهرت عنه جمع الأشياء . - يقولون بالحلول والاتحاد والتناسخ وخلود الكائنات وان الثواب والعقاب إنما يكونان للأرواح فقط على وجه يشبه الخيال   - يقدسون العدد 19 ويجعلون عدد الشهور 19 شهراً وعدد الأيام 19 يوماً ، وقد تابعهم في هذا الهراء المدعو محمد رشاد خليفة حين ادعى قدسية خاصة للرقم 19 ، وحاول إثبات أن القرآن الكريم قائم في نظمه من حيث عدد الكلمات والحروف على 19 ولكن كلامه ساقط بكل المقاييس . - يقولون بنبوة بوذا وكنفوشيوس وبراهما وزاردشت وأمثالهم من حكماء الهند والصين والفرس الأول . - يوافقون اليهود والنصارى في القول بصلب المسيح . - يؤولون القرآن تأويلات باطنية ليتوافق مع مذهبهم . - ينكرون معجزات الأنبياء وحقيقة الملائكة والجن كما ينكرون الجنة والنار . - يحرمون الحجاب على المرأة ويحللون المتعة وشيوعية النساء والأموال . - يقولون إن دين الباب ناسخ لشريعة محمد صلى الله عليه وسلم . - يؤولون القيامة بظهور البهاء ، أما قبلتهم فهي إلى البهجة بعكا بفلسطين بدلاً من المسجد الحرام . - والصلاة تؤدي في تسع ركعات ثلاث مرات والوضوء بماء الورد وإن لم يوجد فالبسملة بسم الله الأطهر الأطهر خمس مرات . - لا توجد صلاة الجماعة إلا في الصلاة على الميت وهي ست تكبيرات يقول كل تكبيرة (الله أبهى). - الصيام عندهم في الشهر التاسع عشر شهر العلا فيجب فيه الامتناع عن تناول الطعام من الشروق إلى الغروب مدة تسعة عشر يوماً ( شهر بهائي ) ويكون آخرها عيد النيروز 21 آذار وذلك من سن 11 إلى 42 فقط يعفى البهائيون من الصيام . - تحريم الجهاد وحمل السلاح وإشهاره ضد الأعداء خدمة للمصالح الاستعمارية . - ينكرون أن محمداً - خاتم النبيين مدعين استمرار الوحي وقد وضعوا كتباً معارضة للقرآن الكريم مليئة بالأخطاء اللغوية والركاكة في الأسلوب . - يبطلون الحج إلى مكة وحجهم حيث دفن بهاء الله في البهجة بعكا بفلسطين .

 الجذور العقائدية - الرافضة الإمامية . - الشيخية أتباع الشيخ أحمد الإحسائي . - الماسونية العالمية . - الصهيونية العالمية أماكن الإنتشار - تقطن الغالبية العظمى من البهائيين في إيران وقليل منهم في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين المحتلة حيث مقرهم الرئيسي وكذلك لهم وجود في مصر حيث أغلقت محافلهم بقرار جمهوري رقم 263 لسنة 1960 م. 

الأحباش

طائفة ضالة تنسب إلى عبد الله الحبشي ، ظهرت حديثاً في لبنان مستغلة ما خلفته الحروب الأهلية اللبنانية من الجهل والفقر والدعوة إلى إحياء مناهج أهل الكلام والصوفية والباطنية بهدف إفساد العقيدة وتفكيك وحدة المسلمين وصرفهم عن قضاياهم الأساسية .

التأسيس وابرز الشخصيات : 

عبد الله الهرري الحبشي : هو عبد الله بن محمد الشيبي العبدري نسباً الهرري موطناً نسبة إلى مدينة هرر بالحبشة ، فيها ولد لقبيلة تدعى الشيباني نسبة إلى بني شيبة من القبائل العربية . ودرس في باديتها اللغة العربية والفقه الشافعي على الشيخ سعيد بن عبد الرحمن النوري والشيخ محمد يونس جامع الفنون ثم ارتحل إلى منطقة جُمة وبها درس على الشيخ الشريف وفيها نشأ شذوذه وانحرافه حيث بايع على الطريقة التيجانية . ثم ارتحل إلى منطقة داويء من مناطق أرمو ودرس صحيح البخاري وعلوم القرآن الكريم على الحاج أحمد الكبير ثم ارتحل إلى قرية قريبة من داويء فالتقى بالشيخ مفتي السراج – تلميذ الشيخ يوسف النبهاني صاحب كتاب شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق ودرس على يديه الحديث .ومن هنا توغل في الصوفية وبايع على الطريقة الرفاعية . ثم أتى إلى سوريا ثم إلى لبنان من بلاد الحبشة في أفريقيا عام 1969م . وذكر أتباعه أنه قدم عام 1950م بعد أن أثار الفتن ضد المسلمين ، حيث تعاون مع حاكم إندراجي صهر هيلاسيلاسي ضد الجمعيات الإسلامية لتحفيظ القرآن بمدينة هرر سنة 1367ه‍ الموافق 1940م فيما عرف بفتنة بلاد كُلُب فصدر الحكم على مدير المدرسة إبراهيم حسن بالسجن ثلاثاً وعشرين سنة مع النفي حيث قضى نحبه في مقاطعة جوري بعد نفيه إليها وبسبب تعاون عبد الله الهرري مع هيلاسيلاسي تم تسليم الدعاة والمشايخ إليه وإذلالهم حتى فر الكثيرون إلى مصر والسعودية ، ولذلك أطلق عليه الناس هناك صفة (( الفتّان )) أو (( شيخ الفتنة )) .

- منذ أن أتى لبنان وهو يعمل على بث الأحقاد والضغائن ونشر الفتن كما فعل في بلاده من قبل من نشره لعقيدته الفاسدة من شرك وترويج لمذاهب : الجهمية في تأويل صفات الله ، والإرجاء والجبر والتصوف والباطنية والرفض ، وسب للصحابة ، واتهام أم المؤمنين عائشة بعصيان أمر الله ، بالإضافة إلى فتاوى شاذة .

- نجح الحبشي مؤخراً في تخريج مجموعات كبيرة من المتبجحين والمتعصبين الذين لايرون مسلماً إلا من أعلن الإذعان والخضوع لعقيدة شيخهم مع ما تتضمنه من إرجاء في الإيمان وجبر في أفعال الله وجهمية واعتزال في صفات الله . فهم يطرقون بيوت الناس ويلحون عليهم بتعلم العقيدة الحبشية ويوزعون عليهم كتب شيخهم بالمجان .

· نزار الحلبي : خليفة الحبشي ورئيس جمعية المشاريع الإسلامية ويطلقون عليه لقب ((سماحة الشيخ )) حيث يعدونه لمنصب دار الفتوى إذ كانوا يكتبون على جدران الطرق (( لا للمفتي حسن خالد الكافر ، نعم للمفتي نزار الحلبي )) وقد قتل مؤخراً .

· لديهم العديد من الشخصيات العامة مثل النائب البرلماني عدنان الطرابلسي ومرشحهم الآخر طه ناجي الذي حصل على 1700 صوتاً معظمهم من النصارى حيث وعدهم بالقضاء على الأصولية الإسلامية ، لكن لم يكتب له النجاح ، وحسام قرقيرا نائب رئيس جمعية المشاريع الإسلامية ، وكمال الحوت وعماد الدين حيدر وعبد الله البارودي وهؤلاء الذين يشرفون على أكبر أجهزة الأبحاث والمخطوطات مثل المؤسسة الثقافية للخدمات ويحيلون إلى اسم غريب لايعرفه حتى طلبة العلم فمثلاً يقولون : ((قال الحافظ العبدري في دليله )) فيدلسون على الناس فيظنون أن الحافظ من مشاهير علماء المسلمين مثل الحافظ ابن حجر أو النووي وإنما هو في الحقيقة شيخهم ينقلون من كتابه الدليل القويم مثلاً .

أهم العقائد :

· يزعم الأحباش أنهم على مذهب الإمام الشافعي في الفقه والاعتقاد ولكنهم في الحقيقة أبعد ما يكونون عن مذهب الإمام الشافعي رحمه الله . فهم يُأولون صفات الله تعالى بلا ضابط شرعي فـيُـأولون الاستواء بالاستيلاء كالمعتزلة والجهمية .

· يزعم الحبشي أن جبريل هو الذي أنشأ ألفاظ القرآن الكريم وليس الله تعالى ، فالقرآن عنده ليس بكلام الله تعالى ، وإنما هو عبارة عن كلام جبريل ، كما في كتابه إظهار العقيدة السنية ص591 .

· الأحباش في مسألة الإيمان من المرجئة الجهمية الذين يؤخرون العمل عن الإيمان ويبقى الرجل عندهم مؤمناً وإن ترك الصلاة وسائر الأركان ، ( انظر الدليل القويم ص7 ، بغية الطالب ص51 ) .

- تبعاً لذلك يقللون من شأن التحاكم للقوانين الوضعية المناقضة لحكم الله تعالى فيقول الحبشي : (( ومن لم يحكم شرع الله في نفسه فلا يؤدي شيئاً من فرائض الله ولا يجتنب من المحرمات ، ولكنه قال ولو مرة في العمر : لا إله إلا الله فهذا مسلم مؤمن . ويقال له أيضاً مؤمن مذنب )) الدليل القويم 9-10 بغية الطالب 51 .

· الأحباش في القدر جبرية منحرفة يزعمون أن الله هو الذي أعان الكافر على كفره وأنه لولا الله ما استطاع الكافر أن يكفر . ( النهج السليم 71 ) .

· يحث الأحباش الناس على التوجه إلى قبور الأموات والاستغاثة بهم وطلب قضاء الحوائج منهم ، لأنهم في زعمهم يخرجون من قبورهم لقضاء حوائج المستغيثين بهم ثم يعودون إليها ، كما يجيزون الاستعاذة بغير الله ويدعون للتبرك بالأحجار . ( الدليل القويم 173 ، بغية الطالب 8 ، صريح البيان 57 ، 62 ) . ( شريط خالد كنعان /ب / 70 ) ولو قال قائل أعوذ برسول الله من النار لكان هذا مشروعاً عندهم .

· يرجح الأحباش الأحاديث الضعيفة والموضوعة بما يؤيد مذهبهم بينما يحكمون بضعف الكثير من الأحاديث الصحيحة التي لا تؤيد مذهبهم ويتجلى ذلك في كتاب المولد النبوي  

· يكثر الحبشي من سب الصحاب وخاصة معاوية بن أبي سفيان وأم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنهم . ويطعن في خالد بن الوليد وغيره ، ويقول إن الذين خرجوا على علي رضي الله عنه ماتوا ميتة جاهلية . ويكثر من التحذير من تكفير سابِّ الصحابة ، لاسيما الشيخين إرضاءً للروافض . إظهار العقيدة السنية 182 .

· يعتقد الحبشي أن الله تعالى خلق الكون لا لحكمة وأرسل الرسل لا لحكمة وأن من ربط فعلاً من أفعال الله بالحكمة فهو مشرك .

· كفّر الحبشي العديد من العلماء فحكم على شيخ الإسلام ابن تيمية بأنه كافر وجعل من أول الواجبات على المكلف أن يعتقد كفره ولذلك يحذر أشد التحذير من كتبه ، وكذا الإمام الذهبي فهو عنده خبيث ، كما يزعم أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب مجرم قاتل كافر ويرى أن الشيخ محمد ناصر الدين الألباني كافر ، وكذلك الشيخ سيد سابق فيزعم أنه مجوسي كافر أما الأستاذ سيد قطب فمن كبار الخوارج الكفرة في ظنه . انظر مجلة منار الهدى الحبشية عدد ( 3ص234 ) النهج السوي في الرد على سيد قطب وتابعه فيصل مولوي ) أما ابن عربي صاحب مذهب وحدة الوجود ونظرية الحلول والاتحاد والذي شهد العلماء بكفره فيعتبره الحبشي شيخ الإسلام . كما يدعو الحبشي إلى الطريقة النقشبندية والرفاعية والصوفية .

· وللحبشي العديد من الفتاوى الشاذة القائلة بجواز التحايل في الدين وأن النظر والاختلاط والمصافحة للمرأة الأجنبية حلال لاشيء فيه بل للمرأة أن تخرج متعطرة متبرجة ولو بغير رضا زوجها .

· يبيح بيع الصبي وشراءه كما يجيز للناس ترك زكاة العملة الورقية بدعوى انها لاعلاقة لها بالزكاة إذ هي واجبة في الذهب والفضة كما يجيز أكل الربا ويجيز الصلاة متلبساً بالنجاسة . ( بغية الطالب 99 ) .

· أثار الأحباش في أمريكا وكندا فتنة تغيير القبلة حتى صارت لهم مساجد خاصة حيث حرفوا القبلة 90 درجة وصاروا يتوجهون إلى عكس قبلة المسلمين حيث يعتقدون أن الأرض نصف كروية على شكل نصف البرتقالة ، وفي لبنان يصلون في جماعات خاصة بهم بعد انتهاء جماعة المسجد ، كما اشتهر عنهم ضرب أئمة المساجد والتطاول عليهم وإلقاء الدروس في مساجدهم لنشر أفكارهم رغماً عنهم . ويعملون على إثارة الشغب في المساجد ، كل هذا بمدٍ وعونٍ من أعداء المسلمين بما يقدمون لهم من دعم ومؤازرة .

الجذور العقائدية :

· مما سبق يتبين أن الجذور الفكرية والعقائدية للأحباش تتلخص في الآتي :

- المذهب الأشعري المتأخر في قضايا الصفات الذي يقترب من منهج الجهمية ‍‍!!

- المرجئة والجهمية في قضايا الإيمان .

- الطرق الصوفية المنحرفة مثل الرفاعية والنقشيندية .

- عقيدة الجفر الباطنية .

- مجموعة من الأفكار والمناهج المنحرفة التي تجتمع على هدف الكيد للإسلام وتمزيق المسلمين . ولا يستبعد أن يكون الحبشي وأتباعه مدسوسين من قبل بعض القوى الخارجية لإحداث البلبلة والفرقة بين المسلمين كما فعل عبد القادر الصوفي ثم المرابطي في أسبانيا وبريطانيا وغيرها .

أماكن الانتشار :

ينتشر الأحباش في لبنان بصورة تثير الريبة ، حيث انتشرت مدارسهم الضخمة وصارت حافلاتهم تملأ المدن وأبنية مدارسهم تفوق سعة المدارس الحكومية ، علاوة على الرواتب المغرية لمن ينضم إليهم ويعمل معهم وأصبح لهم إذاعة في لبنان تبث أفكارهم وتدعو إلى مذهبهم ، كما ينتشر أتباع الحبشي في أوروبا وأمريكا وقد أثاروا القلاقل في كندا واستراليا والسويد والدانمارك . كما أثاروا الفتن في لبنان بسبب فتوى شيخهم بتحويل اتجاه القبلة إلى جهة الشمال .

وقد بدأ انتشار أتباع هذا المذهب الضال في مناطق عدة من العالم حيثما وجد لبنانيون في البداية ، ثم بعض المضللين ممن يعجب بدعوة الحبشي .

يتضح مما سبق :

أن الأحباش طائفة ضالة تنتمي إلى الإسلام ظاهراً وتهدم عراه باطناً ، وقد استغلت سوء الأوضاع الاقتصادية وما خلفته الحروب الأهلية اللبنانية من فقر وجهل في الدعوة إلى مبادئها الهدامة وإحياء الكثير من الأفكار والمعتقدات الباطلة التي عفى عليها الدهر مثل خلق القرآن والخلاف المعروف في قضايا الصفات الذي تصدى لها علماء أهل السنة والجماعة في الماضي والحاضر . وقد تصدى لهم عدد من علماء أهل السنة في عصرنا مثل المحدث الشيخ الألباني وغيره . وأفتى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز في الفتوى رقم 2392/1 بتاريخ 30/10/1406ه‍ التي جاء فيها : (( إن طائفة الأحباش طائفة ضالة ، ورئيسهم عبد الله الحبشي معروف بانحرافه وضلاله ، فالواجب مقاطعتهم وإنكار عقيدتهم الباطلة وتحذير الناس منهم ومن الاستماع لهم أو قبول ما يقولون )) .

 

 

 

العمل وعيد العمال في الإسلام

للناس أعياد ومناسبات يحتفلون فيها ، فأعياد أهل الكتاب والأمم الكافرة ترتبط بأمور دنيوية ، أو مناسبات دينية   خاصة بهم ، وكعيد النيروز الخاص بالمجوس ، أو أعياد هي من شعائر الله ، التي ينبغي إحياؤها ، كعيدي الفطر والأضحى الخاص بالمسلمين   ولا يحل للمسلمين أن يتشبهوا بالكفار والمشركين في شيء مما يختص بأعيادهم . 

ويأتي أصل الاحتفال بعيد العمال ، من كندا حيث النـزاعات العمالية ، وحركة التسع ساعات في هاميلتون ثم في تورونتو كندا ، وقد قامت المسيرات لدعم هذه الحركة ، واستلهاماً من أحداث هذه الاحتفالات التي شهدها زعيم العمال الأميريكى ، الذي قام بتنظيم أول عيد للعمال في نيويورك ،  يحتفل به قي الخامس من سبتمبر من كل عام ، ومن الجدير بالذكر أن أمريكا قتلت أبناءها حين تعارضت مصالح عمالها مع مصالح أغنيائها   وبسبب قتلها للخيرين من أبنائها ، كان عيد العمال .

إن العمل في الإسلام عنصر أساسي ، في بناء الدولة العصرية ، إذا كان هذا العمل يستجيب لكل مطالب الحياة ، ويستند إلى تخطيط علمي ، والويل للقول إن لم يترجمه عمل ، لأنه يصبح ثرثرة تشقى بها الأمة ، لذلك قل كلام رسول الله r وكثر عمله ، وتعلم منه أصحابه أن يقللوا حجم الكلام ، ويكثروا حجم العمل ، صعد عثمان بن عفان المنبر يوماً ، فلم يجد كلاماً يقوله   وطالت حيرته ، وأخيراً فتح الله عليه بهذه الكلمات : " أيها الناس سيجعل الله بعد عسر يسرا ، وبعد ضيق فرجا   وأنتم إلى إمام أفعال ، أحوج منكم على إمام أقوال   ثم نزل " فتهللت أسارير الصحابة ، وظهرت الغبطة على وجوههم ، لأنهم سمعوا أبلغ خطبة في أوجز لفظ وأحلاه   وظهر الخليفة من خلال هذه الكلمات ، بأنه رجل أفعال وليس رجل أقوال .

إن للعمل في مجتمع الإسلام قيمة عليا ، ومكانة الإنسان فيه ، تبرز من خلال عمله ، نجد ذلك واضحاً في قوله تعالى : ] ولكل درجات مما عملوا [ فالآية تبرز قيمة العامل ، ومن خلال آيات العمل الواردة في القرآن ، نجد أنها تتناول نوع العمل ، وكرامة العامل وحق العمل واجر العمل وهدف العمل ووقته وإتقانه ولذلك اعتبر الإسلام العمل عبادة لله كالصلاة ، وما دام العمل عبادة ، فإن العامل يحرسه ضميره المؤمن ، بأن عليه رقيباً من داخله يذكره دائماً بربه ، وهو ما يبرزه قوله تعالى : ] وفل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون [ فالآية تأمر بالعمل المطلق ، الذي ينظم شئون الدين والدنيا  ويكون شعار المجتمع المسلم ] وقل اعملوا [ تكليف وعبادة  وأمر رباني ، وفيه إشارة إلى كرامة العامل وتقديسه ، ولم يكتف الإسلام بطلب العمل والحض عليه   وإنما تجاوز ذلك إلى المطالبة بإتقان العمل وإخلاص النية فيه ، وقد فاخر النبي r كل عمل مخلص وفاخر باليد العاملة قائلاً : ( تلك يد يحبها الله ورسوله )

وجاء في الآيات ما يشير  إلى أن المنهج الإسلامي  منهج عقيدة ، وعمل يصدق العقيدة ، منهج لا تكفي فيه النوايا  إنما هي تحسب مع العمل ، فتحدد قيمة العمل   وكحافز على إتقان العمل قال تعالى : ] ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه [ يونس 61 .

وأما إخلاص النية في العمل ، فقد بينه الرسول r في قوله ( إنما الأعمال بالنيات ) الأعمال لا مجرد النيات

فقيمة الفرد في الإسلام ، هي بما يقدمه لأمته من عمل   وبما يحرزه في نفسه من صلاح وتقوى ، وبذلك يكون تفاضل الناس أمام الله ، وليست قيمة الفرد بما يملك من مال أو يحرز من جاه أو سلطان .   

ولا قيمة للفرد في الإسلام ، إذا تكلم ولم يفعل ، لأن سرّ قوة الكلمة ، كامن في قوة الإيمان ، بمدلول الكلمات لتحويل الكلمة المكتوبة إلى حركة حية ، والمعنى المفهوم إلى واقع ملموس ، فلا يقعد القادر على العمل ، طمعاً في أن يؤدي واجبه بالكلام ، وقديماً قال الشاعر :

السيف أصدق أنباء من الكتب   في حدّه الحد بين الجِدِّ واللعب

ففي كثيرٍ من الأحيان ، يصبح من العبث أن نتكلم ونتكلم ثم لا نفعل شيئا ، لأن الكلمة لا يمكن أن تفعل شيئا ، إلا إذا تحولت إلى فعل ، والفعل لا بد له من عقيدة   لأن قوة الكلمة ، إنما تنبع من أنها ترجمان العقيدة ، وقد عاب الله على من يقولون ولا يفعلون قال تعالى : ] يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ، كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون [ الصف .  

ولما للعمل من أهمية ، فإن الإسلام يحرص على إقامة المجتمع القوي ، الذي يأكل مما يزرع ، و الذي تتحقق فيه الكفاية في الإنتاج ، من أجل توفير الحاجات الأساسية لأفراده ، وتحقيق خلافتهم في أرض الله ، كما جاء في الحديث ( إن الله يحب العبد المؤمن المحترف ) فاليد الخشنة العاملة ، يد يحبها الله ورسوله ، ولا يمكن للأمة أن تكون خير أمة أخرجت للناس ، إلا عن طريق العمل والإعداد ، وبذل الجهد والسعي في الأرض قال سبحانه وتعالى : ] هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور [ ومن هنا كان للعمل في الإسلام قيمته وأهميته ، وفي هذا يقول r : ( ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده ، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده ) .  

 وقد أنزل الدين الإسلامي العاملين منـزلة تقترب من منـزلة الأنبياء والصديقين والشهداء ، يقول عليه الصلاة والسلام : ( التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء ) .

والذين يقرؤون سير الأنبياء والرسل الكرام ، يزدادون إيماناً بقيمة العمل ، وإدراكاً لمـنـزلة العاملين ، ذلك أن الأنبياء والرسل ، كلهم كانوا يعملون ، فقد كان لكل نبي حرفة يعمل فيها ويعيش منها ، ليكون قدوة لقومه  فقد كان إدريس خياطا ، وكان داود عليه السلام حدادا ً  وكان نوح عليه السلام نجاراً ، وكان موسى عليه السلام راعياً للغنم وكذلك كان محمد r .

ولقد اقتدى الصحابة برسولهم الكريم ، فلم يركنوا إلى الكسل أو يقعدوا عن طلب الرزق، بل كانوا جميعاً يعملون ، فقد كان الصحابي الأول أبو بكر رضي الله عنه تاجر قماش، وكان الزبير بن العوام خياطاً وكان عمرو بن العاص جزاراً ، والعمل شرف مهما كان متواضعاً  فقد روي أن أحد الأمراء مر على عامل نظافة ، وهو يكنس الشوارع وينشد قائلاً :

وأكرم نفسي إنني إن أهنتها  وحقك لم تكرم على أحد بعدي

فقال الأمير للعامل: وأي إكرام هذا الذي أكرمت به نفسك ، وأنت تعمل كناساً ، فقال : إن عملي هذا أفضل من أن أقف على أبواب اللئام أمثالك يعطونني أو يمنعوني ، وقد أكرم الإسلام العمال ، وجعل لهم حقوقاً كثيرة ، وجاءت الأحاديث الشريفة موضحة ذلك فقال r : ( من استأجر أجيراً فليعطه أجره ) وقال : ( أعط الأجير أجره قبل أن يجف عرقه ) .

 وحث الإسلام على العمل حتى عند قيام الساعة وفي أحرج الأوقات ( إذا قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها ) .

إن أهم شيء تقوم عليه هذه الحياة ، هو العمل فكل ميسر لما خلق له ،  والعمل في ذاته حركة ، والحركة دليل الحياة ، والسكون دليل الموت ، فلا يمكن أن تستقيم حياة بغير عمل ، ولا يمكن إن تنتظم حياتنا بغير عمل  ولذلك اعتبر العمل محور الإسلام وجوهره ، على أن يكون في حدوده الشرعية ، التي لا تمس حقوق الآخرين   ولا تضر بمصالحهم ، فكان من قواعد الإسلام قوله r : ( لا ضرر ولا ضرار ) وقوله r : ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) .

وقد وضع الإسلام للعمل قواعد عامة ، وقواعد خاصة في كثيرٍ من أنواع التصرفات ، تدور كلها حول وقاية المجتمع من الخصومات ، التي تبدد شمله ، وتكدر صفوه ، كما عنى بتنظيم العمل وتوزيعه ، حتى لا يشغل عمل الدنيا عن عمل الآخرة ، وعما يجب عليه من حقوق كما بين أن المغالاة فيه ، وعدم تحري طرق الكسب الحلال لا تجلب رزقا ، ولا تضاعف كسبا قال r : ( إني لا أعلم شيئاً يقربكم من الجنة ويبعدكم من النار إلا أمرتكم به ، وإني لا أعلم شيئاً يبعدكم من الجنة ويقربكم من النار إلا نهيتكم عنه ، وإن الروح الأمين نفث في روعي أن نفساً لن تموت حتى تستوفي رزقها ، وإن أبطأ عنها ، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ، ولا يحملنكم استبطاء شيء من الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله تعالى  فإن الله لا ينال ما عنده بمعصيته ) .    

 

 

 

 

حث الإسلام على العمل والصناعة

 

الإسلام دين عقيدة وعبادة وعمل، هناك من يترجم هذه المعاني السامية إلى سلوك عملي تطبيقي في الحياة   وبخاصة العمل الإنتاجي اليدوي سواء  في المجالات الزراعية أو الصناعية أو التجارية ، ولأهميته فقد اهتم به الإسلام به وحض الله تعالى عليه في قوله : { ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم ، أفلا يشكرون } يس 35. وأخبر الله تعالى بأن العمل كان من مهام الرسل الكرام : { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا، إني بما تعملون عليم } المؤمنون51 . وقال صلى الله عليه وسلم : (ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم، فقال أصحابه  وأنت  يا رسول الله ؟ قال : وأنا: كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة) أخرجه البخاري عن أبي هريرة . وفي حديث ابن عباس قال :  ( كان آدم حرّاثا  وكان نوح نجاراً وكان داوود زرّادا ، يصنع الزرد والدروع ، وكان إدريس خياطا وكان موسى راعيا ) رواه الحاكم في المستدرك . وقد عد رسول الله صلى الله عليه وسلم العبد  في سبيل الله ، إذا أخلص النية : روى كعب ابن عجرة قال : مر على النبي صلى الله عليه وسلم رجل ، فرأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من جلده ونشاطه وقالوا : يا رسول الله ! لو كان هذا في سبيل الله فقال : إن كان خرج يسعى على ولده صغارا فهو في سبيل الله  وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله ، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله ، وإن كان يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان)  أخرجه الطبراني ورجاله رجال الصحيح .  وقال صلى الله عليه وسلم : ( إن الله يحب العبد المحترف ومن كد على عياله كان كالمجاهد في سبيل الله عز وجل) رواه أحمد . وقال عمر بن الخطاب : " إن الله خلق الأيدي لتعمل، فإن لم تجد في الطاعة عملا التمست في المعصية أعمالا " مع وجوب الاعتقاد أن العمل ليس سببا للرزق، لان الله هو الرزاق قال تعالى :{ هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه واليه النشور}  الملك   15.  هذه الآية فيها حض من الله للقادر على بذل الجهد  وأداء الأعمال واستخدام كل الطاقات البشرية لاستخراج خيرات الأرض ، وتحريك الحياة الاقتصادية وإنمائها لما فيه خير الفرد والجماعة  ومن يدرس حياة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن جاء بعدهم ومن سار على نهجهم يرى أنهم اهتموا بمعاشهم، وزاولوا إعمالهم الإنتاجية فكانوا العلماء والتجار، والمحترفين للصناعات ، فقد سلكوا كل طريق شريف ، وعالجوا كل باب مغلق ففتحوه ، وآمنوا بأن العمل إذا لم يكن فيه استغلال لجهود الآخرين هو درجة من درجات العبادة يثاب عليه ، كما يثاب على العبادة .

 

إن الإسلام لا يرضى البطالة والقعود عن العمل ، لأن الأمة التي تستغني عن أعدائها بما تعمل وتنتج ، تكون أمة قوية عزيزة ، أما الأمة التي ألفت البطالة، وسكنت إلى الخمول والكسل، واعتمدت على غيرها في عملها وقوتها وسلعتها، فهي أمة ضعيفة مهانة لا تحمي نفسها، ولا تنال نصيبها من العزة والاستقلال . ولا تسعد أمة يأبى أبناؤها العمل الإنتاجي ، ويعتمدون على ما تنتج مصانع غيرهم  وما علموا أن الله يحب العبد المحترف والعامل الذي يتقن عمله قال صلى الله عليه وسلم : ( من أمسى كالا من عمله أمسى مغفورا له) الطبراني في الأوسط عن ابن عباس وقوله صلى الله عليه وسلم : ( وما أكل أحد طعاما خيرا من أن يأكل من عمل يده ) . وقد أعطى الرسول صلى الله عليه وسلم رجلاً فأساً وأمره أن يحتطِب ويبيع لئلا يبقى عالة على المجتمع ، وضرب عمر بن الخطاب شباباً جلسوا في المسجد وتركوا الكسب واعتمدوا على جيرانهم وصاح في وجوههم : اخرجوا واطلبوا الرزق، فإن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة، وشارك الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه في بناء مسجده وحفر مع الصحابة الخندق وقال: ( إن الله يحب من أحدكم إذا عمل عملاً أن يتقِنَه ) وقال:  ( المؤمن القوي خير وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف ) . بعد الحرب العالمية رفع الألمان شعار (العمل أو الموت) فتحوّلت ألمانيا إلى ورشة عمل، وبعد أربع سنوات صارت من كبار الدول الصناعية ، وقامت روسيا في مطلع القرن العشرين بتحويل بلادها من بلاد زراعية متخلفة إلى بلاد صناعية تقف في مقدمة الدول الصناعية   اعتمادا على نفسها، وقد اشتهر عن "لينين" قوله حين طلب منه شراء جرارات " لن نستعمل التراكتورات حتى ننتجها نحن وحينئذ نستعملها".  وفي كتاب (متعة الحديث) يقول إسحاق نيوتن: النجاح يحتاج إلى ثلاثة عوامل: العمل ثم العمل ثم العمل، والعمل يبدأ بالعلم قال تعالى: { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ } والعلم يبدأ بالقراءة، وأمة لا تقرأ لن تتعلّم ولن تعمل ولن تنال المجد ،  وأمة لا تعمل لا تستحق البقاء  والإسلام جاء بالعلم والعمل ، ولذا تقدم الغرب لاعتماده على العلوم العملية التطبيقيّة ، فعمل على إيجاد المصانع والمعامل، أما نحن فقد اعتمدنا على العلوم النظرية فانشغلنا بالتوافه من الأمور ، على حساب الإبداع والاختراع والصناعة ، ولذلك سمونا بالدول النامية ، فأي دولة لا تتحوّل إلى ورشة عمل هي دولة نامية نائمة كُتب عليها الموت ، فبالعمل والإنتاج تتقلّص مشكلاتنا وبطالتنا وفقرنا وأمراضنا، وليكن شعارنا "نأكل مما نزرع، ونلبس مما نصنع "  وعَرَق العامل أزكى من مسك الفاشل وساعد المثابر أكرم من جبين الكسلان  ، إننا نحترم ونكْبِر كل مسؤول جلس على كرسيّه يعدِلُ في القضايا ويقمع الظالم وينصر المظلوم ويواسي المنكوب، ونشكر كل أستاذ وقف يصحح المفاهيم ، ويصلح القلوب ويبني العقول ، ونتوجه بالتحية لكل طبيب يعالج مريضاً ويداوي مبتلى ويضمّد جرحا، ونثمّن عمل كل مزارع يغرس شجرة ويحرث أرضاً، وكل التقدير والاحترام للسواعد القويّة والهمم الوثّابة والأفكار الخلاّبة  .

 

قال ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نظر إلى الرجل فأعجبه قال:( هل له حرفة"؟ فإنْ قالوا : لا، قال :  سقط من عيني ، قيل: وكيف ذاك يا رسول الله ؟ قال : لأن المؤمن إذا لم يكن له حرفة يعيش بدينه ) .

 

لقد أخضع الغرب العالم الإسلامي كله لنفوذه، وأبعد الإسلام عن حياته خاصة الاقتصادية منها ، وبذل قصارى جهده لتحطيم القواعد الاقتصادية له ، ليجعله سوقا لاستقبال منتجاته الصناعية، وليجعله ممدا له بالمواد الأولية والاستخراجية ، فشوه القطاعات الزراعية والتجارية والصناعية وحتى الحرفية للعالم الإسلامي، بشكل جعله  ينتج ما لا يستهلك، ويستهلك ما لا ينتج ، ليعزز تبعية اقتصاديات العالم الإسلامي له، بل إن هذه التبعية زادت بالاعتماد على استيراد المصانع وقطع الغيار والسلاح.

 

إن السياسة الصناعية تقتضي إيجاد المصانع التي تصنع الآلات ، ثم بعد توفر الآلات من صناعة البلاد تؤخذ هذه الآلات وتصنع باقي المصانع .  فالثورة الصناعية إنما حصلت في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية وروسيا حين وجدت فيها صناعة الآلات . لأن الدولة التي لا تكون فيها صناعة الآلات فإن مصانعها الأخرى تكون مربوطة تبعّيا للدولة التي تملك الآلة وقطع الغيار؛ ولهذا فإن إيجاد مصانع الآلات واجب شرعي بل فرض على المسلمين ، لأن  عدم وجود مصانع الآلات يجعل جميع المصانع في بلادنا عالة على الدول الأخرى في صناعة الآلات الثقيلة، فإذا تعطلت آلة أو لزمت قطعة غيار تعطل المصنع وتوقف عمله على تزويده بقطع الغيار من الدولة المصنعة ،  وهذا يكلف المسلمين ثمنا غاليا ، وحتى يكون للمسلمين تأثيرهم في المجال الدولي والسياسة العالمية ، يجب أن تقوم الصناعة على أساس عسكري حربي، وأن تكون هذه الصناعة هي الهدف الأساس من التصنيع الثقيل ، فضلا عن القطاعات الصناعية الأخرى ،  كما هو الحال مع ألمانيا واليابان بعد تقييد صناعتها الحربية بعد الحرب العالمية الثانية ، أصبحتا لا تأثير لهما في صناعة القرارات الدولية .

 

فلولا الصناعة الحربية لما كانت القوة العسكرية من أهم العوامل المؤثرة في قوة الدول لتحقيق أمنها القومي  والدولة التي ليس لديها القدرة على توفير الاكتفاء الذاتي في صنع الأسلحة والمعدات اللازمة للحرب، لن يكون أمامها إلاّ استيرادها من الخارج ، والإنفاق للتدريب عليها، وتوفير قطع الغيار وورش الإصلاح، وهذا يشكّل عبأً ثقيلاً على كاهل الدولة ، مما يؤثر على سيادتها وحريتها في التحرك السياسي .  لذا جاء الأمر الإلهي بإعداد ما يستطاع من القوة بامتلاك أقصى ما يمكن ‏امتلاكه من القوة الحقيقية ووسائلها لا القوة الصورية أو الاستعراضية  ، وقد بين نص الآية السبب الذي لأجله أمر المسلمون بإعداد ما يستطاع من القوة في قوله ‏تعالى : { تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ } فكان في إعداد ‏القوة البالغة أمان للأمة من الأعداء المعروفين وغير المعروفين، حتى إنه ليخافها ويرهب جانبها من لا ‏يعرفه المسلمون ، مما يشكل رادعا لمن تسول له نفسه بمهاجمتهم أو التآمر عليهم، ويصير الإهمال في ‏إعداد ما يستطاع من القوة ، مدعاة لأن يستخف بهم أعداؤهم ويتجرؤون عليهم ، فكان هذا النص القرآني في وجوب إعداد القوة التي تخيف الأعداء  ، بغرض تأمين دار الإسلام ضد عدوان المعتدين، ليفتح باب التصنيع الحربي أمام المسلمين على ‏مصراعيه، لأن إعداد المستطاع من القوة لا يتم إلا بذلك، ومن القواعد المشهورة عند أهل العلم " أن ‏ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب " من هنا يظهر وجوب إقامة المصانع الحربية التي تمد جيوش ‏المسلمين ، بالآلة الحربية المناسبة لعصرهم ، في جميع المجالات الحربية :البرية والبحرية والجوية.‏

 

وقد ظهرت عناية الشريعة بالتصنيع الحربي لما له من أهمية فقال صلى الله عليه وسلم : ( إن الله ليدخل ‏بالسهم الواحد ثلاثةً الجنةَ :صانعه يحتسب في صنعته الخير، والرامي به، والممد به  وقال ارموا ‏واركبوا، ولأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا، كل ما يلهو به الرجل المسلم باطل إلا رميه بقوسه، ‏وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله، فإنهن من الحق )  ‏فلم يقصر الرسول صلى الله عليه وسلم ثواب الجهاد وأجره على المجاهد الفعلي ، بل جعل القائم بالصناعة الحربية شريكا للمجاهد ‏في دخول الجنة لما يترتب عليها من نشر الدين وحماية ديار المسلمين .   

 

 

 

 

 

 

 

نعمة صحة الفهم  

 الفهم هو من توفيق الله عز وجل لعبده ، وهو نور يميّز به الفاسد من الصحيح ، والحق من الباطل والغي من الرشاد   بل هو معرفة الشيء وتصوره من اللفظ والعلم به .

في عهد داود وسليمان عليهما السلام « خَرَجَتِ امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا صَبِيَّانِ لَهُمَا فَعَدَا الذِّئْبُ عَلَى إِحْدَاهُمَا فَأَخَذَ وَلَدَهَا فَأَصْبَحَتَا تَخْتَصِمَانِ فِي الصَّبِي الْبَاقِي إِلَى دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى مِنْهُمَا فَمَرَّتَا عَلَى سُلَيْمَانَ فَقَالَ كَيْفَ أَمْرُكُمَا فَقَصَّتَا عَلَيْهِ فَقَالَ ائْتُونِي بِالسِّكِّينِ أَشُقُّ الْغُلاَمَ بَيْنَهُمَا. فَقَالَتِ الصُّغْرَى أَتَشُقُّهُ قَالَ نَعَمْ. فَقَالَتْ لاَ تَفْعَلْ حَظِّي مِنْهُ لَهَا. قَالَ. هُوَ ابْنُكِ. فَقَضَى بِهِ لَهَا ». قال تعالى: (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ) فخصّه الله -عز وجل- بفهم هذه القضية وأثنى عليه .

 إن صحة الفهم وحُسن القصد من أعظم النعم التي أنعم الله بها على عباده ، بل ما أُعطى عبدٌ عطاءً بعد الإسلام أفضل ولا أجل من حسن الفهم ، به يأمنُ العبد طريق المغضوب عليهم الذين فسد قصدهم، وطريق الضالين الذين فَسدت فهومهم، ويصير من المنعم عليهم الذين حَسُنَت أفهامهم ، وهم أهل الصراط المستقيم ، وصحة الفهم نور يقذفه الله في قلب العبد يميز به بين الصحيح والفاسد ، والحق والباطل ، كما أنه يعين على سلامة العمل , وحسن التطبيق , ويقي صاحبه من العثرات .

قال عمر بن عبد العزيز  : " من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح " ،  هناك أناسٌ لا يعرفون في التعامل مع المسلم المؤمن إلا بسوء الظن والتأويل السيء والفهم المعوج  ، علماً بأن الإسلام قد قطع هذا الطريق المفضي إلى الفساد؛ بتحريم الظن السئ، واجتنابه؛ في قوله تعالى : ] اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم [ .

 وذلك لصيانة أعراض الناس، والمحافظة على حرماتهم وسمعتهم وكرامتهم ، وذلك من فرائض الإسلام   وواجباته الأساسية ؛ حتى تقوى صلات الأفراد، وينتفي كل ما يزرع في النفوس العداوة، والبغضاء ، فلا يحل لأحد منهم أن يتهم غيره بفحش ، أو ينسب إليه الفجور، أو يسند إليه الإخلال بالواجب ، أو النقص في الدين أو المروءة ، أو أي فعل من شأنه أن ينقص من قدره   أو يحط من مكانته ، فأمر الله تعالى بالتثبت؛ ونهى عن تصديق الوهم، والأخذ بالظن؛ فقال تعالى: ] ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً [  أي لا تقل إني سمعت والحال أنك لا تسمع، ولا رأيت والحال أنك لم تر ، ولا علمت والحال إنك لم تعلم ؛ ولا تتبع الظن في أي قضية من القضايا؛ فتصدق ما لا يتفق مع الواقع، ولا مع العلم الصحيح، لإنك مسؤول أمام الله تعالى عن ذلك كله . هناك  أشخاص لا يعرف في حياته حسن الظن وحسن الفهم مع الناس ، فحرم هذه الخصلة الطيبة والأدب السوي الجميل، الذي يقود صاحبه إلى قبول الحق ورفض الباطل ، إنها علامة على رجاحة العقلِ ووفور العلمِ ، فيا من تتهم غيرك دون تفهم وتثبت ، اسمع يحيى بن خالد بن جعفر وهو يوصينا بحسن الفهم لما نقرأ ونسمع فقال: " لا ترد على أحد جوابا حتى تفهم كلامه، فإن ذلك يصرفك عن جواب كلامه إلى غيره، ويؤكد الجهل عليك، ولكن افهم عنه، فإذا فهمته فأجبه ولا تعجل بالجواب قبل الاستفهام ، ولا تستح أن تستفهم إذا لم تفهم ، فإن الجواب قبل الفهم حمق، وإذا جهلت فاسأل فيبدو لك، واستفهامك أجمل بك، وخير من السكوت على العي " . وعند صدور قول أو فعل يسبب لك ضيقًا أو حزنًا حاول التماس الأعذار واستحضر حال الصالحين الذين كانوا يحسنون الظن ويلتمسون المعاذير حتى قال الإمام الشافعي: التمس لأخيك سبعين عذراً. وقال ابن سيرين رحمه الله: ” إذا بلغك عن أخيك شيء فالتمس له عذرًا  فإن لم تجد فقل: لعل له عذرًا لا أعرفه “.إنك حين تجتهد في التماس الأعذار ستريح نفسك من عناء الظن السيئ وستتجنب الإكثار من اللوم لإخوانك ولله در القائل :
تأن ولا تعجل بلومك صاحبًا   لعل له عذرًا وأنت تلوم

هناك أشخاص يسري في دمائهم وعروقهم سوء الظن وعدم التماس الأعذار والفهم السيئ والتأويل السيئ  وهناك أشخاص لا يرتاح لهم بال إلا وهم يطعنون في الغير ، متناسين أن من فضح مسلما فضحه الله يوم القيامة ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة ، فكيف بمن يكذب ويعتمد على كلام  الغير في الطعن والاستطالة في عرض المسلم  الذي حرّمه الله تعالى فقال : ] وَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَ إِثْمًا مُبِينًا [ الأحزاب 58 .
 أما كيف نتعامل مع من لا نصيب له في الفهم ، ومن لا موجِّه له ولا مرشد ، ولا واعظ له من ذاته ، يعظه ويحبسه عن ظلم الناس ، يعتمد على رأيه فيزل ، أو يعتمد على عقله فيضل ، أو يعتمد على آراء شاذة وعقول غير رشيدة، علمها بالدين قليل، أو فهمها للدين عليل فتتعامل بشكل غير صحيح مع النصوص القرآنية والنبوية العامة والخاصة في هذا المقام ، وذلك بوضعها في غير موضعها والاستشهاد بها في غير محلها .

إن سوء الفهم عن الله ورسوله أصل كل بدعة وضلالة نشأت في الإسلام قديما وحديثا، بل هو أصل كل الأخطاء في الأصول والفروع ؛ ولأهمية الفهم وفضله فقد بوب الإمام البخاري في كتاب العلم بابا بعنوان "باب الفهم في العلم"، روى فيه حديثاً عن معاوية أن رسول الله r قال : ( من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله : "أي يفهِّمه"، ثم قال : "ومفهوم الحديث أن من لم يتفقه في الدين، أي يتعلم قواعد الإسلام وما يتصل بها من الفروع، فقد حُرم من الخير كله". وقد جعل النبي r  الفهم والمعرفة للأمور وحسن الإدراك والتبصر بالمقاصد والتقدير للعواقب، مناط خيرية الإنسان عند الله ،  وكان من دعائه المأثور  واللافت لعبد الله بن عباس رضي الله عنها: (اللَّهُمَّ فَقِّهُّ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ) . فكان ابن عباس ببركة هذا الدعاء، حبر الأمة وعالمها وأحد منارات فقه الصحابة العظيم .  إن من المؤلـم والمحزن حقاً أن الدراسات الفقهية والشرعية بشكل عام تعاني، لأنها تُخَرِّج حفظة وحملة فقـه في الأعم الغالب ولا تُخرج فقهاء وتُخرج نقلة يُمارسون عملية التفريغ والتلقين ، ولا تخرج مفكرين ومجتهدين يربون العقل ويُنمون التفكير ، والناظر إلى الكثير من رسائل وبحوث الماجستير والدكتوراه في الجامعات الشرعية الإسلامية بشكل عام يَجدُ أطناناً من الوَرق يَعْظُم كَمها ويتضاءل كيفها، لم تُحرك ساكناً ،ولم تحقق رؤية ، تغير من واقـع الأمة .

إن أزمة المسلمين الأولى في هذا العصر هي أزمة فكر  وأوضح ما تتمثل فيه أزمة الفكر هي أزمة فهم القرآن الكريم والسنة النبوية والتعامل معهما ، وأزمة الفهم السوي للقرآن بحسن تفسيره الذي يُبين مقاصده   ويُوضح معانية ، وعدم إغفال التفريق بين الحقيقة والمجاز في السنة النبوية الذي يوقع في كثير من الخطأ ، كما هو عند الذين يسارعون إلى الفتوى في عصرنا، فيحرِّمون ويوجبون ويبدِّعون ويُفسّقون، وربما يُكفّرون بنصوص إن سُلِّم بصحتها، لم يُسلَّم بصراحة دلالتها ، مثال ذلك : حديث ( لأَنْ يُطَعَنْ أَحَدُكم بِمخيَط من حديدٍ خيرٌ له أن يَمسَ امرأةً لا تَحلُ له ) فإذا سلمنا بصحة الحديث أو تحسينه، إلا أن الحديث ليس نصاً في تحريم المصافحة ، لأن المس في لغة القرآن والسنة لا يعني مجرد اتصال البَشرة بالبَشرة ، إنما معنى المس هنا ما دل عليه قول ترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنهما : أن المس واللمس والملامسة في القرآن كناية عن الجماع  فإن الله حيي كريم يُكنِّي عما شاء بما شاء .

 بل إن من أعظم أسباب الانحراف في فهم القرآن الكريم والسنة هو وضع النصوص في غير موضعها الصحيح والاستدلال بها على غير ما سيقت له ، ومنشأ ذلك هو إتباع النص المتشابه وترك النص المحكم وما يدفع إلى ذلك زيغ القلوب وإتباع الهوى ، فكثيراً ما يكون النص صحيحاً لا مَطعن فيه ولا خلاف على ثبوته ، فهو أية من كتاب الله ، أو سنة قولية أو عملية أو تقريرية، ثابتة عن رسول الله r ولكن العيب في الاحتجاج بهذا النص على أمر معين ، وهو لا يدل عليه لأنه سيق مساقاً آخر، وقد يأتي ذلك كله من الخلل في الفكر وسوء الفهم للنص وذلك نتيجة العجلة التي نراها ونلمسها عند السطحيين من الناس، الذين يتخرصون على النصوص بغير بينه ويتطاولون بغير سلطان آتاهم ، ويقولون على الله ما لا يعلمون ، وقد يكون ذلك من الخلل في الضمير وفساد النية ، حيث يَعمد بعضُ الناس إلى ليِّ أعناق النصوص لتوافق هواه ،  بمعنى أن يُفسرها تفسيراً يُخرجها عما أراد الله تعالى ورسوله بها إلى معنى أخر يريدها المؤولون بها وقد تكون هذه المعاني صحيحة في نفسها ، ولكن هذه النصوص لا تدل عليها، وقد تكون المعاني فاسدة في ذاتها وأيضاً لا تدل النصوص عليها فيكون الفساد في الدليل والمدلول معاً .

ومن مظاهر أزمة الفهم، التشديد والتعسير، الذي من شأنه أن يُنفِّر الناس من الدين، وأن يَجلب على الإسلام مفاسد كثيرة ، كما يُضيع عليه وعلى أمته مصالح كثيرة. ومن مظاهر هذا التشديد: إغفال الرخص مع مسيس الحاجة إليها، والتوسع في مفهوم البدعة، والتوسع في التحريم والإيجاب . وما كان اختلاف الفقهاء  لتحقيق رغبات شخصية أو منافع مادية وإنما كان ناشئا عن دليل استند إليه كل منهم فيما ذهب إليه أو بناء علي فهم معين اقتنع به كل منهم واعتمد عليه ما دام هذا الفهم لا يتعارض مع كتاب الله تعالي وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وما اجتمعت عليه الآمة ، وهذا ما يلاحظه كل قارئ لأسباب اختلافهم 0

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

فلسفة العلم في الإسلام

إن الإسلام يؤمن بالعلم طريقاً للتقدم ، وقد أعلن على الأمية حرباً شعواء ، منذ اللحظة الأولى لبعثة محمد صلى الله عليه وسلم فكانت أول آية نزلت عليه ] اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق ، اقرأ وربك الأكرم ، الذي علم بالقلم [ بهذه الآية أصبح العلم شعار الإسلام ، له فاعلية في جميع الميادين ، بحيث لو استبعدناه من الإسلام لم يبق له شيء ، فكل عبادات الإسلام مرتبطة بالعلم ، وجاءت الآيات القرآنية تربط بين العبادة المخلصة وبين العلم فقال تعالى : ] أمَّن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحْذَرُ الآخرة ويرجو رحمة ربه ، قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون [ الزمر 9 . فالقنوت الخاشع لله يتوقف على العلم ، ومن ثم لا تستوي عبادة الجهال وعبادة العلماء لما ورد عنه صلى الله عليه وسلم ( فضل العلم خيرٌ من فضل العبادة ) البزار ، ولقوله صلى الله عليه وسلم : ( أفضل العبادة الفقه ) الطبراني   وقال صلى الله عليه وسلم في فضل العالم على العابد : ( فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم رجلا ) الترمذي

ومن العلماء من يحمل المؤهل العلمي , لكنه ينسلخ من مبادئه ، ومن تقوى الله وخشيته ، لا يطبق الواجب من الدين ومنهجه ، وهذا هو العلم الضار قال تعالى :        ] وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ  [ البقرة 102.  هذا الصنف من العلماء هم الذين قال فيهم سفيان الثوري : " إن فجار القراء اتخذوا القرآن إلى الدنيا سلما قالوا : ندخل على الأمراء نفرج عن المكروب ، ونتكلم في محبوس ، ولم يكن ذلك هدفهم ، إنما كانوا يقتنصون الدنيا " ، فعلى العالم أن يحسن الظن بالشريعة ، لأن العلم هو الشريعة  وأن يحسن ظنه في عمله للعلم ، وأن يحسن ظنه بالعلم والعمل جميعا، وأن يقبل على ذلك .

ولقد أحسن ابن القيم عندما قال :

والجهلُ داء قاتلٌ وشفـاؤه   أمران في التركيب متفقـانِ

نص من القرآن أو من سنة   وطبيب ذاك العالم الربانـي

والعلم أقسام ثلاثة ما لهـا      من رابع والحق ذو تبيانِ

علم بأوصاف الإلـه وفعله    وكذلك الأسماء للدّيانِ

والأمر والنهي الذي هو دينـه  وجزاؤه يوم المعاد الثاني

والكلُّ في القرآن والسنن التي جاءت عن المبعوث بالفرقان

والله ما قال امرؤ متحذلق    بسواهـما إلا من الهـذيـان

وهذا حق ، فالعلم به كمال الروح ، وكمال الاعتقاد  وكمال العمل ، وكمال انشراح الصدر ، وكمال رؤية الأشياء ، وقد ذكر أهل العلم أنَّ من أسباب ضلال الضالين من هذه الأمة ، أنهم ضلوا لأنهم لم يكونوا على علم صحيح ، لأن العلم الصحيح سبب من أسباب وقاية الفتن ، ووقاية أسباب الضلال .

كثيرون بينهم وبين الكتاب جفاء وهجر ، ومع أنهم أمة  (اقرأ) ، أو أن القراءة أصبحت حسَّ الكثيرين ممن اشتطّت أفكارهم عندما فسدت قراءاتهم ، لا يدري ما يقرأ فمرة عن الرياضة ، ومرة عن الفن ، ومرة عن السفاهة   وأحسنهم حالاً من يقرأ عناوين الصحف .   

وكيف يعقل من يقرأ خمس صحف يومية ، ولا يقرأ كتاب رب البرية ؟! وكيف يرشُد حاوي الأدبيات السخيفة ، وهو مُعرض عن الأحاديث النبوية الشريفة ؟! أو من هو مغرَم بالقصص الفنية ، وقد غفل عن السيرة النبوية ، أو من هو هاوٍ للمغامرات ، وناس ما لأهل الإسلام من فدائيات وبطولات! قد ثقلت عليهم المعرفة  وخف عليهم القيل والقال ، ولو سألت أكثرهم ماذا قرأت اليوم ؟ وكم صفحة طالعت ؟ لوجدت الجواب صفر ، غالبهم بطين سمين ، ثخين بدين ، لأنه مجتهد في تناول كل ما وقعت عليه العين ، ووصلت إليه اليدين ،  إنهم بحاجة إلى دورات تدريبية على القراءة  لأنهم وزّعوا أوقاتهم على  السمر مع الشاشات   ومشاهدة المسلسلات ، أو متابعة آخر الموضوعات ، وما علموا أن الإنسان بلا قراءة قزم صغير ، وأن الأمة بلا كتاب قطيع هائم كبير .

والمطالع لسِيَر العظماء العباقرة ، يجد الصفة اللازمة لجميعهم القراءة والمطالعة ، وهيامهم بالمعرفة وعشقهم للعلم ، حتى مات الجاحظ تحت كتبه، وتوفي مسلم صاحب الصحيح وهو يطالع الكتب ، وكان أبو الوفاء ابن عقيل يقرأ وهو يمشي ، وقال المتنبي: وخير جليس في الزمان كتاب ، وقال صاحب كتاب فن الخطابة : العظمة هي قراءة الكتب بفهم ، وقال الروائي الروسي تيولوستي : قراءة الكتب تداوي جراحات الزمن 

أما آن لنا أن نقبل على القراءة ، بدل أن نقضى العمر ونقتل الزمان بالهذيان ، وأماني الشيطان ، وأخبار فلان وعلاّن ، أما آن لأصحاب الذهن الجامد ، والضمير الراقد أن يستيقظوا ويقتدوا بأصحاب الهمم الشماء ، التي جعلت أحمد بن حنبل يطوف الدنيا ليجمع أربعين ألف حديث في المسند ، وابن حجر يؤلّف فتح  الباري ثلاثين مجلداً ، وابن عقيل الحنبلي يؤلف كتاب الفنون سبعمائة مجلد ، وابن خلدون يسجّل اسمه في عواصم الدنيا، وابن رشد يجمع المعارف الإنسانية ، كانوا يعطون القراءة أكثر أوقاتهم متجلّدين ، كعطاء أهل الدنيا بدنياهم ومشاغلهم ، فلا غرابة إذا قلنا أن عالمًا من المسلمين قرأ (المدونة) في الفقه المالكي ألف مرة ، والمحدث أبو بكر الأبهري : قرأ (الموطأ) خمسًا وأربعين مرة ، والحافظ الحسن السمرقندي قرأ صحيح مسلم نيفا وثلاثين مرة  والحافظ برهان الدين الحلبي ذكر أنه قرأ صحيح البخاري أكثر من ستين مرة ، وقرأ صحيح مسلم نحو عشرين مرة . وأبو الفرج ابن الجوزي ذكر في صيد الخاطر أنه ربما طالع  أكثر من عشرين ألف مجلد .

أولئك قوم شيد الله فخرهم فما فوقه فخر ولو عظم الفخر

ولقد أحسن من قال :

ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم على الهدى لمن استهدى أدلاء

وقدر كل امرئ ما كان يحسنه والجاهلون لأهل العلم أعداء

ففز بعلم تعش حيا به أبدا   الناس موتى وأهل العلم أحياء

 وقال الحسن : تعلموا العلم ، فإن تعلمه خشية ، وطلبه عبادة ، ومدارسته تسبيح ، والبحث عنه جهاد، وتعليمه من لا يعلمه صدقة ، وبذله لأهله قربة ، وهو الأنيس في الوحدة ، والصاحب في الخلوة ، والدليل على الدين   والصبر على الضراء والسراء ، والقريب عند الغرباء   ومنار سبيل الجنة ، يرفع الله به أقواما في الخير ، فيجعلهم سادة هداة يقتدى بهم ، أدلة في الخير ، تقتفى آثارهم  وترمق أفعالهم ، وترغب الملائكة في خلتهم ، وبأجنحتها تمسحهم ، لأن العلم حياة القلوب ، ونور الأبصار ، به يبلغ الإنسان منازل الأبرار ، وبه يطاع الله عز وجل    وبه يعبد ، وبه يوحد ، وبه يمجد ، وبه تواصل الأرحام  يلهمه السعداء ويحرمه الأشقياء " .

كتب رجل إلى ابن عمر يطلب منه أمراً عجيباً ، أتدرون ماذا قال : قال أكتب إلي بالعلم كله ، فبماذا رد عليه ابن عمر ؟ دله على مفاتيح الخير التي ينجو بها ، فكتب إليه : إن العلم كثير ، ولكن إن استطعت أن تلقى الله : خفيف الظهر من دماء الناس ، خميص البطن من أموالهم كافَّ اللسان عن أعراضهم ، لازماً لأمر جماعتهم ، فافعل

وتعتبر الدعوة في كتاب الله للقراءة ، دعوة كما قيل    إلى العلم ، ودعوة إلى المعرفة ، ودعوة إلى البحث والنظر ودعوة إلى الحق واليقين ، ومعنى ذالك فإن الإسلام منذ اللحظة الأولى ، حض على العلم وأشاد بالمعرفة ، والقرآن الكريم حافل بالآيات التي تدعوا إلى البحث والنظر  واكتشاف نواميس الكون  ، وكنوز الأرض، يقول الله تعالى : ] قل انظروا ماذا في السموات والأرض [   والعلم المشاد به لا يقتصر على العلوم الشرعية بل يشمل كل العلوم التي تحتاجها الأمة ، وقد اتفق الفقهاء على أن كل العلوم التي تفيد الأمة ، طلبها فرض كفاية بما في ذلك العلوم الشرعية ، وقصر فضل العلم على العلوم الشرعية دون سواها ، سبب أدى ويؤدي إلى تأخر الأمة عن ركب الحضارة والتقدم ، ولا يمكن للمسلمين أن يصيروا خير أمة أخرجت للناس ، كما قال بعض العلماء إلا إذا تفوقوا على سائر الأمم ، وأن يكونوا مثالا يحتذي في معاملاتهم وفي سلوكياتهم ، وما يتمسكون به ويدعون إليه ، من قيم رفيعة وأخلاق سامية ، إلى جانب تفوقهم في امتلاك أسباب القوة ، بمختلف أنواعها وأشكالها   القوة الاقتصادية والسياسة والفكرية والعسكرية والعلمية   وهذا يعني أن يطورا وباستمرار معارفهم وعلومهم في شتى المجالات ، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ) فيه إشارة إلى القوة بكل جوانبها وأشكالها ، قوة في البدن والروح ، قوة في العقل والعلم والإرادة .

كما ينبغي أن يعرفوا أن أهم عامل يساعد عل التحصيل العلمي الجيد والنافع ، تقوى الله ، قال تعالى : ] واتقوا الله ويعلمكم الله [ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم ) .

وقد قيل : لو كان العلم بلا تقى شرفا لكن أشرف المخلوقات إبليس ، ورحم الله الإمام عليا حين قال : " العلم خير من المال ، العلم يحرسك وأنت تحرس المال  والعلم حاكم والمال محكوم ، والمال تنقصه النفقة والعلم يزكوا بالإنفاق " .

إن الأمة الإسلامية ، لا يمكن لها أن تنهض إلا بالعلم ولا يمكن لها أن تتبوأ مكان الصدارة إلا بالعلم ، ولا يمكن لها أن تقضي على التخلف والأمراض والفقر إلا بالعلم ، ولا يمكن لها أن تقود غيرها إلا بالعلم ، ولا يمكن لها أن تنهي تفرقها المذموم إلا بالعلم ، فالعلم هو الأساس لوحدتها   وهو الأساس لفلاحها ، أفرادا وجماعات ، والعلم مأمور به قبل العمل ، لأنه أساس العمل قال تعالى : ] فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات والله يعلم متقلبكم ومثواكم [ . إن الترابط بين العقيدة والعلم والعمل في بناء الحياة ، أمرٌ لا بد منه  لبناء الدولة العصرية ، لأنه لا علم إلا بعمل ، ولا عمل إلا بعلم  ولا إيمان بغير ذلك ، وقد استخدم الإسلام العلم في كل مجالاته التطبيقية ، التي تناولت الحياة كلها  وخطط به للسلم والحرب ، والسياسة والاقتصاد والمال  وفي كل المجالات ، ولم يحدث في يوم من الأيام أن صار العلم نظريا فحسب ، بل إن القرآن لينعى على أقوام يقولون ما لا يفعلون فقال سبحانه : ] يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون [ الصف 2 . يفهم من الآية أنها جعلت العلم من غير عمل ، نكبة وضعفا ، ثم عقبت على ذلك بذكر نموذج تتكامل فيه المعاني الثلاث : العقيدة والعلم والعمل ، وهو الجهاد وقتال العدو ، فليس بالأقوال والمعرفة يكون الجهاد   وإنما يكون بعقيدة دافعة ، يخطط لها العلم ، ويترجمها التلاحم على خط النار ، في مواجة العدو كالبنيان المرصوص ، وكأنما الآية تريد أن تقول لنا : لا يكون الجهاد بالكلمات والنظريات بل بالدماء والتضحيات  وبدافع من العقيدة ] إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص [ الصف .

 

 

 

 

 

 

 

 

صلة الرحم

صلة الرحم خُلُق دعا الإسلام إليه وأمر به ورغّب فيه  وحذَّر من قطيعتة  وبيَّن العقوبة المترتبة على قاطعه ، في الدنيا والآخرة ، وأمر الله بصلة الرحم  ورغب في ذلك فقال تعالى :{ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَٱلأَرْحَامَ } النساء 1. أي: اتقوا الأرحامَ بصلتكم لها وقال تعالى:{ وَٱلَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوء الحِسَابِ } الرعد 21 .

والرحم هم أقاربَك من جهة أبيك وأمك، إخوانَك وأخواتِك، أعمامَك وعماتِك، أبناءَ أخيك وأبناءَ أخواتك، أبناءَ عمك، وأقاربَك من حيث الأب، أخوالَك وخالاتِك، أقرباءَ أمك، كلُّ أولئك رحم، أنت مدعوٌّ لصلتهم ، وصلتهم تكون بالإحسان إلى فقيرهم ومحتاجهم والوقوف معه في شدائد الأمور، وسؤالك عنهم  واهتمامك بشأنهم، والشفقة والرحمة بهم ، بل إن هذه  الصلة حق لكل من يمت إليك بصلة نسب أو قرابة وكلما كان أقرب كان حقه ألزم وأوجب ، وهم أولى بالرعاية  لأن صلتهم من واجبات الإيمان قال صلى الله عليه وسلم : ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه) بل إن أكمل الناس إيماناً من كان واصلاً لرحمه لما لها من مكانة قال صلى الله عليه وسلم : (خلق الله الخلق، فلما فرغ منهم قامت الرحم فقالت : هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: نعم  أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟! قالت: بلى، قال: فذلك لك) أخرجه البخاري ومسلم في البر ، وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من وصل رحمه وصله الله ، ومن قطع رحمه قطعه الله) .  قد تكون هناك أسباب لقطيعة الرحم  ، يتجاوزها المؤمن تقرباً إلى الله عملاً بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ليس الواصل بالمكافئ، إنما الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها) ليس الواصل الذي يقول: رحمي زارني سأزوره، رحمي دعاني سأدعوه، رحمي أهدى إلي سأهدي إليه وإلا لا   أما الواصل فإنه  يصل من قطعه ليدلَّ على أن تلك الصلة نابعة من إيمان صحيح ، فلا يرضى بقطيعة الرحم ، بل يصل من قطعه منهم ، ويحسن إلى من أساء إليه منهم  جاء رجل للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن لي رحماً أصلهم ويقطعونني وأحسنُ إليهم ويسيئون إليَّ، وأحلم عليهم ويجهلون عليَّ، فقال له النبي : ( إن كنت كما قلتَ فكأنَّما تسفّهم الملّ ـ وهو الرماد المحترق ـ ولا يزال معك من الله عليهم ظهير ما دمت على ذلك )  .

ويمكن أن تكون صلةَ الرحم بصرف الصدقات والزكوات إلى المحتاج منهم ، فهم أولى بذلك من غيرهم ، جاء في الحديث ( وصدقتك على المسكين صدقة ، وعلى ذي الرحم اثنتان: صدقة وصلة)  وقد دلت النصوص على أن أفضل النفقة ، النفقة على الأقارب قال تعالى :{ يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين }البقرة 215 . وقد جعل الله لذي القربى حق في الأعناق يوفى بالإنفاق : { وآت ذا القربى حقه } الإسراء 26 . ليس تفضلا إنما هو الحق الذي فرضه الله  فقريبك منك إن أحسنت إليه فإنما تحسن إلى شخصك وإن بخلت عليه فإنما تبخل عن نفسك ،  وإذا لم يجد الإنسان  ما يؤدي به حق الأقربين ، فإن هناك مجالات واسعة لصلتهم والإحسان إليهم ، كالبشاشة عند اللقاء وطيب القول وتفقدهم زياراتهم ، والمعنى الجامع لذلك كله إيصال ما أمكن من الخير ، ودفع ما أمكن من الشر ، بدون تعصب وهوى ورد للحق والهدى ، وبذلك تقوى المودة ، وتزيد المحبة ، وتتوثق عرى القرابة ، وتزول العداوة والشحناء .

وإن أسرع الخير ثوابا البر وصلة الرحم ، وأسرع الشر عقوبة ، البغي وقطيعة الرحم ، ولذلك حذرنا الله من قطيعة الرحم ، وبيَّن الوعيدَ الشديد المترتِّبَ على ذلك في الدنيا والآخرة ، قال تعالى : { وَٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَـٰقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ في ٱلأرْضِ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ ٱللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوء ٱلدَّارِ } الرعد 15 . ويقول تعالى :{ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى ٱلأَرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ  أَوْلَـئِكَ ٱلَّذِينَ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَـٰرَهُمْ }محمد 22 . وقد اعتبر الإسلام أساس التواصل هو التواد والتراحم  فإذا فقد ذلك تقطعت الأوصال قال تعالى : { والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار } الرعد 25 . ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( الرحم معلقة بالعرش تقول من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله) متفق عليه .

فاتقوا الله عباد الله وصلوا أرحامكم وقدموا لهم الخير ولو جفوا، وصلوهم وإن قطعوا، يدم الله عليكم بركاته ويبسط لكم في أرزاقكم ويبارك لكم في أعمالكم قال عز وجل : { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم } الأنفال 75 .  فرحمك إن دنوت منه داناك وإن بعدت عنه راعاك، وإن استعنت به أعانك ، مودة فعله أكثر من مودة قوله ، ولا فكاك لك عنه فعزه عز لك  وذله ذل لك  فمعاداتهم شر وبلاء ، الرابح فيه خاسر، والمنتصر مهزوم

وإن قطيعة الرحم من ضعف اليقين ورقة الدين ، عقوبتها معجلة في الدنيا قبل الآخرة قال صلى الله عليه وسلم : ( ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم ) 

فاتقوا الله عباد الله وصلوا أرحامكم فحق القريب رحم موصولة، وحسنات مبذولة، وهفوات محمولة، وأعذار مقبولة قال صلى الله عليه وسلم : ( يأيها الناس أطعموا الطعام وأفشوا السلام وصِلوا الأرحام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام ) .

 

 

 

 

 

رسالة المسجد

لا يخفى على المسلم ما للمسجد من دور هام في الحياة   فهو المدرسة الأولى التي تخـرَّج فيها الصحابة رضي الله عنهـم. فقد كـان لهـم كبير الأثر في جميع المجالات العلمية والدعوية والقضائية والأدبية وغيرها ، فقد أدى المسجد دوره وقام برسالته التي أقيم من أجلها؛ فلم يكن المسجد دار صـلاة فحسـب ، بـل كـان دار اجتماع لكـل المسلمـين ، ومـركزاً لإرسال السرايا والجيوش ، ومنه انطلــق الدعـاة إلى اللـه يعلِّـمون النـاس الخير.

ففد كان المسجد روح المجتمع الإسلامي ، ولذلك كان فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الأول عندما هاجر إلى المدينة ، أن يبني المسجد ، حتى يكون مَحْضِناً للرجال ومصنعاً للأبطال  وكما نعلم أن المصانع نوعان : مصانع للسلع أو الأسلحة ومصانع للرجال ، والحقيقة أن المسجد كان مصنعاً للرجال ، وكل أمة ليس لديها مصنعاًً للرجال ، فإن الأسلحة مهما كثرت فلا تغني عنها شيئا ، أما لماذا اهتم الرسول صلى الله عليه وسلم بإقامة المسجد ، لأن الناس الطيبين يوم يكون كلٌ منهم منطوٍ على نفسه بعيدٍ عن أخيه ، لا ينجحون في مقاومة الباطل والضلال ، ولذلك نرى أن الأعداء بالرغم من النجاح العسكري في غزو بلادنا ، فقد عملوا وبجد على ُسحب الإسلام من ميدان المقاومة ، وأن يجعل المسلمين المهزومين لا يلتقون في المساجد لقاءً نافعاً ، وقد تحقق لهم ما أرادوا ، فقد أصبحت المساجد صوراً  وأصبح الكلام الذي يلقى فيها ميتاً ، وعملوا في شتى الميادين على رفض أي تجمع للإسلام ، فاستطاعوا أن يَضرِبوا دون أن يُضربوا ، وأن يَظلموا وهم آمنون من العقوبة ، وأن يعتدوا ويحتلوا وهم يدركون أن الثأر منهم والإعداد لهم ما دام بعيداً عن الإسلام فلا قيمة له .

ففي المسجد أخي المسلم ينبغي أن تحرص على الصلاة وأن تستوعبها ، ومن حق المنعم أن تقول له بين الحين والحين ] الحمد لله رب العالمين [ ومن حق من يتركك تخطئ دون أن يعجل عليك العقاب ،  أن تذكره باسميه ] الرحمن الرحيم [ ثم تعلم أنك عائد إليه ] مالك يوم الدين [ ثم تعاهده على أن تكون عبداً له مستعيناً به متجهاً إليه ] إياك نعبد وإياك نستعين [ ثم لتعلم أنك أفقر الخلق إلى هدايته سبحانه ، فإذا لم يهدِ قلبك فإنك ضائع ، فاضرع إليه أن يهب لك هذا الخير المعنوي ] إهدنا الصراط المستقيم [ فإن مناجاة الله في الصلاة على هذا النحو ، تعلّم الناس الإخلاص لله ، والإخلاص في معرفة الآخرين ، لأن الذي يدرب نفسه على المناجاة الخاشعة والعمل الصالح خمس مرات في كل يوم ، ينبغي أن يكون نقياً لا يعرف النفاق ولا المداهنة ولا الغش ولا سوء العمل ، ولذلك جاء قوله تعالى في المجتمعات المنحرفة التائهة ] فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً [ مريم 59 . فكأن إتباع الشهوات اثر يجيء بعد ترك الصلوات .

لقد هانت المساجد رسالة ، وهانت مظهراً وجوهراً   وقد استطاع أعداؤنا أن يجعلوا صلتنا بالمسجد مبتوتة  بينما تشبثوا بعقائدهم الباطلة في كنائسهم .  

إن المسلمين ينبغي أن يعودوا إلى أنفسهم ، فما يمر به المسلمون يوقظ النيام ، لكنهم كالذين قال الله فيهم ] أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرةً أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذَّكَرون [ التوبة 126 . إننا لا ننتفع بالآلام ولا بالمصائب ما دام الإسلام بعيداً عن المعركة ، وعن تصفيف المجتمع في المساجد ، وما دام بعيداً عن التشريع والتثقيف ، ولا يمكن أن ننتصر إلا يوم أن يكون الإسلام صيحتنا ورباطنا وسياجنا ، وأن يلعب دوراً ريادياً كما كان يشكل الملتقى الروحي للناس فيعبدون الله فيه ، ويتعلمون العلوم النافعة لهم في دينهم ودنياهم، ويجتمعون فيه للتداول في أمورهم الداخلية والخارجية، فكانت تنطلق من منابره التوجيهات والتخطيطات المتعلقة بتنظيم حياتهم ، كما كانت تنطلق منها صيحات الجهاد. وقد سارت حياة المسلمين في مساجدهم على هذا النحو ، بحيث جسّدت المفهوم الإسلامي للعبادة التي تنفتح على الله سبحانه، لينفتح الناس من خلال ذلك على الحياة في مواقعها المضيئة المتحركة في سبيل الخير.

وعندما تراجع في هذا العصر الذي جمّد عقول المسلمين وأفكارهم ، فتجمّد كل شيء حولهم ، ونالت المساجد حصّة من هذا التجميد، فإذا بالأعداء ينكرون على المسلمين أن يتحدثوا في المساجد بغير الشؤون الدينية الخاصة التي تتحدث عن الجنّة والنار والعبادات والأخلاقيات ، أما إذا كان الحديث عما أمر الله به من مقاومة الظلم والإنحراف في شؤون الحكم والسياسة والاجتماع والاقتصاد، اتهموهم بأنهم يستغلون بيوت الله لغير الأغراض المخصصة لها ، وأثاروا الثائرة عليهم ، بأنهم يعملون على إدخال السياسة للمسجد وتسييس الدين  زعماً منهم بأن الدين لا يلتقي بالسياسة، في الوقت الذي نرى أن الله سبحانه وتعالى يصرح في أكثر من آية، بأن الله أنزل كتبه وأرسل رسله من أجل أن يقوم الناس بالقسط ، ولذلك فإن كثيراً من المساجد تعاني من تعاطي الخرافات والأساطير فيها ، واللغط واللهو والنوم ، وقضاء الأوقات في الأحاديث الدنيوية ، وربّما تعاطي الغيـبة  والكذب ، وتناول أعراض المسلمين ، إضافة إلى  التسبّب في هتك حرمتها ، بدل أن تبنى العلاقات الاجتماعية ويقوم التواصل الإنساني في المساجد على أساس الإيمان والحب والإخاء والتعاون والمساواة ، ورحمة الصغار واحترام الكبار ، ولذلك ارتبط تاريخ الأمة الإسلامية بالمسجد ارتباطاً وثيقاً ، لأن الإسلام لم يقْصر رسالة المسجد على أداء الصلاة فحسب ، بل أراد أن يكون له دور إيجابي ، وأهداف سامية تخدم المجتمع الإسلامي  فبالإضافة إلى أداء الصلاة ، فهو مكان لتلاوة القرآن الكريم ، ومعهد للعلم ومجلس للقضاء ، وملتقى التعاون والتكافل، ومكان للرأي والمشورة ، كيف لا وقد أضاف الله عز وجل إلى نفسه المساجد ، إضافة تشريف وإجلال فقال سبحانه وتعالى : ] وأن المساجد لله فلا تدعو مع الله أحدا [ الجن 18 وعليه فإن بيوت الله تعالى هي أحب البقاع إليه سبحانه ، منها يشع النور ومنها يسطع الحق والهدى والخير ، روى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أحب البلاد إلى الله مساجدها وأبغض البلاد إلى الله أسواقها ) مسلم . لذا فإن للمسجد في المجتمع الإسلامي أهمية كبرى ، ودور عظيم في تنمية المجتمع وترشيده ولا يقل هذا الدور في أهميته ، عن أثر المسجد في تكوين الفرد المسلم ، بل إن المسجد ميدان تعليم وتطبيق في وقت واحد ، فقد كان المسجد أعظم معاهد الثقافة لدراسة القرآن والحديث والفقه واللغة وغيرها من العلوم، وأصبح كثير من المساجد مراكز هامة للحركة العلمية ، وكما أنها   محراب للعبادة، فهي مدرسة للعلم، وندوة للأدب  ومصحة للأرواح ، لهذا نتمنى أن تعود للمسجد رسالته السامية، ومكانته التي كان عليها في صدر الإسلام   ليعيش المسجد في هذا العصر كما كان في الماضي ، وأن لا يقتصر دوره على أداء الصلوات ، وطلب العون والمساعدات والإعلان عن المفقودات ، وعلى مداخله تباع السلع والحاجيات ، عن أبي ذر قال : قلت يا رسول الله كيف تعمر مساجد الله ؟ قال : ( لا ترفع فيها الأصوات، ولا يخاض فيها بالباطل ولا يُشتر فيها ولا يُباع واترك اللغو ما دمت فيها، فإن لم تفعل فلا تلومنّ يوم القيامة إلا نفسك ) .

 

 

 

الذكر بين الإتباع والابتداع

قال تعالى : ] يا أيها الدين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيرا وسبحوه بكرةً وأصيلا [ أمر الله عباده أن يذكروه ، لأن الذكر يرضي الرحمن ويطرد الشيطان ( يقول النبي صلى الله عليه وسلم ورأيت رجلاً من أمتي قد احتوشته الشياطين – تداخلت في أحشائه- فجاءه ذكر الله فطرد الشياطين عنه )   والذكر ينوِر القلب ، ويورث محبة الله   ويُشغل عن الكلام الضار ، ويُؤمن العبد من نسيان ربه ، ويُزيل قسوة قلبه ، ويعين على طاعة الله ، وذكر الله أشرف ما يخطر بالبال ، وأشرف ما يتألّق به العقل الواعي وأشرف ما يستقر في العقل الباطن ، وقد أوصى الله المؤمنين بالخوف والوجل عند ذكره ، لقوة إيمانهم ومراعاتهم لربهم   وكأنهم بين يديه قال تعالى : ] إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم [ وقد كان حال أصحاب رسول الله عند الذكر الفهم عن الله ، والبكاء خوفاً منه  ولذلك وصف أصحاب المعرفة عند ذكره وتلاوة كتابه فقال الله تعالى : ] وإذا سمعوا ما أُنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق [ هذا وصف حالهم ، ومن لم يكن كذلك فليس على طريقهم ولا هديهم   والذاكرون المؤمنون ، إذا ما حلت بهم المصائب  استقبلوها بالرضى والطمأنينة قال الله تعالى : ] الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب [ الرعد 28 . والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : ( أربع من أعطيهن ، فقد أعطي خيري الدنيا والآخرة ، من أعطي قلباً شاكراً ولساناً ذاكرا ، وبدناً على البلاء صابراً ، وزوجة تعينه على أمر دينه ودنياه ) . وعندما قال موسى عليه السلام لربه : كيف أشكرك يا رب ؟ قال يا موسى تذكرني ولا تنساني ، إنك إن ذكرتني شكرتني ، وإن نسيتني كفرتني قال صلى الله عليه وسلم اقرءوا إن شئتم قوله تعالى : ] فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون [ البقرة 152 . اذكروني بطاعتي أذكركم برحمتي   واذكروني بالدعاء أذكركم بالإجابة ، واذكروني في الدنيا أذكركم في الآخرة ، واذكروني في الخلوات أذكركم في الفلوات ، واذكروني في الرخاء أذكركم في البلاء  واذكروني بالمجاهدة أذكركم بالهداية .   

 أما من ينطلقون صوب الدنيا يعبدونها ، ويربطون حاضرهم ومستقبلهم بها ، فالذكر هنا أن يستعفف الإنسان ، فيشعر أن مع الدنيا آخرة ، فيعمل لآخرته كما يعمل لدنياه ، وهذا معنى قوله تعالى  :   ]فاعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا [ النجم 29 .

إن المؤمن يذكر أن له رباً يغفر ويقبل التوبة ، لذلك فهو ينهض من كبوته ، ويطهر نفسه ، ويعود إلى ربه   ويستأنف الطريق إليه ، كما قال  الله  تعالى : ] والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم [ آل عمران 135 . فالفارق بين مؤمن يذنب ، وفاسق يذنب   أن المؤمن سرعان ما ينير الإيمان قلبه ، أما الفاسق فإنه يبقى على ظلمته ، ولا يعرف طريق التطهر قال الله تعالى : ] إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا الله فإذا هم مبصرون [ الأعراف 2 .

والذكر يعلمنا أن الجهاد وقتال الأعداء لا يُقرِّب أجلا ولا يُنْقِص عمرا ، وأن القعود في البيوت الآمنة أو التحصن في البروج المشيدة ، لا يدفع موتا ، لذا فإن الذكر يعلّم الناس الثبات عند لقاء الأعداء قال الله تعالى : ] يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون [ الأنفال 45 . والذكر يجئ تحريكاً لأقفال القلب حتى تنفتح كما قال الله تعالى : ] واذكر ربك إذا نسيت تضرّعاً وخيفةً ودون الجهر من القول [ الأعراف205   تضرعاً وخيفة ، تذللاً وخوفاً من الله ، هذا الذكر الذي حوله بعض المسلمين إلى مجالس عبث ، وإلى صيحاتٍ منكرة  وإلى نوعٍ من المجون والعبث ، فقد انتشرت بين بعض المسلمين بدع كثيرة في دين الله تعالى ، واستبدلوها بسنن النبي  صلى الله عليه وسلم  حتى كادت معالم السنة تندثر ، وأصبح الباطل حقاً  والحق باطلاً ، وأضحت البدعة سنة  والسنة بدعة  فراحوا يذكرون ربهم ، وقد عجزوا أن يفهموا معنى ذكره ، حتى ظنوا أن الدين لغواً على الألسنة ، أو أن مجلس الذكر عبارة عن جذب ووثب وقفز   بعيداً عن استشعار جلال الله ، كالذي يقوم به بعض الناس  بحركات موزونة مرتبة ، وترنيمات مصطنعة مُطْربة  وقفز ووثب ، ونط وجذب ، وانحناء ورفع  والتفات ودفع   ما تتبرأ منه الفطر السليمة ، والقلوب الخاشعة  بحجة أن هذه الحركات والوثبات ، لمنع الخاطر أن يشتغل بغير الله تعالى ، مع أن ما عُرِف من حال السلف حرصهم الشديد على حفظ خواطرهم وقلوبهم  وجعلها مع الله  فلم يفعلوا ذلك بل إنهم أنكروه أشدَّ الإنكار .

قال القرطبي في كتابه الجامع :" وأما ما ابتدعته الصوفية في ذلك ، فهو من قبيل ما لا يختلف في تحريمه ، لكن النفوس الشهوانية غلبت على كثير ممن يُنْسَبْ إلى الخير  حتى لقد ظهرت من كثيرٍ منهم ، فعلات المجانين والصبيان   حتى رقصوا بحركات متطابقة ، وتقطيعات متلاحقة  وانتهى التواقح بقومٍ منهم ، إلى أن جعلوها من باب القُرَبْ وصالح الأعمال " . ونقل القاضي عياض عن أحد أصحاب مالك قال : " كنا عند مالك وأصحابه حوله فقال رجلٌ من أهل نصيبين : عندنا قومٌ يقال لهم الصوفية يأكلون كثيراً ، ثم يأخذون في القصائد ، ثم يقومون فيرقصون فقال مالك : أصبيان هم ؟ قال : لا  قال أمجانين هم ؟ قال : لا ، هم قومٌ مشايخ وغير ذلك عقلاء   فقال مالك ما سمعت أن أحداً من أهل الإسلام يفعل هذا"  

وقد نقل الشاطبي في فتاواه كراهية مالك الاجتماع لقراءة الحزب ، وقوله : إنه شيء أُحدث ، وإن السلف كانوا أرغب للخير ، فلو كان خيراً لسبقونا إليه "  وهذا الذكر يساق فيه قول الله تعالى : ] وذر الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا [ الأنعام 70 .

 إن الذكر الجماعي ، ليس له أصل في دين الله تعالى ، إذ لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم  ولا عن الصحابة الكرام ، أنهم كانوا يذكرون الله جماعة ، ولم يفعله السلف الصالح رضي الله عنهم ، بل أنكروا على من فعل ذلك ، ولم تنتشر هذه البدعة إلا بقوة السلطان ، وذلك على يد المأمون بن هارون الرشيد ، لما أمر به ودعا إليه ، ثم اعتاده الناس  وشاع بينهم ، حتى أصبح عندهم كالفريضة .

وليس الذكر قاصراً على اللسان فالذكر مقسوم على سبعة أعضاء هي : اللسان والروح والنفس والعقل والمعرفة والسر والقلب ، وكل واحد يحتاج إلى استقامة  فاستقامة اللسان صدق الإقرار ، واستقامة الروح صدق الاحتضار ، واستقامة النفس صدق الاستغفار  واستقامة القلب صدق الاعتذار ، واستقامة العقل صدق الاعتبار  واستقامة المعرفة صدق الافتخار ، واستقامة السر السرور بعالم الأسرار ، كما تحتاج هذه الأعضاء إلى أذكار   فذكر اللسان الحمد والثناء ، وذكر النفس الجهد والعناء   وذكر الروح الخوف والرجاء ، وذكر القلب الصدق والصفاء ، وذكر العقل التعظيم والحياء  وذكر المعرفة التسليم والرضا ، وذكر السر الرؤية واللقا .

والله يطلب الذكر في جميع الأحوال ، وحال العبد إما أن يكون في الطاعة ، أو في المعصية ، أو في النعمة ، أو في الشدّة : فإن كان في الطاعة فينبغي أن يذكر الله بالتوفيق ويسأله القبول ، وإن كان في المعصية فينبغي أن يدعو الله بالامتناع ، ويسأله التوبة ، وإن كان في النعمة تذكّره بالشكر ، وإن كان في الشدّة تذكره بالصبر .

فما أجمل مجالس المؤمنين الذاكرين ، إنها مجالس تحفها الملائكة بالرعاية والعناية ، وتغشاها الرحمة من رب العالمين يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( ما اجتمع قومٌ على ذكر الله إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة )  فأكثروا من ذكر الله   فإنه لا يتحسر الإنسان على شيء إلا على ساعة مرّت ولم يذكر الله فيها قال صلى الله عليه وسلم : ( ما من ساعة تمرّ بابن آدم لم يذكر الله فيها إلا حَسِرَ عليها يوم القيامة ) .

 

 

 

 

 

 

  

 

 

 

  

 

الفرق بين أهل السعادة وأهل الشقاوة

إن الشقاء لا يتعلق بغنى أو فقر  ولا بمرض أو ابتلاء ، إنما هو في البعد عن الله ، وانقطاع الصلة عن الله ، وليست السعادة والشقاء قدر مفروض علينا ، من يوم ان كنّا في بطون أمهاتنا، كما ذُكر في الأحاديث ؟ لأن السعادة  والشقاوة : قد سبقَ الكتابُ بهما  وأنَّ ذلك مُقدَّرٌ بحسب الأعمال  وأنَّ كلاًّ ميسر لما خُلق له من الأعمال ، التي هي سببٌ للسعادة  أو الشقاوة ، صحيح أن الله سبحانه قد سبق بعلمه ان هذا سعيدٌ وهذا شقيّ ، نتيجة لعلمه المسبق بعمل الانسان وما كسبت يداه، وإلا فلا معنى لأمره ولا لنهيه  ولا جدوى في تكليفه وبعثه، ولو أنّ السعادة والشّقاء صفة لازمة لا تنفكّ عن الإنسان ، لبطلت الحجّة الإلهيّة، والله عزّ وجلّ يقول: ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعدَ الرُّسُلِ ﴾ هناك فرق بين أهل السعادة وأهل الشقاء ، قال تعالى : ﴿ لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة ، أصحاب الجنة هم الفائزون ﴾الحشر 20 ، فأهل السعادة ، إذا رأوا إنساناً على معصية ، انكروا عليه ونهوه ، ودعوا له ، وسألوا الله أن يتوب عليه ويغفر له ، وأن يوفقه لطاعته ، أما أهل الشقاوة ، فإنهم ينكرون على المذنب ، تشفياً منه ، ورغبة في فضيحته ، وربما طعنوه في شرفه وكرامته ، ومن أهل السعادة ، من كان ناصحاً لأخيه ، بعيداً عن الناس ، يستر عليه أمام الناس  ويرشده إلى طريق الهداية والرشاد  على عكس أهل الشقاوة ، إذا رأوا إنسانا على معصية تركوه ، وأغلقوا عليه الباب ، وشهروا به وفضحوه  وهولاء عند الله مبغضون ، ومن رحمته مبعدون قال تعالى : ﴿ إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة ، والله يعلم وأنتم لا تعلمون ﴾ النور 16 ، وقال عليه الصلاة والسلام : ( من عير أخاه بذنب لم يمت حتى يعلمه)الترمذي والطبراني ، نرى البعض ، إذا ذكر عنده إنسان  اغتابوه بالمساوئ والعيوب    وأنكروا محاسنه ، يقولون ما علينا  ودعنا من سيرته ، لأنه كذا وكذا  ينهشوا عرضه ، ويأكلوا لحمه  وهناك من يذكر الغائب بالخير ويسمي محاسنه ، ويحمله على محمل الحسن ، ويقول لعله سها   أو له عذر لا نعرفه ، يحاول أن يستر عليه ، فهذا من أهل الخير  من اهل السعادة ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من رد عن عرض أخيه ، رد الله عن وجهه النار يوم القيامة)الترمذي عن أبي الدرداء ، فالمسلم الحق من يحرص على سلامة عرض اخيه المسلم ، قال عليه الصلاة والسلام : ( ومن ستر على مسلم ستر الله عليه في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه )مسلم ، فأهل الشقاوة من يظلمون الناس ، ويأكلون حقوقهم  وينهشون اعراضهم ، أما أهل السعادة ، فهم أهل العفاف والقناعة ، يبتعدون عن ظلم العباد  وينصرون الحق ، ويحافظون على اسرار العباد ، يكتمون عيوبهم  ويظهرون محاسنهم ، قال ابن القيم :" طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس ، وويل لمن نسي عيبه وتفرغ لعيوب الناس " فاغمض عينيك يا أخي عن الخيانة ، وكف لسانك عن الغيبة والنميمة والكذب ، وسد أذنيك عن سماع الباطل ، حتى تلقى الله على الإيمان ، وإياك وظلم العباد ، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ، وكن من أهل السعادة  الذين التزموا بمنهج الله ، وتوكلوا عليه ، وعاشوا بمعونته لهم    فكفاهم ما أهمهم ، وصرف عنهم ما أغمهم ، فرفع أقدارهم ، وأكمل أنوارهم ، وأتم نعمه عليهم ، وإن من أعظم أسباب السعادة الإيمان والعمل الصالح قال تعالى : ﴿ من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ﴾ النحل 16، فلا سعادة إلا بالإيمان والعمل الصالح، الذي بُعث به الرسول عليه الصلاة والسلام ، فمن سكن القصر بلا إيمان، كتب الله عليه: ﴿ فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا ﴾ 124 طـه. ومن جمع المال بلا إيمان، ختم الله على قلبه: ﴿ فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا ﴾. ومن جمع الدنيا وتقلد المنصب بلا إيمان جعل الله خاتمته ﴿ فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضنكا ﴾.جاء في السير والتاريخ : أن هارون الرشيد أنفق الكنوز والقناطير المقنطرة في عمارة قصر على نهر دجلة، يدخل النهر من شمال القصر، ويخرج من جنوبه وعمّر الحدائق التي تطل وتتمايل على النهر، ثم رفع الستور، وجلس للناس، فدخل الناس يهنئونه بقصره وبحدائقه، وكان فيمن دخل أبو العتاهية فوقف أمام هارون الرشيد وقال له: عش ما بدا لك سالماً  في ظل شاهقة القصور

فارتاح هارون لهذا الكلام وقال: زد فقال: يُجرى عليك بما أردت   مع الغدوّ مع البكور

أي: يأتيك الخدم والجواري بكل ما أردت صباحاً ومساءً قال: زد فقال: فإذا النفوس تغرغرت بزفير حشرجة الصدور

فهنـاك تعلم موقناً     ما كنت إلا في غرور!

قال: أعد أعد. فقال: فإذا النفوس تغرغرت  بزفير حشرجة الصدور

فهنـاك تعلـم موقنـاً     ما كنت إلا في غرور!

فبكى هارون ، ثم أمر بالستور فهتكت والأبواب فأغلقت، ونزل في قصره القديم .

لمثل هذا فليعمل العاملون ، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون .     

 

نصيحة للأزواج

 الحمد لله الذي أقام الحياة على قاعدة الزوجية ، وعم بها المخلوقات الحيوانية  وأوجدها في الكائنات النباتية ، وتعدت ذلك إلى الموجودات الجمادية ، التي لا تسمع ولا تبصر، ولا تتحرك ولا تنمو   ولعل الازدواج فيها ، يكون من موجب فيها وهو الذكر ، وسالب وهو الأنثى ، فيتولد منهما النور والكهرباء ، قال تعالى ﴿ وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ الذاريات 49 ، فالحياة الزوجية ، رأس مالها الحب والمودة، وغرسها الإخلاص، وعطاؤها الإيثار والفداء، وتُرْبَتها الرضا والقناعة وشمسها الوضوح والصراحة ، وسماؤها السكينة والطمأنينة، وبابها القَبول وحسن الاختيار، وثمرتها رضا الله تعالى، وربحها وكسْبها السعادة في الدنيا والآخرة ، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:( إن الرجل إذا نظر إلى امرأته ونظرت إليه, نظر الله تعالى إليهما نظرة رحمة, فإذا أخذ بكفها تساقطت ذنوبهما من خلال أصابعهما )الصحيح الجامع ، في الحديث  حث للزوج على البدء بالنظرة الطيبة   وحث للمرأة على مبادلة زوجها تلك النظرة  التي تحيي النفوس ، وتمحو ضغائن الصدور وتنبئ عن المحبة والسرور ، فكن لزوجتك كما تحب أن تكون لك ، فإنها تحب منك  كما تحب منها, وكن زوجاً مستقيماً  واستمع إلى نقد زوجتك بصدر رحب  وبشاشة خلق ،ولا تمدن عينيك إلى ما لا يحل لك ، فالمعصية شؤم في بيت الزوجية ومشاهدة الفضائيات ، يقبّح جمال الزوجة عند زوجها، وينقص قدر زوجها عندها فتتباعد القلوب، وتنقص المحبة، ويبدأ الشقاق ، ودع أولادك يفرحون بتوجيهك واعلم أن الحنوُّ ، على أهل البيت شموخ في الرجولة ، والقيام بأعباء المنزل من شيم الأوفياء، قيل لعائشة رضي الله عنها:(ماذا كان يعمل رسول الله في بيته؟ قالت: كان بشراً من البشر، يفلي ثوبه ، ويحلب شاته  ويخدم نفسه ) رواه أحمد, كما أن الكرم بالنفقة على أهل بيتك أفضل البذل ، ولا يطغى بقاؤك عند أصحابك على حقوق أولادك فأهلك أحق بك، ولا تذكِّر زوجتك بعيوب بدرت منها، ولا تلمزها  بالزلات ، واخف المشاكل عن الأبناء، ففي إظهارها تأثير على التربية ، واحترام الوالدين ، ولا تغضب فالغضب أساس الشحناء، وما بينك وبين زوجتك ، أسمى من أن تدنسه ،لحظه غضب عارمة ،وآثر السكوت على السخط، والعفو عن الزلات ، فقد يجيء الخير ، من مكمن الشر، قال تعالى: ﴿ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾النساء19. فراعي هذا القصور، ولا تتخذه مبررًا للطعن في المرأة  أو الانتقاص من قدرها ، حتى تستمر الحياة الزوجية ، قال الغزالي في الإحياء : "واعلم أن ليس حُسن الخلق مع المرأة كفَّ الأذى عنها، بل احتمال الأذى منها، والحلم عند طيشها وغضبها؛ اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كانت نساؤه تُراجعنه الكلام وتَهجره الواحدة منهن ، يومًا إلى الليل ، ولا  تُسيء الظن بزوجتك، فهذا ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من الغيْرة غيرة يبغضها الله، وهي غيرة الرجل على أهله من غير رِيبة)أخرجه أبو داود  فكرامة الزوجة واحترامها مطلوبة،  واحذر من سوء معاملتها ، معاملة السيد لأمَته فالمرأة ليست بأمَة أو خادمة ، فلا يحق لك أن توبِّخها بالسِّباب والشَّتم، أو تناديها بأقبح الأسماء التي لا تحبها ، وخاصة أمام الناس؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : (ليس المؤمن بالطَّعان، ولا اللعان، ولا الفاحش  ولا البذيء)الصحيح الجامع. وعند الانبساط مع الزوجة، لا تكن كالليمونة فتُعسر، أو صلبًا فتُكسر، بل كن وسطًا بين الخشونة والليونة ولا تخرج عن حد الاعتدال؛ في المداعبة والممازحة، قال الغزَّالي في الإحياء : "النساء فيهن شرٌّ، وفيهن ضَعْف، فالسياسة والخشونة، علاج الشر ،والمطايبة والرحمة علاج الضَّعف، فالطبيب الحاذق هو الذي يقدِّر العلاج ، بقدر الداء فلينظر الرجل أولاً ، إلى أخلاقها بالتجربة ، ثم يعاملها بما يصلحها ،كما يقتضيه حالها" ابتلي أحد الصالحين بامرأة ناشز، لم يعرف معها إلا النكد ، فصبر عليها ثلاثين سنة فقيل له: "ما ضرك لو طلقتها؟ قال:أخشى إن طلقتها أن يبتلى بها غيري فتؤذيَه". ومن الحقوق صبرك عليها وتحملها ، فنصف الدين صبر ، والصبر من عظائم الأمور   وقد وعد الله أهل الصبر، أن يوفيهم أجورهم بغير حساب ، ومن ترك شيئاً لله ، عوضه الله خيراً منه ، ولأهمية الزواج لا بد أن تقوم الحياة الزوجية على أداء الحقوق، لقوله تعالى:﴿ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ﴾البقرة 228  وقوله تعالى: ﴿ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾البقرة 228 ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (خياركم خياركم لنسائهم ) وقوله: ( خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي ) ولتدوم المودة والرحمة ، ولتعيش الأسر في طمأنينة وسعادة ، وسكن واستقرار ،ولتقوى الروابط والصلات ، وتتعاون على البر والتقوى يقول الله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾الروم21، وعليك أن تنصح زوجتك بطاعة الله ، قال صلى الله عليه وسلم: (رحم الله رجلاً قام من الليل  فصلى وأيقظ امرأته فصلت ، فإن أبت نضح في وجهها الماء ) ، ولا تتسخط ولا تسب من أجل أكلة أو شَرْبة ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل البيت ورأى طعامًا  فإذا أعجبه واشتهاه أكله  ،وإذا لم يعجبه تركه ، وما عاب طعامًا قط ، وبيننا من يعيب ويتسخط ، ويسب ويشتم ، وهناك حالات طلاق كثيرة بسبب الطعام وسوئه قرأت حكاية الرجل الحكيم ، الذي ذهب إلى ولده ، في أول يوم تزوج فيه ،ثم جلس عنده، وقال له: أحضر ورقة ومرساما وممحاة، فاستغرب الولد في أول يوم زواج يأتي أبوه ويزوره، ويطلب هذا الطلب الغريب، فأحضر الولد ثم جلس بجوار أبيه فقال له: اكتب فكتب، قال امسح، ثم قال له: اكتب فكتب، ثم قال له امسح، ثم قال له اكتب، ثم قال له امسح، فقال يا أبي منذ دقائق، وأنا أكتب ، وأنت تطلب مني أن أمسح ، ماذا في الأمر؟! قال هذه صفحة الزواج ، سيكون فيها أشياء سوداء ومواقف تسود صفحة الزواج ، فالزوج العاقل ، تكون لديه ماسحة ، يمسح بها هذا السواد دائمًا ، حتى تبقى صفحة الزواج بيضاء، ولا يمكن أن تقوم الحياة بلا تغاضٍ ترى الشيء وكأنك لم تره، وتسمع كلمة وكأنك لا تسمعها، وتتجاوز وتعفو وتغفر وتصفح " ، وقد أوصى عليه الصلاة والسلام بالنساء خيراً فقال :( ألا واستوصوا بالنساء خيراً) وبين أنهن يكفرن العشير (وأن المرأة خلقت من ضلع ،لن تستقيم لك على طريقة ، فإن استمتعت بها استمتعت بها وبها عوج ، وإن ذهبت تقيمها كسرتها وكسرها طلاقها).

 

 

نصيحة للزوجات

جعل الإسلام للزوج مكانة عند زوجته  وتلك المكانة آية ، من آيات الله، التي يجب صونها ، بحسن الخلق ، وحسن العشرة  التي ينبغي أن تكون البلسم الذي يداوي الجراح ودواء الداء الذي يصيب الحياة الزوجية   فلا جدال ولا مراء ، ولا عناد ، وإلا فما قيمة جمال المرأة، وما قيمة شهادتها العلمية وما قيمة نسبها، إذا كانت لا تحسن معاملة زوجها، ولا تستطيع أن تجعل بيتها جنّة يأوي الزوج إليها ، ويجد في رحابها السّكينة والطمأنينة، وتذهب عنه الهموم والأحزان وتمسح المتاعب والآلام، وتجدّد نشاطه، لأن حقه عليها ، أعظم من حقها عليه ، لقوله تعالى : ﴿ ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة﴾ البقرة 228. وقد ألزم الإسلام الزوجة بعدّة حقوق، ووضع حدوداً كثيرة ، لا يجوز أن تتجاوزها ، حيث إنّ الرجال قوّامون على النّساء ، وقد أُمر الزّوج بالرعاية والاهتمام، في مقابل أن تطيع الزوجة زوجها ، في كلّ ما يأمرها به ، إلّا في معصية الله ، وأن لا تتصرف في شيء دون إذنه ومشورته. وأن تمكنه من الاستمتاع  وعدم حرمانه من ذلك، وفي ذلك حكمة عظيمة ، تمنع الرجل من التفكير في تفريغ شهواته ونزواته ، خارج المنزل ، قال رسول صلّى الله عليه وسلّم: (إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت  فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتىّ تصبح ) البخاري. ولا تخرج من بيتها إلا بإذنه ، وألا تدخل بيته أحدا يكرهه ، وأن تترك الأمور المستحبة كالصيام   عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه ، ولا تأذن في بيته إلا بإذنه ) رواه البخاري ومن حقه تأديب الزوجة ، إما بالهجر، أو الضرب غير المبرح قال تعالى: ﴿ واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً إن الله كان عليّاً كبيراً ﴾النّساء 34 ، وعلى الزوجة خدمة الزّوج، ومراعاة أمور المنزل ، ورعاية الأولاد والاهتمام بهم ، ومن هنا جاءت عناية النبي عليه الصلاة والسلام بالمرأة فقال : ( أول من يمسك بحلق الجنة أنا ، فإذا امرأةٌ تنازعني ، تريد أن تدخل الجنة قبلي قلت من هذه يا جبريل ؟ قال : هي امرأة ربت أولادها ) والمحافظة على ماله ، وحفظ أسرار البيت ، وأن تحافظ على علاقته وعلاقتها بأهله، وأن تحترمه في حضوره وتعظّمه في غيابه، وأن تشكره على ما يقوم به من أعمال تجاهها ، وتحذر من كفران العشير ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : ( خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أضحى أو فطر إلى المصلى ثم انصرف ، فوعظ الناس وأمرهم بالصدقة فقال: أيها الناس تصدقوا، فمر على النساء فقال: يا معشر النساء تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار. فقلن وبم ذلك يا رسول الله؟ قال: تكثرن اللعن وتكفرن العشير...) البخاري ، يكفرن الزوج، ويكفرن الإحسان، إنه عكس الوفاء، ما أحلى أن تكون الزوجة وفية، فقد يصير الزوج الغني فقيراً، وقد يصير الزوج القوي ضعيفاً، وقد يصير الزوج الصحيح مريضاً، فإذا وجد زوجة وفية تقف إلى جواره، لا تنسى ما كانت تعيش فيه معه من نعيم، فتشعره بأن الأيام دول وتبين له أن الدنيا إلى زوال، وأن الله يختبرنا والله تعالى يقول:﴿ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ﴾الأنبياء35، فالمرأة التي تكفر العشير وتكفر الإحسان ، امرأة ليست وفية ، ولم تعرف شيئاً عن الوفاء، وإن لم تتب إلى الله سبحانه وتعالى ، فمصيرها كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئاً قالت: ما رأيت منك خيراً قط) إنه لؤم وخلق قبيح ذميم ، يقصم ظهر الزوج ، لكن إذا رأى الزوج زوجته وفية كريمة، فإنها تذهب آلامه وأحزانه، فهذه أمُّ حسان من السَّلفِ  كانت زاهدةً عابدة، دخل عليها سفيانُ الثوري ، وهو من أئمَّةِ المسلمين وساداتِهم في زمانه، فلم يرَ في بيتِها غير قطعة حصير فقال لها: لو كتبتِ رقعةً إلى بعضِ بني أعمامِك ، ليغيروا من سوءِ حالك، فقالت: يا سفيان ! لقد كنتَ في عيني أعظمَ ، وفي قلبي أكبر من ساعتِك هذه، أمَّا إنِّي لم أسأل الدُّنيا من يملكُها ، فكيف أسألُ من لا يملكها، يا سفيان، واللهِ ما أحبُّ أن يأتيَ عليَّ وقتٌ ، وأنا متشاغلة فيه ، عن اللهِ بغير الله، فبكى سفيان" ، قمة الوفاء ، لم تكن تعرفُ الجلوسَ أمام الفضائياتِ ساعات، أو الحديثَ بالهاتفِ طول الأوقات، ولا سماعَ أغاني ماجنة تثقل الميزان بالسَّيئات، أو التجولَ في الأسواق لقتلِ الأوقات، كلا، بل كانت من ، النساءٌ الصالحات القانتات:

فَلَوْ كَانَ النِّسَاءُ كَمَنْ ذَكَرْنَا لَفُضِّلَتِ النِّسَاءُ عَلَى الرِّجَالِ

فَمَاالتَّأْنِيثُ لاِسْمِ الشَّمْسِ عَيْبٌ وَلاَ التَّذْكِيرُ فَخْرٌ لِلْهِلاَلِ

ومن الوفاء ، أن لا تشكو الزوجة زوجها أمام أهله أو أهلها، وأن تحب ما يحبّ زوجها، وأن تكره ما يكرهه ، وأن تودعه إذا خرج من المنزل ، بالعبارات المحببة إلى نفسه  وأن تحسن استقباله عند عودته إلى البيت بعبارات الاشتياق ، وأن يراها في زينة جذابة  فقد قال عليه السلام : (خير النساء من تسرك إذا أبصرت، وتطيعك إذا أمرت وتحفظ غيبتك في نفسها ومالك) ، ومن الغريب إهمال المرأة لنفسها في بيتها بحضرة زوجها ، والاهتمام بنفسها ، وإبداء زينتها عند الخروج من بيتها، حتى صدق فيها قول من قال: قرد في البيت وغزال في الشارع  ومن الخير أن تكون الزوجة ، زاهدة في احتياجاتها وطلباتها ، وفيّة لزوجها في الحياة  وبعد الممات ، ولنا في نائلة زوجة عثمان رضي الله عنهما قدوة حسنة ، عندما دخلوا بيته ليقتلوه ، وقفت تدافع عنه ، حتى هوى السيف على يدها ، فقطع أصابعها    وصبرت حتى الليل ، وجمعت المسلمين غير هيابة ، حتى تم دفنه ، وبقيت وفية له بعد موته ، فقد خطبها  كثيرون ، ومن بينهم معاوية ابن أبي سفيان ، وكانت تقول لمن جـاءها بالخبر، ما الذي يعجب معاوية فيّ ؟ فقيل لها : معجب بفيك ، وكان أجمل ما فيها ثناياها ، فقلعتهـا وبعثت بهـا إلى معاويـة وقالت : حتى لا يطمع الرجال فيّ بعد عثمان .  وهذه آمنة بنت الشريد ، سجنها معاوية ، وقبض على زوجها حتى يصل إليها ، فقتله ثم قطع رأسه  وبعث به إلى آمنة ، وهي في السجن ، فارتاعت ونظرت إلى الرأس ، ولكنها تماسكت ، ومدت يدها نحو الرأس والدموع في عينيها  وهي تقول : واحزناه نفيتموه عني طويلاً ، وأهديتموه إليّ قتيلا ، فأهلاً وسهلاً بمن كنت له غير قالية  وأنا له اليوم غير ناسية ، ثم رفعت رأسها وقالت لرسول معاوية : ارجع إليه ، وقل له يتم الله ولدك ، وأوحش منك أهلك , ولا غفر الله لـك ذنبك ، فأرسل إليـها معاوية يؤنبـها ويقول : ءأنت صاحبة هذا الكلام ؟ فقالت : نعم . غير نازعة ولا معتذرة ولا منكرة له ، فلعمري لقد اجتهدت بالدعاء إن نفع الاجتهاد  وأن الحق لمن وراء العباد، وما بلغك شيء من جزاءك ، وأن الله بالنقمة من ورائك" تلك مواقف الوفاء المحببة للزوج ، والتي تزيد رصيد محبّتة لزوجتة  وكما قالت الأعرابيّة لابنتها ، حين أرادت زفافها إلى زوجها : أي بنية: إن الوصية لو تُركت لفضل أدبٍ ، تُركت لذلك منكِ   ولكنها تذكرة ٌ للغافل ، ومعونة ٌ للعاقل    ولو أن إمرأةً استغنت عن الزواج لغنى أبويها  وشدة حاجتهما إليها ، لكنت أغنى الناس عنه ، و لكن النساء للرجال خُلقنَ ، و لهن خُلقَ الرجال ، أي بُنية : إنكِ فارقتِ البيت الذي منه خرجتِ ، و خلفتِ العش الذي فيه درجتِ ، إلى وكر لم تعرفيه ، و قرين ٍلم تألفيه ، فكوني له أما ً ، يكن لكِ عبداً  واحفظي له خصالا عشرا ، يكن لك ذخرا. أما الأولى والثانية: فالخشوع له بالقناعة وحسن السمع له والطاعة. وأما الثالثة والرابعة: فالتفقد لمواضع عينه وأنفه فلا تقع عينه منك على قبيح ، ولا يشم منك إلا أطيب ريح. وأما الخامسة والسادسة: فالتفقد لوقت منامه وطعامه، فإن تواتر الجوع ملهبة ، وتنغيص النوم مغضبة. وأما السابعة والثامنة: فالاحتراس بماله ، والإرعاء على حشمه وعياله، ومالك الأمر في المال حسن التقدير، وفي العيال حسن التدبير. وأما التاسعة والعاشرة: فلا تعصين له أمرا ولا تفشين له سرا، فإنك إن خالفت أمره أوغرت صدره، وإن أفشيت سره لم تأمني غدره " ما أحوج النساء إلى مثل هذه الوصية الغالية؛ لتحيا البيوت حياة سعيدة  لأنّ من أعظم الأعمال ، التي تقرّب المرأة من الله ، وتنال بها رضاه، هو طاعة زوجها في كلّ الأمور، التي لا إثم عليها فيها   بشارةٌ قالها النبي عليه الصّلاة والسّلام للنّساء كافّةً، عن أمّ سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أَيُّمَا امْرَأَةٍ مَاتَتْ وَزَوْجُهَا عَنْهَا رَاضٍ دَخَلَتْ الْجَنَّةَ ) الترمذي ، لأن رضاء الزّوج ربع دين المرأة، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا صَلَّتْ الْمَرْأَةُ خَمْسَهَا، وَصَامَتْ شَهْرَهَا وَحَفِظَتْ فَرْجَهَا، وَأَطَاعَتْ زَوْجَهَا قِيلَ لَهَا: ادْخُلِي الْجَنَّةَ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شِئْتِ ) أحمد ، وقال صلّى الله عليه وسلّم:( لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لغير الله، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، والذي نفس محمّد بيده لا تؤدّي المرأة حقّ ربّها ، حتى تؤدّي حقّ زوجها كله، حتى لو سألها نفسها وهي على قتب لم تمنعه ) رواه أحمد وابن ماجه  وحسّنه الألباني.  

 

علوم الدين وعلوم الحياة

قال العلماء : العلم ضروريّ للعبادة لأنها علاقة العبد بالله ، وضروري للمعاملة ، لأنها علاقة العبد بالخلق ، والإنسان مضطرّ إلى التعلّم ، من أجل أن تصحّ عبادته ، ومن أجل أن تصحّ معاملته ، قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله :" من عمل من غير علمٍ فإنه يفسد أكثر مما يصلح ، وأغلبُ الظنّ أنّ الفساد الذي ينتجُ منه ، أضعاف النفع الذي ينفعهُ ". وقال معاذ بن جبل :" العلم إمام العمل ، والعمل تابعه " وروي أن النبي عليه الصلاة والسلام رأى رجلاً يصلّي فقال له : (  قمْ فصلّ فإنّك لم تصلّ ) فلماذا قال له : إنّك لم تصلّي ! وهو يصلّي ؟ استنبط العلماء ، أنّ هذه الصلاة لا فقه فيها ، لأنه ما علم أحكامها ، وما علم أحكام الخشوع فيها ، لأن العلم أساس العبادات ، به يعرف الحلال من الحرام  والصحيح من الفاسد ، وهناك أحكام يجبُ أن تُعلم من الدّين بالضرورة ، لأنها فرض عَين على كلّ مسلم ، كأركان الإيمان ، لأن الإيمان روح الأعمال ، والباعث عليها والآمر بأحسنها، والناهي عن أقبحها. ومن الأحكام التي يجب أن تعلم ، أركان الإسلام والأحكام الفقهيّة المتعلّقة بِعمل الإنسان أو مهنته ، لأن العلم دليل العمل ، بل إنّه  شرطٌ في صحّة القول والعمل ، فلا يصح العمل إلا به ، يقول الإمام الشافعي : " إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم ، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم ، وإذا أردتهما معًا فعليك بالعلم ". لأن أصل العلم أن تعرف الله عز وجل ، فقد روي عن الإمام الغزالي قوله : " حيثما وردَت كلمة العلم في الكتاب والسنة ، فإنّما المقصود بها العلم بالله " ؛ لأنّك إذا عرفت الله ، عرفت كلّ شيء ، وإن وجدْت الله ، وجدت كلّ شيء  وإن لم تجد الله ، لم تجد شيئًا ، وإذا رضي الله عنك ، فهذا كلّ شيء ، وإذا رضي الناس عنك ، فرضاهم لا شيء ، قال تعالى :﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ﴾ سورة فاطر2 ولو اجتمعت الأمة على أن ينفعوك بشيء ، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، وإن اجتمعت الأمّة على أن يضرّوك بشيء ، لم يضرّوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله عليك.  فالتفقُّه في الدين ، هو حصن العامل والخلفية الدينية والقانونية التي ينطلق منها ، والأساس الذي يستند إليه في كافة قراراته وأفعاله، لأن ترك التفقّه في الدين  سيؤدي بالعامل إلى أن يكون محكوماً للأهواء ، والتشبه بالآخرين  وقد نهى الإمام علي رضي الله عنه ، عن ترك التفقه في الدين فقال : "ليتأسَّ صغيرُكم بكبيركم  وليرأف كبيرُكم بصغيركم، ولا تكونوا كجفاة الجاهلية ، لا في الدين يتفقّهون، ولا عن الله يعقلون" نهج البلاغة . ولابدّ من نور العلم الدنيوي ، لأنّ الله عز وجل يرفع به أقوامًا  ويذلّ به آخرين ، ولذلك أنكر الإمام الغزالي على أهل بلدة اتَّجَهَ شبابها إلى طلب العلم الشرعي ، وأهملوا ما به قوام الحياة ، فأصبحت أرواح هذه البلدة   وعوراتهم بين يدي طبيب غير مسلم .

إن الدين الإسلامي ، ينظم حياة الإنسان  في نفسه ، وفي علاقاته مع غيره، وفي عمله وفي كل أحواله، وقد تكفل الإسلام ، بوضع منهج متكامل لها، وجعل الالتزام بهذا المنهج عبادة ، يُثاب عليها إذا خلصت النية لله عز وجل ، لهذا يجب على كل مسلم ، أن يتعلم من علم الدين قدرًا لا يستغني عنه  قال تعالى : ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ سورة الزمر.   وقالَ عليْهِ الصَّلاةُ والسّلامُ : ( مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ ) رواه البخاري ، وإذا فقِهَ الإنسان في الدين ، صحّ عمله ، قال الإمام الغزالي : " أدنى درجات الفقيه ، أن يعلمَ أنّ الآخرة خيرٌ من الأولى " فالذي يصرفُ كلّ وقته للدّنيا ، ما عرف ، وما فقه من الدّين شيئًا ، لأن أدنى درجة من درجات الفقيه ، أن يعلمَ أنّ الآخرة خيرٌ من الأولى  وأن يسعى لها بدليل قوله تعالى : ﴿وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً﴾ الإسراء 19، وكما لا يصلح بناء الأمة الإسلامية بغير العلوم الشرعية ، فإنه لا يصلح بنائها بدون العلوم الحياتية ، في مجال التكنولوجيا ، لأن المسلمين يحتاجون إليها في شؤون حياتهم الدنيوية ، وفي مجال الإعداد لمواجهة أعداء الله عز وجل ، في شتى الجوانب وجاءت نصوص الشريعة العامة وقواعدها تدل على وجوب تحصيل المسلمين ما يتقوون به ، ويواجهون به أعداءهم فقال تعالى:﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ الأنفال60.ولا يمكننا الحصول على القوة ، إذا اعتزلنا تكنولوجيا العصر ، ولم ننتفع بها  ويمكن أن يشمل مفهوم الإعداد في الآية  إعداد العلم الشرعي ، كما يشمل العلم الدنيوي ،كالطب والاقتصاد والمجال الصناعي والعسكري ، وغير ذلك مما يحقق القوة للمسلمين   والأمة الإسلامية اليوم  أحوج ما تكون ، إلى وجود متخصصين في جميع هذه الجوانب ، لتتكامل الجهود  وتتوحد القوى ، لتحقيق التمكين لهذا الدين في الأرض ، وتحقيقه في واقع الحياة، وما عرفَتِ الأمة الإسلامية السيادة والقوة ، إلا وكانت علومها الحياتية قوية ، وما عرفت   الضعف والتأخر والتخلف ، إلا وكانت علومها الحياتية ، ضعيفة ومهملة.

لقد اختل فهم كثير من المسلمين ، لمعنى كلمـة العلم النافع ، فصاروا يقصرونها على العلوم الشرعية فقط، مع أن الأدلة متواترة على عكس ذلك ، فقد كان من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم التُجَّار والزُرَّاع والصُنَّاع ، وقبلهم أنبياء الله عليهم السلام، كان لكلٍ منهم حرفة وصناعة بجانب مهمته الأساسية، كان آدم حرّاثًا وداود حدادًا، ونوح نجارًا، وإدريس خياطًا وموسى راعيًا، فلم يقعد بهم انشغالهم بالآخرة ، والعمل لها ، وتعليم علومها،عن العمل للدنيا ، وتعميرها ، وتعليم علومها  كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، إذا نظر إلى رجلٍ ذي سيما -هيئة حسنة- قال: أله حرفة؟ فإن قيل لا سقط من عينه  ثم ماذا يعني قوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ )؟! لماذا يغرسها وهي من نفع الدنيا، فضلاً عن أنه لن يستفيد منها دنيويًّا أصلاً؟ لأن الإسلام ، دين يدعو إلى إعمال العقل ، وتحريره من قيود التقليد والجمود والمحاكاة، وأن يطلق له العنان لأداء وظيفته ، وفق ضوابط معينة ، وأطر خاصة ، لذا فإن الذي يُعطِّل عقله عن العمل والتفكير والإبداع، يكون قد خالف المنهج الإسلامي ، مخالفة جسيمة، وأضرّ بنفسه، ثم بأمته .

خلال الحرب العالمية تحالف الألمان واليابان والإيطاليون ضد الغرب ، بما في ذلك أمريكا ، وكانت حرباً قذرة بمعنى الكلمة ، خلت من كل رحمة ، فدكت المدن وأزهقت أرواح أكثر من خمسين مليونا من البشر ، وجاع وتشرد الملايين  ونهبت بلاد ومصانع ، وفرضت غرامات  وضربت هيروشيما وناكزاكي بقنابل نووية  وانتهت الحرب بصورة من الدمار لم تعرفه البشرية من قبل ، وخلال سنوات حصلت مفارقة غريبة ، فقد تقدم المغلوب على الغالب ، وتجاوز المهزوم هزيمته ومن هزمه  فما سرُّ ذلك ؟ ما حصل في الحرب أن دُمِّر عالمُ الأشياء ، أما الإنسان وفكره فقد بقي ، فأقام كيانه مجدداً وتخطى من هزمه  وكان للدول الاشتراكية مجال السبق في إرسال صواريخ إلى الفضاء ، وتدفقت تكنولوجيات الصناعات المدنية عليها ، مما اقلق أمريكا التي أعادت النظر في مناهج التعليم ، وفتحت أبوابها لهجرة العلماء من كل بقاع الأرض ، ولم تسترح حتى أرسلت صاروخاً إلى الفضاء ، هذا دليل على أن الأفكار هي الضابط لسير المجتمعات  والمانع من تراكم الأخطاء ، ألا ترون أن العالم الصناعي اليوم يهتم جداً بإنشاء مراكز البحث ، ويمدها بكل ما تحتاج ، في الوقت الذي تكاد تنعدم مراكز البحث عندنا ، فافتقدت شخصية المسلم منهجيتها  وعجزت عن معرفة مواطن الخلل ،كما عجز المسلمون عن درء الفتنة عن الأرض والحيلولة دون الفساد الكبير ، لأنها بحاجة إلى بروز قوامه العدل ، وشهادة العدل   وأمة العدل ، وهذا منوط إلى حد بعيد بوعي الأمة المسلمة لذاتها ورسالتها ، لتصويب طريقتها ، ووعيها بالناس ، الذين كلفت بالشهادة عليهم قال تعالى : ) يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم (النساء 135 . وإذا كان من خصائص الأمة المسلمة ، الشهادة على الناس ، فإن التخلي عن هذه الشهادة ، إضاعة للحق والعدل والأمن وإيذان بالسقوط . ولأن الشهادة تتطلب معرفة   فلا تقبل شهادةٌ من غير معرفة ، وقد تعني شهادة العلم في سياق جعل الأمة الإسلامية شاهدة على الناس ، بأن تكون هذه الأمة قائمةٌ في عقيدتها وفي عملها ، على السعي الدائم للعلم بالحقائق ، وتأسيس الحياة عليها . وكما ذكر الإمام الغزالي : " بأن ثمة تلازماً قوياً بين علوم الدين وعلوم الدنيا ، فمن تعلَّم علماً واحداً ، فلا يكفي ، ومن تعلَّم علوم الحياة فقط ، فلا نصيب له في الآخرة  ومن تعلَّم علوم الدين، وجهل علوم الحياة فإن فهمه للدين سيكون ناقصاً " . ولا أقصد بالعلم بالدين العلم المتخصص  فذلك من نصيب علماء الشريعة ، إنما المقصود قدر مشترك من المعرفة الصحيحة  تشتمل على أصول العقائد ، ومتطلبات العبادة الصحيحة ، والأخلاق الإسلامية بعيداً عن التأويلات ، وليس المطلوب علماً نظريا ، لا يكون له في السلوك نصيب  فيكون التنظير بواد ، والعمل والفعل بواد آخر قال تعالى : ) وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا (القصص 77.

  

        

 

 

 

 

 

 

التدين المغشوش

إننا لا نعاني في هذا العصر من قلة التدين، ولكننا نعاني من عبث تطبيقه، حيث يعتقد كثير من الناس أن اللحية والحجاب وأداء الصلوات هي كل العبادات، وأن معاملة الناس ومراعاتهم هي آخر ما يلفت الانتباه .  

هذا الفهم العجيب ، جعل كل مظاهر التدين  عاجزة عن إحداث التغيير المطلوب، لأنها وقفت عند الأشكال والطقوس ولم تصل إلى المضمون  .

إنه لا يوجد مجتمع بلا دين كما قال أحد المؤرخين : قد وجدت في التاريخ مدن بلا حصون ومدن بلا مدارس ومدن بلا قصور ولكن لم يوجد في التاريخ مدن بلا معابد ، هذا يشير إلى أن الدين شيء  أساسي في حياة البشر يتعلق بالفطرة البشرية   لأن الدين منهج يوجه الناس ويجمعهم .

أما التدين فهو الالتزام بالدين وأحكامه وأوامره والعبادة هي جزء أساسي من الدين ، وليست كل الدين ، فمن يقيم الصلاة أو يتلو القرآن أو يذكر الله كثيرا  ، لكنه لا يقيم وزناً لحسن التعامل مع الناس  أو يتظاهر بالتقوى ويدعي الصلاح ولكن أعماله تكذبه ، لسانه يسبح ويده تذبح أو يصلي الفرض ويفسد في الأرض كما قال المعري :

إذا رام كيداً بالصلاة مقيمها فتاركها عمدا إلى الله أقرب فمن يتظاهر بالصلاح وبالتقوى يلبس العمة ويطيل اللحية ويقصّر الثوب ، وقد يكون عاقاً لوالديه قاطعاً لرحمه مسيئاً إلى جيرانه ، غاشاً في بيعه وتجارته غير محسن لعمله ، غليظ القلب مع الناس ، قاسياً على الآخرين ، فلا يرحم ولا يسامح ، فهذا ليس متديناً والدين من أعماله براء ، وقد وصف هذا التدين بالتدين المغشوش ، بمعنى أنه لا يميز بين العقائد والأعمال، ولا بين الكبائر والصغائر، ولا بين الفرائض والنوافل، ولا بين المحرمات والمكروهات   ولا بين المختلف فيه والمتفق عليه ، وقد تجده يهتم بالمختلف فيه ، قبل المتفق عليه ، فيهتم بالنوافل قبل الفرائض، وبالأشياء المكروهة قبل الأشياء المحرمة  ويهتم بالقشور قبل أن يهتم باللباب ، يعنى بالنوافل قبل أن يعنى بالفرائض ، ولذلك قال العلماء الراسخون:"   إن الله لا يقبل النافلة ، حتى تؤدى الفريضة ، وقالوا : من شغله الفرض عن النفل فهو معذور ، ومن شغله النفل عن الفرض فهو مغرور "  

فقد شرع الله العبادات لتزكي السرائر، وتقيها من العلل الباطنة والظاهرة، وتعصم السلوك الإنساني عن العوج والإسفاف ، والجور والعسف ، وهذا يتم إذا تجاوز العابدون صور الطاعات إلى حقائقها فسجدت ضمائرهم وبصائرهم لله  ، أما إذا وقفت العبادات عند القشور الظاهرة والسطوح المزورة ،فإنها لا ترفع خسيسة ولا تشفي سقاما ، لأن طبائع بعض الناس قد تحول الدين عن وجهته إلى وجهتها هي ، فبدل أن تهدي تصد ، وما علموا أن القلب القاسي والغرور الغالب ، هما أدل شيء على غضب الله والبعد عن صراطه المستقيم ، ومن السهل أن يرتدي الإنسان لباس الطاعات الظاهرة ، على كيانٍ ملوث وباطن معيب ، وقد نبه القران الكريم إلى خطورة نفر من الأحبار والرهبان ، الذين جعلوا الدين كهانة تفسد بها الفطرة ، وتصطاد بها المنفعة ] إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله [ وهذا النوع من الناس آفة الأديان كلها ، وفيه يقول الشاعر :

وهل أفسد الدين إلا الملوك  وأحبار سوء ورهبانها

فباعوا النفوس ولم يربحوا   ولم تغل في البيع أثمانها

وكم رأينا من وقف ليتكلم في الدين ولا حصيلة له إلا اللغو والهباء ، فلا علم بفقه ولا لغة ، وهناك من هو على جانب عظيم من البلاغة والعلم بالدين وأصوله وفروعه ، لكنه لا يبلغ هدفه بالوعظ إذا قارنته نيةٌ مغشوشة ، سمع الحسن البصري ناصحا قوي البيان ، ولكنه لم يتأثر به فقال له : يا هذا إن بقلبي شيئا أو بقلبك !

 إن بعض الشباب المتدين مختل المزاج ، والرسول صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ، وهؤلاء الشبان ما خيروا بين أمرين إلا اختاروا أصعبهما  وإذا كان لهم زاد علمي ، فمن أوراق شاحبة ليس فيها للفكر الإسلامي ، ولا لأقوال الفقهاء المرجوحة نصيب ! وهم يؤثرون الحديث الضعيف على الصحيح ، أو يفهمون الخبر الصحيح على غير وجهه وإذا كانت المدارس الفكرية في تراثنا كثيرة ، فهم مع ظاهر النص ضد مدرسة الرأي ، وهم مع الشواذ ضد الأئمة الأربعة ، وهم مع الجمود ضد التطور  يسمعون أن شُعب الإيمان سبعون شعبة ، بيد أنهم لا يعرفون فيها رأسا من ذنب ، ولا فريضة من نافلة  والتطبيق الذي يعرفون  هو وحده الذي يقرون  فمثلاً السواك سنة ، ومن حقنا أن ننظف أسناننا بأي فرشاة وأي معجون ، فالمهم نظافة الفم ، لكنهم ينظرون إلى من لا يستعمل السواك نظرة مريبة !   فلماذا لا يجعله في جيبه مع القلم ؟ ولماذا لا يخرجه في المسجد وينظف فمه في الصف ، ثم يعيده في جيبه  أهذا هو الدين ؟ ومثلاً آخر الخلاف الفقهي الذي لا يوهي بين المؤمنين أخوة  ولا يحدث وقيعة ! ولكنهم يجعلون من الحبة قبة ، ومن الخلاف الفرعي أزمة   والخلاف إذا نشب يكون لأسباب علمية وجيهة إلا أن خلافاتهم تكمن وراءها علل ، تحتاج إلى علاج  .

إن التدين يوم يفقد طيبة القلب ودماثة الأخلاق ومحبة الخلائق ، يكون لعنة على البلاد والعباد . والغريب أن التطرف لا يقع في مزيد من الخدمات الاجتماعية ، ولا في مزيد من مظاهر الإيثار والفضل لكنه يقع في الحرص البالغ ، على تقصير الإزار والتنطع السخيف ، في مكان وضع اليدين ، أو طريقة وضع الرجلين خلال الصلاة ، والاهتمام الهائل هنا ، تقابله قلة اكتراث ببناء دولة الإسلام   وتربية الأجيال للعمل على إقامة منهج الله في الأرض 

وإنك لتجد المجال المستحب ، ينفسخ عندما ينظرون في ذنوب الناس ، فيسارعون إلى الحكم بالفسق أو الكفر، وكأن المرء عندهم مذنب حتى تثبت براءته ، على عكس القاعدة الإسلامية .

إن الأحكام الشرعية التي جاء بها القرآن تندرج بشكل عام تحت العقائد ، وتشمل الإيمان بوجود الله وبوحدانيته ، وعبادته وحده لا شريك له ، والإيمان بملائكته ، وكتبه ورسله ، واليوم الآخر ، والقدر خيره وشره  والفروع من العبادات والمعاملات  والأخلاق حيث وردت آيات كثيرة تحث على مكارم الأخلاق .

إن التدين ليس مجرد التمسك بشكليات الدين دون جوهره ، إنما هو الفهم الواعي للدين ، والعمل به بما يربط حياة المتعبد بحياة المجتمع ، حتى لا ينعزل الدين عن واقع الحياة ، وقد أُسيئ هذا الفهم بسبب ممارسات بعض المتدينين ، البعيدة عن الدين، مما إلى نفور الناس واتهامهم للدين ، والدين من ذلك براء لأن العيب في المتدين ، الذي ينفر الناس ويفتنهم بسلوكه ، ويرحم الله الشافعي الذي قال :

نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عـيب سوانـا

ونهجو ذا الزمان بغير ذنب ولو نطق الزمان لنا هجانا

وجاء من يقول :

نعيب ديننا والعيب فينا   وما لديننا عيب سوانا

ونهجو ذا الدين بغير ذنب  ولو نطق الدين لنا هجانا

 وإنك لتجد التدين الروحي العاطفي: حيث تغلب العاطفة الدينية عند بعض المتدينين ، على الفهم   للدين السليم ، ونجد ذلك في أوساط الشباب خاصة الذين يندفعون إلى التدين بحماسة ، دون معرفة كافية بأحكام الدين، والتزام واع بهديه ، كما قد نجد هذا النوع من التدين ، أيضا عند بعض الكبار الذين صرفوا حياتهم في المعاصي والمنكرات حتى إذا تابوا فجأة ، لحادث أو طارئ في حياتهم، إذا هم يندفعون إلى الدين اندفاعا حماسيا ملؤه الرغبة في تكفير الخطايا، وتطهير النفس، فيغلب على هؤلاء الالتزام بمظاهر الدين وأشكاله دون المعرفة الكافية بأحكامه وحِكَمه ومقاصده.

  إن أصحاب هذا التدين ، يفتقرون إلى المعرفة الكافية بحكم ومقاصد ما يؤدون من الشعائر، كما يفتقرون إلى العمق الروحي في التعاطي مع   العبادات ، مما يجعلها مفرغة من محتواها الروحي فتكون عبادتهم مجرد عادة وتقليد ليس إلا ، وما علموا أن التدين ابتداء تعلق بالله تعالى ورسوله   وحب لهما، وتعظيم لأمرهما.. وكل مخالفة لهذه السبيل، هي في عمقها مجانبة لطريق السلامة في الارتباط بالدين، ولطريق الصحة في التدين قال تعالى: ] قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها، وتجارة تخشون كسادها، ومساكن ترضونها، أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين [ ومن هنا نفهم ضرورة إصلاح القلب في الإخلاص لله وحبه، حتى يبقى القلب حيا  يقظا خاشعا سليما كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب )  فالصلاح والفساد مرتبطان بالقلب  والموت الحقيقي هو موت القلوب  كما قال الشاعر:

ليس من مات فاستراح بميت  بل الميت ميت الأحياء

وموت القلب يعني توقفه عن الإحساس بوخز الذنوب والمعاصي ] كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون [ .

 

 

 

 

 الهمة العالية

 والهِمَّةُ: ما هَمَّ به من أَمر ليفعله. وهي الباعث على الفعل، وتطلق على صاحب العزم القوي فيقال له ذو همة عالية ، قال أحد الصالحين: همتك فاحفظها، فإن الهمة مقدمة الأشياء، فمن صلحت له همته وصدق فيها، صلح له ما وراء ذلك من الأعمال .

شعار صاحب الهمة قوله تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾الذاريات56 . والعمل من أجل تطبيق منهج الله عبادة ، هذا الشعار ينبغي أن يقذف في القلوب الإحساس بالمسؤولية والخوف من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، فما خلَقنا الله عبثاً ولا من أجل الأكل والشرب والنوم والتناسل، فتلك مهمة البهائم، لتكون في خدمة بني البشر، أما الإنسان فقد خلقه الله تعالى لمهمة أسمى وأرفع وأعلى، هي عبادة الله تعالى وخلافته في الأرض وتطبيق شرعه  قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ البقرة30 .

وهذه المهمة السامية والعظيمة ، تدع المسلم أن يحمل همّ الأمة فيحزن لمصابها ويفرح لنصرها يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر, يراقب أحوال المسلمين ويهتم بمشاكلهم أينما كانوا ، بعكس من يسير بلا   غاية ولا هدف ولا همّة، سوى تلبية الشهوات واتباع الهوى، شأنه شأن الأنعام، بل أضل سبيلا , كما قال الله تعالى : ﴿ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا ﴾ الفرقان44 .

فقد أمرنا الله بالعمل فقال تعالى : ﴿ وقل اعملوا ﴾  والعمل لإعزاز دين الله ، ورفع راية لا إله إلا الله  ينبغي أن يكون على رأس سلم الأولويات ، لأن من حق الله عز وجل علينا أن نعمل لدينه، وأن نقوم بما يريده منا سبحانه وتعالى، ولذلك خلقنا ، لنعمل للإسلام صغاراً وكبارا ، والذين يقولون: إن السن قد تقدم ولا مجال للعمل، هؤلاء ما فقهوا قول الله تعالى : ﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾ الحجر99. قال الحسن البصري رحمه الله: " لم يجعل الله للعبد أجلاً في العمل الصالح دون الموت " فالنهاية التي نقف عندها هي الموت، قال أبو طلحة الأنصاري لما قرأ سورة براءة، وأتى على هذه الآية: ﴿ انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً ﴾ التوبة:4 قال : " أرى ربنا عز وجل استنفرنا شيوخاً وشباباً ، جهزوني أي بني. فقال بنوه: يرحمك الله! قد غزوت مع رسول الله g  حتى مات، ومع أبي بكر رضي الله عنه حتى مات، ومع عمر رضي الله عنه حتى مات، فنحن نغزو عنك، فأبى، فجهزوه فركب البحر، فمات غازياً في البحر في سبيل الله، فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد سبعة أيام، ولم يتغير، فدفنوه فيها " .  

فلا يجوز للمسلم أن يخلد إلى الراحة من العمل ، فقد روي أن قا الإمام أحمد رحمه الله لما سئل: متى يجد العبد طعم الراحة؟ قال: عند أول قدم يضعها في الجنة. وهؤلاء الأنبياء بعثوا بعد الأربعين، وعملوا حتى الموت ، فلا ينبغي أن تشغلنا الدنيا عن العمل للإسلام ، وإن الانهماك التام في الأعمال الدنيوية يضيع على العبد فرصاً عظيمة لنيل الأجر والثواب

وقد قال النبي g : (فاتقوا الله وأجملوا في الطلب).

وقد مدح الله المؤمنين الذين يتركون عمل الدنيا عند حضور عمل الآخرة فقال: ﴿ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ﴾ النور36. وقد كان العابدون أعظم المندفعين للعمل، لأن صلتهم القوية بالله عز وجل كانت تجعلهم يغتنمون أوقاتهم في العمل لخدمة للدين ، والقارئ لسيرة العظماء من الرجال ، يري بأنهم لو لم يتحلوا بعلو الهمة لما كان لهم موضع في قوائم العظماء ولما تزينت بذكرهم صفحات التاريخ .

قال ابن القيم : "علو الهمّة ألا تقف النفس دون الله  ولا تتعوض عنه بشيء سواه، ولا ترضى بغيره بدلاً منه، ولا تبيع حظها من الله، وقربه والأنس به والفرح والسرور والابتهاج به بشيء من الحظوظ الخسيسة الفانية. فالهمّة العالية على الهمم كالطائر العالي على الطيور " .

فهذا الطبري قال يوما لأصحابه: أتنشطون لتفسير القرآن؟ قالوا: كم يكون قدره؟ قال: ثلاثون ألف ورقة! فقالوا: هذا مما تفنى الأعمار قبل تمامه! فاختصره في ثلاثة آلاف ورقة، وأملاه في سبع سنين.

ثم قال لهم: أتنشطون لتاريخ العالم من آدم عليه السلام، إلى وقتنا هذا؟ قالوا: كم قدره؟ فذكر نحواً مما ذكره سابقا ( أي ما يقارب الثلاثين ألف ورقة أو يزيد ، فأجابوه بمثل ذلك، فقال رحمه الله: إنا لله ماتت الهمم، فاختصره في نحو ما اختصر في التفسير.

وهذا ابن الجوزي:سُئل عن تآليفه؟ فقال: زيادة على ثلاثمائة وأربعين مصنفاً، فكان كثير التأليف والتصنيف، قال الحافظ الذهبي عنه: ما علمت أحداً من العلماء مثل ما صنف هذا الرجل، فإنه لا يضيّع من زمانه شيئاً، وقد كان يكتب في اليوم: أربعة كراريس، مع اشتغاله بالتدريس والتأليف وافتاء السائلين. ورحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية كتب أكثر فتاويه وهو في السجن ، وهذا الإمام النووي رحمه الله وصف حياته لتلميذه ابن العطار.. فذكر له أنه كان يقرأ كل يوم اثنا عشر درسا على مشايخه شرحا وتصحيحا ، درسين في الوسيط , ودرسا في المهذب ,ودرسا في صحيح مسلم ,ودرسا في اللمع  ودرسا في إصلاح المنطق , ودرسا في التصريف ودرسا في أصول الفقه , ودرسا في أسماء الرجال  ودرسا في أصول الدين ,..قال وكنت اعلق على جميع ما يتعلق بها من شرح مشكل.. ووضوح عبارة.. وضبط لغة..وبارك الله تعالى في وقتي .

فقد أمرنا الله أن نعمل لتحكيم منهج الله في الأرض وسوف نحاسب إن لم نعمل لإعزاز دين الله ونشره والدعوة إليه قال تعالى: ﴿ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ ﴾الزخرف44.  

 ومن أبرز صفات صاحب الهمة العالية أن يكون طموحا  الطَّمُوحُ : السَّاعي إلى المراتبِ العالية  فصاحب الطموح دائمًا يتطلع للمعالي ، فهذا عمر بن عبد العزيز وكان صاحب همة عالية ، ونفس طموحة  يقول : " إنَّ لي نفسًا توَّاقة تمنت الإمارة فنالتها   وتمنَّت الخلافة فنالتها ، وأنا الآن أتوق إلى الجنة  وأرجو أن أنالها ".

ونقل ابن قتيبة عن بعض كتب الحكمة :" ذو الهمة إن حُطَّ، فنفسه تأبى إلا عُلُوّاً، كالشعلة ِ من النار يُصَوِّبُها صاحبها، وتأبى إلا ارتفاعا ".

وقال  صلى الله عليه وسلم :" من همَّ بحسنة، فلم يعملها، كتبها الله عنده حسنة كاملة " رواه البخاري

وقال ابن قيم الجوزية: كمال الإنسان بهمّة ترقيه وعلم يبصّره ويهديه.

ذكرَ ابنُ الجَوْزِيِّ رَحِمَهُ اللهُ في (صيدِ الخواطِرِ): " قالَ الكلبُ للأسدِ يوما: يا سيِّدَ السباعِ غَيِّرْ اسمي فإنَّه قبيحٌ، فقال له: أنتَ خائنٌ لا يَصلحُ لك غيرُ هذا الاسمِ، قال: جَرِّبْني, فأعطاه قطعةَ لحمٍ، وقال له: احفظْ هذِهِ إلى الغَدِ وأنا أُغَيِّرُ اسمَكَ؛ أخذَ الكلبُ قِطْعةَ اللحمِ، وبعد زمنٍ جعلَ الكلبُ يَنظرُ إلى اللحمِ ويصبرُ، فلمَّا غلبتْهُ نفسُهُ، قال: وأيُّ شيءٍ في اسمي وما كلبٌ إلا اسمٌ حسنٌ، وأكلَ اللحمَ. يقول ابنُ الجوزىِّ معلّقاً على هذه القصة: " وهكذا خَسيسُ الهمةِ القنوعُ بأقلِ المنازلِ، المختَّارُ لعاجلِ الهوى على آجلِ الفضائلِ".

صاحب الهمة لا يستبد به اليأس ، الذي استبد بكثير من الناس ، لأن إيمانه يجعله على ثقة من ربه وعلى أمل في وعده، وهو قبل ذلك كله يؤدي واجبه ويحاول أن يبرئ ذمته ، وليكن ما يكون ، فليست مهمتنا أن نحصل على النتائج ولكن مهمتنا وواجبنا أن نؤدي المهمات، وأن نقوم بالواجبات، وأن نسعى إلى أعلى وأسمى الغايات، ثم بعد ذلك يقضي الله سبحانه وتعالى ما يشاء.

كان السلف يحذرون من التفرد عن العمل فقد قيل : " اسلكوا سبل الحق ولا تستوحشوا من قلة أهلها ". فإذا كنت على الحق ولو كنت وحدك فأنت الذي ينبغي أن تبقى على ما أنت عليه، وأن يتبعك الناس لا أن ترجع عما أنت عليه ، سمع عمر رضي الله عنه رجلاً يقول : " اللهم اجعلني من الأقلين فتعجب عمر من هذا الدعاء قال يا عبدالله وما الأقلون ؟! قال سمعت الله يقول: ﴿ وما آمن معه إلا قليل ﴾ وقال : ﴿ وقليل من عبادي الشكور ﴾ فقال عمر رضي الله عنه: كل الناس أفقه من عمر   يعني ما انتبه عمر لهذا المعنى . 

إن من أدوى الأدواء، وأقسى وأشد العلل وأفتك الأمراض في أهل الإسلام والإيمان اليوم ضعف الهمم وخور العزائم، ودناءة الاهتمامات، وسفالة الانشغالات التي صرفت عن معالي الأمور وشغلت عما يؤدي إلى الأخذ بالعمل والجد والبذل.

فنسأل الله - سبحانه وتعالى - أن يحيي الإيمان في قلوبنا، وأن يُعلي الهمم في نفوسنا، وأن يشحذ عزائمنا، وأن يمضي على طريق الحق أعمالنا .

 

 

أهل الدنيا وأهل الآخرة

قال صلى الله عليه وسلم : ( من كانت الدنيا همه فَرّق الله عليه شمله، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له ، ومن كانت الآخرة همه جمع الله عليه شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة)   لقد تكفل الله تعالى لمن آمن به وعمل صالحاً  وجاهد في سبيله وسار إليه وسعى له ، أن يزيده من فضله ويبارك له في عمله ، ويجزيه خير الجزاء كما قال تعالى: ﴿ مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾160الأنعام ، والإنسان لا يؤتى إلا من قبَل نفسه فهو الذي يضعف أو يكسل أو يسوف ، وذلك يؤخر وعد الله أو يصرفه عنه، ولذلك فإن العمل في هذه الدنيا غير مضمون النتائج ، وليس كل من عمل لطلب شيء في هذه الدنيا يناله، وكم من إنسان سعى لكسب مال فما ازداد إلا فقراً، أو سعى لكسب ود إنسان فما ازداد منه إلا بعداً، ذلك لاْن الله تعالى يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب كما قال تعالى : ﴿ كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا ﴾20الإسراء . فالله يمد جميع الناس بمقومات الحياة ، فمنهم من يستخدم هذه المقومات في الطاعة ، ومنهم من يستخدمها في المعصية ، كما اختص الله أمر الأرزاق والآجال ، بقسمته بين الناس لتستقيم حياة الناس ومعاشهم قال تعالى : ﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ 32الزخرف، فقوله ورفعنا بعضهم .. الآية كلمة مبهمة  تعني أن الكل مرفوع في شيء ، ومرفوع عليه في شيء آخر ، وبهذا يتكامل الخلق وتتم المصالح   وتُقضى حاجات المجتمع كما قيل : 

الناس للناس من بدو وحاضِرَةٍ   بعضٌ لبعضٍ بما لا يعلموا خَدَمُ

فأنت مرفوع فيما تُحْسِنه من الأعمال ومرفوعٌ عليك فيما لا تجيده ، فهو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ، بمقتضى حكمته وعلمه بما يُصلح حال الناس قال تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ 52 الزمر . فيبسط هنا بمعنى يوسع ، ويقدِر بمعنى يُضيّق  وعليه فإن المسألة في الرزق ، ليست شطارة ومهارة في تناول الأشياء ، إنما هي قدرٌ قدَّره الله الرازق ، ولذلك قال أبو العتاهية :

يُرزق الأحمق رزقاً واسعا    وترى ذا اللب محروماً نَكِدِ

ولذلك فإن أهل الدنيا لا ينالون بعملهم إلا الدنيا وما لهم في الآخرة من نصيب كما قال تعالى: ﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ ﴾ 20 الشورى، فمن عمل للدنيا لا يحْرَم متعتها ولذَّتها  لكن حين تُعَجل له الطيبات في الدنيا ، يُحْرَم منها في الآخرة ، أما  أهل الآخرة فإنهم ينالون بعملهم الدنيا والآخرة ، قال تعالى: ﴿ مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾ 134النساء . والمسلم الحق ينظر إلى الدنيا على أنها مسخرة له كما قال تعالى: ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ 13 الجاثية، فهي مخلوقة لتكون ممراً إلى الآخرة ، وليست دار قرار، فالمسلم يعمل عمله الدنيوي من زراعة أو صناعة أو تجارة أو غيرها لينال حظه من الدنيا ، ويستعين به على عبادة الله   وليطلب رزقه بما أباح الله  وليكن قلبه معلقاً بالله  ورجاؤه به، وتوكله عليه وحده لا على العمل أو السبب المادي ، فكم من إنسان جنى عليه اجتهاده وكما قال الشاعر : 

إذا كان عون الله للعبد ناصراً    تهيأ له من كل شيء مراده

وإن لم يكن عون من الله للفتى   فأكثر ما يجني عليه اجتهاده

 والعامل للدنيا يكون في الغالب ممن كثر أكله وضحكه ونومه وغضبه ، قليل الرضى ، لا يعتذر إلى من أساء إليه ، ولا يقبل معذرة من اعتذر إليه  كسلان عند الطاعة ، شجاع عند المعصية ، أمله بعيد وأجله قريب ، لا يحاسب نفسه ، قليل المنفعة  كثير الكلام ، قليل الخوف ، لا يشكر عند الرخاء ولا يصبر عند البلاء ، يعمل عمل أهل النار  كالإشراك بالله والتكذيب بالرسل والكفر والحسد والكذب والخيانة والظلم والفواحش والغدر وقطيعة الرحم والجبن عن الجهاد والبخل واختلاف السر والعلانية واليأس من روح الله ، والأمن من مكر الله والجزع عند المصائب والفخر والبطر عند النعم وترك فرائض الله واعتداء حدوده وانتهاك حرماته وخوف المخلوق دون الخالق ورجاء المخلوق دون الخالق والتوكل على المخلوق دون الخالق ، والعمل رياء وسمعة ومخالفة الكتاب والسنة وطاعة المخلوق في معصية الخالق والتعصب بالباطل والاستهزاء بآيات الله وجحد الحق ، والسحر وعقوق الوالدين وقتل النفس التي حرم الله بغير الحق وأكل مال اليتيم وأكل الربا والفرار من الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات . وكلها أعمال تدخل في معصية الله ورسوله ﴿ ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين ﴾  ، وأما أعمال أهل الجنة ، كالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والإيمان بالقدر خيره وشره والشهادتان ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت . وأن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك . ومن أعمالهم :  صدق الحديث وأداء الأمانة والوفاء بالعهد وبر الوالدين وصلة الأرحام والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين والمملوك من الآدميين والبهائم . ومنها :  الإخلاص لله والتوكل عليه والمحبة له ولرسوله وخشية الله ورجاء رحمته والإنابة إليه والصبر على حكمه والشكر لنعمه . ومنها : قراءة القرآن وذكر الله ودعاؤه ومسألته والرغبة إليه . ومنها : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله للكفار والمنافقين ، وكلها تدخل في طاعة الله ورسوله ﴿ ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم ﴾ .  دخل أحد الأشخاص على رجل من الصالحين .. وقال له: أريد أن أعرف .. أأنا من أهل الدنيا أم من أهل الآخرة ؟ فقال له الرجل الصالح ، إن الله أرحم بعباده ، إذ لم يجعل موازينهم في أيدي أمثالهم ، فميزان كل إنسان في يد نفسه  لماذا ؟ لأنك تستطيع أن تعرف أأنت من أهل الدنيا أم من أهل الآخرة ، قال الرجل كيف ذلك؟ فرد العبد الصالح : إذا دخل عليك من يعطيك مالا   ودخل عليك من يأخذ منك صدقة .. فبأيهما تفرح ؟ فسكت الرجل .. فقال العبد الصالح : إذا كنت تفرح بمن يعطيك مالا ، فأنت من أهل الدنيا ، وإذا كنت تفرح بمن يأخذ منك صدقة ، فأنت من أهل الآخرة .. والإنسان يفرح بمن يقدم له ما يحبه  فالذي يعطيني مالا يعطيني الدنيا .. والذي يأخذ مني صدقة يعطيني الآخرة .. فإن كنت من أهل الآخرة .. فأفرح بمن يأخذ منك صدقة .. أكثر من فرحك بمن يعطيك مالا . ولذلك كان بعض الصالحين إذا دخل عليه من يريد صدقة يقول مرحبا بمن جاء يحمل حسناتي إلي الآخرة بغير أجر  ويستقبله بالفرحة والترحاب . فالرجل من أهل الآخرة لا يفعل شيئا في حياته إلا وفي باله الله ، وأنه سيحاسبه يوم القيامة  أما من كان من أهل الدنيا فإنه يفعل ما يفعل وليس في باله الله ، وعن هؤلاء يقول الله سبحانه : ﴿ والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعةْ يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجده الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب ﴾ 39 النور . فمن يفعل شيئا وليس في باله الله .. سيفاجأ يوم القيامة بأن الله تبارك وتعالى الذي لم يكن في باله موجود ، أنه هو الذي سيحاسبه على ما عمل ، فمن آمن واتبع منهج الله فإلى الجنة ، ومن أنكر فإلى جهنم وبئس القرار . ومن عدل الله سبحانه أن أعد يوما للحساب .. لأن الذين ظلموا وبغوا في الأرض ربما يفلتون من عقاب الدنيا ، وهل من أفلت في الدنيا من العقاب يفلت من عدل الله ؟ .. أبدا لم يفلتوا .. بل أنهم انتقلوا من عقاب محدود إلي عقاب خالد .. وافلتوا من العقاب بقدرة البشر في الدنيا   إلي عقاب بقدرة الله تبارك وتعالى في الآخرة   ولذلك لابد من وجود يوم يعيد الميزان    فيعاقب فيه كل من أفسد في الأرض وأفلت من العقاب .. ولا خير لإنسان يفلت من عقاب الدنيا   لأنه أفلت من عقاب محدود إلي عقاب أبدي.  

من الخطأ أن نتصوّر أن العمل الدنيوي منفصل تماما عن عمل الآخرة وأنّه لا يُمكن احتساب شيءٍ أُخْروي من خلال العمل الدنيوي، ولكن الأعمال الدنيوية إذا لم تنضبط بضوابط الشّرع كانت وبالا على صاحبها، ويمكن أن يُمارس الإنسان أعمالا أخروية من خلال عمل دنيوي ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ بَيْنَا رَجُلٌ بِفَلاةٍ مِنْ الأَرْضِ فَسَمِعَ صَوْتًا فِي سَحَابَةٍ اسْقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ فَتَنَحَّى ذَلِكَ السَّحَابُ ( أي توجّه وقصد ) فَأَفْرَغَ مَاءهُ فِي حَرَّةٍ ( الأرض الصلبة ذات الحجارة السوداء ) فَإِذَا شَرْجَةٌ مِنْ تِلْكَ الشِّرَاجِ ( والشّراج مسايل الماء ) قَدْ اسْتَوْعَبَتْ ذَلِكَ الْمَاءَ كُلَّهُ فَتَتَبَّعَ الْمَاءَ فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ فِي حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ الْمَاءَ بِمِسْحَاتِهِ فَقَالَ لَهُ يَا عَبْدَ اللَّهِ مَا اسْمُكَ قَالَ فُلانٌ لِلاسْمِ الَّذِي سَمِعَ فِي السَّحَابَةِ فَقَالَ لَهُ يَا عَبْدَ اللَّهِ لِمَ تَسْأَلُنِي عَنْ اسْمِي فَقَالَ إِنِّي سَمِعْتُ صَوْتًا فِي السَّحَابِ الَّذِي هَذَا مَاؤُهُ يَقُولُ اسْقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ لاسْمِكَ فَمَا تَصْنَعُ فِيهَا قَالَ أَمَّا إِذْ قُلْتَ هَذَا فَإِنِّي أَنْظُرُ إِلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهَا فَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ وَآكُلُ أَنَا وَعِيَالِي ثُلُثًا وَأَرُدُّ فِيهَا ثُلُثَهُ وفي رواية : وَأَجْعَلُ ثُلُثَهُ فِي الْمَسَاكِينِ وَالسَّائِلِينَ وَابْنِ السَّبِيلِ ) مسلم  

دل الحديث على فضل الصدقة والإحسان إلى المساكين وأبناء السبيل , وفضل أكل الإنسان من كسبه , والإنفاق على العيال  نعلم جميعا أن هذه الدنيا مرحلة نعيشها فهي بلاغ للآخرة ولذلك لا يجب أن نترك العمل فيها ونكتفي بأداء الفرائض وحدها فقد قال صلى الله عليه وسلم  : ( ليس بخيركم من ترك دنياه لآخرته أو ترك آخرته لدنياه حتى يصيب منهما جميعا فإن الدنيا بلاغ للآخرة ) رواه النسائي  

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

فروض الكفاية ودورها في بناء الأمة

الفرض هو أحد الأحكام الشرعية، ومن أهمتقسيمات العلماء في الفرض أن هناك فرض عين وفرض كفاية ، أما فرض العين : فهو ما يتعين على شخص معين بذاته ، بحسب قدرته واستطاعته كالصلاة والصيام والزكاة وقول الصدق، ولا يجوز لشخص أن يتخلى عنها، أما فروض الكفاية : فهي تتعلق بما تحتاج إليه الأمة في مجموعها ، حتى تكون أمة قوية ، قادرة على الدفاع عن نفسها ومؤدية لرسالتها ، قال تعالى : ﴿ وأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ ومِن رِّبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وعَدُوَّكُمْ ﴾ إنه خطاب موجه للأمة بمجموعها       حتى لا يطمع فيها الطامعون، وحتى يرهبها الأعداء ﴿ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وعَدُوَّكُمْ ﴾ وهذا ما يسمى بالسلم المسلح ، بأن يكون المسلم قويا ولا يحارِب  قوة لا تجعل الأعداء يطمعون في  غزو بلاد المسلمين أو احتلال أرضهم .

وقد جاءت النصوص تحث المؤمنين على تأمين ما يلزمهم فقال تعالى : ﴿ فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ولِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾ هذا الأمر الإلهي لا يعدو كونه مثالا بارزا لحث المؤمنين على أن ينفروا طوائف لتأمين متطلبات معاشهم وعاقبة أمرهم في المجالات كافة ، ولكن الواقع الذي نعيش    أدى استيلاء الحكومات على تفاصيل الحياة اليومية  وكف أيد الناس عن المساهمة في كثير من شؤونهم العامة ، ورافق ذلك تسويق فهم قاصر للتديّن   انحصر في إطار المسجد ، والممارسة الفردية ، وأصبح المسلمون إزاء ذلك ، ما بين ناطق بباطل أو ساكت عن حق ، وإذا كانت كلمة الحق عند السلطان الجائر ترفع صاحبها إلى عليين ، فإن كلمة الباطل عنده تهوي بصاحبها إلى أسفل سافلين .

وما ضاعت الأمة واستكانت ، إلا يوم وجد فيها مَن ينطقون بالباطل ، ومَن يسكتون عن الحق   والساكت عن الحق شيطان أخرس، وإذا كان الناطق بالحق شيطانا متكلما ، فإن الساكت عن الحق شيطان أخرس .

لذا فإن الخطوة الأولى في طريق الدعوة تتمثل في معرفة الحق الموحى به ، والانطلاق منه في بناء القدرة على امتلاك المعايير المجردة في الحكم على الأمور  حتى تجيء بعدها خطوة الفعل صائبة ، وذلك ببناء الطائفة القائمة بالحق ، لأن وجود هذه الطائفة التي تقوم بالحق ، هي من لوازم الرسالة المحمدية ، وقد أوكل أمر التجديد بها ، لذلك نرى أن قول الرسول g ( لا تزال طائفة من أمتي قائمة بامر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى ياتي امر الله ) ليس مجرد إخبار ، إنما هو تكليف الأمة للعمل على بناء هذه الطائفة ، وهذا يأتي على رأس الفروض الكفائية ، التي بها يكون بقاء أمة الإسلام ، وقد لا نغالي إذا رأينا أن سبب التخلف والتراجع الذي   أُصيبت به الأمة ، يتمثل في غياب الفروض الكفائية والمعروف فقهاً أن الفروض والتكاليف الشرعية نوعان : فروض عينية وكفائية ، أما العينية : فهي التي تجب على كل إنسان بعينه ، وفق استطاعته   ولا يخرج من عهدة التكليف الشرعي إلا بأدائها   وقد وجدت لتزكية النفس وتهذيبها ، والمسئولية عنها أمام الله فردية ، يحكمها قوله تعالى : ﴿ ولا تزروا وازرة وزر أخرى ﴾ الأنعام 164 . ويكاد يأتي في مقدمتها العبادات جميعها .

أما الفروض الكفائية : فهي تكاليف شرعية اجتماعية ، والمسئولية عنها جماعية ، وقد جاءت الأحاديث تنذر بالمسئولية عن التقاعس والتقصير في أداء هذه الفروض ، لعل في مقدمتها فقدان خيرية هذه الأمة ، الذي أدى إلى عجزها عن أداء رسالتها بتحقيق الكفاية في بلاد المسلمين قال تعالى : ﴿ ولتكن منكم أمةٌ يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ﴾ أل عمران 104 . وقال : ﴿ واتقوا فتنةً لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ﴾ الانفال 25 . ولعل استفهام السيدة زينب زوجة رسول الله g يلفت النظر هنا ، عندما سألت رسول الله g : أنهلك وفينا الصالحون قال : نعم إذا كثر الخبث ) اخرجه البخاري .

فالعمل لدفع الظلم والفساد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وتحقيق الرقابة العامة على المجتمع والفرد والدولة ، يأتي على رأس الفروض الكفائية قال صلى الله عليه وسلم : ( إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه ) الترمذي .

 وروي ان ملكا أُمر أن يخسف بقرية فقال : إن فيها فلاناً العابد ، فأوحى الله عز وجل إليه : أن به فابدا فإنه لم يتمعّر وجهه فيَّ ساعة قط " . وذكر الإمام أحمد عن قتادة قال موسى : ( يا رب أنت في السماء ونحن في الأرض ، فما علامة غضيك من رضاك ؟ قال : إذا استعملت عليكم خياركم فهو علامة رضائي عنكم ، وإذا استعملت عليكم شراركم فهو علامة سخطي عليكم ) .

إننا نلمس أن الإحساس بأن الفروض الكفائية من الدين عملياً ، أمرٌ غائبٌ تماما عن حس المسلمين  وقد همشت حتى كادت تقتصر على المصير الأخروي   كما تجلى آثار قصور الفهم على إبعاد الواجبات الكفائية ، في مجالات الفقه السياسي ، الذي تركز على حقوق الحاكم على الرعية دون العكس ، وقد أدى عدم الاهتمام بالعلوم السياسية إلى مصادرة حريات النصح والمراقبة والشورى ، مما عرقل كل محاولات الإصلاح ، وشجع التدين الفردي   وتراجع فهم الواجبات الكفائية في قضايا المصير الفردي ، والتدين المظهري ، بعيداً عن الخوض في مقتضيات نظام العدالة والمساواة والمسئولية تجاه الضعفاء والفقراء والعاطلين ، ومن المعلوم أن الواجبات الكفائية ما شرعت إلا لحفظ المصالح العامة للأمة ، والوقوف في وجه الدول المستعمرة التي تعمل للاستيلاء على خيرات البلاد الإسلامية ، ولمعرفة هذه الدول بحيوية الدين الإسلامي ، وعلاقته الوثيقة بالحياة العامة وتنظيمها   الذي يحرِّك الناس نحو المقاومة ، فقد عمد بما يملك من وسائل وادوات ، إلى العمل على صرف توجيهات واهتمامات الناس عن المصالح العامة ، إلى الأمور الخاصة ، والاهتمامات الشخصية والمصالح الفردية ، وعمل على إغراء البعض بمميزات شخصية ، مقابل تنازلهم عن تبني مصالح العامة   والدفاع عنها ، كما ساهم في تكوين جماعات تُحرِّم التصدي لمن اعتدى على أمة الإسلام ، واحتل أرضها ، الأمر الذي تتحول فيه الفروض الكفائية إلى فروض عينية ، ومن هنا نصت القاعدة الشرعية على أنه " إذا فُقد شبرٌ من أرض المسلمين بات أو أصبح الجهاد فرض عين ، حتى أباح للمرأة أن تخرج دون إذن زوجها "  وقد دلت الأحاديث على أن الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة لا يعطله عدل عادل ولا جور جائر ، كما ساهمت هذه الدول في مصادرة حرية التعبير والنصح الفردي الذي أدى إلى تكريس الأخطاء ووصفها بالصواب المطلق .  

ومن هنا فإن أصح اقتداء برسول الله g هو أن ينظر المسلم إلى الواجبات العينية ، التي أوجبها الله عليه، وأن ينظر إلى المحرمات – وهي كلها عينية – التي حرمها الله عليه. ثم ينظر إلى الواجبات الكفائية التي أمر الله بإيجادها ،  ولعل من أهمها العمل لإقامة الدولة الإسلامية ، التي هي الطريق لإقامة غالبية أحكام الإسلام من عينية وكفائية .

 

 

 

 

قانون السمع والطاعة

 

هناك من يحرم الخروج على الحاكم ، ويوجب طاعته (ولو ضرب ظهرك وأخذ مالك) وتؤكد أنه لا فرق في هذه الطاعة بين الحاكم العادل و الحاكم الظالم  وليس للرعية من وسيلة لمواجهة الظلم والاستبداد إلا الصبر  مستدلين بالأحاديث التي تدل على وجوب طاعة أولي الأمر دون غيرها من أحاديث الأمر بالمعروف والنهي المنكر ، والأخذ على يد الظالم وإقامة الحق والعدل ، وحتى لا يفهم أن ذلك دعوة لإقرار الظالم على ظلمه ، أو قبول مخالفاته باسم إيجاب الشريعة لطاعة أولي الأمر ، متجاهلين أن طاعة الحاكم هي ضمن حدود الشرع لا لشخصه وإنما لما يتمثل فيه من تطبيقه لأحكام الشريعة واحترام قواعدها وتنفيذ حدودها وتحقيق أهدافها. 

 

ففي القرآن الكريم قال تعالى: ﴿ إنَّ اللَّهَ يأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا وَإذَا حَكَمْتُم بَينَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ﴾ النساء:58 .

 

وقد ذكر العلماء في تفسير هذه الآية أن الخطاب فيها موجه إلى ولاة الأمر بأداء الأمانات إلى أهلها، وأن يحكموا بالعدل بين الناس، وأن يقوموا برعاية الرعية وحملهم على موجب الدين والشريعة ورد المظالم، وأن اللَّه أمرهم بالرجوع إلى الكتاب والسنة فيما أشكل عليهم، وإذا حاد ولاة الأمر عن العمل بأحكام الشرع فإنه لا طاعة لهم.

 

فقد وضع رسول الله نظاماً لهذه القاعدة ، وجعل القيام عليها ، من معالم التقوى ، لأنه لا يستقر حكم ولا تصان دولة ، إلا إذا سادها النظام والطاعة فقال صلى الله عليه وسلم: ( من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن أطاع أميري فقد أطاعني  ومن عصى أميري فقد عصاني ) وقال تعالى :﴿ أطيعوا الله ﴾ أي اتبعوا كتابه :﴿ وأطيعوا الرسول ﴾ أي خذوا بسنته ﴿ وأولي الأمر منكم ﴾ أي فيما كلفوكم به من أمور تخدم الكتاب وسنته .

 

وعندما شُرع قانون السمع والطاعة ، لم يفترض في الأطراف التي تمثله ، إلا قيادة راشدة تنطق بالحكمة ، وتصدع بالحق وتأمر بالخير ، ثم جنودٌ يلبون النداء ، أما الطاعة العمياء ، لا لشيء إلا لأن القائد أمر ، فذلك أمر لا يقره شرع ولا عقل لما روى أحمد في مسنده قال : ( بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية واستعمل عليهم رجلاً من الأنصار ، فلما خرجوا وجد عليهم الرجل في شيء ، فقال لهم : أليس قد أمركم رسول الله أن تطيعوني ؟ فاجمعوا إلي حطبا   ثم دعا بنار فأضرمها فيه ثم قال: عزمت عليكم لتدخلنها ، فقال شاب منهم : إنما فررتم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن أمركم أن تدخلوها فادخلوها  فرجعوا إلى رسول  الله صلى الله عليه وسلم فاخبروه   فقال لهم : لو دخلتموها ما خرجتم منها أبدا ، إنما الطاعة في المعروف ) . هذا الترهيب الغليظ يستأصل جذور الطاعة العمياء من نفوس الأتباع جميعا ، ويجعلهم يحملقون فيما يصدر إليهم من أوامر ، فلا يكونون عبيدا إلا لله ، ولا جثياً إلا للحق ، ولو أنهم عندما أصدروا أوامر يمليها الغرور ، وتنكرها الحكمة وجدوا من يردها عليهم ويناقشهم ، لتريثوا قبل أن يأمروا بباطل ، ومن جهة أخرى يخفى أن كل أحاديث طاعة الحاكم مشروطة بأداء واجباته كحاكم وعدم خروجه على الشريعة  فقد روى البخاري ( السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ، ما لم يؤمر بمعصية ،فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة ) وما روى مسلم ( لا طاعة في معصية الله . إنما الطاعة في المعروف ) وما روى عنه صلى الله عليه وسلم( من أعان ظالما ليدحض بباطله حقا، فقد برئت منه ذمة الله ورسوله ) وحديث ( سيلي أموركم من بعدي رجال يعرفونكم ما تنكرون ، و ينكرون عليكم ما تعرفون، فمن أدرك ذلك منكم فلا طاعة لمن عصى الله عز وجل) السيوطي ، وسأل رجل عبد الله بن عمرو بن العاص : "هذا ابن عمك معاوية ، يأمرنا أن نفعل ونفعل ، قال : أطعه في طاعة الله ، واعصه في معصية الله "  . أما  الأمر بالصبر على الحكام الوارد في الأحاديث الشريفة  فإنه لا  يعني السكوت والرضا بظلمهم  وانتظار الفرج دون سعي لتغييره ، ولا يعني  السكوت على ذلك   لأن الصبر المأمور به ليس صبراً على أن ترى المنكر الذي يسيئك رؤيته فتسكت ، وإنما هو الصبر على الأذى الذي يصيبك من  الحاكم جراء مجاهرتك بإنكار المنكر أو الأمر بالمعروف ، ولذلك جاء في الحديث ( إن من أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر ) .

 

وولاة الأمر في أفضل حالاتهم ليسوا أكثر من وكلاء عن الأمة في إقامة شرع الله وتنظيم أداء فرائضه… فإن قصروا في هذا التعاقد، فيجب على أهل الحل والعقد من الأمة ، النظر فيما يستوجبه هذا التقصير من مساءلة تبدأ بالنصح والتوجيه ،  ويمكن أن تمتد لأكثر من ذلك ، ومن المعلوم أن العلاقة بين الحاكم والمحكوم تعاقدية ، تعرف في الفقه الإسلامي باسم البيعة بالتزام متبادل ، كما أعلن ذلك أبو بكر الخليفة الأول في خطبة الخلافة :" أطيعوني ما أطعت الله فيكم ، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم " .  والبيعة في دلالتها اللغوية مصدرٌ يُفيد معنى المبايعة وتعطي معنى المعاقدة والمعاهدة ، فالخليفة يعاقد ويعاهد الأمة على أن يحكم بالحق والعدل، وأن يرعى أحكام الشريعة ، ويصون مبادئ الدين، وأن يوفر للمواطن كل ما أقرته مبادئ الشريعة للمواطن من حقوق إنسانية وحريات، ويقوم المواطن نيابةً عن ذاته بمنح الحاكم توكيلاً أو تفويضاً بإدارة شئون البلاد على ما اتفقا عليه، ويقدم له مع ذلك الطاعة  ويتعهد بنصرته ، في كل ما من شأنه أن يحمي مصالح الأمة ، ويدافع عن حقوقها وكرامتها.

 

أما مطلق النهي عن مراجعة الظالم ونقده  ففيه غلو وتجاوز، بما يخالف تعاليم الإسلام الراشدة في هذا الشأن  لقوله تعالى :﴿ وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النار ﴾  وتذكر لنا كتب التاريخ عشرات من مواقف العلماء بل وعامة المسلمين من مراجعة الحكام وولاة الأمر ، ومنها حين قال عمر اسمعوا وأطيعوا ، قال أحد الحاضرين لا سمع ولا طاعة فقال عمر : " لا خير فيكم إن لم تقولوها ولا خير فينا إن لم نسمعها "  وحين راجعته امرأة في قراره بتخفيض المهور قال: أصبت امرأة وأخطأ عمر.  وتوجيه النصح للحكام لا يشترط أن يكون من عالم أو أن يكون سراً ، طالما أن المنكر الواجب إنكاره هو مخالف للشرع بما لا محل فيه لتأويل مثل المجاهرة بشرب الخمور أو التحريض على الفجور أو التمكين لأعداء الله في بلاد المسلمين .

 

إن إطاعة الحكام ليست مطلقة بل هي مشروطة بأن تتوافق مع إطاعة الله ورسوله، كما أن الحديث النبوي الشريف يبين حقيقة هذا الطاعة وشروط تحققها ( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ) وحديث ( إنما الطاعة في المعروف ) وحديث ( من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ومن يطع أميري فقد أطاعني ومن عصاني فقد يعصي الله ومن يعصي أميري فقد عصاني ) . 

 

والذي يشهد للخلفاء الراشدين ـ رضي اللَّه عنهم ـ أنهم خير من جاء بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، وأدى ما عليه من واجب المسئولية التي لابد من السؤال عنها أمام اللَّه وأمام الأمة، والحاكم في أدائه واجباته مسئول عن أخطائه وإهماله وتقصيره وسوء استعماله للسلطة الممنوحة له فضلاً عما يتعمده من خروج على حدود السلطة وما يرتكبه من جور أو تعسف أو ظلم، وهو في هذا كله خاضع للنصوص العامة؛ لأن الإسلام لا يفرق بين فرد وفرد، ولا بين حاكم ومحكوم، بل الكل سواء، يسري على هذا ما يسري على ذاك دون تمييز بينهما، لا يعفيه الإسلام من أخطائه، ولا يخفف من مسئوليته، ولا يميزه عن أي شخص آخر، لذلك كان الخلفاء والأئمة أشخاصًا لا قداسة لهم ولا يتميزون عن غيرهم، وإذا ارتكب أحدهم جريمة عوقب عليها كما يعاقب أي شخص آخر يرتكبها في الشريعة الإسلامية.

 

بعد أن بينت واجبات الحاكم وحقوقه وحددت سلطته ـ جعلته مسئولاً عن كل عمل يتجاوز به سلطته سواء تعمد هذا العمل أم وقع العمل نتيجة إهماله ولم تكن الشريعة الإسلامية في تقرير مسئولية الحكام عن تصرفاتهم أمام الأمة إلا متمشية مع منطق الأشياء، فقد بينت للحاكم حقوقه وواجباته وألزمته بأن لا يخرج عن أحكام الشريعة الإسلامية.

 

 

 

 

 

 

 

الآثار المترتبة على تطبيق القوانين الوضعية

لم تكن الشريعة الإسلامية مجرد حدود وتعزيرات ولكنها تمثل وسيلة لإقامة مجتمع  إسلامي ، خالٍ من صور الفساد والانحلال، لذا عاش المجتمع الإسلامي في ظلها قروناً طويلة ، يتمتع فيها بسلوكيات طاهرة  بعيدة عن الرذائل والفواحش ، فلم تُعرف دور البغاء المرخصة ، ولا حانات الخمور ولا أماكن القمار  ولا أماكن إشاعة الفاحشة ، من الملاهي والمراقص ونحوها. وما كان في المجتمع من كبائر المعاصي والذنوب،  لأن الشريعة كانت هي القانون الذي يحكم الدولة التي تطبق منهج الله ،  كما أن العرف العام الذي رسخته الشريعة في النفوس يستنكر كل مخالفة لمنهج الله ، لا يسكت عنها ولا يرضى بها .

وعندما أقصيت الشريعة وطبقت القوانين الوضعية  ظهرت آثار هذا التطبيق ، فاستُحل الحكم بغير ما أنزل الله، واستُحل الربا، وتُركت إقامة الحدود   وشاعت المنكرات على اختلاف أنواعها ، واختفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لأن القوانين الوضعية تحرس الفساد ، وتشجّع على الانحلال  وتفتح الباب لنقض بنيان الأخلاق الإسلامية ، مما أدى إلى كسر الحواجز النفسية والفضائل الخلقية  وقد ساعد على ذلك إشراف الكفار من وراء ستار على مناهج التعليم ، حتى تؤدي دورها في تخريج أجيال لا صلة لها بالدين ، أو أن تفهمه محرفاً منقوصا ، وحتى كثير من الشباب المسلم ، إذا ما ذهب إلى أوروبا لاستكمال تعليمه العالي ، تعاد صياغتهم الفكرية والنفسية ، حتى يقضى على الإسلام في نفوسهم ، فلا يرجعوا إلا وقد أخذوا طريقة عيشهم ، مظهراً ومخبراً ووجهة حياة.

فأما الثقافة فقد جهزت لتؤدي دورها في ردة المسلمين عن دينهم ، وذلك بالعمل على التمسك بفكر أعداء الإسلام ، وفلسفتهم وأنماط سلوكهم وعاداتهم ، وتقاليدهم الخاصة ، وتكمن خطورة هذه الثقافة ، في أنها تبدأ خيوطها ابتداءً من التعليم المدرسي ، وامتداداً إلى كل مجالات الحياة  عن طرق الكتب والمجلات أو الصحافة ووسائل الإعلام المسموعة والمرئية  .

يقول المستشرق الانجليزي ، جب بهذا الخصوص " إن النشاط التعليمي والثقافي عن طريق المدارس العصرية والصحافة ، قد ترك في المسلمين أثراً جعلهم يبدون في مظهرهم العام لا دينيين ، إلى حدٍ بعيد وربما من غير وعي منهم " ، فقد ركز المستشرقون  على الطلائع المثقفة من أبناء المسلمين ، خاصة الأدباء والمفكرين وأصحاب الدراسات القانونية ،  وكان من أخبث ما توصلوا إليه هو قيام مدرسة فكرية جديدة ، من بعض المسلمين ، ترمي إلى تقريب الشقة بين تعاليم الإسلام ، وبين ما جاءت به حضارة الغرب من أفكار ، ونتائج ونظريات ، وذلك بمحاولة تفسير الإسلام تفسيراً عصرياً ، يلائم الفكر السائد ، ومحاولة إيجاد نقاط التقاء بين الخطين على تباينهما وتباعدهما ، مما الجأ بعض العلماء في هذا العصر ، إلى مواقف دفاعية غريبة عن الإسلام ، وبعيده كل البعد عما تلقاه المسلمون عن النبي g وأصحابه ، كقضايا الجهاد في سبيل الله ، والحدود والربا والطلاق وتعدد الزوجات ، الأمر الذي يدعو المسلمين لمراجعة مواقفهم ، وإخلاص النيات لبناء العالم الإسلامي من جديد ، طبقاً لمنهج الإسلام ، وإخراجه من التبعية الرهيبة للغرب ، في أفكاره وعاداته وأخلاقه   والعودة إلى الإسلام ديناً ومنهج حياة ، وقيادة الأمة بالحق والعدل والهدي مصداقاً لقوله تعالى :﴿ الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهموا عن المنكر ولله عاقبة الأمور ﴾ . وأما في مجال الاقتصاد فقد ظهر التعامل بالربا الذي لا تجرمه القوانين الوضعية ، فاستدانت الحكومات بالربا، وتعامل به المسلمون، وتراكمت الديون وفوائدها ، حتى تدخلت الدول الأجنبية في سياسات المسلمين والإشراف عليها والتحكم في توجيهها وفق مصالحها .

وأما العقوبات : فقد شرع العقاب على الجريمة لمنع الناس من اقترافها، لأن النهي عن الفعل أو الأمر بإتيانه لا يكفي وحده لحمل الناس على إتيان الفعل أو الانتهاء عنه، ولولا العقاب لكانت الأوامر والنواهي أموراً ضائعة وضرباً من العبث، فالعقاب هو الذي يجعل للأمن والنهي مفهوماً ونتيجة مرجوة وهو الذي يزجر الناس عن الجرائم، ويمنع الفساد في الأرض، ويحمل الناس على الابتعاد عما يضرهم، أو فعل ما فيه خيرهم وصلاحهم. وإنما شرعت للمصلحة العامة فإنها ليست في ذاتها مصالح بل هي مفاسد، ولكن الشريعة أوجبتها لأنها تؤدي إلى مصلحة الجماعة الحقيقية، وإلى صيانة هذه المصلحة. وربما كانت الجرائم مصالح، ولكن الشريعة نهت عنها؛ لا لكونها مصالح، بل لأدائها إلى المفاسد فالزنا وشرب الخمر والنصب واختلاس مال الغير وهجر الأسرة والانتفاع عن إخراج الزكاة - كل ذلك قد يكون فيه مصلحة للأفراد، ولكنها مصالح ليس لها اعتبار في نظر الشارع، وقد نهى عنها  لا لكونها مصالح، بل لأنها تؤدي إلى فساد الجماعة.

والأفعال تختلط فيها المصالح والمفاسد، والإنسان بطبعه يؤثر ما رجحت مصلحته على مفسدته، وينفر مما ترجح مفسدته على مصلحته، ولكنه في اختياره ينظر لنفسه لا للجماعة، فيؤثر ما فيه مصلحته ولو أضر بالجماعة، وينفر مما يراه مفسدة عليه ولو كان فيه مصلحة الجماعة.وقد شرعت العقوبات بما فيها من التهديد والوعيد والزجر علاجاً لطبيعة الإنسان فإن الإنسان إذا نظر إلى مصلحته الخاصة وما يترتب عليها من العقوبات نفر منها بطبعه، لرجحان المفسدة على المصلحة ، وكذلك إذا ما فكر في الواجب وما يجلبه عليه من المشاق، فقد يدعوه ذلك لتركه، لكنه إذا ذكر ما يترتب على الترك من عقوبة حمله ذلك على إتيان الفعل، والصبر على المكروه والمشقة ، فالعقوبات مقررة لحمل الناس على ما يكرهون ، ما دام أنه يحقق مصلحة الجماعة ولصرفهم عما يشتهون ما دام أنه يؤدي إلى إفساد الجماعة ، وهذا مصداق قوله عليه السلام: ( حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات ) . 

وبالمقارنة بين الشريعة والقوانين الوضعية  ، فإن القوانين الوضعية من صنع الفئة الحاكمة، وهي حين تضعها تراعي مصلحتها دون غيرها من الفئات وتحاول أن تحمي بالقوانين أشخاص رجالها، والمبادئ التي يعتنقونها، والأنظمة التي يقيمونها، فإذا ما ذهبت هذه الفئة وجاء غيرها، تغيرت القوانين لتحمي الفئة والمبادئ والأنظمة الجديدة ، وهكذا تتغير القوانين بتغير الحاكمين والمبادئ ، والأنظمة التي يقوم عليها الحكم، وهي لا تفتأ تتغير وتتبدل بين حين وآخر وهذا يؤدي إلى عدم احترام القانون، وإلى ذهاب سطوته من النفوس، بل إلى عدم الاكتراث به، حتى لقد أصبحنا اليوم نرى الأحزاب المعارضة تحرض أنصارها على الاستهانة بالقانون والخروج على أحكامه ، لتصل على أشلائه إلى أغراضها، وما على الأحزاب المعارضة وأصحاب الدعوات الجديدة أو الدعوات الهدامة ، حرج فيما يدعون إليه، ما داموا يرون أن القانون من صنع أفراد مثلهم، وأنه وضع لحماية أناس ليسوا خيراً منهم، أو أنظمة هي شر في نظرهم، ولعل فيما هو حادث اليوم من تبدل الأنظمة والحكام ، وشكل الحكومات ، الدليل المقنع على زوال سطوة القانون من نفوس الأفراد .

أما الشريعة الإسلامية فهي تقرير للواقع والمنطق  فمن يؤمن بأن الدين الإسلامي من عند الله وجب عليه أن يؤمن بأن الشريعة الإسلامية من عند الله  لأن الشريعة هي بالذات القواعد التشريعية للدين الإسلامي، جمعت أحكامه من عبارات، ومعاملات  وأحوال شخصية، وجنايات، وغير ذلك.

وليس الغرض من الشريعة خدمة فرد أو هيئة أو جنس أو نظام معين، وإنما وجدت الشريعة لخدمة البشر على اختلاف ألوانهم وألسنتهم ومناهجهم  كما وجدت لإقرار المساواة والعدالة بينهم ، ولتيسير أمورهم ، فنسبتها إلى الله لا تفيده جل شأنه شيئاً لأنه غني عن خلقه، وإنما تفيد المجتمع وتعود عليه بالاطمئنان والثقة، وتؤدي به إلى الحياة الطيبة القائمة على المحبة والإيثار والمساواة والعدالة.

 

 

 

 

عوائق النهضة الإسلامية

إنَّ قضيَّة النَّهضة، هي قضيَّة الضَّرورة في عالمنا العربيِّ والإسلاميِّ وقضيَّة التَّغيير والتَّحديث، إنها قضية كيفيَّة دخول الأُمَّة إلى مدار العصر، ورحاب الحضارة الحديثة، وتحولها مِن مُستهلكٍ وتابعٍ، إلى مُنتجٍ ومشاركٍ في صياغة وصناعة الحضارة والثَّقافة  أي تحولها مِن مجتمعٍ مُتخلِّفٍ إلى مُجتمعٍ مُتقدِّمٍ.

النهضة مبدأ أساسي نعيش ونعمل من أجله  فالرسول g نجح ومعه الصحابة الكرام بالنهوض بمجتمع جاهلي ، وبشبه الجزيرة العربية وبالعالم أجمع فكانت نهضة ناجحة قابلة للمحاكاة والتكرار  ونحن اليوم بأيماننا بالله وثقتنا به ، وبإيماننا بأنفسنا وبمقدراتنا ، وبالعمل الجاد ، ستنهض أمتنا وترتقي بين الأمم فليبدأ كل شخص بنفسه وليرتقي وينهض بها من الداخل ، ثم ليتحرك ويعمل ، بشرط مراعاة الأساس الصحيح الذي يصلح للنهضة وذلك بالاستناد على الفكر الذي يوحد المفاهيم ، التي تؤثر في السلوك الذي يعبر عن النهضة ، فإن كان راقياً دل على النهضة  وإن كان منخفضاً دل على الانحطاط ، وبإذن الله ستنهض هذه الأمة ، وتعود إلى سابق مجدها ، تصدر للعالم العِلم والتطور والنور فقد تمكن المسلمون من بناء "الحضارة الإسلامية" بجدارة وباعتراف الأعداء قبل الأصدقاء، وكانت لهذه الحضارة الفضل الكبير في نهوض الحضارة الغربية الحديثة.

لكن هذا المجد ما لبث أن انهار ، وانطفأت أنواره وغابت أدواره وضعفت عزيمته ،  فلماذا ؟ وما السبب؟

لقد انشغل المسلمون في الخلافات الفرعية والمجادلات النظرية‏ ‏ ونسوا أنه لا يجوز أن يرتفع صوت يشغل الناس عن المعركة المصيرية التي تتصل بوجودهم ، فقد اختلفوا في الفروع وغفلوا عن القضية الكبرى , وهي التخلف في المجال الصناعي والحضاري بدل التوجه للعمل والإنتاج ، والتخطيط المستمر لتضليل العقول وتوهين العقائد وتخريب الأخلاق ، حتى تأخر المسلمون في ميادين لا حصر لها, مما أدى إلى الفقر الظاهر ، والتفاوت بين الطبقات ، رغم ما يمتلكون من ثروات ، وبدل السعي لعلاج الفقر والإعداد المعنوي والمادي ، وتجميع الأمة لتواجه مستقبلها, وتكوين رأي عام يوقظ الهمم ويوحد الصفوف, فقد شغلوا بأمور أخري من فقه المذاهب أو من هوى الأتباع , وجهلوا أن الدين لا ينهض بالأمة بتبادل معلوماته بين الألسنة والأسماع, أو استيعاب أحكامه في الذاكرة الجيدة, أو الأداء الصوري لعباداته المقررة, فهذا التناول للدين والوقوف بالإصلاح المنشود عند حد الكلام وإطلاق المقترحات غير العملية ، قليل النفع ، ولو أن كل امرئ انتقل من الكلام إلي العمل المنتج ، لاستطعنا حل أعقد المشاكل ، ولو أن كل واحد انصرف إلي عمله يتقنه ، والي واجبه المنوط به يجيده ، لكان ذلك أفيد للإنتاج وأزكي عند الله.

 لذا قام أعداء الأمة بنسج خيوط تلهي الدعاة عن دعواهم وللأسف قد حققوا النصر, وأصبح مجال الدعوة مفتوح لكل من هب ودب ،"إن الإسلام يراد هدمه  باسم الإسلام" والقائم بهذه المهمة شيوخ أو شباب لا هم من أهل الذكر ولا هم من أهل الفكر..." مما يدل على أن الخلل الواقع في طريق نهضة المسلمين ديني وأن الفلاح والصلاح والخروج من هذه الأزمة -التي كبلت الأمة الإسلامية في سجن التخلف –ما هو إلا الرجوع إلى الدين الحنيف والعمل بما جاء به ،  بعيداً عن الشوائب التي اختلطت بالإسلام ، وجعلت بعض الناس يعتقدون أن الدين الإسلامي دين انحراف، علماً بأن الدين اطهر مما يقولون ، ولذلك وجب على المسلمين أن يحرصوا عليه ، ويترفعوا به عما يضره،وذلك ببناء وتخريج علماء أكفاء لحماية وحمل هذه الأمانة،وإيصالها لأهلها وتعريفهم بها،ومحاربة الفراغ الروحي والغزو الثقافي بفهم الدين بطريقة صحيحة ، والإحاطة بالحضارة الجديدة ومنجزاتها وما وصلت إليه من تطور لاسيما التكنولوجي، ومحاولة الاستفادة من هذه الخبرات لخدمة الدين والمجتمع، وأخذ ما هو صالح لهذه الأمة لأجل تمكينها من اللحاق بالأمم الأخرى والتخلص من التبعية.

 ولابد أن يخرج مفهوم الإسلام من العبادات وحدها إلى العبادات والمعاملات ، وأن تتحول العقائد إلى سلوكيات وقيم ، تظهر في يوميات الناس ، لأن الغاية من تطبيق شرع الله ، استنقاذ الناس من ظلمات الفوضى والجهالة والفساد والاستبداد وخواء الروح، والله يقول لنبيه محمد  صلى اللع عليه وسلم : ﴿ كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور ﴾ .  إن كل مخلص من أبناء هذه الأمة يتحرق قلبه ألما، ويحترق فؤاده غيرة، بسبب ما تمر به الأمة اليوم من ضعف مادي وخواء فكري وتكالب من الأمم عليها ، من خلال انتهاك حرماتها، والاستهانة بدمائها واحتلال أراضيها، ونهب خيراتها، وقد انشغل المسلمون عن هذا الوضع الأليم بحياتهم ، فأضاعوا الدنيا والدين، فلم يفلحوا في إجادة أي منهما، ومن يرى الحياة من خلال واقعه ، وليس من خلال أمانيه ، يدرك أننا فقدنا لأهم القيم التي تحافظ على عزة الإنسان وكرامة أمته- والتي على رأسها: دين الله وشرعه الذي ينشئ الإنسان نشأة عزيزة كريمة، فالعاطفة الإسلامية والإيمان وإن كان موجودًا عند الأمة، وعند الأفراد ، إلا أنهم ابتعدوا كثيرًا عن مقتضيات هذا الإيمان، وعن تنميته، وتربيته الشخصية الذاتية فكان من أخطر ما يهدد وجود هذه الأمة ، هو تخليها عن فكرها المنبثق من عقيدتها ، وعن قيم الأخلاق، والصمود، والوقوف أمام المخططات المناهضة للإسلام بإيمان راسخ، وعزيمة صلبة، وإرادة قوية ، وإعداد الفرد المسلم  لتجاوز الهزيمة والنهوض بالأمة  ، وإذا كان ذلك يحتاج إلى جهود جبارة، وهمم عالية؛ فإنه يحتاج قبل ذلك إلى إعداد النفس وتهيئتها لهذه المهمة العظيمة ، فقد أنزل الله الكتاب والميزان ، ليقوم الناس بالقسط ، وقد أنزل الأسباب التي تحقق نصره، والمخرج من هذا الواقع المرير ، الذي نعيشه ، يكون بالعودة إلى كتاب الله وسنة نبيه عليه وسلم ، علمًا وعملاً وفهمًا وتطبيقًا  وقد حدد هذا المخرج  النبي  صلى الله عليه وسلم في قوله: ( تركت فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدًا: كتاب الله وسنتي ) . وكذلك التمسك بحبل الله المتين، والسير على صراطه لمستقيم، والاجتماع على محكمات الدين التي عناها الله في قوله : ﴿ هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب ﴾ آل عمران 7 ، فهذه المحكمات هي سبب نجاة الأمة ، التي صارَ الإسلامُ عند كثيرٍ مِن أبناءها شعارًا مُحدِّدًا  للهُويَّة فقط؛ تمييزًا بين المسلم وغيره، ولم يَعُدْ له من حقيقته إلاَّ اسمُه، ولا مِن مقاصد نزوله إلا رَسمُه  فانتُهكتِ الحُرُمات وهم ينظرون، وسُبيتِ النساء وهم لا يشعرون، وهُتِكتِ الأعراض وهم في غَفْلة سامدون.

ظَفِرَتْ بِنَا الأَعْدَاءُ يَوْمَ وَدَاعِكُمْ    فَدِمَاؤُنَا فَوْقَ الدِّمَاءِ تُرَاقُ

هُتِكَ السِّتَارُ وَقُطِّعَتْ أَوْصَالُنَا      وَنِسَاؤُنَا نَحْوَ الْهَوَانِ تُسَاقُ

أَوَ هَكَذَا يَنْسَى الْحَبِيبُ حَبِيبَهُ     بِحُطَامِ دُنْيِا مَا لَهَا مِيثَاقُ

 ورغم ذلك فالخير موجودٌ في امتنا ، مهما اشتدّ عليها الخطبُ  وطاف عليها طائف الفساد، إنها كالمطر، الخيرُ فيها لا يزول، ولا تزال تَلِد البدائلَ والعُدول ، روى النسائي عن ثابت البناني عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( أمتي كالمطر لا يُدرى أوله خير أم آخره ) وهذا التشبيه له واقع متجدد نراه ونسمعه ونعيشه، وهو أن خيرية هذه الأمة لا تنفصل عنها ولا تنعدم، وهذا الأمر يرجع لكون عقيدة هذه الأمة ، هي الدافع المحرك ، بغض النظر عن أي اعتبار آخر قوةً كان أم ضعفاً . لقد تميزت هذه الأمة عن غيرها من الأمم بعقيدتها الدافعة التي منحتها القدرة على التغيير ، وكانت القوة التي لا تقهر لا من قبل حاكم ولا من نظام مستبد، وإن الجور  الذي عانته منذ سقوط دولة الخلافة ما هو إلا مرحلة في سيرها نحو النهضة الفكرية المنشودة، فالمهر غال والعروس الجنة، وإن مرحلة الاستعمار والاستقلال وما نتج عنهما من الدمار والخراب لم يزد الأمة إلا صلابة وتمسكاً بعقيدتها لبناء دولتها، بعكس الأمم الأخرى التي سرعان ما كفرت وتنكرت لمبادئها وعقيدتها بين عشية وضحاها وأصبحت أثراً بعد عين  

لقد ابتليت الأمة بأزمات كثـيرة على طول تاريخها، مروراً بأزمة الردة الطاحنة، والهجمات التترية الغاشمة، والحـروب الصليبية الطاحنة، لكن الأمة مع كل هذه الأزمـات والمآزق كانت تمتلك مقومات النصر من إيمان صادق، وثقة مطلقة في الله واعتزاز بهذا الدين، فكتب الله لها جل وعلا النصرة والعزة والتمكين، ولكن واقع الأمة المعاصر واقـع مر أليم فقدت فيه الأمة جل مقومات النصر بعد أن انحرفت الأمة عن منهج رب العالمين وعن سبيل سيد المرسلين ، انحرفت الأمة في الجانب العقدي، والجانب التعبدي، والجانب التشريعي والجانب الأخلاقي، والجانب الفكري، بل وحتى فى الجانب الروحي، وما تحياه الأمة الآن من واقع أليم وقـع وفق سنن ربانية لا تتبدل ولا تتغير  ولا تحابي هذه السنن أحداً من الخلق بحال مهما ادعى لنفسه من مقومات تستدعي المحاباة، بل ولن تعود الأمة إلى عزها ومجدها إلا وفق هذه السنن التي لا يجدي معها تعجل الأذكياء ولا هم الأصفياء قال تعالى : ﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾  

 

 

 

 

 

مشروعية الثورات

رأيت أن أتحدث عن ثورات الشعوب التي ابتليت بنار الظلم والقهر ونهب مقدراتها ؛ فهي ثورات لها أسبابها، ومفاهيمها ، ولها ضوابطها التي تحكمها وترشِّد سيرها، إنها ثورات على الظلم والخيانة وموالاة الأعداء ، الذين حذرنا الله من موالاتهم حتى لا نكون منهم فقال تعالى : ﴿ ومن يتولهم منكم فإنه منهم ﴾ ولأن السلطة لا تكتب مشروعيتها إلا إذا كانت منا لقوله تعالى : ﴿ وأولي الأمر منكم ﴾ فإذا ما أسلمت أنظمة الأمة أرضها وحقوقها ومصالحها للأعداء ، فإن الثورة تكون واجبة ومشروعة ، وما يقوله بعض المنتسبين للعلم الشرعي ، الذين يعلنون أن هذه الثورات خروج على الحاكم وخرق لطاعة ولي الأمر، وأنها بدعة .. إلى غير ذلك من هذه التأويلات الفاسدة ، ومن يقول أن الخروج على الحاكم كان قديمًا يعنى شهر السلاح في وجهه، وما أظن أحدا ينتظر من الإسلام أن يبيح هذا الحق ، لمن يشاء متى يشاء، وكل ما ذكره الإسلام في إطفاء بذور الحرب الأهلية قول الرسول: ( ستكون هنات وهنات فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهى جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان ) وهذا حديث لا غبار عليه وأرقى الأمم الدستورية تعمل بوحيه في أيام حربها وسلامها، فإن حق الثورة المسلحة ليس كلأً مباحا يرعاه كلُّ غضبان، أما اعتبار المعارضة المشروعة خروجًا على الدين وحكومته ، يُقتل من أجلها المعارض ، استدلالاً من الحديث السابق ، فهو ما لا موضع له في أدمغة العلماء؛ لأن الظلمة والمستبدين قتلوا كثيرًا من الناس جريًا على طبائع الاستبداد ، لا اتباعا لأحكام الله، فلا ينبغي الاعتذار للمجرمين ، بأنهم تأولوا آيات الكتاب وأحاديث الرسول g فهم لا يعرفون لله حقًّا، ولا لرسوله حرمة .

كما أن التحذير من الثورات بدعوى الخوف من الفتنة ، والخوف على الدماء والأعراض ، متناسين الدماء التي سفكت ، والسجون التي ملأت من قبل الأيدي الظالمة ، ومتجاهلين أن  النبي g أذِن لأصحابه حين تعرضوا للأذى والظلم بمكة ، أذن لهم بالهجرة للحبشة وعلل ذلك بقوله (فإن فيها رجلا لا يظلم عنده أحد ) . 

وهذا يدل على أن الثورات ضد الظلم والطغيان والفساد، هي سنة من سنن الله في خلقه لا تتخلف في الانتقام من المجرمين، وقطع دابر الظالمين، كما قال تعالى : ﴿ إنا من المجرمين منتقمون ﴾ وقال سبحانه : ﴿ فقُطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين﴾ فالله ينتقم من الظلمة ويقطع دابر الظالمين ، وربما أمهلهم الله إلى أجل ليأخذهم أخذ عزيز مقتدر (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ) وقد وعد الله بنصر من ظُلم وبُغي عليه فقال تعالى : ﴿ ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بُغي عليه لينصُرنه الله ﴾ الحج 60 وفي الحديث القدسي (يقول الله للمظلوم وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين ) . 

وقد رأينا كيف نصر الله المظلومين نصرا لم يتوقعوه ، ولم يخطر على بالهم ، وبهذا يتجلى عدل الله في الدنيا  كما سيتجلى عدله يوم القيامة قال تعالى :  ﴿ ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار ﴾ بتوريث المستضعفين الأرض ، وهي سنة من سنن الله في الخلق، فقد جعل الله الأيام بين الناس دولا ﴿ وتلك الأيام نداولها بين الناس﴾ لتتجلى قدرته وعزته، وأنه وحده مالك الملك ﴿ يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء ﴾  ولهذا يرى الخلق جميعا كيف يعلي الله شأن المستضعفين ، وكيف يذل المستكبرين، وينزع ملكهم قال تعالى : ﴿ ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ﴾ وقد شاهد العالم كله كيف أورث الله كثيرا من المستضعفين ملك بلدانهم   فأخرجهم الله من السجون إلى العروش ، سنة كونية يراها الناس في كل عصر ، فكم قصم الله من الملأ المترفين، وكم دمر من المستكبرين ، حتى أصبحوا أحاديث، وجعلهم آية لمن خلفهم، كما قال تعالى لفرعون حين أغرقه ﴿ الآن وقد عصيتَ قبلُ وكنتَ من المفسدين. فاليوم ننَجِّيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية ﴾ يونس 91  فالله جل جلاله لا يرضى الفساد في الأرض ﴿ ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ﴾ ولا يصلح عمل المفسدين {إن الله لا يصلح عمل المفسدين } وقد أفسد الطغاة الذين أطاحت بهم الثورات  فسادا عظيما ضجت منه الأرض، وسخطت منه السماء، فتجاوزوا الفساد الأخلاقي، إلى فساد جنائي وسياسي ومالي وإداري، حتى صارت أموال الشعوب نهبا لهم ولزوجاتهم وأبنائهم، بينما يموت الفقراء في بلدانهم جوعا وفقرا ، فكان هذا سبب لحدوث التغيير ، فقد جعل الله لكل شيء أسبابه التي يوجد بوجودها، ويتخلف بتخلفها، ومن ذلك أن التغيير في المجتمع لا يحدث إلا حين يتغير الناس ﴿ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ﴾ فلما تغيرت بعض الشعوب وتحررت من الخوف وخرجت عليه، وتصدت له، جعل الله العاقبة لها، وغير أحوالها  بعد عقود من الركود، وسنين من الجمود!

فهذه بعض سنن الله الجارية على الخلق جميعا، وهي سنن كونية لا فرق فيها بين مسلم وغير مسلم، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية (إن الله ينصر الدولة الكافرة العادلة، ويخذل الدولة المسلمة الظالمة  

 أنها ثورات على الظلم والطغيان، وعلى البغي والعدوان، وقد أمر الشارع برد الظلم ، كما قال تعالى في أبرز صفات أهل الإيمان ﴿ والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون ﴾  فأوجب الله على المؤمنين الانتصار ممن ظلمهم، والانتصاف لأنفسهم، ورد العدوان كما في قوله تعالى : ﴿ من اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ﴾ وقد أوجب الله على المؤمنين التعاون على البر والتقوى، وحرم عليهم التعاون على الإثم والعدوان، كما قال تعالى : ﴿ وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ﴾  وحرم الركون إلى الظالمين فقال تعالى : ﴿ ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ﴾ وكما في الحديث (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله) فكل من أعان الظالم على ظلمه ولو بكلمة فقد شاركه في ظلمه وباء به ، وكل من خذل مظلوما وهو يستطيع نصرته ، أو أسلمه للظالم فقد ظلمه! فالواجب التعاون على البر والتقوى ، ومن ذلك التعاون على القيام بالحق، والتصدي للجور والأخذ على يد الظالم، ونصرة من ثار عليه! 

وما يجهل أحكام الله في الظالمين، وما يجري عليهم وما يجب تجاههم ، إلا من طمس الله على قلبه وأشرب حب الطاغوت وحزبه، والمرء مع من أحب، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور!  .

 

 

 

 

 

 

 

جريمة الإنفاق غير المشروع

قال تعالى:﴿ فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن ، وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقولُ ربي أهانن ﴾ الفجر 15 ، وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ليس عطائي إكرامًا ولا منْعي حِرْمانًا ، عطائي ابْتِلاء  وحِرْماني دواء ) فالإنسان مُبْتَلى فيما أُعطي وفيما مُنِعْ  لذلك كان عليه الصلاة والسلام يقول : (اللهم ما رزقتني مما أحب فاجعله عونا لي فيما تحب، وما زللت عنِّي ما أحبّ فاجْعَلْهُ لي فراغًا فيما تحبّ ) . فالمال إن استُعمِل في طاعة الله تعالى، فهو نعمة، وإن استُعمِل في معصية الله تعالى، فهو نقمة  وباب سوء وعذاب؛ لذا يَحرُم الإنفاق في الطرق غير  المشروعة كما هو حال مالكي المليارات هذه الأيام؛ قال صلى الله عليه وسلم: (إن رجالاً يتخوَّضون في مال الله بغير حق، فلهم النار يوم القيامة) لقد عميت عيونهم عن رؤية نعم الله، فغفلت عن شكرها، فما أعطى الله المال إلا لنشتري به الجنة : ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ﴾ التوبة111. فَهِم عثمان بن عفان هذا فاشترى الجنة مرتين: مرة يوم سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( من جهز جيش العسرة فله الجنة )، فجهز جيش العسرة ومرة يوم سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( من حفر بئر رومة فله الجنة  ) فحفر بئر رومة .

دخل مقاتل بن سليمان رحمه الله، على المنصور يوم بُويعَ بالخلافة ، هنا قال أبو جعفر لنفسه: جاء ليعكر علينا صفو يومنا سأبدأه قبل أن يبدأني وقال له: عظنا يا مقاتل قال مقاتل: أعظُك بما رأيت أم بما سمعت؟ قال: بما رأيت قال: يا أمير المؤمنين إن عمر بن عبد العزيز أنجب أحد عشر ولدًا وترك ثمانية عشر دينارًا، كُفِّنَ بخمسة دنانير واشتُريَ له قبر بأربعة دنانير وَوزّع الباقي على أبنائه. ومات هشام بن عبد الملك  فكان نصيب إحدى زوجاته الأربع ثمانين ألف دينار، غير الضياع والقصور، كان نصيب الزوجات الأربع هو ثلاثمائة وعشرون ألف دينار، وهذا هو ثُمن التركة فقط  والله يا أمير المؤمنين لقد رأيت بعيني هاتين في يوم واحد ولداً من أولاد عمر بن عبد العزيز يحمل على مائة فرس في سبيل الله، وولدا من أولاد هشام بن عبد الملك يسأل الناس في الطريق.  هذا عمر عندما سأله الناس وهو على فراش الموت: ماذا تركت لأبنائك يا عمر؟ قال: تركت لهم تقوى الله، فإن كانوا صالحين فالله تعالى يتولَّى الصالحين، وإن كانوا غير ذلك فلن أترك لهم ما يُعينهم على معصية الله تعالى. فتأمَّل كثير من الناس يسعى ويكد ويتعب ليؤمن مستقبل أولاده ظنًا منه أن وجود المال في أيديهم بعد موته أمان لهم، وغفل عن الأمان العظيم الذي ذكره الله في كتابه: ﴿ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ﴾النساء 9. وتأمل في من ورث الملايين بل المليارات، ومع ذلك لم يوظِّف تلك الأموال في خدمة دينه ومجتمعه؛  بل صرفها لخدمة أعداء الله وهذا يدلنا على أنه لا قيمة لغنى الجيوب مهما بلغت أرقامه وأرصدته ، بل القيمة الحقة تكمن في غنى القلوب وقناعتها وإيمانها بأن الإنفاق على الشعوب وصلاحها أجدى وأنفع من المال الذي  ينفق على الملذات والأتوات ، فهل من مدكر؟

 

 

 

أهمية المسجد في الإسلام

المساجد بيوت الله تعالى، ومن أحب الله تعالى أحب بيوته، وأكثر من زيارتها قال تعالى: ﴿ وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً ﴾ 18 الجن. والضيف إذا نزل بساحة الكرماء، و منازل العظماء، أصابه جودُهم وفضلُهم، ونال من أعطياتهم وغنم من إكرامهم، فكيف بضيف نزل بأكرم الأكرمين، وحلّ على رب العالمين..؟ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله  صلى الله عليه وسلم قال فيما يرويه عن ربه: ( إنّ بيوتي في أرضي المساجد، وإنّ زوّاري فيها عمّارها، فطوبى لعبد تطهّر في بيته ثم زارني في بيتي فحقّ على المزور أن يكرم زائره ) رواه أبو نعيم. ولا شك أن أعظم هذه الكرامات، وأفضل هذه الأعطيات، أن يذيقه الله تعالى لذة قربه وحلاوة مناجاته، وأن يمنحه شهادة الإيمان.

فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي  صلى الله عليه وسلم : ( إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان، قال الله تعالى:﴿ إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر ﴾ رواه الترمذي.

وفي منازل القيامة، وأهوال مشاهدها، يكون في ظل عرش الرحمن آمنا مطمئنا جاء في حديث رسول الله : ( سبعة يظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله –ذكر منهم - ورجل قلبه معلق بالمساجد ) متفق عليه. ثم يصله تعالى بنعمة الجنة، وما أعده له فيها من نعيم مقيم ، عن أبي هريرة أن النبي  صلى الله عليه وسلم قال: ( من غدا  إلى المسجد أو راح  أعدّ الله له في الجنة نزلا كلما غدا أو راح ) متفق عليه.

وإذا كان حق الضيف إكرامه، فإن من واجبه معرفة قدر من يزور، والاستعداد لزيارته   والتأدب في حضرته بما يليق وجلال المزور وعظمته ، فهو المدرسة الأولى التي تخـرَّج فيها الصحابة رضي الله عنهـم. فقد كـان لهـم كبير الأثر في جميع المجالات العلمية والدعوية والقضائية والأدبية وغيرها ، فقد أدى المسجد دوره وقام برسالته التي أقيم من أجلها؛ فلم يكن المسجد دار صـلاة فحسـب ، بـل كـان دار اجتماع لكـل المسلمـين ، ومـركزاً لإرسال السرايا والجيوش ، ومنه انطلــق الدعـاة إلى اللـه يعلِّـمون النـاس الخير.

ففد كان المسجد روح المجتمع الإسلامي  ولذلك كان فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الأول عندما هاجر إلى المدينة ، أن يبني المسجد ، حتى يكون مَحْضِناً للرجال ومصنعاً للأبطال ، وكما نعلم أن المصانع نوعان : مصانع للسلع أو الأسلحة ومصانع للرجال ، والحقيقة أن المسجد كان مصنعاً للرجال ، وكل أمة ليس لديها مصنعاً للرجال ، فإن الأسلحة مهما كثرت فلا تغني عنها شيئا ، أما لماذا اهتم الرسول صلى الله عليه وسلم بإقامة المسجد ، لأن الناس الطيبين يوم يكون كلٌ منهم منطوٍ على نفسه بعيدٍ عن أخيه ، لا ينجحون في مقاومة الباطل والضلال ، ولذلك نرى أن الأعداء بالرغم من النجاح العسكري في غزو بلادنا ، فقد عملوا وبجد على ُسحب الإسلام من ميدان المقاومة ، وأن يجعل المسلمين المهزومين لا يلتقون في المساجد لقاءً نافعاً ، وقد تحقق لهم ما أرادوا   فقد أصبحت المساجد صوراً  وأصبح الكلام الذي يلقى فيها ميتاً ، فهانت المساجد رسالة  وهانت مظهراً وجوهراً ، وقد استطاع أعداؤنا أن يجعلوا صلتنا بالمسجد مبتوتة ، بينما تشبثوا بعقائدهم الباطلة في كنائسهم .  

كان المسجد يشكل الملتقى الروحي للناس فيعبدون الله فيه ، ويتعلمون العلوم النافعة لهم في دينهم ودنياهم، ويجتمعون فيه للتداول في أمورهم الداخلية والخارجية، فكانت تنطلق من منابره التوجيهات والتخطيطات المتعلقة بتنظيم حياتهم   كما كانت تنطلق منها صيحات الجهاد. وقد سارت حياة المسلمين في مساجدهم على هذا النحو ، بحيث جسّدت المفهوم الإسلامي للعبادة التي تنفتح على الله سبحانه، لينفتح الناس من خلال ذلك على الحياة في مواقعها المضيئة المتحركة في سبيل الخير.

لقد أصبحت المساجد هذه الأيام ، تعاني من اللغط واللهو والنوم ، وقضاء الأوقات في الأحاديث الدنيوية ، وربّما تعاطي الغيـبة والنميمة  والكذب ، وتناول أعراض المسلمين   وجلوس الناس في المسجد على هذا النحو يخالف أدب المسجد  لحديث أنس مرفوعاً وابن مسعود كذلك : (سيكون في آخر الزمان قومٌ يجلسون في المساجد حلقاً حلقاً، أمامهم الدنيا فلا تجالسوهم، فإنه ليس لله فيهم حاجة) أخرجه ابن حبّان والطّبراني وإسناده حسن . فالتحدث في المسجد في أمر الدّنيا ، وما جرى لفلانٍ ، وما جرى على فلانٍ ، مخالف لتعظيم المساجد ورعاية حرمتها وتنزيهها عن كل ما لا يليق بها ، لذلك طلب من الداخل إلى المسجد ، صلاة ركعتين سنة تحية المسجد قبل الجلوس ، وقبل التكلم مع الغير ، روي عن أبي قتادة  رضي الله عنه  أن رسول الله  صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا دخل أحدُكم المسجد فلا يجلس حتَّى يُصلي ركعتين ) رواه البخاري ، فكم هو عظيم وجليل وجميل أن يفتتح المسلم دخوله إلى بيت من بيوت الله في الأرض بركعتين يُعلِنُ بهما السمع والطاعة   والخشوع والخضوع لله سبحانه ، قطعاَ للحديث بين المصلين ، وانتظاراً للصلاة في  خشوعٍ ووقارٍ وسكينة ، وما يفعله بعض الناس من التحدث قبل الصلاة ، مناف لما أمرنا الله تعالى به من صيانة المساجد وتعظيمها، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بعدم التشويش على المصلي ولو بقراءة القرآن فكيف بالتشويش عليه بأحاديث تتنافى مع آداب المساجد وتعظيمها ، إضافة إلى  التسبّب في هتك حرمتها ، عن السائب بن يزيد الصحابي قال:( كنت في المسجد فحصبني رجل فنظرت فإذا عمر بن الخطاب فقال: اذهب فأتني بهذين، فجئته بهما  فقال: من أين أنتما؟ فقالا: من أهل الطائف   قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ) رواه البخاري.

 لقد ارتبط تاريخ الأمة الإسلامية بالمسجد ارتباطاً وثيقاً ، لأن الإسلام لم يقْصر رسالة المسجد على أداء الصلاة فحسب ، بل أراد أن يكون له دور إيجابي ، وأهداف سامية تخدم المجتمع الإسلامي  فكما أن المسجد محراب للعبادة، فهو مدرسة للعلم، وندوة للأدب ، ومصحة للأرواح ، لهذا نتمنى أن تعود للمسجد رسالته السامية، ومكانته التي كان عليها في صدر الإسلام ، ليعيش المسجد في هذا العصر ، كما كان في الماضي ، وأن لا يقتصر دوره على أداء الصلوات ، وطلب العون والمساعدات والإعلان عن المفقودات ، وعلى مداخله تباع السلع والحاجيات ، عن أبي ذر قال : قلت يا رسول الله كيف تعمر مساجد الله ؟ قال : ( لا ترفع فيها الأصوات، ولا يخاض فيها بالباطل ولا يُشتر فيها ولا يُباع واترك اللغو ما دمت فيها، فإن لم تفعل فلا تلومنّ يوم القيامة إلا نفسك ) . فيه النهي عن الاشتغال بأمور الدنيا  والبيع والشراء، والبحث عن ضائع ، كما جاء النهي عن ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم  حينما رأى رجلاً ينشد ضالته في المسجد فقال له : ( لا رده الله عليك فإن المساجد لم تبنى لهذا ) لماذا قال ذلك . لأن المسجد مكان للعبادة ، ولذلك نقول لمن يتحدث في المسجد بأي شيء يتعلق بحركة الحياة " أبشر بأنها لن تنفع " لأنك دخلت المسجد للعبادة فقط ، فلحظة دخولك المسجد هي لحظة جئت فيها لتتقرب من ربك وتناجيه ، وتعيش في حضن عنايته ، فلماذا تأتي بالدنيا معك ؟ وليكن لنا في أحد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة حسنة كان يقول : كنا نخلع أمر الدنيا مع نعالنا     فقال له صحابي آخر وزد : إننا نترك أقدارنا مع نعالنا . لا يخلع الدنيا مع نعله فقط على باب المسجد ، ولكن يخلع أيضاً قدره في الدنيا . لأن الدنيا يا أخي تأخذ منك ساعات اليوم الكثيرة   ولكن المسجد لن يأخذ منك إلا الوقت القليل   فضع قدرك مع نعلك خارج المسجد ، وادخل بلا قدرٍ إلا قدر إيمانك بالله ، واجلس في المكان الذي تجده خالياً ، ولا تتخط الرقاب لتصل إلى مكان معين في المسجد ، كما نلاحظ من يتخطى الرقاب ليجلس في الصف الأول ، وما درى أن الله قد صف الصفوف قبل أن يأتي هو إلى المسجد   فاجلس حيث ينتهي بك المجلس ، ولا تتخط الرقاب ، فقد كان رسول الله يجلس حيث ينتهي به المجلس ، أي عندما يجد مكانا له .

وللمسجد آداب منها : الذهاب إلى المسجد على طهارة تامة، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ﴿ من تطهر في بيته ثم مضى إلى بيت من بيوت الله، ليقضي فريضة من فرائض الله، كانت خطواته إحداها تحطّ خطيئة والأخرى ترفع درجة ﴾ رواه مسلم ، كما ينبغي المحافظة على المظهر الحسن ، ولبس الثياب النظيفة، والتجمّل والتطيّب ، عند ارتيادها والدخول إليها عملاً بقوله تعالى : ﴿ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ﴾ الأعراف 31 . ومعنى ذلك أن يلبس المصلي لباساً لائقاً بالمساجد ، و الحذر من ارتيادها بملابس غير لائقة ، كأن يأتي الإنسان إلى المسجد بثياب النوم أو بملابس العمل المتسخة   فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يلبس أحسن ثيابه ، لأن الإنسان يقف بين يدي الله عز وجل فيجب أن يستشعر عظمته والتجمل والتزين بأحسن الثياب وأطهرها أرأيت لو دعيت لمقابلة ملك أو مسئول في الدنيا ، ألا تلبس أحسن الثياب ، فكيف وأنت تقف بين يدي ملك الملوك ورب الأرباب.  

ومنها : تجنب أكل الثوم أو البصل، وما له رائحة كريهة، عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من أكل ثوما أو بصلا فليعتزلنا، أو فليعتزل مسجدنا ) متفق عليه.

ومنها : صيانة المسجد من الأطفال والمجانين  وتشجيع الصبية الذين تجاوزوا السابعة وإحضارهم الى المسجد تعويدا لهم على العبادة، وتحبيبهم بالمساجد مع تعليمهم آدابها قبل دخولها، والإشراف عليهم أثناء وجودهم فيها لتوجيههم وتنبيههم عند الإخلال بحرمتها أو مخالفة آدابها  .

ولكن المساجد هذه الأيام تعاني من الأطفال الذين يلعبون و يتسامرون داخل بيت الله على مرأى من الكبار و الرجال دون وجود من يوجههم أو يرشدهم، حتى وضعية جلوسهم التي تدل على أنهم لا يعرفون آداب المسجد، لكن الخطأ ليس خطأهم إن ذهبوا للمسجد بدون مرافق، بل الذنب على أولياء أمورهم بالدرجة الأولى الذين لا يصطحبون أبنائهم معهم ، ولا يحرصون على إبقائهم بجانبهم أثناء الصلاة ، وتعليمهم ما لا يعرفونه إن أخطأوا ، حتى تكون نشأتهم الدينية سليمة و يحسوا بقيمة بيوت الله ، لأن الطفل المؤذي والمشوش على المصلين يجب تعليمه وتربيته على آداب المساجد وصيانتها عن الأذى والإيذاء، فإن لم يفهم ولم يعقل وجب منعه ، بإجماع الفقهاء ، وما صدر عن دور الإفتاء في هذا العصر يقول الشيخ عبد الله  الجبرين رحمه الله :

"منع الصبيان ونحوهم من المساجد عند خوف العبث واللعب فيه: وذلك أن من طبيعة الأطفال كثرة اللعب والحركة، والتقلب والاضطراب، مما يشوش على المصلّين والقراء، وأهل الذكر والعلم، ولا يستطع وليه التحكم في تسكينه غالبًا، فهو في الصلاة يكثر الالتفات والتقدم والتأخر، ومد اليدين، وحركة القدمين، وذلك مما يشغل من يصلي إلى جانبه، ويلهيه عن الإقبال على صلاته، مما يذهب الخشوع، وينقص الأجر، ثم إن الأطفال الذين دون سن التمييز لا يؤمن تلويثهم للمسجد، فقد يحصل منهم التبول ونحوه، والروائح المستكرهة، واللعاب والبصاق ونحو ذلك، لعدم فهمهم بحرمة المكان، وصعوبة تأديبهم، والتحكم فيهم، فلذلك يتأكد على أوليائهم منعهم من دخول المساجد إلا بعد التأكد من فهمهم، وتعلمهم احترام المسجد، وتربيتهم على النظافة والأدب، وحفظهم عن كثرة الحركة وما يسبب ضررًا أو تشويشًا للمنظر الظاهر في بيوت الله التي أذن أن ترفع.

 

 

 

 

 

 

 

تشبهوا بهم إن لم تكونوا مثلهم

من العلماء والأئمة المجتهدين والمجاهدين من لهم الفضل ، بعد الله ، في إعلاء كلمة الحق باجتهادهم في شتى العلوم الدينية والدنيوية في وقت نحن بحاجة ماسة إلى نشر سيرهم حتى نسهم في ابتعاث ماضيهم الزاهر ، ليصل حاضر الأمة بماضيها ، وليطلع عليها جيلنا ، ليرى من خلال تلك السير ، عظمة الرجال الذين بنو مجد الإسلام ، وبالتالي يدرك سر انتشار الإسلام وسر انكماشه على أيدي من بعدهم ، ويدرك صدق القائل: "يا له من دين لو أن له رجال" لقد فقه سلفنا الصالحون عن الله أمره، وتدبروا في حقيقة الدنيا  ومصيرها إلى الآخرة، فاستوحشوا من فتنتها وتجافت جنوبهم عن مضاجعها، وتناءت قلوبهم من مطامعها، وارتفعت همتهم على السفاسف فلا تراهم إلا صوامين قوامين، باكين والهين، قد حفلت تراجمهم بأخبار زاخرة ، تشي بعلو همتهم في التوبة والاستقامة، وقوة عزيمتهم في العبادة والإخبات ، يقولون: حينما يشعر الإنسان بالإحباط، وحينما يفقد المثل الأعلى يهرب إلى الماضي ليعوض ما فقده في الحاضر ، فيقرأ سيرة أولئك الرجال ، الذين ضحوا بحياتهم من أجل رفعة الإسلام والمسلمين ، فليكونوا لنا قدوه نقتدي بها  في عصر لا توجد فيه قدوة نتأثر بها أو نقتفي أثرها قرأنا في التاريخ عن عدل عمر بن عبد العزيز  وبطش الحجاج بن يوسف الثقفي  ذاك خليفة عادل ، وهذا حاكم سفاح،  فمن يجعل من الحجاج قدوة له  ويترك الاقتداء بعدل عمر فقد ضل الطريق، وهناك تجارب إسلامية قديمة وحديثة  أساءت تطبيق الإسلام ، لكنها ليست حجة على الإسلام ، لأن الإسلام هو الحجة على الناس ، وما كان الناس في يوم من الأيام حجة على الإسلام ، وما ينبغي أن يتكلم باسم الإسلام إلا من يفهمه فكراً ومنهج حياة ، لقد خلد التاريخ ذكر الرجال الذين يقتدى بهم ، وكانوا ترجمة صادقة لدين الله ، بل كانوا معجزة من معجزات الإسلام ، فهذا عبد الله ابن المبارك من تابعي التابعين ،كان كما قال الإمام النووي   إماما في الفقه والحديث واللغة والأدب ، وكان يكتب كل ما سمعه ، وكان يطلب الدرس والعلم لوجه الله تعالى ، وكان من أشهر عباد زمانه وأكثرهم زهدا, وكان من فقهه وعبادته وزهده كما فى كتب الطبقات والتراجم ، كان يربح مئات الألوف من الدراهم ، وعندما قال له تلاميذه   تكلمنا عن الزهد وأنت وتربح مئات الألوف ، كيف نفهم هذا ؟ قال بهذا المال أصون وجهي ، وأكرم عرضي ، وأستعين على طاعة ربي ، ولا أرى حقا إلا سارعت إليه، نعم هذا كلام صحيح وفقه سديد ، لأن من لا دنيا له لا يستطيع حتى القيام بالتكاليف الشرعية، وقد أُمرنا أن نوازن بين الدنيا والآخرة والله يقول: ﴿ فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ , وهذا هو التوازن المطلوب ، دل عليه قوله تعالى :﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾.

فالإسلام لا يأمر أن نترك الدنيا وأن نستدبرها وإنما نوازن بين السعي للدنيا والسعي للآخرة ، فلا يتناقض الزهد مع الكسب قال تعالى: ﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ﴾   كان عبد الله ابن المبارك تاجرا كبيرا ، وكان فقيها وعابدا لكنه لم يرجح جانبا على جانب كانت الدنيا في يده ، ولم تكن في قلبه ، فقد ضم إلى الفقه والعبادة ، الجهاد والمرابطة ، ففي أول مرة له رابط في بلاد الشام  نظر إلى صاحبه وهو يرى تضحيات المجاهدين ، ويرى بطولاتهم فقال له : " إنا لله وإنا إليه راجعون يا حسرة على أعمال أفنيناها وليال قضيناها في قرض الشعر وتركنا أبواب الجنة هنا مفتحة " ويقصد بأبواب الجنة الجهاد والرباط في سبيل الله ، ولما سأل عن صاحبه الفضل بن عياض في ميدان الجهاد والرباط قالوا له : إنه معتكف للعبادة في مكة والمدينة المنورة فكتب إليه  يقول له :

يا عابد الحرمين لو أبصرتنا  لعلمت أنك في العبادة تلعب

من كان يخضب خده بدموعه   فنحورنا بدمائنا تتخضب

أو كان يتعب خيله في باطل    فخيولنا يوم الكريهة تتعب

والسؤال هل تتحول العبادة إلى لعب؟ نعم تتحول عندما يضعها الإنسان في غير موضعها ، فالعبادة صنوف كثيرة ، وشعب متعددة ، وقد يختار الإنسان العبادة التي هي أدنى إلى هواه أو أقرب إلى السلامة ، فمثلاً الغني الذي يكثر من الصلوات خاصة في النوافل لكنه يقتصد في النفقات والصدقات ، هذه عبادة أقرب إلى اللعب واللهو، أو العالم الجبان، الذي يصوم النهار ويقوم الليل ، ولكن إذا طلب منه أن يقول الحقيقة يلوذ بالصمت، علماً بأن عبادة الغني بعد الفريضة أن يبسط يده للمحتاجين والملهوفين ، وعبادة العالم أن يعلم الناس الحق ، وأن يقول الحقيقة ، وأن يكون قواما بالقسط ، يقول ابن عطاء الله السكندري : من علامات إتباع الهوى المسارعة في نوافل الخيرات والتكاسل بالقيام بحقوق الواجبات ، وقد قدم لنا عبد الله ابن المبارك رحمه الله نموذجا لفهم العبادة على هذا النحو الرفيع ، ولذلك يقول لصاحبه : يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تلعب أي تترك واجب الجهاد والرباط ، وتذهب إلى هناك تتعبد بالنوافل ، روي أن عبد الله بن المبارك كان يغزو عاما ويحج عاما ففي عام من أعوام حجه في سفره إلى الحج ، وجد في مغارة امرأة تلتقط هرة وتذبحها للأكل فذكرها بالآية ﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ﴾ فأجابته بباقي الآية: ﴿ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ فلما علم بأنها مضطرة لتطعم أولادها الجياع الذين عضهم الجوع بنابه ، وشارفوا على الهلاك ، ولم يجدوا ما سوى الميتة ، أعطاها ما كان معه من مال وطعام إلا ما يكفيه للرجوع إلى بلده ، ولم يحج تلك السنة،كان يفهم العبادة على حقيقتها وأنها ليست مجرد الحفاظ على القشور والشكليات ، دفع إليها هو ومن معه نفقة الحج كلها ، ولم يبق معه إلا ما يكفيه للرجوع من حيث أتى ، وقال عبارة عظيمة , لمن معه هذا أفضل من حجنا هذا العام  وكان من أخلاق عبد الله أنه كان يتخفى وهو يقوم بواجب الجهاد في سبيل الله ، حتى يبتعد عن مواطن الرياء ، وهذا يذكرني بالرجل الذي جاء إلى عمر بن الخطاب ، وهو ملثم ووضع بين يديه كميه من الذهب ، استولى عليها في الحرب ، ثم ولى ، فيأخذ العجب أمير المؤمنين ويقول : إن قوما أدوا هذا لأمناء ، فيقول الناس من حوله يا أمير المؤمنين ! عففت فعفو ، ولو رتعت لرتعوا أنت القدوة . وفي عصر صلاح الدين الأيوبي  كان يرقب معسكر الأعداء ، فرأى حريقاً اشتعل مرتين في معسكر الأعداء فاستغرب ، فرأى رجلا من جند المسلمين يخرج من معسكر الأعداء بعدما شب الحريق ، فعلم انه وراء ذلك ، فاستدعاه وقال له: ما اسمك فرفض الرجل أن يقول اسمه لصلاح الدين ، وعاد وقال له : ما اسمك قال : يعلمه الله قال : إني أريد مكافئتك ، فقال له : والله لو أردت المال لما رأيتني هنا ثم انصرف وشأنه .  كان لعبد الله كلاماً في غاية البلاغة ، فقد سئل ثلاثة أسئلة : "من الذين يستحقون هذا الاسم؟ ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ قال: العلماء ، ومن الملوك؟ قال: الزهاد الذين ركضوا الدنيا بأقدامهم ، فقيل له من السفلة المنحطون؟ قال: الذين يأكلون الدنيا بالدين " أي يسخّرون الدين لمصالحهم ، ولما سئل عن التواضع قال : التكبر على المتكبر " ووقف ذات يوم وأشار بيده إلى المقبرة وقال: " هذا كنز الرجال ، ثم أشار بيده إلى مزبلة وقال : هذا كنز الأموال ، نهاية الأموال هنا ، ونهاية الرجال هناك" ما أحوج امتنا إلى أن تعود إلى مصدر قوتها ، وفيض عزها وكرامتها ، بالعودة إلى تاريخها ومقومات دينها ، وما أحسن القدوة في مدرسة الرسول الأعظم ، التي خرجت رجالاً عرفوا معنى الحياة ، وواجب الأحياء في إعلاء كلمة الله ونصرة دينه ، فعاشوا لأمتهم أبطالا وماتوا في سبيلها بررة كراما ، وخلفوا من ورائهم مجدا سادت به الدنيا قيادة وفكرا وأسوة ، وحققوا لها مكانها الذي ارتضاه الله لها حيث يقول : ﴿ كنتم خير أمة أخرجت للناس ، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ﴾ آل عمران 110 . 

 

 

 

فتنة الموضة

 من نعم الله على عباده ، نعمة اللباس والزينة   وقد امتن الله على عباده بهذه النعمة في قوله تعالى: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾ الأعراف:26  وريشا ما يُتجمل ويُتزين به ، واللباس والزينة منحة ربانية  ونعمة عظيمة، والنعمة واجب على العباد شكرها، ومن شكرها لله أن لا نتعدى فيها حدود الله، وأن نأخذها بحقها، وأن نضعها في محلها الذي وضعها الله فيه، وقد ظهرت في زماننا هذا أشكال من اللباس والزينة في أوساط الشباب والشابات ، وافدة من الغرب، فيها امتهان لشخصية المسلم وكرامته ، اعتقاداً منهم أن لا ممنوع في اللباس والمظهر، بتصميمات مختلفة منها التركي والأسباني والخليجي ، ورسومات ووشم علي الأيدي والكتف وسلاسل وأساور يرتديها الشباب قبل الفتيات، وأشكال يقلدوها دون معرفه أصولها أو الهدف منها ، فمن قصّات الشعر التي لكل قصَّهٍ منها قصّْةٍ ومسمى ، كرأس الديك وجسد القنفد ورجل الزرافة ، إلى ارتداء البنطلونات بأشكالها المختلفة المواكبة للموضة فمنها : البرمودا والمقطع والتنانير الطويلة والقصيرة والحجاب الستايل والبنطلون الساقط الذي أصبح منتشراً جدا في المجتمع الغربي   وفكرة هذا البنطلون مأخوذ من السجون في أمريكا التي كانت لا تعط للمساجين حزام للبنطلون كي لا يشنقوا به أنفسهم أو لفض النزاع بينهم ، وقد حاولت بعض المدن الأمريكية منع هذه الموضة بصوره قانونيه، ففي ولاية لويزيانا صدر قرار بحبس كل من يرتدي البنطلون الساقط لمده ستة اشهر وغرامه 500 دولار، وفي ولاية نيوجرسي ، فان القبض علي من يتبعون هذه الموضة يُعني غرامه كبيرة بالإضافة للقيام بأعمال لخدمه المجتمع مثل نقل القمامة ، كما حظر مجلس الشيوخ الأمريكي ارتداء الطلاب لهذا البنطلون، ووافق علي قانون جديد يقضي بحرمان الطلاب الذين يرتدون تلك السراويل من الحضور إلي المدرسة ، وهناك البنطلون المقطع والبنطلون الضيق الذي يثير الاشمئزاز ، ولا يقف الأمر عند هذا الحد ، ولكن هناك بعض الملابس المكتوب عليها باللغة الإنجليزية ، واغلب الشباب لا يفهمون ما المقصود منها ، لكنهم يعتبرونها موضة جديدة ، وبعض الكلمات المكتوبة علي الملابس قد تسئ لمرتديها ، فقد تكون غير أخلاقية أو تعبر عن شئ ما ، وكل هذه تحت شعار "الموضة"، والمستفيد الوحيد هم المروجين لهذه السلعة.

إن مسايرة هذا الواقع من الفتنة التي لا ينجو منها  إلا من رحم الله ، وجاهد نفسه ، لأن ضغط الفساد ، ومكر المفسدين ، وترويض الناس عليه ردحاً من الزمان ، جعله متمكن من القلوب  وشربته النفوس حتى ألفته وأحبته .

ومن أعظم ما حصل من هذه الفتن في العصر الحاضر : مسايرة النساء في لباسهن للفاسقات والكافرات ، وتقليدهن لعادات الغرب الكافر    في الأزياء ، وصرعات الموضات ، وأدوات التجميل ، حتى صرنا نرى أكثر نساء المسلمين على هيئة في اللباس والموضات التي ينكرها الشرع   والعقل ، وتنكرها المروءة والغيرة ، وكأن الأمر تحول إلى شبه عبودية لبيوت الأزياء ، يصعب الانفكاك عنها .

يقول صاحب الظلال عن هذه العادات والتهالك عليها ، وسقوط كثير من الناس فيها : " هذه العادات والتقاليد التي تكلف الناس العنت الشديد في حياتهم ، ثم لا يجدون لأنفسهم منها مفراً . وهذه الأزياء والمراسم التي تفرض نفسها على الناس فرضاً ، وتكلفهم أحياناً ما لا يطيقون من النفقة ، وتأكل حياتهم واهتماماتهم ، ثم تفسد أخلاقهم وحياتهم ، ومع ذلك لا يملكون إلا الخضوع لها : أزياء الصباح ، وأزياء بعد الظهر   وأزياء المساء ، الأزياء القصيرة ، والأزياء الضيقة  والأزياء المضحكة ! وأنواع الزينة ، والتجميل  والتصفيف إلى آخر هذا الاسترقاق المذل : من الذي يصنعه ؟ ومن الذي يقف وراءه ؟ تقف وراءه بيوت الأزياء ، وتقف وراءه شركات الإنتاج ! ويقف وراءه المرابون في بيوت المال والبنوك من الذين يعطون أموالهم للصناعات ليأخذوا هم حصيلة كدها ! ويقف وراءه اليهود الذين يعملون لتدمير البشرية كلها ليحكموها !)  

لقد وضع الإسلام للمرأة سياجاً قوياً مانعاً من الضياع ؛ ذلك هو سياج الحشمة والعفاف   ولكن اليهود لم يعجبهم ذلك منذ قديم الزمان   فقد تآمروا قديماً على نزع حجاب المرأة المسلمة   وكشف سوءتها في سوق بني قينقاع ، أيام رسول الله  صلى الله علسه وسلم ومازالت حربهم لا يزيدها الزمن إلا اشتعالاً ؛ لأنهم يدركون جيداً أن إفساد المرأة المسلمة إفساد للمجتمع برمته .

فمعظم الذين يتحكمون اليوم في بيوت الأزياء  ويشعلون أجيج هذه الفتنة هم اليهود ، وأهدافهم ليست تجارية بحتة ؛ إنها تهدف إلى ما هو أسوأ من ذلك ، وهو هدم البنية التحتية للأسرة ، عن طريق إفساد المرأة ، لكونها القاعدة التي يرتكز عليها بنيان الأسرة ، بل المجتمع بأسره .

ومن المعلوم أن أكبر مستهلك على وجه الأرض  وفي كل بلد هي المرأة ، خاصة فيما يتعلق بأزيائها ، وجمالها ، وشكلها ، ومواكبتها للعصر  

والذين يسيطرون على بيوت الأزياء ، هم الذين يجلسون على عرش الإعلام ، ومن خلاله ينفذون إلى بيوت المسلمين بلا استئذان ، ويعرضون أفكارهم المسمومة عن طريق قنواته ، المرئية   والمسموعة ، والمقروءة ، لتلويث الدماغ   وتأسيس قواعد ثابتة ليس فقط في بلاد المسلمين بل حتى في قلوبهم ، إلا من رحم ربي .

ومن خلال الوسائل الهائلة التي يمتلكها اليهود  يلعبون بمعظم النساء كما يشاءون ، ويتحكمون في رغباتهن؛ فهم الذين يصنعون تلك الرغبات   ويصنعون عندهن إحساساً بأنهن ناقصات  متخلفات ، إذا لم يسايرن آخر الصيحات .

ومما يؤسف له أن نرى نساءً في بلادنا لا نقول : إنهن لكاسيات عاريات ؛ ولكنهن عاريات عاريات ، وقل أن نجد الآن دوراً أو مجلات تعرضهن بزي محتشم ، فموضة اللباس هذه توحي بأنه لم يعد عرضاً للباس ، ولكنه عرض للأجساد   واللحوم الرخيصة ، التي تُعرض بطرق دنيئة  وحركات مهيجة ، وأشكال ممقوتة ، تأباها الفطرة السليمة ، ويرفضها العقل المتزن .

  لقد تلاعب دعاة الموضة بالكثير من الشباب والشابات ، تلاعباً عجيباً  فابتكروا  أنواعاً عديدة من الملابس الفاضحة ، التي تحمل أسماء مختلفة : الميني   والميكرو , والتوبلس ( أي : الصدر العاري ) ، والسيرو ( أي : الشفاف الذي ترى ما تحته ، مخالفين الشرع وما اعتاده الناس من الحشمة والوقار ، ولكنها موضة العصر التي تسيطر على عقولهم ، والعقل الذي تسيره الموضة كيفما تريد ، هو عقل فاقد للوعي والإرادة سريع الانقياد للمهالك ، يسهل التحكم فيه لإبعاده عن القيم والمبادئ الأخلاقية النبيلة ، كما يسهل إبعاده عن دينه ، وتحويله إلى الوجهة التي يريدها له أعداؤه وأعداء دينه وأمته .

لقد أصيبت هذه الأمة في أعز ما تملك, وهو دينها الذي أعزها الله به, فنسيته أو تناسته, وسيطرت عليها الأهواء, والشهوات, وانطلقت بسرعة البرق تأخذ ما عند الأمم الأخرى, من باطل وضلال, وتقلدهم في فسقهم, وفجورهم وانحرافهم, تقليداً أعمى, لا تفريق فيه بين النافع  والضار. ومن أعنف مظاهر هذا التيار اندفاع المرأة المسلمة لمحاكاة المرأة الغربية في أوضاعها المختلفة وبخاصة في لباسها, وزينتها التي كان لها أكبر الأثر على غياب الفضيلة, وانتشار الرذيلة  وتفشي الانحلال, والتفسخ في المجتمع الغربي.

إن اللباس من النعم الكبرى التي امتن الله به على عباده, شرعه لهم ليستر ما انكشف من عوراتهم  وليكون لهم بهذا الستر  زينة وجمالاً بدلاً من قبح العُري وشناعته.

فستر الجسد من الحياء, وهو فطرة خلقها الله في الإنسان, فكل ذي فطرة سليمة يحرص على ستر عورته, وينفر من انكشافها وتعريها, ومن هنا يمكن الربط بين الحملة الضخمة الموجهة إلى حياء الناس وأخلاقهم, وبين الدعوة السافرة إلى العُري الجسدي, باسم الزينة  وبين الخطة الصهيونية لتدمير إنسانية الإنسان ، والتعجيل بانحرافه  ليسهل استعباده والسيطرة عليه, فيصبح ألعوبة في أيديهم يسخرونه لخدمة مصالحهم الخاصة.

 إن مسايرة الموضة ما هو إلا نتيجة إبتعاد الناس عن منهج الله للحياة, وإتباعهم مناهج الشيطان  ولكي يعود لهذا المجتمع بهاؤه ورونقه وسعادته  لابد من أن نضع أصبعنا على موطن الداء. وأن نحدد على من تقع المسؤولية في معالجة هذا الداء  وكيفية استعمال الدواء, ليتم الشفاء من جميع هذه الأمراض الخلقية الذميمة.  

أن طريق النجاة من الأوضاع المتردية ، يكمن في الرجوع إلى الله, والتزام منهجه الذي ارتضاه لنا دستوراً للحياة, فيلتزم كل فرد في المجتمع القيام بمسؤوليته, فيقوم بواجبه نحو الله أولاً ثم نحو أمته ووطنه, فالكل مسؤول عن رعيته, فالحاكم راعٍ وهو مسؤول عن رعيته  والرجل في أهله راعٍ وهو مسؤول عن رعيته والمرأة في بيتها راعية وهي مسؤولة عن رعيتها   وكلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته.

 فمسؤولية كل فرد تنبع من شعوره بتقوى الله ومراقبته ، والشعور بأنه مسؤول أمامه ، ومن هنا فمسؤولية الرجل, سواء كان أباً أو زوجاً, أو أخاً مسؤولاً, أن يبين لأهل بيته الأحكام التي تخُصُّ  أمور الزينة واللباس, موضحاً لهم أن التزيين وسيلة وليس غاية في ذاته, ومسئولية ولاة الأمر توجيه وسائل الإعلام , حتى تبني ولا تهدم ، والعمل على تطبيق منهج الله ، بدلاً من مناهج الكفر والضلال : ﴿ ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل من ﴾ .    

 

 

 

الاستهزاء بالدين وأهله

  إن الموفق من وفَّقه الله ، فوزن ألفاظَه قبل أن توزن  وفكَّر في عواقبها ونتائجها، فما كان من الكلام خيراً نطق به، وما كان شراً أمسك عنه قال تعالى : ﴿ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ ق 18 . فكم من كلماتٍ قضت على كثير من صالح الأعمال       لذلك يطلب من المسلم ألا يقول إلا خيراً ، وأن يعرض عن الباطل قال تعالى : ﴿ وَٱلَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً ﴾ الفرقان72 . كما ينبغي أن يبتعد عن كل ما يمكن أن يوقع في الكفر   كالاستهزاء بالله ودينه  ورسوله، أو السخرية بأوامر الله ونواهيه أو بوعده ووعيده ، لأن ذلك  من أخلاق المنافقين ، الذين آمنوا بألسنتهم وكفرت قلوبُهم قال تعالى : ﴿ وَإِذَا لَقواْ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ قَالُوا ءامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَـٰطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ ﴾  البقرة 14 ، فقد يكفر الإنسان بكلمة وهو يلعب ويضحك ولا يشعر: ﴿ قُلْ أَبالله وآياته وَرَسُولهِ كُنْتُمْ تَسْتَهزءون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم ﴾ التوبة 65 . وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقبل عذراً من مستهزئ ، ولم يلتفت لحجة ساخر ضاحك، وقد انعقد إجماع علماء الأمة على أن الاستهزاء بالله وبدينه وبرسوله كفر ، يقول أبن قدامة المقدسي : من سب الله تعالى كفر سواء كان مازحاً أو جاداً ، وكذلك من استهزأ بالله تعالى أو بآياته أو برسله أو كتبه ، وقال النووي : والأفعال الموجبة للكفر هي التي تصدر عن عمد واستهزاء بالدين، وقد حذر الله سبحانه وتعالى المؤمنين ونهاهم عن خلق السخرية والاستهزاء ، لكي يقوم المجتمع المسلم على الصدق والحق والاحترام والجدية ، بعيداً عن عيوب الجاهلية وأخلاقها قال تعالى : ﴿ يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ﴾ الحجرات 11 .   ينهى الله سبحانه عن السخرية بالناس ، باحتقارهم والاستهزاء بهم ، لأن لكل إنسان في المجتمع المسلم أدبه وكرامته التي لا تمس ، فنهى عن الغيبة والنميمة والتنابز بالألقاب التي يكرهها أصحابها ، لأن من حق المؤمن على المؤمن ألا يناديه بلقب يكرهه .

 هناك فئة من أبناء المسلمين انحرفت عن الحق   واستسلمت للشهوات ، تكره ديننا وتستخدم سلاح السخرية والاستهزاء لمعارضتة ، وهناك كتاب وقصاصون ، وإذاعيون وفنانون ونساء فاجرات متحررات من كل فضيلة ، وأصحاب خمور ومخدرات ، تراهم يتلذذون بالاستهزاء بالله وآياته  ورسوله والمؤمنين ، ويتلذذون بالضحك على الناس والاستهزاء بهم ، والسخرية منهم ، وقد جاءت الأحاديث تحذّر وتبين واقع هؤلاء الهازلين المستهزئين ، الذين يختلقون الأكاذيب وأساليب الغمز واللمز بالمؤمنين والمؤمنات ، ليضحكوا الناس   وقد جاءت الأحاديث النبوية تبين مصير هؤلاء فقال صلى الله عليه وسلم : ( ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك القوم   ويل له ويل له ) وقال : ( إن الرجل ليتكلم بالكلمة ليضحك بها جلساءه يهوي بها من أبعد من الثريا ) .

 ولا يحدث هذا إلا ممن مسخت عقولهم وفتنوا بالحضارة الغربية ، فأنتجوا أفلاماً ومسرحيات هزلية  فيها من السخرية والاستهزاء ما يخرج من الملة ، فهذا شاعر المزبلة الفكرية نزار قباني ، يقول في قصيدة بعنوان أصهار الله : وهل غلاء الفول والحمص والطرشي والجرجير شأن من شؤون الله ؟ . وهذا محمود درويش يقول : نامي فعين الله نائمة عنا وأسراب الشحارير . أما كبيرهم الذي علمهم السحر بدر شاكر السياب فهو القائل : فنحن جميعاً أموات . أنا ومحمد والله ، وهذا قبرنا أنقاض مئذنة معفرة ، عليها يكتب اسم محمد والله . ثم يقول :  وإن الله باق في قرانا ما قتلناه ، ولا من جوعنا يوماً أكلناه ، وهذا معبود الجماهير كما وصفوا يغني : قدر أحمق الخطا ، تعالى الله وتقدس عن هذا الكفر والنقائص ، وهذا صلاح جاهين رسام الكاريكاتير المعروف ، صور في يوم من الأيام ، صورة هزلية في جريدة الأهرام ، رسم فيها رجلاً بدوياً ، يرمز به إلى رسول الله  صلى الله عليه وسلم ، يركب حماراً في وضع مقلوب   ليكون رمزاً للرجعية ، وفي أرضية الصورة ديك وتسع دجاجات ، وعنوان الرسم محمد أفندي جوز التسعة ، وهذا من أقبح الهجوم والاستهزاء والسخرية على رسول الله صلى الله عليه وسلم . وهكذا يلتقي الحقد الصليبي النصراني مع الإتجاه العلماني الإباحي في مقال ورسم كاريكاتير ظناً من هؤلاء أنهم سيطفئون نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون .

وهذا ساخر يهزأ بأبي ذر الغفاري فيقول : عادل إمام مثل أبي ذر الغفاري ( يمشي وحده ، ويموت وحده ، ويبعث يوم القيامة وحده )  . وهكذا يُشَبه رمز من رموز العفن الفني وأصحاب السقوط الأخلاقي وسفِلةِ الناس بأصحاب رسول الله الأبرار الأطهار ، وهذا سفيه مستهزئ ساخر بالصلاة والمصلين يقول : أيها المصلون إذا ذهبتم للجنة فخذونا معكم . وما نشرته روز اليوسف  يوما     كاريكاتيرياً تصور فيه شاباً متديناً له لحية طويلة جداً يؤذن في منارة مسجد ، فبدلاً من أن يقول : حي على الفلاح قال : حي على السلاح . ومن يسخر باللحية فيقول : لو كان في اللحية خير ما نبتت في الفَرْج ، والأمثلة من الساخرين تطول .

 إن الاستهزاء الفاضح والسخرية اللاذعة بدين الله وشريعته وسنة نبيه ،كالاستهزاء بتحكيم الشريعة الإسلامية ووصمها بأنها شريعة الرجعيين والأصوليين   وأن فيها وحشية ! إذ كيف تقطع يد السارق ويُرجم الزاني المحصن ، وما علموا أن هذا إنكار لعلم الله الواسع المحيط بكل شئ ، وتنديد بحكمته ورحمته بل تمادى ورثة المنافقين في هذا الزمان ، فزعموا أن أحكام الله في شريعه الله قاسية ، لا تناسب الإنسانية لأنها مبنية على القسوة ، لا على الحكمة والرحمة  ولشناعة فعل المستهزئين سماهم الله في كتابه بالمجرمين فقال تعالى:﴿ إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون وإذا مروا بهم يتغامزون ﴾المطففين 29.

وفي عصرنا الحاضر ما ترك أهل الكتاب وسيلة من وسائل الإستهزاء بالله وبدينه وبعباده المؤمنين إلا سلكوها ، وهذا واضح في أقوالهم وإعلامهم وخططهم ، بل وحتى في منتجاتهم ، فحتى النعال يكتبون عليها اسم الله – تعالى الله وتقدس عن ذلك – وعلى الملابس الداخلية للرجال والنساء ، بل وصل بهم الحال إلى امتهان الآيات القرآنية ، وقد أبدل كثيرٌ من المسلمين رنة التلفون بآية من القرآن الكريم ، ومع هذا تجد المغفلين من المسلمين   يوالونهم ولو بطريق غير مباشر بالشراء من هذه المصانع ، وتلك الشركات التي تطعن في ديننا وتهزأ بربنا وتستبيح حرمة إسلامنا ، وإذا قام فينا غيور وذكّر الأمة بهذا الواجب الإيماني ، هُمز وغُمز ووصُف بالتطرف والرجعية ، وعداوة الإنسانية والتعسفية ، وغير ذلك من قاموس الشتائم الذي يصبه من سماهم الله بالمجرمين على المؤمنين الموحدين   فإلى الله المشتكى ، وهو حسبنا ونعم الوكيل .

وقد هدد الله من يجالس هؤلاء الهازلين الساخرين إذا لم يبتعد ويقم عنهم ، فسيكون منهم ويعذب بعذابهم قال تعالى : ﴿ وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً ﴾ النساء 140 .

نرى مع الأسف من يتخذ الهازلين أولياء وجلساء وأصفياء وأخلاء ، بل يدافع عنهم ويذب عن أعراضهم ، وكأنه قد نسي قول الله تعالى : ﴿ ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خواناً أثيماً ﴾ النساء 107 ، ألا فالتق الله في ديننا ونبينا ، ولنحذر السخرية والاستهزاء التي تمس إيماننا ، ولنقبل على شرعَ الله   ولنعلم أنه الحقُّ الذي لا شك فيه، وأن لا ننخدع  بضعفاء البصائر ممن يتخذون مجالسَهم في التفكُّه والضحك، فيسخرون من الإسلام وأهلِه  ويعيبون الإسلام وأهلَه، أعاذنا الله وإياكم من ذلك .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مفهوم المكر  

 المكر : هو التدبير بالخفاء لإيقاع الضرر بالآخر  كما قال تعالى: ﴿ وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ﴾ الأنفال 30 ، وهو خلق الكفار جميعا يخططون بالخفاء لإيذاء رسل الله وأتباعهم، والله يحبط خططهم في الدنيا ويعذبهم بها في الآخرة، فلا يحيق المكر السيئ إلا بأهله. والمكر السيئ عاقبته على صاحبه دائماً ﴿ ولن تجد لسنة الله تحويلا ﴾ فاطر 43 . والله يحبط المكر ويحفظ عباده منه قال تعالى ﴿ ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين﴾ الأنفال 30 كلمة ويمكرون ، يندرج تحتها كل ما يرتكب من جرائم ومكائد ومؤامرات وتزوير وتشويه وخيانات ونفاق وكذب ، في المقابل : ﴿ ويمكر الله والله خير الماكرين ﴾ فالله عز وجل يقابل مكرهم بمكره قال تعالى : ﴿ ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين ﴾آل عمران 54 . فالله يصرف كيد الظالمين القتلة ، بحكمة أمره وتدبيره بمكره المحمود ، لإحقاق الحق وسحق الظلم ونصرة المستضعفين ، وإقامة العدل وإبقاء كلمة الإيمان عالية خفاقة ، أما هذا المكر الذي نُسب إلى الله ليس مكراً ، فالله لا يمكر وليس من أسمائه أنه ماكر , لكنه كما يقول علماء البلاغة مكر مشاكلة، والمشاكلة هنا في اللفظ هي وحدها التي تجمع بين تدبيرهم وتدبير الله ، وإذا كان الذي يواجه المكر هو تدبير الله ، فأين هم من الله ؟ وأين مكرهم من تدبير الله ؟ قال تعالى :﴿ وما قدروا الله حق قدره، والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة ﴾ الزمر 67 . فهو سبحانه له مَكره ، وعلي كلّ مظلوم ٍأن يُوقِن بذلك الوعد من ربه ، وأنَّ له ناصرا ، يقول الإمام حقي في تفسيره للآية السابقة : " للخلق مكر   وللحقّ مكر ، فمكر الخلق من الحيرة والعجز   ومكر الخالق من الحكمة والقدرة ، فمكر الخلق مع مكر الحقّ باطل زاهق ، ومكر الحق حق ثابت   وذلك مهما كان سوء وشدة وإحكام مكر الماكرين ﴿ وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ﴾ ابراهيم  46 . 

 فما يتسرب الإحباط إلا إلى نفس من لم يفهم المعركة على حقيقتها، لإن المعركة ليست حرباً بين المسلمين والكافرين، أو بين الظلمة والمظلومين ، وإن كان ظاهرها كذلك.. إنما هي في حقيقتها حرب بين الله ، وبين من عطل منهج الله ، وكفر بعبادته وارتضى غيره حكماً ، وقَبِلَ غير كتابه شرعاً ، ومن رحمة الله بالمؤمنين ومن كرمه عليهم، منّ عليهم بأن جعلهم جنده وحزبه وأولياءه ، فالمؤمنون يقفون أمام الكافرين، ملتزمين بمنهج ربهم يفعلون ما يأمرهم ، واثقين بوعده، راغبين في جنته، راهبين لناره، مخلصين له، معتمدين عليه، لاجئين إليه.. إن فعلوا ذلك ،كان الله المدافع عنهم ، الحامي لهم  المؤيد لقوتهم، الناصر لجيشهم، الناشر لفكرتهم  المنتقم من عدوهم ، وقد جاءت الآيات تؤيد هذه الحقيقة قال تعالى : ﴿ إن الله يدافع عن الذين آمنوا ﴾ الحج 38 قال تعالى : ﴿ فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم ﴾ الأنفال 17 وقال تعالى : ﴿ إنهم يكيدون كيداً وأكيد كيداً ﴾ وقال تعالى : ﴿ ومكروا مكراً ومكرنا مكراً وهم لا يشعرون  فأنظر كيف كان عاقبة مكرهم، أنّا دمرناهم وقومهم أجمعين ﴾ النمل 50 .

 أما آن للمتآمرين ، الذين  يعلمون لمن يعملون؟! وإلى أي ركن يأوون؟! أما علموا أنهم غير بعيدين عن عينه سبحانه ﴿ يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل، فتكن في صخرة أو في السماوات أو الأرض   يأتي بها الله ، إن الله لطيف خبير ﴾ لقمان . فمن كان مع الله كان الأقوى ، فإما أن ينصره ، أو يضعف خصمه ، أو يوهم خصمه أنه الأقوى ، وإذا كان الله مع العبد فمن عليه ؟ وإذا كان عليه فمن معه ؟ قال تعالى : ﴿ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً ﴾

كن مـع الله تر الله معك   واترك الكل وحاذر طمـعك

وإذا أعطاك من يمنــعه       ثم من يعطـي إذا ما منعك

فالله عز وجل لا يمكر ولا يكيد ، إلا للرد على كيد الكائدين، أي يدبر تدبيراً حكيماً، يقمعهم، وينتقم منهم، ويكف أذاهم عن المؤمنين ﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ الأنفال 30 ..قد يقول قائل لماذا يُعذب المسلمون ؟ ولماذا تُحتل أراضيهم ؟ ولماذا تُنهب ثرواتهم ؟ ولماذا يقتل أبناءهم ؟ والله تعالى يقول : ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ﴾ ما تفيده هذه الآية، يا محمد ما دامت سنتك مطبقة في حياتهم، فهم في مأمن من عذاب الله، أي فمستحيل، وألف ألف مستحيل أن نُعذَّب ونحن نُطبق منهج الله وسنة رسول الله، مستحيل !. لأن قوله ﴿ وما كان الله ﴾ هي من أشد أنواع النفي في اللغة، وهذا اسمه نفي الشأن، قل لواحد: هل أنت جائع ؟ يقول لك: لا، قل له: هل أنت سارق ؟ هذا وضع ثان، ليس معقولاً أن يقول لك: لا، يقول لك: ما كان لي أن أسرق، بعض النحاة عدوا أكثر من عشرين فعلاً ينفي بهذه الصيغة لا أسرق، ولا أرغب ولا أتمنى، ولا أقبل، ولا أبارك، ولا أرضى    مستحيل ! أما أن يقول ، ما كان لي أن أسرق، هذا أشد أنواع النفي، والله عز وجل يقول: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ ﴾ أي مستحيل وألف ألف مستحيل أن يُعَّذبَ المسلمون ومنهج الله مطبق في حياتهم ، انظر إلى المساجد ترى إقامة الشعائر الدينية     أما في الأسواق فإنا قلما نرى تطبيقاً لمنهج الله ، أيمان كاذبة ، بضاعة محرمة ، آثام ومعاص ، مواد محرمة   تعامل بالربا ، فكيف يأمنوا من مكر الله والله يقول : ﴿ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ هذا تحذير للعباد من الأمن من مكر الله ، بالإقامة على المعاصي والتهاون بحقه، والمراد من مكر الله بهم كونه يملي لهم ويزيدهم من النعم والخيرات كما قال سبحانه:﴿ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ ﴾ .  

فالواجب على المسلمين ألا يأمنوا من مكر الله وعقوبته، كما أن من واجبهم ألا يقنطوا من رحمة الله بل يجب على كل مسلم أن يسير إلى الله سبحانه في هذه الدنيا بين الخوف والرجاء، فيذكر عظمته وشدة عقابه إذا خالف أمره فيخافه ويخشى عقابه  ويذكر رحمته وعفوه ومغفرته وجوده وكرمه فيحسن به الظن ويرجو كرمه وعفوه،  

كثيرٌ من الناس يعيش في هذه الدنيا بالمكر، فتجده يتعامل مع زوجته بالمكر، مع أبيه بالمكر، مع مديره وزميله في العمل بالمكر، مع جاره ومن حوله بالمكر.. فيظن أنه يستطيع أن يمكر بالله! ورحم الله ابن الجوزي حين قال :" تصر على المعاصي وتصانع ببعض الطاعات. والله إن هذا لمكر" فترى من يأكل الحرام ويتعامل بالربا ، ومع ذلك يصلي ويتصدق  

﴿ ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله ﴾ قال السعدي في تفسيره : ” .. فعادَ مكرهم في نحورهم ، وَرَدَالله كيدهم في صدورهم ، فلم يَبقَ لهم إلا انتظار ما يحِلّ بهم من العذاب الذي هو سُنّة الله في الأولين ، التي لا تُبَدَّل ولا تُغيَّر ، أنَّ كلّ مَن سارَ في الظلم والعناد والاستكبار علي العباد أن يحلّ به نقمته وتسلب عنه نعمته ، فليرتقب هؤلاء ما فعل بأولئك “

فكن يا أخي المسلم ، يَقِظا ًمُتفتحا ، مُستنيرا مُستبشرا   ولتكن مِمَّن يكشفون المكر والماكرين والظلم والظالمين   والفساد والمفسدين ، ولتكن ممن  ينتظر بعد ذلك عون الله ونصره ، ولتستبشر بسرعة مكره بهم ، إن لم ينتهوا عن مكرهم ويعودوا للخير ، لأنه يتوعدهم حينذاك بقوله : ﴿ إنَّ الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة ﴾ النور 19 وهو تعالي لا يُعجزه شيء في الأرض ولا في السماء : ﴿ فما هم بمعجزين ﴾ النحل 46 وما ينفقونه من جهود وأموال وأفكار سيعود وباله عليهم حسرة وخسرانا وانهزاما ﴿ فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يُغلبون ﴾ الأنفال 36 . 

 

 

 

 

 

البلطجة والتشبيح

ليس لهذا الاصطلاح أصل في العربية ويعود أصله إلى اللغة التركية، ويتكون من مقطعين: بلطة وجي ؛ أي حامل البلطة . ومعناها في الاصطلاح السياسي :   استعمال القوة لاستغلال موارد الآخرين ، بهدف تحقيق مصالح خاصة ، أما الشبيحة فهم مَن يقومون بأعمال البلطجة ، التي لا تنفذها النظم بشكل مباشر  ولا هدف لهم في الحياة ، إلا ممارسة القتل ، مقابل استرزاقهم وما يسرقوه وينهبوه ، شعارهم  تخوين واتهام كل من ينتقد النظام أو المسئولين ، وأعمالهم تتنافى مع الإسلام ومبادئه ، الذي يكفل للإنسان حقه في أن يعيش آمنا ، ولهذا جاء النهي عن أعمال البلطجة ، التي جاء ذكرها في الفقه الإسلامي ، باسم الحرابة ، واعتبرها فسادا في الأرض‏ لقوله تعالى : ﴿ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ المائدة33. ومدلول البلطجة والتشبيح  يماثل مدلول الحرابة في الشريعة ، لأن الفقهاء عرّفوا الحرابة بأنها جريمة قطع الطريق علي سالكيه الآمنين ، بغرض إرهابهم وقهرهم‏ ‏، أو نهب أموالهم‏,‏ ومجاهدتهم علي سبيل المغالبة والقهر‏,‏ أو بالتحايل والمكر وبالخداع والغدر‏,‏ أو بغرض قتلهم دون نهب الأموال ، وهو ما يعرف باسم‏‏ قتل الغيلة‏‏ أو من أجل الاعتداء علي الأعراض عنوة واغتصابا‏,‏ ولذلك أُطلق علي‏‏ الحرابة‏  اسم‏ ‏ السرقة الكبرى ، واعتبر الفقهاء كل من يقوم بأي من هذه الجرائم أو بها مجتمعة ‏ محارب‏‏ لله ولرسوله ولجماعة المسلمين‏,‏ سواء كان فردا أو جماعة‏,‏مسلحا أو غير مسلح‏,‏ ما دام مكلفا ملزما‏ وثبتت عليه الجريمة , وكل من يعين  المحارب بأي شكل من الأشكال كالتحريض‏,‏ أو الاتفاق‏ ‏ أو الرصد أو الإيواء أو غير ذلك من صور العون   يعتبر عند كثير من الفقهاء شريكا له في الجريمة‏ ‏ ويحمل وزرها ، وقد اختلفت التفاسير في فهم دلالة
قوله تعالى : ﴿ ‏أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ‏﴾ وأرجح الأقوال : هو التغريب أي التشريد بالطرد من ديار الإسلام‏(‏ بمعني إسقاط الجنسية في عصرنا الحاضر‏)‏ فإذا أخذ المحارب المال لا غير ، كان جزاؤه أن تقطع يده اليمني ورجله اليسري ، عند أغلب الفقهاء‏,‏ وإذا قتل المحارب ولم ينهب مالا ، فيري عدد من الفقهاء   أن عقوبته هي القتل حدا دون الصلب‏.‏ وإذا قتل المحارب ونهب المال ، كان عقابه القتل والصلب معا‏  على أن يصلب المحارب علي خشبة بقدر ما يشتهر أمره‏,‏ ردعا له‏ ‏ وزجرا لغيره‏,‏ ثم يقتل‏,‏ لأن العقوبة لا تقع علي ميت‏ ، ومن قطع الطريق وأرهب الناس ، ولكنه لم يقتل أحدا‏ ، ولم ينهب مالا فعقابه النفي من الأرض التي أجرم فيها‏.‏
ويري أغلب الفقهاء أن الإمام مخير في كل العقوبات المقررة في آية الحرابة ، بحسب حجم الجريمة ، وما تقتضيه المصلحة العامة‏.‏ ولا يجوز رفع العقوبة سواء عفا الأولياء وأرباب الأموال أم لم يعفوا‏,‏ وسواء أبرءوا من المحارب أو صالحوا عليه‏,‏ وليس للإمام إذا ثبت الحد عنده ، أن يتركه أو يسقطه أو يعفو عنه لأن الحد واجب التطبيق ، لأنه من حقوق الله‏-‏تعالي‏-‏ وفي ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( إقضوا الله فهو أحق بالوفاء‏,‏دين الله أحق أن يقضى ) ‏ ويقول‏: ( كتاب الله أحق وشرط الله أوثق ) . والإعجاز التشريعي في حد الحرابة ، أن الله كرّم الإنسان فقال الله في ذلك : ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ﴾الإسراء‏ 70 ومن حق هذا المخلوق المكرم ، أن يحيا وهو آمن علي نفسه وماله وعرضه وعقله ودينه‏,‏ وهي الضرورات الخمس ، التي تعارفت عليها المجتمعات الإنسانية‏.‏

والإنسان بطبيعة الحال ، مخلوق صاحب إرادة حرة‏ ‏ وهذه الإرادة الحرة ، قد تقوده إلي الالتزام بمكارم الأخلاق ، وقد تقوده إلي الانحراف فيقع في أوحال الرذيلة‏,‏ كما قال تعالى واصفاً هذه الحالة : ﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وقد خاب من دساها ﴾‏ الشمس‏7 . فالذي يجاهد نفسه من أجل تزكيتها ، يعرف طريق الفضيلة  ويلزم نفسه بها ،‏ ويسعي جاهدا من أجل إسعاد غيره  كما يسعي لإسعاد نفسه وأهله‏ ، أما الذي أتبع هوي نفسه ، فملأها بحب الشر وكراهية الخير‏ ،‏ وبالحقد علي الغير وكراهية الناس ، وحب إيذائهم والإضرار بهم‏,‏ حتى يجعل من وجوده عامل دمار وخراب وهدم للمجتمع الذي يحيا فيه‏,‏ حتى ينتهي به الأمر إلي ممارسة الجرائم ضد هذا المجتمع ، الأمر الذي يستوجب نفيه نفيا جزئيا أو كاملا بإنزال العقوبات به ، أو القضاء التام عليه قبل أن يقضي على مجتمعه الذي يتحرك فيه ،‏ وإذا أخذت الجرائم بعدا جماعيا ، كانت المحاربة للمجتمع كله, ‏وجزاء كل خارج على سلطان الحاكم المسلم المقيم لشريعة الله‏,‏ وكل مروع للآمنين من عباد الله في دار الإسلام‏,‏ وكل معتد علي أموالهم‏,‏ أو دمائهم‏,‏ أو أعراضهم أن يقتل‏,‏ أو يصلب ثم يقتل‏,‏ أو أن تقطع يده اليمني ورجله اليسري‏,‏ أو ينفى من الأرض ، عقابا له علي جرائمه ، وردعا لأمثاله من بعده‏,‏ وللفقهاء في ذلك تفصيل لا يتسع المجال لسرده‏,‏ وإن كان الهدف من العقوبة هو التغليظ علي المفسدين في الأرض ، الذين يروعون الآمنين في المجتمع المسلم ‏,‏ ومنع تكرار جرائمهم‏,‏ إلا أن هذا العقاب الصارم الذي يلقونه في الدنيا ، لا يسقط عنهم العذاب في الآخرة‏,‏ ولا يطهرهم من فظاعة ما اقترفوه في الدنيا ، كما هو الحال في بعض الحدود الأخرى ،‏ وهذا تغليظ للعقوبة‏,‏ وتبشيع للجريمة حتى لا يقع فيها غيرهم‏.‏ أما إذا استشعر كل خارج على القانون‏,‏ قاطع للطريق‏,‏ ومفسد في الأرض حجم جريمته‏,‏ فتاب إلي الله وأناب ، قبل أن تناله يد القانون والسلطان ، سقطت جرائمه وعقوبتها‏  وفوض أمره إلي الله الغفور الرحيم‏.‏
والحد الشرعي هو عقاب من الله تعالي للمجرم علي اقتراف جريمته ، وهو عقاب متكافئ مع حجم الجريمة‏,‏ لأن الجريمة لا يوقفها إلا العقاب الرادع‏ والعقاب لا يكون رادعا ، إذا اتصف بالرخاوة والضعف‏.‏ ولولا أن الله‏ تعالي‏ قد حد الحدود‏,‏ وأنزل العقوبات الرادعة ، لفسدت الأرض‏,‏ وعمتها الفوضى والخراب والدمار‏ ، وضاعت منها نعمة الأمن والأمان‏,‏ ونهبت الحقوق والممتلكات‏ ‏ وانتهكت الحرمات‏,‏ وتعطلت المصالح .

إن شريعة الله تحارب الجريمة والمجرمين‏,‏ والإفساد في الأرض والمفسدين‏,‏ وتحرم العدوان علي الآمنين‏ ‏ وتنزل أشد العقوبات على الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا‏,‏ وينشرون الخوف والفزع بين الآمنين ، جزاء عادلا فاضحا لهم في الدنيا‏ ‏ وتهددهم في الآخرة بالعذاب العظيم‏.‏ ولم يشرع ذلك ظلما للناس أو إذلالا لهم‏,‏ وإنما شرع عقابا مكافئا للمعتدين‏,‏ وردعا وزجرا وعظة وعبرة للمعتبرين حتى لا يقعوا فيما وقع فيه المعتدون من جرائم‏,‏ ودعوة للمسلمين أجمعين بضرورة المحافظة علي أمن مجتمعاتهم من الضياع‏,‏ لأن المعتدي إذا لم يجد من شرائع الله ما يمنعه من اعتدائه وعدوانه علي غيره فإنه يعيث في الأرض فسادا‏,‏ ويزيد من طغيانه علي الآمنين من قومه ,‏ وينشر الخوف والفزع والاضطراب بينهم‏,‏ وهي من الأمور المهلكة للمجتمعات الإنسانية‏,‏ والمتسببة في انهيارها وخرابها  ومن هنا تتضح حكمة الإعجاز التشريعي في حد الحرابة ، لأنه إذا اكتفى المشرع في عقاب المحارب بالسجن أو الغرامة المالية فقط ، فإنه سرعان ما يعاود الكرة إلي جريمته ، بمجرد خروجه من السجن أو حاجته إلي المال‏,‏ بينما إذا طبق شرع الله في عقاب المحاربين ، فإن ذلك يحقق  الأمن والأمان‏,‏ وصون حقوق العباد‏,‏ ومصالحهم من عبث العابثين‏  واستهتار المستهترين‏,‏ وطمع الطامعين‏ ، وإذا تم ذلك للمجتمع المسلم ، اختفت طبقة المحاربين لله ورسوله ‏ولن تتوقف مسلسلات الخروج على المجتمع إلا بالنزول عند أوامر الله ،‏ وتطبيق شرعه‏ ،‏ والالتزام بحدوده في كل أمر من الأمور‏,‏ والله يقول الحق ويهدي إلي سواء السبيل‏.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

  مفهوم الجباية والهداية

الهداية لغةً : الدلالة والإرشاد ، وفي الاصطلاح : سلوك الطريق الذي يوصل الإنسان إلى غايته  وهي إتباع شرع الله ، أما الجباية : فهي مبلغ مالي تتقاضاه الدولة من الأشخاص والمؤسسات بهدف تمويل نفقاتها .

وميزان الأشياء عند الذين يتبنون مفهوم الجباية   هو تضخم الميزانيات ، وتكثير الدخل والإيرادات ورفاهية الرجالات ، الذين يتولون المناصب المختلفة في الحكومات ، همهم جمع الأموال  وببناء القصور الفاخرة وامتلاك السيارات   وأفخم العقارات ، وإيداع ألفائض في البنوك في الحسابات ، على حساب فرض الضرائب والأتوات ، والهيمنة على الموارد والشركات .     

أما الذين يصرفون جهدهم للجباية لا للهداية  وللانتفاع لا للنفع ، فعنايتهم مصروفة إلى فرض الضرائب وجمع الأموال ، ولو على حساب الأخلاق والفضائل في المجتمعات ، فتبيح أنواعاً كثيرة من الخلاعة والفجور ، فينحط مستوى الأخلاق، وتنتشر عدوى الأمراض الخلقية   المنتشرة في الأقطار الأوربية ، التي تحمل مفاسد الحضارة الغربية ، ولأرباب الجباية، طابع خاص ونفسية خاصة ، لأن ميزان الأشياء ومناط الأحكام عندهم ، هو تضخيم الميزانيات ، وكثرة الدخل والإيرادات ، وان كان ذلك بامتصاص دماء الفقراء ، وفرض الضرائب المجحفة ، ورفع الأسعار وفرض الأتوات .  

أما شعار أرباب الهداية : فهو الدعوة إلى تطبيق منهج الله ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر  والدعوة إلى مكارم الأخلاق ، ومنع الخمور وتحريم الفجور ، ومطاردة المفسدين . روي أن عمر بن عبد العزيز خليفة المسلمين قال لعامله مرة : ( ويحك إن محمداً صلى الله عليه وسلم بُعِث هادياً ولم يُبْعَثْ جابياً ) وهذه الجملة تعرب عن روح الحكومة الدينية ، التي تتأسس على منهاج النبوة   وتسير على آثار الأنبياء وخطاهم ، فتكون عنايتها واهتمامها بالدين ، وبإصلاح أخلاق المحكومين ، وبما يعود عليهم بالنفع والضرر في الآخرة ، أكثر من اهتمامها بالجباية والخراج    والإيرادات ،وتنظر في جميع المسائل السياسة  الاجتماعية والمالية بما يتفق مع المبادئ الدينية والخلقية ، واجتناب المحرمات والمعاصي ، فتمنع الخمر ، وتحرم الزنا وأنواع الخلاعة والفجور   والعقود المالية الفاسدة ، النافعة للأفراد ، المضرة بالمجتمع ، وتحظر الربا والقمار ، وتعنى بتهذيب النفوس ، وسمو الروح ، والتحلي بالفضائل   والإقبال على الآخرة ، والزهد في الدنيا   والقناعة في المعيشة، ، والتنافس في الخيرات، ومنع كل ما يفسد على الناس عقيدتهم وأخلاقهم  حتى يكونوا ممن قال الله فيهم : ﴿ الذين إن مكناهم في الأرض: أقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة  وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، ولله عاقبة الأمور ﴾ الحج 41 ، وعلى مدار التاريخ فإن الجباية لا تحتاج إلى شرح وتعريف ، فهي السائدة ، في الماضي والحاضر، وفي الشرق والغرب، وقد جربها الإنسان ، وعرفها في كل عصر، أما الهداية فهي نادرة ، فمنذ دعا الرسول صلى الله عليه وسلم الناس إلى الإسلام ، كان الذين آمنوا ، هدف كل قسوة وظلم واضطهاد ، وبلاء وعذاب، فصمدوا وثبتوا   حتى أذن الله في الهجرة، ولم تزل الدعوة تشق طريقها وتؤتي أكلها ، حتى قضى الله أن يحكم رجالها في الأرض، ويقيموا القسط، ويخرجوا الناس من الظلمات إلى النور، ومن عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها    فإذا دولتهم الوليدة على مفترق الطرق – طريق الجباية وطريق الهداية – هنالك سمعوا هاتفا يقول: ويحكم إن محمدا صلى الله عليه وسلملم يبعث جابيا ، وإنما بعث هاديا ، وأنتم خلفاؤه ، فلم يترددوا في إيثار جانب الهداية على جانب الجباية، واتخاذ الدعوة والهداية ، شعارا ومبدأ لحكومتهم ، فكان لهم ذلك ، فقد علموا أنهم لو آثروا جانب الجباية   وأطلقوا أيديهم في أموال الناس، وطلبوا النعيم  ورتعوا في اللذات، لم يحل بينهم وبين ذلك أحد  ولم يقف في سبيلهم واقف. ولكنهم علموا أنهم لو فعلوا ذلك ، لغشّوا إخوانهم الذين سبقوهم بالإيمان، وقضوا نحبهم بدون أن يأكلوا ثمار غرسهم، وخانوا أولئك الذين لم يعرفوا إلا الجهاد والتعب والجوع ، فقد وصلوا إلى حكم الناس على جسر من متاعبهم وإيثارهم. ، وقفوا ولم يطب لهم الأكل والشرب، وأرادوا أن يلحقوا بإخوانهم ، ولم يأخذوا من الدنيا إلا البلاغ ، فقد تأسست دولة الإسلام ، وفتحت فارس وبلاد الروم  والشام ، ونقلت إلى عاصمة الإسلام – المدينة المنورة – كنوزُ كسرى وقيصر، وانصبت عليها خيرات المملكتين العظيمتين، وانهال على رجالها من أموال هاتين الدولتين وزخارفها، ما لم  يتوقعوه ، وقد انقضى على إسلامهم ربع قرن وهم في شدة وجهد من العيش، وفي خشونة المطعم ، وخشونة الملبس، لا يجدون من الطعام إلا ما يقيم صلبهم، ولا من اللباس إلا ما يقيهم من البرد والحر، فإذا بهم يتحكمون في أموال الأباطرة والأكاسرة، ولو أرادوا أن يلبسوا تاج كسرى ويناموا على بساط قيصر لفعلوا ، لكنهم آمنوا بقوله تعالى : ﴿ تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين ﴾ القصص 83. وما نسوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته : ( فو الله لا الفقر أخشى عليكم  ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا، كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم ) البخاري ومسلم . وقد هتفوا قائلين: " اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة " بهذا حافظوا على روح الدعوة الإسلامية ، وسيرة الأنبياء والمرسلين ، وكان شعار الدولة الإسلامية الأولى الهداية والدعوة إلى منهج الله ، وخدمة الناس   وهكذا انتشر الإسلام ، وانتشرت الأخلاق الفاضلة ، في عقود من السنين ، من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، ثم أتى على المسلمين حين من الدهر ، نسوا أن الحكومة في الإسلام ، لم تكن إلا جائزة الدعوة والجهاد في سبيلها، ولولا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم  ودعوته إلى الله، لما دانت الدنيا للعرب  وعندما أهملوا الدعوة إلى الله ، وعطلوا منهج الله   وأضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، ورجعوا يحتكمون إلى القوانين الفاسدة في مراكز الإسلام  وبالفوضى الدينية، كانت داهية عظيمة وفتنة كبيرة ، على رجال الإصلاح والدعوة في الأقطار الإسلامية .

 إن العالم الإسلامي بحاجة ماسة إلى حكومة تمثله تمثيلا صحيحا ، تقوم على أساس منهج الله   شعارها الهداية والإصلاح والكفاح ، وإيثار الأرواح على الأرباح ، وكسب الرجال على كسب الأموال، وبعد أن جربت الإنسانية اليوم حكومات الجباية على اختلاف أنواعها وأسمائها – من ديمقراطية، ورأسمالية واشتراكية وشيوعية – فلم تر منها إلا الشر والمر ، لأنها نظم تساعد في إفساد المسلمين ، وإبعادهم عن دينهم ، وتوهين الروابط التي تصلهم به ، وخلق أجيال فارغة من عقائد الإسلام وتعاليمه ، وتبني رجالاً يزورون تاريخ الإسلام ، ويجعلون أمتهم دون ماضٍ تستند إليه ، أو تراثٍ تعتمد إليه ، وتشجيع الإسلاميين الذين تكمن في دمائهم جرائم البدع المفسدة   والمفكرين الذين يلمزون الإسلام ، ويغمزون أصوله وفروعه ، ودفع العلمانيين إلى صدارة المجتمع ، ووضع مقاليد الأمور في أيديهم   وتدويخ المسلمين المخلصين ، وإقامة السدود في وجوههم ، وإبعادهم عن مراكز القيادة والتمكين ﴿ ويمكرون ويمكر الله ﴾ وسيبطل الله مكرهم إن شاء إنه على ذلك قدير .    

 

 

 

 

 

 

نجاح دنيوي وفساد أخروي

جاء الإسلام ليتناسب مع كل زمان ، فدلَّ الناس على ما فيه الخير ، وحذَّرهم مما فيه الشرّ والفساد   مَنْ تَبِعه اهتدى ، ومن خالفه ضل قال تعالى:﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾النور63 ، وجاء الأوروبيون فحرموا أنفسهم من الدين ، فلم يبق لهم رادع من خلق أو وازعٌ من دين ، ونسوا غاية خلقهم وقالوا : ﴿ إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين ﴾ فاعتقدوا بطبيعة هذه العقيدة ، أن ليس للإنسان وراء اللذة والراحة ، والانتفاع المادي والعلو في الأرض وبسط السيطرة عليها ، والتغلب على أهلها والاستئثار بخيراتها ، فاستغلوا القوة والعلم في حصول اللذات والشهوات ، وتنافسوا في اختراع الآلات التي بها يسيطرون على غيرهم ، فخرجوا عن منهج السماء؛ واخترعوا بعقولهم القاصرة ما تحتاج إليه البشرية ،كما ينادون تارةً بالإلحاد، وتارةً بالديمقراطية ، وصولًا لتحقيق المصلحة واللذة والشخصية ، بعيدًا عن قيود الدين ، فهي وإن حققت سعادة شهوانية لبعض الطبقات ، فعلى حساب طبقات أخرى ، ودماء وأعراض ومآسي أخرى ، جعلوا من اللذة والمال وثنًا ، ومن الجسد والجمال وثنًا، ومن القوة وثنًا، فاخترعوا أدواتهم لتحقق لهم سعادتهم، ولو على حساب العالم بأسره دون النظر لعواقب هذه الأدوات ، وآثارها على سائر المجتمعات ، إنهم يعانون من اختراعاتهم، ثم لن يسمحوا لأحد أن يلعب دورًا في لعبتهم ، إلا ما رسموه لهم ، فلن يسمحوا لأحد أن يخرج عن ما صنعوا من أسلحة فتاكة ، من طائرات وصواريخ عابرة للقارات ، كما قدموا الثلاجة ، وأنتجوا البرادة    وفسدوا مقابل ذلك في عالمِ الروح: ﴿ يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ﴾ ما استعدوا للقاءِ الله ، نجاسةُ وعهرُ وزنىً ، وربىً وفحشُ ، ونهبُ وسلب، فهذا عالم منهم ألف كتاب "الإنسانُ لا يقومُ وحدَه" يقول : إن أمريكا تسعى إلى الهاويةِ 100% لأنها ما عرفت الله. وفي كتابِ "اللهُ يتجلى في عصرِ العلم" الذي ألفَه نخبةُ من الأمريكان الذينَ أسلموا ، يحذرونَ شعبَهم العارَ والدمار والنار، ولكن من يعي! في أوكلاهوما أخبر مسلمُ أمريكيُ من تلك الولايةِ ، انه ثبت في التقاريرِ   أن جامعةَ أوكلاهوما ، فيها عشرون ألف فتاةٍ يدرسنَ في تلكَ الجامعةِ ، كلُهنَ حبلى من الزنى  فأي حضارة هذه ؟ في بلدٍ أفكارُه منكوسـة ، تُثقلُه بصائرُ مطموسـة ، يقدسون الكلبَ والخنزيرَ    وغيرَهم في نظرهم حقير ، ما عرفوا اللهَ بطرفِ ساعة  وما استعدوا لقيامِ الساعة ، استيقظوا بالجدِ يومَ نمنا   وبلغوا الفضاءَ يوم قمنا ، منهم أخذنا العودَ والسيجارة  وما عرفنا كيف نصنعُ السيارة ، نجاريهم في الموضة واللباس ، وما به كرامتنا تداس ، فهذا شاعرٌ عربي    يلعن الصعلوك الذي لا يتعدى نظره ، ولا يسمو فكره عن لباس وطعام فيقول :

  لحا الله صعلوكاً مناه وهمه  من العيش أن يلقى لبوساً ومطعما

فكيف إذا أشرف هذا الشاعر على هذه المدنية ، وهي تجري بفلاسفتها وسياسيها وعلمائها ، وكتابها وأغنيائها وفقرائها وراء غاية لا تتعدى لبوسا ومطعما ، ألسنا آثمون يومَ ما صنعنَا كما صنعوا ؟ وإنهم آثمونَ يومَ ما أسلموا كما أسلمنا ؟ نقصوا في الإسلامِ ، ونقصنا في العمل، ولا يعُفينا نقصنا ، فهم كفارٌ ملاحدَة ،  ونحن طلاب جنة وآخرة .

أمريكا التي تقدمَ رجلُ فيها يشتكي رجلاً ضربَ كلبَه ، حين اعتدى عليه في المطار، والكلبُ عندَهم آيةُ من الآيات، يغسلونَه في الصباحِ ويقبلونَه في المساء ، ينامُ على السريرِ ، ويركبُ السيارةَ مع الأمير ، ضُربَ كلبُ فقدمَت عريضةُ فيه ليحاكم   بينما المسلمون يضربوا بالهراوات، وتكسّر الرؤوس وتهدّم المساجد ، وتسحقُ الدور، وتدمرُ القصور   فما احتجوا ، ينصفونَ الكلاب ، وينقضون على الشعوب كالذئاب ، فما أنصفتهم هيئة الأمم التي يسيطر عليها أولو الألباب ، تقدموا بالقاذفات والصواريخ ، وحاربونا وحاربوا اللهَ يومَ كفروا  وحاربوا اللهَ يوم أخرجوا الفتاةَ عاريةً عاهرةً زانيةً سافرة ، حاربوا اللهَ يومَ سيروا الدعارةَ والخمرَ والزنى والربى في العالم ، حاربوا اللهَ يومَ قاموا مع الأقوياءَ   فسلبوا حقوقَ الضعفاء ، عاشوا الويلاتَ في قلوبِهم    ومن أراد المزيد عن انحرافهم ، فليراجع كتاب الأمريكي: " دع القلق وأبدأ الحياة " فقد عاشوا التوترَ في أعصابِهم، وعاشوا الانهيارَ في أخلاقهم  فهذه امرأةٌ تستضيف رجلا مع زوجِها فيفعلُ بها الفاحشةَ في بيتِ زوجِها وهو يعلمُ ولا ينكر  وهذه فتاةُ تسافرُ من أبيها وتعودُ حبلى بلا زواج   خمرُ يسكبُ ويشرب ، زنىً وفحشُ يعلنُ في الصحفِ والمجلات والأفلامِ والمسلسلات ، ورغم ذلك ينادي البعضُ بحضارتِهم التي تحمل في طياتها بذور فنائها

فقل للعيونِ الرمدِ للشمسِ أعينٍ   تراها بحقٍ في مغيبٍ ومشرقِ

وسامح عيونا أطفئَ اللهُ نورَها     بأبصارِها لا تستفيقُ ولا تعي

﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾ يرى ابن خلدون : أن الترف مظهر الحضارة، وهو هادمها أيضاً ، وهو غاية العمران ، ولكنه مؤذن بنهايته أيضاً  فالحضارة غاية العمران، ونهاية لعمره ، وإنها مؤذنة بفساده ، وقد أكد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه السنّةْ للدورة الحضارية الخالدة فقال: ( خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ) . وتتجلى آثار الحضارة المفسدة للعمران ، في حياة البذخ والترف ، إذ سرعان ما ينسى سكان الجيل الثالث ، عهد الخشونة والبداوة ، فيفقدون بذلك حلاوة العز والعصبية ، بما هم فيه من ملكة القهر ، ويبلغ فيهم الترف غايته   فتفسد أخلاقهم وطباعهم ، فينقلب التناصر إلى تنافر وصراع ، من أجل مكاسب شخصية ، ومصالح خاصة ، فيظهر الظلم إلى جانب الترف ، وهما مظهران من مظاهر خراب العمران ، وسقوط الدول   والى ذلك يشير قوله تعالى: ﴿ وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليهم القول فدمرناها تدميراً ﴾ الإسراء 16.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

حاجتنا إلى الإخلاص في العمل

إن ضعف المسلمين في شؤون دنياهم جعلهم عالة على غيرهم في الكثير من أمور معايشهم ، مما جعل الأعداء يتسلطون عليهم ، ويوجهونهم وفق ما يريدون ، لحاجة المسلمين إليهم . لأن المسلمين لا يعملوا ، ومن يعمل منهم لا يتقن عمله ، لذلك ضعفت قيمة العمل ، وقلّ العاملون المخلصون ؛ فانعكس ذلك مستوى الإنتاج ، الذي تدنى وأدى إلى ضعف المسلمون ، وتسلط الأعداء عليهم .

 

لذلك جاءت الدعوة إلى العمل في قوله تعالى : ﴿ وقل اعملوا ﴾ لأنه الطريق الوحيد الذي يخلص الأمة    من تسلط أعدائها عليها ، فتشعر بكرامتها وعزتها  وتحمل العقيدة والفكر الذي يعود بالخير على الأمة استجابة لقوله تعالى : ﴿ ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ﴾   والدعوة بحاجة إلى قوة ، والقوة بحاجة إعداد استجابة لقوله تعالى : وأهدوا لهم ما استطعتم من قوة ﴾ حتى تقدم هذه العقيدة وتدعو إليها من قوة        أمّا وهي ضعيفة مهزومة .. أمّا وهي فقيرة مستجدية لفضل غيرها ؛ فإنها لن تحمل فكراً ، ولن تدعو إليه .. ولو دعت فلن يقبل منها .

وحتى تتفوق الأمة في مجال الإنتاج والعمل لابد من شروط أساسية لتنطلق في ميدان الإنتاج والإتقان ؟؟

أهمها : القناعة بقيمة العمل والعلم الذي يجمع عقول الأمة ويوجهها نحو العمل والإنتاج ، وقد أوصل إهمالها الأمة إلى ضعفها وطمع الأعداء فيها .

ففي مجال تربية الأبناء ، فإن توجيههم إلى ضرورة الاهتمام بقيمة العمل والإنتاج، والتفوق فيه تكاد تكون من أضعف اهتمامات المربين والمدرسين مما جعل حصول الأبناء على الشهادة من أغلى الأماني ، وأكبر الأحلام ، دون أن يكون لديهم تصوّر لقيمة  لعمل الذي ينهض بالأمة ، بل إن الكثير منهم ربما لم يسمع طول حياته العلمية كلمة تشجيع على التفوق والإتقان في حياته العملية ، بل ربما إن حياته العملية التي سيدخلها لا ترتبط أصلاً بالعلم الذي اكتسبه ؛ فأصبحت الشهادة مطلباً مباشراً سواءً أنتج صاحبها أم لم ينتج ، فشباب الأمة الآن . لا يشعرون ، ولا يستشعرون أهمية العمل ؛ لأن العمل ليس من الاهتمامات التربوية لا في البيت ، ولا في المدرسة . . لا من الآباء ، ولا من المدرسين ، مما أدى إلى عدم   اهتمامهم بالإنتاج ، بسبب القصور في الإعداد التربوي ، ولن يصلح حالهم إلا عندما نصلح الخلل التربوي في البيوت والمدارس ، وفي الوسائل المؤثرة عليها .

أما في مجال العلم بميادين العمل الذي نحتاجه فحدث فيه ولا حرج . في بلاد المسلمين تطغى الدراسات النظرية حتى في العلوم التجريبية ، أما التطبيق فله أقل القليل من الوقت ، وله أقل القليل من الجهد ، وله أقل القليل من الاختبار أيضاً ؛ فيتخرج الطلاب من الكليات العلمية بحصيلة هزيلة في ميادين التطبيق ، ثم يذهبون إلى العمل الذي يعزلهم عن الميدان في الغالب ؛ فالمهندس يبتعد عن الهندسة ، ويعيش مع الأوراق فقط ، والسؤال هنا : من المسئول عن هذا القصور ؟ نحن المسئولون أولاً ، كما لا ننكر أن لأعدائنا نصيباً في تكريسه بيننا؛ لأن الشركات الأجنبية التي تعيش في بلاد المسلمين تستقدم خبراءها ومهندسيها معها ، ولا تتيح لأبناء المسلمين إلا المجالات النظرية . بل إن الكثير من شبابنا يخدع نفسه بالأسماء فقط ، ويعيش في المكاتب بعيداً عن ميدان العمل الفعلي .

فلا توجه العقول والجهود نحو العمل والإنتاج فتفرقت بين الأهواء والشهوات ، فأصبحت القدوة   لا تشجع على العمل ؛  لأنها من أهل اللهو والبطالة

 

فلو سألنا الشباب عن أمله في الحياة ، وماذا يريد أن يكون في المستقبل فلن نجد في الغالب إلا آمالاً جوفاء يتمنى أن يصبح ممثلاً أو مغنياً ساقطا ، أما أن يكون عاملاً منتجا أو مزارعاً ناجحاً . أو عاملاً جاداً أو عسكرياً مكافحا أو تاجرا ناصحا أو طبيباً ماهرا  فهذه مهنٌ لا تلمّع في الإعلام ، ولا تقدم للشباب . إن أقصى أمنيات كثير من شباب الأمة لا تتجاوز الرياضة أو الفوز في برنامج ذي فويس أو برنامج أرب آيدل في الأم بي سي  . أبهذا تعد الأمة للعمل ؟؟ أبهذا يدفع الشباب للعمل ؟؟ أبهذا تحقق الأمة التقدم في شؤونها ؟ أبهذا نصبح أمة قوية ؟

إن توجيه الأمة للعمل مطلبٌ ملحٌّ ، وغير قابل للتأجيل . يجب أن يتقدم في سلّم الأولويات، وقائمة الاهتمامات . هذا أمر لا بدّ منه إن كنا نريد العزّة والقوّة ،  والسؤال : من المسؤول عن توجيه الأمة نحو العمل ؟؟

إن الشعور بحاجة الأمة إلى تغيير كثير من أساليبها التي أدت بها إلى هذا الواقع المتخلف ، قد أدركه الكثير من أبناء الأمة الناصحين لها ؛ فمنذ الحرب العالمية الثانية ، بل وقبلها كان كثير من علماء الأمة ومثقفيها ينادون بضرورة تأمّل واقع الأمة ، والعمل على النهوض بها . وتعالت الدعوات للنهوض بالأمة منذ ذلك الوقت المبكر ، ولكن الحال كما نرى اليوم فإن الأمة لا تزال في تخلفها وضعفها . فما السبب ؟

 

إن من أبرز الأسباب  الفرقة والتنافر في أساليب الطرح للنهوض بالأمة . يقول الله تعالى : ﴿ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ، واصبروا إن الله مع الصابرين ﴾ فمن أسوأ ما أصيبت به الأمة الإسلامية في هذا العصر ما نجده من كثرة الآراء والأحزاب    وكثرة التناحر والتقاتل بين تلك الأحزاب ، وبين أصحاب تلك الآراء ، فتبددت جهود الأمة   كلٌّ يشغل نفسه لإسقاط الآخر ، أو إسقاط آرائه وأساليبه . يبذل كل حزب جهوده وطاقاته ليس للبناء والعمل ، ولكن لإسقاط الآخرين ، وإفساد عملهم ، وما علموا أنهم يفسدون ولا يصلحون     فلماذا لا يعمل شباب الأمة على العمل لسد حاجات الأمة ومتطلباتها ، بدل استيراد هذه الحاجات من الأمم الأخرى

ما الذي يمنع مدارس ومعاهد التدريب المهني في العالم الإسلامي أن تتبادل الخبرات لتخريج العمال المهرة ، لسدّ حاجة الأمة بدلاً من فتح البلاد الإسلامية لأعداء المسلمين ، وفي تخصصات عادية تجد فيها يمكنها القيام بها ، أليس من مصلحة الأمة جمع الجهود للعمل المنتج ، والاتجاه الجاد للتعاون لتحقيق ما من شأنه أن يحقق انتصار الأمة ، وتحريرها من سيطرة أعداء الإسلام عليها بسبب سيطرتهم على شؤون دنياهم ، فهل نحن فاعلون ؟

 

فهل نحن فاعلون ؟؟؟

 

 

لأمة المسلمة مدعوة اليوم قبل الغد إلى العمل الجاد الدؤوب، وخير الأعمال ما داوم عليه صاحبه وإن قل ، وإنما تبنى الأمم بالأعمال لا بالأحلام ولا بالأقوال والأماني، ويستحق الفرد منزلته في الآخرة بين الأبرار بعمله الصالح المبني على الإيمان، أو بين الأشرار بعمله الطالح المبني على الكفر والجحود والنكران.

العمل إذن طريق الرقي في الدنيا وسبيل السعادة في الآخرة، ومع إيمان المسلمين بهذا إلا أنهم لا يعملون العمل المناسب الذي يدفع الحياة إلى الأمام دفعا ، ويرقى بهم في مصاف الأمم، ليكونوا على مقربة من قامتها السامقة، ومنزلتها العالية.

كأنما تطرق إليهم ذلك المفهوم الخاطئ، الذي تسلل إلى عقولنا خلسة حين فهمنا أن الدين لا صلة له بالحياة، إذ يكفي أن الإنسان ينجو به من عذاب النار، أما أنه هو المحرك نحو العزة والكرامة، هو المحرك للهمم، هو الدافع للعمل، فذلك ما ليس للدين إليه سبيل هذا وهمهم في فهمهم، وكم من فهم خاطئ عن صلة الدين بالحياة يعيش بيننا الآن، ويشدنا إلى القاع، دون أن يرفعنا إلى القمة.

فهل غاب عن الناس أن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل؟ ولعلهم يظنون أن المقصود بهذا العمل هو العمل الصالح، وهل العمل الصالح في كثير من الأحيان إلا متصلا بالناس يقدم لهم ما يحتاجون، ويؤخر عنهم ما به يتضررون؟ وهل غاب عن الناس أن من بات كالا ،متعبا من عمل يده بات مغفورا له؟ وهل غاب عن الناس أن من كان يسعى على أبوين ضعيفين فهو في سبيل الله، ومن كان يسعى على صبية صغار فهو في سبيل الله؟ إن الرجل الذي سقى كلبا غفر الله له، وإن المرأة التي حبست هرة دخلت بسببها النار، أليس هذان نوعين من العمل الدنيوي أحدهما فيه الخير فكان جزاؤه الغفران، وثانيهما فيه الشر فكان جزاؤه الخسران؟ وكم بين سقي كلب وإحياء نفس من درجات في مراتب العمل؟ وكم بين حبس هرة وقتل نفس أو إشراك بالله من دركات في إحباط العمل؟

فمراتب العمل متفاوتة، والناس فيها متفاوتون بحسب قدراتهم وطاقاتهم وعلمهم وابتكارهم وغير ذلك مما فضل الله به بعض الناس على بعض، ولكن هذه الجهود المتفاوتة تنتظم في سلك واحد يخدم الأمة، حين يبذل كل إنسان ما استطاع من عمل عقلي أو عمل يدوي في إتقان ومهارة، بحيث نصل في يوم من الأيام ـ وعسى أن يكون قريبا ـ إلى أن تكتفي أمة الإسلام بما لديها في المرحلة الأولى، ثم يفيض ما عندها بعد ذلك على غيرها في جانبيه المعنوي والمادي، المعنوي المتمثل في الدين والقيم والأخلاق، والمادي المتمثل في كل ما يحتاج إليه الإنسان مما لا غنى عنه في أي مكان على وجه الأرض.

لترفع أمتنا بهذين الجانبين العمليين من قيمة الإنسان فلا يظل حيوانا ناطقا ، ولا حتى راقيا كما ينظر إليه الغربيون، بل إنه جنس آخر غير الحيوان، وغير الشيطان، وغير الملائكة الكرام، إنه جنس كرمه الله، وسخر له ما في السموات وما في الأرض جميعا منه، فكيف نوافق أصحاب الأهواء في تصورهم الناقص للإنسان حين يعتبرونه حيوانا همـه إشباع الرغبات وتحقيق الشهوات والملذات، ولا نتبع في تصورنا ما أخبر الله به من تكريم لهذا الإنسان حتى أسجد الملائكة لآدم أبي البشر؟

 

لقد انحرف تصور أصحاب الفلسفات الأرضية عن الإنسان فصار همهم الأول، بل الأوحد ما أخبر به القرآن: ،يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم فلماذا انحرف تصورنا نحن، وعندنا الخبر اليقين عن هذا المخلوق المكر م؟

إننا نحاول أن نتبع الغربيين في كل أمر، ونلهث وراء أعمالهم الدنيوية التي بغيرها تتعثر الحياة، فلماذا نتبعهم في الأفكار والتصورات ولا نتبعهم في الأعمال والإنجازات؟ لقد صار الإنسان عبدا للآلة، مع أن المفروض والمنتظر أن تكون الآلة في خدمة الإنسان، ولعل هذا الذي أ خبرك به بعيدا عن رأيك وفكرك مع أن الأمر واقع بيننا اليوم، وإذا ما نظرت إلى كثير من البيوت وجدت الأقساط تكاد تفتك بجهود صاحب البيت وتكاد تخربه لسداد قرض هنا، وقسط هناك في شراء بعض الأمور التي يمكن الاستغناء عنها بغير ضرر.

وإن العمل بجانبيه المادي والمعنوي المبني على الإيمان يجعل أصحابه روادا على طريق الخير للبشرية كلها، لأن العاملين المؤمنين المنتجين يدركون واجبهم نحو إخوانهم في الإنسانية، فلا يحرقون الغلات والحبوب حتى يحافظوا على بقاء الأسعار، ولا يلقون بمحصول في البحار لنفس الغرض، ولا يثيرون القلاقل في البلاد، ويبعثون الفتن بين العباد من أجل أن يبيعوا لهم سلعة معينة يكســبون من ورائها الملايين ولا يستفيد المشــترون لها شيئا يذكر حتى بعد سنين.

العمل في الإسلام عبادة، والمقص رون في أعمالهم لا يضرون ـ فقط ـ أنفسهم، بل يضرون غيرهم من البشر، ويؤثرون على التصورات والقيم، ويجعلون الحياة قحطا حين يقودها الماد يون الذين قست قلوبهم فخلت من الرحمة والشفقة إلا إذا كانت لهم من وراء ذلك مصلحة تذكر.

والأمم بحسب ما اعتاد أبناؤها، فإن عودتهم احتمال الشدائد والصبر على المكاره وإتقان العمل، وإشراقة الأمل خلقت منهم رجالا يشدون أزرها، ويقوون عضدها، وإن اعتادوا الرخاوة والترف والكسل في العمل والتهاون في المسؤولية كانوا كلا على الأمة وعالة عليها.

ونحن ـ بحمد الله ـ لم نكن كذلك، حين كانت أمتنا تقوم على الجهاد والاجتهاد، فكنا بحق كما قال شوقي:

ونحن في عين الوجود أمـة ذات اشـــتهار بعلـــو الهمـــة

والأمر محتاج إلى تربية وإلى بعث للعزيمة، وإلى قبول التحدي المطروح علينا، والدين الإسلامي خير حاد لنا وخير مرشد لأبنائنا على امتداد الأجيال.

 

 

 

 

  نحن في زمن الحليم فيه حيران

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يَأْتِي فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ حُدَثَاءُ الأسْنَانِ سُفَهَاءُ الأحْلامِ يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ يَمْرُقُونَ مِنْ الإسْلامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ لا يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ قَتْلَهُمْ أَجْرٌ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) رواه البخاري باب علامات النبوة   وقال : ( يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ أَقْوَامٌ إِخْوَانُ الْعَلانِيَةِ أَعْدَاءُ السَّرِيرَةِ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ قَالَ ذَلِكَ بِرَغْبَةِ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ وَرَهْبَةِ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ ) الطبراني عن معاذ .

إننا في حيرة ، بين دين لا يُعمل به ، ولا يُطبق منهجه ، لعادات نشا الناس عليها ، وأنظمة أفسدته ، وتعليم أزاغه ، وشهوات لا تتفق مع عقيدته ورسالته ، وبين جاهلية لا ترى أحكام الإسلام منسجمة مع العصر .

إننا في حيرة بين شعوب مسلمة ، تنكبت عن صراطه المستقيم ، وتنازلت عنه فحقت عليها كلمة الله ، وتسلطت عليها الأمم ، وفُرضت عليها الأنظمة والقوانين ، التي لا تمت إلى الإسلام بصلة ، لتسير عليها بدلاً من منهج الله القويم .                             

إننا في حيرة بين الفطرة التي فطرنا الله عليها بإتباع دينه ، الذي يدفعنا إلى الإيمان والجهاد   ويبعث في نفوسنا الثورة ، على المجتمع الفاسد والحياة الزائفة ، وبين التربية العصرية والمادية  التي زينت لنا ترك الجهاد ، فأورثنا تركه الجبن والضعف والخذلان ، والقبول بالزعامة التي تفرض علينا ، الاتكال على الغير ، والتنكر لمنهج الله   فكان الذل ، العقوبة التي ابتليت به الأمة نتيجة ذلك ، ومن المعلوم من فقه التربية الإيمانية ، أن الله يعاقب على الذنب بالذنب، وهي أقسى صنوف العقوبات. وهكذا عوقبت الأمة الإسلامية ، على انحرافها العملي والسلوكي بانحراف أشد منه ،، في العقيدة والتصور.

إن المسلم حائر بين شباب ثائر ، ودم فائر   وذهن متوقد وأزهار تريد أن تتفتح ، وبين من أفلست عقليتهم ، وحرَّمت الابتكار والإبداع والشجاعة والمغامرة .

إن المسلم حائر ، لأنه يعيش في بلاد من أغنى بلاد العالم بالثروات الطبيعية ، وبين موجهين وصانعين لا يعرفون قيمة هذه الثروات ، ولا يعرفون أين يضعونها ، وماذا يصنعون منها .

إننا في حيرة ، من هذا العالم الذي نعيش فيه    والذي يواجه عالماً لا يجد فيه غناءه ، ولا يجد فيه غوثا ومعقلا ، عن لصوص العالم المنظَمين  وذئاب الإنسانية التي تحكمت وعاثت في الأرض فسادا ، وبين المسيرة الإسلامية التي ينعقد عليها الأمل والرجاء ، في العمل على تطبيق منهج الله    لحل مشاكل العالم الإسلامي ، الذي دمره القلق والصراع، وتسلط عليه شياطين الجن والإنس   بعد أن جرب مختلف الأنماط في عصره الحاضر  وتسلطت عليه جماعات وأحزاب ، وعدتنا بأنها ستعيد إلينا عزتنا ومجدنا، وتجمع شملنا وتوحدنا  لكننا لم نرى إلا الفرقة والانقسام ، فأصبحت الأمة الواحدة أمماً، وأصبحت الدولة الواحدة  دولاً، وازداد الفقر والتعاسة في كثير من ديار المسلمين هنا وهناك، وفشل دعاة الوطنية والقومية، وفشل من بعدهم الاشتراكيون والبعثيون ولم يبق إلا الإسلام، الذي نجح عندما حكم هذه البلاد يوما ، في إيجاد مجتمع مثالي في عالم البشر، سعدت به البشرية، وترعرعت في جنباته الفضائل والقيم الصالحة، وتناسى المسلمون في ظله العصبيات للأقوام والأجناس والأوطان  وكان ولاؤهم فيه للحق، وعندما ترك المسلمون دينهم ومنهج ربهم ، واستبدلوه بعادات موروثة  وفلسفات وتوجيهات وافدة، جرّت عليهم الضياع والدمار، وكانت الفرقة والشتات  فتسلط عليهم الأعداء، وحصلت الهزائم العسكرية والفكرية والاقتصادية ، وعندما حاول المسلمون أن ينظموا صفوفهم، ويلتمسوا طريقهم؛ ليحملوا الراية من جديد، تربص بهم الأعداء يرقبون حركاتهم ، ويدرسون فكرهم ، ثم يأتمرون ويخططون، ثم يرسلون سهامهم، وبعض سهامهم   رجال من المسلمين أنفسهم ، كي يفرقوا ويقتلوا ويدمروا، فأصيبت جموع كثيرة من المسلمين  بسهامهم ومكرهم وخديعتهم ، وعملوا جاهدين للسيطرة على بلاد المسلمين ، عن طريق غرس بذور الخلاف ، بين الطوائف ، وإعادة صياغة دول المنطقة من جديد ، وتقسيمها على أساس طائفي أو عرقي أو مذهبي ، لإيجاد كيانات متنازعة ، وغير قابلة للاتحاد من جديد ، قال ناحوم جولدمان رئيس الرابطة اليهودية العالمية في خطابه بباريس بمؤتمر اليهود المثقفين عام 1968م: " إذا أردنا لإسرائيل البقاء والاستقرار في الشرق الأوسط علينا أن نفسخ الشعوب المحيطة بها إلى أقليات متنافرة تلعب إسرائيل من خلالها دوراً طليعياً وذلك بتشجيع قيام دويلة علوية في سوريا، ودويلة مارونية في لبنان، ودويلة كردية في شمال العراق " . ونشرت مجلة القوات المسلحة الأميركية (في 6/2006 م) تقريراً كتبه «رالف بيترز» الكولونيل السابق في الجيش الأميركي تحدث فيه عن تقسيم الشرق الأوسط من جديد وإقامة دولة كردية تقتطع أجزاء من العراق وإيران وتركيا وسوريا ، ودولة شيعية في جنوب العراق وإيران ، ومناطق أخرى من السعودية والإمارات والكويت والبحرين، ودولة مارونية درزية في جبل لبنان، وزيادة مساحة الأردن على حساب السعودية، حتى يتم تفكيك الدول الكبيرة مثل تركيا وإيران والسعودية ثم يأتي بعد ذلك الدور على مصر والسودان والمغرب.

كما فعلت الدول الاستعمارية ، بعد سقوط الدولة الإسلامية وتقسيمها إلى دويلات       على أساس قومي أو طائفي ، واللعب على مسألة الأقليات، فأثارت أهل الجنوب في السودان على أساس وجود أقليات غير مسلمة، وتحقق الانفصال ، وأثارت النعرات العرقية والجهوية ودعمت الانفصاليين في دارفور وكردفان وغيرها من المناطق. وأوجد الاستعمار مشكلة الأكراد في شمال العراق منذ نهاية خمسينات القرن الماضي. ومنذ منتصف ثمانينات القرن الماضي أيضاً أوجد المشكلة نفسها في جنوب شرق تركيا. وبدأ المستعمر الآن في إيجادها في سوريا ، ويقوم     في هذه الفترة على إيجاد مشكلة شيعية في العراق   تمهيداً لتمزيقه إلى ثلاث دويلات على الأقل. وفي المغرب مسألة الصحراء ، ومشكلة البربر في المغرب والجزائر ، ومسألة الأقباط في مصر. وفي إندونيسيا يراد فصل عدة جزر عنها ، بعدما نجحت دول الاستعمار في فصل تيمور الشرقية. ونجحت هذه الدول في تقسيم الباكستان عام 1971م، وسمي الجزء المنسلخ منها بنغلادش. وهناك مشاريع تجزئة للدويلات من قبل الدول الاستعمارية التي أقامتها .  

وإن أكثر تلك النظم قدرة على تمزيق المجتمع وتشتيت قواه ، هي تلك التي جاءت وهي تمتطي ظهر الأحزاب القومية، فمزقت ما كان يرجى وحدته، وكان من أعظم إنجازات تلك النظم التي تواجه اليوم شعوبها ، التي تتطلع للحرية والكرامة والتحرر من قبضتها القاتلة ، هي قدرتها على تفتيت المجتمعات التي استأثرت بحكمها   وأفسدت علاقاتها وزرعت المخاوف بين طوائفها  

وإلا بماذا نفسر أن يصطف إلى جانب النظام القاتل ، فريق كبير من المناصرين والمؤيدين  ناهيك عن الجاهزين لسحق أبناء شعبهم واستخدام أبشع الأساليب لوأد تطلعاتهم.. ما أبشع أن يتفقوا على القمع والقتل ، وهدر الكرامات لجزء من أبناء وطنهم ، انتفضوا في وجه القتل والظلم والمهانة والفقر، وما أبشع هذا الوعي البائس الذي لا يرى كل ما يحدث سوى مؤامرة خارجية تستهدف الدول العربية .

ما أبشع أن تكون ثمار عقود من عمر بعض الدول العربية هشاشة في كل شيء، وضعفاً في كل شيء، وتراخياً في كل شيء، وفشلاً في كل شيء ، إلا بقدرة زعامات الاستبداد على إنتاج فلول ملوثة العقول ، وعسيرة الأفهام ، وفاحشة الأقوال ومتوحشة الأفعال.

ما أبشع أن يصحو الحالمون بالخلاص من نظام القمع ، على كابوس الاقتتال الداخلي الطائفي  ما أفدح الثمن، وما أعظمها من جريمة.

 لمصلحة من كل ذلك ؟ في الشهر الماضي     أعلن الجنرال عاموس رئيس المخابرات العسكرية الإسرائيلية قال : " لقد نجحنا في تصعيد التوتر والاحتقان الطائفي والاجتماعي في مصر لتوليد بيئة متصارعة متوترة دائما ومنقسمة ، إلي أكثر من شطر ، في سبيل تعميق حالة الإهتراء داخل البنية والمجتمع والدولة المصرية " مما يكشف الإصرار من جانب قوي مشبوهة وعميلة للصهيونية ، علي تمزيق وتدمير وتقسيم العالم العربي والإسلامي ، إلي كيانات متداعية وهزيلة . وما قاله الجنرال عاموس كان بمثابة رسالة تحتاج إلي من يستكملها ، ولذلك كان الرجل يخاطب خليفته في نفس المنصب الجنرال افيف ، الذي تنتظر منه قيادة الصهيونية العالمية ، تجنيد العملاء لمواصلة أداء المهمة المطلوبة ، وهناك أصحاب مصلحة في خلق انطباع لدي سكان العالم كله ، بان هذه المنطقة تحولت إلي غابة ، تعربد فيها وحوش ضارية ، تمارس هواية القتل من أجل القتل ، ولا تطيق أو تتحمل وجود من يختلف معها ، في العقيدة الدينية علي قيد الحياة. وهناك من يريد تشويه صورة هذه المنطقة، وبالتحديد صورة العرب والمسلمين ، فهل بعد هذا المكر مكر ؟ ﴿ ويمكرون ويمكر الله ﴾ وسيبطل الله مكرهم إن شاء .

 

 

 

 

 

مقولة ملك

لله نقمة لم تبلغ غايتها فيكم  .. هذا ما قاله ملك من ملوك النوبة- والنوبة إقليم يقع في جنوب مصر ، شمال السودان على ضفتي النيل ، وله تاريخ يمتد إلى خمسة آلاف عام . ذكر ابن قتيبة في كتابه مختلف الحديث ، أن المنصور الخليفة العباسي ، سمر ذات ليلة ، فذكر خلفاء بني أمية وسيرتهم ، وأنهم لم يزالوا على استقامة ، حتى أفضى أمرهم إلى أبناءهم المترفين ، فكان همهم من عظيم شأن الملك وجلالة ، قصد الشهوات وإيثار الملذات ، والدخول في معاصي الله ، جهلاً منهم باستدراج الله تعالى ، وأمناً من مكره   فسلبهم الله الملك والعز ، ونقل عنهم النعمة   فقال له صالح بن علي : يا أمير المؤمنين ، إن عبيد الله بن مروان ، لما دخل النوبة هارباً فيمن اتبعه   سأل ملك النوبة عنهم ، فأخبر ، فركب إلى عبيد الله ، فكلمه بكلامٍ عجيب في هذا النحو ، لا أحفظه ، فإن رأى أمير المؤمنين ، أن يدعو به من الحبس بحضرتنا في هذه الليلة ، ويسأله عن ذلك   فأمر المنصور بإحضاره ، وسأله عن القصة ، فقال : يا أمير المؤمنين ، قدمت أرض النوبة ، بأثاثٍ سُلم لي ، فافترشته بها ، وأقمت ثلاثاً ، فأتاني ملك النوبة ، وقد خبر أمرنا ، فدخل عليَّ رجل حسن الوجه ، فقعد على الأرض ، ولم يقرب الثياب ، فقلت : ما يمنعك أن تقعد على ثيابنا ؟ فقال : إني ملك ، وحق لكل ملك ، أن يتواضع لعظمة الله ، إذ رفعه الله ، ثم قال : لم تشربون الخمرة ، وهي محرمة عليكم في كتابكم ؟ فقلت : اجترأ على ذلك عبيدنا وأتباعنا بجهلهم .

قال : فلم تطؤون الزروع بدوابكم ، والفساد محرمٌ عليكم ؟ قلت : فعل ذلك عبيدنا وأتباعنا بجهلهم .. قال : فلم تلبسون الديباج والذهب والحرير   وهو محرم عليكم في كتابكم ؟ قلت : ذهب منا الملك ، وانتصرنا بقوم من العجم ، دخلوا في ديننا   فلبسوا ذلك على كُرهٍ منا .

فأطرق ينكث بيده على الأرض ويقول : عبيدنا وأتباعنا وأعاجم دخلوا في ديننا ، ثم رفع رأسه وقال : ليس كما ذكرت ، بل أنتم قومٌ استحللتم ما حرم الله عليكم ، واتيتم ما عنه نهيتم   وظلمتم فيما ملكتم ، فسلبكم الله العز   وألبسكم الذل بذنوبكم ، ولله نقمة لم تبلغ غايتها فيكم ، وأنا خائف أن يحل بكم العذاب ، وأنتم ببلدي ، فينالني معكم ، وإنما الضيافة ثلاث   فتزود ما احتجت إليه ، وارتحل عن أرضي .

لقد أدرك هذا النوبي ، الأسباب الحقيقية التي أطاحت بملك بني أمية ، ومن أهمها الظلم : ظلم النفوس بالذنوب والمعاصي ، وظلم العباد بعدم إنفاذ حكم الله ، على وجهه الحق . ولذلك عندما قيل لرجل عاقل من بني أمية : أخبرنا عن أول شيء كان بدء زوال ملككم ؟ فقال : سألت فاسمع ، وإذا سمعت فافهم . تشاغلنا عن تفقد ما كان تفقده يلزمنا ، ووثقنا بوزراء آثروا مصالحهم على منافع أمتنا ، وأبرموا أمورا أسروها عنا ، فظلمت رعيتنا ، ففسدت نياتهم لنا ، وقل دخلنا ، فخلت بيوت أموالنا ، وضعف جندنا فزالت هيبتنا ، واستدعاهم أعداؤنا ، فظاهروهم علينا ، وكان أكثر الأسباب في ذلك ، استتار الأخبار عنا .

نعم إن هذا يقع ، عندما لا نجد الناصحين لولاة الأمر ، ولا نجد من يقول الحق ، وقول الحق     من أحد بنود عقد البيعة ، الذي تأسست عليها الدولة الإسلامية الأولى " أن نقول الحق حيثما كنا  لا نخاف في الله لومة لائم" فقد عز النصح لولاة الأمر وتلك وظيفة الرسالات التي حاء بها رسل الله :  ﴿أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ ﴾الأعراف 68   وَعَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ فإنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: ( الدِّينُ النَّصِيحَةُ. قُلنَا: لِمَنْ؟ قال: لله وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأئِمَّةِ المُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ )رواه مسلم. ولا خلاف بين العلماء في وجوب مناصحة الحاكم وتقويمه ، بل ومحاسبته على ما يقدم   فالحاكم إذا ما أراد الله به خيرا ، رزقه البطانة الصالحة ، التي تذكره إذا نسي ، وتقومه إذا اعوج   وقد فهم الصحابة رضي الله عنهم نصوص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فهما عاما بعيدا عن تقييده بوجوب السرية، فكان الخلفاء الراشدون يُنتَقدون ويُوجّهون ، وهم على المنابر، ولم يُحرِّموا أو يمنعوا ذلك، ولقد ضربوا أروع الأمثلة على ذلك , فها هو الصديق أبو بكر رضي الله عنه يقول في أول كلام له بعد توليه الخلافة والحكم : " قال: أيها الناس! لقد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الضعيف فيكم ، قوي عندي   حتى آخذ له الحق، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ منه الحق ، إن شاء الله، وما ترك قوم الجهاد إلا ضربهم الله بالذل، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله؛ فإن عصيت الله ورسوله ، فلا طاعة لي عليكم ". السيرة النبوية لابن حبان 419. ولقد أحسن الشاعر :

إذا ما الله شاء صلاح قوم   أتاح لهم أكابر مصلحينا

ذوي رأي ومعرفة وفهم    وإعداد لما قد يحذرونا

فلم يستأثروا بكثير جمع     وكانوا للمصالح مؤثرينا

وإن يشأ الإله فساد قوم    أتاح لهم أكابر معتدينا

ذوي كبر ومجهلة وجبن     و إهمال لمـا يتوقعونا

فجاروا حيثما أمروا بعدل  كأن قد قيل كونا جائرينا

فالعدل أساس الحكم ، ومن عدل في حكمه وكف عن ظلمه ، نصره الحق ، وأطاعه الخلق   وصفت له النعمى ، وأقبلت عليه الدنيا ، فيهنأ بالعيش ، ويستغنى عن الجيش ، ويملك القلوب   ويأمن الحروب ، فتصير طاعته فرضا ، وتظل رعيته له جندا ، لأن الله تعالى ما خلق شيئا أحلى مذاقا من العدل ، ولا أروح إلى القلوب من الإنصاف ، ولا أمر من الجور ، ولا أشنع من الظلم إلا غياب العدل ، لأنه يفسح المجال لإكابر المجرمين ، الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، وإذا تآمروا وتُرِكَ لهم الحبل على الغارب ، وأطلق لهم العنان، ولم يضرب على أيديهم ، كان ذلك من أعظم أسباب دمار الأمم والشعوب ، والأمة التي تقيم حدود الله على ضعفائها ، ولا تقيمها على أشرافها ، أمة معرضة للهلاك والدمار، فلا بد من إقامة أمر الله وحدوده   على الصغير والكبير، حتى ينـزجر الناس ويرتدعوا، فتسلم بذلك الأمة، وتنجو من عذاب الله وعقوبته، وبغير ذلك ، فإن الناس لا يزدادون إلا قسوة، مهما رأوا من نذر العذاب، لأن القلوب إذا قست ، وغفلت عن الله ، لا تؤثر فيها العبرة ولا الموعظة، فتصبح أمة خاملة، وغير قادرة على مجابهة التحديات التي تواجهها  وسرعان ما تنهار  وصدق الله ﴿ وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ﴾  لقد أخذ الترف والتعلق بزينة الحياة الدنيا ، وشهوتها بألباب   الكثيرين ، واستحوذ على عقولهم ، إلى درجة أنهم أصبحوا ينظرون إلى تعاليم الإسلام وأحكامه على أنها تفسد عليهم متعتهم وبهجتهم في الحياة  فاتخذوا كتاب ربهم وسنة نبيهم ، وراءهم ظهرياً وتولوا وأعرضوا ، حتى وصل الأمر ببعضهم إلى ترك الطاعة ، بل ومبارزة الله تعالى بالمعاصي.

والأمةَ التي تغرقُ في التَّرَف، وتُبطِرُها الرَّفاهيَّة  وتسعَى وراءَ غرائِب اللَّذَّات ، تتزعزعُ أخلاقُها  وتذوبُ قِيَمُها، وتنسلِخُ من مبادئِها، وتنسَى اللهَ والدارَ الآخرة، وتدِبُّ فيها عواملُ الانهِيار.

 وقد أنذر الله وحذَّر مِن هذا الداء المهلِك  الذي أصابَ الأُمم، فحلَّ بها عقاب الله المعجَّل كما قال تعالى: في كتابه لرسوله صلى الله عليه وسلم : ﴿ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ * لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ يس 6 .

 

 

 

 

 

 

إن لصاحب الحق مقالا

 عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : ( ابْتَاعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ رَجُلٍ مِنْ الْأَعْرَابِ جَزُورًا أَوْ جَزَائِرَ بِوَسْقٍ مِنْ تَمْرِ الذَّخِرَةِ ، وَتَمْرُ الذَّخِرَةِ الْعَجْوَةُ فَرَجَعَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَيْتِهِ وَالْتَمَسَ لَهُ التَّمْرَ فَلَمْ يَجِدْهُ فَخَرَجَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ يَا عَبْدَ اللَّهِ إِنَّا قَدْ ابْتَعْنَا مِنْكَ جَزُورًا أَوْ جَزَائِرَ بِوَسْقٍ مِنْ تَمْرِ الذَّخْرَةِ فَالْتَمَسْنَاهُ فَلَمْ نَجِدْهُ قَالَ : فَقَالَ الْأَعْرَابِي:ُّ وَاغَدْرَاهُ قَالَتْ: فَنَهَمَهُ النَّاسُ ، وَقَالُوا قَاتَلَكَ اللَّهُ أَيَغْدِرُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعُوهُ فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالًا ثُمَّ عَادَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا عَبْدَ اللَّه إِنَّا ابْتَعْنَا مِنْكَ جَزَائِرَكَ وَنَحْنُ نَظُنُّ أَنَّ عِنْدَنَا مَا سَمَّيْنَا لَكَ فَالْتَمَسْنَاهُ فَلَمْ نَجِدْهُ فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: وَاغَدْرَاهُ فَنَهَمَهُ النَّاسُ وَقَالُوا : قَاتَلَكَ اللَّهُ أَيَغْدِرُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعُوهُ فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالًا فَرَدَّدَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا فَلَمَّا رَآهُ لَا يَفْقَهُ عَنْهُ قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ : اذْهَبْ إِلَى خُوَيْلَةَ بِنْتِ حَكِيمِ بْنِ أُمَيَّةَ فَقُلْ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَكِ : إِنْ كَانَ عِنْدَكِ وَسْقٌ مِنْ تَمْرِ الذَّخِرَةِ  فَأَسْلِفِينَاهُ ، حَتَّى نُؤَدِّيَهُ إِلَيْكِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، فَذَهَبَ إِلَيْهَا الرَّجُلُ ثُمَّ رَجَعَ الرَّجُلُ فَقَالَ : قَالَتْ نَعَمْ هُوَ عِنْدِي يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَابْعَثْ مَنْ يَقْبِضُهُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلرَّجُلِ ، اذْهَبْ بِهِ فَأَوْفِهِ الَّذِي لَهُ قَالَ: فَذَهَبَ بِهِ ، فَأَوْفَاهُ الَّذِي لَهُ قَالَتْ: فَمَرَّ الْأَعْرَابِيُّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي أَصْحَابِهِ فَقَالَ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا ، فَقَدْ أَوْفَيْتَ وَأَطْيَبْتَ ، قَالَتْ : فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أُولَئِكَ خِيَارُ عِبَادِ اللَّهِ ، عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، الْمُوفُونَ الْمُطِيبُون)َ رواه أحمد والبزار والألباني في السلسلة الصحيحة . إن معظم الخصومات التي تقع بين الناس ، ترجع في كثير من الأحوال ، إلى سوء طلب الدائن دينه ، وسوء الأداء من المدين ، وسوء الطلب ، يكون بالتشهير بين الناس ، أو بالرفع للقضاء أو بالتحكم فيه ، وهو في حالة عسر ، أما سوء الأداء ، فيكون بإنكار الحق ، أو المماطلة فيه بغير عذر . إن هذه المعاملة السيئة ، تقطع صلات المحبة ، وتوغر الصدور، وتفكك الروابط الاجتماعية ، وقد تؤدي الى التقاضي  ولذلك جاء الهدي النبوي في علاج هذه العلل ، لأن الله يرحم الرجل السمح في بيعه وشرائه ، السمح في مطالبته بحقه ، السمح في أداء ما عليه من حقوق ، ويخص الذي يُقَدِّر حال مدينه ، فيتصدق عليه بدينه ، أو يؤجل السداد إلى وقت الاستطاعة ، إذا كان في وضع لا يسمح له بالسداد ، فيبشره برحمة منه ورضوان من الله ، جاء ذكر ذلك فيما الرسول عن أبي مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( حوسب رجل ممن كان قبلكم ، فلم يوجد له من الخير شيء ، إلا أنه كان يخالط الناس وكان موسراً ، فكان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسر ، قال : قال الله عز وجل نحن أحق بذلك منه تجاوزوا عنه ) فالأصلُ أنّ يحب الناس الحقَّ ويسعون له، ولكنَّ الأهواء والشياطين ، تأخذهم من طريق الحق لترديهم في أودية الباطل، فيأتي دعاةُ الخير لينتشلوهم ويستمر صراعُ الخير والشر، والحق والباطل إلى أن يرثَ اللهُ الأرضَ ومَن عليها. وحتى يبقى الحقُّ موجوداً في الأرض معمولاً به، وحتى لا يعم الفسادُ وتنتشر الفوضى ، جاء الشرع يدعو الناسَ إلى العمل بالحق والسعي إليه وعدم السكوت عن الحق ، والنطق بالحق والاستماع لصاحب الحق ، ومن أجل هذا نزلتِ الشرائعُ، وأقيمتِ القوانين، وشُيِّدَتِ المحاكمُ، ونُصبَت القُضاة.

إن شريعة الإسلام توجب علينا ، أن نتربى ونربي أبناءنا على بذل الحق من أنفسنا  والمطالبة بحقنا بضوابط المطالبة، وذلك خيرٌ من أن نمنع الحق أهله ، أو نسكتَ عن المطالبة به فيضيع ، وقد ورد الوعيد في حق من يقصد إتلاف أموال الناس ، ولا يريد السداد ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ  : ( مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ وَمَنْ أَخَذَ يُرِيدُ إِتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ) رواه البخاري ، أوصى الإمام جَعْفَرِ بنِ مُحَمَّدٍ ولده فقَالَ: (يَا بُنَيَّ مَنْ قَنعَ بِمَا قُسِمَ لَهُ اسْتَغْنَى، وَمَنْ مَدَّ عَيْنَيْهِ إِلَى مَا فِي يَدِ غَيْرِه مَاتَ فَقِيْراً   يا بُنَيَّ  ! قُلِ الحَقَّ لَكَ وَعَلَيْكَ ، تُسْتَشَارُ مِنْ بَيْنِ أَقْرِبَائِكَ) ، وصاحب الحق ينبغي أن يُقَدَّر، وأن يُراعى شعوره ، ويُعنى بإحساسه  ولكن هناك من قست قلوبهم ، وغلظت أفئدتهم ، فجحدوا أصحاب الحق ، وازدروا المطالبة به ، ولم يكتفوا بسكوتهم عن الحق  وإقرارهم وموالاتهم للظالمين ، بل تفننوا بمزيد من إيلام صاحب الحق ، وجرح مشاعره  كلما صدع بالحق صادع ، أو طالب به مطالب ، توهينا لمطلبه ، وتشكيكا في صدقه  وطعنا في نيته ، متجاهلين تلك القاعدة النبوية ، التي تفرق بوضوح ، بين مقال صاحب الحق ، وبين الباغي الجائر في مطالبته  فصاحب الحق المطالب به ، إن وافق أذنا صاغية، وعقولا راجحة، ونفوساَ منصفة  سعد الطالب والمطلوب، لأن حفظ حقوق الناس ، هي بضاعة أهل الإسلام ، التي أخذها المتشدقون بحفظ حقوق الإنسان   والمنادون بالحرية ، والمخادعون بالديمقراطية وليتهم قالوا: هذه بضاعتكم ردت إليكم ولكنهم قالوا: نحن حماتكم، وهذه نظم حقوقكم ، التي حفظوا من خلالها حقوق شعوبهم ، وأكرموا رعاياهم ، أما بالنسبة للمسلمين ،  والشعوب المنكوبة المظلومة  فلم يجدوا لها إلا فتات الحقوق ، يسترضونهم بها ، وما هم على رضاهم بمشفقين، ولا حريصين ، فالشجب والتنديد، ومجالس النقاش والتمطيط ، هو غاية ما عندهم تجاه قضايا المسلمين ، " ومن نكد الدنيا على الحر أن يجد قضاياه يقضيها عدو معاند " إن على الدائنين ، ومن بيدهم حقوق الناس أن يتأسوا برسول الله : ﴿ لقد كان لكم في رسول الله اسوة حسنة ، لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا ﴾ .

 

 

مصيبة المرض

 قد ينحرف الإنسان ، وقد يقع في خطأ، وقد ينسى الله ويغفل عنه، وقد يأكل المال الحرام ، فتأتي المصيبة كرسالة من الله والمرض من أبرز مصائب الدنيا ، ومن الحكمة ،أن الأمراض تصيب كل الناس، تصيب الملوك  والأغنياء والفقراء والأقوياء والضعفاء، ما يدل على أن المرض يصيب الجميع ويقهر كل واحد ، فما أصيب به عبد إلا بذنب قال تعالى : ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾   الشورى  30 ، ولا يرفع إلا بتوبة، جاء في الحديث القدسي عن أبي ذَرّ رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال : ( يا عبادي، لو أنَّ أوَّلكم وآخرَكم، وإنسَكم وجِنَّكم   قاموا في صعيد واحد، فسألوني فأعطيتُ كُلَّ إنسان مسألتَه، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما يَنْقُص المِخْيَطُ إذا أُدِخلَ البحرَ، يا عبادي، إنما هي أعمالُكم أُحصيها لكم، ثم أُوفّيكم إيَّاها، فمن وَجَدَ خيراً فليَحْمَدِ الله، ومن وجد غير ذلك فلا يَلُومَنَّ إلا نَفْسَه ) وهو يكفر السيئات ، ففي الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم : ( ما يُصيب المؤمنَ من وَصَب، ولا نَصَب، ولا سَقَم، ولا حَزَن، حتى الهم يَهُمُّه، إلا كَفَّر الله به سيئاته ) وتكفر الخطايا: ( ما يَزَالُ البلاء بالمؤمن والمؤْمِنة، في نَفْسِهِ وولده ومالِه حتى يلقَى الله ومَا عَلَيه من خطيئة )حديث صحيح، أخرجه الترمذي ، وإذا كان للعبد ذنوب ولم يكن له ما يكفرها ، ابتلاه الله بالحزن أو المرض، وهذه بشارة من الله لأن مرارة ساعة في الدنيا، خير من احتمال عذاب الآخرة إلى الأبد ، ولذلك قال بعض السلف:" لولا المصائب لوردنا الآخرة مفاليس " لأن المصائب تسوق إلى طاعة الله  ،كما تدعو إلى التوبة، ويعقبها من اللذة والمسرة في الآخرة أضعاف لذة الدنيا ومسرتها ، حتى يتمنى الناس يوم القيامة أن جلودهم كانت تقرض بالمقاريض في الدنيا بما يرون من ثواب أهل البلاء ، وإذا نزل بالعبد مرض أو مصيبة فحمد الله عليها، بني الله له بيت الحمد في الجنة ، وحين يأخذ الله من مؤمن بعض صحته، يعوضه أضعافاً مضاعفة بالقرب منه، لأن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة  ، إنها جنة القرب من الله عز وجل ، والمرض أكبر باعث على القرب من الله   ورد في بعض الآثار: ( أنا عند المنكسرة قلوبهم ) وبالمرض يعرف صبر العبد، فإذا وجد الصبر وجد معه كل خير، وإذا فقد فقد معه كل خير، والمرض من المصائب  والمصائب مِحَكّ الرجال، عن أنس رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:( إنَّ عِظَم الجزاءِ مع عِظَم البلاء، وإنَّ الله تعالى إذا أحبَّ قوماً ابتلاهم، فَمَن رَضيَ فله الرِّضى، ومن سَخِطَ فله السَّخَطُ ) أخرجه الترمذي بإسناد حسن ، فإذا صبر العبد كتب في ديوان الصابرين، وإن أحدث له المرض رضىً ،كتب في ديوان الراضين ، أخرج مسلم في صحيحه: عن صهيب رضي الله عنه، أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: ( عَجَباً لأمر المؤمن إنَّ أمْرَه كُلَّه له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابتْه سَرَّاءُ شكر فكان خيراً له، وإن أصابتْه ضرَّاءُ صَبَر، فكان خيراً له )  وإذا نزل بالعبد الضر ، ألجأه الله إلى الخوف ، والخوف يلجئه إلى دعاء الله بدليل قوله تعالى : ﴿ وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ ﴾  فصلت 51 ، والمرض يدفع إلى التوبة والإنابة ، وقد قال الإمام علي رضي الله عنه: "الرضى بمكروه القضاء أرفع درجات اليقين ".  والمرض يحجِّم العبد ، لأنه لو أنه بقي صحيحاً قوياً ، لبغى وتكبر والله يسلط على بعض المؤمنين الذين ينتابهم الضعف ، الأسقام والآفات ، لأن الإنسان لا يعرف حقيقة العبودية إلا إذا شعر بضعفه  ولو جعله قوياً صحيحاً طوال حياته لاستغنى بقوته عن الله ولشقي باستغنائه ، لكنه حين يمرض يعرف حجمه ويعرف افتقاره إلى الله عز وجل ، وإذا أراد الله بعبد خيراً ، سقاه دواءً من الابتلاء ينقيه ، ورد في  الحديث القدسي : ( أن العبد إذا دعا لأخيه المبتلى فقال: يا رب ارحمه يقول الله: كيف أرحمه مما أنا به أرحمه، وعزتي وجلالي إن أردت أن أرحم عبداً ابتليته بكل سيئة كان عملها سقماً في جسده، أو إقتاراً في رزقه، أو مصيبة في ماله، أو ولده، حتى أبلغ منه مثل الذر، فإذا بقي عليه شيء شددت عليه سكرات الموت حتى يلقاني كيوم ولدته أمه )  

 فالمرض علامة على أن الله أراد صاحبه بالخير، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( مَنْ يُرِدِ الله به خيراً يُصِبْ منه ) حديث صحيح أخرجه البخاري ، فما من أحد من الناس يصاب بالبلاء في جسده، إلا أمر الله عز وجل الملائكة الذين يحفظونه أن يكتبوا ما كان يعمل وهو معافى، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما من مسلم يصاب ببلاء في جسده، إلا أمر الله الحفظة الذين يحفظونه: أن اكتبوا لعبدي في كل يوم وليلة من الخير على ما كان يعمل ما دام محبوساً في وثاقي ) حديث صحيح، أخرجه الحاكم في المستدرك ، وإذا كان للعبد منزلة في الجنة، ولم يبلغها بعمله ابتلاه الله في جسده: ( إن الرجل ليكون له عند الله المنزلة، فما يبلغها بعمل، فما يزال الله يبتليه بما يكره حتى يبلغه إياها )حديث صحيح أخرجه الحاكم في المستدرك . 

مفهوم الــــتـوبـــة

التوبة : رجوعٌ إلى الله بسبب المعاصي والذنوب أو المخالفات والتقصيرات ، وقد أمر الله بها وندب إليها فقال تعالى : ﴿ وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون ﴾ النور 31 ، والتائب من المحبوبين عند الله  قال تعالى : ﴿ إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ﴾البقرة 222 ومن لم يتب فهو من الظالمين قال تعالى : ﴿ بئس لاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون ﴾الحجرات 11،ومن  تاب يفرح به النبي صلى الله عليه وسلم ، ويفرح به الله تعالى ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لله اشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه ، من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة ، فانفلتت منه  وعليها طعامه وشرابه ، فأيس منها ، فأتى شجرة  فاضطجع في ظلها ، وقد أيس من راحلته  فينما هو كذلك ، إذا هو بها قائمة عنده  فأخذ بخطامها ، ثم قال من شدة الفرح : اللهم أنت عبدي وأنا ربك ، أخطأ من شدة الفرح ) رواه مسلم وهو متفق عليه  ، وإطلاق الفرح في حق الله مجازُ عن رضاه ، وقد شُرعت التوبة ، وقايةً للمجتمع من الأذى والشرِّ    فلو كان الذنب الواحد يُخَلِّدُ في النار ، ولا توبة بعده ، لتجبر العصاة و،ازدادوا شرّا  ولأُصيب المجتمع كله بشرورهم ، وليئس الناس من آخرتهم ، لذا جاءت الدعوة من الله ، ألاّ نيأس من رحمته فقال سبحانه : ﴿ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ، إن الله يغفر الذنوب جميعا ، إنه هو الغفور الرحيم ﴾ الزمر 53 . لذا شرع الله لنا التوبة ، ليرحمنا من الأذى والمعصية . قال تعالى :﴿إنما التوبة للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب ﴾ النساء 17. والسوء : هو الأمر المنهي عنه من الله ، وأما الجهالة فقد أجمَع أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم كما روى عن قتادة : على أن كل شيء عُصي الله به فهو جهالة ، عمداً كان أو غيره  والتوبة: تشمل كل أنواع السوء والمعاصي   وكل من عصى ربه فهو جاهل ، حتى ينزع من معصيته ويندم ، ويُعذِّب نفسه ، أما من يخطط لفعل المنكر ، وارتكاب الفحشاء  ويصرُّ على السوء ، ويتفاخر ولا يندم على ما فعل ، فهذا لا يغفر الله له ، إن استمر على حاله حتى شارف على الموت ، وقد نبه الرسول صلى الله عليه وسلم  إلى ذلك بقوله :(إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر )رواه أحمد والترمذي، وفي هذا يقول الله سبحانه : ﴿وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت فال إني تبت الآن ﴾النساء 18، وعلى المسلم أن يجتنب التسويف في التوبة ، ففي الخبر: ( هلك المسوفون )  وإذا كانت التوبة واجبة ، كان ما لا يتوصل إليها إلا به واجباً ، ومعرفة الذنوب واجبة  والذنب : عبارة عن كل ما هو مخالف لأمر الله تعالى في ترك أو فعل ، والذنوب صغائر وكبائر ، بدليل قوله تعالى : ﴿ إن تتجنبوا كبائر ما تنهون عنه نُكَفِّر عنكم سيئاتكم ﴾النساء 31 وقوله تعالى :﴿ الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم ﴾النجم 23 ، ولا يجوز للإنسان أن يتجاوز عن أخطائه ، ويقول: هذه صغيرة وتلك صغيرة ، لأن الصغيرة بالإصرار والمواظبة تكبر ، ففي الحديث أن رسول الله  صلى الله عليه وسلم  قال : ( لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار ) أخرجه الطبراني ورواه البيهقي ، وحين ننظر إلى قوله تعالى : ﴿ والذين إذا فعلوا فاحشةً أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ﴾ آل عمران 135 . نجد أن الذي فعل الفاحشة ، ظالم لنفسه  ، لأنه حقق لنفسه شهوة عارضة  وأبقى على نفسه عذاباً خالدا ، أما لماذا لم يقل الله الذين ظلموا أنفسهم فقط ؟ والعطف بأو لا بالواو ، ذلك لأن الله يريد أن يوضِّح لنا الاختلاف ، بين فعل الفاحشة وظلم النفس ، فالذي يفعل الفاحشة ، إنما يحقق لنفسه شهوة ولو عاجلة ، لكن الذي يظلم نفسه يذنب الذنب ، ولا يعود عليه شيء من النفع ، فالذي يشهد الزور مثلاً ، لا يحقق لنفسه النفع ، لأن النفع يعود للمشهود له زورا ، وشاهد الزور هنا ظلم نفسه ، لأنه لبى حاجة عاجلة لغيره ، ولم ينقذ نفسه من عذاب الآخرة ، أما الإنسان الذي يرتكب الفاحشة ، فقد أخذ متعته في الدنيا ، وبعد ذلك ينال العقاب في الآخرة ، والظالم لنفسه  لا يفيد نفسه ، كمن باع دينه بدنيا غيره . وأما قول الله تعالى :﴿ فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ﴾ معنى الذنب هنا كما قال الشعراوي : هو المخالفة لتوجيه المنهج  جاء الأمر من المنهج ، ولم ينفذ الأمر ، ذلك تقنين السماء ، أما في مجال التقنين البشري فنقول : لا تجريم إلا بنص ، ولا عقوبة إلا بتجريم ، وهذا يعني ضرورة إيضاح ما يعتبر جريمة ، حتى يمكن أن يحدث العقاب عليها  ولا تكون هناك جريمة ، إلا بنص عليها ، أي يتم النص على الجريمة ، قبل أن ينص على العقوبة ، فما بالنا إذا كان المنهج من عند الله ؟ إنه يعرِّفنا الذنوب أولاً ، وبعد ذلك يحدد العقوبات التي يستحقها مرتكب الذنب  ومن هنا كان قوله تعالى : ﴿ ولم يصرّوا على ما فعلوا وهم يعلمون﴾ آل عمران 135 ، فالاستغفار إذن  ليس أن تردف الذنب بقولك : أستغفر الله فقط ، روى جابر أن أعرابياً دخل مسجد رسول الله ًصلى الله عليه وسلم وقال : اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك وكبَّر ، فلما فرغ من صلاته ، قال له علي رضي الله عنه : يا هذا إن سرعة اللسان بالاستغفار توبة الكذابين ، وتوبتك هذه تحتاج إلى التوبة  فقال يا أمير المؤمنين وما التوبة ؟ قال : هي اسمٌ يقع على ستة معانٍ : على الماضي من الذنوب الندامة ، ولتضييع الفرائض الإعادة  ورد المظالم ، وإذابة النفس في الطاعة كما ربيتها في المعصية ، وإذاقتها مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية , والبكاء بدل كل ضحكٍ ضحكته "، إذن على الإنسان أن يردف الذنب بقوله : استغفر الله ، وأن يصرّ على ألا يفعل الذنب أبدا ، وليس معنى هذا ألا يقع الذنب مرَّةً أخرى ، فالذنب قد يقع من الإنسان ، ولكن ساعة أن يستغفر ، يصرُّ على عدم العودة ، وبشرط ألا يكون بنيةٍ مسبقة ، كأن يقول الإنسان ، سأرتكب الذنب وأستغفر لنفسي بعد ذلك ، فهذا كالمستهزئ بربه ، وهذا ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : (التائب من الذنب وهو مقيمٌ عليه كالمستهزئ بربه )    أما هل يعود إثم الذنب الذي تاب منه ثم عاد إليه ؟ قيل يعود إليه إثم الذنب الأول  لفساد التوبة وبطلانها بالمعاودة ، لأن التوبة من الذنب بمنـزلة الإسلام من الكفر ، فالكافر إذا أسلم ، هدم إسلامه ما قبله من الإثم وتوابعه ، فإذا ارتد ، عاد إليه الإثم الأول مع إثم الردة . كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أحسن في الإسلام أُخذ بالأول والآخر) .

قد يسأل سائل : إذا حيل بين العاصي وأسباب المعصية ، وعجز عن المعصية ، فهل تصح توبته ؟ فقد قيل لا تصح توبته ، لأن التوبة إنما تكون ممن يمكنه الفعل والترك . وقد سميت بتوبة المفاليس ، وأما حقوق الناس  فإن التائب يغفر له ، إما بأدائه أو الاستحلال بعد الإعلام ، لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (من كان لأخيه عنده مظلمة ، من مال أو عرض فليتحلله اليوم ، قبل أن لا يكون دينار ولا درهم ، إلا الحسنات والسيئات ) . وأن يبدأ قبل كل شيء ، بتأدية حقوق الناس ، ورد ظلامتهم ، فإن اغتصب رد ما اغتصبه ، وإن أساء طلب السماحة .

والتوبة : تكون إما عن الكبائر كلها أو عن بعضها ، بخلاف الصغائر، لأنها أقرب إلى تطرق العفو إليها ، أما من تعذَّرَ عليه أداء الحق المترتب عليه ، فإن كان في حق الله  كمن ترك الصلاة عمدا من غير عذر، فتوبته بالندم ، والاشتغال بأداء الفرائض المستأنفة  وقضاء الفرائض المتروكة .

أما حقوق العباد : فإن كانت أموالاً ، ردها إلى أصحابها ، فإن تعذَّر ذلك ، تصدق بتلك الأموال عن أصحابها ، ويوم الحساب  يُخيَّرُ بين أن تكون له أجورها ، أو يأخذ من حسنات التائب بقدر أمواله . لما روى عن ابن مسعود أنه اشترى من رجل جاريه   ودخل يزن له الثمن ، فذهب رب الجارية  فانتظره حتى يئس من عودته ، فتصدق بالثمن  وقال : "اللهم هذا عن رب الجارية  فإن رضي فالأجر له ، وإن أبى فالأجر لي  وله من حسناتي بقدره" .   

وأما توبة من اختلط ماله الحلال بالحرام  وتعذَّر عليه تمييزه ، فإنه يتصدَّقُ بقدر الحرام ويُطَيِبُ باقي ماله . وقد اتفق الجمهور ، على أن التوبة ،  تأتي على كل ذنب ، لحديث رسول الله صلى الله علي وسلم فيما يرويه عن ربه : ( ابن آدم لو لقيتني بقراب الأرض خطايا ، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لقيتك بقرابها مغفرة ) ، أما هل تصح توبة العاجز عن اقتراف الذنب ؟ لا تصح ، لأن التوبة عبارة عن ندم ، يبعثُ العزم على الترك ، فيما يقدر على فعله ، لأن مالا يقدر على فعله انعدم بنفسه لا بتركه إياه .                         

وهل تصح التوبة من ذنب مع الإصرار على غيره؟ حكى النووي الإجماع على صحة ذلك  لأن التوبة من الله سبحانه ، هي فتح المجال لرجوع الإنسان الذي انحرف ، والله حين شرع التوبة ، وفتح باباً لها ، إنما يريد أن يجعل للإنسان العذر في الغفلة أو النسيان أو الضعف ، الذي قد يصيب النفس الإنسانية فتعصي ، ولكن ذلك لا يعني أن يتمادى الإنسان في المعصية ، لأن صحة التوبة متوقفة على العزم على الفرار إلى الله والرجوع إليه  وهنا سؤال : هل يصح أن تتبعض التوبة كالمعصية ، فيكون تائباً من وجه دون وجه كالإيمان والإسلام ؟ الراجع صحة ذلك   كما لو أتى الإنسان بفرض ، وترك فرضاً آخر ، فإنه يستحق العقوبة على ما تَرَكَه   دون ما فَعَلَه ، فكذلك إذا تاب من ذنب وأصر على الآخر ، فقد أدى أحد الفرضين وترك الآخر ، فإن ما تَرَكَ لا يكون موجباً لبطلان ما فعل ، كمن تَرَكَ الحج وأتى بالصلاة والصيام والزكاة .

ذكر ابن القيم في مدارج السالكين : بأن التوبة لا تصح من ذنب ، مع الإصرار على آخر من نوعه ، أما التوبة من ذنب مع مباشرة آخر لا صلة له به ، ولا هو من نوعه  فذلك صحيح  ،كمن تاب من الربا ولم يتب من شرب الخمر .

وهل يشترط في صحة التوبة أن لا يعود إلى الذنب أم ليس ذلك بشرط ؟ ذهب أكثر العلماء إلى:  أن ذلك ليس بشرط ، لأن صحة التوبة ،تتوقف على الإقلاع عن الذنب والندم عليه ، والعزم الجازم على ترك معاودته ، وباب التوبة مفتوح في كل لحظه  فإذا ما اخطأ العبد فإن رحمة الله ، تمنحه البر والعافية والمغفِرةَ  قال تعالى : ﴿ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله . إن الله يغفرُ الذنوب جميعا . إنه هو الغفورٌ الرحيم ﴾ الزمر 53 . فليتوجه الإنسان المخطئ إلى ربه ، حتى يفتح له بابه ، ويتقبله بين عباده ، ويمنحه رحمته وعفوه ، وليطرق بابه كل مُسيء ، وألا يقنط وييأس من روح الله . قال تعالى:﴿ ولا تيأسوا من روح الله . إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ﴾ يوسف 87 ، ويذهب الإسلام في هذا مذهباً بعيدا ، حتى ليحسبه الجاهل عند النظرة السريعة ،يُزَيِّنُ للناس الخطيئة ، ليتوبوا منها  قال ًصلى الله عليه وسلم:(كلُّ بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون ) ، وقال : (والذي نفسي بيده لو لم تُذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يُذنبون ويستغفرون فيغفر لهم )رواه مسلم . إنه لا يُزَيِّنُ الخطيئة هنا ، ولكن يُيَسِّرُ التوبة  التي حض عليها بقوله : ﴿ يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبةً نصوحا ﴾ التحريم 8 .       

 

 

 

 

 

شكل الولاية بين المسلمين والكفار

نهى الله أن يكون بين المسلمين وبين اليهود والنصارى ، ولاية تناصر وتحالف وتعاون   لأن القرآن الكريم ، يقرر أن أهل الكتاب   بعضهم أولياء بعض ، في حرب المسلمين   لأنهم لن يرضوا عن المسلم ، إلا أن يترك دينه ويتبع دينهم ، ويتحالفون مع من يحارب المسلمين ، وهذا ما لا يدركه من يقولون أننا   نتحالف مع أهل الكتاب ، للوقوف في وجه الإرهاب ، ناسين تعاليم القرآن ، وحقائق التاريخ ، فقد ذكر القرآن ، أنهم كانوا يقولون للذين كفروا من المشركين : ﴿هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً﴾ وقد ألبوا المشركين على المسلمين ، على مدار التاريخ   وكانوا درعاً لهم ، وهم الذين شنوا الحروب الصليبية ، وهم الذين ارتكبوا فظائع الأندلس   وهم الذي شردوا أهل فلسطين ، وهم الذين يشردون المسلمين في كل مكان ، ويتعاونون في هذا التشريد ، مع الإلحاد والمادية والوثنية     ثم يأتي من يقول : أنه يمكن أن يقوم بيننا وبينهم ولاء ، وتحالف وتناصر ، حتى ندفع خطر الإرهاب، وكأنهم ما قرأوا القرآن   الذي نهى أن يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء   وكأن الإسلام ، لا يعيش في حسهم ، لا بوصفه عقيدة ، لا يقبل الله من الناس غيرها   ولا بوصفه دعوة ، تستهدف إنشاء واقع جديد في الأرض؛ تقف في وجه عداء الكافرين والملحدين ، موقفاً لا يمكن تبديله   لأن القرآن نص عليه : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ المائدة 51 . وإذا كان اليهود والنصارى ، بعضهم أولياء بعض  فإنه لا يتولاهم ، إلا من هو منهم ، والذي يتولاهم من المسلمين ، يخرج من الصف المسلم ، وينضم إلى صفهم : ﴿وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾ ومن يتولاهم يكون ظالماً لنفسه ، ولدين الله وللمسلمين ، ولا يهتدي إلى الحق : ﴿ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ إنه تحذير عنيف للمسلمين ، لأنه لا يمكن أن يمنح المسلم ولاءه لليهود والنصارى ، ثم يبقى له إسلامه وإيمانه ، لأنه ليس للمسلم ، ولاء ولا حلف ، إلا مع المسلم ; ولا ولاء  له إلا لله ولرسوله وللمسلمين ، والإسلام يكلف المسلم أن   يقيم علاقاته مع الناس ، على أساس العقيدة   لأن الإسلام جاء ليصحح اعتقادات الناس   ودعاهم إلى الإسلام ، فإن تولوا عنه فهم كافرون ، وها نحن نرى من يتجاهل الآيات التي تنهى عن اتِّخاذ الكافرين أولياءَ من دون المؤمنين ، ويتحالف معهم ويطلب معونتهم قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾النساء 144  

ولئن كانت ولايتهم ، التي تعني التناصر والتحالف معهم ، الذي يحسبه بعض المسلمين جائزا ، بحكم ما يقع بين الناس ، من تشابك المصالح والأواصر، والذي يتخذ في عصرنا الحاضر صورا شتى ، عند بعض الناس ، من أولئك الذين هم من بني جلدتنا ، ويتكلمون لغتنا ، ويزعمون أنهم على ديننا ، ولكنهم صنيعة من صنائع الكفار ، صنعوهم على أعينهم ، وربوهم تربية غربية خالصة في التفكير والسلوك ، فكانوا نموذجا لطليعة التغريب ، وأمثلة للغزو الفكري ، وأداة التقريب ، بين الكفار والمسلمين .  

لقد أباح الله لنا ، اتخاذ أولياء من الكفار ، في حالة أن نتقى منهم تقاة ، والمراد أن نأخذ منهم أسباب الحذر ، حتى لا يعتدوا علينا  وفى هذا قال تعالى : ﴿ لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ﴾ آل عمران . هذه الحالة المستثناة ، لا تكون إلا إذا كان المسلم ، تحت سلطان الكافر ، مغلوبًا على أمره ، أي أن الحذر من الكافر ، يجيز موالاته في تلك الحالة فقط، فإذا ذهب الحذر ، حَرُمت الموالاة ، بجميع أشكالها ومظاهرها ، وعلى ذلك فإن القضية ليست إظهار الموالاة ، وإبطان غيرها  بل القضية استثناء حالة حَذَر المؤمن من الكافر   حين يكون المسلم مغلوبًا على أمره، مقيماً تحت سلطان الكافر ، وفي الآية نَهْيُ مُغَلَّظ جازم للمؤمنين ، أن يتخذوا الكافرين أولياء لهم، وأن يدخلوا معهم في حلف عسكري ضد المسلمين   أو يؤجروهم قواعد عسكرية، أو يقاتلوا معهم تحت رايتهم ، وأن يستعينوا بهم على المسلمين    ويلتجئوا إليهم ضد المؤمنين، وأن ينصروهم على أهل الإسلام ، فحرّم على المؤمنين ، موالاة الكافرين من دون المؤمنين ، ثم استثنى من ذلك حالة واحدة فقط ، وهي حالة وجود الخوف منهم ، عندما يكون المسلمون ، مقهورين من الكفار ، وتحت سلطانهم ، فإنه يجوز إظهار المسالمة لهم ، ومصادقتهم لدفع شرهم وأذاهم   بهذا المعنى المحدود، وفي حدود الضرورة أو الحاجة فقط، مع بقاء الحرمة المغلظة ، لإعانتهم أو نصرتهم أو محالفتهم ضد المسلمين بقول أو فعل.  

وإذا انضم المسلم إلى لواء الكفار ، ليقاتل معهم المسلمين ، فهذا من أعظم صور الموالاة على الإطلاق، وهو خيانة عظمى لله ورسوله والمؤمنين ، وحتى إن أمكن إحضار المسلم إلى صف القتال مكرهاً، لم يجز له قصد المسلمين بالقتل، بل يتعمد أن يخطيء فلا يصيبهم  وهذا في معركة القتال ممكن ، وعلى كل حال ، لا يجوز أن ينقذ نفسه ، بقتل غيره من المعصومين، كما نص عليه شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية، مصيباً للحق في هذه المسألة  موافقاً لجمهور العلماء ،بل للإجماع : حيث قال في الفتاوى الكبرى " فلا ريب أن هذا يجب عليه ، إذا أكره على الحضور ، أن لا يقاتل ، وإن قتله المسلمون ، كما لو أكرهه الكفار ، على حضور صفهم ، ليقاتل المسلمين، وكما لو أكْرَه رجلٌ رجلاً على قتل مسلم معصوم ، فإنه لا يجوز له قتله   باتفاق المسلمين " .

 وقد أشار القرآن الكريم إلى أن موالاة الأعداء، إنما تنشأ عن مرض في القلوب   يدفع أصحابها إلى هذه الذلة ، التي تظهر بموالاة الأعداء، فقال تعالى: ﴿ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ ﴾المائدة ٥٢ .  

 فالواجب على المسلمين حكامًا ومحكومين  أن يمتثلوا أمر ربهم ، ويقيموا شرعه، ويقيموا العدل بينهم، فإن لم يُجْدِ النصح والحوار مع أهل البغي والغلو، ولم يندفع شرهم إلا بقتالهم؛ فإن من يتولى ذلك القتال ، هم أهل الإسلام وحدهم؛ في ضوء مقاصد السياسة الشـرعية ، وفقه المصالح والمفاسد  ولا يجوز الاستعانة بغير أهل الإسلام في ذلك القتال.

 مفهوم الأمن والأمان

 يتحدث الناس عن الأمن والأمان والاستقرار  الذي لا يتحقق إلا بالحفاظ على العقيدة السليمة الصحيحة ، التي تؤدي إلى ارتباط المسلم بربه   ارتباطا وثيقا ، بعيداً عن الممارسات الخاطئة ، في تطبيق الشريعة الإسلامية وتعاليمها ، قال تعالى : ﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُون ﴾ الأنعام 82 ، وقال صلى الله عليه وسلم  :  ( من أُعطي فشكر ومُنِع فصبر وظَلَم فاستغفر وظُلِم فغفر، وسكت ، قال : فقالوا : يا رسول الله ما له ؟ قال: أولئك لهم الأمن وهم مهتدون ) رواه ابن كثير في تفسير هذه الآية ، إذاً ليس كل من ادعى الإيمان   له الأمن الموعود من الله , إلا بشرط ألاّ يخلط ذلك الإيمان بشرك أو بمعصية من الكبائر ، والأمن في العرف : اطمئنان النفس وزوال الخوف   وينقسم الأمن إلى قسمين : أمن في الدنيا : ويتحقق على الصعيد الفردي والاجتماعي بمختلف الأشكال الحياتية : من سياسية   وعسكرية، واقتصادية   وتعليمية ، واجتماعية   وأمن في الآخرة : وهو الاطمئنان بعدم العذاب في جهنم ، وهذا خاص بالمؤمنين ، الذين عملوا الصالحات ، وقد وعد الله أن يستخلفهم في الأرض، ويمكن لهم فيها، كما مكن لمن قبلهم   ممن عمل عملهم، واستقام على الإيمان والعمل الصالح، وأدى حق الله، وطبق شرعه ، قال تعالى : ﴿ وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من فبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً ﴾ النور 55، وما ذلك إلا بسبب إيمانهم وعملهم الصالح ، وقد ذكروا أن الخوف من العوامل التي تدفع الإنسان إلى تحقيق الأمن   ومن هنا قالوا :" نعم مطية الأمن الخوف ." والأمن من أهم أسس ومقومات المجتمع الإسلامي، فقد روى عن الإمام جعفر الصادق :" ثلاثة أشياء يحتاج إليها جميع الناس ؛ الأمن والعدل والخصب ." فبالعدل تطمئن النفوس وتستقر البلاد , وبالعدل تصان الحقوق وينـتصف الناس . وبالخصب يُقضى على الفقر والعوز " وإن شر البلاد بلد لا أمن فيه , فإذا انتشر الأمن بين الناس ، زادت الحركة الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع ، وعلت سياسة دولته بين الدول ، ولذلك فإن الإسلام ينظر إلى استتباب الأمن في المجتمعات ، على أنه من أقدس الأهداف الإنسانية ، التي يوفق الله بها عباده الصالحين ،كي ينالوا رضاه ويفوزوا بجنته .   

ولذلك فإن الدعوة إلى الأمن ، توجيه إسلامي لإقامة علاقات طيبة ، وحسنة بين الناس وإصلاح ذات بينهم، وإغاثة الضعيف وإنصاف المظلوم ، وإغاثة الخائف ، ونجدة الملهوف، ونصرة الحق، وردع المجرم، لأن الحياة لا تهنأ بغير أمن ، والمجتمع لا يستقر بدون أمن ، فإذا ساد الأمن اطمأنت النفوس وانصرفت إلى العمل المثمر ، وساد العدل بين الناس ، فالأمن غاية العدل ، والعدل سبيل للأمن ، وإذا كان العدل يقتضي تحكيم الشرع ، والحكم بميزانه ، والشرع ما نزل إلا لتحقيق الأمن في الحياة، وغياب العدل يؤدي إلى غياب الأمن ، ولذا فإن الحكمة الجامعة تقول: "إن واجبات الدولة تنحصر في أمرين هما:  عمران البلاد وأمن العباد ".

هناك من يقول بضرورة توفير الأمن ، كلمة حق يراد بها باطل ، فقد بتنا نسمعها في كثير من المناسبات ، بغية خلط الأوراق والتلبيس    ليوهموا الناس ، بان احتلال بلاد المسلمين   ليس فقدانا للأمن ، كما انه ليس من الأولويات ، التي يجب أن يضعها الناس في حساباتهم، بل إنهم زعموا ، أن وجود الأعداء وبقاءه في بلدانهم ، هو سبب استتباب الأمن   مما يدل على أنهم لا يفكرون إلا بأمنهم ، ولو أدى ذلك إلى ضياع البلاد والعباد ، والتنازل عن دينهم ومبادئهم، غير مبالين بما يحصل للمسلمين ، من نكبات على أيدي الكفار والطامعين ، ويغمضون أعينهم عما يفعله أعداء الأمة ، من تدمير لأمن المسلمين ، مع أن الواجب شرعا وعقلا ، أن نقول الإسلام أولا ، وليس الأمن أولا، فلا أمن من غير إيمان، وما فائدة أن يكون الإنسان آمنا في بيته   وبلده محتل من قبل الأجنبي؟ وما الطائل من أمنه الشخصي ، ودينه مهدد بالزوال ، على أيدي أعداءه ، المهيمنين على مقدرات حياته؟ فالأمن الحقيقي إذن ، هو في ظل الإسلام   وفي طاعة الله ، وترك معاصيه، ولا بقاء لأمن   إذا ابتعد الناس عن ربهم ، وقابلوا نعم الله بالكفر والمعصية ،لأن كثرة المعاصي ، وتحكيم القوانين الوضعية ، هو إيذان بذهاب الأمن وزواله ، وحلول الخوف محله، وما البلايا والمصائب ، إلا صورة من صور العذاب   الذي يحل بالناس ، الذين ارتكبوا الذنوب والمعاصي ، وأمِنوا مكر الله ﴿ فلا يأمنُ مكرَ الله إلا القومُ الخاسرون﴾الأعراف 99 ، فمن ذا الذي يمنّ بالنعم على الناس ، ومنها نعمة الأمن أليس هو الله تعالى؟ ألم يقل الله ﴿ الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ﴾قريش4 أليس هو المعطي ، وهو المانع، فلماذا إذن لا يطلب الأمن من معطيه ، وهو الله ؟ ولماذا نطلبه من غيره؟ ولماذا نجعله مقصورا على الأمور الشخصية ، ونتغاضى عن الأمن الأكبر ، وهو أمن الدين؟ فالأمن الذي يتحدث عنه أعداء الله ، والسائرون في ركابهم ، هو أمن شكلي   ولا يلبث أن يزول ، لان عوامل بقاءه غير موجودة، ويكفي أن ننظر إلى العد التنازلي للمفهوم الأمني ، بمعناه الضيق لدى    كثير من الدول ، بسبب شيوع الفساد   وانتشار الرذيلة ، والفواحش في مجتمعاتهم   مع أنهم يبذلون أموالا طائلة ، لتامين أمنهم   ولكن من غير نتيجة، إذ كيف يستتب الأمن في بلد ما ، وهو محتل من فبل الأعداء؟ وأنّى للأمن في بلد ، قد نحيت شريعة الإسلام فيه جانبا؟ وكيف يتأتى الأمن في بلدٍ ، أغرقت الخمور أسواقه ، والربا تعاملاته ، حتى صار الناس لا يعرفون أحلالا يأكلون أم حراما؟ علماً بأن الأمن ، لا يكون إلا لمن استقام على أمر الله  وطبق شرعه ، وأنصف المظلوم من الظالم، وأقام حدود الله ، بذلك تنعم البلاد بالأمن والأمان  والراحة والطمأنينة، والحياة الكريمة، تحقيقاً لما وعد الله به عباده ، وهذا واضح لمن عرف أحوال العالم ، ودرس أحوال الدول الموجودة، والبائدة ﴿ وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ ﴾ النحل 112. نعمة عظيمة من الله  حينما يُلَبِسُ الله الأمة    لباس الأمن والأمان، عقوبة إلهية شديدة ، حينما تُلَبََّسُ الأمة لباس الخوف ، والألم والقلق ، وعدم الاستقرار ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴾ البقرة 155 إن الناس ليتحملون قلة الطعام وشحه،ويتعايشون مع قلة الأموال والأرزاق ، ولكنهم لا يطمئنون ولا يتعايشون في أرض ، لا أمن فيها ولا استقرار ، لأن الخير والرخاء ، يعم ويسود في ظلال الأمن ، وتجد الدعوة طريقها ، وتظهر ثمارها ، وإذا تزعزع الأمن واختل ، سادت الفوضى ، وانتشر الفساد وعم الشر ، وهنا نتساءل : كيف يمكن تطبيق الأمن ونشره بين العباد ؟ وكيف نحافظ على أمننا   لنعيش في هدوء وسعادة ؟ ومن هم الموعودون بالأمن والأمان من الله ؟ ومن هم الذي يأمنون في الدنيا والآخرة ؟ إنهم المؤمنون الصادقون المخلصون لله ، الذين آمنوا بالله رباً وبالإسلام دينا ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً ، الذين جاهدوا في الله حق جهاده ، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ، وقاموا بالعبودية لله حق قيام ، فوالوا أولياءه ، وعادوا أعدائه ، وأحبوا في الله   وأبغضوا في الله ، الذين كلما زادت الفتن ، زادوا رجوعاً إلى الله ، وإقبالاً عليه ، أولئك هم أهل الأمن ﴿ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ ﴾الأنعام 81 .   

أفيكون المؤمنون الصادقون كما يقال ، هم مصدر القلق والخوف ، وإبعاد الأمن ؟ أفيكون الإيمان بالله وتطبيق شرعه ، والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، سبباً في الفوضى وتسلط الأعداء ؟ أم يكون دعاة التقريب ، وأهل العلمنة ، وأتباع الاستعمار ، هم مصدر الأمن ؟  ويكون المؤمنون المتبعون لشرع الله ، هم مصدر القلق ، وعدم الاستقرار كما يقولون ؟ نعم يكون هذا ، عندما تنقلب الموازين ، ويطلب المنافقون الأمان ، بالثورة على تعاليم الدين ، وموالاة أعداء الله ، ومعاداة أولياءه ، يكون هذا عندما نستمع لنعيق الناعقين ، وأصوات المنافقين ، يكون هذا ونحن نرى الثورة على تعاليم الإسلام ، ومبادئ الدين ، نراها ونحن نحمّل الدين أخطاء المخطئين  وأفعال المتسرعين ، وما علموا أن أفعالهم هي السبب في فقدان الأمن والأمان ، أما كان الأجدر بهم أن يعودوا إلى دينهم ، بدل أن ينقلبوا على الإيمان وأهله ، أما علموا أن الأمن والأمان   لا يبقى إلا بالإيمان والتقوى ، لا بالجبروت والقوة ، والاستهانة بدماء المسلمين ، وإراقتها في أوطانهم ، مما أفقدهم الأمن الاستقرار ، الذي يدعيه أصحاب تلك القوى ، التي تتباهى بانتصارات ، تزيد من الذل والطغيان للأمة الإسلامية ، وإحكام القبضة عليها ، وما ذلك إلا لضرب أي توجه نحو الإسلام وحكمه، وتنفيذ الخطط التي تهدف إلى تقسيم البلاد وظلم العباد   ﴿ فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ﴾الحج 46 .

 

 

 

كيف نحقق القيم الإسلامية ؟

القيم : صفات إنسانية إيجابية مضبوطة بضوابط الشريعة الإسلامية ،  ولها دور مهم في حياة الفرد والمجتمع ويبدو ، ذلك في انتقاء الأفراد الصالحين لبعض المهن، مثل رجال السياسة والدين ، وقد قامت عقيدة الإسلام وأفكاره ونظامه ، بصياغة سلوك كل الأفراد    بحيث يكون وراء كل فعل ، يفعله الإنسان قيمة تتحقق ، من خلال الأفعال، ولا يخلو أي فعل من الأفعال ، من دافع وهدف، وهناك أربعة من القيم لا خامس لها ، وهي القيمة المادية ، والقيمة الإنسانية ، والقيمة الأخلاقية والقيمة الروحية ، والعالم اليوم في حاجة إلى هذه القيم الحضارية التي تجعل الإنسان مسئولا عن كل ما يمكن أن يقترف من أفعال ، أما القيمة الروحية ، فهي تتمثل في العبادة والدعاء والإخلاص والصدق والوفاء والتسامح والعدل والإصلاح ، وتستند إلى القران والسنة ، وكلاهما يحث المسلم على التراحم والتعاطف وإشاعة الخير وحسن معاملة الناس ، ومجالات التدرب عليها   العبادات المختلفة ، الواجبة منها والمستحبة   لأن شعائر العبادات ، تعزز الصلةَ بالله .

والقيم الروحية ، تخاطب باطن الإنسان وكيانه الداخلي ، وخاصة القلب والنفس     أما بالنسبة للقلب قال تعالى : ﴿ ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شيء عليم ﴾ ويقول صلى الله عليه وسلم : ( ألا وإن الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب ) فالقلب سلطان الحواس وبمقدوره توجيهها ، نحو الخير أو نحو الشر  وأما النفس : فهي أنواع ، ومن أخبثها الأمارة بالسوء ، التي تزين لصاحبها الفاحشة وتدفعه إلى المعصية قال تعالى :﴿ وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي ﴾ ولا تستقيم هذه النفس ، إلا بتربيتها على الفضائل ، وإبعادها عن الخبائث ، لأنها دائمة الوسوسة للإنسان قال صلى الله عليه وسلم : ( إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم ) كما أرشدنا إلى تزكية النفس ، وتربيتها على صالح الأخلاق وتطهيرها من الخبائث والانحرافات قال تعالى : ﴿ ونفس وما سواها  فألهمها فجورها وتقواها . قد افلح من زكاها وقد خاب من دساها ﴾ فواجب المسلم ، تعويد نفسه على الخير والصلاح ، وقمع منافذ الشر والضلال طمعا في نيل رضى الله ، والفوز بنعيم الدنيا وثواب الآخرة . ولا يتحقق هذا للمسلم إلا بأداء الواجبات ، والإكثار من الطاعات وتجنب الفواحش والمنكرات ، وحب الخير للناس، وقد نبّه الإسلام إلى أن مخالطة الناس والصبر على أذاهم، والنصيحة لهم والعفو عنهم، والمسارعة إلى فعل الخير المفيد من مكارم الأخلاق، قال تعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ...﴾ آل عمران133 . ودعا إلى تجنب كل ما يسيء إلى أفراد المجتمع، من غيبة ونميمة وظلم واعتداء على الأنفس والأموال وقطيعة رحم وغرور وكبر قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ ﴾ الحجرات 11 والمتأمل في هذه النصوص يجد أن حسن الخلق مفتاح القيم الاجتماعية، قال صلى الله عليه وسلم : (إن من خياركم أحاسنكم أخلاقا ) مسلم . والإيمان بالله في كل ذلك قوة دافعة لفعل الخير ورادعة عن الشر، قال تعالى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجوهَكُمْ قبلَ المشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ﴾ البقرة 177.

وقد فصل رسول الله صلى الله عليه وسلم قيم التماسك الاجتماعي ورغب فيها، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : ( حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام وعيادة المريض واتباع الجنائز وإجابة الدعوة وتشميت العاطس ) البخاري ، وقال صلى الله عليه وسلم : ( أطعموا الجائع وعودوا المريض وفكّوا العاني)  رواه البخاري . ونهى صلى الله عليه وسلم عن كل ما يضر بالعلاقات الاجتماعية فقال: ( والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن"، قيل: ومن يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جارُه بوائقَه) البخاري .

إما القيمة المادية ، فقد ارشد الله الإنسان إلى وسائل تحقيق حاجاته المادية من غذاء وكساء وتطبيب وغير ذلك ، وفي توفر المصالح العامة   من الماء والكهرباء والأمن والمواصلات والصناعة والزراعة والصحة والتعليم، وموجبات العزة والكرامة والنهضة بشكل عام، وتحقيق الرفاهية، كل ذلك يعتبر من الإحتياجات الضرورية المادية.

 

أما على المستوى الدوْلي، فنهضة الدولة الواحدة من أهم مجريات القيم المادية التي تسعى لها الدول، وتواجه فيها الدول الأخرى، والتي تتحقق إبتداءً بحريتها وإستقلاليتها، وإنتهاءً بتحقيق الإكتفاء الذاتي وصناعة هيبتها بين دول العالم .

وحينما يعرض الإسلام نظريته الاقتصادية فإن ما يميزه عن غيره يكمن في منظومة القيم الموجهة للفعل الاقتصادي للمسلم  وعلاقتة  بالمال والإنفاق ، بأن يكون مسعاه ورزقه حلال وإنفاقه حلال ، ‏وانطلاقا من هذه القيمة رسم الإسلام نظاما متماسكا للتصرف في المال كسبا وإنفاقا، فأحل الله البيع، ودعا إلى الكد في كسب الرزق الحلال، فرخص في عقود الشركات والتجارة المبنية على التراضي الشرعي، وغير ذلك من ضروب الكسب، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ﴾ النساء 29 .ونظم الهبات والصدقات الواجبة والتطوعية؛ وحرم الربا والغش وغيرها من ضروب الكسب الحرام، مما يدل على أن المال مال الله والناس فيه مستخلفون فيه، وسيُسألون عن تصرفهم فيه حفظوا أم ضيعوا، قال صلى الله عليه وسلم : ( لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن علمه ما عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه) رواه الترمذي . وانطلاقا من نظرية الاستخلاف ركز الإسلام قيم حفظ الأمانة، وجعل الخيانة من آيات النفاق، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان" (متفق عليه). ورسم للمجتمع سياسة مالية تنفي الجشع والطمع والظلم والقهر وتضمن للناس توازنا في الكسب والإنفاق، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا﴾الفرقان 67 . وأقر صورا للتداول في المال حتى لا يكون فقط بين الأغنياء، ومن ذلك نظام الإرث والزكاة والوقف والهبة والصدقة    ونظم الوصايا حتى تحقق مقصدها وغايتها     ونهى عن الاحتكار والتبذير والإسراف وأكل مال اليتيم، ورغب في العمل المقرون بالعفة،  ودعا إلى تكافؤ الفرص في الكسب وتحفيز القادرين على العمل، واهتم بالقيم  الناظمة للسلوك الوقائي والصحي ، فنهى الإسلام عن كل ما يضر بالصحة الجسمية والنفسية من مخدرات وخمر وكافة المهلكات، ودعا إلى ممارسة الرياضة البدنية ، لأن الأمة بأبنائها ولن تسود أمة تخترقها الأمراض وتنهكها الأوبئة ، وحث على التداوي والْتِماس كل وسائل الاستشفاء، وسن منظومة من الآداب والاحتياطات الصحية التي تكون وقاية وحصنا من انتقال العدوى والأمراض، قال صلى الله عليه وسلم : ( فر من المجذوم فرارك من الأسد )   البخاري ومسلم . وقال : ( إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها وإذا وقع بأرض وانتم فيها فلا تخرجوا منها ) رواه البخاري .

 

  

 

 

نكران الجميل وأكل الحقوق

إن الدين الإسلامي يحثّ على مكارم الأخلاق ويدعو إليها ؛ عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مكارم الأخلاق ) رواه البخاري في الأدب المفرد وأخرجه أحمد . ومن حسن أخلاق المسلم حفظ المعروف ، ورد الجميل ، ومقابلة الإحسان بالإحسان ، قال   تعالى : ﴿ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ﴾القصص 771   ويحذِّر من نكران الجميل ، وقلة الوفاء ، التي نهى الشرع عنها ، وحذر منها ، لأنها سبب من أسباب العقوبات ، وزوال النعم ، وعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (لاَ يَشْكُرُ اللهَ مَنْ لاَ يَشْكُرُ النَّاسَ ) . أخرجه أحمد والبُخاري في الأدب المفرد   وعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( مَنْ سَأَلَكُمْ بِاللَّهِ فَأَعْطُوهُ وَمَنْ دَعَاكُمْ فَأَجِيبُوهُ وَمَنْ أَهْدَى لَكُمْ فَكَافِئُوهُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُوهُ فَادْعُوا لَهُ ) أخْرَجَهُ أحمد والبُخَارِي في الأدب المفرد . وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:" إن النعمة موصولة بالشكر، والشكر يتعلق بالمزيد، وهما مقرونان ، فلن ينقطع المزيد من الله حتى ينقطع الشكر من العبد " وقال الشاعر :

ومن يسدِ معروفًا إليك فكن له      شكورًا يكن معروفه غيرَ ضائع

ولا تبخلنّ بالشكر والقَرض فاجزه    تكن خير مصنوع إليه وصانع

يعني أن من كان من طبيعته وخلقه عدم شكر الناس ، على معروفهم ، وإحسانهم إليه ، فإنه لا يشكر الله؛ لسوء تصرفه ، لإنه في الغالب  لا يشكر الله في مثل هذه الحال ، لذا يجب على المؤمن أن يشكر الله سبحانه وتعالى على ما أحسن إليه ، وأن يشكر الناس على معروفهم وإحسانهم إليه، والله يحب من عباده أن يشكروا من أحسن إليهم، وأن يقابلوا المعروف بالمعروف، فلا يستغني الناس عن بعضهم البعض ، في هذه الحياة  ، ولا يستطيع أن أيّ إنسان أن يعيش بمعزل عن الناس     لذا ينبغي على المؤمن ، أن يقابل من أحسن إليه بالإحسان، وأن يثني عليه خيراً ، عن جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( مَنْ أُعْطِيَ عَطَاءً فَوَجَدَ-سعة مالية- فَلْيَجْزِ بِهِ- فليكافئ بالعطاء- فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيُثْنِ بِهِ- فليمدحه أو فليدْعُ له- فَمَنْ أَثْنَى بِهِ فَقَدْ شَكرَهُ- أي جازاه- وَمَنْ كَتَمَهُ- أي النعمة بعدم المكافأة بالعطاء أو المجازاة بالثناء- فَقَدْ كَفَرَهُ ) أَبُو دَاوُدَ. إن نكران الجميل   من أقبح الصفات الإنسانية وأرذلها ، لما تمثله من صفات سيئة ، من اتصف بها فهو لئيم جاحد ، لصنائع المعروف والإحسان ، ومن هنا ، فإن النفس التي تنكر الجميل   والإحسان إليها وتتناساه ، نفس لئيمة، وقد صدق من قال" الكريم شكور أو مشكور واللئيم كفور أو مكفور" وإذا كان المعروف صدقة  ،كما قال صلى الله عليه وسلم :( كل معروف صدقة ) فكيف بنا بشكر المعروف ورده وشكر الناس، ما أعظم هذا التوجية النبوي برد المعروف والجميل ، والفضل إلى أهله، ومقابلة الاحسان بمثله ، وعدم نكرانه   في زمن يجد الكثيرون النكران ممن يحسنون إليهم ، حتى أصبح الناس في تناكر وتخاصم   وتقاطع وتهاجر ، بسبب نكران الجميل ، وعدم رد الإحسان إلى من أحسن ، مخالفين الهدي النبوي ،بالعرفان بالجميل  والذكر الحسن ، ولو بكلمة طيبة ،فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من أتى إليكم معروفاً فكافئوه-أي بالعطاء- فإن لم تجدوا فادعوا الله له حتى تعلموا أن قد كافأتموه ) وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عظيم الوفاء ، لمن أحسن إليه ، وكان يقبل الهدية ، ويثيب عليها ، ويذكر المعروف ، ويجازي به ، بل كان يفعل أعظم من ذلك ، كان يشكر من أحسن إلى الناس ، فقد أعتق ابنة حاتم الطائي ، مكافأة لإحسان أبيها ، وفضائله على الناس .  

 لذا على الإنسان ، أن يكون وفيا شاكرا لأهل الإحسان ، ذاكرا للجميل ، يحفظ الود   ويرعى حرمة الصحبة والعشرة ، ولا ينسى المعروف لأهله ، ولو طال به الزمان. 

وقد كان السلف الصالح يعرفون الفضل لأهله ويجازون الإحسان بالإحسان ، ويكافئون أهل المعروف ولا ينكرونه ، فقال شاعرهم :

اذا المرء لا يرعاك الا تكلفا      فدعه ولا تكثر عليه التأسفا

فلا كل من تهواه يهواك قلبه  ولا كل من صافيته لك قد صفا

اذا لم يكن صفو الوداد طبيعة   فلا خير في ود يجيء تكلفا

ولا خير في خل يخون خليله    ويرميه من بعد المودة بالجفا

سلام على الدنيا اذا لم يكن بها  صديق صدوق صادق الوعد منصفا

لما بلغ سفيان بن عيينة قتل جعفر بن يحي وما نزل بالبرامكة ، حوَّل وجهه إلى الكعبة وقال : اللهم إنه كان قد كفاني مؤونة الدنيا ، فاكفه مؤونة الآخرة. ومكث الإمام أحمد أربعين سنة ما بات ليلة إلا ويدعو فيها للشافعي وفاء بمعروفه ، في تعليمه الفقه والأصول .

إن نكران الجميل صفة مذمومة ، وتتنافى مع طبائع النفوس السوية، التي طُبعت على حب مَنْ أحسن إليها، والتسامح والعفو مع مَنْ أساء إليها. وكثيرة هي النماذج ، التي نسمع عنها بين الحين والآخر ، من العقوق ونكران الجميل ، أو ما نعرفه عن أصدقاء تقطعت بينهم صلات المودة والصداقة ، بعد أن تنكر بعضهم لبعض "يروى عن صديقين كانا يمشيان في الصحراء ، فتجادلا ، فضرب أحدهما الآخر على وجهه ، فتألم المضروب ، دون أن ينطق بكلمة واحدة ، فكتب على الرمال : ضربني اليوم أعز أصدقائي على وجهي ، واستمر الصديقان في مشيهما ، إلى أن وجدوا واحة   فقرروا أن يستحموا ، فعلقت قدم الذي ضُرِب على وجهه في الرمال المتحركة ، وبدأ في الغرق  ولكن صديقة أنقذه من الغرق، وبعد أن نجا من الموت  ،كتب على قطعة من الصخر :اليوم أعز أصدقائي ، أنقذ حياتي ، فسأله صديقه :لماذا في المرة الأولى عندما ضربتك كتبت على الرمال ، والآن عندما أنقذتك   كتبت على الصخرة ؟فأجاب : عندما يؤذينا أحد ، علينا أن نكتب ما فعله على الرمال   حيث رياح التسامح ، يمكن لها أن تمحيها  ولكن عندما يصنع معنا معروفاً ، علينا أن نكتب ما فعل على الصخر ، حيث لا يمكن للرياح أن تمحوها " نعم أيها المؤمنون ، تعلّموا أن تكتبوا آلامكم على الرمال ، وأن تنحتوا المعروف على الصخر ، فإن أقسى شيء على نفس الإنسان ، أن يُقابل جميله بالنكران ومعروفه بالأذى ، إننا في حاجة إلى أن يقف كل منا ، وقفة مراجعة مع نفسه ، من وقت لآخر، ليتأكد أنه في علاقاته مع غيره ، يسير على الطريق السوي ، فلا ينكر لهم حقا، ولا يجحد لهم معروفا، ويكافيء على المعروف بمثله   أو أحسن منه ، والدعاء لصاحبه ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( مَنْ استعاذ بالله فأعيذوه، ومَنْ سألكم فأعطوه، ومَنْ دعاكم فأجيبوه، ومَنْ آتى إليكم معروفاً فكافئوه، فإنْ لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تعلموا أن قد كافأتموه ) ، فالكريم يحفظ ود ساعة، ولا يزهدنك في المعروف كفر من كفره، فأجره عند الله لن يضيع ، وسيرفع الله قدره وشأنه عند الناس، ويخذل من ينكر صنيعه ، والنفس تحب من أحسن إليها ، وتحب حفظ الجميل ورده لمن يستحقه , كان ابن عمر يمشي في الصحراء على دابته ، فقابله أعرابي ، فتوقف ابن عمر ونزل ،ووقف معه وقال: ألست ابن فلان بن فلان؟ قال: بلى ،ثم ألبسه عمامة كانت عليه   وقال له: اشدد بها رأسك ، ثم أعطاه دابته  وقال: اركب ،فتعجب أصحاب ابن عمر وقالوا له: إن هذا من الأعراب ، وهم يرضون بالقليل فقال: إن أبا هذا كان وِدّاً لعمر  وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه بعد أن يولي) أَخْرَجَهُ أحمد والبُخَارِي في الأدب المفرد ومسلم  . وجاء في الأدب والسير: " أن أعرابياً ، وفد على الخليفة وهو يبكي فقال الخليفة: ما لك ؟ قال : أصبت بأعظم من مصيبة المال ، قال: ما قصدك ؟ قال: ربيت ولدي، سهرت ونام  وأشبعته وجعت ، وتعبت وارتاح ، فلما كبر وأصابني الدهر ، واحدودب ظهري من الأيام والليالي ، تغمط حقي، ثم بكى وقال:

وربيته حتى تركته أخا القوم      واستغنى عن الطر شاربه

تغمط حقي ظالماً ولوى يدي  لوى الله يده الذي هو غالبه

قيل : فلويت يد الابن وأصبحت وراء ظهره ".

وأما أكل الحقوق فغير جائز لقوله تعالى: ﴿ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ ﴾ البقرة 188. وإن حرمة مال المسلم  ،كحرمة دمه ، ولا يحل مال امرئ مسلم ، إلا بطيب نفس منه ، وقد تنوعت الأدلة والنصوص ، على حرمة أكل أموال الغير ، بأي صفة كانت ، سواء على وجه الظلم والسرقة والخيانة ، أو بالغصب والنهب ، وما لم يبح الشرع أخذه من مالكه    أو بالحيل والمكيدة والغبن ، وما جرى مجراه   فهو مأكول بالباطل ، وقد تساهل كثيرٍ من الناس في أكل المال الحرام ، مصداقًا لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم : ( ليأتينَّ على الناس زمانٌ، لا يبالي المرءُ بما أخذَ المالَ: أمِنَ الحلال أم من الحرام) البخاري ، يشير النبي صلى الله عليه وسلم   إلى خطورة أكل المال الحرام  ، بأي طريقة كانت ، وأي وسيلة حصلت ، والمال الحرام سبب لمنع إجابة الدعاء ، وإغلاق باب السماء   

وقد جاء في الحديث الصحيح: (يأتي على الناس زمان يأكلون فيه الربا، قيل يا رسول الله: الناس كلهم. قال: من لم يأكله، ناله من غباره) أخرجه أحمد . فأين إسلام ممن يأكل الربا   وأين ممن لم يسلم الناس من يده ، وأين إيمان من لم يرع أموال الناس ، وقد أمرنا الله برد الأمانات إلى أهلها ، والتوبة إليه ، قبل أن لا يكون دينار ولا درهم ، وإنما هي الحسنات والسيئات ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهَا   فَإِنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ  مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ لِأَخِيهِ مِنْ حَسَنَاتِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ   أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ أَخِيهِ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ) أخرجه البخاري .

    

فتنة قتل الحسين

الحسن والحسين ابنا علي رضي الله عنهم ، وحفيدا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من أهل بيت النبوة ، ومن الصحابة الكرام الأطهار ، نتقرب إلى الله تعالى بمحبتهما وموالاتهما ، دون مغالاة ، كما يفعل أهل البدع   ونبرأ إلى الله ممن يبغضهما ولا يحبهما ، روى الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( مَنْ أَحَبَّهُمَا فَقَدْ أَحَبَّنِي ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمَا فَقَدْ أَبْغَضَنِي ) صححه الألباني ، ولاشك أن فتنة قتل الحسين محزنة مؤلمة  أخبر الرسول عنها ، لما روي عن أم سلمة قالت: (كان جبريل عند النبي صلى الله عليه وسلم والحسين معي، فبكى الحسين فتركته فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم ،فدنى من النبي صلى الله عليه وسلم ،فقال جبريل: أتحبه يا محمد؟ فقال: نعم. قال: إن أمتك ستقتله ، وإن شئت أريتك من تربة الأرض التي يقتل بها ، فأراه إياها ، فإذا الأرض يقال لها كربلاء ) أخرجه أحمد في فضائل الصحابة بسند حسن ، استيقظ ابن عباس يوما وهو يقول: ان لله وان اليه راجعون ، فقال له اهل بيته: خيرا يا ابن عباس؟ فقال لقد رأيت رسول الله في المنام فأعطاني زجاجه مليئة بالدم ، وقال يا ابن عباس !هذا دم الحسين وأصحابه " لقد خرج من جهة العراق فتن كثيرة، لعل من أولها فتنة الحسين رضي الله عنه ، روي أن أهل الكوفة   كتبوا إليه ليخرج إليهم ليبايعوه على الإمارة ، وذلك بعد موت معاوية رضي الله عنه ، وتولية ابنه يزيد ، فأرسل الحسين (عليه السلام) ابن عمه مسلم بن عقيل ليتقصى الأمور، ويتعرف على حقيقة البيعة ، فلما وصل مسلم إلى الكوفة تيقن أن الناس يريدون الحسين فبايعه الناس على بيعة الحسين، ولما بلغ الأمر يزيد بن معاوية في الشام أرسل إلى عبيد الله بن زياد والي البصرة ليعالج هذه القضية، ويمنع أهل الكوفة من الخروج عليه مع الحسين   فدخل عبيد الله بن زياد إلى الكوفة وأخذ يتحرى الأمر ويسأل حتى علم أن دار هانئ بن عروة هي مقر مسلم بن عقيل وفيها تتم المبايعة. فأرسل إلى هانئ بن عروة وسأله عن مسلم بعد أن بيّن له أنه قد علم بكل شيء، قال هانئ بن عروة قولته المشهورة التي تدل على شجاعته وحسن جواره: والله لو كان تحت قدمي هاتين ما رفعتها فضربه عبيد الله بن زياد وأمر بحبسه ، فلما بلغ الخبر مسلم بن عقيل خرج على عبيد الله بن زياد وحاصر قصره بأربعة آلاف من مؤيديه ، فقام فيهم عبيد الله بن زياد وخوفهم بجيش من الشام، ورغبهم ورهبهم، فصاروا ينصرفون عنه حتى لم يبق معه أحد ، فقبض عليه وأمر عبيد الله بن زياد بقتله فطلب منه مسلم أن يرسل رسالة إلى الحسين ،هذا نصها : ارجع بأهلك ولا يغرنك أهل الكوفة فإن أهل الكوفة قد كذبوك وكذبوني، وليس لكاذب رأي ، ثم أمر عبيد الله بقتل مسلم بن عقيل ، وكان مسلم بن عقيل قد أرسل إلى الحسين    قبلها : " أن أقدم فخرج الحسين من مكة ، وحاول منعه كثير من الصحابة، ونصحوه بعدم الخروج ، خرج إليهم الحسين وهو لا يعلم بمقتل مسلم بن عقيل ، ولا بتغيرهم نحوه ، فقال له عبد الله بن عمر: دع هؤلاء لا تذهب إليهم ، لكنه أصر أن يخرج، فلما رآه عبد الله بن عمر مصراً خرج معه إلى أطراف المدينة ثم ضمه إليه وبكى وقال: أستودعك الله من قتيل  ، سار الحسين إلى العراق ، وفي أثناء سيره قابله رجل اسمه الفرزدق فقال له الحسين : من أين يا فرزدق ؟ قال : من العراق ؟ قال الحسين : فكيف حال الناس هناك ؟  قال له الفرزدق : يا ابن بنت رسول الله قلوب الناس معك ، ولكنّ سيوفهم عليك ،كانت قلوب أهل العراق مع الحسين ، غير أن سيوفهم مع عبيد الله بن زياد ، الذي قَتَلَ مسلمَ بنَ عقيل رسولَ الحسين إليهم ، ولما جاء الحسين خبر قتل مسلم بن عقيل عن طريق الرسول الذي أرسله مسلم همّ الحسين بالرجوع فامتنع أبناء مسلم وقالوا: لا ترجع حتى نأخذ بثأر أبينا فنزل الحسين على رأيهم ، وكان عبيد الله بن زياد قد أرسل كتيبة قوامها ألف رجل بقيادة الحر بن يزيد التميمي ليمنع الحسين من القدوم إلى الكوفة ، فالتقى الحر مع الحسين في القادسية. وحاول منع الحسين من التقدم ، لكن الحسين تقدم   إلى كربلاء ، وقد وصلت بقية جيش عبيد الله بن زياد وهم أربعة آلاف بقيادة عمر بن سعد فقال الحسين: ما هذا المكان؟ فقالوا له: إنها كربلاء، فقال: كرب وبلاء ، ولما رأى الحسين هذا الجيش العظيم علم أن لا طاقة له بهم ، فطلب منهم أن يدعوه يرجع أو يلحق ببعض الثغور ، أو يلحق بابن عمه يزيد فمنعوه هذا وهذا ، حتى يستأسر وقاتلوه فقاتلهم فقتلوه وطائفة ممن معه مظلوما شهيدا . 

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " فإن يزيد بن معاوية ولد في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه ، ولم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم ; ولا كان من الصحابة باتفاق العلماء ; ولا كان من المشهورين بالدين والصلاح وكان من شبان المسلمين ; ولا كان كافرا ولا زنديقا ; وتولى بعد أبيه على كراهة من بعض المسلمين ورضا من بعضهم وكان فيه شجاعة وكرم ولم يكن مظهرا للفواحش كما يحكي عنه خصومه . " وَجَرَتْ فِي إمَارَتِهِ أُمُورٌ عَظِيمَةٌ : - أَحَدُهَا مَقْتَلُ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَهُوَ لَمْ يَأْمُرْ بِقَتْلِ الْحُسَيْنِ ، وَلَا أَظْهَرَ الْفَرَحَ بِقَتْلِهِ ؛ وَلَا نَكَّتَ بِالْقَضِيبِ عَلَى ثَنَايَاهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَا حَمَلَ رَأْسَ الْحُسَيْنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى الشَّامِ . لَكِنْ أَمَرَ بِمَنْعِ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَبِدَفْعِهِ عَنْ الْأَمْرِ ، وَلَوْ كَانَ بِقِتَالِهِ ؛ فَزَادَ النُّوَّابُ عَلَى أَمْرِهِ ؛ وَحَضَّ الشمرُ بن ذي الْجَوشَن عَلَى قَتْلِهِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ ؛ فَاعْتَدَى عَلَيْهِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ ، فَطَلَبَ مِنْهُمْ الْحُسَيْنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يَجِيءَ إلَى يَزِيدَ ؛ أَوْ يَذْهَبَ إلَى الثَّغْرِ مُرَابِطًا ؛ أَوْ يَعُودَ إلَى مَكَّةَ ؟ فَمَنَعُوهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَّا أَنْ يَسْتَأْسِرَ لَهُمْ ... فَقَتَلُوهُ مَظْلُومًا وطَائِفَةِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَكَانَ قَتْلُهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ الْمَصَائِبِ الْعَظِيمَةِ؛ فَإِنَّ قَتْلَ الْحُسَيْنِ ، وَقَتْلَ عُثْمَانَ قَبْلَهُ : كَانَا مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الْفِتَنِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ ، وَقَاتلُهُمَا مِنْ شِرَارِ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ .

وَلَمَّا قَدِمَ أَهْلُهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، عَلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ : أَكْرَمَهُمْ ، وَسَيَّرَهُمْ إلَى الْمَدِينَةِ ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَعَنَ ابْنَ زِيَادٍ عَلَى قَتْلِهِ ، وَقَالَ : كُنْت أَرْضَى مِنْ طَاعَةِ أَهْلِ الْعِرَاقِ بِدُونِ قَتْلِ الْحُسَيْنِ !! لَكِنَّهُ مَعَ هَذَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ إنْكَارُ قَتْلِهِ ، وَالِانْتِصَارُ لَهُ ، وَالْأَخْذُ بِثَأْرِهِ : كَانَ هُوَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ ، فَصَارَ أَهْلُ الْحَقِّ يَلُومُونَهُ عَلَى تَرْكِهِ لِلْوَاجِبِ ، مُضَافًا إلَى أُمُورٍ أُخْرَى، وَأَمَّا خُصُومُهُ فَيَزِيدُونَ عَلَيْهِ مِنْ الْفِرْيَةِ أَشَياءَ ، انتهى بتصرف واختصار يسير من مجموع الفتاوى" وقال أيضا : "فلما قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما يوم عاشوراء قتلته الطائفة الظالمة الباغية ، وأكرم الله الحسين بالشهادة ، كما أكرم بها من أكرم من أهل بيته . أكرم بها حمزة وجعفرا وأباه عليا وغيرهم وكانت شهادته مما رفع الله بها منزلته وأعلى درجته ، فإنه هو وأخوه الحسن سيدا شباب أهل الجنة ، والمنازل العالية لا تنال إلا بالبلاء ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل : أي الناس أشد بلاء ؟ فقال : (الأنبياء ، ثم الصالحون ، ثم الأمثل فالأمثل . يبتلى الرجل على حسب دينه ، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه ، وإن كان في دينه رقة خفف عنه ، ولا يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة) رواه الترمذي وغيره .

فكان الحسن والحسين قد سبق لهما من الله تعالى ما سبق من المنزلة العالية ، ولم يكن قد حصل لهما من البلاء ما حصل لسلفهما الطيب ، فإنهما ولدا في عز الإسلام ، وتربيا في عز وكرامة ، والمسلمون يعظمونهما ، ويكرمونهما ، ومات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يستكملا سن التمييز ، فكانت نعمة الله عليهما أن ابتلاهما بما يلحقهما بأهل بيتهما ، كما ابتلى من كان أفضل منهما ، فإن علي بن أبي طالب أفضل منهما ، وقد قتل شهيدا ، وكان مقتل الحسين مما ثارت به الفتن بين الناس ، كما كان مقتل عثمان رضي الله عنه من أعظم الأسباب التي أوجبت الفتن بين الناس ، وبسببه تفرقت الأمة إلى اليوم 

 

من ينقذ حلب

 تعيش حلب الآن يوماً أحمرا  يوم فيه من الخذلانِ والخيبةِ ما الله به أعلم! كيف لا، ودونها أمة  صامتة ، وهي تئنّ    كلّما الموتُ بأطفالها ارتطم  تنادي وتنوح وتبكي ، ولا صوتَ يعلو فوق صوتِ الألم  الذي تعانيه من اجتماع الأعداء، وتخاذل الأصدقاء وزيادة البلاء، لا عليك يا حلب ، فقد اختارك الله للجهاد ، فلا تخلعي ثوبا وضعك الله فيه ، في زمن تتلاقى فيه قوى وإرادات مختلفة ، تتدافع وتتصارع قال تعالى : ﴿ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ﴾ الحج 40 ، فالتدافع واقع ومشهود ، وفي كل يوم نسمع أخبار القتل والتعذيب  والقصف والتخريب ، والعالم إما متآمر أو ملتزم الصمت  بخلاف ما لو كان المعتدى عليه يهودياً أو نصرانيا ، فإن الدنيا كلها تبكي وتصرخ وتحتج ، ولو أن روسيا التي تقصف حلب ، قصفت دولة يهود ، فماذا سيحدث ؟ قد تقوم حرباً عالمية ، يقتل الملايين وتباد الجيوش ، رأينا كيف يبكي الغرب ويلطم الخدود ، على قتلى بعض التفجيرات ، ولكن لا أحد يبكي قتلى العراقيين والسوريين والفلسطينيين الذين يموتون تحت التعذيب والقصف ، ولم نسمع أحداً بكى أو تباكى على الذين دفنوا تحت الأنقاض ، نتيجة قصف الطائرات ، التي تضرب وتقتل ، وتستعمل كافة الأسلحة ، ولا من يحتج  أليس هذا تآمراً مكشوفا  يقول المؤرخ البريطاني توينبي : " إن الغرب اضطهد اليهود وأساء إليهم ، وكان المفروض أن يعوضهم ، لكن الذي حصل أن الثمن دفعه أهل فلسطين ، فنزل بهم على أيدي الصهاينة بمساعدة من الغرب أكثر مما نزل باليهود  ومع ذلك قام الغرب والشرق مسارعاً للاعتراف بإسرائيل ودعمها بالمال والرجال والعتاد لتمارس اعتداءاتها  هناك دول كبرى تمنع تسليح المدافعين عن ثورتهم ، لكنها لا تمانع بتسليح الظالمين  بأحدث الأسلحة ،  فقد دعمت إسرائيل من قبل  وقدمت لها الوف الملايين  حتى تطرد أهل فلسطين  ليحل مكانهم مهاجرين من الحبشة أو روسيا ، ولعل مما يدخل في سلسلة التآمر ما يصرح به أمثال كيسنجر علنا بأن من الواجب " تفتيت المقدرة الإسلامية قبل أن يقدّر لها الاكتمال" وقد قدّر الدكتور حامد ربيع أن الرب سيعمل لإجهاض الصحوة الإسلامية عن طريق التلويث والتطويع والإذابة ، أما حملة التلويث : فقائمة على قدم وساق ، تساهم فيها الصحافة العربية ، بعلم أو بدونه ، نيابة عن الآخرين ، أما التطويع : فتلك مهمة الحكومات المحلية فهي تشد يوما وترخي آخر  حتى قال وزير داخلية أحد دولها : " إن احكام الطوارئ تطبق عل الإسلاميين فقط وحقوق الإنسان تشمل كل البشر ما عدا المسلم فهو حلال الدم " أما الإذابة : فقد تكفل بها أشخاص  بهدف ضرب الصحوة الإسلامية وإذابتها" من كتاب- موقف اسرائيل من الحركة الإسلامية- أما التقصير : فلا يخفى ، فقد أصبحنا من مستهلكي الحضارة الغربية ، كما تحولت بلادنا إلى معارض لبضائع الآخرين ومنتجاتهم وأفكارهم  تقصير لا نستطيع إنكاره  فهذه جامعاتنا ومعاهدنا ، لم تخرّج سوى سيل من الموظفين الذين ينتظرون الترقيات والعلاوات ، وكما قيل " يعد أياماً ويقبض راتبا " فما يحصل لنا هو مزيج من تقصير وتآمر ، وإذا عجزنا عن منع الأعداء في وقف تآمرهم علينا  فلماذا نعجز عن تلافي التقصير ؟ إن الواجب يحتم علينا التحرك لنصرة ديننا وإنقاذ إخواننا ، لأن ما يجري ما هو إلا فلسطين ثانية ، بعد العمل على وضع اللمسات الأخيرة على نعش فلسطين الأولى ، واليوم يستطيل العالم النصراني المتواطئ ويقومون بنفس الجريمة التي تحرمها مواثيقهم وقوانينهم ، التي لا تساوي قيمة الحبر الذي كتبت به ، لكنهم في خضم الخوف الذي يشتعل في الصدور ، ينسون أن جهودهم توجه ضد الإسلام  وقد تحول الصراع من بُعْدِه العلماني كصراع حول الأرض والشجر، إلى منازلة عقيدة ودفع ، بين الحق المجاهد ، والباطل المستكبر  لأن العلمانيين ، يمثلون أكبر خطر على الأمة ، وعداوتهم لهذا الدين وأهله ، متأصلة في نفوسهم ، وهم لا يتورعون عن ارتكاب القتل والاغتصاب ، للحفاظ على مصالحهم ، ويتحالفون مع أعداء الأمة ، لوأد المسلمين في ديارهم ، فماذا ينتظر المسلمون ، ولماذا هذا البرود المخيف ، والصمت المطبق عما يجري في بلاد المسلمين  إن الأخبار والصور التي تعرض على أمتنا ، التي كانت معروفة بالنخوة والمروءة والانتصار للمظلوم ، لم تحرّك ساكنا ، فهل تودّع منها  وماذا لو كان مرتكبو المذابح مسلمين ، تصوروا كيف يكون رد الغرب ، بل وللأسف رد حكومات عالمنا المنكوب ، ترى هل سيبقى المسلمون متفرجين على احتلال أوطانهم ، واستئصال دينهم ، وانتهاك أعراضهم   وتلطيخ شرفهم ، أما آن لهم تقديم المساعدة اللازمة للمحاصرين والمهددين بالتهجير أو الإبادة ، ليدافعوا عن دينهم ووجودهم ، ورغم التآمر والتقصير ، فلا نخاف على حلب بإذن الله تعالى  لأن الرجال في حلب سيدافعون عن شرفهم وكرامتهم وتاريخهم ومدينتهم، وسيدفع  المهاجمون دماء كثيرة على أبواب حلب، وقد بدأ الدفع فعلاً. ستستنزفهم حلب في معركة طويلة ، قد تطال أنحاء أخرى من سوريا وغير  سوريا. 

 

نداء ولا مجيب

سمعت كلمات مريرة لامرأة من  سوريا ، مزجتها بطعم الألم  والحسرة والخيبة ، التي ارتوت منها العروق ، والتي تعتبر شاهداً على أعلى صور الخزي والهوان والتي حسبنا أن الأمة لن تمر بتلك الصورة من التخاذل المخزي ، قالت يائسة : لا نريد أن تدافعوا عنا ، ولا ترسلوا جيوشكم إلينا ، ولا تبعثوا بالسلاح إلينا ، لا نريد صدقاتكم وأموالكم ، نريد فقط أن ترسلوا إلينا حبوب منع الحمل حتى لا ينبت في احشائنا أبناء الروافض والشبيحة ، ظننا بعد طول انتظار ، وبعد قطيعة الرحم ما أدى إلى التخاذل ، الذي ما كنا نتوقعه قبل الحرب .

إننا نتوقع أن يصدر هذا النداء المرير الأليم من امرأة أخرى   ولكن ليس من سوريا ، وإنما من العراق أو ليبيا أو اليمن ، وليس غريباً أن يسمع هذا النداء من أي بلد عربي او إسلامي ، لأنه وكما أعتقد لا يوجد ما يمنع ذلك ، فألم الدمار والقتل والتشريد والاعتقال ، والمقابر الجماعية ، والخراب الهائل وما رأيناه قبل العراق وسوريا ، في جروزني وأفغانستان وفي غزة  فقد حل في تلك الديار ما حل بهم ، ولم نجد ما يمنع ذلك   ونحن نتلقى ما يوجعنا ، ويقض مضاجعنا ، ولسان الحال ينادي  أعيرونا مدافعكم لا مدامعكم  أعيرونا وظلوا في مواقعكم  حرّاساً أمينين لأعدائكم ، نسأل أنفسنا ونسألكم ، ألسنا أخوة في الدين قد كنا وما زلنا ، فهل هنتم وهل هنا ؟ أيعجبكم إذا ضعنا ؟ أيسعدكم إذا جعنا ؟ فهل اجتماعكم وبحث مآسينا تظنوا انه يرضينا ؟ لا وألف لا  لأنه لا معنى لقلوبكم معنا  فالدمع لا يشفي لنا صدرا ، ولا يبرئ لنا جرحا ، فلا نحتاج منكم رزاً ولا قمحا ، فخلوا الشجب واستحيوا ، فقد سئمنا الشجب والردحا ، هذه الأيام في سوريا في العراق في فلسطين  المدينة تلو المدينة تنتظر دورها في الهدم والقصف والذبح والاعتقال  والموقف يتكرر ، والأمة تقف موقف الشاهد والمتفرج ، رغم وضوح الصورة ، وقوة الصوت وبشاعة المشهد ، ورغم المشاهدة والسمع فإن الاستجابة مخزية  وكأنهم يرون مشهداً سينمائياً مؤلما ، أو يسمعون أغنية عاطفية مؤثرة كالتي أشربوها من قنواتهم ومذاييعهم ، فماذا يقولوا لربهم  عن خذلانهم لإخوانهم في الدين وهو القائل : ﴿ وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر ﴾ وماذا يقولوا لرسول الله

الذي علمنا أن إغاثة الملهوف من الواجبات التي تقع على عاتق المسلم ، لأن رفع الظلم والأذى  مطلوب من المسلم ، بل هو من أوجب الواجبات على المسلم لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، ومَن كان في حاجة أخيه كان اللّه في حاجته، ومن فرّج عن مسلم كربة فرّج اللّه عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره اللّه يوم القيامة ) البخاري. وهو القائل : ( ما من امرئ يخذل امرأً مسلما في موضع تنتهك فيه حرمته ، وينتقص فيه من عرضه إلا خذله الله ) ماذا نقول لهم وهم ليسوا بعيدين عنا ؟ وماذا فعلوا لتلك الدموع التي تستغيث ليل نهار ولا مغيث ، وما زادهم ذلك الا بعداً وفرارا ، فمعذرة يا بلادنا ، فقد فجعت بنا ولم نفجع بك ، صمت عندنا كل شيء ، وعندك حركوا الأرواح فبذلوها ، رخيصة في سبيل الله وقد أثبتوا أنهم ماتوا جبنا  وشبابك يصنعون الحياة بموتهم  معذرة يا بلاد المسلمين ، فما عادت النخوة كما كانت ، وما عادت هناك شهامة ، لأن منهم من ألف الذل والمهانة والاستكانة ومن بينهم من النساء من جادت بروحها حماية للقاعدين والمتثاقلين ، فقد سمعنا النداءات ورأينا الأهوال ، فما الذي تحرّك فيهم ، فقد تحركت الدعوة إلى جمع التبرعات ، ومن تعدَّ الخطوط الحمراء ، واعتبر جريئاً في التصريحات ، أكد على أن ما يجري إجرام يفوق الضمير  ولكن الذي لا نعرفه سبب الصمت المزري ، الذي أدى إلى صمت الأسلحة ، التي صدّى بعضها ، والآخر في الطريق على ذلك ، وهذه الجيوش والعساكر والنياشين والأوسمة اللامعة  أميدانها العروض العسكرية والمقابلات التلفزيونية ، أم ميادين القتال وساحات الجهاد ، أم التصدي للمتظاهرين والمحتجين الذي يخرجون لينفذون بعض غيظ قلوبهم ، بصيحات وهتافات ، وفي ظل هذا الواقع أخشى أن يتحول حرص كل دولة إلى أن يستفرد بها العدو وتؤكل وحيدة ، وتستصرخ البقية فلا تجد من يجيب ويصرخون، ولا سامع لهم  ويستغيثون، ولا مجيب لهم  ويتوجعون، ولا واسي لهم ، اين نحن منهم  ، إنهم يعذبون لانهم  مسلمين قال تعالى: ﴿ وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ﴾ .   

            

خف الله فإنه يراك

خلق العباد ، وأمرهم ونهاهم، وابتلاهم بالشهوات المعارضة لأمره، فمن انقاد لأمر الله وأحسن العمل، أحسن الله له الجزاء ، ومن مال مع شهوات النفس، ونبذ أمر الله، فله شر الجزاء ، فاجعل الله في بالك دائما ، يكن لك عوضاً عن كل فائت ، واستح أن يطلع عليك وانت تعصيه ، فقد ورد في الحديث  القدسي : ( إن كنتم تعتقدون أني لا أراكم فالخلل في إيمانكم ، وإن كنتم تعتقدون أني اراكم فلم جعلتموني أهون الناظرين إليكم ) ولما سئل أحد العارفين فيما أفنيت عمرك ؟ قال في أربعة اشياء : 1-علمت أني لا أخلو من نظر الله طرفة عين ، فاستحييت أن أعصيه 2 - وعلمت أن لي رزقاً لا يتجاوزني وقد ضمنه الله لي ، فقنعت به  3- وعلمت أن عليَّ ديناً لا يؤديه عني غيري فاشتغلت به 4- وعلمت ان لي أجلاً يبادرني فبادرته .

وقد شرح أحد العارفين هذه الأربع فقال : اجعل مراقبتك لمن لا تخلو عن نظره إليك _ واجعل شكرك لمن لا تنقطع نعمه عنك – واجعل طاعتك لمن لا تستغني عنه – واجعل خضوعك لمن لا تخرج عن ملكه وسلطانه وهكذا جمعت هذه الأقوال الدين كله . فالخوف رقيب القلب ، والرجاء شفيع النفس ومن كان بالله عارفاً ، كان من الله خائفاً واليه راجياً ، فأرج الله رجاء لا يجرئك على معاصيه ، وخف الله خوفاً لا يؤيسك من رحمته ، قال علي رضي الله عنه : خمسة لو رحلتم فيهن ، ما قدرتم على مثلهن ، لا يخاف عبد إلا ذنبه ، ولا يرجو إلا ربه .

ولا يستحي : الجاهل إذا سئل عما لا يعلم ، أن يقول الله و رسوله أعلم .

ولا يستحي : الذي لا يعلم ، أن يتعلم .

والصبر : من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد  ولا إيمان لمن لا صبر له . 

 

ذو الوجهين وشاهد الزور

من كرم الله أن جعل الله للإنسان ظاهراً وباطناً، فباطنه محجوبٌ عن الناس، والناس لهم الظاهر، ولو تكاشفتم لما تدافنتم   فالناس لهم الظاهر، ولك الباطن، ولو أن كل واحدٍ منا كشف باطن أخيه، وكان في باطن أخيه غِل أو حقد أو حسد لتدابر الناس، ومن كرم الله أن جعل الباطن محجوباً.  بإمكان الإنسان أن يتكلم كلاماً طيباً، ويعمل عملاً طيباً، وينتزع إعجاب الناس، وهو من ألدّ الخصام ، عدوٌ لدود، لكن الله عز وجل حجب باطنه عن الناس، ولكن الله إذا كان باطن الإنسان سيّئ، وأصر عليه، واستمر، فإنه يغضحه ، ﴿ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ﴾آل عمران: 179، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏واجتنبوا قول الزور‏} عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعا: ( إن الطير لتخفق بأجنحتها، وترمي ما في حواصلها من هول يوم القيامة وإن شاهد الزور لا تزول قدماه حتى يتبوأ مقعده من النار) رواه ابن ماجه ، وأصل الزور: تحسين الشيء ووصفه بخلاف الحقيقة حتى يخيل لمن سمعه أنه خلاف ما هو به ، ولذلك حذّر رسول الله صلى الله عليه وسلم من  ذي الوجهين عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم ، فقلت يا جبريل من هؤلاء قال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم ) رواه أبو داود .وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا ( إن شر الناس عند الله يوم القيامة ذو الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه ) رواه أحمد والبخاري ومسلم . ولهما : ( وتجدون شر الناس ) ، و قد ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم خطورة قول الزور و العمل به في رمضان فقد روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ) , ومعنى قول الزور كما عرفه علماء اللغة هو كل قول مائل عن الحق فيدخل في هذا التعريف الكذب وشهادة الباطل زورا والغش والغيبة بغير حق , وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن شهادة الزور من أكبر الكبائر فقال: ( ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟" ثلاثاً، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين"، وجلس وكان متكئاً فقال: ألا وقول الزور، ألا وقول الزور، ألا وقول الزور، قال: فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت، إشفاقا عليه صلى الله عليه وسلم. وقد جاء في ذي الوجهين وعيد شديد، روى أبو هريرة عن النبي عليه السلام أنه قال‏:‏ ‏(‏ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيهًا‏)‏ وروى أنس عن النبي عليه السلام أنه قال‏:‏ ‏(‏من كان ذا لسانين في الدنيا جعل الله له لسانين من نار يوم القيامة‏)‏ فينبغي للمؤمن العاقل أن يرغب بنفسه عما يوبقه ويخزيه عند الله- تعالى‏.‏

 

 

 

 

معركة الكرامة

الحمد لله الذي أمرنا بالجهاد في سبيله، ووعد عليه الأجر العظيم والنصر المبين، فقال تعالى       :﴿ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ الحمد لله الذي جعل الجهاد في سبيل الله من أفضل القربات ، ومن أعظم الطاعات لما يترتب عليه من نصر المؤمنين وإعلاء كلمة الدين، وقمع الكافرين والمنافقين، فقد جاء النصر الذي تحقق في معركة الكرامة ، في وقت كنا فيه بأمس الحاجة إلى ملامح نصر وعزة وكرامة ، والى وقفة شرف وإباء  وكانت أول نصر على اسرائيل  وكان من النتائج المعنوية لها  تحطيم أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر، فقهروه بالجهاد الذي رفع لوائه ابطالها ، لأنهم آمنوا بان الجهاد ذروة سنام الإسلام ، وفريضة من فرائضه  وقد جاءت هذه المعركة لتذكرنا   بأن الجهاد هو الشعيرة الربانية التي تنفخ روح الحياة في هذه الأمة ، وتحفظ وجودها ، وتدفع عنها شر أعدائها، وتبث الحمية والقوة والجرأة في نفوس أبنائها ليكونوا المضحين في سبيل الله لقد ضحى أبطال معركة الكرامة لأنهم لا يخافون في الله لومة لائم ولا يرهبون قتلا، ولا يخضعون لطاغ، ولا يستسلمون لمعتد، ولا يطأطئون ولا يذلون ولا يحسبون الحياة تستحق أن تعاش ، إن لم تكن عزيزة كريمة، وحرة رضية  جاءت هذه الذكرى في وقت تعرضت شعيرة الجهاد ، لأكثر من حملة تشويه ، وعدوان ونكران ، من أعداء الإسلام  الذين يشنون حملة منظمة لتشويه شعيرة الجهاد ، التي تخيفهم    فعملوا على النيل منها، وتزييف حقيقتها، وجعلها عنوانا باتهام استباقي ، بكل من يدعو إليها  حتى غدا بعض المحسوبين على الإسلام ، مع الأسف يتخوفون من لفظ كلمة الجهاد على ألسنتهم ، متناسين أن الجهاد في سبيل الله ، هو شعيرة من شعائر الإسلام ، وعنوان من عناوين فرائضه الكبرى ، التي يجب تعظميها ، والدفاع عنها، لتظل حاضرة في العقول والقلوب  وشعارا تتعلق به الأفئدة، وتتربى عليه الأجيال ، ليظل الجهاد حاضرا على مائدة ثقافة هذه الأمة، وفي كتب تعليم أجيالها  وفي مناهج تربيتها ، تعليما وتثقيفا وتدريبا .

إن مما يحز في النفس ، أن انضم إلى ركب السائرين في الحملة على شعيرة الجهاد ، المتخاذلون والمستسلمون ، الذين لم يروا في مواقعهم ، إلا الرغبات واللذائذ والفساد والاستبداد ، والتحكم برقاب العباد ، فناموا   عن نصرة الأرض والعرض ، وسار في موكبهم ، طائفة من الأدعياء كان أكبر همهم ، أن يسوغوا عجزهم، وأن يشرعنوا تقاعسهم، وان يجدوا المعاذير لخنوعهم واستسلامهم ، ونومهم في أحضان عدوهم، فصادروا على المنادين بالجهاد طريقهم وفتحوا الباب على مصراعيه أمام نفوس تمردت ، فكان ما نرى من فوضى واضطراب وفساد .

 إن الأمم والحكومات ، تربي شبابها ، على ما تدعوه عقيدتها القتالية ، دفاعا عن مصالح غالبا ما تكون قائمة على ظلم وبغي وعدوان ، لذا ينبغي أن يتربى شبابنا  ، وقد وقر في قلب كل واحد منهم ، أن من واجبه أن يضحي وان يبذل ، دفاعا عن الحق المهضوم، أو نصرة المستضعفين في الأرض ، لا كما نراه اليوم من حالة الفوضى التي يستنفر فيها أفراد تحت رايات عمية ، بدعوى الجهاد وهي لمنهج الخارجين على الدولة والمجتمع أقرب ، وبمنهج أهل البغي أشبه.

نعم يجب أن يتربى شبابنا تربية علمية واعية ، تضع شعيرة الجهاد في نصابها النظري والعملي لا تسوغ لمتقاعس تقاعسه ، ولا لمتهور تهوره واندفاعه في طريق التهلكة ، وليعلموا أن الإسلام شرع الجهاد، فريضة ماضية إلى يوم القيامة ، لإبلاغ الرسالة الحق لكل الخلق ، ورفع الظلم عن الناس ، وهاتان هما الكلمتان  اللتان لخص بهما  ربعي بن عامر : إن الله ابتعثنا لإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله ، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة " لقد أساء أعداء الأمة عمدا إلى مصطلح الجهاد ومفهومه ، وشوهوا التصور عنه في العقول والقلوب، شاركهم في ذلك لفيف من الطغاة والمستبدين والناطقين باسمهم ؛كما فعل الشيء نفسه ، فريقان آخران من أبناء الأمة عبر تاريخها الطويل فريق آثر الخمول والسلامة  وأدار ظهره للحياة ، حتى ذلت الأمة، وطمع فيها أعداؤها وركب أكتافها المعتدون الطامعون والمستبدون، والطاغون الفاسدون ، وفريق وظفوا شعيرة الجهاد في غير موضعها، فضلوا الطريق، وارتكبوا الجنايات التي ما أنزل الله بها من سلطان فأعطوا بذلك الذرائع ، لكل معتد أثيم، ليمعنوا في النيل من شعيرة الجهاد ، بما يرتكبون باسم الجهاد من آثام ، الجهاد الذي  لن تجد الأمة بدونه السبيل إلى الله ، الذي جعله سببا ًلتمكين الدين في الأرض ، وتحطيم عروش الطغاة من البشر ، وإذلال المنافقين ، وكسر شوكتهم وإرهاب الأعداء مهما اتسعت ممالكهم وعظمت قوتهم .

جاءت معركة الكرامة، لتثبت  القدرة على مقاومة المحتل ، وإذا كان لهذه الأمة من معركة كمعركة الكرامة ، فمعركتها تحرير المسجد الأقصى ، وإن كان لها من كرامة ، فكرامتها تطهير المسجد الأقصى ، من رجس اليهود .

 

النهي عن الطيرة 

  المسلم لا يعرف التشاؤم أو التطير وعند القيام بأي عمل يأخذ بالأسباب فإن كان التوفيق والنجاح فالحمد والشكر لله وإن كان غير ذلك فالصبر لأن المصائب إما أن تكون تكفيراً للسيئات أو رفعاً للدرجات وكل شيء عند الله بقضاء .  وقد اعتبر رسول الله صلى الله عليه وسلم الطيرة من الشرك وأمرنا بما هو خير وذلك بصلاة الاستخارة وهي ركعتان يطلب المسلم من الله بعدها أن يختار له الخير . ولا يليق بالمسلم أن يتشائم بسبب حلم مزعج وإذا حصل هذا فقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن يتفل المسلم عن يساره ويتعوذ بالله من الشيطان الرجيم ومن شرّ هذا الحلم ، ولا يليق أن يتراجع عن عمل بسبب التشاؤم فإن ذلك يتقص من إيمان وتوكله على الله وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : "من رجعته الطيرة من حاجته فقد أشرك وكفارة ذلك أن يقول أحدهم اللهم لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك ولا إله غيرك ، اللهم لا يأتي بالحسنيات إلا أنت ولا يذهب بالسيئات إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بك " .  وقد علّق أحد التابعين على هذا الدعاء النبوي " والذي نفسي بيده إنها لرأس التوكل وكنز العبد في الجنة ولا يقولهن عبد عند ذلك ثم يمضي إلا لم يضّره شيء " . وروى أحمد وأبو داود أن عروة القرشي قال : ذكرت الطيرة عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال : "أحسنها الفأل ولا ترد مسلماً فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ولا يدفع السيئات إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بك ".  ولا يجوز للإنسان أن يتمادى في التشاؤم وترك العنان للوساوس والهواجس تلعب به فقد يصاب بالشيء الذي تشاءم منه أما من بتوكل على الله ويعلّق قلبه به فإنه لا يلقى ما يضرّه من هذه الوساوس والهواجس روى ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" لا تضرُّ الطيرة إلا من تطير ".

 

 

 

 

إثم تدنيس آيات القرآن

ما هو الحكم الشرعي في تدنيس الآيات القرآنية وأسماء الله الحسنى؛ مثل المشي عليها ورميها في البراميل في شكل نفايات ولف الأطعمة بالجرائد مع وجود الآيات القرآنية بها وعدم رفعها من الأرض؟

 أجمع المسلمون على أن من تعرَّض للقرآن بامتهان أو بابتذال متعمداً فإنه مرتد خارج من الملة إن كان من المسلمين، وأن من تعرض له من غير المسلمين فهو محارب لله ورسوله، وأما من رضي بذلك أو بدر منه ما يؤيده فقد دخل في النفاق ألاعتقادي فالراضي كالفاعل. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وقد اتفق المسلمون على أن من استخفَّ بالمصحف مثل أن يلقيه في الحش أو يركضه برجله إهانة له أنه كافر مباح الدم"  فالواجب على المسلم تعظيم الآيات القرآنية وأسماء الله الحسنى وكذلك أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم لعموم قوله تعالى : { ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه }وقوله تعالى : { ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب } ولأن المتواتر من فعل المسلمين الصالحين الحرص على ذلك؛ ومن باب التعظيم للقرآن أن جمهور العلماء قد حرَّموا مس المصحف إلا على طهارة كاملة، وذكر أهل العلم في تعظيم المصحف ألا يحمل بالشمال وألا يوضع على الأرض وإن كانت طاهرة وألا يوضع فوقه شيء لأن كلام الله يعلو ولا يعلى، وألا تقلب صفحاته ببل الإصبع بالريق لأن الريق وإن كان طاهراً فإنه مستقذر إلى غير ذلك من الأحكام . وعليه فإنه يحرم المشي على الآيات القرآنية أو رميها مع النفايات أو الأكل عليها أو لف الأطعمة فيها، ومن فعل ذلك متعمداً عالماً فإنه يخشى عليه من الردة لقوله تعالى : { أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } ومن وقع في شيء من ذلك فعليه التوبة إلى الله عز وجل والله أعلم .

 

 

 

 

 

اصول البر

 

يظن بعض الناس خطأ أن البر هو العبادة وحدها ، وهذا غير صحيح لأن البر يشمل العقيدة والعبادة والأخلاق وتنظيم العلاقات الاجتماعية ، وقد أنزل الله آية جمعت أصول البر كلها ، ذكر فيها بعض أركان الدين وهي الإيمان والإسلام ، وذكر فيها قواعد الإيمان وبعض قواعد الإسلام وهي الصلاة والزكاة وحددت صفة الصادقين المتقين قال تعالى:﴿ ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله  واليوم الآخر والملائكة والكتابِ والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابنَ السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقامَ الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون ﴾ البقرة 177

 

ليس المطلوب من العبد أن يتوجه إلى الله بجهة مخصوصة   ولكن البر المطلوب أن يعتقد بقلبه هذه الأشياء وأن يظهر على جوارحه ما يصدّق صحة اعتقادها ، وذلك كالاتصاف بالسخاء والكرم فيعطي المال على محبته له وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الصدقة افضل ؟ ( فقال أن تتصدّق وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر ) . فقوله :﴿ آتى المال على حبه ﴾ يعطينا إما منـزلة إخراجه من الملك وإما منـزلة إخراجه من القلب الذي يحبه ، ولذلك يعيب الله على جماعة من الناس يريدون العمل على طاعة الله ، لكنهم لا ينفقون لله إلا مما يكرهون فيقول في حقهم ) ويجعلون لله ما يكرهون ( ولكن لمن يكون ذلك المال الذي ينطبق عليه القول إنه لذوي القربى ، مع أن المفروض في الإنسان المؤمن أن يجعل كل الناس قرباه ، نذكر في هذا المقام قصة معاوية عندما كان أميراً للمؤمنين ودخل عليه الحاجب وهو يقول: يا أمير المؤمنين رجلٌ بالباب يدّعي أنه أخوك ، فقال معاوية : أبلغ بك الأمر ألا تعرف إخوتي ؟ أدخله ، فلما دخل الرجل قال له معاوية : أي إخوتي أنت ؟ قال أخوك من آدم  فقال معاوية رحمٌ مقطوعة ، والله لأكونن أول من وصلها  وأكرمه . فإذا كان الإنسان لا يستطيع أن يصل قرباه من الناس كافة ، ألا يستطيع أن يصل خاصة أقاربه ؟ ولأن الحث على البر أول ما جاء فيه هو إيتاء ذوي القربى  لأن لهم مكانة خاصة لقول رسول الله r ( صدقتك على المساكين صدقة وعلى ذوي القربى إثنتان صدقةٌ وصلة )   وعندما يعطي كل منا أقاربه ويحملهم على فائض ماله فلن يوجد محتاج ، وإذا وجد فسيكون قليلا تتسع له الزكاة الواجبة .  وفيها حضٌ على إعطاء اليتامى لإهمالهم ، والمساكين الذين أسكنهم الفقر في بيوتهم ، وابن السبيل المسافر الغريب أو الضيف ، والسائلين الذين يضعون أنفسهم موضع السؤال وفي الحديث ( أعط السائل ولو على فرسه ) وعنه  صلى الله عليه وسلم : ( هدية الله إلى المؤمن السائلُ على بابه ) لأنك لا تعرف لماذا يسأل ، بعض الناس يبررون الشح فيقولون : إن كثيراً من السائلين هم قوم محترفون للسؤال ، نقول لهم : ما دام قد سأل انتهت المسألة ، وما دام قد عرض نفسه للسؤال فأعطه ولا تتردد ، ولن تخسر شيئا من عطائه ، فلأن تخطىء في العطاء خيرٌ من أن تصيب في المنع .

 

ومن أوجه البر إقامة الصلاة في أوقاتها على الوجه المطلوب شرعا وإيتاء الزكاة ، وذلك لمن أراد أن يدخل في مقام الإحسان ، وهو أن تلزم نفسك بشيء لم يفرضه الله عليك ، ولذلك عندما سئل رسول الله r هل في المال حقٌ غير الزكاة ؟ ذكر رسول الله r هذه الآية ليس البر .. هذه أوجه البر المطلوبة ، والزكاة أيضاً مطلوبة ، وفي مصرف الزكاة لا يوجد ذوو القربى ولا اليتامى ، ففي البر هناك أشياء غير موجودة في الزكاة ، وكأن لسان الحال إذا أردت أن تفتح لنفسك باب البر مع الله فوسع دائرة الإنفاق ، وستجد أن البر قد أخذ حيزاً كبيرا من الإنفاق   لأن المنفق مستخلف عن الله ، والله هو الذي خلق الإنسان   وما دام خلقه فهو مكلفٌ بإطعامه ، فإذا أنفقت على المحتاج من خلقه ، فإنك تتودد إلى الله بمساعدة المحتاجين من خلقه دون أن يلزمك به ، ولذلك يقول الله : ﴿ من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسنا فيضاعفه له أضعافاً كثيرة ﴾ البقرة 245 . إذا كان هو الذي أعطى المال فكيف يقول أقرضني ؟ ذلك لأنه سبحانه لا يرجع فيما وهبه لك من نعمة المال ، فمالك هبة من الله ، لكن إن احتاجه أخ لك مسلم ، لا يقول لك أعطه من عندك أو أقرضه ، إنما يقول لك أقرضني أنا ، لأني خلقته ورزقه مطلوب مني ، وكأنك حين تعطيه تقرض الله ، وهذا معنى الآية فهو سبحانه متفضلٌ بالنعمة ثم يسألك أن تقرضه . ولنا عبرة وعظة من السيدة فاطمة عندما دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآها ممسكة بدرهم والدرهم يعلوه الصدأ وأخذت تجلوه ، فسألها : ما تصنعين يا فاطمة ؟ قالت أجلو درهماً قال : لماذا ؟ قالت : لأني نويت أن أتصدق به قال وما دمت تتصدقين به فلماذا تجلينه ؟ قالت : لأني أعلم أنه يقع في يد الله قبل أن يقع في يد المحتاج .

 

وأخيراً يتبع الله قوله عن البر كلمة التقوى ، فكل حكم يعقبه السبب من تشريعه هو التقوى ،  ومعناها أن تتقي معضلات الحياة ومشكلاتها بأن تلتزم منهج الله وتطبقه فتكون اتقيت المشكلات ، أما من يعرض عن تقوى الله   فإن الله يخبر عن مصيره بأن له معيشة ضنكا قال تعالى :

 

﴿ ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ﴾ طه 144 . وليست التقوى هي اتقاء النار كما يظن إنها أعم وشمل ، إنها اتقاء المشكلات التي تنشأ عن مخالفة منهج الله

 

 

 

 

 

 

 

حملة الإساءة للإسلام والرسول

 لقد أصبحت الإساءة للدين الإسلامي أمرا معتادا في الغرب ، حيث ظهرت العنصرية بوجهها القبيح ضد الدين الإسلامي في الدنمارك وايطاليا وأمريكا وحتى بابا الفاتيكان نفسه ، لم يتوان عن الإساءة للإسلام .  

إن مما يدعو للأسى أن بعض الحكومات العربية والإسلامية تلتزم الصمت تجاه هذه الإساءات ، وكأن الأمر لا يعنيها في شيء ، ما أدى إلى تمادى تلك الدولة في السخرية والاستهتار بالإسلام ، وقد أثبتت الوقائع أنها حملة منظمة ومنسقة تأتى في إطار عداء الغرب المتصاعد ضد الإسلام . وأداءً لواجب النصيحة لله ولرسوله وللمؤمنين ، وقياما ببعض حقه صلى الله عليه وسلم على أمته وتعبيراً عن مشاعر الإساءة لدى كل مؤمن ومؤمنة ، تجاه هذه الجريمة المنكرة ، فإنه يجب على ولاة الأمر والعلماء والمثقفين والإعلاميين والساسة ، الوقوف ضد ذلك كلٌ بحسب استطاعته  ، علماً بأن هناك من المستشرقين والعلماء في الغرب من أنصف الإسلام ورسوله ، ومن الجدير بالذكر أن الحملة المسعورة ضد الإسلام ورسوله أتت بردود أفعال إيجابية ،  حيث يزداد شوق الغربيين للتعرف علي الحضارة الإسلامية ، وقراءة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم حيث تجري يوميا ، عمليات إشهار الإسلام لعشرات الأشخاص في كل أركان المعمورة..   نسأل الله عز وجل أن يعلي كلمتة ، وينصر دينه ، وأن يوفق المسلمين للسير على نهجه وإتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم .     

 

 

يوم عاشوراء

 هو يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه ، وأغرق فرعون وقومه .  وهو في اليوم العاشر من شهر محرم لحديث عَبْد اللّهِ بْن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا قال : حِينَ صَامَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ: إِنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم : «فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ، إِنْ شَاءَ اللّهُ، صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ ». قَالَ: فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِلُ، حَتَّىٰ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللّهِ . رواه مسلم 

ويتأكد صيام يوم عاشوراء ؛ لحديث ابن عباس – رضي الله عنهما- قال: ( ما رأيت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يتحرى صيام يوم فضَّله على غيره إلا هذا اليوم يوم عاشوراء، وهذا الشهر يعني شهر رمضان ) رواه البخاري ومسلم

ولصيام هذا اليوم المبارك فضل عظيم كما في حديث أبي قتادة – رضي الله عنه- عن النبي –صلى الله عليه وسلم- (صيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يُكفّر السنة التي قبله ) رواه أحمد ومسلم  . وصيام هذا اليوم سنة مؤكدة وليس واجباً ؛ لحديث عبد الله بن عمرو- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: ( إن عاشوراء يوم من أيام الله ، فمن شاء صامه ومن شاء تركه ) رواه مسلم   وعن عائشةَ رضيَ اللّهُ عنها قالت:( كان عاشوراءُ يوماً تَصومهُ قريش في الجاهلية، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يصومه. فلما قدِمَ المدينةَ صَامَهُ وأمرَ بصيامه، فلما نزلَ رمضانُ كان مَن شاءَ صامه، ومن شاء لا يَصومُه ) رواه البخاري 

وسبب صيام هذا اليوم المبارك ما جاء في حديث ابن عباس – رضي الله عنهما- قال: قدم النبي – صلى الله عليه وسلم- المدينة، فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: ( ما هذا ) ؟ قالوا: هذا يوم صالح ، هذا يوم نجا الله بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى ، قال: ( فأنا أحق بموسى منكم ، فصامه وأمر بصيامه ) رواه البخاري 

 

 

 

 

مفهوم الـــحُــبّ والبغض

الحب لا ينكره الدين ، ولا تمنعه الشريعة  وأفضله محبة المتحابين في الله ، قال صلى الله عليه وسلم: ( أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله ) وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم: ( من أحب في الله وأبغض في الله وأعطى لله ومنع لله؛ فقد استكمل الإيمان) أبي داود ، فالمؤمن يحبّ في الله، ويوالي في الله ، ولا يوالي من خالف الله ورسوله ، قال تعالى:﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ﴾ فمحبة الله , لا تجتمع مع محبة   الكفار وموالاتهم ، وقد أساء الناس هذا الفهم، فنرى من يتحابون ويتباغضون من أجل المال ، ومن أجل القبيلة والعشيرة  وربما حصل الحب من أجل التصاحب والمعرفة ، أو من أجل الطمع في جاه المحبوب ، وهذا ليس صحيحاً ، لأن الحب في الله ، والبغض في الله ، الذي لا يُبتغى به وجه الله ، لا قيمة له عند الله ، وقد أشار إلى هذا ابن عباس فقال : "من أحب في الله وأبغض في الله، ووالى في الله ، وعادى في الله؛ فإنما تُنال ولاية الله بذلك  ولن يجد أحدٌ طعمَ الإيمان إلا بذلك" أما البغض في الله, فهو لمن عصى الله وخالفه ، ورد عن عيسى عليه السلام:"تحبّبوا إلى الله ببغض أهل المعاصي, وتقرّبوا إلى الله بالتباعد عنهم" .

ومن لوازم الحب في الله ، النصح للمسلمين، والإشفاق عليهم، والدعاء لهم  وزيارة مريضهم، وتشييع جنائزهم، وتفقد أحوالهم ، وأما لوازم البغض في الله ، ألا نبتدئهم بالسلام، ولا نتشبه بهم ، ولا نشاركهم في أعيادهم ، قد يقال بأن بغضهم ومعاداتهم يُؤدي إلى نفورهم وبغضهم للإسلام ، وها نحن نرى من والاهم وأحبهم ، فما أسلموا  بل ازدادوا عتوّاً ونفوراً عن الإسلام وأهله. وتجاهل القائلون أن عقيدة الولاء والبراء ، التي تعني محبة المؤمنين وموالاتهم ، وبغض الكافرين ومعاداتهم ، والبراءة منهم ومن دينهم  تجاهلوا أنها أكبر ضمان ، لحفظ الأمة من الانجراف في تيار الأمم الكافرة ، ألا نرى أن أصحاب عقيدة الولاء ، هم من أعظم الناس إيمانا ، إذ لا يمكن لهم بأي حال من الأحوال ، التشبه بالكفار ، أو الإعجاب بأخلاقهم وأفكارهم ، بخلاف الموالين لهم  الذين ينظرون إليهم بكل استحسان وإكبار    مع أن الأصل أن يكون الحب كله لله، ولا يحب معه سواه ، ومن أحب الله, وأطاع المخلوق وعصى ربه, فهو كاذب , لأنه لو أحبه لأطاعه :

تعصي الإله وأنت تظهر حبه     ذاك لعمري في القياس شنيع

لو كان حبـك صادقاً لأطعته  إن المــحب لمن يحب مطيع

في كلّ يومٍ يبتديك بنعمةٍ منه   وأنت لشكر ذلك الحب مضيع

وحب الله يكون باتباع منهج الله ، فقال سبحانه : ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ﴾ آل عمران31. 

لقد مُسِخ مفهوم الحب عند الناس   فاعتبروه يدل على ميل الذكر للأنثى ، بينما هو في الإسلام ، يتغنى بذكره العابدون ويوصي به الأطباء والمصلحون ، ويسعى إلى ترسيخه الدعاة المخلصون ، لأن التقصير في حق الله، ومخالفة منهج الله ، يؤدي إلى العداوة والبغضاء بين الناس ، قال تعالى:﴿فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِروا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾ المائدة 14. إننا بحاجة إلى التفقه في الحب   الذي عمت به البلوى, وشغل به من يعيشون للهوى ، وأحلام اليقظة, وشتان بين قلب امتلأ حباً للرحمن, وقلوب اشتغلت حباً للأخدان قال تعالى: ﴿ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ للهِ وَالّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُباً لله ﴾البقرة 165، لكن كثيراً من الناس خرجوا بالحب عما ينبغي أن يكون عليه ، من معانٍ نبيلة  إلى معانٍ مبتذلة محرّمة ، حيث انتهكت الحرمات, وارتكبت المحرمات, ولا أدلَّ على تعلق البعض بالحب المحرّم ، عندما نقرأ ما يكتبون, ونسمع ما ينطقون ، نجدهم وقد ذهبت أيامهم في المغازلات والمطاردات فوصفهم القائل :

تولَّعَ بالعشق حتى عشق فلما استقلَّ به لم يطق

رأى لُجَةً ظنها موجةً      فلما تمكَّن منها غرق

وشطَّ البعض في الحب ، غلواً أخرجه عن الحد, فأوجب لهم الإثم, وعَظُمَ منهم الجرم وربما أخرج أناساً من الملة والدين ، وحياض المسلمين ، ولئن اقتصر إثم أهل الجاهلية على حب الرجال للنساء, فإن فتنة أهل زماننا بالحب ، أشد وأفظع, فقد شغلوا  فيما تعارف الناس على تسميته بالعشق أو الإعجاب, والسبب خواء قلوبهم من حب الله, لأن النفس البشرية ، لو شغلت بما يرضي الخالق, لما أحبت ما يغضبه , فكيف طابت نفوس عشاق القَدِّ والخد ، أن يجعلوا في قلوبهم الدُّونَ من الحب لله ، وما تعلق قلب بغير الله ، إلا أذله الله ، لأن الله تعالى هو المستحق لكمال المحبة, قال الله عز وجل:﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُباً لله ﴾البقرة 165 فأطعم حبه تعالى من جوع ،  وكسا من عُريِّ, وآمن من خوف, وأغنى من بعد فقر حبٌ يورث سعادة الدنيا ونعيم الآخرة، قال تعالى في الحديث القدسي: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب, وما تقرب إليَّ عبدي بشيءٍ أحبَ إِليَّ مما افترضته عليه  وما يزال يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه, فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به, وبصره الذي يبصر به, ويده التي يبطش بها, ورجله التي يمشي بها, وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذ بي لأعيذنه ) رواه البخاري. ومن أحبَّ اللهَ, أحبَّ لقاء اللهِ, ومن أحبَّ لقاء اللهِ  أحبَّ اللهُ لقاءَه، وقد جعل الله حبه أساساً في الإيمان وأصلاً, فلا يتم الإيمان إلا بحبه وحب رسوله صلى الله عليه وسلم .   

إن من روابط المحبة ، الأخوَّة الإسلامية، بين المسلمين, فمَثلُهُم في التوَّاد والتراحم ،كمثل الجسد الواحد, وهم لبعضٍ كالبنيان يشد بعضه بعضاً، ومحبة المسلمين فيما بينهم يجب أن تكون لله وفي الله, لا تبنى على عوارض الدنيا وأغراضها, ففي الحديث أن من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله (رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وعليه تفرقا ) لأنه الإخاء عندما خالصاً لله, والوُد قائماً على الإيمان بالله والترابط يَشُدُ عراه حبل الإيمان, يكون من ثماره مثل قول النبي عليه السلام:(إن من عباد الله أناساً ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء بمكانهم من الله قالوا: يا رسول الله أخبرنا من هم؟ قال:هم قوم تحابوا في الله علي غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها ) رواه أبو داود. وكل محبة في الدنيا لم تكن لله ، تنقلب في الآخرة إلى عداوة وبغضاء قال سبحانه:﴿الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ ﴾الزخرف 67 فليراعى في المحبة ، وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل: (أحبب حبيبك هوناً ما عسي أن يكون بغيضك يوماً وأبغض بغيضك هوناً ما عسي أن يكون حبيبك يوماً ما ) رواه البخاري في الأدب .

إن من البدع ، الاحتفال بما يعرف بعيد الحب, الذي يتبادلون فيه التهاني, والورود الحمراء, وما علموا أن عيد الحب أو الفالنتاين ، ما هو إلا احتفال ديني خاص لدى النصارى, وتخليد لذكرى إحدى الشخصيات النصرانية وهو القس فالنتاين الذي كان له دور بارز في دين النصارى في القرن الثالث الميلادي، وأياً ما كان فمالنا ولأعيادهم؟ فقد آن الأوان أن يدرك المسلمون أن عليهم العيش قادة لا منقادين, ومتبوعين لا تابعين, لأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ، ولكن أكثرهم لا يعلمون.

 

  

 

 

 

 

 

القيم المادية والقيم الروحية

 

القيم المادية تتجلى في تلبية حاجات الجسد من الاكل والشرب والسكن والعلاج والغرائز ، فاذا تمسك الانسان بدينه وحرص على طهارة روحه سما وارتفع . وان هو استجاب للمادة والشهوات خسر الدنيا والآخرة . وقد شبه تعالى الذين للشهوات الجسدية بالانعام قال تعالى :﴿ اولئك كالأنعام بل هم اضل ﴾ . 

 

-  أما بالنسبة للقـصد مـن العمل فإنه لا بدّ أن يكون لكل عامل قصد قد قام بالعمـل مـن أجله. وهذا القصد هو قيمة العمل. ولذلك كان حتماً أن تكون لكل عمل قيمة يراعي الإنسان تحقيقها حين القيام بالعمـل، وإلا كان مجرد عبث. ولا ينبغي للإنسان أن يقوم بأعماله عبثاً من غير قصد، بل لا بد أن يراعي تحقيق قيم الأعمال التي قـصد القيـام بالعمل من أجلها.

 

وقيمة العمل إما أن تكون قيمـة ماديـة، كالأعمـال التجارية والزراعية والصناعية ونحوها، فإن المقصود من القيام بهذه الأعمال هو إيجاد فوائد مادية منها، وهي الربح، وهي قيمة لهـا شأنها في الحياة، وإما أن تكون قيمة العمل إنسانية كإنقاذ الغرقى وإغاثة الملهوفين، فإن المقصود منها إنقاذ الإنسان بغض النظر عن لونه وجنسه ودينه أو أي اعتبار آخر غير الإنسانية، وإما أن تكون قيمة العمل خُلُقية، كالصدق والأمانة والرحمة، فإن المقصود منها الناحية الخُلقية بغض النظر عن الفوائد وبغض النظر عن الإنسانية، إذ قد يكون الخُلق مع غير الإنسان، كالرفق بالحيوان والطير ، وقد تحصل من العمل الخُلقي خسارة مادية، ولكن تحقيق قيمته واجبة، ألا وهي الناحية الخُلقية. وإما أن تكون قيمـة العمـل روحيـة كالعبادات، فإنه ليس المقصود منها الفوائد المادية، ولا النـواحي الإنسانية ولا المسائل الخلقية، بل المقصود منها مجـرد العبـادة، ولذلك يجب أن يراعى تحقيق قيمتها الروحية فحسب بغض النظر عن سائر القيم.  هذه هي القيم للأعمال جميعها، وهي التي يعمل لتحقيقها الإنسانُ عند القيام بكل عمل من أعماله.

 

وقياس المجتمعات الإنسانية في حياتها الدنيوية إنّما يكون حسب هذه القيم، ويكون بقدر ما يتحقق منها في المجتمع ، ومـا يضمن تحقيقها من رفاهية وطمأنينة. ولذلك كان على المسلم أن يبذل وسعه لتحقيق القيمة المقصودة من كل عمل يقوم به حـين أداء هذا العمل ومباشرته، حتى يساهم في رفاهية المجتمع ورفعته، ويضمن ــ في الوقت نفسه ــ رفاهية نفسه وطمأنينتها.

 

وهذه القيم ليست متفاضلة ولا متساوية لذاتها، لأنّـه لا توجد بينها خصائص تتخذ قاعدة لمساواتها ببعـضها أو تفـضيل بعضها على بعض، وإنّما هي نتائج، قصدها الإنسان حين القيـام بالعمل. ولذلك لا يمكن وضعها في ميزان واحد، ولا تقاس بمعيار واحد، لأنّها متخالفة إن لم تكن متناقضة. غير أن الإنسان مـن شأنه أن يفاضل بين القيم ليختار أفضلها وإن لم تكن متفاضـلة، ولا متساوية، إلاّ أن الإنسان لا يرضى بذلك بل يفاضل ويساوي بينها. وهذه المفاضلة والمساواة لا تكون بناء على نفس القيمة، بل بناء على ما يصيبه هو منها، وعلى ذلك بنى الإنـسان التفاضـل والتساوي بين القيم على نفسه، وما تجره هذه القيم له من نفع أو ضر. ولذلك يجعل نفسه المقياس أو يجعل الأثر الذي يصيب ذاتـه من هذه القيم هو المقياس، فتكون في الحقيقة مفاضلة بين آثار هذه القيم في نفسه لا بين القيم ذاتها. وبما أن استعدادات بني الإنـسان تختلف بالنسبة لآثار القيم، لذلك تختلف مفاضلتهم بينها.

 

فالأشخاص الذين تتغلب عليهم المشاعر الروحية ويملكهم الميل لها ويهملون القيمة المادية يفضلون القيمة الروحية على القيمة المادية، فينصرفون للعبادات ويزهدون في المادة. ولذلك يعطلـون الحياة لأنّها مادة، ويسببون تأخرها المادي، ويـنخفض بـسببهم مستوى المجتمع الذي يعيشون فيه، بما يشيع فيه من كسل وخمول.

 

والأشخاص الذين تتغلب عليهم الميول المادية وتملكهـم الشهوات ويهملون القيمة الروحيـة يفـضلون القيمـة الماديـة وينصرفون لتحقيقها. لذا تتعدد عندهم المثل العليا، ويضطرب بسببهم المجتمع الذي يعيشون فيه، ويشيع فيه الشر والفساد.

 

ولهذا كان من الخطأ أن يترك للإنسان تقدير هذه القيم، بل يجب أن تقدر القيم من قبل خالق الإنسان وهو االله . ولـذلك كان لا بد أن يكون الشرع هو الذي يحدد للإنسان هذه القـيم ويحدد وقت القيام بها، وبحسبها يأخذها الإنسان. وقد بيّن الشرع معالجات مشاكل الحيـاة بـأوامر االله ونواهيه، وألزم الإنسان بالسير في هذه الحياة حسب هذه الأوامر والنواهي، كما بيّن الأعمال التي تحقق القيمة الروحيـة، وهـي العبادات التي أوجبها وسنها. كما بيّن الصفات التي تحقق القيمـة الخلقية. وترك للإنسان أن يحقق القيمة المادية التي تلزمه ليسد بهـا ضروراته وحاجاته، وما هو فوق الضروريات والحاجات، وَفـق نظام مخصوص بينه له، وأمره أن لا يحيد عنه. وما على الإنسان إلاّ أن يعمل لتحقيق هذه القيم وَفق أوامر االله ونواهيه، وأن يقـدرها بالقدر الذي بينه الشرع.  وبذلك تتحقق في المجتمع القيم بالقـدر الـذي يلزمـه ، كمجتمع معين. ويقاس هذا المجتمع بمقاييسها. وعلى هذا الأساس يجب أن يعمل لتحقيق القيم، ليوجد المجتمع الإسـلامي حـسب وجهة نظر الإسلام في الحياة. وعلى ذلك فإن العمل الإنساني مادة يقوم به الإنـسان قياماً مادياً  إلاّ أنه حين يقوم به يدرك صلته بالله من كـون هـذا العمل حلالاً أو حراماً فيقوم به أو يمتنع عنه على هذا الأسـاس، وهذا الإدراك من الإنسان لصلته بالله هو الروح. وهو الذي يجبر الإنسان أن يعرف شرع االله ليميز أعماله فيفهم الخير من الـشر حين يعرف ما يرضي االله من الأعمال وما يسخطه ويميز القبـيح من الحسن حين يعيّن له الشرع الفعل الحسن والفعـل القبـيح، وليرى القيم التي تلزم للحياة الإسلامية في المجتمع الإسلامي حسب ما يعيّنها الشرع. وبهذا يمكنه حين يقوم بالعمل ويدرك صلته بالله  ، أن يقدم على العمل أو يحجم عنه حسب هذا الإدراك، لأنّه يعلم نوع العمل ووصفه وقيمته

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

  

 

 

 

  

عجائب قدرة اللَّه

 

إن في الكون كائنات دقيقة، يأخذ المسلم منها عظةً، وإيمانًا بالخالق سبحانه، ومن عجائب ما فيها، قدرة الله المتناهية في كل أمر، منها ما يُدْرَكُ بالإحساس وله منافع في تلاقح الأشجار وجودة الثّمار، وإزالة بعض الأمراض، ومكافحة الأوبئة، وغير ذلك، حسب ما بدأ يتكشّف للإنسان، ومنها ما لا يُدْرَكُ، ولكنّه عالم مستقل بذاته. فمثلاً الطير الأبابيل ، فقد توسّع سيد قطب في تفسير هذه السورة وغيرها، ليبيّن أن البشر يجب ألاّ يخضعوا الآيات الكونيّة، لمفهوم عقولهم؛ لأنّهم (مَا قَدَرُوْا اللهَ حَقَّ قَدْرِه) وإنّما ينبغي تسليم الأمور في الغيبيّات، لمشيئة الله وقدرته، وعدم إخضاعها لأحاسيس البشر الضّعيفة القاصرة، وخاصةً في كل كائن ضعيف في نظرنا، خلقه الله، خاصّةً وأننا لا ندرك أمورًا كثيرةً، منها تسبيح هذه المخلوقات المتناهية في الصّغر، يقول سبحانه:﴿ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحَ بِحَمْدهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ﴾ 44 الإسراء.

 

وهذا من علم الله الذي يفتحه لمن يشاء مِنْ عباده، حتى يزداد الإيمان بالله، وعجائب قدرته، مثلما علمّ الله أنبياءه، ما لم يعلمونه، وقال عن صفوته من خلقه صلى الله عليه وسلم، وهو الأميّ: ﴿ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ﴾ 113 النساء . ففهم لغة جذع النخلة، الذي كان يخطب عليه، فحّن كالطفل بعدما تركه للمنبر الذي عمِل له، فضمّه حتى هدأ، ومثل ما قال للجبل الذي اهتزّ، وعليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر وعمر وعثمان، وقال له: ( اهدأ ثبير فإنّما عليك: نبيّ وصدّيق وشهيدان). وغير هذا من الوقائع التي تبرز فيها الخوارق التي هي من عجائب قدرة الله، وتزيد المتأمل يقينًا وإيمانًا بقدرة الله جلّ وعلا، وعبرةً توصل اليقين، وعبرةً لمن أراد أن يعتبر، مثلما قال الله في قصة إحياء الموتى، على لسان نبيّ الله إبراهيم عليه السلام، لـمّا سأل ربّه: كيف يحي الموتى.؟ فقال الله: ﴿ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ﴾ 260 سورة البقرة . فأرشده ربه إلى طريقة حسّية، تثبت إيمانه، وهي أيضًا من الخصائص التي منحها الله لنبيّه، عيسى ابن مريم عليه السلام.

 

وعلّم الله نبيّه سليمان عليه السلام، منطق الطير، ولغة النمّل ومخاطبة الهدهد، فقد جاء في الكتاب الكريم، قول النملة وهي من أصغر مخلوقات الله لما شاهدت، جحافل موكب النّبيّ سليمان: من الجن والإنس والطير وغيرها، موجهة القول لعالم النمل ومحذّرة: قالت نملة: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوْا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُوْنَ ﴾ النمل الآية18. وقد استدل بعض المحقّقين من كلمة ﴿ لا يَحْطِمَنَّكُمْ ﴾ أن عالم النمل مخلوق من مادّة زجاجيّة؛ لأنه هو الذي يتحطّم، ولو كان من عظام أو حديد لجاءت عبارة أخرى: كالتكسير والتمزّيق وما إليها.. 

 

وذكرت الآية حديث النملة، وانعكاسه على سليمان عليه السلام، فكان الردّ من سليمان على حديثها الذي أسمعه الله إياه : ﴿ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ﴾ سورة النمل 18 والنماذج على عجائب قدرة الله في مخلوقاته، لا تُعَدُّ ولا تُحْصىٰ، وكما يقول الشاعر :

 

وفي كل شيء له آية    تدلُ على أنه الواحدُ

 

فالله سبحانه أعطي الآيات التي علم أن الفطرة السليمة تستقبلها كآية وتؤمن بها. وأنزل لنا القرآن لنؤمن بالرسول الذي يحمله منهجا يُصلح حياتنا  وقد جعلنا سادة للكون؛ تخدمنا كل الكائنات، في الوجود ، وتصب جهدها المسخر لخدمتنا ، لأن الله ما خلقها عبثاً، ولا خلقها للعب، إنما خلقها من أجلنا نحن ، لذلك يقول سبحانه في الحديث القدسي: ( يا ابن آدم، خلقتُ الأشياء من أجلك، وخلقتُك من أجلي، فلا تنشغل بما هو لك عمن أنت له ) .

 

فالكون مملوك لك، وأنت مملوك لله، فلا تنشغل بالمملوك لك عن المالك لك. فإذا كنتُ قد جئتُ للأجناس كلها وجعلتُها دونكم وأعطيتها ما يصلحها ويقيمها ووضعت لها نظاماً، وأعطيتها من الغرائز ما يكفي لصلاح أمرها حتى تؤدي مهمتها معكم على صورة تريحكم فإذا كان هذا هو شأننا وعملنا مع من يخدمكم فكيف يكون الحال معكم؟ إنني أنزلت المنهج الذي يُصْلِح حياة من استخلفته سيداً في الأرض﴿ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ  الى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ﴾  الأنعام 38 . وكل الدواب دون الإنسان أعطاها الإله الإيمان بالفطرة، وهداها إلى الرزق بالغريزة. وميز الإنسان فوق كل الكائنات بالعقل، ولكن الإنسان يستخدم عقله مرة استخداما سليما صحيحا فيصل إلى الإيمان، ويستخدمه مرة استخداما سيئا فيضل عن الإيمان. وكان على الإنسان أن يعلم أنه تعلم محاكاة ما دونه من الكائنات؛ فقابيل تعلم من الغراب كيف يواري سوأة أخيه. ومصمم الطائرات تعلم صناعة الطيران من دراسة الطيور. إذن كان يجب أن يتعلم الإنسان أن له خالقاً جعل له من الأجناس ما تخدمه ليطور من حياته ومن رعاية كرامته بعد الموت. والمثال ما قالته نملة لبقية النمل:﴿ حَتَّى إِذَآ أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ ﴾النمل 18. إن النمل أمة لها حرس، قالت حارسة منهم هذا القول تحذيراً لبقية النمل. والله سبحانه يقول:﴿ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـاكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ﴾ الإسراء 44 . إذن فكل أمة من تلك الأمم الكثيرة التي خلقها الله في الكون تسبح بحمده، ولكن لا يفهم أحد لغات تلك الأمم. وأعلمنا الله أنه علم سيدنا سليمان لغات كل الأقوام وكل الأمم المخلوقة لله، ولذلك عندما سمع سيدنا سليمان ما قالته النملة: ﴿ تبسم ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا ﴾ .

 

وهكذا علمنا أن الله قد أعطى إذن سليمان عليه السلام ما جعلها تمتلك حاسية التقاط الذبذبة الصادرة من صوت النملة وتفهم ما تعطيه وتؤديه تلك الذبذبة، لذلك تبسم سليمان عليه السلام من قولها؛ لأن الله علمه منطق تلك الكائنات. ولو علمنا الله منطق هذه الكائنات لفقهنا تسبيحهم لله، ونحن لا نفقه تسبيحهم لأننا لم نتعلم لغتهم ، إذن لو علمك الله منطق الطير، ومنطق الجماد، ومنطق النبات؛ لعلمت لغاتهم ، ألم يقل الحق سبحانه وتعالى:﴿ وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ ﴾ الأنبياء 79 . إن الجماد تسبح مع داود. وكذلك الطير؛ فها هو الهدهد قد عرف قضية التوحيد، وحز في نفسه أنه رأى ملكة سبأ وقومها يسجدون للشمس من دون الله: ﴿ وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ ﴾ النمل: 24 . إذن فالهدهد قد عرف قضية التوحيد، وعرف أن السجود إنما يكون لله سبحانه وتعالى:﴿ أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ النمل: 25. إذن كل الكائنات هي أمم أمثالنا. وقد يقول قائل: ولكن هناك كائنات ليست في السماء ولا في الأرض، مثل الأسماك التي في البحار؟ ونقول: إن الماء ثلاثة أرباع الأرض والسمك يسبح في جزء من الماء الذي هو جزء من الأرض. فهو يسبح في جزء من الأرض فسبحانه الذي خلق الدواب في الأرض، وخلق الطيور، وخلق الأدنى من هذه الأمم وهداها إلى مصلحتها ومصدر حياتها: ﴿ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ﴾. ونرى العلماء يحاولون الآن اكتشاف لغة الأسماك واكتشاف كل أسرار مملكة النحل ونظامها، وكيف تصير أعشاش النمل مخازن في الصيف لقوت الشتاء. ودرسوا سلوك النمل مع حبة القمح، وكيف تخلع النملة خلايا الإنبات من بذرة القمح، لأن خلايا الإنبات إن دخلت مع حبة القمح إلى مخزن غذاء النمل قد تنبت وتدمر جحر النمل. قال الألوسي: "ومن تتبع أحوال النمل لا يستبعد أن تكون له نفس ناطقة؛ فإنه يدخر في الصيف ما يقتات به في الشتاء، ويشق ما يدّخره من الحبوب نصفين مخافة أن يصيبه الندى فينبت إلا الكزبرة والعدس فإنه يقطع الواحدة منهما أربع قطع ولا يكتفي بشقها نصفين؛ لأنها تنبت كما تنبت إذا لم تشق، وهكذا نرى صدق الحق الأعلى : ﴿ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى  وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَا ﴾ الأعلى: 2-3.وقرون الاستشعار في النملة تثير العلماء؛ لأن النملة الواحدة ترى على سبيل المثال قطعة السكر، فلا تقربها ولكنها تذهب لاستدعاء جيش من النمل قادر على تحريك قطعة السكر، ووجد العلماء أن وزن الشيء الذي يتغذى به النمل إن زاد على قدرة نملة، فهي تستدعي أعداداً من النمل ليؤدوا المهمة. وتساءل العلماء: من أين للنمل إذن هذه القدرة على تحديد الكتلة والحجم والوزن؟ إن تحديد العدد الذي يحمل حجماً محدداً يثير الغرابة والعجب، فكيف يمكن أن نتصور أن النمل يفرق بين شيئين يتحد حجمهما ويختلف وزنهما ككتلة من حديد وأخرى تماثلها في الحجم من الأسفنج؟ إن النمل يستدعي لكتلة الحديد أضعاف ما يستدعيه لحمل كتلة الأسفنج مع اتحادهما في الحجم؛ إنها من قدرة الحق الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى. ثم إنك تلتفت إلى الحيوان فتجد الذكر والأنثى، وتجد أن الجمال كله في ذكور الحيوان، بينما لا يكون الأمر كذلك في إناث الحيوان، والكثرة الغالبة هي من الإناث والقلة من الذكور، ولا يقرب الذكر أنثاه إلا في موسم معين، وإلى أن يأتي موسم التلقيح تنصرف الأنثى إلى إعداد العش وتهيئته لما عساه أن يوجد من نتاج، وهذه العملية لحكمة عالية ربما تكون لبقاء نوع الحيوان حتى يعين الإنسان في إعمار الأرض ، وفي عالم الطير نجد الطيور تبني العش بفن جميل لاستقبال الفرخ الذي خرج من البيض وتفرش له العش بأنعم الأشياء، إنها تفعل ذلك بإتقان جيد وبصورة ربما يعجز البشر أن يعمل مثلها. ثم نجد في دنيا الحيوان والطير أن الكائن ما إن يبلغ القدرة على الاعتماد على نفسه فلا تعرف الأم ابنها من ابن غيرها. إذن فكل المخلوقات أمم أمثالنا أرزاقاً وآجالاً، وأعمالاً، فصدق الله إذ يقول: ﴿ مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ﴾ ، وقد يكون المراد من الكتاب هنا هو اللوح المحفوظ، ولكننا نقول: إنه القرآن، وكل شيء موجود ومذكور أو مطمور في القرآن الكريم. وذكر القرآن أن هذه الأمم تعرف التوحيد، وأنهم يسبحون لله. والعمل المعاصر يكتشف في كل دقيقة حقائق هذا الكون المنظم. ونجد العقل يهدينا إلى أن نوجد أشياء لصالح حياتنا، ولكن عندما نتبع الهوى فإننا نفسد هذا الكون. إن الله سبحانه  جعل للخادم من دواب الأرض نطاقًا للعمل والرزق والأجل بحكم الغريزة، وكذلك جعل للطير، ولكل الكائنات: ويقول الحق سبحانه وتعالى في محكم آياته الكريمة: ﴿ مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ﴾الأنعام 38 . إذن كل شيء يحشر يوم القيامة. ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه: ( لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء ) . أي أن الحق سبحانه يقتص من الشاة ذات القرون التي نطحت الشاة التي بلا قرون ويعوضها عن الألم الذي أصابها. وبعد أن يأخذ كل كائن من غير الإنس والجن حَقَّه يصير إلى تراب. أما الذين يسمعون ولا يستجيبون فهم المكذبون بالآيات، ولذلك يقول عنهم الحق سبحانه وتعالى: ﴿ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا﴾   

 

 

 

 

 

 

 

 

رأيت وتمنيت

 

رأيت من المسلمين من فجر حرباً أزهقت روح الأخوة  فتذكرت حديثاً لأبي ذر يخبر أن الفتن سوف تنتشر بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، وتهيج الغرائز القديمة نحو القتال ( قال أبو ذر يا رسول الله أفلا آخذ سيفي وأضعه على عاتقي ؟ قال رسول الله له : شاركت القوم إذن ، قلت فما تأمرني ؟ قال : تلزم بيتك ، قال : فإن دخل علىَّ بيتي ؟ قال إن خشيت أن يبهرك شعاع السيف فالق ثوبك على وجهك يبوء بإثمك وإثمه ) . أول ما يتبادر إلى الذهن أن من اقتحم بيتي يريد قتلي قتلته لما روى مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من قتل دون نفسه فهو شهيد ) وتمنيت لو أن المسلمين سلكوا مسلكاً آخر غير القصاص ، لأن القصاص لا يحل المشكلات الداخلية ، والقطيعة بين ذوي الأرحام تنمو على العقاب وتقل مع العفو ، وعندما تتعقد الأمور بدوافع سياسية فمفتاحها الحل السياسي ، لا سفك الدماء ، ولعل ذلك ما عناه النبي صلى الله عليه وسلم عندما أوصى بموقف سلبي في مقابلة الفتن ، بتدخل أولو النهى لإنهاء الخلاف بردم منبع الشر ، وكأن الوصية النبوية تؤكد هذا المعنى عندما تقول عن الفتنة ( القاعد فيها خيرُ من القائم والماشي فيها خيرُ من الساعي ) . وتمنيت أن يكون في الأمة رجال لهم حلمٌ وأناة  لهم إخلاصٌ وتجرد ، يبتعدون عن أسباب النـزاع ويرفضون صيحات الجاهلية ، ويتحرون وحدة الكلمة  ويشدون الفرقاء المتخاصمين إلى الخلف ، ريثما يتم إصلاح ذات البين بحل تتغلب فيه المصلحة العامة ، مع شعورنا بصدق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ( الجماعة رحمة والفرقة عذاب ) ومع ما بلوناه من عواقب الاسترخاء في تنفيذ قوله تعالى : ﴿ ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ﴾ الأنفال 46 . رأيت من لا يزداد من الإسلام إلا بعدا ولا يزيده الخطر الداهم إلا غفلة ، فتمنيت لو تخلقوا بأخلاق عرب الجاهلية الأولى ، يحمون الديار ويطلبون الثأر ، ويحظرون على أنفسهم المتع حتى يقهروا عدوهم وينتصروا لأنفسهم ، فهذا أحد صعاليك العرب في الجاهلية يتوعد قتلَة قريب له فيقول :

 

إن بالشَّعب الذي دون سلْع   لقتيلاً دمه ما يُطَـل

 

خلّـف العبء علىَّ وولّى    أنا بالعبء له مستقل

 

ووراء الثأر مني ابن أختٍ    قصيعٌ عقدته ما تـحل

 

فلما أدرك ثأره أباح لنفسه الاستمتاع واللذة وشرب الخمر فقال تأبط شرّا يصف حالته تلك :

 

حلت الخمر وكانت حراما   ويالأَىٍ مـا ألـمت تحل

 

لعل هذا يستنهض الهمم للوقوف أمام عدونا الذي يصول ويجول ويقتل ويدمر .  وفي ميدان التدين ، فإن الله ينظر إلى البواطن لا إلى الصور وإن التدين أبعد شيءٍ عن القسوة والكبرياء ، وهذه خصالٌ ما وضعت في كفة إلا هوت بها ، وإذا ما استعرضنا سيرة رسولنا صلى الله عليه وسلم فإننا نرى تجسيداً للتواضع والإحسان وحب كل شيء .

 

ففي هذا الميدان رأيت من ينسى الأصل ويتعلق بالفرع ، ومن يغفل عن الركن ويتشبث بالنافلة ، ورأيت مشكلات أعجزت من تصدى لحلها ، لأنهم عموا عن الداء ، داء القلب الميت والشهوة الغالبة ، وتلك هي عللنا التي هزمتنا في كل صراع لأن كلمة الإسلام التي تمرق بين الشفتين دون رصيدٍ من إيمان أو خلقٍ لا جدوى منها لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ولا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له ) . ورأيت من لا يملكون إلا بعض القشور في الدين ، يريدون تمزيق الأمة بإيثار رأي على رأي ، وهم من وجهة نظري فتنةٌ نُحذِّر من غوائلها ، لأن الذين ينشرون التعصب خطرٌ على وحدة هذه الأمة ومستقبلها .

 

ورأيت من يكره إنسانا فيحاول النيل منه بكل أسلوب ويجتهد ما وسعه لإلحاق الأذى به وهو ما سماه النبي صلى الله عليه وسلم ( الفجور في الخصومة ) . فالمسلم الصادق هو الذي يعرف الرجال بالحق أما أولئك الذين يعرفون الحق بالرجال ، ويثقون في أي كلام يلقى إليهم ، لأنه صادر عن فلان أو فلان ، فهم أبعد الناس عن فهم الإسلام ، بل هم آخر من يقدم للإسلام خيراً أو يحرز له نصرا .  ورأيت بعض الدعاة مصاباً بحول فكري لا تنضبط معه الحقائق   فقد يرى العادة عبادة ، والنافلة فريضة والشكل موضوعا ، ثم يضطرب علاجه للأمور ، فتصاب الدعوة على يديه بهزائم شديدة . مع أن الداعية الناجح يجب أن يتوفر لديه النقاء وأن يكون محباً للناس ، عطوفاً عليهم لا يفرح في زلتهم ، ولا يشمت في عقوبتهم ، بل يحزن لخطئهم ويتمنى لهم الصواب .  وتمنيت أن يكون هدف الداعية بناء العقائد والأخلاق والعبادات ، عوضاً عن التعصب للمذاهب والأهواء باسم الغضب للإسلام ، والله يعلم أنهم بحاجة إلى من ينير عقولهم ويطهر أفئدتهم . ثم تمنيت لو اشتغلوا بحرفة أخرى ، وما أظنها ستكون سعيدة بهم ، فهم إذا كان الدين تيسيرا فإنهم معسّرون   وإذا كان تبشيرا فهم منفّرون ، محور نشاطهم بعض الأحكام الفرعية يؤثرون فيها رأياً ويقاتلون الرأي الآخر ، ولو أخلصوا لله نياتهم لوجدوا ألف طريق لخدمة الإسلام بعيداً عن الجدال المحموم  ، ورأيت أناساً لا تصيب الحقيقة من قلوبهم هدفا ، ولا تجد بها مقرا ، فهم كما قال تعالى : ﴿ أمواتٌ غيرُ أحياءٍ وما يشعرون أيان يبعثون ﴾ النحل 21 . فقيمة الإنسان في الدنيا والآخرة ترتبط بمدى صلاحية قلبه ، ولعل ذلك ما قرره قوله تعالى : ﴿ إلا من أتى الله بقلب سليم ﴾ الشعراء 89 . وما عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : ( ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله  وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهي القلب ) .

 

إنه لن يفهم الإسلام ولن يخدمه من حرم هذا القلب ، ولو استجمع شارات التدين من قلبه إلى رأسه ، أو من رأسه إلى قدمه ، لأن الدعوة لن تنجح إلا إذا حملها أصحاب القلوب الكبيرة ، وعملوا على نصرتها بفهمٍ حصيف وبصرٍ عفيف .  رأيت طائفة من العلماء احترفت العلم فبدلاً من أن تهذب به الناس ، أخذت تسخره في نيل الدنيا وتحريف الكلم عن مواضعه ، رأيت للعصبية المذهبية ضراوةً أنكى من ضراوة الخمر ، لأن ضراوة الخمر تغطي العقل ، أما هذه فتغطي الضمير ، ثم تسخر العقل لمسايرة الحقد وطلب الانتصار بأية وسيلة ، ولعل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن البغضاء هي الحالقة ) أي التي تحلق الإيمان والأخوة والفضيلة ، لعله يشير إلى هذا . رأيت من الناس مظهر القسوة في سلوكهم ، واعتداد بالشخصية لا يعرف التواضع ، وميل إلى اتهام الغير لا يقبل العذر ، يفهمون من المرويات فهماً ما ، ثم يقولون هذا هو النص ، وإذا خالفتهم فكأنك تخالف الإسلام ، وكثيراً ما يرتكب هؤلاء سلوك الجهال ، غير مكترثين بما يوجه لهم من نصح أو نقد ، لأنهم في زعمهم متعلمون ، لا يجوز القدح في علمهم ومسلكهم ، وقد يرتكبون من التصرفات ما يوقع المرء في حيرة بالغة من أمرهم ، فهم يجيدون نصف دينهم ، ولا يتقون الله في النصف الآخر .

 

رأيت من الحاقدين الذين إن وجدوا خيراً دفنوه ، وإن رأوا شراً أذاعوه ، وإن استطاعوا إدارة خصومتهم على غير قانون من خلق أو شرف فعلوه ، لا هم لهم إلا إشباع نفوسهم المحرجة وإرضاء صدورهم الموغرة ، تُرى أيغني في لقائهم الإحساس البارد والقلب الفارغ والابتسام المبذول ؟ ولكن هيهات هيهات : ﴿ فلا تطع المكذبين ، ودوا لو تدهن فيدهنون ﴾ القلم 4 . أتمنى ألا نتوجس من هذه الخصومات ، وأن نأخذ من ذلك مدداً ندعم به أنفسنا ، وأن نسلم الوجه لله ، فمن أسلم وجهه لله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى ، ومن قرر أن يكرِّس عمره لإدراك مآربه فهو الخاسر ، إن نبينا صلى الله عليه وسلم استقبل هذا التوجيه الإلهي وعمل به وهو : ﴿ قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ﴾ ومن أجل ذلك أخبرنا صلى الله عليه وسلم : أن أول ثلاثة تُسعَّر بهم النار – ونعوذ بالله من الخذلان – قاريء ومجاهد ومتصدق ، لأنهم بعللهم الخفية يعكرون رونق الدين ويضللون سيرته ، ودورانهم حول أنفسهم يزين لهم ظنون السوء بالآخرين ، والطعن في أحوالهم وأعمالهم ، كما يخفون وراء كلمة الإسلام صلفاً يثير الدهشة ، يرى القشة عند غيره ويذهل عن الخشبة في عينه ، ومن تدبر القرآن والسنة النبوية ، يرى أن الإسلام يبني الشخصية الإنسانية على سلامة الفطرة وأصالة الفكر ، فمن فسدت فطرته هبطت عبادته ، فما تساوي عند الله شيئا: ﴿ وما يذَّكر إلا أولوا الألباب ﴾ . إننا في وقت أحوج ما نكون إلى الحكمة القرآنية والسيرة النبوية في التهذيب ، كما أننا أحوج ما نكون إلى جهاد النفس والهجرة إلى الله في علم الشهوات الجلية والخفية ، فمن عمى عن هدي الله واستيقظ من نومه ليتحرك حول نفسه وأهوائه وليس للآخرة في وعيه حساب فهو هالك قال تعالى ) إن الذين لا يرجون لقائنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها  والذين هم عن آياتنا غافلون ، أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون ( يونس 7. إن سرور الدنيا أحزان ، وإقبالها إدبار ، وآخر حياتها الموت ، وكم من مستقبلٍ يوماً لا يستكمله ، ومنتظرٍ غداً لا يبلغه ، ذم رجلٌ الدنيا عند علي بن أبي طالب فقال له : " الدنيا دار صدق لمن صدَقَها ودار نجاة لمن فهم عنها " أما الدنيا التي ذمها الإسلام فهي دنيا الغفلة والبلادة والذهول عن الواجبات ، والجري وراء الشهوات ، الدنيا التي تشغل عن الله وتلهي عن الآخرة ، الدنيا التي شاء الله أن تكون ملكاً لنا  فجاء صغار الهمم وأبو إلا أن يكونوا ملكاً لها . وخطب علي فقال : " ألا وهذه الدنيا التي أصبحتم تتمنونها وترغبون فيها ، وأصبحت تغضبكم وترضيكم ، ليست بداركم ولا منـزلكم الذي خلقتم له ، ولا الذي دُعيتم إليه ، ألا وإنها ليست بباقية لكم ولا تبقون عليها ، وهي وإن غرتكم منها فقد حذَرَتْكُم شرها ، فدعوا غرورها لتحذيرها ، وإطماعها لتخويفها ، وسابقوا فيها إلى الدار التي دٌعيتم إليها ، وانصرفوا بقلوبكم عنها ، ألا وإنه لا ينفعُكم بعد تضييع دينكم شيءٌ حافظتم عليه من أمر دنياكم ، أخذ الله بقلوبنا وقلوبكم إلى الحق ، وألهمنا وإياكم الصبر " .                    

 

 

 

 

 

 

من الرويبضة

 

أننا نعيش في زمان كثرت فيه الفتن والبلايا، وعظمت فيه المحن والرزايا، ونطق الرويبضة  وقيل للحق باطل  وللباطل حقاً  وهذا ما أخبر به صلى الله عليه وسلم  مما سيقع  في آخر الزمان ؛ كما في الحديث الذي حدث به أنس بن مالك وأبي هريرة-رضي الله عنهما- حيث قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (سيأتي على الناس سنوات خداعات  يُصدَّقُ فيها الكاذبُ، ويُكذَّبُ فيها الصادقُ ، ويُؤتمن فيها الخائن ويُخوَّن فيها الأمين، وينطق الرُّويبضة)، قيل: وما الرَّويبضة ؟ قال:(الرجل التافه يتكلم في أمر العامة) . قال ابن الأثير- رحمه الله-: الرويبضة تصغير الرابضة ، وهو العاجز الذي ربض عن معالي الأمور، وقعد عن طلبها ،  والتافه : هو الخسيس الحقير . الرويبضة : من انحرف وراء فكر لا يجيز لغيره أن يناقشه فيه  السفيه يتكلم في أمر العامة ، سفيه لا دين ولا عقل ولا حكمة عنده ، إن اطلاق هذا الوصف على من آمن بأن اختلاف وجهات النظر مأنوس في تراثنا مقبولٌ في مسالكنا مأجورٌ عند الله سبحانه خطأً كان أم صوابا ، يعتبر غيبة ونميمة تنم عن حقد دفين يخرج من الإنصاف ، ولا مساغ لجعله حجر عثرة في طريق الدعوة ، ولم يرض لنفسه أن يكون من الأدعياء على الدعاة والمتعالم على العلماء ، والمتذاك على الأذكياء ، فما الذي أؤتمنا عليه وخناه وما الذي وعدنا به وأخلفناه  إنه طعن  في المسلمين باسم الإسلام ، يسمون من يقوم بتبيان الأحكام الشرعية بأدلتها التفصيلية بالرويبضة التافه ، ولكنها كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً. ! نعقوا بها يتيهون ويهيمون ، وليتهم عرفوا مدلولها الشرعي فهي حجة عليهم ، ومصيبتهم أنهم لا يُحسنون إلا ترديد الببغاوات . إن هؤلاء الرويبضات ديدنهم الكذب، وشعارهم التدليس، لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة، ، إذا رأوا عالماً أو طالب علم لا يوافق أهوائهم ولَغوا في عرضه ، فتارة يتغامزون، ويهمزون ويلمزون  وهم غافلون عن قول الله لاهون :﴿ وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ ﴾ وقوله :﴿ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُون ﴾ سورة المطففين 29 ، إنه زمن القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر ، زمن تصديق الكاذب وتكذيب الصادق وائتمان الخائن وتخوين الأمين ، وكأن الدين من قلوب الناس قد انعدم ، والإيمان قد زال منها وانثلم ولقد أحسن القائل :

 

وكم فصيحٍ  أمات الجهلُ  حُجَّتَهُ   وكم صفيقٍ لهُ الأسـماعُ  في رَغَدِ

 

دار الزمان على الإنسان وانقلبَتْ  كلُّ الموازين واختلَّـتْ بمُســتندِ

 

أمَّا الذيـن كتـاب الله منهجهمْ   فهُمْ منـابرُ إشــعاعٍ بلا مَـدَدِ

 

ما ضرَّهم أبداً إسفاف من سفهوا  أو ضرَّهم أبداً  عقلٌ  بدون يــدِ

 

يقول ابن تيمية رحمه الله : إنما يفسد الدنيا ثلاثة أنصاف نصف فقيه, نصف طبيب, نصف نحوي . فنصف الفقيه يفسد الدين, ونصف الطبيب يفسد الأبدان, ونصف النحوي يفسد اللسان . ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن من أشراط الساعة أن يلتمس العلم عند الأصاغر )  رواه الطبراني في المعجم الكبير‌ وصححه الألباني (2207) في صحيح الجامع ‌. ولكن للأسف لم يسلم هذا المنبر  من العديد من السلبيات ، حتى لاح لبعض العقلاء اليأس من صلاح أحوالها ، فعمد إلى أوراقه فمزقها ، وإلى أقلامه فكسرها ، ولسان حاله يقول ما قاله شعبة ـ رحمة الله ـ : "عقولنا قليلة ، فإذا جلسنا مع من هو أقل عقلا منا ذهب ذلك القليل ، وإني لأرى الرجل يجلس مع من هو أقل عقلا منه فأمقته" .

 

ولا يظن أحد بأني أعني بكلامي هذا أناس بأعيانهم ، ولكني أتكلم في هذا المسألة بشكل عام كنصيحة عامة أُذكّر بها نفسي أولا ، وأعتذر مقدما من شدة لهجتي أثناء بذلها ، فقد قيل : إننا لا نكتب بالمداد ، ولكن بدم القلب ، فعذرا إن ظهرت آثار الجراح بين السطور . كالتشنجات العصبية ، والمنهجية الاستبدادية ، والسلاطة اللسانية ، والاضطرابات العلمية ، والسفسطائيات الفلسفية ، الإرهابيات الفكرية ، وغير ذلك من الآفات والأمراض النفسية .

 

قيام الدين على أمرين

 

إن الشريعة الإسلامية والشرائع التي سبقت تقوم على أمرين هما كما قال تعالى في سورة الشورى : ﴿ أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا ﴾ بدعم المسلمين لقواعده والقيام بتكاليفه وأن لا ينحرفوا عنه ويقفوا تحت رايته صفاً واحدا  ، ثم نهى عن التفرق لأن الأعداء متربصون به وبه ضائقون ومنه نافرون وله كائدون ، كلمتان ما أيسر النطق بهما وما أصعب الحفاظ عليهما ، نحن جميعاً نؤمن بجملة العقائد المطلوبة منا ، ومع ذلك نهمل الكثير من المتفق عليه  ونهتم بالقليل من المختلف فيه للتفاوت في الفهم او التعبير في قضية من قضايا الاختلاف ، مما يجعل الأمة أحزاباً متباغضة وأقساماً متنافرة وهذا يذكرني بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما ضل قومٌ بعد هدي كانوا عليه إلا أوتوا الجدل ) وهنا سؤال : هل المولعون بقضايا الاختلاف مخلصون للقضايا المتفق عليها ؟ ولماذا ننسى القواعد التي تجمعنا ونسلك الدروب التي تفرقنا ؟ إننا أمة هي خمس العالم من حيث التعداد ، تبحث عنها في حقول المعرفة  وساحات الإنتاج فلا تجدها ، بماذا شغلت نفسها ؟ بقضايا جزئية محقورة ، وانقسامات ظاهرها الدين وباطنها الهوى ، إن أهل القرآن خانوه واتخذوه مهجورا ، في الوقت الذي انسوا فيه بباطل من القول وسخف من الجدل ، وغرقوا في غيبوبة من المباحث ما عرفها السلف الأول ، ولو عرفها ما أفلح أبدا ، ولا افتتح بلدا ولا أنشا حضارة .

 

ونحن نتنازع هل حديث التوسل صحيح أم ضعيف ؟ وهل كرامات الأولياء حق أم باطل ، في الوقت الذي كشف الغرب عن كنوز المعادن في بلادنا ، وقاموا بتصنيع النفط ونقله إلى بلادهم وأعطونا ثمنه ، فماذا صنعنا بهذا الثمن ؟ لقد ذهب اقله في خيرنا وأكثره في ضرنا ، وما الذي أوصلنا إلى هذا الحال ؟ فأصبحنا نأخذ ولا نعطي ، وأصبح البعد بيننا وبين كتاب ربنا بعد المشرقين ، وما سرّ المحنة التي نعيش ؟ إنه لن يصلح لنا مستقبل إلا إذا عرفنا أسباب تخلفنا ، عندما نسمع عن الأسلحة الحديثة نشعر بهول ما بلغه القوم من القوة ، صواريخ أرض أرض وأرض جو وجو أرض وجو جو ، وهذه طائرات قاذفة وتلك مقاتلة وهذه وهذه ، ما أروع ما أعد هؤلاء لنصرة معتقداتهم وقيمهم ؟ فهل أعد المسلمون شيئاً من هذا ؟ كلا اللهم إلا ما نشتريه منهم فيبيعون لنا ما يستغنون عنه ، فهل هناك فشل يعدل هذ الفشل  وبماذا شُغلنا عن مثل هذا الإنتاج ؟ أتدرون بماذا ؟ بالجدل فيما لا داعي في الخوض فيه في أمور نعلم علم اليقين بأن وجهات النظر كلها مأجورة من الله ، وبالانصراف عن شئون الدنيا انصراف بلادة وغباء ، وليس تجرداً لتقوى ولا ترفعاً عن شهوة ، ينظرون إلى التقدم الحضاري بعيونٍ ناعسة ، وينظر العالم إليهم نظرة استهانة يتحرك كل ذي دين لنصرة دينه ، وبطالب المسلمون وحدهم بنسيان دينهم ، وعدم التجمع على شعائره أو شرائعه   اللهم إلا في بعض الجوانب ، فقد يستغرق شرح الصلاة شهرا   وقد يطول الحديث في الوضوء والغسل ، لماذا يغوص غيرنا في الماء   ويسبح في الفضاء ونحن ننظر مشدوهين ، أليس غريباً أن تكلف امة ببناء إيمانها عل دراسة الكون ، ومع ذلك تحيا محجوبة عن الكون ونواميسه وأسراره ، أهذه هي استجابتها لقول الله ) ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك (  الغرب سيّر الأقمار الصناعية وأرسل المركبات الفضائية ليتزود بالمعرفة ، ونحن نتودد له مشترين من أسواقه أو مستعيرين من أسلحته ما نحتاج إلي تعلمه منه قبل أن نحسن استخدامه ، إنها من عجائب الدنيا أمة لديها كتاب الله ولا تحسن صحبته ، ولا تتعرّف منه على حقوق الله وحقوق الناس ، يجود عليها هذا بآلة وذاك برغيف ، أو يمتن هذا عليها بدواء تعالج به عللها ، أو سلاح ترد العادين عليها ، أما إعدادها لدينها ودنياها فصفر . إن من واجبنا أن نعرف أن القضية ليست في انتصار مذهب على مذهب ، إنما هي في حماية الإسلام من عداوات لم يخمد الزمان نارها ، عداوات أهل الكتاب من جانب ، والملاحدة والوثنيين من جانب آخر ، وقد امتلكوا من وسائل الإعلام ومن حظوظ المعرفة المادية ما جرأهم علينا، وأعانهم على ذلك أخطاؤنا   وما أكثرها  وتهاوننا وما سواه .       

 

 

 

 

الثقة بالله

الثقة بالله هي خلاصة التوكل على الله  وقمة التفويض إليه سبحانه  

قال تعالى ﴿ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾ غافر44

وهي الاطمئنان القلبي الذي لا يخالطه شك   والاستسلام لله عز وجل ، ومن فوض أمره فقد نجا ، ومن عصى فقد طغى .

ومن الأمثلة التي تدل على قوة الثقة بالله عز وجل ، قصة ذلك الشيخ الذي كلما جرى له أمر من الأمور ، أو مصيبة من المصائب ، قال :" عسى بالأمر خيره"    فإذا ما سرّه أمر قالها ، وإذا ما أحزنه أمر قالها ، وقد أغضب هذا الأمر من حوله وكان له قطيع من الإبل ، وليس لديه من يرعاها ، فقالوا : تعالوا نختبر الشيخ  لنعرف صدق كلامه ، وهل يردد جملته المعهودة عندما تؤخذ إبله ، فأخفوا إبله ورجعوا بالإبل الأخرى إلى مضاربهم  وأخبروه بأن إبله قد ضاعت ، وأنهم بحثوا عنها ولم يجدوها ، فما كان من الشيخ إلا أن قال قولته :" عسى بالأمر خيره "  ولم يتذمر أو ينـزعج ، وفي تلك الليلة أغار الغزاة عليهم ، وأخذوا جميع إبلهم   وعندها قالوا للشيخ : أبشر فإبلك سالمة  وهي بالمكان الفلاني ، وقد أردنا أن نختبر ثقتك بربك ، فقال لهم : " عسى بالأمر خيره " اذهبوا واحضروها ، وقد رحل عليها كل القوم الذين فقدوا كل إبلهم في تلك الغارة .

وقال بعض السلف : " صفة الأولياء ثلاثة : الثقة بالله في كل شيء ، والفقر إليه في كل شيء ، والرجوع إليه من كل شيء   وها هو النبي  صلى الله عليه وسلم يلقن الأُمة درساً في الثقة بالله فيقول لابن عباس (احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله تعالى لك ، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء ، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف) رواه الترمذي وقال: حسن صحيح. 

 

 

 

النهي عن التجسس وسـوء الـظن

من المبادئ الأخلاقية المهمة في التعامل إحسان الظن بالآخرين قال تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ﴾ . كثير من الظن هنا تعني الظنون السيئة، التي يجب اجتنابها ، وكأن مضمون الآية الكريمة يفصح عن أن الظنون التي تساور الإنسان تجاه الآخرين ، إما أن تكون حسنة وإما سيئة ، ولكن أكثرها سيئة لذا ينبغي اجتنابها ، لأنها داخلة في دائرة الإثم ، أما الظنون الحسنة فلا بأس بها    لأنها توطد العلاقة بالآخرين.

فالانطباعات التي نحملها عن بعضنا البعض ينبغي أن تكون منسجمة وتوجيهات قيم الإسلام  التي تدعونا إلى اجتناب الظن . والآية الكريمة تحذرنا من تشكيل قناعاتنا ومواقفنا من الآخرين ، من خلال سوء الظن  وفي الجانب المقابل نلتمس المعاذير لإخواننا  ونقول ما قال بعض السلف الصالح : " ألتمس لأخي من عذر إلى سبعين ، ثم أقول : لعل له عذرًا آخر لا أعرفه! " وإن من أعظم شعب الإيمان حسن الظن بالله ، وحسن الظن بالناس ، وفي المقابل يتنافى مع الإيمان ، سوء الظن بالله ، وسوء الظن بعباد الله .

 لأن سوء الظن من خصال الشر الذي ورد النهي عنه في القرآن والسنة ، وأن لا نظن بعباد الله إلا خيرا ، وأن نحمل ما يصدر عنهم على أحسن الوجوه قال صلى الله عليه وسلم : ( إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث..) . وما أصدق ما قيل :

تأنّ ولا تعجل بلومك صاحبًا      لعل له عـذرًا وأنت تلـوم!

وينبغي أن نقدم دائمًا حسن الظن ولا نتبع ظن السوء ، فإنه لا يغني من الحق شيئا.  ويشتد الخطر حينما يجتمع إتباع الظن  وإتباع الهوى ،كالذي ذم الله به المشركين في قوله: ﴿ إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ﴾ النجم 28 . وقد دلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرشدنا إلى خير ما يعلمه لنا ، وحذرنا وأنذرنا من شر ما يعلمه لنا ؛ جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله ) إذاً فحسن الظن بالله  يجب أن يكون صفة المؤمن طيلة حياته ، ويتأكد أكثر عند مماته وهو محب للقاء الله ؛ وفي الحديث الصحيح: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه) . وهو يرتبط ارتباطاً كبيراً بالتوكل على الله والثقة به ؛ حيث إنك لا تتوكل إلا على من تحسن الظن به ؛ ولذا قال ابن القيم :" بأن حسن الظن بالله يدعو إلى التوكل عليه ؛ إذ لا يتصور التوكل على من ساء ظنك به ولا التوكل على من لا ترجوه " وكذا الاستعانة بالله والاعتصام به واللجوء إليه ،فهذه كلها تستلزم أن يحسن العبد الظن بربه ، وحَسُن الظن بالله يجب أن يقترن بالخوف منه ، حتى لا يفضي إلى الغرور وترك العمل ، ومن الناس من اتكل على حسن ظنه بربه  واعتمد عليه مع إقامته على المعاصي ، متناسياً ما توعد الله به ، من وقع في المعاصي  وغفل عن الخوف من الله حتى وقع في الغرور ، وعلى المؤمن أن يتحرى معرفة المنهج الصحيح في حسن الظن بالله ، حتى لا يقع فيما نهى الله عنه من الغرور أو سوء الظن بالله . والمؤمن حين يحسن الظن بربه ، فإن قلبه لا يزال مطمئناً ونفسه آمنه تغمرها سعادة الرضى بقضاء الله وقدره وخضوعه لربه ، فالقلب المؤمن حَسَنُ الظن بربه يَتوقّع منه الخير في السراء والضراء ، ويؤمن بأن الله يريد به الخير في الحالين ، ومن أثرِ حسن الظن بالله على المؤمن أنه عندما يسمع ما يخبر به الله عن نفسه من أنه عفو غفور وتواب رحيم ، ويسمع قول نبيه صلى الله عليه وسلم : ( إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل ، حتى تطلع الشمس من مغربها)  فإنه عندما يسمع ذلك يطمع بعفو الله ،  فيطرق بابه راجياً مغفرته ، بأن يتوب عن المعاصي .

ولما كان السلف هم أقرب الناس إلى منهج الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم  أدركوا أهمية حسن الظن بالله ، ومدى أثره على المؤمن ؛ فكانوا أحرص الناس عليه ، وأكثرهم دعوة إليه وحثاً على التمسك به ، فهذا سعيد بن جبير  كان يدعو: " اللهم إني أسألك صدق التوكل عليك وحسن الظن بك " . وقال عبد الله بن مسعود : " والذي لا إله غيره ما أُعطي عبد مؤمن شيئاً خير من حسن الظن بالله ، والذي لا إله غيره لا يحسن عبد بالله  الظن إلا أعطاه اللـه ظنه " ، وحيث جاء الأمر بحسن الظن   فإن بعض الناس قد أساء في هذا الأمر وغلا فيه ، حتى سقط في الغرور ، جاهلاً بكيفية إحسان الظن بالله ، ناسياً  عقاب الله الأليم   وغافلاً عن شدة عذابه ، ومحاسبته لعباده عما اقترفت أيديهم . ذكر الإمام ابن القيم شيئاً من أحوال المغترّين وجهلهم بالله فقال: " وكثير من الناس يظن أنه لو فعل ما فعل ، ثم قال : أستغفر الله ، زال الذنب وراح هذا بهذا " . وسمعت من يقول أنا أفعل ما أفعل ثم أقول : سبحان الله وبحمده مائة مرة ، فإن الله يغفر ذلك كله  كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قال في يوم : سبحان الله وبحمده مائة مرة حُطّتْ خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر) . مما يدل على أن لي رباً يغفر الذنب ويأخذ به.   هذا الصنف من الناس قد تعلق بنصوص من الرجاء واتكل عليها ، وإذا عوتب على الخطايا والانهماك فيها ، سرد لك ما يحفظه من نصوص الرجاء وسعة رحمة الله ومغفرته   كقول القائل :  

وكثّر ما استطعت من الخطايا     إذا كـان القدوم على كريم

متجاهلاً أن على المؤمن مع إحسانه الظن بربه ، أن لا يغفل عن محاسبة الله لعباده بعدله وحكمته ، ومجازاته لهم بما كانوا يعملون  وأن يجتهد في القيام بما عليه موقنًا بأن الله يقبله ويغفر له ; لأنه وعد بذلك وهو لا يخلف الميعاد ، فإن ظن أن الله لا يقبله ، أو أن التوبة لا تنفعه ، فهذا هو اليأس من رحمة الله وهو من كبائر الذنوب .  

إن حسن الظن بالله يؤدي إلى سلامة الصدر وتدعيم روابط الألفة والمحبة بين الناس ، فلا تحمل الصدور غلاًّ ولا حقدًا ، امتثالاً لقوله  صلى الله عليه وسلم :( إياكم والظن  فإن الظن أكذب الحديث ، ولا تحسسوا ، ولا تجسسوا ، ولا تنافسوا ، ولا تحاسدوا ، ولا تباغضوا ، ولا تدابروا ، وكونوا عباد الله إخوانًا). وإذا كان أبناء المجتمع بهذه الصورة المشرقة فإن أعداءهم لا يطمعون فيهم أبدًا ، ولن يستطيعوا أن يتبعوا معهم سياسة فرِّق تَسُد ؛ لأن القلوب متآلفة والنفوس صافية . فلو أن كل واحد منا عند صدور فعل أو قول من أخيه وضع نفسه مكانه لحمله ذلك على إحسان الظن به وقد وجه الله عباده لهذا المعنى حين قـال سبحانه :﴿ لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً ﴾ النور 12. وأشعر الله عباده المؤمنين أنهم كيان واحد ، حتى إن الواحد حين يلقى أخاه ويسلم عليه فكأنما يسلم على نفسه: ﴿ فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ ﴾النور 61 . وكان السلف يحملون الكلام على أحسن المحامل . قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لا تظن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن شرًّا ، وأنت تجد لها في الخير محملاً ". وانظر إلى الإمام الشافعي رحمه الله حين مرض وأتاه بعض إخوانه يعوده   فقال للشافعي : " قوى الله ضعفك ، قال الشافعي: لو قوى ضعفي لقتلني ، قال: والله ما أردت إلا الخير . فقال الإمام : أعلم أنك لو سببتني ما أردت إلا الخير"   هكذا تكون الأخوة الحقيقية  بإحسان الظن حتى فيما يظهر أنه لا يحتمل وجها من أوجه الخير   وكان الصالحون إذا صدر من أحدهم ما يسبب ضيقاً أو حزنا  يحسنون به الظن  ويلتمسون له المعاذير حتى قالوا : " التمس لأخيك سبعين عذراً "، وقال ابن سيرين رحمه الله :"إذا بلغك عن أخيك شيء فالتمس له عذرًا ، فإن لم تجد فقل: لعل له عذرًا لا أعرفه ". إنك حين تجتهد في التماس الأعذار ستريح نفسك من عناء الظن السيئ ، وستتجنب الإكثار من اللوم لإخوانك :

تأن ولا تعجل بلومك صاحبًا    لعـل له عـذرًا وأنت تلوم

 ومن آفات سوء الظن أنه يحمل صاحبه على اتهام الآخرين ، مع إحسان الظن بنفسه  وهو نوع من تزكية النفس التي نهى الله عنها في كتابه :﴿ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ﴾ النجم 32 . ولذلك نجد أن التوجيهات الإسلامية تحثنا على حسن الظن واحترام  الآخر ، شخصاً وفكراً ووجداناً ، حيث جاء في التوجيه الإسلامي (ضع أمر أخيك على أحسنه ، حتى يجيء ما يغلبك منه ولا تظنن بكلمة خرجت من فم أخيك المسلم سوءا وأنت تجد لها في الخير محملا) . ويقول الغزالي : " ليس لك أن تعتقد في غيرك سوءًا إلا إذا انكشف لك بعيان لا يقبل التأويل". وإذا انحدر الظان إلى مزلق آخر وهو إشاعة ظنه وقع في الحرام " وإن تكلم بذلك الظن وأبداه أثم " كما نقل الشوكاني   وحكى القرطبي عن أكثر العلماء : " أن الظن القبيح بمن ظاهره الخير لا يجوز ". وقال الغزالي: " اعلم أن سوء الظن حرام مثل سوء القول ، فلا يستباح ظن السوء إلا بما يستباح به المال ، وهو بعين مشاهدة أو بينة عادلة ". ويقول ابن قدامة رحمه الله : " فليس لك أن تظن بالمسلم شرًا إلا إذا انكشف أمر لا يحتمل التأويل ، فإن أخبرك بذلك عدل فمال قلبك إلى تصديقه ، كنت معذورًا " وأشار إلى قيد مهم فقال :" بل ينبغي أن تبحث هل بينهما عداوة وحسد ؟." ويروى أن سليمان بن عبد الملك قال لرجل: " بلغني أنك وقعت فيَّ وقلت كذا وكذا. فقال الرجل: ما فعلت. فقال سليمان: إن الذي أخبرني صادق . فقال الرجل: لا يكون النمام صادقًا . فقال سليمان: صدقت اذهب بسلام". وجاء في النصوص النهي عن الاستماع إلى النمام قال صلى الله عليه وسلم : ( لا يبلغني أحدٌ عن أحد من أصحابي شيئًا   فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر ) أحمد في مسنده . فلا تجعلوا بطانتكم من النمّامين   فإن من وشى إليكم اليوم يشي بكم غدًا  ومثله ليس أهلاً للثقة – لفسقه بالنميمة – وفي ذلك يقول ابن قدامة المقدسي: " لا تصدّق الناقل لأن النمام فاسق ، والفاسق مردود الشهادة . فإن ركنتم إلى النمامين وأصبتم إخوانكم بجهالة فلا تنسوا أن تصبحوا على ما فعلتم نادمين ".                                                                                                                                               

والفطن من يفرق بين خبرٍ دافعه التقوى  وخبر غرضه الفضيحة أو التشهير . والذي لم يتخلق بخلق (التثبت) تجده مبتلى بالحكم على المقاصد والنوايا والقلوب   وذلك مخالف لأصول التثبت. يقول الشافعي – ووافقه البخاري -: " الحكم بين الناس يقع على ما يُسمع من الخصمين ، بما لفظوا به ، وإن كان يمكن أن يكون في قلوبهم غير ذلك ".

ومن أخطر المزالق لعدم التثبت ، أن يحسن الأمير الظن برجل من الناس ليس أهلاً للثقة  ثم يكون أسيرًا لأخباره ، أُذنًا لأقواله ، يصغي إليه ويصدقه . يقول ابن حجر: " المصيبة إنما تدخل على الحاكم المأمون من قبوله قول من لا يوثق به ، إذا كان هو حسن الظن به ، فيجب عليه أن يتثبت في مثل ذلك " .

 ومن أهم أصول التثبت فيما يُنقل من أخبار: السماع من الطرفين ، فقد أخرج أبو داود والنسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل عليًّا رضي الله عنه إلى اليمن قاضيًا فأوصاه : ( فإذا جلس بين يديك الخصمان ، فلا تقضين حتى تسمع من الآخر ، كما سمعت من الأول ، فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء ) . يقول علي رضي الله عنه: "ما شككت في قضاء بعد" ، فكان الصواب حليفة بالتثبت ، وكم زلّت أقدام ، ووقعت فتن بسبب عدم التثبت والظن يقول الشوكاني:" الخطأ ممن لم يتبين الأمر، ولم يتثبت فيه هو الغالب، وهو جهالة ". وكم تجد من الناس من يسارع للشهادة على أمر لم يفقهه   في حق امرئ لا يعرفه!! ولذلك أفتى الحسن البصري تحريًا للتثبت: " لا تشهد على وصية حتى تُقرأ عليك ، ولا تشهد على من لا تعرف "    وليس من خلق المتثبت التسرع والعجلة وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أرسل خالدًا رضي الله عنه للتحقق من عداوة بني المصطلق أمره أن يتثبت ولا يعجل . ولما أرسله إلى بني جذيمة للتحقق من إسلامهم فتعجل في القتل. قال  صلى الله عليه وسلم : ( اللهم إني أبرا إليك مما صنع خالد) رواه البخاري . إن كل مسلم ظاهره الصلاح صادق ولا نقول له إلا خيرًا ، وإلا فإن الاتهام بغير تثبت سبب في كثير من المظالم ، ولذلك كتب عمر بن عبد العزيز إلى أمير البصرة في قتيل وُجد عند بيت ولم يُعرف قاتله : "إن وجد أصحابه بينة وإلا فلا تظلم الناس  فإن هذا لا يقضى فيه إلى يوم القيامة". بل جاء في الحديث: ( لو يعطى الناس بدعواهم ، لادعى الناس دماء رجال وأموالهم ) .

وإن الواحد من الصحابة على عدالته كان يُطالب - في الخصومات-بإحضار شهود أو الإدلاء ببينات ، أو القسم ، ولم تكن عدالته لتشفع له في استقطاع شيء من حقوق الناس أو مس أعراضهم . وقد اشترط الشرع البينة دفعًا للاتهامات الرخيصة ، لئلا يبادر أحد إلى اتهام أحد إلا عن يقين ؛ ولذلك حين قُتل صحابي وجد بين بيوت اليهود في خيبر ، اتهم أصحابه اليهود في قتله  فطالبهم رسول صلى الله عليه وسلم بالبينة : قالوا : مالنا بينة . قال: فيحلفون . قال: لا نرضى بأيمان اليهود . فاضطر رسول الله  صلى الله عليه وسلم أن يدفع ديته مائة من الإبل، ولم يتهم اليهود بلا بينة .

ما أحوجنا اليوم إلى الأخذ بحسن الظن سواء على المستوى الفردي أو بين الجماعات لأننا نواجه مشكلة في العلاقة بين الجماعات ، كل جماعة تسيء تفسير تصرف الجماعة الأخرى   ولعل تصرفاً فردياً يصدر من أحد الأفراد يحسب على الجماعة بأكملها وهذا غير صحيح ، لأنه ينبغي على كل إنسان مؤمن عاقل ، أن يتجاوز ذلك وينظر إلى الآخرين نظرة إيجابية ، ولو تصور في خاطره تصوراً خاطئاً على شخص ما ، فعليه أن لا يبنيَ عليه موقفاً قد يضر أو يسيء به إلى إليه ، فذاك إثم وظلم نهى الشرع عنه ، ويرفضه العقل السليم 

 

 

 

 

 

 

 

  

فضل الاستغفار

روى أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ما من مسلم يذنب ذنباً ثم يتوضأ فيصلى ركعتين  ثم يستغفر الله لذلك الذنب إلا غفر له ، وقرأ هاتين الآيتين : } والذين إذا فعلوا فاحشةً أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصرّوا على ما فعلوا وهم يعلمون { آل عمران 135 وقوله : } ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيما { النساء 110 .

إن الله سبحانه وتعالى موجود للمغفرة والرحمة حيثما قصده مستغفرٌ منيب  وهو يستقبل المستغفرين فيغفر لهم ويرحمهم متى جاءوا تائبين .

إن الله يدرك ضعف الإنسان الذي تدفعه شهواته ورغباته إلى المخالفة عن أمر الله فلا يقسو عليه ولا يطرده من رحمته حين يظلم نفسه ، وحين يرتكب الفاحشة   وحسبه أن يعرف أنه عبدٌ يخطئ ، وأن له رباً يغفر ، فكان الاستغفار ملاذ الخائفين من الله وعزاء المكروبين من تقصيرهم وسوء حالهم وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيقٍ مخرجا )  وقال : ( والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقومٍ يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم ) . والاستغفار الكامل يتضمن علمًا يورث خوفًا وندمًا على فعل الذنوب ، وتركًا لها ، وطمعًا في رحمة الله ومغفرته .فما دام الإنسان يذكر الله ولا ينساه ، ولا يُصِرُّ على الخطيئة وهو يعلم أنها خطيئة ، ويُقِرُّ بالعبودية لله ، فإن الله لا يُغْلِق في وجهه باب التوبة  ويطمعه في المغفرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما أصرَّ من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرَّة ) رواه الترمذي . أما إن كان مقترف الذنب مصِرّاً فإنه لا يكون ممن عناهم الرسول صلى الله عليه وسلم لأن الحديث يشير إلى المستغفر من ذنبه غير المصرِّ عليه   وهذا ما أشار إليه سبحانه وتعالى بقوله : } ولم يصِرّوا على ما فعلوا وهم يعلمون {  

 من ثمار الاستغفار

  إذا كنا نريد راحة البال. وانشراح الصدر وسكينة النفس وطمأنينة القلب  فعلينا بالاستغفار: ] اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً [ هود: 3.

وإذا كنا نريد قوة الجسم وصحة البدن والسلامة من الآفات والأمراض  والغيث المدرار والذرية الطيبة والولد الصالح والمال الحلال والرزق الواسع  فعلينا بالاستغفار قال تعالى : ] اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً [نوح :1012.وإذا كنا نريد دفع الكوارث والسلامة من الحوادث والأمن من الفتن والمحن  فعلينا بالاستغفار: ]وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال:33 .وإذا كنا تريد تكفير السيئات وزيادة الحسنات ورفع الدرجات فعلينا بالاستغفار :]وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ [البقرة 58.

الاستغفار هو الدواء والعلاج الناجح من الذنوب والخطايا ، لذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم به دائماً وأبداً بقوله: ( يا أيها الناس استغفروا الله وتوبوا إليه فإني استغفر الله وأتوب إليه في اليوم مائة مرة ) والله يرضى عن المستغفر الصادق لأنه يعترف بذنبه ويستقبل ربه فكأنه يقول: يارب أخطأت وأسأت وأذنبت وقصرت في حقك  وظلمت نفسي وغلبني شيطاني   وقهرني هواي وغرتني نفسي الأمارة بالسوء  وطمعاً في سعة حلمك وكريم عفوك  وعظيم جودك جئت تائباً نادماً مستغفراً ،فاصفح واعف عني  وسامحني  وأقل عثرتي  وزلتي   وأمح خطيئتي  فليس لي رب غيرك ، ولا إله سواكوفي الحديث الصحيح : ( من لــزم الاستغفار جــعل الله لـه من كل هم فـرجا  ومن كل ضيق مخرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب ) . فمن مزقه القلق  وأضناه الهم  وعذبه الحزن ، فعليه بالاستغفار فإنه يقشع سحب الهموم ويزيل غيوم الغموم، وهو البلسم الشافي، والدواء الكافي. قال بعض العارفين : ينبغي للعبد أن تكون أنفاسه كلها نفسين : نفسا يحمد فيها ربه  ونفسا يستغفر فيها من ذنبه . وروي عن الحسن أنه مرّ بشابٍ كان يجلس في المسجد وحده فقال له : ما بالك لا تجالسنا ؟ فقال : إني أصبح بين نعمة من الله تستوجب علي حمدا ، وبين ذنب مني يستوجب استغفارا ، فأنا مشغول بحمده واستغفاره عن مجالستك. فقال : أنت أفقه عندي من الحسن .

ومتى شهد العبد هذين الأمرين استقامت له العبودية ، وترقى في درجات المعرفة والإيمان ، وتصاغرت إليه نفسه ، وتواضع لربه ، وهذا هو كمال العبودية .

قال القرطبي : قال علماؤنا : الاستغفار المطلوب هو الذي يحل عقد الإصرار ويثبت معناه في الجنان لا التلفظ باللسان   فأما من قال بلسانه : استغفر الله ، وقلبه مُصِرٌّ على معصيته فاستغفاره ذلك يحتاج إلى استغفار ، وصغيرته لاحقةٌ بالكبائر . وروي عن الحسن البصري أنه قال : استغفارنا يحتاج إلى استغفار .

فمن يكثرون من الذنوب عليهم أن يستكثروا من الاستغفار ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( طوبى لمن وجد في صحيفته استغفاراً كثيرا ) رواه ابن ماجة . وقال سفيان الثوري لجعفر بن محمد بن علي بن الحسين : لا أقوم حتى تحدثني قال له جعفر : أنا أحدثك ، وما كثرة الحديث لك بخير ، يا سفيان إذا أنعم الله عليك بنعمة فأحببت بقائها ودوامها فأكثر من الحمد والشكر عليها لقوله تعالى : ] لئن شكرتم لأزيدنكم [ وإذا استبطأت الرزق فأكثر من الاستغفار ، قال تعالى : ] استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا [  يا سفيان إذا حَزَبَك أمرٌ من سلطان أو غيره فأكثر من : لا حول ولا قوة إلا بالله فإنها مفتاح الفرج  وكنـز من كنوز الجنة، ولا ينال ثمرة الاستغفار إلا من استوفى شروطه ، وهي الإقلاع عن الذنب  وعقد العزم على عدم العودة إليه ، والندم على ما فرط في جنب الله تعالى ، أما الذي يستغفر الله بلسانه وهو مقيم على معصية الله غير نادم على ما فات منه -فإنه كالمستهزئ بربه- بل إن استغفاره هذا يلزم منه الاستغفار  والاستغفار التام الموجب للمغفرة هو ما قارن عدم الإصرار كما مدح الله تعالى أهله ووعدهم بالمغفرة .قال أحد السلف: من لم يكن ثمرة استغفاره تصحيح توبته فهو كاذب في استغفاره .حالات الاستغفار

فهي حال التلبس بالعبادة أو الفراغ منها فيقبل العبد على الاستغفار، يدفع به عن نفسه تبعة التقصير ، وقد أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بالاستغفار في مواطن كثيرة: قال تعالى: ] فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ [ محمد:19. وفي آخر ما أنزل على رسوله : ] فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر:3. وفي الصحيح أنه ما صلى صلاة بعد ما نزلت عليه هذه السورة إلا قال فيها: ( سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي ) .

ويروى عن لقمان عليه السلام أنه قال لابنه: " يا بني، عوِّد لسانك: اللهم اغفر لي، فإن لله ساعات لا يرد فيها سائلاً " . وقالت عائشة رضي الله عنها: " طوبى لمن وجد في صحيفته استغفاراً كثيراً " .

وقيل: " ما جاور عبد في قبره من جار أحب من الاستغفار ". قال قتادة: " إن هذا القرآن يدلكم على دائكم ودوائكم   فأما داؤكم فالذنوب وأما دواؤكم فالاستغفار " . وقال الحسن: أكثروا من الاستغفار في بيوتكم ، وعلى موائدكم  وفي طرقاتكم وفي أسواقكم وفي مجالسكم  فإنكم لا تدرون متى تنـزل المغفرة . وشُرِع أن يُختم المجلس بالاستغفار، وإن كان مجلس خير وطاعة . - وهو كفارة لما يكون في المجلس. فعَنْ أَبِي بَرْزَةَ الأسلمي قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم  يَقُولُ بآخرة إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقُومَ مِنَ الْمَجْلِسِ:(سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ ) . فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ لَتَقُولُ قَوْلاً مَا كُنْتَ تَقُولُهُ فِيمَا مَضَى. قَالَ: ( كَفَّارَةٌ لِمَا يَكُونُ في الْمَجْلِسِ ) وشرع أن يختم العبد عمل يومه بالاستغفار فمما يقول عند النوم: كما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة (باسمك رب وضعت جنبي ، وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فاغفر لها...).

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

بين التمني والتوبة

 

إني أومن أن كل إنسان وهبه الله تعالى قدرا من الإيمان، مهما كانت ذنوبه ، فكل إنسان فيه شيء من فطرة الله تعالى التي فطر الناس عليها، والطريق لا بد فيه من بذل حتى نصل إليه ، فلا نكتفي بمجرد الأمنية ؛ فالأمنية وحدها غير كافية ؛ ولذا جاء في الأثر: ( ليس الإيمان بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل ) ولا يعني عدم العمل نفي الإيمان بالكلية، ولكنه ليس إيمانا صادقا، لقد كان القرآن الكريم دائم الربط بين الإيمان والعمل الصالح، لأنه دليل الصدق.

 

من الناس من ذبح نفسه بسكاكين المعاصي، وخناجر الآثام ، بل منهم من أودى بحياته بقذائف الرذائل، وقنابل الحرام ، وصواريخ الشرك والكفر، فأصبح كالأرض البور، لا يصلح فيها نبت ولا زرع  والإسلام لم يجعل الإنسان مقلدا في الخير والشر ، وقد حذر النبي  صلى الله عليه وسلم من ذلك حين قال: ( لا يكن أحدكم إمعة ، يقول: إن أحسن الناس أحسنت وإن أساؤوا أسأت، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساؤوا ألا تظلموا )  ويقول ابن مسعود، وهو من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يتبعن أحدكم دينه رجلا، إن آمن آمن ، وإن كفر كفر، فإنه لا أسوة في الشر".  والإنسان هو الذي يحدد لنفسه طبيعة حياته ، أن يكون صالحا ، أو يكون فاسدا، فهذه له هو، والله تعالى ترك له حرية الاختيار ) وهديناه النجدين( إن طبيعة الخطأ يجب أن يكون لها حدود، فإن زينت المعصية للإنسان، فليبتعد عن الكبائر، لأن الصغيرة تمحى بيسير الأعمال ) والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم (  وكون الإنسان دائما لا يقرب الكبائر فيكون في مأمن منها، بل الأصل أن يسعى المسلم إلى مرضاة ربه ، وأن يبتعد عما نهى عنه ، وفي الحديث: ( إن الله تعالى يغار، وغيرة الله أن يأتي العبد ما حرم الله ) . إن إتيان الفاحشة الكبرى أمر مذهل، وقد أنكرت هند بنت عتبة، وكانت على جاهليتها لم تسلم بعد، حين أتت تبايع الرسول على الإسلام، فاشترط الرسول صلى الله عليه وسلم على النساء عدم الزنى، فتعجبت المرأة العربية الجاهلية، وقالت: "أو تزني الحرة يا رسول الله؟!"، فكأن النفوس مفطورة على البعد عن الفاحشة، ولهذا فقد حذر القرآن منها أشد التحذير، وحرم الأسباب المفضية لها قبل أن يحرمها، فقال تعالى: ﴿ ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا ﴾ .

 

وقد نفى النبي صلى الله عليه وسلم وصف الإيمان عن الزاني حين قال: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ) فالإيمان يخلع حين ممارسة الفاحشة، وهذا يعني أن مرتكب الفاحشة وقع فريسة الهوى والشيطان، وزين له الشيطان فعله، وأوهمه أن ارتكاب الحرام طريق الغنى .  وقد قال تعالى: ﴿ ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ﴾ وقال أيضا: ﴿ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ فالواجب على الإنسان أن يأخذ قرارا حاسما بترك الفواحش من الآن ، وليس بعد ساعة   وأن يصدق الله تعالى ولقد صدق القائل :

 

تعصي الله وأنت تظهر حبه  هذا لعمري في القياس شنيع

 

لو كان حبك صادقا لأطعته  إن المحب لمن يحب مطيع

 

في كل يوم يبتديك بنعمة   منه وأنت لشكر ذاك مضيع

 

فالتمس في حب الله تعالى لك عونا على ترك معصيته، واللجوء إليه، فإنه سبحانه يحب التائبين إليه، العائدين إليه، مهما كانت ذنوبهم، وهو القائل : ﴿ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم ﴾ انظر إلى قوله : ) ﴿ إن الله يغفر الذنوب جميعا ﴾  فليس بينك وبين التوبة حائل مهما عظم فإن كان ذنبك عظيما ، فعفو الله أعظم . واسمع إلى ربك حين يبلغ عنه الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي:  ( يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو انك أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة ) .

 

إن الله تعالى يفتح لنا أبواب التوبة ، ورزقنا الخوف منه حين ذكره ، فلم لا نجعل هذا حاجزا لنا عن المعصية ساعتها ، ولم لا نستجب لنداء الحق حين نسمعه والله تعالى لن يجبرنا على ترك المعصية ، ولن يجبرنا على فعل الطاعة ؛ لأنه سبحانه سيحاسب الناس على أعمالهم ، كل بما عمل ، وكل امرئ يختار لنفسه ما يحب . وما لنا ومن لا يفهم دين الله حق الفهم ؛ فالذي يقنط الناس من رحمة الله جاهل بحقيقة التوبة ، وحب الله لعباده ، إن الله يفرح بتوبة التائبين، ويسعد بعودة العصاة الآثمين، وقد جاء في الأثر: ( إني لأجدني أستحي من عبدي يرفع إليّ يديه يقول يا رب يا رب فأردهما؛ فتقول الملائكة إلهنا إنه ليس أهلا لتغفر له فأقول ولكني أهل التقوى وأهل المغفرة أشهدكم أني قد غفرت لعبدي ) . وجاء في بعض الكتب: "أوحى الله لداود، يا داود لو يعلم المدبرون عني شوقي لعودتهم ورغبتي في توبتهم لذابــوا شوقا إليّ، يا داود هذه رغبتي في المدبرين عني فكيف محبتي في المقبلين عليّ ، وفي الأثر: إنه إذا رفع العبد يديه للسماء وهو عاص فيقول يا رب فتحجب الملائكة صوته فيكررها يا رب فتحجب الملائكة صوته فيكررها يا رب فتحجب الملائكة صوته فيكررها في الرابعة فيقول الله عز وجل إلى متى تحجبون صوت عبدي عنى؟ لبيك عبدي لبيك عبدي لبيك عبدي لبيك عبدي. وفي الحديث القدسي: ( ابن آدم خلقتك بيدي وربيتك بنعمتي وأنت تخالفني وتعصاني فإذا رجعت إلى تبت عليك فمن أين تجد إلها مثلي وأنا الغفور الرحيم ) .

 

وقال أحد الصالحين: "ولا تقطع الاعتذار ولو رددت، فإن فتح الباب للمقبولين فادخل دخول المتطفلين ومد إليه يدك، وقل له مسكين فتصدق عليه فإنما الصدقات للفقراء والمساكين". أما التفكير في الخلوة، فهو شيء محمود، خلوة عن العصاة المذنبين، والاختلاط بعباد الله الصالحين ، الذين يعينونك على طاعة الله تعالى وما أكثرهم لو نويت خيرا . 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

حب الله والتقرب إليه

قال تعالى : } قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم { آل عمران 32 . إن المحبة المحمودة التي أمر الله بها وخلق الخلق لأجلها هي محبته وحده لا شريك له ، المتضمنة لعبادته دون عبادة سواه ، لأن العبادة تتضمن غاية الحب بغاية الذل ، ولا يصلح ذلك إلا لله عز وجل قال تعالى : ) والذين آمنوا أشدُّ حباً لله ( البقرة 165 .  

 ومحبة المؤمنين لله ورسوله ، تكون بطاعتهما  وإتباع أمرهما ، وابتغاء مرضاتهما ، لأن حبهما بلا إتباع كذبٌ وافتراء ، ومحبة الله للمؤمنين تكون بثوابه وعفوه وإنعامه عليهم بالغفران وذلك قوله تعالى : ] ويغفر لكم ذنوبكم [  وإذا أحببت لله فإن ذلك يكون من محبة الله  فمن أحب الله وأحبه الله أحب ما يحبه الله وأبغض ما يبغضه الله  ووالى من يواليه الله وعادى من يعاديه الله ، وهذا ما يوجب محبة الله للعبد كما جاء في الحديث الصحيح عن الله تعالى : ( من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وما تقرّب إليّ عبدي بمثل أداء ما افترضته عليه     ولا يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أحبه   فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ، فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي ، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن ، يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه )  ومن يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه أن يعمل بما جاء به  ويقتدي بسنته ويطبق نهجه وتعاليمه ، وأن يفعل مثل ما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا يقع في إطار التكليف المقدور عليه . روي أن عمر بن الخطاب حينما قـال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعن ) . وقف عمر عند هذه النقطة فقال : أمعقول أن يكون الحب لك أكثر من النفس ؟ إنني أحبك أكثر من مالي ، أو من ولدي ، إنما من نفسي ؟ ففي النفس منها شيء فكررها النبي صلى الله عليه وسلم ثانياً وثالثاً   فعرف عمر أنها قد أصبحت تكليفا ، وعرف أنها لا بد أن تكون من الحب المقدور عليه   وهو حب العقل وليس حب العاطفة ، وهنا قال عمر الآن يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الآن يا عمر ؟ أي كمل إيمانك الآن. 

وحب الله ليس دعوى باللسان إلا أن يصاحبه الإتباع لرسول الله ، والسير على هداه  وتحقيق منهجه في الحياة ، أما من يدّعي هذا الحب ولا يفعل مثلما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهذا عدم صدقٍ في الحب ولقد صدق القائل :       

تعصي الإله وأنت تظهر حبه    هذا لعمري في الفعال بديع

لو كان حبك صادقاً لأطعته    إن المحب لمن يـحب مطيع

والطاعة تكون فيما يقرِّب العبد من الله بقلوب صادقة ، فتكون منه المعونة ويكون الرضا جاء في الحديث الذي يرويه رسول الله r عن ربه قال :  ( من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي   ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه  ومن تقَّرب إليّ شبراً تقربت إليه باعاً ، ومن تقرب إليّ باعاً تقربت إليه ذراعاً ) . فإذا أردنا أن يتقرب الله منا فلنتقرب إليه بتأدية ما افترض علينا من الفرائض ، لحديث البخاري أن رسول الله e قال فيما يرويه عن ربه : ( وما تقرّب إلىّ عبدي بشيءٍ أحبَّ إلىّ مما افترضت عليه ) . فليس من العقل والحكمة أن يتقرّب

 العبد إلى الله بما أباحه له أو نديه إلى فعله  بإهمال الواجب الذي فرضه عليه وألزمه به ، إذ لا تتحقق طاعة العبد لله إلا بتنفيذ الأوامر واجتناب النواهي التي تعد الفيصل الأساسي بين العبد المطيع والعبد العاصي ، وما شرعت النوافل بعد ذلك ، إلا تكميلاً لمعنى الطاعة ومبالغة في معنى التقرب من الله والتحبب إليه سبحانه ، ومن العجيب أن نرى أناساً يحرصون على كثير من النوافل في بعض العبادات ، في الوقت الذي يهملون فيه فروضاً أخرى ، مما يقدح في حقيقة عبوديتهم ، وصدق طاعتهم لربهم .  هناك أولويات في طريق التقرب إلى الله عز وجل ، والأولويات المطلقة هي لأداء الفروض الشرعية ، وتأتي النوافل والمندوبات في الدرجة الثانية ، وهي تابعة ومكملة ، لما ورد في الحديث أن رسول الله قال  فيما يرويه عن ربه : ( ولا يزال العبد يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ) رواه البخاري  .

 

 

شرع الله مقدّم على هوى النفس

إن المؤمن الحق خاضع لأوامر الله، منقاد لشرعه ، مقدم شرع الله على هوى نفسه ومشتهياتها ، ويكون هواه تبع لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم بقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به ) فلا ينقاد إلى الهوى ، بل يخالف الهوى وينقاد إلى الشرع ، ويتذكر قول الله سبحانه ذاماً من اتبع هواه: ﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ : ﴿ 23الجاثية . فالمؤمن هواه تبع لما دلَّ عليه الكتاب والسنّة ، يتلقى أوامر الله بالقبول فينفذها ، ونواهيه  فيجتنبها ويبتعد عنها ، أما الذين ثقلت عليهم أوامر الشرع، فلم ينقادوا لها، سواء كان ذلك في أصول الدين أم في فروعه ، فقد ذمهم الله تعالى في قوله :﴿  كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ ﴾ 13 الشورى . دعاهم إلى عبادة الله، وإخلاص الدين لله ، وأن يكون الله وحده المعبود دون سواه وأن العبادة بكل أنواعها حق لله لا حق لمخلوق كائناً من كان ، فلما دعاهم إلى ذلك كبر عليهم وشقّ عليهم وقالوا: ﴿ أجعل الآلهة إلهاً واحدا إن هذا لشيءٌ عجاب ﴾ 5 ص ،  كبر عليهم هذا الدين بأحكامه وأوامره ونواهيه ، وكبرت عليهم الدعوة إلى تحيكم الكتاب والسنة والاقتصار عليهما وتلقي الأحكام منهما   كبر عليهم وجوب تحكيم الكتاب والسنّة والتحاكم إليهما والرضا بأحكامهما ، وأنها هي الأحكام العادلة التي تعطى كل ذي حق حقه، وفيها ردع الظلم وتحقيق العدل وإرساء دعائم الأمن ، و إذا ما دعونا الى ذلك اعترض المعرضون واعترض المنافقون  وقالو ا: هذه أحكام لأمة مضت وأجيال سلفت ، ونحن في القرن الحادي والعشرين يجب أن تكون لنا نظم وقوانين تحاكي واقعنا وتتحسس مشكلاتنا ، وكل هذا من الضلال البعيد ، فهم كما وصف الله سابقيهم قال تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا ﴾ 61 سورة النساء .

هذا واقع من لا يقبلون أحكام الله ، ولا يرضون بها ويحاولون الحط من قدرها، ويحاولون انتقاصها بكثير من الشبه الضالة والآراء الباطلة نفاقاً وكفراً - والعياذ بالله - ولذا حكم الله على من لا يحكم شرعه بالكفر وبالظلم وبالفسق، لأن من لم يقبل شرع الله ولم يحكم شرع الله، فإن ذلك دليل على فقدان الإيمان من قلبه .

لقد كبر على ضعفاء الإيمان والبصائر إذا ذكرت لهم بعض الأوامر أو بعض النواهي، رأيت ذلك ثقيلاً عليهم وشاقاً : ﴿ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ ٌ﴾ 143 البقرة .  وإذا ما تعرض لبعض النواهي التي نهى عنها الشرع   قابلك بالتشكيك في نواهي الله ، وبعدم الإيمان والرضا بها ، فعندما تقول لهم الربا حرام ، حرَّمه الله في كتابه وحرَّمه نبيه صلى الله عليه وسلم وأجمع المسلمون على تحريمه ؛ ومن استحله بعد العلم بحقيقة تحريمه فقد ضل وخرج من الإسلام  ، فيجيبون بتكبر وعناد ،  كما قالت الجاهلية هذا بيع والله يقول : ﴿ وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾ 275 البقرة ، رداً على من قال: ﴿ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ﴾ 275 البقرة ، يقول هذا الجاهل ضعيف  الإيمان ، كيف تحرِّم الربا علينا ، أتمنع عجلة الاقتصاد ، أتحول بين الناس وبين الرقي الاقتصادي المادي؟ فإذا منعت الربا تعطَّلت المصالح وضعفت الموارد وأصبحنا بمعزل عن العالم ، ولسان حالهم الربا يجب أن يكون حلالاً طيباً ، وإن كان الشرع يقول بخبثه ، ولا يريدون أن يسمعوا صوتاً يقول : هذه معاملات محرمة ، ملعون آكل الربا ، ملعون موكل الربا  ملعون كاتب الربا ، ملعون شاهدا الربا ، فيكبر ذلك عليهم ويضيقون بذلك ذرعاً لقلة الإيمان ولضعف الإيمان في النفوس ، كما كبر على رجال شركات التأمين التجارية المبنية على الفسق والغبن والغرم التي لا تحقق للشخص هدفاً  ولكنها تأخذ أموال الناس بالباطل ، ما بين غانم وغارم ، لا تتحقق فيها المصالح  وإنما فيها المفاسد والمغارم ، فيقول: تلك معاملة طيبة وتلك معاملة نافعة وإلى غير ذلك مما تسمعه من المبررات لهذا العقد الخبيث الفاسد ، وهكذا يتصور ضعفاء الإيمان، ويكبر عليهم إذا حذَّرتهم من بعض المحرمات ، لأنه لا يتفق مع أفكارهم المنحرفة ، وآرائهم الضالة ، وعندما تبيِّن موقف الإسلام من محاربة الرذائل وسقوط الأخلاق ، يعترضون بقولهم لقد أغلقتم على الناس حرياتهم ، سلبتموهم حرياتهم ، قضيتم على شخصياتهم، تدخلتم في شؤونهم الخاصة قلتم وقلتم، نعم نحن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، ونبيِّن للأمة المسلمة أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خلق وصفت به هذه الأمة المحمدية التي هي خير أمة أخرجت للناس : ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ ﴾ 110 آل عمران .

أما من يقول إذا أمرت بهذا ونهيت عن هذا ، تكون قد تدخلت في الحقوق الشخصية لكل فرد ، وعطّلت حريته ، فهذا لا يقول به ديننا ، الذي يدعونا لأن   نكون أمة واحدة كلمتها واحدة ، ورأيها وفكرها متحد ، واتجاهها سليم  وعقيدتها عقيدة التوحيد ، وأخلاقها مصانة من كل من يريدها بالفساد والسوء  وإذا ما قلت هذا دين الله ، قالوا : أنت تريد إرجاع العالم إلى قرون خالية وقرون ماضية ، وتدعو إلى أمور انتهى زمانها وذهب دورها ، ونحن نريد أن نصبغ منتدياتنا ومواسمنا وثقافاتنا بصبغة عصرية بعيدة عن الدين والأخلاق ، لأنهم يرون الدين منغصاً لشهواتهم ، قاضياً على انحرافهم ، فهم يريدون أن يصبغوا كل شيء بصبغة بعيدة عن الإسلام ، وصدق الله العظيم إذ يقول: ﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾ 72 الحـج . إن الإسلام يريد من المؤمنين أن يرتبطوا بدينهم الإسلامي في أنظمتهم وفي كل أحوالهم ، لأن ارتباطهم بدينهم هو سبيل عزهم وكرامتهم ورفعتهم في الدنيا والآخرة : ﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ ﴾ 10 فاطر . وقال تعالى: ﴿ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ ﴾ 18الحـج .

 فعز الأمة وشرفها إنما يكون باتباع شرع الله وتحكيمه والتحاكم إليه ،  إن قصور أفهام الناس عن إدراك ما دلَّ الكتاب والسنة عليه شيء، وكمال الشريعة وانتظامها لمصالح العباد في الحاضر والمستقبل شيء آخر والله يقول: ﴿ مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ﴾ 38 سورة الأنعام ، وإن قصور الأمة وضعف الإدراك وقلة التصور هو الذي حمل بعض الناس أن يجعلوا ضعف البشر وقلة إدراكه يميناً في الشريعة وحاشا أن يكون فيها عيب، فهي شريعة أكملها الله وأتمها ورضيها لنا وإن التمسك بها والثبات عليها نعمة من أجل نعم الله على العباد وإن العدول عنها وقلة التمسك بها هو الشقاء والبلاء : ﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى  وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا ، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى ﴾ 126 سورة طـه .