نجاح دنيوي وفساد أخروي
جاء الإسلام ليتناسب مع كل زمان ، فدلَّ الناس على ما فيه الخير ، وحذَّرهم مما فيه الشرّ والفساد مَنْ تَبِعه اهتدى ، ومن خالفه ضل قال تعالى:﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾النور63 ، وجاء الأوروبيون فحرموا أنفسهم من الدين ، فلم يبق لهم رادع من خلق أو وازعٌ من دين ، ونسوا غاية خلقهم وقالوا : ﴿ إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين ﴾ فاعتقدوا بطبيعة هذه العقيدة ، أن ليس للإنسان وراء اللذة والراحة ، والانتفاع المادي والعلو في الأرض وبسط السيطرة عليها ، والتغلب على أهلها والاستئثار بخيراتها ، فاستغلوا القوة والعلم في حصول اللذات والشهوات ، وتنافسوا في اختراع الآلات التي بها يسيطرون على غيرهم ، فخرجوا عن منهج السماء؛ واخترعوا بعقولهم القاصرة ما تحتاج إليه البشرية ،كما ينادون تارةً بالإلحاد، وتارةً بالديمقراطية ، وصولًا لتحقيق المصلحة واللذة والشخصية ، بعيدًا عن قيود الدين ، فهي وإن حققت سعادة شهوانية لبعض الطبقات ، فعلى حساب طبقات أخرى ، ودماء وأعراض ومآسي أخرى ، جعلوا من اللذة والمال وثنًا ، ومن الجسد والجمال وثنًا، ومن القوة وثنًا، فاخترعوا أدواتهم لتحقق لهم سعادتهم، ولو على حساب العالم بأسره دون النظر لعواقب هذه الأدوات ، وآثارها على سائر المجتمعات ، إنهم يعانون من اختراعاتهم، ثم لن يسمحوا لأحد أن يلعب دورًا في لعبتهم ، إلا ما رسموه لهم ، فلن يسمحوا لأحد أن يخرج عن ما صنعوا من أسلحة فتاكة ، من طائرات وصواريخ عابرة للقارات ، كما قدموا الثلاجة ، وأنتجوا البرادة وفسدوا مقابل ذلك في عالمِ الروح: ﴿ يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ﴾ ما استعدوا للقاءِ الله ، نجاسةُ وعهرُ وزنىً ، وربىً وفحشُ ، ونهبُ وسلب، فهذا عالم منهم ألف كتاب "الإنسانُ لا يقومُ وحدَه" يقول : إن أمريكا تسعى إلى الهاويةِ 100% لأنها ما عرفت الله. وفي كتابِ "اللهُ يتجلى في عصرِ العلم" الذي ألفَه نخبةُ من الأمريكان الذينَ أسلموا ، يحذرونَ شعبَهم العارَ والدمار والنار، ولكن من يعي! في أوكلاهوما أخبر مسلمُ أمريكيُ من تلك الولايةِ ، انه ثبت في التقاريرِ أن جامعةَ أوكلاهوما ، فيها عشرون ألف فتاةٍ يدرسنَ في تلكَ الجامعةِ ، كلُهنَ حبلى من الزنى فأي حضارة هذه ؟ في بلدٍ أفكارُه منكوسـة ، تُثقلُه بصائرُ مطموسـة ، يقدسون الكلبَ والخنزيرَ وغيرَهم في نظرهم حقير ، ما عرفوا اللهَ بطرفِ ساعة وما استعدوا لقيامِ الساعة ، استيقظوا بالجدِ يومَ نمنا وبلغوا الفضاءَ يوم قمنا ، منهم أخذنا العودَ والسيجارة وما عرفنا كيف نصنعُ السيارة ، نجاريهم في الموضة واللباس ، وما به كرامتنا تداس ، فهذا شاعرٌ عربي يلعن الصعلوك الذي لا يتعدى نظره ، ولا يسمو فكره عن لباس وطعام فيقول :
لحا الله صعلوكاً مناه وهمه من العيش أن يلقى لبوساً ومطعما
فكيف إذا أشرف هذا الشاعر على هذه المدنية ، وهي تجري بفلاسفتها وسياسيها وعلمائها ، وكتابها وأغنيائها وفقرائها وراء غاية لا تتعدى لبوسا ومطعما ، ألسنا آثمون يومَ ما صنعنَا كما صنعوا ؟ وإنهم آثمونَ يومَ ما أسلموا كما أسلمنا ؟ نقصوا في الإسلامِ ، ونقصنا في العمل، ولا يعُفينا نقصنا ، فهم كفارٌ ملاحدَة ، ونحن طلاب جنة وآخرة .
أمريكا التي تقدمَ رجلُ فيها يشتكي رجلاً ضربَ كلبَه ، حين اعتدى عليه في المطار، والكلبُ عندَهم آيةُ من الآيات، يغسلونَه في الصباحِ ويقبلونَه في المساء ، ينامُ على السريرِ ، ويركبُ السيارةَ مع الأمير ، ضُربَ كلبُ فقدمَت عريضةُ فيه ليحاكم بينما المسلمون يضربوا بالهراوات، وتكسّر الرؤوس وتهدّم المساجد ، وتسحقُ الدور، وتدمرُ القصور فما احتجوا ، ينصفونَ الكلاب ، وينقضون على الشعوب كالذئاب ، فما أنصفتهم هيئة الأمم التي يسيطر عليها أولو الألباب ، تقدموا بالقاذفات والصواريخ ، وحاربونا وحاربوا اللهَ يومَ كفروا وحاربوا اللهَ يوم أخرجوا الفتاةَ عاريةً عاهرةً زانيةً سافرة ، حاربوا اللهَ يومَ سيروا الدعارةَ والخمرَ والزنى والربى في العالم ، حاربوا اللهَ يومَ قاموا مع الأقوياءَ فسلبوا حقوقَ الضعفاء ، عاشوا الويلاتَ في قلوبِهم ومن أراد المزيد عن انحرافهم ، فليراجع كتاب الأمريكي: " دع القلق وأبدأ الحياة " فقد عاشوا التوترَ في أعصابِهم، وعاشوا الانهيارَ في أخلاقهم فهذه امرأةٌ تستضيف رجلا مع زوجِها فيفعلُ بها الفاحشةَ في بيتِ زوجِها وهو يعلمُ ولا ينكر وهذه فتاةُ تسافرُ من أبيها وتعودُ حبلى بلا زواج خمرُ يسكبُ ويشرب ، زنىً وفحشُ يعلنُ في الصحفِ والمجلات والأفلامِ والمسلسلات ، ورغم ذلك ينادي البعضُ بحضارتِهم التي تحمل في طياتها بذور فنائها
فقل للعيونِ الرمدِ للشمسِ أعينٍ تراها بحقٍ في مغيبٍ ومشرقِ
وسامح عيونا أطفئَ اللهُ نورَها بأبصارِها لا تستفيقُ ولا تعي
﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾ يرى ابن خلدون : أن الترف مظهر الحضارة، وهو هادمها أيضاً ، وهو غاية العمران ، ولكنه مؤذن بنهايته أيضاً فالحضارة غاية العمران، ونهاية لعمره ، وإنها مؤذنة بفساده ، وقد أكد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه السنّةْ للدورة الحضارية الخالدة فقال: ( خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ) . وتتجلى آثار الحضارة المفسدة للعمران ، في حياة البذخ والترف ، إذ سرعان ما ينسى سكان الجيل الثالث ، عهد الخشونة والبداوة ، فيفقدون بذلك حلاوة العز والعصبية ، بما هم فيه من ملكة القهر ، ويبلغ فيهم الترف غايته فتفسد أخلاقهم وطباعهم ، فينقلب التناصر إلى تنافر وصراع ، من أجل مكاسب شخصية ، ومصالح خاصة ، فيظهر الظلم إلى جانب الترف ، وهما مظهران من مظاهر خراب العمران ، وسقوط الدول والى ذلك يشير قوله تعالى: ﴿ وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليهم القول فدمرناها تدميراً ﴾ الإسراء 16.
حاجتنا إلى الإخلاص في العمل
إن ضعف المسلمين في شؤون دنياهم جعلهم عالة على غيرهم في الكثير من أمور معايشهم ، مما جعل الأعداء يتسلطون عليهم ، ويوجهونهم وفق ما يريدون ، لحاجة المسلمين إليهم . لأن المسلمين لا يعملوا ، ومن يعمل منهم لا يتقن عمله ، لذلك ضعفت قيمة العمل ، وقلّ العاملون المخلصون ؛ فانعكس ذلك مستوى الإنتاج ، الذي تدنى وأدى إلى ضعف المسلمون ، وتسلط الأعداء عليهم .
لذلك جاءت الدعوة إلى العمل في قوله تعالى : ﴿ وقل اعملوا ﴾ لأنه الطريق الوحيد الذي يخلص الأمة من تسلط أعدائها عليها ، فتشعر بكرامتها وعزتها وتحمل العقيدة والفكر الذي يعود بالخير على الأمة استجابة لقوله تعالى : ﴿ ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ﴾ والدعوة بحاجة إلى قوة ، والقوة بحاجة إعداد استجابة لقوله تعالى : وأهدوا لهم ما استطعتم من قوة ﴾ حتى تقدم هذه العقيدة وتدعو إليها من قوة أمّا وهي ضعيفة مهزومة .. أمّا وهي فقيرة مستجدية لفضل غيرها ؛ فإنها لن تحمل فكراً ، ولن تدعو إليه .. ولو دعت فلن يقبل منها .
وحتى تتفوق الأمة في مجال الإنتاج والعمل لابد من شروط أساسية لتنطلق في ميدان الإنتاج والإتقان ؟؟
أهمها : القناعة بقيمة العمل والعلم الذي يجمع عقول الأمة ويوجهها نحو العمل والإنتاج ، وقد أوصل إهمالها الأمة إلى ضعفها وطمع الأعداء فيها .
ففي مجال تربية الأبناء ، فإن توجيههم إلى ضرورة الاهتمام بقيمة العمل والإنتاج، والتفوق فيه تكاد تكون من أضعف اهتمامات المربين والمدرسين مما جعل حصول الأبناء على الشهادة من أغلى الأماني ، وأكبر الأحلام ، دون أن يكون لديهم تصوّر لقيمة لعمل الذي ينهض بالأمة ، بل إن الكثير منهم ربما لم يسمع طول حياته العلمية كلمة تشجيع على التفوق والإتقان في حياته العملية ، بل ربما إن حياته العملية التي سيدخلها لا ترتبط أصلاً بالعلم الذي اكتسبه ؛ فأصبحت الشهادة مطلباً مباشراً سواءً أنتج صاحبها أم لم ينتج ، فشباب الأمة الآن . لا يشعرون ، ولا يستشعرون أهمية العمل ؛ لأن العمل ليس من الاهتمامات التربوية لا في البيت ، ولا في المدرسة . . لا من الآباء ، ولا من المدرسين ، مما أدى إلى عدم اهتمامهم بالإنتاج ، بسبب القصور في الإعداد التربوي ، ولن يصلح حالهم إلا عندما نصلح الخلل التربوي في البيوت والمدارس ، وفي الوسائل المؤثرة عليها .
أما في مجال العلم بميادين العمل الذي نحتاجه فحدث فيه ولا حرج . في بلاد المسلمين تطغى الدراسات النظرية حتى في العلوم التجريبية ، أما التطبيق فله أقل القليل من الوقت ، وله أقل القليل من الجهد ، وله أقل القليل من الاختبار أيضاً ؛ فيتخرج الطلاب من الكليات العلمية بحصيلة هزيلة في ميادين التطبيق ، ثم يذهبون إلى العمل الذي يعزلهم عن الميدان في الغالب ؛ فالمهندس يبتعد عن الهندسة ، ويعيش مع الأوراق فقط ، والسؤال هنا : من المسئول عن هذا القصور ؟ نحن المسئولون أولاً ، كما لا ننكر أن لأعدائنا نصيباً في تكريسه بيننا؛ لأن الشركات الأجنبية التي تعيش في بلاد المسلمين تستقدم خبراءها ومهندسيها معها ، ولا تتيح لأبناء المسلمين إلا المجالات النظرية . بل إن الكثير من شبابنا يخدع نفسه بالأسماء فقط ، ويعيش في المكاتب بعيداً عن ميدان العمل الفعلي .
فلا توجه العقول والجهود نحو العمل والإنتاج فتفرقت بين الأهواء والشهوات ، فأصبحت القدوة لا تشجع على العمل ؛ لأنها من أهل اللهو والبطالة
فلو سألنا الشباب عن أمله في الحياة ، وماذا يريد أن يكون في المستقبل فلن نجد في الغالب إلا آمالاً جوفاء يتمنى أن يصبح ممثلاً أو مغنياً ساقطا ، أما أن يكون عاملاً منتجا أو مزارعاً ناجحاً . أو عاملاً جاداً أو عسكرياً مكافحا أو تاجرا ناصحا أو طبيباً ماهرا فهذه مهنٌ لا تلمّع في الإعلام ، ولا تقدم للشباب . إن أقصى أمنيات كثير من شباب الأمة لا تتجاوز الرياضة أو الفوز في برنامج ذي فويس أو برنامج أرب آيدل في الأم بي سي . أبهذا تعد الأمة للعمل ؟؟ أبهذا يدفع الشباب للعمل ؟؟ أبهذا تحقق الأمة التقدم في شؤونها ؟ أبهذا نصبح أمة قوية ؟
إن توجيه الأمة للعمل مطلبٌ ملحٌّ ، وغير قابل للتأجيل . يجب أن يتقدم في سلّم الأولويات، وقائمة الاهتمامات . هذا أمر لا بدّ منه إن كنا نريد العزّة والقوّة ، والسؤال : من المسؤول عن توجيه الأمة نحو العمل ؟؟
إن الشعور بحاجة الأمة إلى تغيير كثير من أساليبها التي أدت بها إلى هذا الواقع المتخلف ، قد أدركه الكثير من أبناء الأمة الناصحين لها ؛ فمنذ الحرب العالمية الثانية ، بل وقبلها كان كثير من علماء الأمة ومثقفيها ينادون بضرورة تأمّل واقع الأمة ، والعمل على النهوض بها . وتعالت الدعوات للنهوض بالأمة منذ ذلك الوقت المبكر ، ولكن الحال كما نرى اليوم فإن الأمة لا تزال في تخلفها وضعفها . فما السبب ؟
إن من أبرز الأسباب الفرقة والتنافر في أساليب الطرح للنهوض بالأمة . يقول الله تعالى : ﴿ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ، واصبروا إن الله مع الصابرين ﴾ فمن أسوأ ما أصيبت به الأمة الإسلامية في هذا العصر ما نجده من كثرة الآراء والأحزاب وكثرة التناحر والتقاتل بين تلك الأحزاب ، وبين أصحاب تلك الآراء ، فتبددت جهود الأمة كلٌّ يشغل نفسه لإسقاط الآخر ، أو إسقاط آرائه وأساليبه . يبذل كل حزب جهوده وطاقاته ليس للبناء والعمل ، ولكن لإسقاط الآخرين ، وإفساد عملهم ، وما علموا أنهم يفسدون ولا يصلحون فلماذا لا يعمل شباب الأمة على العمل لسد حاجات الأمة ومتطلباتها ، بدل استيراد هذه الحاجات من الأمم الأخرى
ما الذي يمنع مدارس ومعاهد التدريب المهني في العالم الإسلامي أن تتبادل الخبرات لتخريج العمال المهرة ، لسدّ حاجة الأمة بدلاً من فتح البلاد الإسلامية لأعداء المسلمين ، وفي تخصصات عادية تجد فيها يمكنها القيام بها ، أليس من مصلحة الأمة جمع الجهود للعمل المنتج ، والاتجاه الجاد للتعاون لتحقيق ما من شأنه أن يحقق انتصار الأمة ، وتحريرها من سيطرة أعداء الإسلام عليها بسبب سيطرتهم على شؤون دنياهم ، فهل نحن فاعلون ؟
فهل نحن فاعلون ؟؟؟
لأمة المسلمة مدعوة اليوم قبل الغد إلى العمل الجاد الدؤوب، وخير الأعمال ما داوم عليه صاحبه وإن قل ، وإنما تبنى الأمم بالأعمال لا بالأحلام ولا بالأقوال والأماني، ويستحق الفرد منزلته في الآخرة بين الأبرار بعمله الصالح المبني على الإيمان، أو بين الأشرار بعمله الطالح المبني على الكفر والجحود والنكران.
العمل إذن طريق الرقي في الدنيا وسبيل السعادة في الآخرة، ومع إيمان المسلمين بهذا إلا أنهم لا يعملون العمل المناسب الذي يدفع الحياة إلى الأمام دفعا ، ويرقى بهم في مصاف الأمم، ليكونوا على مقربة من قامتها السامقة، ومنزلتها العالية.
كأنما تطرق إليهم ذلك المفهوم الخاطئ، الذي تسلل إلى عقولنا خلسة حين فهمنا أن الدين لا صلة له بالحياة، إذ يكفي أن الإنسان ينجو به من عذاب النار، أما أنه هو المحرك نحو العزة والكرامة، هو المحرك للهمم، هو الدافع للعمل، فذلك ما ليس للدين إليه سبيل هذا وهمهم في فهمهم، وكم من فهم خاطئ عن صلة الدين بالحياة يعيش بيننا الآن، ويشدنا إلى القاع، دون أن يرفعنا إلى القمة.
فهل غاب عن الناس أن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل؟ ولعلهم يظنون أن المقصود بهذا العمل هو العمل الصالح، وهل العمل الصالح في كثير من الأحيان إلا متصلا بالناس يقدم لهم ما يحتاجون، ويؤخر عنهم ما به يتضررون؟ وهل غاب عن الناس أن من بات كالا ،متعبا من عمل يده بات مغفورا له؟ وهل غاب عن الناس أن من كان يسعى على أبوين ضعيفين فهو في سبيل الله، ومن كان يسعى على صبية صغار فهو في سبيل الله؟ إن الرجل الذي سقى كلبا غفر الله له، وإن المرأة التي حبست هرة دخلت بسببها النار، أليس هذان نوعين من العمل الدنيوي أحدهما فيه الخير فكان جزاؤه الغفران، وثانيهما فيه الشر فكان جزاؤه الخسران؟ وكم بين سقي كلب وإحياء نفس من درجات في مراتب العمل؟ وكم بين حبس هرة وقتل نفس أو إشراك بالله من دركات في إحباط العمل؟
فمراتب العمل متفاوتة، والناس فيها متفاوتون بحسب قدراتهم وطاقاتهم وعلمهم وابتكارهم وغير ذلك مما فضل الله به بعض الناس على بعض، ولكن هذه الجهود المتفاوتة تنتظم في سلك واحد يخدم الأمة، حين يبذل كل إنسان ما استطاع من عمل عقلي أو عمل يدوي في إتقان ومهارة، بحيث نصل في يوم من الأيام ـ وعسى أن يكون قريبا ـ إلى أن تكتفي أمة الإسلام بما لديها في المرحلة الأولى، ثم يفيض ما عندها بعد ذلك على غيرها في جانبيه المعنوي والمادي، المعنوي المتمثل في الدين والقيم والأخلاق، والمادي المتمثل في كل ما يحتاج إليه الإنسان مما لا غنى عنه في أي مكان على وجه الأرض.
لترفع أمتنا بهذين الجانبين العمليين من قيمة الإنسان فلا يظل حيوانا ناطقا ، ولا حتى راقيا كما ينظر إليه الغربيون، بل إنه جنس آخر غير الحيوان، وغير الشيطان، وغير الملائكة الكرام، إنه جنس كرمه الله، وسخر له ما في السموات وما في الأرض جميعا منه، فكيف نوافق أصحاب الأهواء في تصورهم الناقص للإنسان حين يعتبرونه حيوانا همـه إشباع الرغبات وتحقيق الشهوات والملذات، ولا نتبع في تصورنا ما أخبر الله به من تكريم لهذا الإنسان حتى أسجد الملائكة لآدم أبي البشر؟
لقد انحرف تصور أصحاب الفلسفات الأرضية عن الإنسان فصار همهم الأول، بل الأوحد ما أخبر به القرآن: ،يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم فلماذا انحرف تصورنا نحن، وعندنا الخبر اليقين عن هذا المخلوق المكر م؟
إننا نحاول أن نتبع الغربيين في كل أمر، ونلهث وراء أعمالهم الدنيوية التي بغيرها تتعثر الحياة، فلماذا نتبعهم في الأفكار والتصورات ولا نتبعهم في الأعمال والإنجازات؟ لقد صار الإنسان عبدا للآلة، مع أن المفروض والمنتظر أن تكون الآلة في خدمة الإنسان، ولعل هذا الذي أ خبرك به بعيدا عن رأيك وفكرك مع أن الأمر واقع بيننا اليوم، وإذا ما نظرت إلى كثير من البيوت وجدت الأقساط تكاد تفتك بجهود صاحب البيت وتكاد تخربه لسداد قرض هنا، وقسط هناك في شراء بعض الأمور التي يمكن الاستغناء عنها بغير ضرر.
وإن العمل بجانبيه المادي والمعنوي المبني على الإيمان يجعل أصحابه روادا على طريق الخير للبشرية كلها، لأن العاملين المؤمنين المنتجين يدركون واجبهم نحو إخوانهم في الإنسانية، فلا يحرقون الغلات والحبوب حتى يحافظوا على بقاء الأسعار، ولا يلقون بمحصول في البحار لنفس الغرض، ولا يثيرون القلاقل في البلاد، ويبعثون الفتن بين العباد من أجل أن يبيعوا لهم سلعة معينة يكســبون من ورائها الملايين ولا يستفيد المشــترون لها شيئا يذكر حتى بعد سنين.
العمل في الإسلام عبادة، والمقص رون في أعمالهم لا يضرون ـ فقط ـ أنفسهم، بل يضرون غيرهم من البشر، ويؤثرون على التصورات والقيم، ويجعلون الحياة قحطا حين يقودها الماد يون الذين قست قلوبهم فخلت من الرحمة والشفقة إلا إذا كانت لهم من وراء ذلك مصلحة تذكر.
والأمم بحسب ما اعتاد أبناؤها، فإن عودتهم احتمال الشدائد والصبر على المكاره وإتقان العمل، وإشراقة الأمل خلقت منهم رجالا يشدون أزرها، ويقوون عضدها، وإن اعتادوا الرخاوة والترف والكسل في العمل والتهاون في المسؤولية كانوا كلا على الأمة وعالة عليها.
ونحن ـ بحمد الله ـ لم نكن كذلك، حين كانت أمتنا تقوم على الجهاد والاجتهاد، فكنا بحق كما قال شوقي:
ونحن في عين الوجود أمـة ذات اشـــتهار بعلـــو الهمـــة
والأمر محتاج إلى تربية وإلى بعث للعزيمة، وإلى قبول التحدي المطروح علينا، والدين الإسلامي خير حاد لنا وخير مرشد لأبنائنا على امتداد الأجيال.