متفرقات

متفرقات

متفرقات

قصة خاتم سليمان عليه السلام

 لقد اشتهرت وانتشرت في معظم التفاسير المشهورة وتناقلها القصاص والوعاظ  وهي من الإسرائيليات الموضوعة ، التي تطعن في الأنبياء  وهي من المفتريات التي تصدّى لها علماء المسلمين ومحدثوهم وبينوا زيفها وبطلانها .

أما القصة كما وردت في تفسير الطبري ، روي عن ابن عباس قال: ( كان الذي أصاب سليمان بن داود في سبب أناس من أهل امرأة يقال لها جرادة ، وكانت من أكرم نسائه عليه قال : فكان هوى سليمان أن يكون الحق لأهل الجرادة فيقضي لهم ، فعوقب حين لم يكن هواه فيهم واحدًا . قال : وكان سليمان بن داود إذا أراد أن يدخل الخلاء ، أو يأتي شيئًا من نسائه ، أعطى الجرادة خاتمه  فلما أراد اللَّه أن يبتلي سليمان بالذي ابتلاه به أعطى الجرادة ذات يوم خاتمه ، فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال لها : هاتي خاتمي فأخذه فلبسه ، فلما لبسه دانت له الشياطين والجن والإنس، قال: فجاءها سليمان فقال: هاتي خاتمي، فقالت كذبت، لست بسليمان، قال: فعرف سليمان أنه بلاء ابتلي به، قال: فانطلقت الشياطين فكتبت في تلك الأيام كتبًا فيها سحر وكفر، ثم دفنوها تحت كرسي سليمان، ثم أخرجوها وقرءوها على الناس وقالوا : إنما كان سليمان يغلب الناس بهذه الكتب، قال : فبرئ الناس من سليمان وأكفروه ، حتى بعث اللَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه جل ثناؤه:  ] واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان [ يعني الذي كتب الشياطين من السحر والكفر : ] وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا [ البقرة 102 . وقد رويت  قصة أخرى باطلة ترتبط بهذه القصة تبين ما كتبته الشياطين .   عن شهر بن حوشب قال: ( لما سُلِب سليمان ملكه ، كانت الشياطين تكتب السحر في غيبة سليمان فكتبت  من أراد أن يأتي كذا وكذا  فليستقبل الشمس وليقل كذا وكذا ومن أراد أن يفعل كذا وكذا ، فليستدبر الشمس وليقل كذا وكذا ) . فكتبته وجعلت عنوانه: ( هذا ما كتب آصف بن برخيا للملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم )  ثم دفنته تحت كرسيه فلما مات سليمان ، قام إبليس خطيبًا فقال : يا أيها الناس ، إنَّ سليمان لم يكن نبيًا ، وإنما كان ساحرًا فالتمسوا سحره في متاعه وبيته ، ثم دلَّهم على المكان الذي دفن فيه ، فقالوا : والله لقد كان سليمان ساحرًا ، هذا سحره ، بهذا تعبَّدنا وبهذا قهرنا ، فقال المؤمنون : بل كان نبيًا مؤمنًا ، فلما بعث اللَّه محمدًا r جعل يذكر الأنبياء حتى ذكر داود وسليمان   فقالت اليهود : انظروا إلى محمد يخلط الحق بالباطل يذكر سليمان مع الأنبياء وإنما كان ساحرًا يركب الريح ، فأنزل اللَّه تعالى : ] واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان [    هذه القصة التي أخرجها ابن جرير في تفسيره  عن ابن عباس ، والقصة الأخرى المرتبطة أخرجها أيضًا ابن جرير في تفسيره عن شهر بن حوشب وأورد القصة الثعلبي في قصص الأنبياء وفيها بيان لأحد نساء سليمان وهي الجرادة بنت الملك صيدون ، تلك القصة التي وضعها الوضاعون وجعلوا هذه المرأة سببًا في سلب ملك داود ، حيث قال الثعلبي : روى محمد بن إسحاق عن بعض العلماء أن سليمان أخبر أن في جزيرة من جزائر البحر رجلاً يقال له: صيدون ملك عظيم الشأن لم يكن للناس إليه سبيل لمكانه في البحر ، وكان اللَّه قد آتى سليمان في ملكه سلطانًا لا يمتنع عليه شيء في بر ولا بحر، فخرج إلى تلك المدينة فحملته الريح على ظهرها حتى نزل عليها بجنوده من الجن والإنس فقتل ملكها وسبى ما فيها ، فأصاب فيما أصاب بنتًا لذلك الملك يقال لها جرادة لم ير مثلها حسنًا وجمالاً فاصطفاها لنفسه ودعاها للإسلام فأسلمت على يديه في الظاهر خيفة منه وقلة ثقة   فأحبها حبًا شديدًا لم يحبه أحدًا من نسائه وكانت منزلتها عنده منزلة عظيمة ، وكانت على منزلتها عنده لا يذهب حزنها ولا يرقأ دمعها ، فشق ذلك على سليمان فقال لها : ويحك ، ما هذا الحزن الذي لا يذهب والدمع الذي لا يرقأ ، فقالت : إني أذكر أبي وأذكر ملكه وسلطانه وما كان فيه يحزنني ذلك، فقال لها سليمان: قد أبدلك اللَّه ملكًا هو أعظم من سلطانه ، قالت : إن ذلك حق ولكني إذا ذكرته أصابني ما ترى من الحزن فلو أنك أمرت الشياطين يصورون لي صورته في داري التي أنا فيها أراه بكرة وعشية لرجوت أن يذهب ذلك حزني ويسليني عن بعض ما أجد في نفسي ، فأمر سليمان الشياطين أن يمثلوا لها صورة أبيها في دارها حتى لا تنكر منه شيئًا فمثلوه لها حتى نظرت إلى أبيها بعينه إلا أنه لا روح فيه ، فعمدت إليه حين صنعوه فأزّرته وقمّصته وعمّمته وردته بمثل ثيابه التي كان يلبسها   ثم أنها كانت إذا خرج سليمان من دارها تغدو ، إليه في ولائدها فتسجد له ويسجدن له معها كما كانت تصنع معه في ملكه .

هذه القصة كما رويت قصةٌ واهية ومنكرة ولا أصل لها عن النبي صلى الله عليه وسلم  بل هي من الأخبار المقطوعة والموقوفة المنكرة ، وهي من الأخبار التي أوردها ابن جرير رحمه اللَّه ، وقد أسندها   ومن التخريج يتبين أن جميع طرق القصة لم يوجد بها الخبر الصحيح المسند  . كما أن الأخبار المقطوعة والموقوفة التي جاءت بها القصة واهية منكرة  وإن تعجب فعجب كيف يكون هذا مصير نبي ابن نبي؟ والأعجب كيف يذكر في كتب التفاسير والسنن مثل هذه الأخبار ؟!

أما القصة الأخرى الباطلة التي ترتبط بهذه القصة تمام الارتباط كما بيَّنا آنفًا فهي أوهى من السابقة   كما أن قصة عبادة التماثيل في دار سليمان النبي : وهي قصة باطلة وهي مرتبطة بالقصتين السابقتين تمام الارتباط ، وهي أوهى من السابقتين حيث قال الثعلبي : وسند هذه القصة مظلم باطل بالتدليس والجهالة .  وهناك قرائن تدل على أن هذه القصة من الإسرائيليات : قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللَّه في «مجموع الفتاوى» (15/148- 150): «وما ينقلونه في ذلك ليس هو عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا مستند لهم فيه إلا النقل عن بعض أهل الكتاب ، وقد عرف كلام اليهود في الأنبياء وغضبهم منهم   كما قالوا في سليمان ما قالوا ، قالوا في داود ما قالوا ، فلو لم يكن معنا ما يرد نقلهم لم نصدقهم فيما لم نعلم صدقهم فيه ، فكيف نصدقهم فيما قد دل القرآن على خلافه  أما هذه القصص التي أوردناها فقد أوردها ابن كثير في «تفسيره» للآية (102 البقرة)30:  وقال: «وأرى هذه كلها من الإسرائيليات».وقال: «الظاهر أنه إنما تلقاه ابن عباس رضي اللَّه عنه - إن صح عنه - من أهل الكتاب وفيهم طائفة لا يعتقدون بنبوة سليمان عليه السلام ، فالظاهر أنهم يكذبون عليه ». اهـ. وقال: «وحاصلها راجع في تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيل إذ ليس فيها حديث مرفوع صحيح متصل الإسناد إلى الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى  وظاهر سياق القرآن إجمال القصة من غير بسط ، ولا إطناب فيها، فنحن نؤمن بما ورد في القرآن على ما أراد اللَّه تعالى، والله أعلم  .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

موقف الإسلام من العلاقات الجنسية

 

إن الإسلام يوجهنا توجيهات عملية مفيدة في جميع شؤون الحياة بما في ذلك العلاقات الجنسية البشرية ، وقد حرّمها خارج حدود إطار عقد الزوجية ، ورتب لها عقوبة دنيوية وعقوبة أخروية ، لأن الزواج هو القناة الوحيدة التي يسمح فيها بالعلاقة الجنسية بين الجنسين . وإن السلوك الجنسي وجميع الأفعال الجنسية ومقدماتها ليست مشروعة ، إلا تحت مظلة الزواج الشرعي ، لذلك جاءت النصوص تحث على الزواج وترغب فيه ، فقال صلى الله عليه وسلم : ( ثلاث حق على الله عونهم : المجاهد في سبيل الله ، والمكاتب الذي يريد الأداء ، والناكح الذي يريد العفاف ) رواه الترمذي     وقال صلى الله عليه وسلم : ( من كان موسراً لأن ينكح ثم لم ينكح فليس مني )  رواه الطبراني  . ويشدد الإسلام على الوقاية من الجرائم الأخلاقية ، والابتعاد عن الظروف والعوامل التي تساعد على انتشار هذه الجرائم ، وتنص الشريعة الإسلامية على عقوبات شديدة ضد جرائم الجنس ، كالزنا واللواط والاغتصاب التي يعتبرها الإسلام مخالفة لتعاليمه المتعلقة بالمجتمع والعائلة قال تعالي : { ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً } سورة الإسراء 32  .  ويشدد قانون العقوبات الإسلامي ، على استقرار وأمن الحياة العائلية ، فاعتبر الزواج  حجر الأساس في بناء العائلة ، وبالتالي أساس استقرار المجتمع ، فكان الزواج عقد شرعي قانوني بين الرجل والمرأة ، يتعاهدان فيه على الحياة المشتركة وفقاً لأحكام الشريعة التي يؤمنون بها .

 

ومن المبادئ التي قررها الإسلام ، أنه إذا حرم شيئاً حرم ما يؤدي إليه ويبعث عليه من وسائل ، كالإثارة ، والخلوة الآثمة  والصورة العارية ، ومن هنا قرر الإسلام أن   " ما يؤدى إلى الحرام فهو حرام " . ومما هو مقرر أيضاً في الإسلام حرمة النظر إلى العورات ، ولو كان من رجل إلى رجل ، أو من امرأة إلى امرأة بشهوة أو بغير شهوة ، وقد نهى رسول الله  صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : ( لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ، ولا تنظر المرأة إلى عورة المرأة ، ولا يُفضي الرجل إلى الرجل في الثوب الواحد ولا المرأة إلى المرأة في الثوب الواحد ) مسلم وأحمد وأبو داود والترمذي . ولهذا اعتبر الإسلام مشاهدة عورات الرجال والنساء حرام ، حتى ولو كانت العورات المشاهدة صوراً في أفلام ، اللهم إلا إذا دعت هناك ضرورة طبية تفرض إطلاع الطبيب على هذه العورات للعلاج . والضرورة تقدر بقدرها . وعليه فإنه يحرم النظر إلى الأفلام الجنسية التي تعرض مناظر العورات المكشوفة ، سواء للزوج أو للزوجة ، لأن النظر إلى هذه العورات محرم شرعاً   وهو انحراف عن الفطرة المستقيمة التي فطر الله الناس عليها  وإن إنتاجها ما هو إلا وسيلة لتفجير الغرائز وتدمير القيم  ولأن مشاهدة الأمور الإباحية تخرج الإنسان من سلامة النفس  وطهارة الروح ، وتدخله في حالة من الدنس النفسي والروحي   التي تؤرقه وتنغص عليه حياته وتقض مضجعه ، لأن الإنسان المسلم يعيش بذهنية وعقلية تعلي قيمة العفة عنده ، وتزدري الفحش والابتذال ، ولذلك عندما يشاهد هذه الأمور ، يحدث له ازدواجية وتناقض في نفسيته ، ومن جهة أخرى كيف يكون هذا الإنسان بين زوجته وأولاده مربياً وراعياً للفضيلة والأخلاق ، وبينه وبين نفسه إنساناً فاسقاً مشاهداً للفحش والدعارة والزنا والابتذال ، ألا يشعر في هذه الحالة بوخز الضمير ، كما يحدث لكل إنسان مقيم على معصية ، كمن يسرق ومن يشرب الخمر، ومن يسعى بالغيبة والنميمة بين الناس ، فهو يشعر ويعرف الذنب الذي اقترفه وضميره يؤنبه  وهكذا يعيش في رحلة تأنيب للضمير وازدواجية في النفس والروح ، وهذه أسوأ حياة يمكن أن يحياها الإنسان . إن مشاهدة الأفلام الجنسية حرام ، لأنها من الوسائل المؤدية إلى الانحلال والفساد الأخلاقي ، كما أن الصور العارية حرام لأن فيها انتهاكاً للمحرمات ، والنظر إلى ما حرم الله . والإسلام يحارب الفساد والانحلال بمختلف ألوانه وأشكاله ، ويقطع كل الطرق التي تؤدي إليه ، ولا شك أن الأفلام الإباحية والصور العارية مظهر من مظاهر الانحلال والفساد ، وأنها من الوسائل المؤدية إليه ، لذلك لا شك في حرمة مشاهدة الأفلام الإباحية والصور الخليعة ، لأن للوسائل أحكام المقاصد كما قرر فقهاء الإسلام .  قال العز بن عبد السلام :" للوسائل أحكام المقاصد   فالوسيلة إلى أفضل المقاصد ، هي أفضل الوسائل ، والوسيلة إلى أرذل المقاصد هي أرذل الوسائل" . ومن المعروف عند العقلاء أن مشاهدة الأفلام الجنسية ، والصور الخليعة وسيلة من وسائل انتشار الفساد الخلقي والانحلال ، وانتشار الموبقات  وقد تؤدي إلى الزنا واللواط ، وما أدى إلى الحرام فهو حرام  وقد سمعنا وقرأنا عن حوادث كثيرة كان سببها مشاهدة تلك الأفلام الساقطة  والصور الخليعة كالزنا واللواط وخاصة ممارسة اللواط مع الزوجات ، وغير ذلك من المفاسد الأخلاقية .

 

وإذا كان الرسول يحرِّم على الزوجة أن تصف لزوجها المرأة فيقول صلى الله عليه وسلم : ( لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها ) رواه البخاري . ومعنى الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم ينهى المرأة أن ترى امرأة أخرى وهي عارية ، وبعد ذلك تقوم بوصفها لزوجها فتجعله يفتتن بالمرأة الموصوفة ، ومن المعلوم أن هذا الوصف يجعل الزوج يتخيل تلك المرأة بصفاتها ، التي نُقلت إليه من زوجته ، ومع أن الأمـر يتعلق بالخيال فقط ، فقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عنه ، فما بالك بمشاهدة الأفلام الجنسيـة  حيـث الصوت والصورة ، ألا يؤدي هذا إلى مفسدة أعظم من مجرد التفكير بامرأة وصفت له .

 

جاء في كتاب أحكام النظر للشيخ علي الحموي معلقاً على هذا الحديث " تالله لقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في ما ذكر ، لأن الرجل الأجنبي إذا سمع وصف امرأة أجنبية ، تشكلت في قلبه ، وانطبعت في مرآة نفسه ، ويوحي الشيطان لعنه الله له عند ذلك كلاماً من غروره وأمانيه ، ويحول بينه وبين تقوى الله ومرضاته   وتخطر له هنالك خواطر قبيحة ، وهواجس ذميمة ، فتارة بالزنا وتارة بالفحشاء " . وهذا يحدث نتيجة التفكير في امرأة ، علماً بأن ما ينتج عن مشاهدة الأفلام الجنسية ، لهو أعظم وأخطر بكثير مما وصف الشيخ المذكور .

 

إنني لا أظن أن مسلماً تقياً يعرف مقاصد الشرع الشريف يقول بجواز ذلك ، هذا إذا أضفنا إلى ما تقدم ، أن إعداد الأفلام الجنسية والصور العارية حرام ، لأن فيها انتهاكاً للمحرمات ، والنظر إلى ما حرم الله ، كما أن نشر تلك الأفلام حرام   وطبع تلك الصور حرام ، وترويج ذلك ونشره حرام أيضاً ، بل إن القضية كلها تدور ضمن دائرة التحريم . لأن هذه الأفلام القبيحة قد تحوي ممارسات لا تحل في دين الله تعالى ، كإتيان الحائض أو إتيان المرأة في دبرها ، أو غير ذلك مما يكون فاعله عرضة لسخط الله عز وجل ، وقد يحاول مدمنها أن يطبق ما يرى ، فلا ينال إلا غضب الله ونكاله ، والنظر إلى هذه الأفلام لا شك في تحريمه مطلقا على الرجال والنساء ، المتزوج منهم وغير المتزوج  وهذا النظر المحرم له نتائج سيئة على الإنسان حيث أنه يضعف الإيمان ، ويقسّي القلب ، ويبعد عن الله سبحانه ، ويضعف هيبته في قلبه ، ويوهن البدن ، ويمحق بركة الرزق .  ولتدمير القيم والأخلاق عند المسلمين فإن هناك أكثر من 500 قناة فضائية مابين عربية وأوربية وأمريكية وآسيوية ، تنشر انحرافاتها العقدية والأخلاقية والاجتماعية على المجتمعات الإسلامية ، بلا خصوصية ولا مراعاة لدين ولا عرف .

 

وإن هذا الأمر لا يلقى اهتماماً لدى المسئولين في بلاد المسلمين   كاهتمام المسئولين   في دول الغرب ، كالصين واليابان وكندا وبريطانيا وفرنسا وغيرها التي أصبحت تخاف على ثقافتها ومواطنيها ، من أثر الانفتاح الإعلامي الغير منضبط ، ومن ذلك ما قام به وزير الثقافة البريطاني ( كريس سميث ) من فرض الحظر على بعض القنوات التي تعرض الجنس ، حمايةً للمجتمع البريطاني ، وما صرح به رئيس وزراء كندا ( ترونو ) من خطورة تأثير الثقافة الأمريكية على الشعب الكندي .

 

لقد أصبحت هذه القنوات مدرسة للانحراف ، وتعليم  الجريمة وتفجير الغرائز وتدمير القيم ، كما تشير بعض الدراسات والإحصائيات ، ولعل الواقع وما تشهده السجون ، خير شاهد على تلك الظواهر الخطيرة ، التي بدأت تتفشى في المجتمع  .

 

إنّ هذه القنوات تدور في الأغلب الأعم على الجنس ، فالذي يشاهدها  يكتشف أنّ موضة الجنس هي السائدة ، تقلب الريموت بين أصابعك ، فتشاهد المذيع الكبير يناقش الجنس على الهواء في أوربت . تنتقل إلي art فتجد الدكتورة تناقش الجنس  تهرب إلى LBC فيصدمك الحوار المباشر حول الجنس ، بالإضافة إلى المجلات الفضائية كمجلة الستلايت والفضائية التي تقوم بالدور المساند لما تقوم به هذه القنوات الفضائية ، وذلك بنشر أدلة برامج القنوات وتذليل المصاعب الفنية فيها  وقد اطلعت على استبيان يشير إلى أنّ ما نسبته 46% من أطفال الابتدائي شاهدوا لقطات جنسية حيّة من بعض الفضائيات   وذلك من خلال إحدى الاستبيانات المدرسية. إن هذه القنوات  هي من أخطر أنواع التدمير وإنها تصيب الأمة في مقتل وفي أعز ما تملك : في شبابها وشاباتها . ألقاه في اليمّ مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء .

 

إنّ آهات المجالس وأنّات البيوت ، وصيحات العقلاء لا تجدي  ما لم يتخذ قرار تنفيذي لا شكلي ، يعاقب على التحلل الأخلاقي والانفلات الاجتماعي ، قبل أن تغرق السفينة . ثمّ إنّ هذه الآهات والأنّات وتلك الصيحات ، لا تجدي ما لم تتحول إلى فعل  بشأن ضبط وتنظيم تلك القنوات . والمطالبة بدور فاعل لصنّاع القرار ، لاسيما وأنّ القدرة على الضبط والتنظيم مقدور عليها ، إذا صدقت النيات وبذلت الجهود والمساعي  واستشعرت المسئولية العظيمة تجاه هذا المجتمع المسلم وأجياله القادمة . اللهم إن هذا إعذار وإنذار ، وصيحة ورجاء ، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل أن تغرق السفينة . اللهم هل بلغنا ؟ اللهم فاشهد .

 

 

 

  

 

 

 

موقف الإسلام من الشائعات

  يمكن أن نعرف الشائعات بأنها: "الأقوال والأحاديث والروايات التي يتناقلها الناس دون التأكد من صحتها بل دون التحقق من صدقها ".

 إن الشائعات من أخطر الحروب المعنوية ، والأوبئة النفسية  لأنها تستهدف عمق الإنسان وعطاءه ، وقيمه ونماءه ، بل هي من أشد الأسلحة تدميراً  وأعظمها وقعاً وتأثيراً ، وهي ظاهرة اجتماعية عالمية ، لها خطورتها البالغة على المجتمعات البشرية   وهي جديرة بالتشخيص والعلاج ، وحرية بالاهتمام والتصدي لاستئصالها ، والتحذير منها ، والتعاون للقضاء على أسـبابها ودوافعها ، حتى لا تقضي على الروح المعنوية في الأمة ، التي هي عماد نجاح الأفراد ، وأساس أمن المجتمعات واستقرارها .

والدارس للتاريخ الإنساني يجد أن الشائعات وجدت حيث وجد الإنسان، بل إنها عاشت وتكاثرت في أحضان كل الحضارات، ومنذ فجر التأريخ والشائعة تمثل مصدر قلق في البناء الاجتماعي، والانتماء الحضاري لكل الشعوب والبيئات، ولمّا جاء الإسلام اتخذ الموقف الحازم من الشائعات وأصحابها ، لما لنشرها وبثها من آثار سلبية على تماسك المجتمع المسلم وتلاحم أبنائه ، بل لقد عدَّ الإسلام ذلك سلوكاً منافياً للأخلاق النبيلة ، والسجايا الكريمة ، والمثل العليا التي جاءت بها وحثت عليها شريعتنا ، من الاجتماع والمحبة والمودة والإخاء، والتعاون والتراحم والتعاطف والصفاء .

وهل الشائعة إلا نزف لتلك القيم ، ومعول هدم لهذه المثل ، لذا قالوا بأن مُروِّجَ الشائعات لئيم الطبع دنيء الهمة ، مريض النفس ،  منحرف الطبع ، صفيق الوجه  عديم المروءة ، لا يستريح حتى يفسد ويؤذي ، لذا حذَّر الإسلام من الغيبة والنميمة  والوقيعة في الأعراض ، والكذب والبهتان ، وقالة السوء بين الناس  وهل الشائعة إلا كذلك ؟ وأمر بحفظ اللسان ، وبين خطورة الكلمة فأخبر الله سبحانه وتعالى أن الإنسان مسئول أمام الله عز وجل ، ومحاسب عن كل صغير وجليل قال تعالى : ) ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ، ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ، إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد  ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد (   وحرم الله القذف والإفك وتوعد مروجي الإشاعات بالعذاب الأليم فقال تعالى:) إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون ( . وحث الإسلام على التثبت والتبين في نقل الأخبار قال تعالى : ) يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ( وفي قراءة أخرى فتثبتوا .. والشائعات مبنية على سوء الظن بالمسلمين ،والله عز وجل يقول : ) يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ( .

وأخرج الشيخان في صحيحهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال : ( إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ) .

كما نهى الإســلام أتباعه عن أن يطلقوا الكلام جزافا  ويلغوا عقولهم عند كل شائعة ، أو ينساقوا وراء كل ناعق  ويصدقوا كل دعي مارق قال صلى الله عليه وسلم : ( كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع ) مسلم . وسداً لباب الفساد أمام الوشاة ونَقَلة الشائعات ، ومنعاً لرواج الشائعات والبلاغات الكاذبة  والأخبار الملفقة المكذوبة على الأبرياء الغافلين يقول صلى الله عليه وسلم: ( ألا أخبركم بشراركم ؟ قالوا بلى يا رسول الله قال : المشاءون بالنميمة ، المفسدون بين الأحبة ) البخاري في الأدب . فكم حدثت من جناية على الأبرياء الذين لهم كفاءة في أعمالهم بسبب إشاعة أطلقها ، ذو لسان شرير ، وقلم أجير ، وكم هدمت الشائعة من وشائج ، وتسببت في جرائم ، وفككت من أواصر وعلاقات ، وحطمت من أمجاد وحضارات ، وكم دمرت من أسر وبيوتات .

 فمنذ فجر التاريخ والشائعات تنشب مخالبها لاسيما في أهل الإسلام ، يروجها ضعاف النفوس ، ويتولى كبرها أعداء الإسلام ، واليهود على وجه الخصوص بغية هدم صرح الدعوة الإسلامية ، والنيل من أصحابها والتشكيك فيها ، حتى أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ، لم يسلموا من شائعاتهم   

والسيرة العطرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم نموذج حي ، لتاريخ الشائعة  والموقف السـليم منها ، فقد رميت دعوته المباركة بالشائعات منذ بزوغها ، فرمي بالسحر والكذب والكهانة ، وتفنن الكفار والمنافقون الذين مردوا على النفاق في صنع الأراجيف الكاذبة  والاتهامات الباطلة ضد دعوته صلى الله عليه وسلم ولعل من أشهرها قصة الإفك المبين ، تلك الحادثة التي كشفت عن شناعة الإشاعات ،وهي تتناول بيت النبوة الطاهر ، وتتعرض لعرض أكرم الخلق على الله  صلى الله عليه وسلم وعرض الصديق والصديقة ، وقد شغلت هذه الشائعة المسلمين شهراً كاملاً بالمدينة ، وتولى كبرها المنافقون ، ولولا العناية الإلهية لعصفت بالمجتمع الإسلامي الناشئ في المدينة    

ومن المؤلم حقاً ، أن يتلقى المسلم الإشاعات المغرضة وكأنها حقائق مسلمة  قال الإمام الذهبي رحمه الله : ( لو أن كل عالم تركنا قوله لمجرد خطأ وقع فيه  أو كلام الناس فيه ، ما سلم منا أحد ، ونعوذ بالله من الهوى والفظاظة )

ومن أولى الخطوات في مواجهة حرب الشائعات تربية النفوس على الخوف من الله ، والتثبت في الأمور ، فالمسلم لا ينبغي أن يكون أذناً لكل ناعق ، بل عليه التثبت والتحقق ، ليسد الطريق أمام الأدعياء ، الذين يعملون خلف الستور .

والتثبت صفة أهل اليقين من المؤمنين وبسبب هذه الصفة التي فيهم  يبين الله لهم الآيات والعلامات في الأمم التي مضت   حتى يستخرجوا العبر التي تقيهم مما وقع به غيرهم من غضب الله تعالى . لذلك يقول سبحانه (قد بينا الآيات لقوم يوقنون) البقرة 118. والتثبت فيه معنى التبصر والاستيضاح ، والتأكد من الأمر قبل الحكم له أو عليه وقد حث الله عباده على التخلق بهذا الخلق في قوله تعالى : ) يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ( الحجرات 6. ليؤكد لهم أن هذا أصل لا بد منه من أصول الإنكار. فإننا نسمع كثيرا عن معاصي يقترفها بعض الناس. وربما سمعنا ذلك من أناس قد التزموا اتباع السنة في مظاهرهم. وقد يكونون في بعض الأحيان من الملتزمين مع جماعة صالحة ، ونسارع في تصديقهم ، واتخاذ موقف من زيد أو عمر دون أن نتثبت . لذلك جاءت هذه الآية لتكون قاعدة من قواعد فقه الإنكار. وسبب تحذير الله المؤمنين من التسرع  وتنبيههم للتثبت قبل اتخاذ الموقف. بينه سبحانه وتعالى بقوله : ) أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ( الحجرات 6. أي لئلا تصيبوا قوما من الناس الأبرياء. وأنتم تجهلون حقيقة الأمر. فتصيروا بعد ظهور براءتهم نادمين على ما ارتكبتم في حقهم ، وتتمنوا أن ذلك لم يقع منكم ، لأن الندم : هو الغم على وقوع شيء مع تمني عدم وقوعه . وهذا الغم الذي يصيب المؤمنين بسبب تعجلهم إنما هو نتيجة ما يأمر به الشيطان، ليجعلهم في حزن وأذى ، وليساعد على تفككهم بنشر الأحقاد فيما بينهم ، لذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( التأني من الله  والعجلة من الشيطان ) أخرجه البيهقي وحسنه الألباني .

قال الإمام ابن القيم : " إنما كانت العجلة من الشيطان ، لأنها خفة وطيش  وحدّة في العبد تمنعه من التثبت والوقار والحلم . وتوجب وضع الشيء في غير محله  وتجلب الشرور، وهي متولدة بين خلقين مذمومين ، التفريق والاستعجال " .    

لقد ربى الله سبحانه أنبياءه على هذه الصفة ليكونوا قدوات يحتذي بهم ورثة الأنبياء من الدعاة من بعدهم ، ومن بين هؤلاء الرسل موسى عليه السلام في قصته مع الرجل الصالح  الذي أثارته تصرفاته الغريبة ، فكانت الدهشة والاستغراب ، تحمل موسى على الإنكار والسؤال مرة بعد مرة .

مع أنه كان على موسى عليه السلام أن يتريث حتى يوضح له الخضر أسباب وحقائق ما يقوم به ، وقد حرم بسبب تسرعه علما كثيرا ) قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا (الكهف 78. فرد عليه أسباب قيامه بخرق السفينة وقتل الغلام ، وبناء الجدار ، كما جاء في سورة الكهف   وعلى غير ما بدا في ظاهرها ، ليعلم الدعاة من هذه القصة دروسا في التأني والتثبت قبل الإنكار . وليعلموا أن من امتثل هذه الصفة . فكأنما حاز على جزء من النبوة يقـول  النبي  :  صلى الله عليه وسلم( التؤدة والاقتصاد، والسمت الحسن جزء من أربعة وعشرين جزءا من النبوة ) أخرجه الطبراني والترمذي وصححه الألباني .

فأين الهمم التي تتسابق لامتلاك هذه الأجزاء النبوية ؟.

وقد جاءت هذه الصفة واضحة في قصة سليمان عليه السلام   مع الهدهد إذ يقول سبحانه وتعالى : )وتفقد الطير فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين. لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين( النمل 20   فسليمان الملك الحازم يتهدد الجندي الغائب  المخالف: ) لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه ( ولكن سليمان ليس ملكا جبارا في الأرض، إنما هو نبي ، وهو لم يسمع بعد حجة الهدهد الغائب ، فلا ينبغي أن يقضي في شأنه قضاء نهائيا قبل أن يسمع منه ، ويتبين عذره ومن ثم تبرز سمة النبي العادل: ) أو ليأتيني بسلطان مبين ( أي حجة قوية توضح عذره، وتنفي المؤاخذة عنه .

  وقد استنبط العلماء من القصتين أحكاما في الإنكار، والتي منها : التثبت والتروي والاستخبار قبل الإنكار .

  وإذا كان الأمر بالتثبت لعامة المسلمين واجبا ففي حق العلماء أوجب لما روى البخاري فيما يرويه الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه ( من عادى لي وليا آذنته بالحرب..) .   ذلك لما يؤثره التسرع باتهامهم من حرمان العوام من علمهم ، أو ظن السوء فيهم وربما كانوا منه براء لذلك على القائمين بأمر الإنكار أن يتثبتوا إذا سمعوا أو قرأوا ما يمس أحد العلماء وألا يخوض فيما يخوض به الآخرون ، ثم يندم إما في الدنيا إذا تبينت له الحقائق وإما بالآخرة حيث سيقف خصما لذلك العالم وهو يطلب من الله جل جلاله أن ينصفه مما اتهمه فيه من تهم باطله دون أن يتثبت    وقد ركّز القرآن على ضرورة أن تتبين الأمور، وذلك بأن تبحث عن الحقيقة بنفسك، وهو ما عبّرت عنه الآية الكريمة : ) يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا ( لهذا لا بدّ أن لا نستعجل في الحكم على الناس ، فوظيفتك أن تتثبت وفي هذا يقول الإمام علي : "ولا تعجلن إلى تصديق ساعٍ فإن الساعي غاش وإن تشبّه بالناصحين" . وقد قيل: " من ركب الْعَجَلَ أدركه الزلل " . ‏وعن حاتم الأصم العجلة من الشيطان إلا في خمس فإنها من سنة رسول الله عليه السلام ، إطعام الضيف وتجهيز الميت ، وتزويج البكر ، وقضاء الدين ، والتوبة من الذنوب ‏,‏ وفي رواية الترمذي عن علي رضي الله تعالى عنه ثلاثة لا تؤخرها الصلاة إذا أتت ، والجنازة إذا حضرت ، والأيم إذا وجدت كفؤا " ‏.‏ ‏

 

 

 

 

نعمة المرض

المرض ابتلاء من اللَّه تعالى يختبر به عباده ، فمن حمد اللَّه و صبر على ما أصابه فقد فاز ، و من لم يحمد اللَّه على ما أصابه و سخط و تضجّر فقد خسر و هو ناقص الإيمان ، لأنّ الرضا بالقضاء والقدر دليل كمال الإيمان أمّا التضجّر والسخط على ما قدّر اللَّه فهو دليل نقص الإيمان ، والمتضجّر يفقد الأجر الذي يناله لو صبر وربّما يلحقه الوزر . قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم :

( عجباً لأَمرِ المُؤمِنِ ! إنَّ أَمرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ - و ليس ذلكَ لأحدٍ إلاّ للمُؤمِنِ - إنْ أَصابَتْهُ سرّاءُ شَكَرَ فكانَ خَيراً لَهُ ، و إنْ أَصابَتهُ ضرّاءُ صَبَرَ فكَانَ خَيراً لَهُ  ) رواه مسلم .

 ما دعاني إلى اختيار هذا الموضوع  ما رأيت من جهل الناس بفوائد المرض  وإن كثيراً من الناس عندما يزور مريضاً مخطراً يقول : يا رب ارحمه أو ريحه ، وهو قولٌ غير مقبول لما روي أن نبيّاً من الأنبياء مرّ برجل قد جهده البلاء فقال: ( يا ربّ أما ترحم هذا ممّا به ، فأوحى اللّه إليه كيف أرحمه ممّا به أرحمه ؟)  

هناك مرضى ممن ابتلوا بأمراض مستعصية ، بلغ بهم اليأس مبلغاً عظيماً فتجد الواحد منهم قد ضعف صبره وكثر جزعه وعظم تسخطه وانفرد به الشيطان يوسوس له يذكره بالمعاصي الماضية   حتى يوقعه في القنوط ، يقول الله : ( إنما النجوى من الشيطان ليحْزُن الذين آمنوا ) المجادلة 10   مع أن المريض لا خوف عليه مادام موحداً ومحافظاً على الصلاة ، حتى ولو لم يصلِّ إلا لما مرض ،  فإن من تاب توبة صادقة قبل الغرغرة تاب الله عليه   ولو وقع في كبائر الذنوب   فإنه يرجى لكل من مات من الموحدين ، ولم يمت على الكفر ، ففي الحديث (من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة) فقال أبو ذر : وإن زنى وإن سرق ، قال : ( وإن زنى وإن سرق ) ويقول صلى الله عليه وسلم : (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل) رواه مسلم   ويقول الله (أنا عند ظن عبدي   فليظن بي ما يشاء)  0فعلى المؤمن أن يصبر على البلاء مهما اشتد ، فعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ، يقول أنس : إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو في الموت فقال : ( كيف تجدك ؟) قال : أرجو رحمة الله يا رسول الله ، وأخاف ذنوبي فقال : (لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وأمنه مما يخاف) فلا تسيء العمل وأنت صحيح ، فلعل الموت يأتي بغتة . والمؤمن يصبر ويرضى بقضاء الله ، فإن عاش لم يحرم الأجر ، وإن مات فإلى رحمة الله ، ويستحب للمريض احتساب المرض ، وأن يصبر عليه ويتحمل وجعه ويشكر الله عز وجل ، ففي مرضه يكتب له أفضل ما كان يعمل من خير في صحّته ، وإن سهر ليلة من مرض أو وجع ، لهو أفضل وأعظم أجراً من عبادة سنة ، وإنّ أنين المؤمن تسبيح وصياحه تهليل ، ونومّه على الفراش عبادة ، وتقلّبه من جنب إلى آخر جهاد ، وإن عوفي مشى وما عليه ذنب ، ومن فوائد المرض : تخويف العبد ، فما ابتلاه الله إلا ليخوفه لعلّه يرجع إلى ربه ، أخرج أبو داود عن عامر مرفوعاً : (إن المؤمن إذا أصابه سقم ثم أعفاه منه كان كفارة لما مضى من ذنوبه وموعظة له فيما يستقبل ، وإن المنافق إذا مرض ثم أعفي كان كالبعير عقله أهله ثم أرسلوه فلم يدر لم عقلوه ولم أرسلوه) 0  

ولولا المرض لما علمنا نعمة الصحة ، ولولا أن الله خلق العذاب والألم لما عرف المتنعمون قدر نعمته عليهم ، بل إن من نعيم أهل الجنة رؤية أهل النار ، وما هم فيه من العذاب ، مع العلم أن كل بلاء يقدر العبد على دفعه ، لا يؤمر بالصبر عليه ، بل يؤمر بإزالته ففي الحديث : ( ليس للمؤمن أن يذل نفسه ) أي يحمل نفسه مالا يطيق . وإنما المحمود الصبر على ألم ليس له حيلة على إزالته ، كما وقد تكون النعمة بلاءً على صاحبها  فإنه يبتلى بالنعماء والبأساء ، وكم من بلاء يكون نعمة على صاحبه ، فرب عبد تكون الخيرة له في الفقر والمرض ، ولو صح بدنه وكثر ماله لبطر وبغى) ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ( فكل نعمة سوى الإيمان وحسن الخلق قد تكون بلاء في حق بعض الناس وتكون أضدادها نعماً في حقهم   فكما أن المعرفة كمال ونعمة ، إلا أنها قد تكون في بعض الأحيان بلاء وفقدها نعمة ، مثل أجل العبد أو جهله بما يضمر له الناس  إذ لو رفع له الستر لطال غمه وحسده . وكم من نعمة يحرص عليها العبد فيها هلاكه ، ولما كانت الآلام والأمراض أدوية للأرواح والأبدان وكانت كمالاً للإنسان  فإن الله ما أمرضه إلا ليشفيه ، وما ابتلاه إلا ليعافيه ، وما أماته إلا ليحييه ، وقد حجب سبحانه أعظم اللذات بأنواع المكاره  وجعلها جسراً موصلاً إليها ، ولهذا فإن النعيم لا يدرك بالنعيم   وإن الراحة لا تنال بالراحة  فإذا أصيب العبد فلا يقل : لم هذا   أو شو اللي أنا عملته ؟ وليعلم العبد أنه ما أصيب إلا بذنب  وفي هذا تبشير وتحذير ، إذا علمنا أن مصائب الدنيا عقوبات لذنوبنا ، أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه) وقال صلى الله عليه وسلم : ( ولا يزال البلاء بالمؤمن في أهله وماله وولده حتى يلقى الله وما عليه خطيئة) فإذا كان للعبد ذنوب ولم يكن له ما يكفرها ، ابتلاه الله بالحزن أو المرض ، وفي هذا بشارة لأن مرارة ساعة في الدنيا أفضل من احتمال المرارة إلى الأبد ، وإن مرارة الدنيا حلاوة الآخرة والعكس بالعكس  ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : ( الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر)  وإذا نزل بالعبد مرض أو مصيبة فحمد الله ، بني له بيت الحمد في الجنة ، فوق ما ينتظره من الثواب ، أخرج الترمذي عن جابر مرفوعاً ( يود الناس يوم القيامة أن جلودهم كانت تقرض بالمقاريض في الدنيا لما يرون من ثواب أهل البلاء ) .

قال المناوي في فيض القدير : " أي يتمنى أهل العافية في الدنيا يوم القيامة قائلين ليت جلودنا كانت قرضت بالمقاريض ولنا الثواب المعطى على البلاء ، مما يرون من ثواب أهل البلاء " وقال بعض العارفين لو كشف للمبتلى عن سر سريان الحكمة في البلاء لم يرض إلا به " وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنـه قـال :

( يكتب أنين المريض فإن كان صابراً كتب حسنات وإن كان جزعاً كتب هلوعاً لا أجر له ) . وعنه صلى الله عليه وسلم قال: ( عجبت من المؤمن وجزعه من السّقم ولو يعلم ما له في السّقم من الثواب لأحبّ أن لا يزال سقيماً حتّى يلقى ربّه عزّ وجلّ) .

 وربما كان المرض رفعة للدرجات  أضف إلى ذلك القرب الخاص للمريض من لله وقد ورد أن عيادة المريض بمنـزلة عيادة الله عز وجل ، لقوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه يقول الله :

( ابن آدم ، عبدي فلان مرض فلم تعده ، أما لو عدته لوجدتني عنده) رواه مسلم ، وذلك كناية عن تقرب العبد إلي الله سبحانه وتعالى وفيه دليل على استحباب عيادة المريض وهي من حقوق المؤمن على أخيه   ولعيادة المريض فضلٌ عظيمٌ جداً   فأيّما مؤمن عاد مؤمناً في الله خاض في الرحمة خوضاً ، فإذا جلس غمرته الرحمة ، فإذا انصرف وكّل الله به سبعين ألف من الملائكة يستغفرون له ويسترحمون عليه ، ويقولون طبت وطابت لك الجنة قال صلى الله عليه وسلم : ( من عاد مريضًا نادى منادٍ من السماء: طِبْتَ وطاب ممشاك، وتبوأْتَ من الجنة منـزلا) الترمذي وابن ماجه.  وبالمرض يعرف صبر العبد ، وقد أثنى الله على أيوب لصبره على ما أصابه من المرض فقال تعالى : ( إنا وجدناه صابراً نعم العبد أنه أواب)  وقد ورد في بعض الآثار ( يا ابن آدم ، البلاء يجمع بيني وبينك ، والعافية تجمع بينك وبين نفسك) 0 ومن فوائد المرض : ظهور أنواع التعبد ، فإن لله على القلوب أنواعاً من العبودية ، كالخشية وتوابعها ، وهذه العبوديات لها أسباب ، فكم من بلية كانت سبباً لاستقامة العبد   وكم من عبد لم يتوجه إلى الله إلا لما فقد صحته    فكان المرض في حقه نعمة ، لأن قلبه يتعلق بالله وحده ، كما أنه علامة على إرادة الله بصاحبه الخير ، وإذا لم يُرِد الله بالعبد خيراً لا يصيب منه ، حتى يوافي ربه يوم القيامة ، ففي مسند أحمد عن أبي هريرة قال : ( مر برسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي أعجبه صحته وجلده ، قال : فدعاه فقال له : متى أحسست بأم لمدم ؟ قال : وما أم لمدم ؟ قال : الحمى ، قال : وأي شيء الحمى ؟ قال : سخنة تكون بين الجلد والعظام ، قال : ما بذلك لي عهد  وفي رواية : ما وجدت هذا قط ، قال : فمتى أحسست بالصداع؟ قال : وأي شيء الصداع ؟ قال : ضربات تكون في الصدغين والرأس ، قال : مالي بذلك عهد   وفي رواية : ما وجدت هذا قط ، قال : فلما قفا ـ أو ولى ـ الأعرابي قال : من سره أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إليه) وإسناده حسن  فالكافر صحيح البدن مريض القلب ، والمؤمن على العكس من ذلك .

وهذا يدل على أن الإصابة بالحمى كفارة للذنوب كما قال صلى الله عليه وسلم وقد دخل على   أم المسيب فقال : مالك يا أم المسيب تزفزفين  قالت : الحمى لا بارك الله فيها ! فقال : لا تسبى الحمى فإنها تذهب خطايا بني آدم كما يذهب الكير خبث الحديد ) رواه مسلم .

وإذا كان للعبد منـزلة في الجنة لم يبلغها بعمله ابتلاه الله في جسده ، أخرج ابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الرجل ليكون له عند الله المنـزلة فما يبلغها بعمل ، فما يزال يبتليه بما يكره حتى يبلغه إياها ) وبالمرض يستخرج الله الشكر من العبد ، فإذا منع الله العبد العافية وردها عليه عرف قدر تلك النعمة ؛ فلهج بشكره  شكر من عرف المرض الذي ذاق آلامه ، لا شكر من عرف وصفه ولم يقاس ألمه ، فكما يقال : أعرف الناس بالآفات أكثرهم آفات ، فإذا نقله ربه من ضيق المرض والفقر والخوف إلى سعة الأمن والعافية والغنى ، فإنه يزداد سروراً وشكراً ومحباً لربه  بحسب معرفته  وليس كحال من ولد في العافية والغنى فلا يشعر بغيره . وربما كان الابتلاء بالمرض طريقا للسلامة ! وكما قيل : فربما صحت الأبدان بالعلل . فكم من مرض دفع الله به أمراضا   وكم من علة كانت السبب في شفاء أمراض أخرى . وكم من محنة في طيها منحة ، ورب علة كانت السبب في الصحة  

ولقد أحسن القائل :

لا تجزعنّ لمكروه تـُصاب به    فقد يؤدّيك نحو الصحة المرضُ

واعلم بأنك عبدٌ لا فكاك لـه  والعبد ليس على مولاه يعترض

قلت في نفسي إن المرض بالنسبة للكبار قد يكون رفعة في المرتبة ، وقد يكون تكفير ذنوب وسيئات عند الله تعالى ، فما بال الصغار ؟ ولكني تذكرت قول الله تعالى : ) لا يسأل عما يفعل وهم يُسألون ( . وعدت ألتمس الحكمة من ذلك  فإن الحكيم سبحانه منـزه عن العبث وهو القائل : ) أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا ( ؟ ، والحكيم لا يفعل فعلاً ولا يأمر بأمر إلا لحكمة بالغة .

 ويُستحبّ بنا أن نساهم في تسلية من نزل به المرض ، بما يخفّف عنه من مرضه فلا نتقاعس عن زيارة أخينا المسلم إذا ألمّ به مرض قال صلى الله عليه وسلم : ( ما من مسلِم يعُودُ مسلماً غُدوَةً إِلاّ صلّى عليه سبعون ألف مَلَكٍ حتّى يُمسي وإن عاده عشيّةً إلاّ صلّى عليه سبعون ألف مَلَكٍ حتى يُصبح ، وكان له خريفٌ في الجنّة ) حديث حسن رواه الترمذي . والخريف : الثمر المخروف أي المجتنى . و قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : ( إنّ المسلم إذا عادَ أخاه المسلم لم يَزَل في خُرفَةِ الجنّة حتّى يرجع قيل : و ما خرفة الجنة ؟ قال: جناها  ) رواه مسلم . تشبيه ما يحصل عليه زائر المريض من الثواب ، بما يحصل عليه الذي يقطف من ثمار الجنة ، لذا يستحب للمريض أن يخبر إخوانه بمرضه ليعودوه .

روي عن أبي عبد الله أنه قال: " ينبغي للمريض منكم أن يخبر إخوانه بمرضه فيعودونه ويؤجر فيهم ويؤجرون فيه ، فقيل: نعم هم يؤجرون فيه لمشيهم إليه وهو كيف يؤجر فيهم ، فقال : باكتسابه لهم الحسنات فيؤجر فيهم فيكتب له بذلك عشر حسنات ويرفع له عشر درجات ويحط عنه عشر سيئات "  

ولعيادة المريض آداب ينبغي مراعاتها ، قال صلى الله عليه وسلم : ( تمام عيادة المريض أن يضع أحدكم يده عليه ويسأله كيف أنت ، كيف أصبحت ، وكيف أمسيت  وتمام تحيتكم المصافحة) . وأن نقول للمريض كما علّمنا رسول صلى الله عليه وسلم : ( لا بأسَ  طَهُورٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ ) رواه البخاري  . طهور : أي مرضك هذا تطهير لنفسك من الذنوب والآثام .  كما ورد ( المرض للمؤمن تطهير ورحمة وللكافر تعذيب ونقمة ) . ويستحب تخفيف الجلوس عند المريض ، إلاّ إذا أحبّ المريض الإطالة وسأل ذلك  كما يستحب للعائد أن يدعو للمريض بالصحة والعافية ، وأن يخبره بالثواب الذي يناله على مرضه ، فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد سلمان الفارسي فلما أراد أن يقوم قال: ( يا سلمان كشف الله ضرك وغفر ذنبك وحفظك في دينك وبدنك إلى منتهى أجلك ) . وأن يدعو الله أن يشفيه ويحمد الله على معافاته من المرض ، ويبشر المريض بالشفاء ويمنحه الأمل والتفاؤل ، ثم يدعو للمريض بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم : ( أذهب البأس ربَّ الناس، اشف وأنت الشافي، لا شفاءَ إلا شفاؤك ، شفاءً لا يغادر سَقَمًا) متفق عليه .

ويستحب أن يطلب من المريض أن يدعو له ، فإن دعاءه يعدل دعاء الملائكة على ما في الروايات : (إذا دخل أحدكم على أخيه عائدا له فليدع له وليطلب منه الدعاء فإن دعاءه مثل دعاء الملائكة) . كما يستحبّ الدعاء للمريض كما علّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال : ( مَنْ عَادَ مَرِيضاً لَمْ يَحْضُرْهُ أَجَلُهُ فَقَال عِنْدَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ : أَسْأَلُ اللَّهَ العَظِيمَ ، رَبَّ العَرْشِ العَظِيمِ  أَنْ يَشْفِيَكَ ، إِلاَّ عَافَاهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ المَرَضِ ) حديث حسن رواه أبو داوود .  وينبغي للمريض أن يحسن الظنّ بالله،  جاء في أمالي الشيخ المفيد أن رجلاً من الأنصار مرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده  فوافقه وهو في الموت، فقال: (كيف تجدك)  قال: أجدني أرجو رحمة ربي وأتخوف من ذنوبي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (ما اجتمعتا في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله رجاءه وآمنه مما يخافه) . ويستحب استصحاب هديّة إلى المريض ، ما لم يكن الإهداء مضرّاً به .

 ويستحب للمريض أن يتصدق كما يستحب أن يتصدق عنه .

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( داووا مرضاكم بالصدقة ) وعنه صلى الله عليه وسلم قال: ( الصدقة تدفع البلاء المبرم فداووا مرضاكم بالصدقة )  

 

 

 

 

هدف المنافقين

 

هدف المنافق تقويض دعائم الإسلام ، و نفث سمومه للتفريق بين المسلمين  والتفنّن في صنع الافتراءات وإثارة الفتن ، وزرع بذور الخلاف بين صفوف المسلمين ، وقصه ومكائد المنافقين ضد المسلمين بقيادة ابن أبي أشهر من أن تعرّف ، ومنافقي اليوم كمنافقي الأمس  فالفكر هو الفكر  والغاية هي الغاية وإن تغيرت الأسماء وتبدلت الوسائل وتعددت المصطلحات التي يستوردونها و يستترون خلفها.

 

لقد عرفت المجتمعات الإنسانية قديما هذه الظاهرة ،ُ وهي ظاهره عامه يعايشها ويلامسها البشر على اختلاف مذاهبهم وانتماءاتهم ، وتختلف بدرجات متفاوتة بين مجتمع وآخر   ويمكن أن تكبر هذه الظاهرة وتنمو بشكل كبير وخطير   لتهدد مستقبل المجتمعات والشعوب وتطيح بإنجازاتها ، إذا ما وجدت البيئة المناسبة لها ، وقد أصبح لهذه الظاهرة ثقافةً تمارسها ، سواء على مستوى الفرد أو الجماعة أو المؤسسات أو الأحزاب أو التجمعات المتنوعة التي تمثل النسيج الاجتماعي والسياسي والأمني والاقتصادي والفكري لأي مجتمع . ويمكن تعريف ظاهرة النفاق هذه ، على أنها وسيله ماكرة وخبيثة يلجأ إليها أصحاب المصالح ، والمنافع الشخصية لتحقيق أهدافهم الضيقة على حساب المصلحة العامة  ولتحقيق مكتسبات ليست حقا لهم وليسو أهلا لها ، ولهم صفات وسمات تبدأ من التلون والاختلاف الكبير ما بين السلوك الداخلي والخارجي ، والتكيف مع تغير المراحل والرموز والأحداث  واستخدام أساليب الغش والخداع والمكر والغدر لتحقيق أهدافهم ، ناهيك عن استخدام وسائل التعالي على الآخرين والتحقير والاستهزاء بهم ، في مرحلة بلوغهم أهدافهم الخبيثة كما يمتازون بالغرور لتعويض نقصهم ، وإخفاء الارتباطات المشبوهة التي يعملون لخدمتها.

 

وتظهر خطورة وتأثير هذه الظاهرة ، في المرحلة التي تتعرض فيها الأمة لاعتداء أو احتلال  ومن هنا اقترن ذكر المنافقين في القران الكريم مع الكافرين ، فكثيراً ما نُخدع في تصرفاتهم عندما نراهم يدّعون أنهم من أهل المنفعة فيخدعون أهل النوايا الحسنة ، ويتظاهرون بما ليس فيهم   ويعظمون أعمالهم القليلة ، ويفتخرون بها ، فينسبون الفضل لأنفسهم ويمجدونها بأعمال قاموا بها أو شاركوا فيها فهم يجيدوا تغطية وجوههم برقة الكلام ، هدَفهم تتبّع الزّلاّت  يفرَحون بكلِّ زلّة ويصطادون كلَّ خطيئة ، ليجسِّدوها ويجعَلوها وسيلةً إلى آرائِهم المضلِّلة وأفكارِهم المنحرفة  حمَانا الله من شرورهم ، وقد بلغ وصف الله لغَيْظ هؤلاء المنافقين   ومزيد بُغضهم وتكالبهم في العداوة للمؤمنين حداً أعلى  فقال: ﴿وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّوا ْعَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ﴾ والمبالغة والبلوغُ إلى هذا الحدِّ لا يكون إلاَّ لالتهاب صدورهم وتسعُّر قلوبهم ، فكثيراً ما نلاحظ من بلغ به الغيظُ إلى عضِّ أنامله ، ولا يكون ذلك إلاَّ لأمر قد بلغ منه إلى غاية  ليس وراءها غاية ، وقد أمر الله رسولَه صلى الله عليه وسلم أنْ يقول لهم:﴿مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ﴾ إنه الأدبَ الإلهي ، والتعليمَ الربَّاني  فلو جئتَ بكلِّ عبارةٍ في الردِّ عليهم لما وجدت جواباً أبلغ ولا أقطعَ لظهورهم ، ولا أنكأ لقلوبهم ولا أخرس لألسنهم من هذا  ، فغاية ما يتأثَّر عن مزيد العداوة هو الغيظ ، فإنْ تعاظمَ وتفاقم وأفرط بصاحبه بلغ به الـموتَ ، فأنت تقول لمن حقد عليك وجاهرك بعداوته من الغيظ: «مُتْ بغيظك» وبهذا الجوابَ يزدادُ غيظًا إلى غيظه ، وبلاءً إلى بلائه ، ومحنةً إلى محنته ، فكانت الثمرةُ التي استفادها من عداوته وما حمله من حسده هو هذا العذاب العظيم والبلاء المُقيم ، ولا يحيقُ المكرُ السيِّءُ إلاَّ بأهله، ولا يرجعُ بغيُه إلا إليه قال تعالى : ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم﴾ يونس 23 ونكثُه يعود إلى نفسه:﴿فَمَن نَّكَثَفَ إِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ﴾  وخداعُه يحلُّ به: ﴿ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم﴾ البقرة: 9 . ثم أخبر سبحانه عباده المؤمنين بأنَّه عليمٌ بما في الصدورُ وما تُخفي القلوبُ  وبيَّن سبحانه لعباده حالَ هؤلاء بأكمل بيانٍ، وأَوضحَه بأتمِّ إيضاح، بحيث لا يبقى بعده رَيْبٌ ، ولا يختلجُ عنده شكٌّ، فقال: ﴿إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا﴾ فجعل سبحانه مجرَّدَ مسِّ الحسنة للمؤمنين موجبًا لـمُساءة المُتخلِّقين بأخلاق المنافقين  ومجرَّدَ إصابة ما يُساءُ به المؤمنون مُقتضيًا لحصول الفرج لهم   وليس بعد هذا من العداوة شيءٌ، فإنَّه النهايةُ التي ليس وراءها نهايةٌ ، والغايةُ التي ليس بعدها غايةٌ.

 

ثم شدَّ سبحانه قلوبَ عباده المؤمنين، وطمَّنَ خواطرَهم، وأثلجَ صدورَهم أنَّهم مع الصبر والتقوى لا ينالُهم ولا يصلُ إليهم ضررٌ البتَّة ، كما يفيدُه قولُه سبحانه: ﴿لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُم ْشَيْئًا﴾، فجاء بلفظ شيء الذي يتناول مثقالَ الذرَّة وما دونه، فضلاً عمَّا فوقه، وليس بعد هذه التسلية الربَّانيَّة والتعزية الرحمانيَّة ، لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمعَ وهو شهيد ففي هذه الألفاظ اليسيرة والكلمات الموجزة أفادتْ ما لم تُفدْه بلاغاتُ البُلغاء ، وفصاحات الفُصحاء ، وإنَّ غاية ما نجدُه من كلامهم في هذا الشأن هو كقول القائل : إن يسمعوا سُبَّةً طارُوا بها فَرَحًا .

 

إن علينا أن نحذر كيد المنافقين ونعتزلهم ، الذين يعيشون على الكذب والخداع ، ويطربون لإيذاء الآخرين ، ولا يحفظون عهدا ، ولا يقيمون وزناً للدين والوفاء في حياتهم ، ولا يرون في الآخرين إلا كل نقيصة ، ولا يسلم من  سهامهم المسمومة أحد ، وكما يقول عمر بن الخطاب : " عليك بإخوان الصدق عش في كنفهم ، فإنهم زينةٌ في الر خاء وعدّةٌ في البلاء  واعتزل المنافقين ، ولا تصحب الفجار فتتعلم من فجورهم ، حتى لو كانت مكاسب الدنيا عندهم ، واحذر صديقك إلا الأمين   ولا أمين إلا من خشي الله ،  وتخشع عند القبور ، وذل عند الطاعة ، واستعصم عند المعصية ، واستشر الذين يخشون الله  .

 

عجباً لقومٍ أمروا بالعمل الصالح ، وعن الدنيا سيرحلون ، ما الذي ينتظرون ؟ ومن آثر دنياه على آخرته فلا دنيا ولا آخرة  والعاقبة للمتقين : { كل نفس ذائقة الموت } . وما أقبل عبد بقلبه على الله عز وجل إلا جعل الله قلوب المؤمنين تفد إليه بالود والرحمة  وكان الله بكل خير إليه أسرع .

 

 

 

حقيقة السحر والتحذير من السحرة

قال الله تعالى : ] يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون [ الحشر18. واحذروا أن تكونوا ممن قال الله فيهم : ] استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أُوْلَئكَ حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون [ المجادلة 19 .

 إن من نواقض الإسلام السحر، ذلكم البلاء المستشري والحقيقة المرة ، داء من أدواء الأمم قديما ، ولسوء آثاره اتهمت به الأنبياء ، وهم منه براء ]كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون [الذاريات52.

وهو مشكلة من مشكلات الزمن حديثا ، وفى عصر التقدم المادي تزداد ظاهرة السحر والشعوذة نفوذا ، وتجرى طقوسه في أكثر شعوب العالم تقدما ، وربما أقيمت له الجمعيات والمعاهد  أو نظمت له المؤتمرات والندوات . والسحر له حقيقة وإذا كان حقيقة فما جزاء الساحر؟ ولماذا يروج السحر في بلاد المسلمين؟ وما حكم الذهاب للسحرة والعرافين؟ وما عقوبة الذاهبين ؟  

أما السحر فيطلق في لغة العرب على كل شيء خفي سببه ولطف ودق ، ولذلك قالوا " أخفى من السحر " . أما تعريفه في الشرع وكما قال ابن قدامه :"عقد ورقى يتكلم به أو يكتبه أو يعمل شيئا يؤثر في بدن المسحور أو قلبه أو عقله من غير مباشرة له . وهو أنواع مختلفة وطرائق متباينة ، ولذا قال الشنقيطي رحمه الله : "اعلم أن السحر لا يمكن حده بحد جامع مانع ، لكثرة الأنواع المختلفة الداخلة تحته ، ولا يتحقق قدر مشترك بينهما يكون جامعا له ، مانعا لغيره ، ومن هنا اختلفت عبارات العلماء في حده اختلافا متباينا " .

ومن السحر: الصرف والعطف، والصرف هو صرف الرجل عما يهوى ، كصرفه مثلا عن محبة زوجته إلى بغضها  والعطف عمل سحري كالصرف ، ولكنه يعطف الرجل عما لا يهواه إلى محبته بطرق شيطانية .

والسحر محرم في جميع شرائع الرسل عليهم السلام وهو أحد نواقض الإسلام  ، حتى قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب : فمن فعله أو رضي به كفر ، والدليل قوله تعالى ك ] وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر [ . وقد دل القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة وأقوال أهل العلم على أن للسحر حقيقة ، كيف لا ؟ والله يقول : ] ومن شر النفاثات في العقد [ ويقول : ] واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر [ البقرة102. ويقول عن موسى عليه السلام : ] يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى فأوجس في نفسه خيفة موسى قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى [ طه 69 .

وفى الحديث المتفق على صحته : عن عائشة رضي الله عنها قالت : (سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم، يخيل إليه أنه يفعل الشىء، وما يفعله .. الحديث ).

قال النووي: " والصحيح أن السحر له حقيقة وبه قطع الجمهور، وعليه عامة العلماء، ويدل عليه الكتاب والسنة الصحيحة المشهورة " . بل قال الخطابى بعد أن أثبت حقيقة السحر، ورد على المنكرين :" فنفي السحر جهل، والرد على من نفاه لغو وفضل " . وإن مكمن الخطر في تعليمه ، والعمل به ، لما في ذلك من الكفر والإشراك بالله من جانب ، وإلحاق الأذى والضرر بعباد الله من جانب آخر قال الله تعالى : ] وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ماله فى الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون [البقرة 102 .

ويبين الشيخ السعدي وجه إدخال السحر في الشرك والكفر فيقول : " السحر يدخل في الشرك من جهتين : من جهة ما فيه من استخدام الشياطين ومن التعلق بهم ، وربما تقرب إليهم بما يحبون ، ليقوموا بخدمته ومطلوبه ، ومن جهة ما فيه من دعوى علم الغيب ، ودعوى مشاركة الله في علمه ، وسلوك الطرق المفضية إلى ذلك ، من شعب الشرك والكفر  " ، ويقول الذهبي : " فترى خلقا كثيرا من الضلال يدخلون في السحر  ويظنون أنه حرام فقط، وما يشعرون أنه الكفر .." ولهذا جاء تحذير المصطفى صلى الله عليه وسلم عن السحر أكيدا شديدا ، وجاء حكم الشريعة في السحرة صارما عدلا . يقول عليه الصلاة والسلام : ( اجتنبوا السبع الموبقات ... فعد منهن: السحر)، والموبقات هي المهلكات .  وفي حديث آخر قال عليه الصلاة والسلام :  ( ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن خمر، وقاطع رحم، ومصدق بالسحر ) . وفي حديث ثالث يبلغ تحذير النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول :  ( ليس منا من تطير أو تطير له ، أو تكهن له ، أو سحر له  ومن أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ) . وفي حكم السحرة وحدهم يقول ابن تيمية رحمه الله : " أكثر العلماء على أن الساحر كافر يجب قتله ، وقد ثبت قتل الساحر عن (عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان ، وحفصة بنت عمر، وعبد الله بن عمر ، وجندب بن عبد الله ... " .

وروى أن عمر بن الخطاب كتب أن اقتلوا كل ساحر وساحرة   فقتلنا ثلاث سواحر ، قال ابن قدامة معلقا على هذا الأثر : " وهذا اشتهر فلم ينكر ، فكان إجماعا " وإنما جاء حكم الشريعة بقتل الساحر لأنه مفسد في الأرض يفرق بين المرء وزوجه   ويؤذي المؤمنين والمؤمنات ويزرع البغضاء ويشيع الرعب   ويفسد على الأسر ودها ، ويقطع على المتوادين حبهم وصفاءهم ، وفي قتله قطع لفساده ، وإراحة البلاد والعباد من خبثه وبلائه ، والله لا يحب المفسدين .

أما لماذا يروج السحر وتكثر السحرة في بلاد المسلمين ؟

 1_ضعف الإيمان في نفوسنا أحيانا ، إذ الإيمان دعامة كبرى ، ووقاية عظمى من كل فتنة وشر ومكروه ] ومن يؤمن بالله يهد قلبه [ التغابن11. وفى الحديث : ( إن الإيمان ليَخلَق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم ) فحين يضعف الرجاء بالله، ويقل الخوف منه ويهتز جانب التوكل على الله ، والرضاء لما قدر ، واليقين بما قسم يتسامح بعض الناس بالذهاب للسحرة والمشعوذين فيزيدهم ذلك وهنا على وهنهم ، وتستلب أموالهم وعقولهم .

2_ الجهل بأحكام الشريعة ، وما جاء فيها من زواجر عن الذهاب إلى هؤلاء السحرة والعرافين، وما ورد في ذلك من ضرر على المعتقد والدين. وهل يذهب إليهم من عرف وقدر قول المصطفى صلى الله عليه وسلم : ( من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة ) الحديث .

أما إن سألهم وصدقهم فالخطب أكبر ، والخطر أعظم ، فقد روى الحاكم بسند صحيح عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من أتى عرفا أو كاهنا فصدقه فيما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ) وعند البزار بسند صحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه موقوفا قال : ( من أتى كاهنا أو ساحرا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم )   

3- سذاجة بعض المسلمين وجهلهم بحال أولئك السحرة والمشعوذين فتراهم يذهبون يستطبون عندهم ، وأولئك لا يملكون من أنواع العلاج إلا ما يضر ولا ينفع ، تخرصات وأوهام وتمتمات وطلاسهم وكتابات وربط تباع بغالي الأثمان   وهي لا تساوي فلسا عند أولي الألباب .

بل ولو ذهبت ترقب أحوال هؤلاء المشعوذين الدينية والخلقية لرأيت العجب العجاب ، ولأيقنت أنهم أحوج الناس إلى العلاج والاستصلاح ، وإن نصّبوا أنفسهم على هيئة الشيوخ وحذاق الأطباء  

4- طغيان الحياة المادية المعاصرة إذ قست له القلوب وجفت ينابيع الخير في أرواح كثير من الناس ، ونتج عن ذلك العقد النفسية والمشكلات الوهمية وارتفاع مؤشر القلق ، وزاد الطين بلة ظن أولئك المرضى أن شفاءهم يتم على أيدي السحرة والمشعوذين ، فراحوا يطرقون أبوابهم ويدفعون أموالهم وينتظرون الشفاء على أيديهم، فكانوا كالمستجير من الرمضاء بالنار .

5- لقد أصبحت بعض بيوت المسلمين مرتعاً للشياطين يقل فيها ذكر الله ، وقلَّ أن يقرأ فيها كتاب الله أو تردد فيها التعاويذ والأوراد الشرعية التي لا يستقر معها الشياطين ، وفي مقابل ذلك تجد هذه البيوت ملأى بأنواع المنكرات المرئي منها والمسموع والصور العارية وغير العارية ، وألوان الكتب والمجلات السيئة ، وقد لا تخلو من مأكول أو مشروب محرم  وهذه البيوت الخربة وإن كان ظاهرها العمران تصبح مأوى للشياطين وتصطاد أهلها وتصيبهم بالأدواء ، فلا يجدون في ظنهم سبيلا للخلاص إلا عن طريق السحر والشعوذة والكهانة   وهكذا يسري الداء ، وكلما ابتعد الناس عن الله ومنهجه عظمت حيرتهم وكثر بلاؤهم ، ووجد شياطين الجن والإنس لدجلهم رواجا .

6- ضعف دور العلماء والمفكرين وأهل التربية في التحذير من السحرة وبيان الأضرار الناجمة عن الذهاب للمشعوذين والعرافين ، وتلك وربي تستحق أن تعقد لها الندوات وأن تسلط عليها الأضواء في وسائل الإعلام المختلفة حتى يتم الوعي ولا يؤخذ الناس بالدجل .

7- عدم تنفيذ حكم الله في السحرة أو ضعف المتابعة لهم  فانتشروا وراج دجلهم وقد يكون من أسباب ذلك عدم الإثبات وضعف تعاون الناس في البلاغ ، إذ من الناس من يقل أو ينعدم خوفه من الله ، فيسعى في الأرض مفسدا إلا أن تردعه قوة أو يخاف الحد ، ومن المعلوم أن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن ، وقد جاء في حديث يصح وقفه – دون رفعه – ( حد الساحر ضربة بالسيف )

 9- استمرار المرض وضيق الصدر وقلة الصبر وضعف الاحتساب للأجر عند الله. وكل ذلك قد يدفع البعض للذهاب لهؤلاء. وإن لم يكن مقتنعا في البداية.

 10- والدعاية الكاذبة سبب للرواج والذهاب لهؤلاء الدجالين   فقد يكتب الله شفاء لمريض على أيدي هؤلاء لتكون له فتنة.

فيطير بالخبر و ينشر في الآفاق الدعوة للذهاب لهؤلاء ليفتن غيره كما فتن ، وبعض الناس لديه القابلية للتصديق لأي خبر دون تمحيص أو نظر في العواقب .

وهكذا يفتن الناس بعضهم بعضا. و يكونون أداة للدعاية الكاذبة الخاسرة من حيث يشعرون أو لا يشعرون؟ هذه بعض الأسباب لرواج السحر و الذهاب للسحرة .   وهناك بعض القنوات الفضائية مهمتها نشر السحر وتعليم السحر وتقريب المسلم للسحرة والكهنة ، ما إن تفتح هذه القنوات إلا وتجد أرقاماً خاصة تناديك بأن تجيبك وتقرأ لك حظك ومستقبلك ومستقبل أمرك وسعادتك وشقاءك وغناك وفقرك إلى غير ذلك من هذه الخرافات والأكاذيب  ، وهي – بلا شك - قنوات شيطانية وقنوات لعينة لا خير فيها ، وقاتل الله من أنشأها وأعدها ، إنها قنوات فيها إفساد للدين والعقيدة ، فلا خير في مشاهدتها والنظر إليها ، فالناظر إليها مرتكب وعيداً شديداً وإثماً عظيماً ، لأنها مبنية على الكذب والأوهام والتخرُّصات والظنون الكاذبة والله يقول ] قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [ 65 النمل .

إن هذه القنوات الخبيثة ، هي عداء للإسلام بنشر هذا السحر والدعوة إلى تعلمه ،  فلا تكن يا أخي المسلم عوناً للشيطان  واتق الله عند النظر إلى هذه القنوات ، فاختر منها ما فيه الخير وابتعد عن السيئ منها ، فهناك قنوات إلحادية تحارب ثوابت الأمة ، وقنوات خليعة تنشر الشر والفساد وتدعو إلى الرذيلة بكل ما أوتيت من إمكانات ، وقنوات سحرية شيطانية لا خير ولا مصلحة للفرد ولا للجماعة فيها ، فاتق الله أيها المسلم وكن حذراً من القنوات التي تروّج للسحر تعلماً وتعليماً  وتدعو إليه وتحبِّب النفوس إليه ، وهذه الأرقام والاتصالات بها يحرم مساعدتهم والتعامل معهم ، ولا يحل لأي جهة كائنة أن تعين أولئك أو تسهل الاتصال بهم ، فإن من سهل الاتصال بهم وأعانهم فهو شريك لهم في الإثم والعدوان ، نسأل الله لنا ولكم الثبات على الحق والاستقامة عليه .

 

 

الإيـثار

الإيثار في أبسط معانيه هو أن تؤثر منافع غيرك على منافعك ، وأن تحب لأخيك كما تحب لنفسك ، بل وأكثر مما تحب لنفسك ، أن تعطي لأخيك مثل أو أكثر مما تعطي لنفسك ، وبتعبير آخر أن تفضل منافع الغير على منافع نفسك رغبة في رضا الله .

وهو خلق وأدب رفيع ، من سمات المؤمنين وخصائصهم الكُبرى ، وصِفاتهِم العُظمى ، وقد أثنى الله على أهل الإيثار، وجعلهم من المفلحين  فقال تعالى : ] ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون [ الحشر 9 . وقال  ( أيما امرئ اشتهى شهوه فرد شهوته وآثر على نفسه غفر له )  وقد مدح الله المؤثرين على أنفسهم تشجيعاً لهم ، لأنه جوهرة فريدة ينشأ عن قوة اليقين ، وتوكيد المحبة والصبر على المشقة ، يجعل المسلم سعيدا طيبا رضيا ، وهو علامة الإيمان ، وسخاء النفس ، وبذل المعروف ، لا يصل إليه إلا مؤمن رفيع الأخلاق ، عالي الهمة ، واسع الأفق ، نقي السريرة ، طاهر القلب ، لا يرى له على أحد فضلاً ، ولا يرى له عند أحد حقاً ، به يزول الشح ، ويُعدم البخل  وينشرح الصدر ، وتزول القسوة والأنانية والتشفي وحب الذات ، به يقدم الإنسان حاجة غيره من الناس على حاجته ، برغم احتياجه لما يبذله ، فقد يجوع ليشبع غيره ويعطش ليروي سواه ، قال صلى الله عليه وسلم  : (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)  متفق عليه . وتقول السيدة عائشة  رضي الله عنها : " ما شبع رسول الله   ثلاثة أيام متوالية حتى فارق الدنيا، ولو شئنا لشبعنا، ولكننا كنا نؤثر على أنفسنا " . وما أجمل أن يتصف الإنسان بالإيثار وحب الآخرين ، انطلق حذيفة العدوي في معركة اليرموك يبحث عن ابن عم له ، ومعه شربة ماء ، وبعد أن وجده جريحًا قال له : أسقيك؟ فأشار إليه بالموافقة وقبل أن يسقيه سمعا رجلا يقول : آه فأشار ابن عم حذيفة إليه ؛ ليذهب بشربة الماء إلى الرجل الذي يتألم فذهب إليه حذيفة ، فوجده هشام بن العاص ، ولما أراد أن يسقيه سمعا رجلا آخر يقول : آه فأشار هشام لينطلق إليه حذيفة بالماء ، فذهب إليه حذيفة فوجده قد مات فرجع بالماء إلى هشام فوجده قد مات ، فرجع إلى ابن عمه فوجده قد مات ،  لقد فضَّل كلُّ واحد منهم أخاه على نفسه، وآثره بشربة ماء .
 جاءت امرأة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم  وأعطته بردة هدية ، فلبسها  وكان محتاجًا إليها ، ورآه أحد أصحابه ، فطلبها منه وقال : يا رسول الله ! ما أحسن هذه ، اكْسُنِيها   فخلعها النبي  وأعطاها إياه ، فقال الصحابة للرجل: ما أحسنتَ ، لبسها النبي   محتاجًا إليها، ثم سألتَه وعلمتَ أنه لا يرد أحدًا ، فقال الرجل: إني والله ما سألتُه لألبسها إنما سألتُه لتكون كفني ) البخاري . واحتفظ الرجل بها فكانت كفنه . وجاء رجل جائع إلى الرسول  وهو في المسجد ، وطلب منه طعامًا ، فأرسل النبي  ليبحث عن طعام في بيته ، فلم يجد إلا الماء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم  : (من يُضيِّف هذا الليلة رحمه الله)  فقال رجل من الأنصار : أنا يا رسول الله ، وأخذ الضيفَ إلى بيته ، ثم قال لامرأته : هل عندك شيء؟ فقالت: لا إلا قوت صبياني فلم يكن عندها إلا طعام قليل يكفي أولادها الصغار فأمرها أن تشغل أولادها عن الطعام وتنومهم ، وعندما يدخل الضيف تطفئ السراج ، وتقدم كل ما عندها من طعام للضيف ، ووضع الأنصاري الطعام للضيف  وجلس معه في الظلام حتى يشعره أنه يأكل معه ، وأكل الضيف حتى شبع ، وبات الرجل وزوجته وأولادهما جائعين  وفي الصباح ذهب الرجلُ وضيفه إلى النبي صلى الله عليه وسلم  فقال للرجل: (قد عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة) مسلم .   وفيهم قالالله تعالى : ] ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة [   والخصاصة: شدة الحاجة .

اجتمع عند أبي الحسن الأنطاكي أكثر من ثلاثين رجلا ومعهم أرغفة قليلة لا تكفيهم ، فقطعوا الأرغفة قطعًا صغيرة ، وأطفئوا المصباح ، وجلسوا للأكل ، فلما رفعت السفرة ، فإذا الأرغفة كما هي لم ينقص منها شيء ؛ لأن كل واحد منهم آثر أخاه بالطعام وفضله على نفسه ، فلم يأكلوا جميعًا .
 
 فانظر يا أخي إذا كنت ممن يسهل عليهم العطاء ولا يؤلمهم البذل فأنت سَخِي، وإن كنتَ ممن يعطون الأكثر ويُبقون لأنفسهم فأنت جواد ، أما إن كنت ممن يعطون الآخرين مع حاجتك إلى ما أعطيت ، لكنك قدمت غيرك على نفسك فقد وصلت إلى مرتبة الإيثار.

وكما أن الإيثار يطهر النفس من الشح والبخل ، فإنه يؤدي إلى السخاء والجود ، اللتان من اتصف بهما أحبه الله وأحبه الناس ، والإيثار والسخاء من أحسن الخصال وهما من أعلى المراتب ، لما فيهما من توكيد المحبة   والصبر على المشقة ، مع الرغبة في الأجر والثواب .

ومن مراتب الإيثار ، إيثارُ رضا الله على رضا غيره وإن عظمت فيه المحن ، وثقلت فيه المؤن ، وهو أن يفعل ما فيه مرضاته ، ولو أغضب الخلْق ، وهي درجة الأنبياء وأعلاها لِلرسل عليهم صلوات الله وسلامه. وأعلاها لأولي العزم منهم، وأعلاها لنبينا  ، فإنه قاومَ العالم كُله وتجرد للدعوة إلى الله ، واحتمل عداوة البعيد والقريب في الله تعالى، وآثر رضا الله على رضا الخلق في كل حال  ولم يأخذه في إيثار رضاه لومةُ لائم ،  بل كان همُّه وعزْمُه وسعيه كله مقصورًا على إيثار مرضاة الله وتبليغ رسالته وإعلاء كلمته، وجهاد أعدائه؛ حتى ظهر دين الله على كل دين، وقامت حجته على العالمين، وتمت نعمتُهُ على المؤمنين، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة ، وجاهد في الله حق جهاد، وعبد الله حتى أتاه اليقين من ربه، فلم ينل أحدٌ من درجةِ هذا الإيثار ما نالَ ، صلوات الله وسلامه عليه .

وقد جرت سنة الله التي لا تبديل لها ، أن من آثر مرضاة الخلق على مرضاته : أن يُسخط عليه من آثر رضاه ويخذُله من جهته ، ويجعل محنته على يديه ، فيعود حامدُهُ ذامًّا، ومن آثر  مرضاته ساخطًا، فلا على مقصوده منهم حصل، ولا إلى ثواب مرضاة ربه وصل ، وهذا أعجز الخلقِ وأحمقهم . قال الشافعي رحمه الله : " رضا الناس غايةٌ لا تدرك فعليك بما فيه صلاحُ نفسك فالزمهُ"  ومعلومٌ أن لا صلاح للنفس إلا بإيثار رضا ربها ومولاها على غيره ولقد أحسن من قال :

فليتك تحلُو والحياةُ مريرَةٌ   وليتك ترضى والأنامُ غِضَابُ

وليت الذي بيني وبينك عامرٌ   وبيني وبين العـالمين خرابُ

إذا صحَّ منك الودُّ فالكّلُّ هينٌ   وكل الذي فوق التراب تراب

وقال بعض الحكماء : عامل سائر الناس بالإنصاف وعامل المؤمنين بالإيثار ، وقال بعضهم : بالإيثار تملك الرقاب ، وقيل من آثر على نفسه استحق الفضيلة ، وقال حكيم : من آثر على نفسه بالغ في المروءة ، وسئل بعض الحكماء : من أجود الناس ؟ قال : من جاء من قلة  وصان وجه السائل عن المذلة . وقال علي رضي الله عنه : الإيثار أعلى الإيمان ، ولو لم يكن من فوائده إلا أنه دليل كمال الإيمان وحسن الإسلام ، ورفعة الأخلاق لكفى  فكيف وهو طريق إلى محبة الله سبحانه ، وحصول الألفة بين الناس ، وطريق لجلب البركة والوقاية من الشُّحِّ  

فهو يحرك في النفس السلوك الإيجابي ، الذي يوطد المحبة بين المسلمين روى أن قيس بن سعد بن عبادة كان من الأجواد المعروفين ، حتى مرض مرّة ، فاستبطأ إخوانه في العيادة ، فسأل عنهم ، فقالوا إنهم يستحيون مما لك عليهم من الدين ، فقال أخزى الله مالاً يمنع الإخوان من الزيارة ، ثم أمر منادياً ينادي : من كان لقيس عليه مال فهو منه في حل ، فما أمسى حتى كُسرت عتبة بابه لكثرة من عاده .

ما أجدر المسلمين أن يتخلقوا بخلق الإيثار رمز الأخوة الإسلامية ، وصورة من صور التكافل والتضامن الإسلامي .  

وأفضل الناس من بين الورى رجلٌ   تقضي على يده للناس حاجاتُ

قد مات قومٌ وما ماتت مكارمهم   وعاش قومٌ وهم في الناس أمواتُ

فمن عرف حق الله سعى لرضاه وآثر محبته على محبة ما سواه ،  ومن عرف حق رسوله  آثر محبته وطاعته على كل ما يحب ، ومن عرف حق الوالدين آثر راحتهم وطاعتهم على راحته ، ومن عرف حقوق الإخوان آثر إسعادهم وقضاء حوائجهم على حوائج نفسه, ومن عرف حقوق المجتمع سعى ليكون لبنة صالحة فيه, وتعاون مع أفراده على البر والتقوى ، وهذه كلها لابد أن يكون دافعها الإيمان بالله عز وجل ، والرغبة في ثوابه وصدق المحبة والمودة ، فمتى صدق المرء في محبته وأخلص في مودته   فإنه يؤثر من أحبه بالخير على نفسه ، وهو ما عناه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) .

  

 

 

 

اختيار الإداري الكفء

 

إن نجاح أي مهنة يرتبط بالسمات الشخصية لمؤسسها ، لأنها تلعب دورا رئيسا في نجاحه ، وحتى يحقق هذا النجاح ، فلا بد أن يمتلك المهارات التي تجعله قادرا اتخاذ القرارات وصياغة الأهداف ، ووضعها موضع التنفيذ بكفاءة ، وهذا بحاجة ماسة إلى المهارات الشخصية ، التي تعتبر من العوامل الرئيسية والهامة  في نجاح الفرد في الحياة العملية والوظيفية؛ وهيلا تقل أهمية عن العوامل المهنية والتخصصية ، بل قد تتفوق عليها، وأذكر منها على سبيل المثال لا الحصر   تنمية وتطوير مهارات الاتصال والتفاعل مع الآخرين ، واللباقة وحسن الأداء والأمانة في العمل ، ومراقبة الله سبحانه وتعالى في السر والعلن ، والإصراروالعزيمة على تطوير النفس وتنمية القدرات، وحسن تقدير الأمور وعواقبها ، واختيار الرجل المناسب في المكان المناسب ، بالنظر إلى المؤهلات العلمية أو الفنية ، وخاصة في المجالات العلمية والقطاعات الإنتاجية ، وأن يتم الاختيار على أساس الكفاءة والقدرة العلمية ، لأن نجاح أي مهنة وتطورها ، رهينة بالاختيار السليم لكوادرها وقياداتها  .

 

وقد حث الإسلام على انتقاء ذوي الكفاءات ،فمن العدل أن تجعل العالم  بالحساب محاسباً ، والمتأهل للإدارة مديراً  ، ومن الظلم أن تجعل الجاهل معلماً ، والضعيف في الإدارة مديراً ، بل يجب أن يختار الرجل المناسب للمكان المناسب  ولكل عمل من هو أصلح له .

 

وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم من علامات انتظار الساعة أن يوسد الأمر إلى  غير أهله ، وذلك تضييع للأمانة كما في الصحيح وغيره ، فالنجاح بصفة عامة يكمن في تكوين المجتمع على أساس الكفايات ، لا على أساسا  لمحسوبيات أو العصبيات أو الاعتبارات الأخرى ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : ( بعث النبي صلى الله عليه وسلم بعثاً وأمّر عليهم أسامة بن زيد ، فطعن بعض الناس في إمارته ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه منقبل ، وأيْم الله إن كان لخليقاً للإمارة .. البخاري .  ولما كان  التوظيف في الإسلام مبنيٌ على وضع الرجل المناسب في المكان المناسب ، حذر الشرع من تخطي هذه القاعدة ، واعتبر تجاوزها خيانة للأمة وغشاً للمجتمع ، وفتحاً لباب الضعف الإداري ، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :  (من ولى على عصابة رجلاً ، وهو يجد من هو أرضى لله منه  فقد خان الله ورسوله والمؤمنين)أخرجه الحاكم ،  فدل هذا الحديث على أن الوظائف في الدولة الإسلامية تقتضي شروطاً تجب مراعاتها في وضع الرجل المناسب في مكانته المناسبة ، مع مواهبه ومؤهلاته دفعاً لعجلة التقدم ، ورقياً بالأمة إلى مرتبة النجاح   وإرضاءً لله عز وجل ، وفي الإخلال بذلك بتولية من يكون أقل صلاحاً من ذاك ، أو تولية من لا يصلح أصلاً لأسباب خارجية ، كالعصبية والقرابة أو بسبب رشوة ونحو ذلك ، فإن هذا خيانة لله تعالى وللأمة 

 

 وقد جاء الهدي النبوي فرسخ هذه القاعدة ، فقد صرف النبي صلى الله عليه وسلم أبا ذر الغفاري   رضي الله عنه عن الولاية والإمارة حين طلب ذلك ، وقال له : ( يا أبا ذر إنك ضعيف ،وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأعطى الذي عليه فيها )مسلم ، وهكذا رأى النبي صلى الله عليه وسلم أن أبا ذر الغفاري لم تكن مواهبه الإدارية مؤهلة له لمرتبة الإمارة وسياسة الناس ، واعتبره ضعيفاً في هذا المجال ، فصرفه عن طلبه هذا مع محبته صلى الله عليه وسلم له ، وتزكيتهله بأنه أصدق الناس لهجة ،  وقد كان من هديه صلى الله عليه وسلم أن يختار للقضاء أناساً ، ولجمع أموال الزكاة أناساً ولقيادة السرايا والحملات العسكرية آخرين ، مراعياً في ذلك كله مؤهلاتهم ومواهبهم سيرة الرسول  صلى الله عليه وسلم حافلة بالشواهد على ذلك  . 

 

فلا يصلح المجتمع إلا بوضع الشخص المناسب في المكان المناسب، أما إذا وُسَّد الأمر  إلى غير أهله فقد ضُيَّعت الأمانة وقرُبت الساعة ، والدارس لتعاليم الإسلام وسيرة الأنبياء يجد أن التصدي لإدارة شؤون الأمة وفق مناهج الدين ، واجب شرعي ومسؤولية دينية ، فكان كل نبي أو رسول يبعثه الله سبحانه وتعالى هو مشروع قيادة وحكم للناس يقول تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ النساء الآية 64 . فقال على لسان موسى : { واحلل عقدة من لساني  يفقهوا قولي ، واجعل لي وزيراً من أهلي ، هارون أخي } طه 27  

 

كان موسى لديه رُتّه في لسانه ، أي يعجل في كلامه فلا يطاوعه لسانه   فطلب من ربه أن يجعل له وزيرا ناصحاً أميناً ، يكمل ما فيه من نقص بأخيه  ليعينه على تبليغ الرسالة ، ويقال إن هارون كان يمتاز على موسى في أمور أخرى ، فكان في لين وحلم ، وكان موسى حاداً سريع الغضب .

 

وقال تعالى على لسان نبيه يوسف  عليه السلام : ﴿قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ، وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ﴾ يوسف 55.

 

يوسف عليه السلام لم يطلب ولاية ، وإنما طلب الإصلاح ليتخذ من إصلاحه سبيلاً لدعوته ، وتحقيقاً لرسالته  فقد طلب الولاية لنفسه ، لثقته في إنجاح المهمة  كما أنه بذلك حجب من ليس له خبرة ، أن يتولى منصبا لا يعلم إدارته . كما يفهم من الآية ، أن يوسف جعل لنفسه بيتاً في أكثر من مكان ، وأنه حين أقام لنفسه بيتاً في أكثر من مكان ، فقد أحسن إلى أهل الأمكنة التي له فيها بيوت ، بارتفاع مستوى الخدمة لأجل بيته .

 

وقال عزّ من قائل على لسان نبيه سليمان  عليه السلام : ﴿قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي....﴾ ص 35 . وقال عزّ وجلّ على لسان نبيه إبراهيم  عليه السلام : ﴿رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ الشعراء 83 . وقد تكررت في سورة الشعراء آية ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ﴾ على لسان خمسة أنبياء هم نوح، وهود، وصالح، ولوط وشعيب  عليه السلام ، حين كانوا يدعون الناس إلى طاعتهم، وكانوا هم  عليهم السلام يرشحون أنفسهم للسلطة وإدارة شؤون الأمة .

 

 

 

التطاول في البنيان

من علامات الساعة التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومازالت ظاهرة، بل هي في ازدياد: التطاول في البنيان  وذلك بأن يبني الناس العمارات الشاهقة، مع عدم حاجتهم إليها، وقد خص النبي صلى الله عليه وسلم صنفاً من الناس ممن يتولون ذلك التطاول ، وشدَّد في ذلك، وبين حال هؤلاء الذين يبنون من غير حاجة، لأن الأمر أسرع مما يؤملون  وأن الذي يبني ما لا حاجة له فيه ، فإنه سيحمل ما بناه على كتفيه يوم القيامة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان، تكون بينهما مقتلة عظيمة، دعوتهما واحدة  وحتى يُبعث دجّالون كذّابون قريبٌ من ثلاثين، كلُّهم يزعم أنه رسول الله، وحتى يُقبض العلمُ، وتكثر الزلازل  ويتقارب الزمان، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج- وهو القتل ـ وحتى يكثر فيكم المال فيقبض حتى يُهمَّ ربَّ المال من يقبل صدقته ، وحتى يعرضه فيقول الذي يعرضه عليه: لا أربَ لي به، وحتى يتطاول الناسُ في البنيان.. " الحديث بطوله رواه البخاري .

وقد خص النبي صلى الله عليه وسلم الذين يتطاولون في البنيان أنهم رعاة الإبل والغنم ، فقد جاء في آخر الحديث في قصة جبريل عليه السلام عن الإسلام والإيمان والإحسان قوله صلى الله عليه وسلم : ( وإذا كانت العُراةُ الحفاةُ رؤوسَ الناس فذالك من أشراطها، وإذا تطاول رعاء البهم ( وعند البخاري : رُعاة الإبل البهم ) في البنيان فذالك من أشراطها .." الحديث بطوله، متفق عليه .

وفي رواية مسلم قول جبريل عليه السلام: فأخبرني عن الساعة؟ قال صلى الله عليه وسلم :( ما المسؤولُ عنها بأعلمَ من السائل ) قال: فأخبرني عن أمارتها ؟ قال: ( أن تلد الأمةُ ربَّتها  وأن ترى الحُفاة العُراةَ، العالةَ رِعاء الشاء، يتطاولون في البنيان ) والتطاول ـ تفاعل ـ أي يتفاخرون في تطويل البنيان، ويتكاثرون به ، وفي الحديث إخبار ـ كما يرى الإمام القرطبي عن تغير الأحوال، واستيلاء أهل البادية على أهل الحاضرة، واتساعهم في حطام الدنيا، وانصراف هممهم إلى تشييد المباني ، ذلك لأن الإنسان يؤجر في نفقته كلها إذا خلص عمله، إلا ما كان في البناء ما لم يكن في مصلحة أو حاجة ، فعن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم : ( إن العبد ليؤجر في نفقته كلَّها  إلا في التراب، أو قال: في البناء ) رواه الترمذي وصححه، وابن ماجه والطبراني، وجوَّده الحافظ العراقي، ورواه البخاري موقوفاً ، والسبب في ذلك ـ والله تعالى أعلم ـ أن الإنسان لن يُعمّر في هذه الدنيا، وأنه ليس له من ماله إلا ما كان في حاجة أو في وجوه الخير، لذا لو أنه وضع ماله فيما ينفع المسلمين لكان خيراً له، أما إذا جعله في البناء فقد جمّد المال، واقتصر النفع على شخصه  ولم ينتفع المسلمون بما جّمِّد من هذا المال ، ثم إن الواقع الاقتصادي للمباني العالية يبقى محط تساؤل كبير ، سباق على بناء أطول الأبراج في دول الخليج وتساؤلات عن جدواها وجماليتها وتأثيرها البيئي . ترتسم ملامح معركة شرسة بين دول الخليج الغنية بالنفط ، لتشييد أعلى مبنى في العالم، خصوصاً بعد الإعلان عن تشييد برج يتجاوز ارتفاعه 1600 متر، متخطياً بذلك كل الحدود النفسية والهندسية . وقد تناسوا أن الإسلام اهتم ببناء الإنسان قبل بناء البنيان ، ووضع لذلك منهجاً عمرانيا للبناء بقدر الحاجة ، وذم التباهي والتفاخر بطول البنيان وزخرفته   سواء كان ذلك بالنسبة للمساكن أو حتى بالنسبة للمساجد ، ثم إن القضية ليست قضية قباب أو زخارف أو أشكال أو أطوال ، بل هي قضية المجتمع الإسلامي الذي يعاني من تكالب دول الكفر ، وقضية البعد عن منهج الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم .   

 لما بنى عبد الرحمن الناصر مدينة الزهراء في الأندلس   تفنن في بنائها وجعلها من أعاجيب مدن العالم ، وكان مما بناه فيها الصرح الممرد ، اتخذ لقبته قراميد من ذهب وفضة ، حيى أنفق عليها من خزينة الدولة مالاً عظيما وكان في قرطبة عالمها الفقيه الجريء منذر بن سعيد قاضي الجماعة ، فهاله انهماك الناصر في بناء الزهراء ، وما أنفقه من أموال الدولة عليها ، وكان الناصر يحضر صلاة الجمعة في المسجد الجامع ، ويستمع إلى خطبة قاضيه منذر الذي بدأ خطبة الجمعة في تقريع الناصر على إنفاقه الأموال في بناء الزهراء أن تلا قول الله تعالى : ] أتبنون بكل ريعٍ آية تعبثون ، وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون ، وإذا بطشتم بطشتم جبارين ، فاتقوا الله وأطيعون   واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون ، أمدكم بأنعامٍ وبنين   وجناتٍ وعيون ، إني أخاف عليكم عذاب يومٍ عظيم [ الشعراء 128 . ثم وصل ذلك بقوله تعالى : ] متاع الدنيا قليل والآخرة خيرٌ لمن اتقى [ النساء . ثم مضى في ذم الإسراف على البناء بكلام جزل وقول شديد ثم تلا قوله تعالى: ] أَفَمَنْأَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍخَيْرٌ أَممَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِجَهَنَّمَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [ التوبه 109 . وتابع يذم تشييد البنيان والإسراف في الإنفاق عليه ، حتى خشع القوم وبكوا وضجوا ، ثم التفت إلى الناصر وقال له : " ما ظننت أن الشيطان أخزاه الله يبلغ بك هذا المبلغ ولا أن تمكنه من قيادتك هذا التمكين ، مع ما آتاك الله وفضلك به على العالمين ، حتى أنزلك منازل الكافرين ، فاقشعرّ الناصر من قوله وقال : انظر ما تقول ؟ كيف أنزلتني منازلهم ؟ قال : نعم ، أليس الله يقول : ] ولولا أن يكون الناس امة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج عليها يظهرون ، ولبيوتهم أبواباً وسرراً عليها يتكئون [ الزخرف 33 . فوجم الخليفة ونكّس رأسه ملياً ودموعه تجري على لحيته خشوعاً لله وندماً على ما فعل ، ثم قال لقاضيه منذر بعد انتهاء الصلاة جزاك الله عنا وعن المسلمين كل خير فالذي قلت والله هو الحق ، وقام من مجلسه وهو يستغفر الله ، وأمر بأن ينقض سقف القبة ، وأن تكون قراميدها ترابا . موقف يشعرنا بأن سرّ عظمة الأمة يكمن في وفائها للحق مع من تحب من ولاة الأمر ، فلا تبخل بتأييدهم حين يصيبون ولا تتردد عن نصيحتهم يوم يخطئون ، حتى إذا تخلت الأمة عن هذا الخلق ، آذن مجدها بالانهيار وكرامتها بالضياع والامتهان .        

واضح من قوله تعالى :] أتبنون بكل ريع آية تعبثون [ أن الله ينكر الترف في البنيان لمجرد التباهي بالمقدرة   والإعلان عن الثراء ، والاستطالة في البناء ، وينكر الغرور بما يقدر عليه الإنسان في هذه الدنيا ، وما يسخر فيها من القوى ، والغفلة عن تقوى الله ورقابته ، وفي قوله ] فاتقوا الله وأطيعون [ تذكير لهم ليتذكروا فيشكروا  ويخشوا أن يسلبهم ما أعطاهم وأن يعاقبهم على ما أسرفوا . وقد استوقفتني هذه الآية وما بعدها ، لما فيها من عبرة ونقد وتوجيه : إنها افتتاح الانتقادات التي وجهها هود - عليه السلام - إلى قومه عاد بعد أن دعاهم إلى الله، وأمرهم بطاعته ، وقد انتقد عبثهم بالبنيان، والعبث بالبنيان: تشييده لمجرد التباهي بالقدرة عليه، قدرة جسمية في بنائه، وعقلية في تصميمه وهندسته، ومالية في الإنفاق عليه، إنه بناء لغير نفع  وفي هذا الانتقاد توجيه إلى أن الجهد والبراعة وإنفاق المال إنما يكون في البناء الضروري المثمر ، والذي فيه الخير والصلاح للإسلام والمسلمين ، والسداد في الدين والدنيا. والآية نزلت في قوم عاد ، فما هو نصيبنا منها ؟ لبيان ذلك انقل أثرين من آثار سلفنا الصالح : الأول: عن مجاهد بن جبر حيث قال:«ليس احد أشبه فِعالاً بعاد من امة محمد صلى الله عليه وسلم وتلا قوله تعالى : ] أتبنون بكل ريع آية تعبثون [  فقد والله فعلوا. أخرجه ابن أبي حاتم في  تفسيره /2794.

والثاني: ما أخرجه ابن أبي حاتم - أيضا - في تفسيره عن عون بن عبد الله بن عتبة، أن أبا الدرداء رضي الله عنه لما رأى ما احدث المسلمون في الغوطة من البنيان، ونصب الشجر قام في مسجدهم، فنادى : يا أهل دمشق! فاجتمعوا إليه   فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: ألا تستحيون ألا تستحيون، تجمعون ما لا تأكلون، وتبنون ما لا تسكنون  وتؤملون ما لا تدركون ، قد كانت قبلكم قرون يجمعون فيوعون، ويبنون فيوثقون، ويأملون فيطيلون، فأصبح أملهم غروراً، وأصبح جمعهم بوراً، وأصبحت مساكنهم قبوراً . ففي هذين الأثرين ما يغني عن التوسع في التعليق عما نعايشه هذه الأيام من البناء للتباهي لا للسكن، ابتداء من التنافس على شراء الأرض، من غير حاجة ونسيان الزكاة بل البعض من لا يفكر في زكاة ماله بالكلية

أنا لا أقصد إنكار البناء، فهذا لا يقوله احد، إنما أريد أن أوضح ما جاء به دين الإسلام في قضية البناء : فقد أجمع علماء المسلمين على انه يلزم كل امرئ تحصيل مسكن له  ولمن تلزمه نفقته فمن حصل مسكناً له ولأهله، ببناء بيت  أو اكترائه، فقد سلم من الإثم.

كما رغّب الاسلام في سعة البيوت بكبر مساحتها، حيث صحَّ عن النبي  صلى الله عليه وسلم إن من سعادة المرء المسكن الواسع وان المسكن الضيق من الشقاء .

وللإسلام موقف واضح من المساكن التي شيدت على أساس التفاخر والتباهي ، فليس لمن بنى بيتاً من غير حاجة، أو فوق ما يحتاجه، اجر، لما في الصحيحين عن خباب بن الأرت رضي الله عنه انه قال وهو يبني حائطاً له «إن المرء المسلم يؤجر في نفقته كلها، إلا في شيء يجعله في التراب» ورواه الترمذي مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قوله .

ومعنى في التراب أي البنيان الذي لم يقصد به وجه الله وقد زاد على ما يحتاجه لنفسه وعياله على الوجه اللائق.

وقد اخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن حال الذين يبنون للمباهاة بما يردع غرورهم وتعاظمهم، ففي حديث عمر بن الخطاب  رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم اخبر عن علامات الساعة فقال: ( وان ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان ) .قال الحافظ ابن رجب في جامع العلوم والحكم «1/137» والمراد: أن أسافل الناس يصيرون رؤساءهم وتكثر أموالهم ، حتى يتباهون بطول البنيان وزخرفته واتقانه ، والله أعلم .

        

 

 

 

 

 

 

 

 

التخطيط للمستقبل

إن الإسلام يربي المسلم على النظر دائماً نحو الأمام ، فمنذ البلوغ على أن يلقى الله سبحانه ، يتطلع نحو المستقبل ، بل يجعله حكماً في حاضره ، وهناك نصوص تتحدث عن المستقبل ، وهذه النصوص منها ما يقدم الإطار العام كقوله تعالى ] إن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم [ الرعد 11 . ومنها ما يقدم بعض التفصيلات كإخباره صلى الله عليه وسلم عن الفئة التي ستأتي من قبل المشرق  وإخباره عن فشو الأمراض الغريبة في الذين تفشو فيهم الفاحشة   وقد أوجدت معرفة السنن عند السلف حسّاً خاصاً بالتعامل مع الواقع من خلال إفرازاته المستقبلية   فهذا أبو بكر يقول " لا تغبطوا الأحياء إلا على ما تغبطون عليه الأموات ، وهذا عمر يأتيه خبر فتح خراسان فيقول للناس في المدينة " لا تبدلوا ولا تغيروا فيستبدل الله بكم غيركم ، فإني لا أخاف على هذه الأمة إلا أن تؤتى من قبلكم " الطبري 4- 173 . ولما جاءوا إليه بغنائم جلولاء فرأى ياقوتة وجوهرة فبكى ، فقال له عبد الرحمن بن عوف ما يبكيك يا أمير المؤمنين وهذا موطن شكر ؟ فيقول عمر : " والله ما ذاك يبكيني ، وتا الله ما أعطى الله هذا أقواماً إلا تحاسدوا وتباغضوا ، ولا تحاسدوا إلا ألقى الله بأسهم بينهم " الطبري 4-30 . وقد كان ما خافه . وقديماً قيل : لا مستقبل بلا عمل ولا حلم بلا أمل

إن النجاح مطلب يسعى إليه كل إنسان ، ولا يسعى للنجاح من لا يملك طموحاً، ولذلك كان الطموح هو الكنـز الذي لا يفنى ، فهذا عمر بن عبد العزيز يقول معبراً عن طموحه : " إن لي نفساً تواقة ، تمنت الإمارة فنالتها  وتمنت الخلافة فنالتها ، وأنا الآن أتوق إلى الجنة ، وأرجو أن أنالها " . فالنجاح عمل وجد   وتضحية وصبر، ومن منح طموحه صبراً وعملاً وجداً  حقق نجاحاً ، ومن جدّ وجد ومن زرع حصد.

ومن الطموح التطلع لمستقبل أفضل ، لأن المستقبل يُصنع في الحاضر، ومع أن المستقبل بيد الله ، إلا أن للإنسان دور في تحقيقه قال تعالى: ﴿وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يُرى

بعض الدعاة يكادون يلغون النظرة إلى المستقبل  ويعيشون على الماضي والدوران في ساقيته ، دون اهتمام كافٍ بمشكلات اليوم ، وتطلعات الغد ، شعارهم : ما ترك الأول للآخر شيئا ، وليس في الإمكان أبدع مما كان   متناسين أن الواجب يفرض علينا أن نكون عدولاً بين أمسنا ويومنا وغدنا ، نقتبس من الأمس ونعمل لليوم ونستعد للغد ، وقد قص القرآن علينا من أنباء الرسل والصالحين ما فيه عبرة لأولي الألباب ، في مواجهة احتمالات المستقبل ، قص علينا كيف أنقذ الله على يد يوسف عليه السلام مصر وما حولها من أزمة غذائية  خطط لها أحسن تخطيط لمدة خمسة عشر عاما ، وكان مما علمه الله ليوسف ، وقصة ذي القرنين الذي بنى سده العظيم ، ليقف حاجزاً ، ضد هجمات قبائل يأجوج ومأجوج ، فكان بناء السد من المشروعات الأمنية المستقبلية لمواجهة احتمالات الغد ، وهذا الرسول صلى الله عليه وسلم حين كان يعرض دعوته على قبائل العرب في مواسم الحجيج بمكة ، يطلب منهم الإيمان به ، والنصرة له  كان يفكر في مستقبل دعوته ، وكان الصحابة والخلفاء الراشدون من بعده ، يحسبون حساب المستقبل .  

فالوصول إلي المراد يتم بالعمل والاجتهاد ، ومغالبة الواقع   وان كان الهدف يبدو بعيدا ، فان الله لا يضيع أجر العاملين ، وقيل : لكل مجتهد نصيب. قال الشاعر :

بقدر الكد تكتسب المعالي  ومن طلب العلا سهر الليالي
ومن طلب العلا من غير كد   أضاع العمر في طلب المحال
 فالإنسان مجبول على التطلع للمستقبل ، على أن لا يكون هروباً من الحاضر، ولا تجاوزاً للسنن الربانية ولكنه الأمل الذي يدفع إلى العمل .

 والراشدون من أمة الإسلام ، كانوا يَعُدون النظر في المستقبل وتوقع أحداثه ، من الأسباب التي جاءت بها الشريعة ، كان عمر رضي الله عنه محدثاً ملهماً قلما قال لشيء : أظنه كذا ، إلا كان كما قال ، وكان يقول : تفاءل بما تهوى يكن فلقلما  يقال لشيء كان إلا تحققا

وهذا هو التفاؤل الإيجابي الحذر، وليس التمنيات العريضة الفارغة ، وقد استقبلت أنفسهم خبر الصدق عن هذا الدين وأهله ، وما سيقع له من التفوق والانتشار، وما سيطرأ عليه من النقص والخلل والفتنة ، حتى الموعودون بالجنة تبشيراً صادقاً ، لم يعن هذا لهم خروجاً على قانون الشريعة، ولا تنصلاً من الأمر والنهي، ولولا ما علم الله عنهم من الثبات على دينه ومحاذرة التجاوز ، ما كانوا أهلاً لذلك الوعد الكريم.

 

 

 

ومن الخلل المصاحب لهذا الضرب في الحياة الإسلامية المعاصرة ، اعتبار ضمان المستقبل لهذا الدين، ولذلك أخلدت الأمة للقعود والتواكل ومضغ الحديث ، مكتفين

بأن دين الله منصور، بينما هو منصور بجهود مباركة زكت فيها النية وحالفها الصواب، وقرأت المعطيات وتذرعت بالأسباب ،، وفي مثل هذه الحال يغدو التفريط والتساهل في دراسة المستقبل واحتمالاته ، تفريطاً في الضروريات وغفلة عما أوجب الله على العباد ، من التدبر والنظر والتخطيط ، ولعل من أثر ذلك الانشغالات الجزئية بالهموم الخاصة عن هم الأمة الكبير .

  

 

وما علموا أن النجاح في الحياة ما هو إلا ثمرة من ثمار التخطيط الناجح ، أما الفشل فيعود لغياب التخطيط للمستقبل ، ومشكلة الأمة تكمن في غياب ذلك ، بحيث لا يفكرون إلا في اللحظة الراهنة ، ولا ينظرون إلى تحديات المستقبل ، مما يجعلهم يفقدون القدرة على التعامل مع تحديات المستقبل وفرصه ، فلا يعرفون متطلبات الزمان ، فيقعوا في دائرة الفشل ، لعدم الشعور بالمسؤولية والإنسان الذي يعيش بدون أي شعور بالمسؤولية تجاه نفسه أو أهله أو مجتمعه أو أمته ، لن يشعر بأهمية التخطيط للمستقبل، بل  يعيش في حالة يرثى لها بحجة التفكير في الآخرة والابتعاد عن الدنيا! وبهذا نبرر تقاعسنا وكسلنا عن القيام بأعمال صالحة في الدنيا ، بمفاهيم خاطئة عن الدين، مما يدفعنا لعدم التخطيط للمستقبل فضلاً عن التفكير فيه ، والمطلوب أن نخطط لحياتنا الدنيوية والأخروية معاً!وأن نوازن بينهما، يقول الله تعالى ] وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [  ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً ، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً ) والتخطيط للمستقبل الدنيوي يجب أن يدفعنا للقيام بالأعمال الصالحة التي تقربنا من الله عز وجل، وتجعلنا نفوز بالآخرة .

من المدهش أن نجد في ظل غياب التفكير الجاد في أمر المستقبل، سواءً كان المستقبل الشخصي للفرد في حياته العملية والاقتصادية والاجتماعية، أو المستقبل العام للأمة   أن تجد حضوراً مذهلاً للكهنة والعرافين والمنجمين الذين

يفيضون على الناس خليطاً من التجربة العادية، ومن وحي الشياطين، ومن الحدس والبراعة، ومن الخداع والاستغفال، ويتفننون في توظيف المشتركات البشرية التي لا يخلو عنها أحد ، فيستهوون بذلك السذج والبسطاء ويخدرون عقول العامة، ويتقحمون حرمة الغيب المصون ] قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون [ النمل65 . والمستقبل في جانب منه غيب لا يعلمه إلا الله ولا ينبغي أن نقحم أنفسنا فيه  وهذا ما تجده في برامج الحظ والأبراج في القنوات الفضائية أو الإذاعات أو الصحف ، وهو ما تجده أيضاً في الزوايا المظلمة التي يقبع فيها السحرة ومستخدمو الجن والمشعوذون ، حيث تذبح الأديان والعقول، وتهدر الأموال بلا حساب .

وللمرء أن يطول عجبه من أمر هذه الأمة في غفلتها عما أوجب الله عليها، وهجومها على ما حرم، وانتهاك بعض منتسبيها لأستار الشريعة ، وادعاؤهم ما ليس لهم به علم  في الوقت الذي تمر البلاد الإسلامية بتحولات يُحَضّر لها  قد تشهد المنطقة أحداثها ، وأزمة مفتوحة يعلم الله وحده نهايتها ، وعن فوضى قد تضرب أجزاء من المنطقة في جانب أو آخر ، وإذا كان هذا من الغيب    فهو من الغيب الذي جعل الله له مفاتيح تلتمس بدراسة المقدمات والأسباب ، وقراءة الواقع في المنطقة ذاتها   وتحري أهداف السياسة الغربية، والأمريكية خاصة، في مرحلتها المقبلة ، والعوامل المؤثرة فيها، واستحضار التجارب المشابهة ، ليوجد الإنسان المؤمن القادر على أن يعيش عصره ، من غير أن يفقد نفسه ، وينسى أمسه  فقد جاء في الأثر : ( رحم الله امرءاً عرف زمانه  واستقامت طريقته ) وفي الحديث الذي رواه ابن حبان ( ينبغي للعاقل أن يكون عارفاً بزمانه ) فهل يصحو المخلصون من سباتهم ، وهل يستمع المعنيون إلى أصوات الرشد التي تدعو إلى تجاوز الماضي ، ومواكبة الأحداث ، والامتثال لمخاطبات التغيير الناصحة المشفقة ] إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب [ هود 88 .

 

 

 

 

 

 

 

 

الضمير أو النفس اللوامة

 ما هو الضمير ؟ هو تلك القوة الرّوحية التي تحكم مواقف الإنسان وتفكيره ، فتجعله يميز الخطأ من الصّواب وتقابله التقوى التي تزرع الرهبة في قلب الإنسان، فتجعله يبتعد عن السيئات ويقبل على فعل الحسنات· وكأن التقوى هي الضمير بعينه الذي يجنب الإنسان أفعال السوء ويدله على طريق الخير ، وكلمة الضمير جارية على كل لسان ، نرى صادقاً أو أميناً فنصفه بأنه إنسان ذو ضمير   ونسمع بمن يغش أو يسيء معاملة الناس , فنقول : عديم الضمير , وقد نمر بالأزمات السياسية و الاقتصادية والاجتماعية ، فنقول : الأزمة أزمة ضمير , ونناشد الضمير العالمي ولا مجيب   لأن  ضمائرهم ميتة كقلوبهم , والضمير العالمي الذي نناشده ما هو إلا وهم وسراب ، من أجل ذلك كان الواجب أن تتعلق قلوبنا بالله في جلب النفع ودفع الضر , وأن نسعى في تربيتها   على معاني الإيمان و المراقبة لله تعالى حتى تحيا بنور العلم النافع والعمل الصالح , فتكون الخشية في السر والعلن    والغضب والرضا ، قال عبد الله بن دينار : خرجت مع عمر بن الخطاب إلى مكة , فانحدر علينا راع من الجبل  فقال له : يا راعي , بعنا شاة من هذه الغنم ؟ فقال : إني مملوك , فقال : قل لسيدك : أكلها الذئب ؟ قال : فأين الله ؟ قال : فبكى عمر , ثم غدا إلى المملوك واشتراه من مولاه وأعتقه وقال : أعتقتك في الدنيا هذه الكلمة وأرجو أن تعتقك في الآخرة " . وقال رضي الله عنه : إذا جلست للناس فكن واعظاً لنفسك وقلبك , ولا يغرنك اجتماعهم عليك ، فإنهم يراقبون ظاهرك ، والله رقيب على باطنك , وسئل ذو النون : بم ينال العبد الجنة ؟ فقال : بخمس : استقامة ليس فيها روغان , واجتهاد ليس معه سهو , ومراقبة لله تعالى في السر والعلانية , وانتظار الموت بالتأهب له , ومحاسبة نفسك قبل أن تحاسب " .

إن المعاني الطيبة التي تنطوي عليها كلمة الضمائر , لا تخرج عما جاء في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما سوى ذلك لا يلزمنا , لأنه صلى الله عليه وسلم ما ترك خيراً يقرب الأمة من ربها إلا ودلها عليه ، وما ترك شراً يباعد الأمة عن الله عز و جل إلا وحذرها منه و نهاها عنه وأمرها باجتنابه  

والضميرَ هو مستودعُ السرِّ الذي يكتمُه القلبُ  والخاطرُ الذي يسكنُ النفسَ؛ فيُضيءُ ظلمتَها ويُنيرُ جوانبَها، وهو القوةُ التي تدفعُ نحوَ فعلِ الخيراتِ وتركِ المنكراتِ وحبِّ الصالحاتِ ، وهو سببُ تسميةِ النفسِ باللوامَّةِ كما قالَ سبحانه : ] لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ [ القيامة . ويتحدث الرسول صلى الله عليه وسلم كاشفاً النقاب عن الضمير الحي وأثره في الصلاح فيقول : ( إذا ساءتك سيئتك وسرتك حسنتك فأنت مؤمن ) وقد ضَربَ اللهُ مثلاً لذلكَ بيوسفَ عليه السلامُ حينما حجَزَهُ ضميرُه عن الانجرافِ وراءَ الهوى وقال تعالى :] مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [  فالضمير  يُنجي صاحِبَه منَ المهالكِ   ويُبعدُه عَنْ شرِّ المسالكِ، ومن صفاتِ الضميرِ المؤمنِ أَنّ صاحِبَه دائمُ التذكّرِ فإذا همَّ بأمرِ سوءٍ ارتدعَ وانزجرَ  وابتعدَ عن المعاصي وأدبَرَ  قال  تعالى: ] إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [  ولذلك وُصِفَ الضميرُ الصالحُ بالحيِّ اليقظِ فهو حيٌّ ما دامَ نورُه وهَّاجَاً؛ فكانت نفسُه لوَّامةً  ووُصِفَ الضميرُ الطالحُ بالميِّتِ متى ما انطفأَ نورُه فكانتْ نفسُه أمَّارةً.

 وإن بلوغ الضمير الإنساني تقواه ومراقبته لخالقه في السرّ والعلن ، وتعويده على الإخلاص لله وحده لهو الغاية الكبرى ، وقد جاء الإسلام لتحرير الضمير الإنساني من عبادة غير الله ، وقيادة البشرية بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه الطريق الذي يوصل إلى الصلاح والإصلاح   ويأخذ بيد صاحبه إلى الحلال الطيب ، ويستمد حياته ورؤيته للحق من تقوى الله ، وهو ما يفتقده عالم اليوم فعم الفساد في البر والبحر ، لأنه غفل عن الضمير الحي ولما غفلت الإنسانية عن الضمير الحي ، عميت ولم تعد ترى إلا الشيطان ، فأخرجها من النور إلى الظلمات  فكان مصيرها الضلال ، فأصبحت أحساداً بلا عقول وقلوباً بلا إيمان ، عالم ضاع فيه الحق ، ونهش القوي لحم الضعيف ، ومُزّقت فيه عرى التقوى ، التي تمد كيان الإنسان بأسباب حياته ، وتعطي الضمير القدرة على الإحساس بالحلال الطيب وإدراكه ، ولن يبلغ الضمير الإنساني هذه الدرجة ، إلا إذا كانت دعوة الحق مسموعة وأخذت التقوى مكانها ، في مشارق الأرض ومغاربها  لأن الضمير البعيد عن منهج الله ، يصبح عرضة للرياء والنفاق في النفوس وتزييف للحق والحقائق ، ولن يبلغ الضمير الإنساني مرتبة التقوى إلا بوجود الإنسان المؤمن التقي ، الذي يراقب الله في السر والعلن ، فيتصرف بدافع من تقوى الله ، التي يتغلب بها على الشيطان ووساوسه قال تعالى : ] إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون [ الأعراف 201 . وبدافع من الإيمان الذي يورث النفس ثباتاً وطمأنينة قال تعالى : ] الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب [ الرعد 28 . بذكر الله تطمئن القلوب وتسكن الخواطر ، فيكون القلب حياً لا يغفل عن مراقبة الله في السر والعلن ، وبذكره يلين القلب ويجعله أكثر قرباً من رحمة الله ، لأنه قلب آمن بالله حق الإيمان ، فهداه الله    واتاه تقواه ، فاتخذ التقوى زاداً في دنياه وأخراه ، وأخلص في الطاعة لله ، والعمل على تطبيق كتاب الله وسنة رسوله من حكم بهما عدل ، ومن قال بهما صدق ، ومن تمسك بهما هدي إلى صراط مستقيم ، ومن ابتغى الهدى في غيرهما أضله الله .

والضميرُ الإنسانيُّ يتأثَّرُ بما تتأثرُ به النفسُ؛ فيتضائلُ ويقلُّ قدرُه ويخبو نورُه إذا انجرفت النفسُ وراءَ وساوسِها قال تعالى : ] وَلَقَدْ خَلَقْنَا الأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ أو اتبعَت همزاتِ الشياطينِ وإغواءَهم ] وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ، وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ [  أو انساقتْ وراءَ ضلالتِها ] فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا [ أو كانت رَهْنَ هواها ] إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ  [  أو اختلَّ ضميرُها وضعُفَتْ قوّتُها وصارَ الإنسانُ عبداً لشهواتِه يَرَى الباطلَ حقَّا والشرَّ خيرا ، لا يردعُهُ رادعٌ ولا يحجُزُه حاجزٌ، ولذلكَ قيلَ: "مَنْ توهَّمَ أنَّ لهُ عدواً أعدى من نفسِهِ قلَّتْ مَعْرِفَتُه بنفسِه"، وقد يسمو الضميرُ ويعلو قدرُه إذا خالفتْ النفسُ هواها قال تعالى : ] وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [ والضمير إذا أهملْتَه فإنه يَضْمرُ ويَضْعُفُ  وضمورُه دمارٌ لصاحبِه في الدنيا والآخرةِ؛ إذ بغيابِه يزولُ الرقيبُ الذي يوجِّهُك إلى الخيرِ ويدفعُك إلى البرِّ ويَحْمِيكَ من ضَلالِ النفسِ ، ونموُّ الضميرِ يكونُ بالدوامِ على الأعمالِ الصالحةِ ، وتحرِّي صنائعِ المعروفِ والبحثِ عن جوانبِ الخيرِ في النفس ] مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [ كما ينمو الضميرُ ويترَبَّى بذكرِ اللهِ تعالى والمحافظةِ على العباداتِ؛ حتى تكونَ النفسُ مطمئنةً في كلِّ حينٍ ] يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي، وَادْخُلِي جَنَّتِي [ .

والضمير أو النفس اللوامة ، هو ما وضعه الله في قلوبنا ليدعونا إلي الخير ،  ويزجرنا عن فعل الشر ويلومنا إن أخطأنا لنندم ونتوب عن الإثم قال تعالى ] لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة [ وقال صلى الله عليه وسلم ( إذا أساءتك سيئتك وسرتك حسنتك فأنت مؤمن ) .

والضمير في أكثر الأحوال هاد حكيم مرشد لا يضل ومن الخير لنا أن نستمع إليه ونستجيب إلي هديه ونصغي إلي تأنيبه لأنه يصل بنا إلي الصلاح وبمجتمعنا إلي الخير والفلاح ، وفي بعض الأحيان يفسد الضمير وينحرف عن الحق فيستسيغ الشر متأثرا بجهل صاحبه أمور الدين أو بما شاع في عصر من فساد وانحلال كالذي نراه فيمن يميلون إلي الجريمة والمنكر من قتل وسرقة وغيرها من الجرائم الأخرى لذلك كان الضمير الإنساني في حاجة إلي تربية ليكون حكمه صادقا فيشع الخير ويقل الشر برقابته المستمرة ، المستمدة من صحة العقيدة والإخلاص في العبادة ، فيؤمن الإنسان بأن في الكون إلها مطلعا     ] يعلم خائنة الأعين وما تخطى الصدور [ ويعلم السرائر ويحاسب عليها ] وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء [ بذلك تستقر في القلوب خشية الله ومراقبته في السر والعلن ، وقد سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الإحسان فقال : ( أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك )  طاعة الضمير فيما يدعو إليه من خير ومخالفة النفس الأمارة بالسوء فيما تميل إليه من شر

استجابة لله تعالى ] قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها [ . فبطاعة الله المستمرة وعدم مخالفته ننمي الضمير ونقوي سلطانه ونصبح قادرين على حساب أنفسنا فنحملها على فعل الخير ونصرفها عن فعل الشر وإلي ذلك يدعونا الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله : ( الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني ) .

والضمير المؤمن في داخل النفس كنقطة حراسة ، تدرأ عنها كل ذنب يتهددها ، وتناصر قوى الخير فيها فإذا ذهبت تدقق خلف كل جملة ، وتبحث عن كل مقولة قيلت فيك ، وتحاسب كل من أساء إليك ، وترد على كل من هجاك ، وتنتقم من كل مَنْ عاداك   فأحسن الله عزاءك في صحتك وراحتك ، ونومك ودينك واستقرار نفسك وهدوء بالك ، وسوف تعيش قلقاً   كاسف البال منغص العيش ، كئيب المنظر سيئ الحال فإن الضمير يرتفع بك إلى حياة الطهر والنقاء والعفو والمسامحة ، واستخدام منهج التطنيش، فإذا تذكرت مآسي الماضي فطنش، وإذا طرقت سمعك كلمة نابية فطنش   وإذا أساء لك مسيء فاعف وطنش، وإذا فاتك حظ من حظوظ الدنيا فطنش، لأن الحياة قصيرة لا تحتمل التنقير والتدقيق ، بل عليك بمنهج القرآن : ] خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [ .

سبّ رجل أبا بكر الصديق فقال أبو بكر: سبُّك يدخل معك قبرك ، ولن يدخل قبري، الفعل القبيح والكلام السيئ والتصرف الدنيء يُدفن مع صاحبه في أكفانه ويرافقه في قبره ، ولن يُدفن معك ولن يدخل معك، قال   السعدي صاحب التفسير : وأعلم أن الكلام الخبيث السيئ القبيح الذي قيل فيك يضر صاحبه ولن يضرك  فعليك أن تأخذ الأمور بهدوء وسهولة واطمئنان ولا تُقِم حروباً ضارية في نفسك فتخرج بالضغط والسكري وقرحة المعدة ، والجلطة ونزيف الدماء ، لقد علمتنا الشريعة الإسلامية أن نواجه أهل الشر والمكروه والعدوان بالعفو بالتسامح ، والصبر الجميل ، الذي لا شكوى فيه والهجر الجميل الذي لا أذى فيه ، والصفح الجميل الذي لا عتب فيه ، إذا مررت بكلب ينبح فقل : سلاما وإذا رماك شرير بحجر فكن كالنخلة أرمه بتمرها    وإن أفضل حل للمشكلة أن تنهيها من أول الطريق ، لا تصعّد مع من أراد التصعيد ، انزع الفتيل تخمد الفتنة   صب على النار ماءً لا زيتاً لتنطفئ من أول وهلة، ادفع بالتي هي أحسن ، وتصرف بالأجمل وأعمل الأفضل  وسوف تكون النتيجة محسومة لصالحك ، لأن الله مع الصابرين ويحب العافين عن الناس وينصر المظلومين ] إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون [ .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

البـهائية

 البابية والبهائية حركة نبعت من المذهب الشيعي الشيخي سنة 1260ه‍ تحت رعاية الاستعمار الروسي واليهودية العالمية والاستعمار الإنجليزي بهدف إفساد العقيدة الإسلامية وتفكيك وحدة المسلمين وصرفهم عن قضاياهم الأساسية .

أبرز الشخصيات

- أسسها الميرزا علي محمد رضا الشيرازي 1266 ﻫ ، 1819 م  .

- في عام 1259 م ذهب إلى بغداد وبدأ يرتاد مجلس إمام الشيخية في زمانه كاظم الرشتي ويدرس أفكاره وآراء الشيخية . وفي مجالس الرشتي تعرف عليه الجاسوس الروسي كينازد الغوركي والمدعي الإسلام باسم عيسى النكراني والذي بدأ يلقي في روعهم أن الميرزا علي محمد الشيرازي هو المهدي المنتظر والباب الموصل إلى الحقيقة الإلهية والذي سيظهر بعد وفاة الرشتي وذلك لما وجده مؤهلاً لتحقيق خطته في تمزيق وحدة المسلمين . - في 1260 ه‍ ، 1844م أعلن أنه الباب نسبة إلى ما يعتقده الشيعة الشيخية من ظهوره بعد وفاة الرشتي المتوفى 1259 ه‍ وأنه رسول كموسى وعيسى ومحمد - عليهم السلام - بل وعياذاً بالله - أفضل منهم شأناً . - فآمن به تلاميذ الرشتي وانخدع به العامة واختار ثمانية عشرة مبشراً لدعوته أطلق عليهم حروف الحي إلا أنه في عام 1261 ه‍ قبض عليه فأعلن توبته على منبر مسجد الوكيل بعد أن عاث وأتباعه في الأرض فساداً وتقتيلاً وتكفيراً للمسلمين . - في عام 1266 ه‍ ادعى الباب حلول الإلهية في شخصه حلولاً مادياً وجسمانياً، لكن بعد أن ناقشه العلماء حاول التظاهر بالتوبة والرجوع ، ولم يصدقوه فقد عرف بالجبن والتنصل عند المواجهة . وحكم عليه بالإعدام هو والزنوزي وكاتب وحيه حسين اليزدي الذي تاب وتبرأ من البابية قبل الإعدام فأفرج عنه وذلك في   سنة 1266 ه‍  1850 م .

- قرة العين واسمها الحقيقي أم سلمى ولدت في قزوين للملا محمد صالح القزويني أحد علماء الشيعة ودرست عليه العلوم ومالت إلى الشيخية بواسطة عمها الأصغر الملا علي الشيخي وتأثرت بأفكارهم ومعتقداتهم ، ثم رافقت الباب في الدراسة عند كاظم الرشتي بكربلاء حتى قيل إنها مهندسة أفكاره. وفي رجب 1264 ه‍ اجتمعت مع زعماء البابية في مؤتمر بيدشت وكانت خطيبة القوم ومحرضة الأتباع على الخروج في مظاهرات احتجاج على اعتقال الباب ، وفيه أعلنت نسخ الشريعة الإسلامية . - اشتركت في مؤامرة قتل الشاه ناصر الدين القاجاري فقبض عليها وحكم بأن تحرق حية ولكن الجلاد خنقها قبل أن تحرق  

 - الميرزا يحي علي : أخو البهاء والملقب بصبح أزل ، أوصى له الباب بخلافته وسمي أصحابه بالأزليين فنازعه أخوه الميرزا حسين البهاء في الخلافة ثم في الرسالة والإلهية وحاول كل منهما دس السم لأخيه . ولشدة الخلافات بينهم وبين الشيعة تم نفيهم إلى أدرنة بتركيا في عام 1863 م حيث كان يعيش اليهود ، ولاستمرار الخلافات بين أتباع صبح أزل وأتباع البهاء نفى السلطان العثماني البهاء واتباعه مع بعض اتباع أخيه إلى عكا ونفى صبح أزل مع اتباعه إلى قبرص حتى مات ودفن بها وقد أوصى بالخلافة لابنه الذي تنصر وانفض من حوله الأتباع .

- الميرزا حسين علي الملقب بهاء الله المولود 1817م نازع أخاه خلافة الباب وأعلن في بغداد أمام مريديه انه المظهر الكامل الذي أشار إليه الباب وانه رسول الله الذي حلت فيه الروح الإلهية لتنهي العمل الذي بشر به الباب وان دعوته هي المرحلة الثانية في الدورة العقائدية . - حاول قتل أخيه صبح أزل ، وكان على علاقة باليهود في أدرنة بسالونيك في تركيا والتي يطلق عليها البهائيون أرض السر التي ارسل منها إلى عكا فقتل من أتباع أخيه صبح أزل الكثير ، وفي عام 1092 م قتله بعض الأزليين ودفن بالبهجة بعكا وكانت كتبه تدعو للتجمع الصهيوني على أرض فلسطين . - عباس أفندي : الملقب ب‍ـ عبد البهاء ولد في 23 مايو 1844 م نفس يوم إعلان دعوة الباب ، أوصى له والده البهاء بخلافته فكان ذا شخصية جادة لدرجة أن معظم المؤرخين يقولون بأنه : لولا العباس لما قامت للبابية والبهائية قائمة  ويعتقد البهائيون أنه معصوم غير مشرع ، وكان يضفي على والده صفة الربوبية القادرة على الخلق . - زار سويسرا وحضر مؤتمرات الصهيونية ومنها مؤتمر بال 1911 م وحاول تكوين طابور خامس وسط العرب لتأييد الصهيونية ، كما استقبل الجنرال اللنبي لما أتى إلى فلسطين بالترحاب لدرجة أن كرمته بريطانيا بمنحه لقب سير فضلاً عن أرفع الأوسمة الأخرى . - زار لندن وأمريكا وألمانيا والمجر والنمسا والإسكندرية للخروج بالدعوة من حيز الكيان الإسلامي فأسس في شيكاغو أكبر محفل للبهائية ، رحل إلى حيفا 1913 م ثم إلى القاهرة حيث هلك بها في 1921 م / 1340 ه‍ بعد أن نسخ بعض تعاليم أبيه وأضاف إليها من العهد القديم ما يؤيد أقواله . - شوقي أفندي : خلف جده عبد البهاء وهو ابن الرابعة والعشرين من العمر في عام 1921 م / 1340 ه‍ وسار على نهجه في إعداد الجماعات البهائية في العلم لإنتخاب بيت العدالة الدولي ، ومات بلندن بأزمة قلبية ودفن بها في أرض قدمتها الحكومة البريطانية هدية للطائفة البهائية . - في عام 1963 م تولى تسعة من البهائيين شؤون البهائية بتأسيس بيت العدالة الدولي من تسعة أعضاء أربعة من أمريكا ، واثنان من إنجلترا وثلاثة من إيران وذلك برئاسة فرناندو سانت ثم تولى رئاستها من بعده اليهودي الصهيوني ميسون الأمريكي الجنسية. أهم العقائد - يعتقد البهائيون أن الباب هو الذي خلق كل شيء بكلمته وهو المبدأ الذي ظهرت عنه جمع الأشياء . - يقولون بالحلول والاتحاد والتناسخ وخلود الكائنات وان الثواب والعقاب إنما يكونان للأرواح فقط على وجه يشبه الخيال   - يقدسون العدد 19 ويجعلون عدد الشهور 19 شهراً وعدد الأيام 19 يوماً ، وقد تابعهم في هذا الهراء المدعو محمد رشاد خليفة حين ادعى قدسية خاصة للرقم 19 ، وحاول إثبات أن القرآن الكريم قائم في نظمه من حيث عدد الكلمات والحروف على 19 ولكن كلامه ساقط بكل المقاييس . - يقولون بنبوة بوذا وكنفوشيوس وبراهما وزاردشت وأمثالهم من حكماء الهند والصين والفرس الأول . - يوافقون اليهود والنصارى في القول بصلب المسيح . - يؤولون القرآن تأويلات باطنية ليتوافق مع مذهبهم . - ينكرون معجزات الأنبياء وحقيقة الملائكة والجن كما ينكرون الجنة والنار . - يحرمون الحجاب على المرأة ويحللون المتعة وشيوعية النساء والأموال . - يقولون إن دين الباب ناسخ لشريعة محمد صلى الله عليه وسلم . - يؤولون القيامة بظهور البهاء ، أما قبلتهم فهي إلى البهجة بعكا بفلسطين بدلاً من المسجد الحرام . - والصلاة تؤدي في تسع ركعات ثلاث مرات والوضوء بماء الورد وإن لم يوجد فالبسملة بسم الله الأطهر الأطهر خمس مرات . - لا توجد صلاة الجماعة إلا في الصلاة على الميت وهي ست تكبيرات يقول كل تكبيرة (الله أبهى). - الصيام عندهم في الشهر التاسع عشر شهر العلا فيجب فيه الامتناع عن تناول الطعام من الشروق إلى الغروب مدة تسعة عشر يوماً ( شهر بهائي ) ويكون آخرها عيد النيروز 21 آذار وذلك من سن 11 إلى 42 فقط يعفى البهائيون من الصيام . - تحريم الجهاد وحمل السلاح وإشهاره ضد الأعداء خدمة للمصالح الاستعمارية . - ينكرون أن محمداً - خاتم النبيين مدعين استمرار الوحي وقد وضعوا كتباً معارضة للقرآن الكريم مليئة بالأخطاء اللغوية والركاكة في الأسلوب . - يبطلون الحج إلى مكة وحجهم حيث دفن بهاء الله في البهجة بعكا بفلسطين .

 الجذور العقائدية - الرافضة الإمامية . - الشيخية أتباع الشيخ أحمد الإحسائي . - الماسونية العالمية . - الصهيونية العالمية أماكن الإنتشار - تقطن الغالبية العظمى من البهائيين في إيران وقليل منهم في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين المحتلة حيث مقرهم الرئيسي وكذلك لهم وجود في مصر حيث أغلقت محافلهم بقرار جمهوري رقم 263 لسنة 1960 م. 

الأحباش

طائفة ضالة تنسب إلى عبد الله الحبشي ، ظهرت حديثاً في لبنان مستغلة ما خلفته الحروب الأهلية اللبنانية من الجهل والفقر والدعوة إلى إحياء مناهج أهل الكلام والصوفية والباطنية بهدف إفساد العقيدة وتفكيك وحدة المسلمين وصرفهم عن قضاياهم الأساسية .

التأسيس وابرز الشخصيات : 

عبد الله الهرري الحبشي : هو عبد الله بن محمد الشيبي العبدري نسباً الهرري موطناً نسبة إلى مدينة هرر بالحبشة ، فيها ولد لقبيلة تدعى الشيباني نسبة إلى بني شيبة من القبائل العربية . ودرس في باديتها اللغة العربية والفقه الشافعي على الشيخ سعيد بن عبد الرحمن النوري والشيخ محمد يونس جامع الفنون ثم ارتحل إلى منطقة جُمة وبها درس على الشيخ الشريف وفيها نشأ شذوذه وانحرافه حيث بايع على الطريقة التيجانية . ثم ارتحل إلى منطقة داويء من مناطق أرمو ودرس صحيح البخاري وعلوم القرآن الكريم على الحاج أحمد الكبير ثم ارتحل إلى قرية قريبة من داويء فالتقى بالشيخ مفتي السراج – تلميذ الشيخ يوسف النبهاني صاحب كتاب شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق ودرس على يديه الحديث .ومن هنا توغل في الصوفية وبايع على الطريقة الرفاعية . ثم أتى إلى سوريا ثم إلى لبنان من بلاد الحبشة في أفريقيا عام 1969م . وذكر أتباعه أنه قدم عام 1950م بعد أن أثار الفتن ضد المسلمين ، حيث تعاون مع حاكم إندراجي صهر هيلاسيلاسي ضد الجمعيات الإسلامية لتحفيظ القرآن بمدينة هرر سنة 1367ه‍ الموافق 1940م فيما عرف بفتنة بلاد كُلُب فصدر الحكم على مدير المدرسة إبراهيم حسن بالسجن ثلاثاً وعشرين سنة مع النفي حيث قضى نحبه في مقاطعة جوري بعد نفيه إليها وبسبب تعاون عبد الله الهرري مع هيلاسيلاسي تم تسليم الدعاة والمشايخ إليه وإذلالهم حتى فر الكثيرون إلى مصر والسعودية ، ولذلك أطلق عليه الناس هناك صفة (( الفتّان )) أو (( شيخ الفتنة )) .

- منذ أن أتى لبنان وهو يعمل على بث الأحقاد والضغائن ونشر الفتن كما فعل في بلاده من قبل من نشره لعقيدته الفاسدة من شرك وترويج لمذاهب : الجهمية في تأويل صفات الله ، والإرجاء والجبر والتصوف والباطنية والرفض ، وسب للصحابة ، واتهام أم المؤمنين عائشة بعصيان أمر الله ، بالإضافة إلى فتاوى شاذة .

- نجح الحبشي مؤخراً في تخريج مجموعات كبيرة من المتبجحين والمتعصبين الذين لايرون مسلماً إلا من أعلن الإذعان والخضوع لعقيدة شيخهم مع ما تتضمنه من إرجاء في الإيمان وجبر في أفعال الله وجهمية واعتزال في صفات الله . فهم يطرقون بيوت الناس ويلحون عليهم بتعلم العقيدة الحبشية ويوزعون عليهم كتب شيخهم بالمجان .

· نزار الحلبي : خليفة الحبشي ورئيس جمعية المشاريع الإسلامية ويطلقون عليه لقب ((سماحة الشيخ )) حيث يعدونه لمنصب دار الفتوى إذ كانوا يكتبون على جدران الطرق (( لا للمفتي حسن خالد الكافر ، نعم للمفتي نزار الحلبي )) وقد قتل مؤخراً .

· لديهم العديد من الشخصيات العامة مثل النائب البرلماني عدنان الطرابلسي ومرشحهم الآخر طه ناجي الذي حصل على 1700 صوتاً معظمهم من النصارى حيث وعدهم بالقضاء على الأصولية الإسلامية ، لكن لم يكتب له النجاح ، وحسام قرقيرا نائب رئيس جمعية المشاريع الإسلامية ، وكمال الحوت وعماد الدين حيدر وعبد الله البارودي وهؤلاء الذين يشرفون على أكبر أجهزة الأبحاث والمخطوطات مثل المؤسسة الثقافية للخدمات ويحيلون إلى اسم غريب لايعرفه حتى طلبة العلم فمثلاً يقولون : ((قال الحافظ العبدري في دليله )) فيدلسون على الناس فيظنون أن الحافظ من مشاهير علماء المسلمين مثل الحافظ ابن حجر أو النووي وإنما هو في الحقيقة شيخهم ينقلون من كتابه الدليل القويم مثلاً .

أهم العقائد :

· يزعم الأحباش أنهم على مذهب الإمام الشافعي في الفقه والاعتقاد ولكنهم في الحقيقة أبعد ما يكونون عن مذهب الإمام الشافعي رحمه الله . فهم يُأولون صفات الله تعالى بلا ضابط شرعي فـيُـأولون الاستواء بالاستيلاء كالمعتزلة والجهمية .

· يزعم الحبشي أن جبريل هو الذي أنشأ ألفاظ القرآن الكريم وليس الله تعالى ، فالقرآن عنده ليس بكلام الله تعالى ، وإنما هو عبارة عن كلام جبريل ، كما في كتابه إظهار العقيدة السنية ص591 .

· الأحباش في مسألة الإيمان من المرجئة الجهمية الذين يؤخرون العمل عن الإيمان ويبقى الرجل عندهم مؤمناً وإن ترك الصلاة وسائر الأركان ، ( انظر الدليل القويم ص7 ، بغية الطالب ص51 ) .

- تبعاً لذلك يقللون من شأن التحاكم للقوانين الوضعية المناقضة لحكم الله تعالى فيقول الحبشي : (( ومن لم يحكم شرع الله في نفسه فلا يؤدي شيئاً من فرائض الله ولا يجتنب من المحرمات ، ولكنه قال ولو مرة في العمر : لا إله إلا الله فهذا مسلم مؤمن . ويقال له أيضاً مؤمن مذنب )) الدليل القويم 9-10 بغية الطالب 51 .

· الأحباش في القدر جبرية منحرفة يزعمون أن الله هو الذي أعان الكافر على كفره وأنه لولا الله ما استطاع الكافر أن يكفر . ( النهج السليم 71 ) .

· يحث الأحباش الناس على التوجه إلى قبور الأموات والاستغاثة بهم وطلب قضاء الحوائج منهم ، لأنهم في زعمهم يخرجون من قبورهم لقضاء حوائج المستغيثين بهم ثم يعودون إليها ، كما يجيزون الاستعاذة بغير الله ويدعون للتبرك بالأحجار . ( الدليل القويم 173 ، بغية الطالب 8 ، صريح البيان 57 ، 62 ) . ( شريط خالد كنعان /ب / 70 ) ولو قال قائل أعوذ برسول الله من النار لكان هذا مشروعاً عندهم .

· يرجح الأحباش الأحاديث الضعيفة والموضوعة بما يؤيد مذهبهم بينما يحكمون بضعف الكثير من الأحاديث الصحيحة التي لا تؤيد مذهبهم ويتجلى ذلك في كتاب المولد النبوي  

· يكثر الحبشي من سب الصحاب وخاصة معاوية بن أبي سفيان وأم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنهم . ويطعن في خالد بن الوليد وغيره ، ويقول إن الذين خرجوا على علي رضي الله عنه ماتوا ميتة جاهلية . ويكثر من التحذير من تكفير سابِّ الصحابة ، لاسيما الشيخين إرضاءً للروافض . إظهار العقيدة السنية 182 .

· يعتقد الحبشي أن الله تعالى خلق الكون لا لحكمة وأرسل الرسل لا لحكمة وأن من ربط فعلاً من أفعال الله بالحكمة فهو مشرك .

· كفّر الحبشي العديد من العلماء فحكم على شيخ الإسلام ابن تيمية بأنه كافر وجعل من أول الواجبات على المكلف أن يعتقد كفره ولذلك يحذر أشد التحذير من كتبه ، وكذا الإمام الذهبي فهو عنده خبيث ، كما يزعم أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب مجرم قاتل كافر ويرى أن الشيخ محمد ناصر الدين الألباني كافر ، وكذلك الشيخ سيد سابق فيزعم أنه مجوسي كافر أما الأستاذ سيد قطب فمن كبار الخوارج الكفرة في ظنه . انظر مجلة منار الهدى الحبشية عدد ( 3ص234 ) النهج السوي في الرد على سيد قطب وتابعه فيصل مولوي ) أما ابن عربي صاحب مذهب وحدة الوجود ونظرية الحلول والاتحاد والذي شهد العلماء بكفره فيعتبره الحبشي شيخ الإسلام . كما يدعو الحبشي إلى الطريقة النقشبندية والرفاعية والصوفية .

· وللحبشي العديد من الفتاوى الشاذة القائلة بجواز التحايل في الدين وأن النظر والاختلاط والمصافحة للمرأة الأجنبية حلال لاشيء فيه بل للمرأة أن تخرج متعطرة متبرجة ولو بغير رضا زوجها .

· يبيح بيع الصبي وشراءه كما يجيز للناس ترك زكاة العملة الورقية بدعوى انها لاعلاقة لها بالزكاة إذ هي واجبة في الذهب والفضة كما يجيز أكل الربا ويجيز الصلاة متلبساً بالنجاسة . ( بغية الطالب 99 ) .

· أثار الأحباش في أمريكا وكندا فتنة تغيير القبلة حتى صارت لهم مساجد خاصة حيث حرفوا القبلة 90 درجة وصاروا يتوجهون إلى عكس قبلة المسلمين حيث يعتقدون أن الأرض نصف كروية على شكل نصف البرتقالة ، وفي لبنان يصلون في جماعات خاصة بهم بعد انتهاء جماعة المسجد ، كما اشتهر عنهم ضرب أئمة المساجد والتطاول عليهم وإلقاء الدروس في مساجدهم لنشر أفكارهم رغماً عنهم . ويعملون على إثارة الشغب في المساجد ، كل هذا بمدٍ وعونٍ من أعداء المسلمين بما يقدمون لهم من دعم ومؤازرة .

الجذور العقائدية :

· مما سبق يتبين أن الجذور الفكرية والعقائدية للأحباش تتلخص في الآتي :

- المذهب الأشعري المتأخر في قضايا الصفات الذي يقترب من منهج الجهمية ‍‍!!

- المرجئة والجهمية في قضايا الإيمان .

- الطرق الصوفية المنحرفة مثل الرفاعية والنقشيندية .

- عقيدة الجفر الباطنية .

- مجموعة من الأفكار والمناهج المنحرفة التي تجتمع على هدف الكيد للإسلام وتمزيق المسلمين . ولا يستبعد أن يكون الحبشي وأتباعه مدسوسين من قبل بعض القوى الخارجية لإحداث البلبلة والفرقة بين المسلمين كما فعل عبد القادر الصوفي ثم المرابطي في أسبانيا وبريطانيا وغيرها .

أماكن الانتشار :

ينتشر الأحباش في لبنان بصورة تثير الريبة ، حيث انتشرت مدارسهم الضخمة وصارت حافلاتهم تملأ المدن وأبنية مدارسهم تفوق سعة المدارس الحكومية ، علاوة على الرواتب المغرية لمن ينضم إليهم ويعمل معهم وأصبح لهم إذاعة في لبنان تبث أفكارهم وتدعو إلى مذهبهم ، كما ينتشر أتباع الحبشي في أوروبا وأمريكا وقد أثاروا القلاقل في كندا واستراليا والسويد والدانمارك . كما أثاروا الفتن في لبنان بسبب فتوى شيخهم بتحويل اتجاه القبلة إلى جهة الشمال .

وقد بدأ انتشار أتباع هذا المذهب الضال في مناطق عدة من العالم حيثما وجد لبنانيون في البداية ، ثم بعض المضللين ممن يعجب بدعوة الحبشي .

يتضح مما سبق :

أن الأحباش طائفة ضالة تنتمي إلى الإسلام ظاهراً وتهدم عراه باطناً ، وقد استغلت سوء الأوضاع الاقتصادية وما خلفته الحروب الأهلية اللبنانية من فقر وجهل في الدعوة إلى مبادئها الهدامة وإحياء الكثير من الأفكار والمعتقدات الباطلة التي عفى عليها الدهر مثل خلق القرآن والخلاف المعروف في قضايا الصفات الذي تصدى لها علماء أهل السنة والجماعة في الماضي والحاضر . وقد تصدى لهم عدد من علماء أهل السنة في عصرنا مثل المحدث الشيخ الألباني وغيره . وأفتى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز في الفتوى رقم 2392/1 بتاريخ 30/10/1406ه‍ التي جاء فيها : (( إن طائفة الأحباش طائفة ضالة ، ورئيسهم عبد الله الحبشي معروف بانحرافه وضلاله ، فالواجب مقاطعتهم وإنكار عقيدتهم الباطلة وتحذير الناس منهم ومن الاستماع لهم أو قبول ما يقولون )) .

 

 

 

العمل وعيد العمال في الإسلام

للناس أعياد ومناسبات يحتفلون فيها ، فأعياد أهل الكتاب والأمم الكافرة ترتبط بأمور دنيوية ، أو مناسبات دينية   خاصة بهم ، وكعيد النيروز الخاص بالمجوس ، أو أعياد هي من شعائر الله ، التي ينبغي إحياؤها ، كعيدي الفطر والأضحى الخاص بالمسلمين   ولا يحل للمسلمين أن يتشبهوا بالكفار والمشركين في شيء مما يختص بأعيادهم . 

ويأتي أصل الاحتفال بعيد العمال ، من كندا حيث النـزاعات العمالية ، وحركة التسع ساعات في هاميلتون ثم في تورونتو كندا ، وقد قامت المسيرات لدعم هذه الحركة ، واستلهاماً من أحداث هذه الاحتفالات التي شهدها زعيم العمال الأميريكى ، الذي قام بتنظيم أول عيد للعمال في نيويورك ،  يحتفل به قي الخامس من سبتمبر من كل عام ، ومن الجدير بالذكر أن أمريكا قتلت أبناءها حين تعارضت مصالح عمالها مع مصالح أغنيائها   وبسبب قتلها للخيرين من أبنائها ، كان عيد العمال .

إن العمل في الإسلام عنصر أساسي ، في بناء الدولة العصرية ، إذا كان هذا العمل يستجيب لكل مطالب الحياة ، ويستند إلى تخطيط علمي ، والويل للقول إن لم يترجمه عمل ، لأنه يصبح ثرثرة تشقى بها الأمة ، لذلك قل كلام رسول الله r وكثر عمله ، وتعلم منه أصحابه أن يقللوا حجم الكلام ، ويكثروا حجم العمل ، صعد عثمان بن عفان المنبر يوماً ، فلم يجد كلاماً يقوله   وطالت حيرته ، وأخيراً فتح الله عليه بهذه الكلمات : " أيها الناس سيجعل الله بعد عسر يسرا ، وبعد ضيق فرجا   وأنتم إلى إمام أفعال ، أحوج منكم على إمام أقوال   ثم نزل " فتهللت أسارير الصحابة ، وظهرت الغبطة على وجوههم ، لأنهم سمعوا أبلغ خطبة في أوجز لفظ وأحلاه   وظهر الخليفة من خلال هذه الكلمات ، بأنه رجل أفعال وليس رجل أقوال .

إن للعمل في مجتمع الإسلام قيمة عليا ، ومكانة الإنسان فيه ، تبرز من خلال عمله ، نجد ذلك واضحاً في قوله تعالى : ] ولكل درجات مما عملوا [ فالآية تبرز قيمة العامل ، ومن خلال آيات العمل الواردة في القرآن ، نجد أنها تتناول نوع العمل ، وكرامة العامل وحق العمل واجر العمل وهدف العمل ووقته وإتقانه ولذلك اعتبر الإسلام العمل عبادة لله كالصلاة ، وما دام العمل عبادة ، فإن العامل يحرسه ضميره المؤمن ، بأن عليه رقيباً من داخله يذكره دائماً بربه ، وهو ما يبرزه قوله تعالى : ] وفل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون [ فالآية تأمر بالعمل المطلق ، الذي ينظم شئون الدين والدنيا  ويكون شعار المجتمع المسلم ] وقل اعملوا [ تكليف وعبادة  وأمر رباني ، وفيه إشارة إلى كرامة العامل وتقديسه ، ولم يكتف الإسلام بطلب العمل والحض عليه   وإنما تجاوز ذلك إلى المطالبة بإتقان العمل وإخلاص النية فيه ، وقد فاخر النبي r كل عمل مخلص وفاخر باليد العاملة قائلاً : ( تلك يد يحبها الله ورسوله )

وجاء في الآيات ما يشير  إلى أن المنهج الإسلامي  منهج عقيدة ، وعمل يصدق العقيدة ، منهج لا تكفي فيه النوايا  إنما هي تحسب مع العمل ، فتحدد قيمة العمل   وكحافز على إتقان العمل قال تعالى : ] ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه [ يونس 61 .

وأما إخلاص النية في العمل ، فقد بينه الرسول r في قوله ( إنما الأعمال بالنيات ) الأعمال لا مجرد النيات

فقيمة الفرد في الإسلام ، هي بما يقدمه لأمته من عمل   وبما يحرزه في نفسه من صلاح وتقوى ، وبذلك يكون تفاضل الناس أمام الله ، وليست قيمة الفرد بما يملك من مال أو يحرز من جاه أو سلطان .   

ولا قيمة للفرد في الإسلام ، إذا تكلم ولم يفعل ، لأن سرّ قوة الكلمة ، كامن في قوة الإيمان ، بمدلول الكلمات لتحويل الكلمة المكتوبة إلى حركة حية ، والمعنى المفهوم إلى واقع ملموس ، فلا يقعد القادر على العمل ، طمعاً في أن يؤدي واجبه بالكلام ، وقديماً قال الشاعر :

السيف أصدق أنباء من الكتب   في حدّه الحد بين الجِدِّ واللعب

ففي كثيرٍ من الأحيان ، يصبح من العبث أن نتكلم ونتكلم ثم لا نفعل شيئا ، لأن الكلمة لا يمكن أن تفعل شيئا ، إلا إذا تحولت إلى فعل ، والفعل لا بد له من عقيدة   لأن قوة الكلمة ، إنما تنبع من أنها ترجمان العقيدة ، وقد عاب الله على من يقولون ولا يفعلون قال تعالى : ] يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ، كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون [ الصف .  

ولما للعمل من أهمية ، فإن الإسلام يحرص على إقامة المجتمع القوي ، الذي يأكل مما يزرع ، و الذي تتحقق فيه الكفاية في الإنتاج ، من أجل توفير الحاجات الأساسية لأفراده ، وتحقيق خلافتهم في أرض الله ، كما جاء في الحديث ( إن الله يحب العبد المؤمن المحترف ) فاليد الخشنة العاملة ، يد يحبها الله ورسوله ، ولا يمكن للأمة أن تكون خير أمة أخرجت للناس ، إلا عن طريق العمل والإعداد ، وبذل الجهد والسعي في الأرض قال سبحانه وتعالى : ] هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور [ ومن هنا كان للعمل في الإسلام قيمته وأهميته ، وفي هذا يقول r : ( ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده ، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده ) .  

 وقد أنزل الدين الإسلامي العاملين منـزلة تقترب من منـزلة الأنبياء والصديقين والشهداء ، يقول عليه الصلاة والسلام : ( التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء ) .

والذين يقرؤون سير الأنبياء والرسل الكرام ، يزدادون إيماناً بقيمة العمل ، وإدراكاً لمـنـزلة العاملين ، ذلك أن الأنبياء والرسل ، كلهم كانوا يعملون ، فقد كان لكل نبي حرفة يعمل فيها ويعيش منها ، ليكون قدوة لقومه  فقد كان إدريس خياطا ، وكان داود عليه السلام حدادا ً  وكان نوح عليه السلام نجاراً ، وكان موسى عليه السلام راعياً للغنم وكذلك كان محمد r .

ولقد اقتدى الصحابة برسولهم الكريم ، فلم يركنوا إلى الكسل أو يقعدوا عن طلب الرزق، بل كانوا جميعاً يعملون ، فقد كان الصحابي الأول أبو بكر رضي الله عنه تاجر قماش، وكان الزبير بن العوام خياطاً وكان عمرو بن العاص جزاراً ، والعمل شرف مهما كان متواضعاً  فقد روي أن أحد الأمراء مر على عامل نظافة ، وهو يكنس الشوارع وينشد قائلاً :

وأكرم نفسي إنني إن أهنتها  وحقك لم تكرم على أحد بعدي

فقال الأمير للعامل: وأي إكرام هذا الذي أكرمت به نفسك ، وأنت تعمل كناساً ، فقال : إن عملي هذا أفضل من أن أقف على أبواب اللئام أمثالك يعطونني أو يمنعوني ، وقد أكرم الإسلام العمال ، وجعل لهم حقوقاً كثيرة ، وجاءت الأحاديث الشريفة موضحة ذلك فقال r : ( من استأجر أجيراً فليعطه أجره ) وقال : ( أعط الأجير أجره قبل أن يجف عرقه ) .

 وحث الإسلام على العمل حتى عند قيام الساعة وفي أحرج الأوقات ( إذا قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها ) .

إن أهم شيء تقوم عليه هذه الحياة ، هو العمل فكل ميسر لما خلق له ،  والعمل في ذاته حركة ، والحركة دليل الحياة ، والسكون دليل الموت ، فلا يمكن أن تستقيم حياة بغير عمل ، ولا يمكن إن تنتظم حياتنا بغير عمل  ولذلك اعتبر العمل محور الإسلام وجوهره ، على أن يكون في حدوده الشرعية ، التي لا تمس حقوق الآخرين   ولا تضر بمصالحهم ، فكان من قواعد الإسلام قوله r : ( لا ضرر ولا ضرار ) وقوله r : ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) .

وقد وضع الإسلام للعمل قواعد عامة ، وقواعد خاصة في كثيرٍ من أنواع التصرفات ، تدور كلها حول وقاية المجتمع من الخصومات ، التي تبدد شمله ، وتكدر صفوه ، كما عنى بتنظيم العمل وتوزيعه ، حتى لا يشغل عمل الدنيا عن عمل الآخرة ، وعما يجب عليه من حقوق كما بين أن المغالاة فيه ، وعدم تحري طرق الكسب الحلال لا تجلب رزقا ، ولا تضاعف كسبا قال r : ( إني لا أعلم شيئاً يقربكم من الجنة ويبعدكم من النار إلا أمرتكم به ، وإني لا أعلم شيئاً يبعدكم من الجنة ويقربكم من النار إلا نهيتكم عنه ، وإن الروح الأمين نفث في روعي أن نفساً لن تموت حتى تستوفي رزقها ، وإن أبطأ عنها ، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ، ولا يحملنكم استبطاء شيء من الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله تعالى  فإن الله لا ينال ما عنده بمعصيته ) .    

 

 

 

 

حث الإسلام على العمل والصناعة

 

الإسلام دين عقيدة وعبادة وعمل، هناك من يترجم هذه المعاني السامية إلى سلوك عملي تطبيقي في الحياة   وبخاصة العمل الإنتاجي اليدوي سواء  في المجالات الزراعية أو الصناعية أو التجارية ، ولأهميته فقد اهتم به الإسلام به وحض الله تعالى عليه في قوله : { ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم ، أفلا يشكرون } يس 35. وأخبر الله تعالى بأن العمل كان من مهام الرسل الكرام : { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا، إني بما تعملون عليم } المؤمنون51 . وقال صلى الله عليه وسلم : (ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم، فقال أصحابه  وأنت  يا رسول الله ؟ قال : وأنا: كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة) أخرجه البخاري عن أبي هريرة . وفي حديث ابن عباس قال :  ( كان آدم حرّاثا  وكان نوح نجاراً وكان داوود زرّادا ، يصنع الزرد والدروع ، وكان إدريس خياطا وكان موسى راعيا ) رواه الحاكم في المستدرك . وقد عد رسول الله صلى الله عليه وسلم العبد  في سبيل الله ، إذا أخلص النية : روى كعب ابن عجرة قال : مر على النبي صلى الله عليه وسلم رجل ، فرأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من جلده ونشاطه وقالوا : يا رسول الله ! لو كان هذا في سبيل الله فقال : إن كان خرج يسعى على ولده صغارا فهو في سبيل الله  وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله ، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله ، وإن كان يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان)  أخرجه الطبراني ورجاله رجال الصحيح .  وقال صلى الله عليه وسلم : ( إن الله يحب العبد المحترف ومن كد على عياله كان كالمجاهد في سبيل الله عز وجل) رواه أحمد . وقال عمر بن الخطاب : " إن الله خلق الأيدي لتعمل، فإن لم تجد في الطاعة عملا التمست في المعصية أعمالا " مع وجوب الاعتقاد أن العمل ليس سببا للرزق، لان الله هو الرزاق قال تعالى :{ هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه واليه النشور}  الملك   15.  هذه الآية فيها حض من الله للقادر على بذل الجهد  وأداء الأعمال واستخدام كل الطاقات البشرية لاستخراج خيرات الأرض ، وتحريك الحياة الاقتصادية وإنمائها لما فيه خير الفرد والجماعة  ومن يدرس حياة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن جاء بعدهم ومن سار على نهجهم يرى أنهم اهتموا بمعاشهم، وزاولوا إعمالهم الإنتاجية فكانوا العلماء والتجار، والمحترفين للصناعات ، فقد سلكوا كل طريق شريف ، وعالجوا كل باب مغلق ففتحوه ، وآمنوا بأن العمل إذا لم يكن فيه استغلال لجهود الآخرين هو درجة من درجات العبادة يثاب عليه ، كما يثاب على العبادة .

 

إن الإسلام لا يرضى البطالة والقعود عن العمل ، لأن الأمة التي تستغني عن أعدائها بما تعمل وتنتج ، تكون أمة قوية عزيزة ، أما الأمة التي ألفت البطالة، وسكنت إلى الخمول والكسل، واعتمدت على غيرها في عملها وقوتها وسلعتها، فهي أمة ضعيفة مهانة لا تحمي نفسها، ولا تنال نصيبها من العزة والاستقلال . ولا تسعد أمة يأبى أبناؤها العمل الإنتاجي ، ويعتمدون على ما تنتج مصانع غيرهم  وما علموا أن الله يحب العبد المحترف والعامل الذي يتقن عمله قال صلى الله عليه وسلم : ( من أمسى كالا من عمله أمسى مغفورا له) الطبراني في الأوسط عن ابن عباس وقوله صلى الله عليه وسلم : ( وما أكل أحد طعاما خيرا من أن يأكل من عمل يده ) . وقد أعطى الرسول صلى الله عليه وسلم رجلاً فأساً وأمره أن يحتطِب ويبيع لئلا يبقى عالة على المجتمع ، وضرب عمر بن الخطاب شباباً جلسوا في المسجد وتركوا الكسب واعتمدوا على جيرانهم وصاح في وجوههم : اخرجوا واطلبوا الرزق، فإن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة، وشارك الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه في بناء مسجده وحفر مع الصحابة الخندق وقال: ( إن الله يحب من أحدكم إذا عمل عملاً أن يتقِنَه ) وقال:  ( المؤمن القوي خير وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف ) . بعد الحرب العالمية رفع الألمان شعار (العمل أو الموت) فتحوّلت ألمانيا إلى ورشة عمل، وبعد أربع سنوات صارت من كبار الدول الصناعية ، وقامت روسيا في مطلع القرن العشرين بتحويل بلادها من بلاد زراعية متخلفة إلى بلاد صناعية تقف في مقدمة الدول الصناعية   اعتمادا على نفسها، وقد اشتهر عن "لينين" قوله حين طلب منه شراء جرارات " لن نستعمل التراكتورات حتى ننتجها نحن وحينئذ نستعملها".  وفي كتاب (متعة الحديث) يقول إسحاق نيوتن: النجاح يحتاج إلى ثلاثة عوامل: العمل ثم العمل ثم العمل، والعمل يبدأ بالعلم قال تعالى: { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ } والعلم يبدأ بالقراءة، وأمة لا تقرأ لن تتعلّم ولن تعمل ولن تنال المجد ،  وأمة لا تعمل لا تستحق البقاء  والإسلام جاء بالعلم والعمل ، ولذا تقدم الغرب لاعتماده على العلوم العملية التطبيقيّة ، فعمل على إيجاد المصانع والمعامل، أما نحن فقد اعتمدنا على العلوم النظرية فانشغلنا بالتوافه من الأمور ، على حساب الإبداع والاختراع والصناعة ، ولذلك سمونا بالدول النامية ، فأي دولة لا تتحوّل إلى ورشة عمل هي دولة نامية نائمة كُتب عليها الموت ، فبالعمل والإنتاج تتقلّص مشكلاتنا وبطالتنا وفقرنا وأمراضنا، وليكن شعارنا "نأكل مما نزرع، ونلبس مما نصنع "  وعَرَق العامل أزكى من مسك الفاشل وساعد المثابر أكرم من جبين الكسلان  ، إننا نحترم ونكْبِر كل مسؤول جلس على كرسيّه يعدِلُ في القضايا ويقمع الظالم وينصر المظلوم ويواسي المنكوب، ونشكر كل أستاذ وقف يصحح المفاهيم ، ويصلح القلوب ويبني العقول ، ونتوجه بالتحية لكل طبيب يعالج مريضاً ويداوي مبتلى ويضمّد جرحا، ونثمّن عمل كل مزارع يغرس شجرة ويحرث أرضاً، وكل التقدير والاحترام للسواعد القويّة والهمم الوثّابة والأفكار الخلاّبة  .

 

قال ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نظر إلى الرجل فأعجبه قال:( هل له حرفة"؟ فإنْ قالوا : لا، قال :  سقط من عيني ، قيل: وكيف ذاك يا رسول الله ؟ قال : لأن المؤمن إذا لم يكن له حرفة يعيش بدينه ) .

 

لقد أخضع الغرب العالم الإسلامي كله لنفوذه، وأبعد الإسلام عن حياته خاصة الاقتصادية منها ، وبذل قصارى جهده لتحطيم القواعد الاقتصادية له ، ليجعله سوقا لاستقبال منتجاته الصناعية، وليجعله ممدا له بالمواد الأولية والاستخراجية ، فشوه القطاعات الزراعية والتجارية والصناعية وحتى الحرفية للعالم الإسلامي، بشكل جعله  ينتج ما لا يستهلك، ويستهلك ما لا ينتج ، ليعزز تبعية اقتصاديات العالم الإسلامي له، بل إن هذه التبعية زادت بالاعتماد على استيراد المصانع وقطع الغيار والسلاح.

 

إن السياسة الصناعية تقتضي إيجاد المصانع التي تصنع الآلات ، ثم بعد توفر الآلات من صناعة البلاد تؤخذ هذه الآلات وتصنع باقي المصانع .  فالثورة الصناعية إنما حصلت في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية وروسيا حين وجدت فيها صناعة الآلات . لأن الدولة التي لا تكون فيها صناعة الآلات فإن مصانعها الأخرى تكون مربوطة تبعّيا للدولة التي تملك الآلة وقطع الغيار؛ ولهذا فإن إيجاد مصانع الآلات واجب شرعي بل فرض على المسلمين ، لأن  عدم وجود مصانع الآلات يجعل جميع المصانع في بلادنا عالة على الدول الأخرى في صناعة الآلات الثقيلة، فإذا تعطلت آلة أو لزمت قطعة غيار تعطل المصنع وتوقف عمله على تزويده بقطع الغيار من الدولة المصنعة ،  وهذا يكلف المسلمين ثمنا غاليا ، وحتى يكون للمسلمين تأثيرهم في المجال الدولي والسياسة العالمية ، يجب أن تقوم الصناعة على أساس عسكري حربي، وأن تكون هذه الصناعة هي الهدف الأساس من التصنيع الثقيل ، فضلا عن القطاعات الصناعية الأخرى ،  كما هو الحال مع ألمانيا واليابان بعد تقييد صناعتها الحربية بعد الحرب العالمية الثانية ، أصبحتا لا تأثير لهما في صناعة القرارات الدولية .

 

فلولا الصناعة الحربية لما كانت القوة العسكرية من أهم العوامل المؤثرة في قوة الدول لتحقيق أمنها القومي  والدولة التي ليس لديها القدرة على توفير الاكتفاء الذاتي في صنع الأسلحة والمعدات اللازمة للحرب، لن يكون أمامها إلاّ استيرادها من الخارج ، والإنفاق للتدريب عليها، وتوفير قطع الغيار وورش الإصلاح، وهذا يشكّل عبأً ثقيلاً على كاهل الدولة ، مما يؤثر على سيادتها وحريتها في التحرك السياسي .  لذا جاء الأمر الإلهي بإعداد ما يستطاع من القوة بامتلاك أقصى ما يمكن ‏امتلاكه من القوة الحقيقية ووسائلها لا القوة الصورية أو الاستعراضية  ، وقد بين نص الآية السبب الذي لأجله أمر المسلمون بإعداد ما يستطاع من القوة في قوله ‏تعالى : { تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ } فكان في إعداد ‏القوة البالغة أمان للأمة من الأعداء المعروفين وغير المعروفين، حتى إنه ليخافها ويرهب جانبها من لا ‏يعرفه المسلمون ، مما يشكل رادعا لمن تسول له نفسه بمهاجمتهم أو التآمر عليهم، ويصير الإهمال في ‏إعداد ما يستطاع من القوة ، مدعاة لأن يستخف بهم أعداؤهم ويتجرؤون عليهم ، فكان هذا النص القرآني في وجوب إعداد القوة التي تخيف الأعداء  ، بغرض تأمين دار الإسلام ضد عدوان المعتدين، ليفتح باب التصنيع الحربي أمام المسلمين على ‏مصراعيه، لأن إعداد المستطاع من القوة لا يتم إلا بذلك، ومن القواعد المشهورة عند أهل العلم " أن ‏ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب " من هنا يظهر وجوب إقامة المصانع الحربية التي تمد جيوش ‏المسلمين ، بالآلة الحربية المناسبة لعصرهم ، في جميع المجالات الحربية :البرية والبحرية والجوية.‏

 

وقد ظهرت عناية الشريعة بالتصنيع الحربي لما له من أهمية فقال صلى الله عليه وسلم : ( إن الله ليدخل ‏بالسهم الواحد ثلاثةً الجنةَ :صانعه يحتسب في صنعته الخير، والرامي به، والممد به  وقال ارموا ‏واركبوا، ولأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا، كل ما يلهو به الرجل المسلم باطل إلا رميه بقوسه، ‏وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله، فإنهن من الحق )  ‏فلم يقصر الرسول صلى الله عليه وسلم ثواب الجهاد وأجره على المجاهد الفعلي ، بل جعل القائم بالصناعة الحربية شريكا للمجاهد ‏في دخول الجنة لما يترتب عليها من نشر الدين وحماية ديار المسلمين .   

 

 

 

 

 

 

 

نعمة صحة الفهم  

 الفهم هو من توفيق الله عز وجل لعبده ، وهو نور يميّز به الفاسد من الصحيح ، والحق من الباطل والغي من الرشاد   بل هو معرفة الشيء وتصوره من اللفظ والعلم به .

في عهد داود وسليمان عليهما السلام « خَرَجَتِ امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا صَبِيَّانِ لَهُمَا فَعَدَا الذِّئْبُ عَلَى إِحْدَاهُمَا فَأَخَذَ وَلَدَهَا فَأَصْبَحَتَا تَخْتَصِمَانِ فِي الصَّبِي الْبَاقِي إِلَى دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى مِنْهُمَا فَمَرَّتَا عَلَى سُلَيْمَانَ فَقَالَ كَيْفَ أَمْرُكُمَا فَقَصَّتَا عَلَيْهِ فَقَالَ ائْتُونِي بِالسِّكِّينِ أَشُقُّ الْغُلاَمَ بَيْنَهُمَا. فَقَالَتِ الصُّغْرَى أَتَشُقُّهُ قَالَ نَعَمْ. فَقَالَتْ لاَ تَفْعَلْ حَظِّي مِنْهُ لَهَا. قَالَ. هُوَ ابْنُكِ. فَقَضَى بِهِ لَهَا ». قال تعالى: (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ) فخصّه الله -عز وجل- بفهم هذه القضية وأثنى عليه .

 إن صحة الفهم وحُسن القصد من أعظم النعم التي أنعم الله بها على عباده ، بل ما أُعطى عبدٌ عطاءً بعد الإسلام أفضل ولا أجل من حسن الفهم ، به يأمنُ العبد طريق المغضوب عليهم الذين فسد قصدهم، وطريق الضالين الذين فَسدت فهومهم، ويصير من المنعم عليهم الذين حَسُنَت أفهامهم ، وهم أهل الصراط المستقيم ، وصحة الفهم نور يقذفه الله في قلب العبد يميز به بين الصحيح والفاسد ، والحق والباطل ، كما أنه يعين على سلامة العمل , وحسن التطبيق , ويقي صاحبه من العثرات .

قال عمر بن عبد العزيز  : " من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح " ،  هناك أناسٌ لا يعرفون في التعامل مع المسلم المؤمن إلا بسوء الظن والتأويل السيء والفهم المعوج  ، علماً بأن الإسلام قد قطع هذا الطريق المفضي إلى الفساد؛ بتحريم الظن السئ، واجتنابه؛ في قوله تعالى : ] اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم [ .

 وذلك لصيانة أعراض الناس، والمحافظة على حرماتهم وسمعتهم وكرامتهم ، وذلك من فرائض الإسلام   وواجباته الأساسية ؛ حتى تقوى صلات الأفراد، وينتفي كل ما يزرع في النفوس العداوة، والبغضاء ، فلا يحل لأحد منهم أن يتهم غيره بفحش ، أو ينسب إليه الفجور، أو يسند إليه الإخلال بالواجب ، أو النقص في الدين أو المروءة ، أو أي فعل من شأنه أن ينقص من قدره   أو يحط من مكانته ، فأمر الله تعالى بالتثبت؛ ونهى عن تصديق الوهم، والأخذ بالظن؛ فقال تعالى: ] ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً [  أي لا تقل إني سمعت والحال أنك لا تسمع، ولا رأيت والحال أنك لم تر ، ولا علمت والحال إنك لم تعلم ؛ ولا تتبع الظن في أي قضية من القضايا؛ فتصدق ما لا يتفق مع الواقع، ولا مع العلم الصحيح، لإنك مسؤول أمام الله تعالى عن ذلك كله . هناك  أشخاص لا يعرف في حياته حسن الظن وحسن الفهم مع الناس ، فحرم هذه الخصلة الطيبة والأدب السوي الجميل، الذي يقود صاحبه إلى قبول الحق ورفض الباطل ، إنها علامة على رجاحة العقلِ ووفور العلمِ ، فيا من تتهم غيرك دون تفهم وتثبت ، اسمع يحيى بن خالد بن جعفر وهو يوصينا بحسن الفهم لما نقرأ ونسمع فقال: " لا ترد على أحد جوابا حتى تفهم كلامه، فإن ذلك يصرفك عن جواب كلامه إلى غيره، ويؤكد الجهل عليك، ولكن افهم عنه، فإذا فهمته فأجبه ولا تعجل بالجواب قبل الاستفهام ، ولا تستح أن تستفهم إذا لم تفهم ، فإن الجواب قبل الفهم حمق، وإذا جهلت فاسأل فيبدو لك، واستفهامك أجمل بك، وخير من السكوت على العي " . وعند صدور قول أو فعل يسبب لك ضيقًا أو حزنًا حاول التماس الأعذار واستحضر حال الصالحين الذين كانوا يحسنون الظن ويلتمسون المعاذير حتى قال الإمام الشافعي: التمس لأخيك سبعين عذراً. وقال ابن سيرين رحمه الله: ” إذا بلغك عن أخيك شيء فالتمس له عذرًا  فإن لم تجد فقل: لعل له عذرًا لا أعرفه “.إنك حين تجتهد في التماس الأعذار ستريح نفسك من عناء الظن السيئ وستتجنب الإكثار من اللوم لإخوانك ولله در القائل :
تأن ولا تعجل بلومك صاحبًا   لعل له عذرًا وأنت تلوم

هناك أشخاص يسري في دمائهم وعروقهم سوء الظن وعدم التماس الأعذار والفهم السيئ والتأويل السيئ  وهناك أشخاص لا يرتاح لهم بال إلا وهم يطعنون في الغير ، متناسين أن من فضح مسلما فضحه الله يوم القيامة ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة ، فكيف بمن يكذب ويعتمد على كلام  الغير في الطعن والاستطالة في عرض المسلم  الذي حرّمه الله تعالى فقال : ] وَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَ إِثْمًا مُبِينًا [ الأحزاب 58 .
 أما كيف نتعامل مع من لا نصيب له في الفهم ، ومن لا موجِّه له ولا مرشد ، ولا واعظ له من ذاته ، يعظه ويحبسه عن ظلم الناس ، يعتمد على رأيه فيزل ، أو يعتمد على عقله فيضل ، أو يعتمد على آراء شاذة وعقول غير رشيدة، علمها بالدين قليل، أو فهمها للدين عليل فتتعامل بشكل غير صحيح مع النصوص القرآنية والنبوية العامة والخاصة في هذا المقام ، وذلك بوضعها في غير موضعها والاستشهاد بها في غير محلها .

إن سوء الفهم عن الله ورسوله أصل كل بدعة وضلالة نشأت في الإسلام قديما وحديثا، بل هو أصل كل الأخطاء في الأصول والفروع ؛ ولأهمية الفهم وفضله فقد بوب الإمام البخاري في كتاب العلم بابا بعنوان "باب الفهم في العلم"، روى فيه حديثاً عن معاوية أن رسول الله r قال : ( من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ) قال الحافظ ابن حجر رحمه الله : "أي يفهِّمه"، ثم قال : "ومفهوم الحديث أن من لم يتفقه في الدين، أي يتعلم قواعد الإسلام وما يتصل بها من الفروع، فقد حُرم من الخير كله". وقد جعل النبي r  الفهم والمعرفة للأمور وحسن الإدراك والتبصر بالمقاصد والتقدير للعواقب، مناط خيرية الإنسان عند الله ،  وكان من دعائه المأثور  واللافت لعبد الله بن عباس رضي الله عنها: (اللَّهُمَّ فَقِّهُّ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ) . فكان ابن عباس ببركة هذا الدعاء، حبر الأمة وعالمها وأحد منارات فقه الصحابة العظيم .  إن من المؤلـم والمحزن حقاً أن الدراسات الفقهية والشرعية بشكل عام تعاني، لأنها تُخَرِّج حفظة وحملة فقـه في الأعم الغالب ولا تُخرج فقهاء وتُخرج نقلة يُمارسون عملية التفريغ والتلقين ، ولا تخرج مفكرين ومجتهدين يربون العقل ويُنمون التفكير ، والناظر إلى الكثير من رسائل وبحوث الماجستير والدكتوراه في الجامعات الشرعية الإسلامية بشكل عام يَجدُ أطناناً من الوَرق يَعْظُم كَمها ويتضاءل كيفها، لم تُحرك ساكناً ،ولم تحقق رؤية ، تغير من واقـع الأمة .

إن أزمة المسلمين الأولى في هذا العصر هي أزمة فكر  وأوضح ما تتمثل فيه أزمة الفكر هي أزمة فهم القرآن الكريم والسنة النبوية والتعامل معهما ، وأزمة الفهم السوي للقرآن بحسن تفسيره الذي يُبين مقاصده   ويُوضح معانية ، وعدم إغفال التفريق بين الحقيقة والمجاز في السنة النبوية الذي يوقع في كثير من الخطأ ، كما هو عند الذين يسارعون إلى الفتوى في عصرنا، فيحرِّمون ويوجبون ويبدِّعون ويُفسّقون، وربما يُكفّرون بنصوص إن سُلِّم بصحتها، لم يُسلَّم بصراحة دلالتها ، مثال ذلك : حديث ( لأَنْ يُطَعَنْ أَحَدُكم بِمخيَط من حديدٍ خيرٌ له أن يَمسَ امرأةً لا تَحلُ له ) فإذا سلمنا بصحة الحديث أو تحسينه، إلا أن الحديث ليس نصاً في تحريم المصافحة ، لأن المس في لغة القرآن والسنة لا يعني مجرد اتصال البَشرة بالبَشرة ، إنما معنى المس هنا ما دل عليه قول ترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنهما : أن المس واللمس والملامسة في القرآن كناية عن الجماع  فإن الله حيي كريم يُكنِّي عما شاء بما شاء .

 بل إن من أعظم أسباب الانحراف في فهم القرآن الكريم والسنة هو وضع النصوص في غير موضعها الصحيح والاستدلال بها على غير ما سيقت له ، ومنشأ ذلك هو إتباع النص المتشابه وترك النص المحكم وما يدفع إلى ذلك زيغ القلوب وإتباع الهوى ، فكثيراً ما يكون النص صحيحاً لا مَطعن فيه ولا خلاف على ثبوته ، فهو أية من كتاب الله ، أو سنة قولية أو عملية أو تقريرية، ثابتة عن رسول الله r ولكن العيب في الاحتجاج بهذا النص على أمر معين ، وهو لا يدل عليه لأنه سيق مساقاً آخر، وقد يأتي ذلك كله من الخلل في الفكر وسوء الفهم للنص وذلك نتيجة العجلة التي نراها ونلمسها عند السطحيين من الناس، الذين يتخرصون على النصوص بغير بينه ويتطاولون بغير سلطان آتاهم ، ويقولون على الله ما لا يعلمون ، وقد يكون ذلك من الخلل في الضمير وفساد النية ، حيث يَعمد بعضُ الناس إلى ليِّ أعناق النصوص لتوافق هواه ،  بمعنى أن يُفسرها تفسيراً يُخرجها عما أراد الله تعالى ورسوله بها إلى معنى أخر يريدها المؤولون بها وقد تكون هذه المعاني صحيحة في نفسها ، ولكن هذه النصوص لا تدل عليها، وقد تكون المعاني فاسدة في ذاتها وأيضاً لا تدل النصوص عليها فيكون الفساد في الدليل والمدلول معاً .

ومن مظاهر أزمة الفهم، التشديد والتعسير، الذي من شأنه أن يُنفِّر الناس من الدين، وأن يَجلب على الإسلام مفاسد كثيرة ، كما يُضيع عليه وعلى أمته مصالح كثيرة. ومن مظاهر هذا التشديد: إغفال الرخص مع مسيس الحاجة إليها، والتوسع في مفهوم البدعة، والتوسع في التحريم والإيجاب . وما كان اختلاف الفقهاء  لتحقيق رغبات شخصية أو منافع مادية وإنما كان ناشئا عن دليل استند إليه كل منهم فيما ذهب إليه أو بناء علي فهم معين اقتنع به كل منهم واعتمد عليه ما دام هذا الفهم لا يتعارض مع كتاب الله تعالي وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وما اجتمعت عليه الآمة ، وهذا ما يلاحظه كل قارئ لأسباب اختلافهم 0

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

فلسفة العلم في الإسلام

إن الإسلام يؤمن بالعلم طريقاً للتقدم ، وقد أعلن على الأمية حرباً شعواء ، منذ اللحظة الأولى لبعثة محمد صلى الله عليه وسلم فكانت أول آية نزلت عليه ] اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق ، اقرأ وربك الأكرم ، الذي علم بالقلم [ بهذه الآية أصبح العلم شعار الإسلام ، له فاعلية في جميع الميادين ، بحيث لو استبعدناه من الإسلام لم يبق له شيء ، فكل عبادات الإسلام مرتبطة بالعلم ، وجاءت الآيات القرآنية تربط بين العبادة المخلصة وبين العلم فقال تعالى : ] أمَّن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحْذَرُ الآخرة ويرجو رحمة ربه ، قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون [ الزمر 9 . فالقنوت الخاشع لله يتوقف على العلم ، ومن ثم لا تستوي عبادة الجهال وعبادة العلماء لما ورد عنه صلى الله عليه وسلم ( فضل العلم خيرٌ من فضل العبادة ) البزار ، ولقوله صلى الله عليه وسلم : ( أفضل العبادة الفقه ) الطبراني   وقال صلى الله عليه وسلم في فضل العالم على العابد : ( فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم رجلا ) الترمذي

ومن العلماء من يحمل المؤهل العلمي , لكنه ينسلخ من مبادئه ، ومن تقوى الله وخشيته ، لا يطبق الواجب من الدين ومنهجه ، وهذا هو العلم الضار قال تعالى :        ] وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ  [ البقرة 102.  هذا الصنف من العلماء هم الذين قال فيهم سفيان الثوري : " إن فجار القراء اتخذوا القرآن إلى الدنيا سلما قالوا : ندخل على الأمراء نفرج عن المكروب ، ونتكلم في محبوس ، ولم يكن ذلك هدفهم ، إنما كانوا يقتنصون الدنيا " ، فعلى العالم أن يحسن الظن بالشريعة ، لأن العلم هو الشريعة  وأن يحسن ظنه في عمله للعلم ، وأن يحسن ظنه بالعلم والعمل جميعا، وأن يقبل على ذلك .

ولقد أحسن ابن القيم عندما قال :

والجهلُ داء قاتلٌ وشفـاؤه   أمران في التركيب متفقـانِ

نص من القرآن أو من سنة   وطبيب ذاك العالم الربانـي

والعلم أقسام ثلاثة ما لهـا      من رابع والحق ذو تبيانِ

علم بأوصاف الإلـه وفعله    وكذلك الأسماء للدّيانِ

والأمر والنهي الذي هو دينـه  وجزاؤه يوم المعاد الثاني

والكلُّ في القرآن والسنن التي جاءت عن المبعوث بالفرقان

والله ما قال امرؤ متحذلق    بسواهـما إلا من الهـذيـان

وهذا حق ، فالعلم به كمال الروح ، وكمال الاعتقاد  وكمال العمل ، وكمال انشراح الصدر ، وكمال رؤية الأشياء ، وقد ذكر أهل العلم أنَّ من أسباب ضلال الضالين من هذه الأمة ، أنهم ضلوا لأنهم لم يكونوا على علم صحيح ، لأن العلم الصحيح سبب من أسباب وقاية الفتن ، ووقاية أسباب الضلال .

كثيرون بينهم وبين الكتاب جفاء وهجر ، ومع أنهم أمة  (اقرأ) ، أو أن القراءة أصبحت حسَّ الكثيرين ممن اشتطّت أفكارهم عندما فسدت قراءاتهم ، لا يدري ما يقرأ فمرة عن الرياضة ، ومرة عن الفن ، ومرة عن السفاهة   وأحسنهم حالاً من يقرأ عناوين الصحف .   

وكيف يعقل من يقرأ خمس صحف يومية ، ولا يقرأ كتاب رب البرية ؟! وكيف يرشُد حاوي الأدبيات السخيفة ، وهو مُعرض عن الأحاديث النبوية الشريفة ؟! أو من هو مغرَم بالقصص الفنية ، وقد غفل عن السيرة النبوية ، أو من هو هاوٍ للمغامرات ، وناس ما لأهل الإسلام من فدائيات وبطولات! قد ثقلت عليهم المعرفة  وخف عليهم القيل والقال ، ولو سألت أكثرهم ماذا قرأت اليوم ؟ وكم صفحة طالعت ؟ لوجدت الجواب صفر ، غالبهم بطين سمين ، ثخين بدين ، لأنه مجتهد في تناول كل ما وقعت عليه العين ، ووصلت إليه اليدين ،  إنهم بحاجة إلى دورات تدريبية على القراءة  لأنهم وزّعوا أوقاتهم على  السمر مع الشاشات   ومشاهدة المسلسلات ، أو متابعة آخر الموضوعات ، وما علموا أن الإنسان بلا قراءة قزم صغير ، وأن الأمة بلا كتاب قطيع هائم كبير .

والمطالع لسِيَر العظماء العباقرة ، يجد الصفة اللازمة لجميعهم القراءة والمطالعة ، وهيامهم بالمعرفة وعشقهم للعلم ، حتى مات الجاحظ تحت كتبه، وتوفي مسلم صاحب الصحيح وهو يطالع الكتب ، وكان أبو الوفاء ابن عقيل يقرأ وهو يمشي ، وقال المتنبي: وخير جليس في الزمان كتاب ، وقال صاحب كتاب فن الخطابة : العظمة هي قراءة الكتب بفهم ، وقال الروائي الروسي تيولوستي : قراءة الكتب تداوي جراحات الزمن 

أما آن لنا أن نقبل على القراءة ، بدل أن نقضى العمر ونقتل الزمان بالهذيان ، وأماني الشيطان ، وأخبار فلان وعلاّن ، أما آن لأصحاب الذهن الجامد ، والضمير الراقد أن يستيقظوا ويقتدوا بأصحاب الهمم الشماء ، التي جعلت أحمد بن حنبل يطوف الدنيا ليجمع أربعين ألف حديث في المسند ، وابن حجر يؤلّف فتح  الباري ثلاثين مجلداً ، وابن عقيل الحنبلي يؤلف كتاب الفنون سبعمائة مجلد ، وابن خلدون يسجّل اسمه في عواصم الدنيا، وابن رشد يجمع المعارف الإنسانية ، كانوا يعطون القراءة أكثر أوقاتهم متجلّدين ، كعطاء أهل الدنيا بدنياهم ومشاغلهم ، فلا غرابة إذا قلنا أن عالمًا من المسلمين قرأ (المدونة) في الفقه المالكي ألف مرة ، والمحدث أبو بكر الأبهري : قرأ (الموطأ) خمسًا وأربعين مرة ، والحافظ الحسن السمرقندي قرأ صحيح مسلم نيفا وثلاثين مرة  والحافظ برهان الدين الحلبي ذكر أنه قرأ صحيح البخاري أكثر من ستين مرة ، وقرأ صحيح مسلم نحو عشرين مرة . وأبو الفرج ابن الجوزي ذكر في صيد الخاطر أنه ربما طالع  أكثر من عشرين ألف مجلد .

أولئك قوم شيد الله فخرهم فما فوقه فخر ولو عظم الفخر

ولقد أحسن من قال :

ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم على الهدى لمن استهدى أدلاء

وقدر كل امرئ ما كان يحسنه والجاهلون لأهل العلم أعداء

ففز بعلم تعش حيا به أبدا   الناس موتى وأهل العلم أحياء

 وقال الحسن : تعلموا العلم ، فإن تعلمه خشية ، وطلبه عبادة ، ومدارسته تسبيح ، والبحث عنه جهاد، وتعليمه من لا يعلمه صدقة ، وبذله لأهله قربة ، وهو الأنيس في الوحدة ، والصاحب في الخلوة ، والدليل على الدين   والصبر على الضراء والسراء ، والقريب عند الغرباء   ومنار سبيل الجنة ، يرفع الله به أقواما في الخير ، فيجعلهم سادة هداة يقتدى بهم ، أدلة في الخير ، تقتفى آثارهم  وترمق أفعالهم ، وترغب الملائكة في خلتهم ، وبأجنحتها تمسحهم ، لأن العلم حياة القلوب ، ونور الأبصار ، به يبلغ الإنسان منازل الأبرار ، وبه يطاع الله عز وجل    وبه يعبد ، وبه يوحد ، وبه يمجد ، وبه تواصل الأرحام  يلهمه السعداء ويحرمه الأشقياء " .

كتب رجل إلى ابن عمر يطلب منه أمراً عجيباً ، أتدرون ماذا قال : قال أكتب إلي بالعلم كله ، فبماذا رد عليه ابن عمر ؟ دله على مفاتيح الخير التي ينجو بها ، فكتب إليه : إن العلم كثير ، ولكن إن استطعت أن تلقى الله : خفيف الظهر من دماء الناس ، خميص البطن من أموالهم كافَّ اللسان عن أعراضهم ، لازماً لأمر جماعتهم ، فافعل

وتعتبر الدعوة في كتاب الله للقراءة ، دعوة كما قيل    إلى العلم ، ودعوة إلى المعرفة ، ودعوة إلى البحث والنظر ودعوة إلى الحق واليقين ، ومعنى ذالك فإن الإسلام منذ اللحظة الأولى ، حض على العلم وأشاد بالمعرفة ، والقرآن الكريم حافل بالآيات التي تدعوا إلى البحث والنظر  واكتشاف نواميس الكون  ، وكنوز الأرض، يقول الله تعالى : ] قل انظروا ماذا في السموات والأرض [   والعلم المشاد به لا يقتصر على العلوم الشرعية بل يشمل كل العلوم التي تحتاجها الأمة ، وقد اتفق الفقهاء على أن كل العلوم التي تفيد الأمة ، طلبها فرض كفاية بما في ذلك العلوم الشرعية ، وقصر فضل العلم على العلوم الشرعية دون سواها ، سبب أدى ويؤدي إلى تأخر الأمة عن ركب الحضارة والتقدم ، ولا يمكن للمسلمين أن يصيروا خير أمة أخرجت للناس ، كما قال بعض العلماء إلا إذا تفوقوا على سائر الأمم ، وأن يكونوا مثالا يحتذي في معاملاتهم وفي سلوكياتهم ، وما يتمسكون به ويدعون إليه ، من قيم رفيعة وأخلاق سامية ، إلى جانب تفوقهم في امتلاك أسباب القوة ، بمختلف أنواعها وأشكالها   القوة الاقتصادية والسياسة والفكرية والعسكرية والعلمية   وهذا يعني أن يطورا وباستمرار معارفهم وعلومهم في شتى المجالات ، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ) فيه إشارة إلى القوة بكل جوانبها وأشكالها ، قوة في البدن والروح ، قوة في العقل والعلم والإرادة .

كما ينبغي أن يعرفوا أن أهم عامل يساعد عل التحصيل العلمي الجيد والنافع ، تقوى الله ، قال تعالى : ] واتقوا الله ويعلمكم الله [ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم ) .

وقد قيل : لو كان العلم بلا تقى شرفا لكن أشرف المخلوقات إبليس ، ورحم الله الإمام عليا حين قال : " العلم خير من المال ، العلم يحرسك وأنت تحرس المال  والعلم حاكم والمال محكوم ، والمال تنقصه النفقة والعلم يزكوا بالإنفاق " .

إن الأمة الإسلامية ، لا يمكن لها أن تنهض إلا بالعلم ولا يمكن لها أن تتبوأ مكان الصدارة إلا بالعلم ، ولا يمكن لها أن تقضي على التخلف والأمراض والفقر إلا بالعلم ، ولا يمكن لها أن تقود غيرها إلا بالعلم ، ولا يمكن لها أن تنهي تفرقها المذموم إلا بالعلم ، فالعلم هو الأساس لوحدتها   وهو الأساس لفلاحها ، أفرادا وجماعات ، والعلم مأمور به قبل العمل ، لأنه أساس العمل قال تعالى : ] فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات والله يعلم متقلبكم ومثواكم [ . إن الترابط بين العقيدة والعلم والعمل في بناء الحياة ، أمرٌ لا بد منه  لبناء الدولة العصرية ، لأنه لا علم إلا بعمل ، ولا عمل إلا بعلم  ولا إيمان بغير ذلك ، وقد استخدم الإسلام العلم في كل مجالاته التطبيقية ، التي تناولت الحياة كلها  وخطط به للسلم والحرب ، والسياسة والاقتصاد والمال  وفي كل المجالات ، ولم يحدث في يوم من الأيام أن صار العلم نظريا فحسب ، بل إن القرآن لينعى على أقوام يقولون ما لا يفعلون فقال سبحانه : ] يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون [ الصف 2 . يفهم من الآية أنها جعلت العلم من غير عمل ، نكبة وضعفا ، ثم عقبت على ذلك بذكر نموذج تتكامل فيه المعاني الثلاث : العقيدة والعلم والعمل ، وهو الجهاد وقتال العدو ، فليس بالأقوال والمعرفة يكون الجهاد   وإنما يكون بعقيدة دافعة ، يخطط لها العلم ، ويترجمها التلاحم على خط النار ، في مواجة العدو كالبنيان المرصوص ، وكأنما الآية تريد أن تقول لنا : لا يكون الجهاد بالكلمات والنظريات بل بالدماء والتضحيات  وبدافع من العقيدة ] إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص [ الصف .

 

 

 

 

 

 

 

 

صلة الرحم

صلة الرحم خُلُق دعا الإسلام إليه وأمر به ورغّب فيه  وحذَّر من قطيعتة  وبيَّن العقوبة المترتبة على قاطعه ، في الدنيا والآخرة ، وأمر الله بصلة الرحم  ورغب في ذلك فقال تعالى :{ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَٱلأَرْحَامَ } النساء 1. أي: اتقوا الأرحامَ بصلتكم لها وقال تعالى:{ وَٱلَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوء الحِسَابِ } الرعد 21 .

والرحم هم أقاربَك من جهة أبيك وأمك، إخوانَك وأخواتِك، أعمامَك وعماتِك، أبناءَ أخيك وأبناءَ أخواتك، أبناءَ عمك، وأقاربَك من حيث الأب، أخوالَك وخالاتِك، أقرباءَ أمك، كلُّ أولئك رحم، أنت مدعوٌّ لصلتهم ، وصلتهم تكون بالإحسان إلى فقيرهم ومحتاجهم والوقوف معه في شدائد الأمور، وسؤالك عنهم  واهتمامك بشأنهم، والشفقة والرحمة بهم ، بل إن هذه  الصلة حق لكل من يمت إليك بصلة نسب أو قرابة وكلما كان أقرب كان حقه ألزم وأوجب ، وهم أولى بالرعاية  لأن صلتهم من واجبات الإيمان قال صلى الله عليه وسلم : ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه) بل إن أكمل الناس إيماناً من كان واصلاً لرحمه لما لها من مكانة قال صلى الله عليه وسلم : (خلق الله الخلق، فلما فرغ منهم قامت الرحم فقالت : هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: نعم  أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟! قالت: بلى، قال: فذلك لك) أخرجه البخاري ومسلم في البر ، وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من وصل رحمه وصله الله ، ومن قطع رحمه قطعه الله) .  قد تكون هناك أسباب لقطيعة الرحم  ، يتجاوزها المؤمن تقرباً إلى الله عملاً بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ليس الواصل بالمكافئ، إنما الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها) ليس الواصل الذي يقول: رحمي زارني سأزوره، رحمي دعاني سأدعوه، رحمي أهدى إلي سأهدي إليه وإلا لا   أما الواصل فإنه  يصل من قطعه ليدلَّ على أن تلك الصلة نابعة من إيمان صحيح ، فلا يرضى بقطيعة الرحم ، بل يصل من قطعه منهم ، ويحسن إلى من أساء إليه منهم  جاء رجل للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن لي رحماً أصلهم ويقطعونني وأحسنُ إليهم ويسيئون إليَّ، وأحلم عليهم ويجهلون عليَّ، فقال له النبي : ( إن كنت كما قلتَ فكأنَّما تسفّهم الملّ ـ وهو الرماد المحترق ـ ولا يزال معك من الله عليهم ظهير ما دمت على ذلك )  .

ويمكن أن تكون صلةَ الرحم بصرف الصدقات والزكوات إلى المحتاج منهم ، فهم أولى بذلك من غيرهم ، جاء في الحديث ( وصدقتك على المسكين صدقة ، وعلى ذي الرحم اثنتان: صدقة وصلة)  وقد دلت النصوص على أن أفضل النفقة ، النفقة على الأقارب قال تعالى :{ يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين }البقرة 215 . وقد جعل الله لذي القربى حق في الأعناق يوفى بالإنفاق : { وآت ذا القربى حقه } الإسراء 26 . ليس تفضلا إنما هو الحق الذي فرضه الله  فقريبك منك إن أحسنت إليه فإنما تحسن إلى شخصك وإن بخلت عليه فإنما تبخل عن نفسك ،  وإذا لم يجد الإنسان  ما يؤدي به حق الأقربين ، فإن هناك مجالات واسعة لصلتهم والإحسان إليهم ، كالبشاشة عند اللقاء وطيب القول وتفقدهم زياراتهم ، والمعنى الجامع لذلك كله إيصال ما أمكن من الخير ، ودفع ما أمكن من الشر ، بدون تعصب وهوى ورد للحق والهدى ، وبذلك تقوى المودة ، وتزيد المحبة ، وتتوثق عرى القرابة ، وتزول العداوة والشحناء .

وإن أسرع الخير ثوابا البر وصلة الرحم ، وأسرع الشر عقوبة ، البغي وقطيعة الرحم ، ولذلك حذرنا الله من قطيعة الرحم ، وبيَّن الوعيدَ الشديد المترتِّبَ على ذلك في الدنيا والآخرة ، قال تعالى : { وَٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَـٰقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ في ٱلأرْضِ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ ٱللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوء ٱلدَّارِ } الرعد 15 . ويقول تعالى :{ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى ٱلأَرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ  أَوْلَـئِكَ ٱلَّذِينَ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَـٰرَهُمْ }محمد 22 . وقد اعتبر الإسلام أساس التواصل هو التواد والتراحم  فإذا فقد ذلك تقطعت الأوصال قال تعالى : { والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار } الرعد 25 . ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( الرحم معلقة بالعرش تقول من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله) متفق عليه .

فاتقوا الله عباد الله وصلوا أرحامكم وقدموا لهم الخير ولو جفوا، وصلوهم وإن قطعوا، يدم الله عليكم بركاته ويبسط لكم في أرزاقكم ويبارك لكم في أعمالكم قال عز وجل : { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم } الأنفال 75 .  فرحمك إن دنوت منه داناك وإن بعدت عنه راعاك، وإن استعنت به أعانك ، مودة فعله أكثر من مودة قوله ، ولا فكاك لك عنه فعزه عز لك  وذله ذل لك  فمعاداتهم شر وبلاء ، الرابح فيه خاسر، والمنتصر مهزوم

وإن قطيعة الرحم من ضعف اليقين ورقة الدين ، عقوبتها معجلة في الدنيا قبل الآخرة قال صلى الله عليه وسلم : ( ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم ) 

فاتقوا الله عباد الله وصلوا أرحامكم فحق القريب رحم موصولة، وحسنات مبذولة، وهفوات محمولة، وأعذار مقبولة قال صلى الله عليه وسلم : ( يأيها الناس أطعموا الطعام وأفشوا السلام وصِلوا الأرحام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام ) .

 

 

 

 

 

رسالة المسجد

لا يخفى على المسلم ما للمسجد من دور هام في الحياة   فهو المدرسة الأولى التي تخـرَّج فيها الصحابة رضي الله عنهـم. فقد كـان لهـم كبير الأثر في جميع المجالات العلمية والدعوية والقضائية والأدبية وغيرها ، فقد أدى المسجد دوره وقام برسالته التي أقيم من أجلها؛ فلم يكن المسجد دار صـلاة فحسـب ، بـل كـان دار اجتماع لكـل المسلمـين ، ومـركزاً لإرسال السرايا والجيوش ، ومنه انطلــق الدعـاة إلى اللـه يعلِّـمون النـاس الخير.

ففد كان المسجد روح المجتمع الإسلامي ، ولذلك كان فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الأول عندما هاجر إلى المدينة ، أن يبني المسجد ، حتى يكون مَحْضِناً للرجال ومصنعاً للأبطال  وكما نعلم أن المصانع نوعان : مصانع للسلع أو الأسلحة ومصانع للرجال ، والحقيقة أن المسجد كان مصنعاً للرجال ، وكل أمة ليس لديها مصنعاًً للرجال ، فإن الأسلحة مهما كثرت فلا تغني عنها شيئا ، أما لماذا اهتم الرسول صلى الله عليه وسلم بإقامة المسجد ، لأن الناس الطيبين يوم يكون كلٌ منهم منطوٍ على نفسه بعيدٍ عن أخيه ، لا ينجحون في مقاومة الباطل والضلال ، ولذلك نرى أن الأعداء بالرغم من النجاح العسكري في غزو بلادنا ، فقد عملوا وبجد على ُسحب الإسلام من ميدان المقاومة ، وأن يجعل المسلمين المهزومين لا يلتقون في المساجد لقاءً نافعاً ، وقد تحقق لهم ما أرادوا ، فقد أصبحت المساجد صوراً  وأصبح الكلام الذي يلقى فيها ميتاً ، وعملوا في شتى الميادين على رفض أي تجمع للإسلام ، فاستطاعوا أن يَضرِبوا دون أن يُضربوا ، وأن يَظلموا وهم آمنون من العقوبة ، وأن يعتدوا ويحتلوا وهم يدركون أن الثأر منهم والإعداد لهم ما دام بعيداً عن الإسلام فلا قيمة له .

ففي المسجد أخي المسلم ينبغي أن تحرص على الصلاة وأن تستوعبها ، ومن حق المنعم أن تقول له بين الحين والحين ] الحمد لله رب العالمين [ ومن حق من يتركك تخطئ دون أن يعجل عليك العقاب ،  أن تذكره باسميه ] الرحمن الرحيم [ ثم تعلم أنك عائد إليه ] مالك يوم الدين [ ثم تعاهده على أن تكون عبداً له مستعيناً به متجهاً إليه ] إياك نعبد وإياك نستعين [ ثم لتعلم أنك أفقر الخلق إلى هدايته سبحانه ، فإذا لم يهدِ قلبك فإنك ضائع ، فاضرع إليه أن يهب لك هذا الخير المعنوي ] إهدنا الصراط المستقيم [ فإن مناجاة الله في الصلاة على هذا النحو ، تعلّم الناس الإخلاص لله ، والإخلاص في معرفة الآخرين ، لأن الذي يدرب نفسه على المناجاة الخاشعة والعمل الصالح خمس مرات في كل يوم ، ينبغي أن يكون نقياً لا يعرف النفاق ولا المداهنة ولا الغش ولا سوء العمل ، ولذلك جاء قوله تعالى في المجتمعات المنحرفة التائهة ] فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً [ مريم 59 . فكأن إتباع الشهوات اثر يجيء بعد ترك الصلوات .

لقد هانت المساجد رسالة ، وهانت مظهراً وجوهراً   وقد استطاع أعداؤنا أن يجعلوا صلتنا بالمسجد مبتوتة  بينما تشبثوا بعقائدهم الباطلة في كنائسهم .  

إن المسلمين ينبغي أن يعودوا إلى أنفسهم ، فما يمر به المسلمون يوقظ النيام ، لكنهم كالذين قال الله فيهم ] أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرةً أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذَّكَرون [ التوبة 126 . إننا لا ننتفع بالآلام ولا بالمصائب ما دام الإسلام بعيداً عن المعركة ، وعن تصفيف المجتمع في المساجد ، وما دام بعيداً عن التشريع والتثقيف ، ولا يمكن أن ننتصر إلا يوم أن يكون الإسلام صيحتنا ورباطنا وسياجنا ، وأن يلعب دوراً ريادياً كما كان يشكل الملتقى الروحي للناس فيعبدون الله فيه ، ويتعلمون العلوم النافعة لهم في دينهم ودنياهم، ويجتمعون فيه للتداول في أمورهم الداخلية والخارجية، فكانت تنطلق من منابره التوجيهات والتخطيطات المتعلقة بتنظيم حياتهم ، كما كانت تنطلق منها صيحات الجهاد. وقد سارت حياة المسلمين في مساجدهم على هذا النحو ، بحيث جسّدت المفهوم الإسلامي للعبادة التي تنفتح على الله سبحانه، لينفتح الناس من خلال ذلك على الحياة في مواقعها المضيئة المتحركة في سبيل الخير.

وعندما تراجع في هذا العصر الذي جمّد عقول المسلمين وأفكارهم ، فتجمّد كل شيء حولهم ، ونالت المساجد حصّة من هذا التجميد، فإذا بالأعداء ينكرون على المسلمين أن يتحدثوا في المساجد بغير الشؤون الدينية الخاصة التي تتحدث عن الجنّة والنار والعبادات والأخلاقيات ، أما إذا كان الحديث عما أمر الله به من مقاومة الظلم والإنحراف في شؤون الحكم والسياسة والاجتماع والاقتصاد، اتهموهم بأنهم يستغلون بيوت الله لغير الأغراض المخصصة لها ، وأثاروا الثائرة عليهم ، بأنهم يعملون على إدخال السياسة للمسجد وتسييس الدين  زعماً منهم بأن الدين لا يلتقي بالسياسة، في الوقت الذي نرى أن الله سبحانه وتعالى يصرح في أكثر من آية، بأن الله أنزل كتبه وأرسل رسله من أجل أن يقوم الناس بالقسط ، ولذلك فإن كثيراً من المساجد تعاني من تعاطي الخرافات والأساطير فيها ، واللغط واللهو والنوم ، وقضاء الأوقات في الأحاديث الدنيوية ، وربّما تعاطي الغيـبة  والكذب ، وتناول أعراض المسلمين ، إضافة إلى  التسبّب في هتك حرمتها ، بدل أن تبنى العلاقات الاجتماعية ويقوم التواصل الإنساني في المساجد على أساس الإيمان والحب والإخاء والتعاون والمساواة ، ورحمة الصغار واحترام الكبار ، ولذلك ارتبط تاريخ الأمة الإسلامية بالمسجد ارتباطاً وثيقاً ، لأن الإسلام لم يقْصر رسالة المسجد على أداء الصلاة فحسب ، بل أراد أن يكون له دور إيجابي ، وأهداف سامية تخدم المجتمع الإسلامي  فبالإضافة إلى أداء الصلاة ، فهو مكان لتلاوة القرآن الكريم ، ومعهد للعلم ومجلس للقضاء ، وملتقى التعاون والتكافل، ومكان للرأي والمشورة ، كيف لا وقد أضاف الله عز وجل إلى نفسه المساجد ، إضافة تشريف وإجلال فقال سبحانه وتعالى : ] وأن المساجد لله فلا تدعو مع الله أحدا [ الجن 18 وعليه فإن بيوت الله تعالى هي أحب البقاع إليه سبحانه ، منها يشع النور ومنها يسطع الحق والهدى والخير ، روى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أحب البلاد إلى الله مساجدها وأبغض البلاد إلى الله أسواقها ) مسلم . لذا فإن للمسجد في المجتمع الإسلامي أهمية كبرى ، ودور عظيم في تنمية المجتمع وترشيده ولا يقل هذا الدور في أهميته ، عن أثر المسجد في تكوين الفرد المسلم ، بل إن المسجد ميدان تعليم وتطبيق في وقت واحد ، فقد كان المسجد أعظم معاهد الثقافة لدراسة القرآن والحديث والفقه واللغة وغيرها من العلوم، وأصبح كثير من المساجد مراكز هامة للحركة العلمية ، وكما أنها   محراب للعبادة، فهي مدرسة للعلم، وندوة للأدب  ومصحة للأرواح ، لهذا نتمنى أن تعود للمسجد رسالته السامية، ومكانته التي كان عليها في صدر الإسلام   ليعيش المسجد في هذا العصر كما كان في الماضي ، وأن لا يقتصر دوره على أداء الصلوات ، وطلب العون والمساعدات والإعلان عن المفقودات ، وعلى مداخله تباع السلع والحاجيات ، عن أبي ذر قال : قلت يا رسول الله كيف تعمر مساجد الله ؟ قال : ( لا ترفع فيها الأصوات، ولا يخاض فيها بالباطل ولا يُشتر فيها ولا يُباع واترك اللغو ما دمت فيها، فإن لم تفعل فلا تلومنّ يوم القيامة إلا نفسك ) .

 

 

 

الذكر بين الإتباع والابتداع

قال تعالى : ] يا أيها الدين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيرا وسبحوه بكرةً وأصيلا [ أمر الله عباده أن يذكروه ، لأن الذكر يرضي الرحمن ويطرد الشيطان ( يقول النبي صلى الله عليه وسلم ورأيت رجلاً من أمتي قد احتوشته الشياطين – تداخلت في أحشائه- فجاءه ذكر الله فطرد الشياطين عنه )   والذكر ينوِر القلب ، ويورث محبة الله   ويُشغل عن الكلام الضار ، ويُؤمن العبد من نسيان ربه ، ويُزيل قسوة قلبه ، ويعين على طاعة الله ، وذكر الله أشرف ما يخطر بالبال ، وأشرف ما يتألّق به العقل الواعي وأشرف ما يستقر في العقل الباطن ، وقد أوصى الله المؤمنين بالخوف والوجل عند ذكره ، لقوة إيمانهم ومراعاتهم لربهم   وكأنهم بين يديه قال تعالى : ] إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم [ وقد كان حال أصحاب رسول الله عند الذكر الفهم عن الله ، والبكاء خوفاً منه  ولذلك وصف أصحاب المعرفة عند ذكره وتلاوة كتابه فقال الله تعالى : ] وإذا سمعوا ما أُنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق [ هذا وصف حالهم ، ومن لم يكن كذلك فليس على طريقهم ولا هديهم   والذاكرون المؤمنون ، إذا ما حلت بهم المصائب  استقبلوها بالرضى والطمأنينة قال الله تعالى : ] الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب [ الرعد 28 . والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : ( أربع من أعطيهن ، فقد أعطي خيري الدنيا والآخرة ، من أعطي قلباً شاكراً ولساناً ذاكرا ، وبدناً على البلاء صابراً ، وزوجة تعينه على أمر دينه ودنياه ) . وعندما قال موسى عليه السلام لربه : كيف أشكرك يا رب ؟ قال يا موسى تذكرني ولا تنساني ، إنك إن ذكرتني شكرتني ، وإن نسيتني كفرتني قال صلى الله عليه وسلم اقرءوا إن شئتم قوله تعالى : ] فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون [ البقرة 152 . اذكروني بطاعتي أذكركم برحمتي   واذكروني بالدعاء أذكركم بالإجابة ، واذكروني في الدنيا أذكركم في الآخرة ، واذكروني في الخلوات أذكركم في الفلوات ، واذكروني في الرخاء أذكركم في البلاء  واذكروني بالمجاهدة أذكركم بالهداية .   

 أما من ينطلقون صوب الدنيا يعبدونها ، ويربطون حاضرهم ومستقبلهم بها ، فالذكر هنا أن يستعفف الإنسان ، فيشعر أن مع الدنيا آخرة ، فيعمل لآخرته كما يعمل لدنياه ، وهذا معنى قوله تعالى  :   ]فاعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا [ النجم 29 .

إن المؤمن يذكر أن له رباً يغفر ويقبل التوبة ، لذلك فهو ينهض من كبوته ، ويطهر نفسه ، ويعود إلى ربه   ويستأنف الطريق إليه ، كما قال  الله  تعالى : ] والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم [ آل عمران 135 . فالفارق بين مؤمن يذنب ، وفاسق يذنب   أن المؤمن سرعان ما ينير الإيمان قلبه ، أما الفاسق فإنه يبقى على ظلمته ، ولا يعرف طريق التطهر قال الله تعالى : ] إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا الله فإذا هم مبصرون [ الأعراف 2 .

والذكر يعلمنا أن الجهاد وقتال الأعداء لا يُقرِّب أجلا ولا يُنْقِص عمرا ، وأن القعود في البيوت الآمنة أو التحصن في البروج المشيدة ، لا يدفع موتا ، لذا فإن الذكر يعلّم الناس الثبات عند لقاء الأعداء قال الله تعالى : ] يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون [ الأنفال 45 . والذكر يجئ تحريكاً لأقفال القلب حتى تنفتح كما قال الله تعالى : ] واذكر ربك إذا نسيت تضرّعاً وخيفةً ودون الجهر من القول [ الأعراف205   تضرعاً وخيفة ، تذللاً وخوفاً من الله ، هذا الذكر الذي حوله بعض المسلمين إلى مجالس عبث ، وإلى صيحاتٍ منكرة  وإلى نوعٍ من المجون والعبث ، فقد انتشرت بين بعض المسلمين بدع كثيرة في دين الله تعالى ، واستبدلوها بسنن النبي  صلى الله عليه وسلم  حتى كادت معالم السنة تندثر ، وأصبح الباطل حقاً  والحق باطلاً ، وأضحت البدعة سنة  والسنة بدعة  فراحوا يذكرون ربهم ، وقد عجزوا أن يفهموا معنى ذكره ، حتى ظنوا أن الدين لغواً على الألسنة ، أو أن مجلس الذكر عبارة عن جذب ووثب وقفز   بعيداً عن استشعار جلال الله ، كالذي يقوم به بعض الناس  بحركات موزونة مرتبة ، وترنيمات مصطنعة مُطْربة  وقفز ووثب ، ونط وجذب ، وانحناء ورفع  والتفات ودفع   ما تتبرأ منه الفطر السليمة ، والقلوب الخاشعة  بحجة أن هذه الحركات والوثبات ، لمنع الخاطر أن يشتغل بغير الله تعالى ، مع أن ما عُرِف من حال السلف حرصهم الشديد على حفظ خواطرهم وقلوبهم  وجعلها مع الله  فلم يفعلوا ذلك بل إنهم أنكروه أشدَّ الإنكار .

قال القرطبي في كتابه الجامع :" وأما ما ابتدعته الصوفية في ذلك ، فهو من قبيل ما لا يختلف في تحريمه ، لكن النفوس الشهوانية غلبت على كثير ممن يُنْسَبْ إلى الخير  حتى لقد ظهرت من كثيرٍ منهم ، فعلات المجانين والصبيان   حتى رقصوا بحركات متطابقة ، وتقطيعات متلاحقة  وانتهى التواقح بقومٍ منهم ، إلى أن جعلوها من باب القُرَبْ وصالح الأعمال " . ونقل القاضي عياض عن أحد أصحاب مالك قال : " كنا عند مالك وأصحابه حوله فقال رجلٌ من أهل نصيبين : عندنا قومٌ يقال لهم الصوفية يأكلون كثيراً ، ثم يأخذون في القصائد ، ثم يقومون فيرقصون فقال مالك : أصبيان هم ؟ قال : لا  قال أمجانين هم ؟ قال : لا ، هم قومٌ مشايخ وغير ذلك عقلاء   فقال مالك ما سمعت أن أحداً من أهل الإسلام يفعل هذا"  

وقد نقل الشاطبي في فتاواه كراهية مالك الاجتماع لقراءة الحزب ، وقوله : إنه شيء أُحدث ، وإن السلف كانوا أرغب للخير ، فلو كان خيراً لسبقونا إليه "  وهذا الذكر يساق فيه قول الله تعالى : ] وذر الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا [ الأنعام 70 .

 إن الذكر الجماعي ، ليس له أصل في دين الله تعالى ، إذ لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم  ولا عن الصحابة الكرام ، أنهم كانوا يذكرون الله جماعة ، ولم يفعله السلف الصالح رضي الله عنهم ، بل أنكروا على من فعل ذلك ، ولم تنتشر هذه البدعة إلا بقوة السلطان ، وذلك على يد المأمون بن هارون الرشيد ، لما أمر به ودعا إليه ، ثم اعتاده الناس  وشاع بينهم ، حتى أصبح عندهم كالفريضة .

وليس الذكر قاصراً على اللسان فالذكر مقسوم على سبعة أعضاء هي : اللسان والروح والنفس والعقل والمعرفة والسر والقلب ، وكل واحد يحتاج إلى استقامة  فاستقامة اللسان صدق الإقرار ، واستقامة الروح صدق الاحتضار ، واستقامة النفس صدق الاستغفار  واستقامة القلب صدق الاعتذار ، واستقامة العقل صدق الاعتبار  واستقامة المعرفة صدق الافتخار ، واستقامة السر السرور بعالم الأسرار ، كما تحتاج هذه الأعضاء إلى أذكار   فذكر اللسان الحمد والثناء ، وذكر النفس الجهد والعناء   وذكر الروح الخوف والرجاء ، وذكر القلب الصدق والصفاء ، وذكر العقل التعظيم والحياء  وذكر المعرفة التسليم والرضا ، وذكر السر الرؤية واللقا .

والله يطلب الذكر في جميع الأحوال ، وحال العبد إما أن يكون في الطاعة ، أو في المعصية ، أو في النعمة ، أو في الشدّة : فإن كان في الطاعة فينبغي أن يذكر الله بالتوفيق ويسأله القبول ، وإن كان في المعصية فينبغي أن يدعو الله بالامتناع ، ويسأله التوبة ، وإن كان في النعمة تذكّره بالشكر ، وإن كان في الشدّة تذكره بالصبر .

فما أجمل مجالس المؤمنين الذاكرين ، إنها مجالس تحفها الملائكة بالرعاية والعناية ، وتغشاها الرحمة من رب العالمين يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( ما اجتمع قومٌ على ذكر الله إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة )  فأكثروا من ذكر الله   فإنه لا يتحسر الإنسان على شيء إلا على ساعة مرّت ولم يذكر الله فيها قال صلى الله عليه وسلم : ( ما من ساعة تمرّ بابن آدم لم يذكر الله فيها إلا حَسِرَ عليها يوم القيامة ) .

 

 

 

 

 

 

  

 

 

 

  

 

الفرق بين أهل السعادة وأهل الشقاوة

إن الشقاء لا يتعلق بغنى أو فقر  ولا بمرض أو ابتلاء ، إنما هو في البعد عن الله ، وانقطاع الصلة عن الله ، وليست السعادة والشقاء قدر مفروض علينا ، من يوم ان كنّا في بطون أمهاتنا، كما ذُكر في الأحاديث ؟ لأن السعادة  والشقاوة : قد سبقَ الكتابُ بهما  وأنَّ ذلك مُقدَّرٌ بحسب الأعمال  وأنَّ كلاًّ ميسر لما خُلق له من الأعمال ، التي هي سببٌ للسعادة  أو الشقاوة ، صحيح أن الله سبحانه قد سبق بعلمه ان هذا سعيدٌ وهذا شقيّ ، نتيجة لعلمه المسبق بعمل الانسان وما كسبت يداه، وإلا فلا معنى لأمره ولا لنهيه  ولا جدوى في تكليفه وبعثه، ولو أنّ السعادة والشّقاء صفة لازمة لا تنفكّ عن الإنسان ، لبطلت الحجّة الإلهيّة، والله عزّ وجلّ يقول: ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعدَ الرُّسُلِ ﴾ هناك فرق بين أهل السعادة وأهل الشقاء ، قال تعالى : ﴿ لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة ، أصحاب الجنة هم الفائزون ﴾الحشر 20 ، فأهل السعادة ، إذا رأوا إنساناً على معصية ، انكروا عليه ونهوه ، ودعوا له ، وسألوا الله أن يتوب عليه ويغفر له ، وأن يوفقه لطاعته ، أما أهل الشقاوة ، فإنهم ينكرون على المذنب ، تشفياً منه ، ورغبة في فضيحته ، وربما طعنوه في شرفه وكرامته ، ومن أهل السعادة ، من كان ناصحاً لأخيه ، بعيداً عن الناس ، يستر عليه أمام الناس  ويرشده إلى طريق الهداية والرشاد  على عكس أهل الشقاوة ، إذا رأوا إنسانا على معصية تركوه ، وأغلقوا عليه الباب ، وشهروا به وفضحوه  وهولاء عند الله مبغضون ، ومن رحمته مبعدون قال تعالى : ﴿ إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة ، والله يعلم وأنتم لا تعلمون ﴾ النور 16 ، وقال عليه الصلاة والسلام : ( من عير أخاه بذنب لم يمت حتى يعلمه)الترمذي والطبراني ، نرى البعض ، إذا ذكر عنده إنسان  اغتابوه بالمساوئ والعيوب    وأنكروا محاسنه ، يقولون ما علينا  ودعنا من سيرته ، لأنه كذا وكذا  ينهشوا عرضه ، ويأكلوا لحمه  وهناك من يذكر الغائب بالخير ويسمي محاسنه ، ويحمله على محمل الحسن ، ويقول لعله سها   أو له عذر لا نعرفه ، يحاول أن يستر عليه ، فهذا من أهل الخير  من اهل السعادة ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من رد عن عرض أخيه ، رد الله عن وجهه النار يوم القيامة)الترمذي عن أبي الدرداء ، فالمسلم الحق من يحرص على سلامة عرض اخيه المسلم ، قال عليه الصلاة والسلام : ( ومن ستر على مسلم ستر الله عليه في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه )مسلم ، فأهل الشقاوة من يظلمون الناس ، ويأكلون حقوقهم  وينهشون اعراضهم ، أما أهل السعادة ، فهم أهل العفاف والقناعة ، يبتعدون عن ظلم العباد  وينصرون الحق ، ويحافظون على اسرار العباد ، يكتمون عيوبهم  ويظهرون محاسنهم ، قال ابن القيم :" طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس ، وويل لمن نسي عيبه وتفرغ لعيوب الناس " فاغمض عينيك يا أخي عن الخيانة ، وكف لسانك عن الغيبة والنميمة والكذب ، وسد أذنيك عن سماع الباطل ، حتى تلقى الله على الإيمان ، وإياك وظلم العباد ، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ، وكن من أهل السعادة  الذين التزموا بمنهج الله ، وتوكلوا عليه ، وعاشوا بمعونته لهم    فكفاهم ما أهمهم ، وصرف عنهم ما أغمهم ، فرفع أقدارهم ، وأكمل أنوارهم ، وأتم نعمه عليهم ، وإن من أعظم أسباب السعادة الإيمان والعمل الصالح قال تعالى : ﴿ من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ﴾ النحل 16، فلا سعادة إلا بالإيمان والعمل الصالح، الذي بُعث به الرسول عليه الصلاة والسلام ، فمن سكن القصر بلا إيمان، كتب الله عليه: ﴿ فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا ﴾ 124 طـه. ومن جمع المال بلا إيمان، ختم الله على قلبه: ﴿ فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا ﴾. ومن جمع الدنيا وتقلد المنصب بلا إيمان جعل الله خاتمته ﴿ فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضنكا ﴾.جاء في السير والتاريخ : أن هارون الرشيد أنفق الكنوز والقناطير المقنطرة في عمارة قصر على نهر دجلة، يدخل النهر من شمال القصر، ويخرج من جنوبه وعمّر الحدائق التي تطل وتتمايل على النهر، ثم رفع الستور، وجلس للناس، فدخل الناس يهنئونه بقصره وبحدائقه، وكان فيمن دخل أبو العتاهية فوقف أمام هارون الرشيد وقال له: عش ما بدا لك سالماً  في ظل شاهقة القصور

فارتاح هارون لهذا الكلام وقال: زد فقال: يُجرى عليك بما أردت   مع الغدوّ مع البكور

أي: يأتيك الخدم والجواري بكل ما أردت صباحاً ومساءً قال: زد فقال: فإذا النفوس تغرغرت بزفير حشرجة الصدور

فهنـاك تعلم موقناً     ما كنت إلا في غرور!

قال: أعد أعد. فقال: فإذا النفوس تغرغرت  بزفير حشرجة الصدور

فهنـاك تعلـم موقنـاً     ما كنت إلا في غرور!

فبكى هارون ، ثم أمر بالستور فهتكت والأبواب فأغلقت، ونزل في قصره القديم .

لمثل هذا فليعمل العاملون ، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون .     

 

نصيحة للأزواج

 الحمد لله الذي أقام الحياة على قاعدة الزوجية ، وعم بها المخلوقات الحيوانية  وأوجدها في الكائنات النباتية ، وتعدت ذلك إلى الموجودات الجمادية ، التي لا تسمع ولا تبصر، ولا تتحرك ولا تنمو   ولعل الازدواج فيها ، يكون من موجب فيها وهو الذكر ، وسالب وهو الأنثى ، فيتولد منهما النور والكهرباء ، قال تعالى ﴿ وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ الذاريات 49 ، فالحياة الزوجية ، رأس مالها الحب والمودة، وغرسها الإخلاص، وعطاؤها الإيثار والفداء، وتُرْبَتها الرضا والقناعة وشمسها الوضوح والصراحة ، وسماؤها السكينة والطمأنينة، وبابها القَبول وحسن الاختيار، وثمرتها رضا الله تعالى، وربحها وكسْبها السعادة في الدنيا والآخرة ، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:( إن الرجل إذا نظر إلى امرأته ونظرت إليه, نظر الله تعالى إليهما نظرة رحمة, فإذا أخذ بكفها تساقطت ذنوبهما من خلال أصابعهما )الصحيح الجامع ، في الحديث  حث للزوج على البدء بالنظرة الطيبة   وحث للمرأة على مبادلة زوجها تلك النظرة  التي تحيي النفوس ، وتمحو ضغائن الصدور وتنبئ عن المحبة والسرور ، فكن لزوجتك كما تحب أن تكون لك ، فإنها تحب منك  كما تحب منها, وكن زوجاً مستقيماً  واستمع إلى نقد زوجتك بصدر رحب  وبشاشة خلق ،ولا تمدن عينيك إلى ما لا يحل لك ، فالمعصية شؤم في بيت الزوجية ومشاهدة الفضائيات ، يقبّح جمال الزوجة عند زوجها، وينقص قدر زوجها عندها فتتباعد القلوب، وتنقص المحبة، ويبدأ الشقاق ، ودع أولادك يفرحون بتوجيهك واعلم أن الحنوُّ ، على أهل البيت شموخ في الرجولة ، والقيام بأعباء المنزل من شيم الأوفياء، قيل لعائشة رضي الله عنها:(ماذا كان يعمل رسول الله في بيته؟ قالت: كان بشراً من البشر، يفلي ثوبه ، ويحلب شاته  ويخدم نفسه ) رواه أحمد, كما أن الكرم بالنفقة على أهل بيتك أفضل البذل ، ولا يطغى بقاؤك عند أصحابك على حقوق أولادك فأهلك أحق بك، ولا تذكِّر زوجتك بعيوب بدرت منها، ولا تلمزها  بالزلات ، واخف المشاكل عن الأبناء، ففي إظهارها تأثير على التربية ، واحترام الوالدين ، ولا تغضب فالغضب أساس الشحناء، وما بينك وبين زوجتك ، أسمى من أن تدنسه ،لحظه غضب عارمة ،وآثر السكوت على السخط، والعفو عن الزلات ، فقد يجيء الخير ، من مكمن الشر، قال تعالى: ﴿ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾النساء19. فراعي هذا القصور، ولا تتخذه مبررًا للطعن في المرأة  أو الانتقاص من قدرها ، حتى تستمر الحياة الزوجية ، قال الغزالي في الإحياء : "واعلم أن ليس حُسن الخلق مع المرأة كفَّ الأذى عنها، بل احتمال الأذى منها، والحلم عند طيشها وغضبها؛ اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كانت نساؤه تُراجعنه الكلام وتَهجره الواحدة منهن ، يومًا إلى الليل ، ولا  تُسيء الظن بزوجتك، فهذا ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من الغيْرة غيرة يبغضها الله، وهي غيرة الرجل على أهله من غير رِيبة)أخرجه أبو داود  فكرامة الزوجة واحترامها مطلوبة،  واحذر من سوء معاملتها ، معاملة السيد لأمَته فالمرأة ليست بأمَة أو خادمة ، فلا يحق لك أن توبِّخها بالسِّباب والشَّتم، أو تناديها بأقبح الأسماء التي لا تحبها ، وخاصة أمام الناس؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : (ليس المؤمن بالطَّعان، ولا اللعان، ولا الفاحش  ولا البذيء)الصحيح الجامع. وعند الانبساط مع الزوجة، لا تكن كالليمونة فتُعسر، أو صلبًا فتُكسر، بل كن وسطًا بين الخشونة والليونة ولا تخرج عن حد الاعتدال؛ في المداعبة والممازحة، قال الغزَّالي في الإحياء : "النساء فيهن شرٌّ، وفيهن ضَعْف، فالسياسة والخشونة، علاج الشر ،والمطايبة والرحمة علاج الضَّعف، فالطبيب الحاذق هو الذي يقدِّر العلاج ، بقدر الداء فلينظر الرجل أولاً ، إلى أخلاقها بالتجربة ، ثم يعاملها بما يصلحها ،كما يقتضيه حالها" ابتلي أحد الصالحين بامرأة ناشز، لم يعرف معها إلا النكد ، فصبر عليها ثلاثين سنة فقيل له: "ما ضرك لو طلقتها؟ قال:أخشى إن طلقتها أن يبتلى بها غيري فتؤذيَه". ومن الحقوق صبرك عليها وتحملها ، فنصف الدين صبر ، والصبر من عظائم الأمور   وقد وعد الله أهل الصبر، أن يوفيهم أجورهم بغير حساب ، ومن ترك شيئاً لله ، عوضه الله خيراً منه ، ولأهمية الزواج لا بد أن تقوم الحياة الزوجية على أداء الحقوق، لقوله تعالى:﴿ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ﴾البقرة 228  وقوله تعالى: ﴿ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ﴾البقرة 228 ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (خياركم خياركم لنسائهم ) وقوله: ( خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي ) ولتدوم المودة والرحمة ، ولتعيش الأسر في طمأنينة وسعادة ، وسكن واستقرار ،ولتقوى الروابط والصلات ، وتتعاون على البر والتقوى يقول الله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾الروم21، وعليك أن تنصح زوجتك بطاعة الله ، قال صلى الله عليه وسلم: (رحم الله رجلاً قام من الليل  فصلى وأيقظ امرأته فصلت ، فإن أبت نضح في وجهها الماء ) ، ولا تتسخط ولا تسب من أجل أكلة أو شَرْبة ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل البيت ورأى طعامًا  فإذا أعجبه واشتهاه أكله  ،وإذا لم يعجبه تركه ، وما عاب طعامًا قط ، وبيننا من يعيب ويتسخط ، ويسب ويشتم ، وهناك حالات طلاق كثيرة بسبب الطعام وسوئه قرأت حكاية الرجل الحكيم ، الذي ذهب إلى ولده ، في أول يوم تزوج فيه ،ثم جلس عنده، وقال له: أحضر ورقة ومرساما وممحاة، فاستغرب الولد في أول يوم زواج يأتي أبوه ويزوره، ويطلب هذا الطلب الغريب، فأحضر الولد ثم جلس بجوار أبيه فقال له: اكتب فكتب، قال امسح، ثم قال له: اكتب فكتب، ثم قال له امسح، ثم قال له اكتب، ثم قال له امسح، فقال يا أبي منذ دقائق، وأنا أكتب ، وأنت تطلب مني أن أمسح ، ماذا في الأمر؟! قال هذه صفحة الزواج ، سيكون فيها أشياء سوداء ومواقف تسود صفحة الزواج ، فالزوج العاقل ، تكون لديه ماسحة ، يمسح بها هذا السواد دائمًا ، حتى تبقى صفحة الزواج بيضاء، ولا يمكن أن تقوم الحياة بلا تغاضٍ ترى الشيء وكأنك لم تره، وتسمع كلمة وكأنك لا تسمعها، وتتجاوز وتعفو وتغفر وتصفح " ، وقد أوصى عليه الصلاة والسلام بالنساء خيراً فقال :( ألا واستوصوا بالنساء خيراً) وبين أنهن يكفرن العشير (وأن المرأة خلقت من ضلع ،لن تستقيم لك على طريقة ، فإن استمتعت بها استمتعت بها وبها عوج ، وإن ذهبت تقيمها كسرتها وكسرها طلاقها).

 

 

نصيحة للزوجات

جعل الإسلام للزوج مكانة عند زوجته  وتلك المكانة آية ، من آيات الله، التي يجب صونها ، بحسن الخلق ، وحسن العشرة  التي ينبغي أن تكون البلسم الذي يداوي الجراح ودواء الداء الذي يصيب الحياة الزوجية   فلا جدال ولا مراء ، ولا عناد ، وإلا فما قيمة جمال المرأة، وما قيمة شهادتها العلمية وما قيمة نسبها، إذا كانت لا تحسن معاملة زوجها، ولا تستطيع أن تجعل بيتها جنّة يأوي الزوج إليها ، ويجد في رحابها السّكينة والطمأنينة، وتذهب عنه الهموم والأحزان وتمسح المتاعب والآلام، وتجدّد نشاطه، لأن حقه عليها ، أعظم من حقها عليه ، لقوله تعالى : ﴿ ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة﴾ البقرة 228. وقد ألزم الإسلام الزوجة بعدّة حقوق، ووضع حدوداً كثيرة ، لا يجوز أن تتجاوزها ، حيث إنّ الرجال قوّامون على النّساء ، وقد أُمر الزّوج بالرعاية والاهتمام، في مقابل أن تطيع الزوجة زوجها ، في كلّ ما يأمرها به ، إلّا في معصية الله ، وأن لا تتصرف في شيء دون إذنه ومشورته. وأن تمكنه من الاستمتاع  وعدم حرمانه من ذلك، وفي ذلك حكمة عظيمة ، تمنع الرجل من التفكير في تفريغ شهواته ونزواته ، خارج المنزل ، قال رسول صلّى الله عليه وسلّم: (إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت  فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتىّ تصبح ) البخاري. ولا تخرج من بيتها إلا بإذنه ، وألا تدخل بيته أحدا يكرهه ، وأن تترك الأمور المستحبة كالصيام   عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه ، ولا تأذن في بيته إلا بإذنه ) رواه البخاري ومن حقه تأديب الزوجة ، إما بالهجر، أو الضرب غير المبرح قال تعالى: ﴿ واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً إن الله كان عليّاً كبيراً ﴾النّساء 34 ، وعلى الزوجة خدمة الزّوج، ومراعاة أمور المنزل ، ورعاية الأولاد والاهتمام بهم ، ومن هنا جاءت عناية النبي عليه الصلاة والسلام بالمرأة فقال : ( أول من يمسك بحلق الجنة أنا ، فإذا امرأةٌ تنازعني ، تريد أن تدخل الجنة قبلي قلت من هذه يا جبريل ؟ قال : هي امرأة ربت أولادها ) والمحافظة على ماله ، وحفظ أسرار البيت ، وأن تحافظ على علاقته وعلاقتها بأهله، وأن تحترمه في حضوره وتعظّمه في غيابه، وأن تشكره على ما يقوم به من أعمال تجاهها ، وتحذر من كفران العشير ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : ( خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أضحى أو فطر إلى المصلى ثم انصرف ، فوعظ الناس وأمرهم بالصدقة فقال: أيها الناس تصدقوا، فمر على النساء فقال: يا معشر النساء تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار. فقلن وبم ذلك يا رسول الله؟ قال: تكثرن اللعن وتكفرن العشير...) البخاري ، يكفرن الزوج، ويكفرن الإحسان، إنه عكس الوفاء، ما أحلى أن تكون الزوجة وفية، فقد يصير الزوج الغني فقيراً، وقد يصير الزوج القوي ضعيفاً، وقد يصير الزوج الصحيح مريضاً، فإذا وجد زوجة وفية تقف إلى جواره، لا تنسى ما كانت تعيش فيه معه من نعيم، فتشعره بأن الأيام دول وتبين له أن الدنيا إلى زوال، وأن الله يختبرنا والله تعالى يقول:﴿ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ﴾الأنبياء35، فالمرأة التي تكفر العشير وتكفر الإحسان ، امرأة ليست وفية ، ولم تعرف شيئاً عن الوفاء، وإن لم تتب إلى الله سبحانه وتعالى ، فمصيرها كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئاً قالت: ما رأيت منك خيراً قط) إنه لؤم وخلق قبيح ذميم ، يقصم ظهر الزوج ، لكن إذا رأى الزوج زوجته وفية كريمة، فإنها تذهب آلامه وأحزانه، فهذه أمُّ حسان من السَّلفِ  كانت زاهدةً عابدة، دخل عليها سفيانُ الثوري ، وهو من أئمَّةِ المسلمين وساداتِهم في زمانه، فلم يرَ في بيتِها غير قطعة حصير فقال لها: لو كتبتِ رقعةً إلى بعضِ بني أعمامِك ، ليغيروا من سوءِ حالك، فقالت: يا سفيان ! لقد كنتَ في عيني أعظمَ ، وفي قلبي أكبر من ساعتِك هذه، أمَّا إنِّي لم أسأل الدُّنيا من يملكُها ، فكيف أسألُ من لا يملكها، يا سفيان، واللهِ ما أحبُّ أن يأتيَ عليَّ وقتٌ ، وأنا متشاغلة فيه ، عن اللهِ بغير الله، فبكى سفيان" ، قمة الوفاء ، لم تكن تعرفُ الجلوسَ أمام الفضائياتِ ساعات، أو الحديثَ بالهاتفِ طول الأوقات، ولا سماعَ أغاني ماجنة تثقل الميزان بالسَّيئات، أو التجولَ في الأسواق لقتلِ الأوقات، كلا، بل كانت من ، النساءٌ الصالحات القانتات:

فَلَوْ كَانَ النِّسَاءُ كَمَنْ ذَكَرْنَا لَفُضِّلَتِ النِّسَاءُ عَلَى الرِّجَالِ

فَمَاالتَّأْنِيثُ لاِسْمِ الشَّمْسِ عَيْبٌ وَلاَ التَّذْكِيرُ فَخْرٌ لِلْهِلاَلِ

ومن الوفاء ، أن لا تشكو الزوجة زوجها أمام أهله أو أهلها، وأن تحب ما يحبّ زوجها، وأن تكره ما يكرهه ، وأن تودعه إذا خرج من المنزل ، بالعبارات المحببة إلى نفسه  وأن تحسن استقباله عند عودته إلى البيت بعبارات الاشتياق ، وأن يراها في زينة جذابة  فقد قال عليه السلام : (خير النساء من تسرك إذا أبصرت، وتطيعك إذا أمرت وتحفظ غيبتك في نفسها ومالك) ، ومن الغريب إهمال المرأة لنفسها في بيتها بحضرة زوجها ، والاهتمام بنفسها ، وإبداء زينتها عند الخروج من بيتها، حتى صدق فيها قول من قال: قرد في البيت وغزال في الشارع  ومن الخير أن تكون الزوجة ، زاهدة في احتياجاتها وطلباتها ، وفيّة لزوجها في الحياة  وبعد الممات ، ولنا في نائلة زوجة عثمان رضي الله عنهما قدوة حسنة ، عندما دخلوا بيته ليقتلوه ، وقفت تدافع عنه ، حتى هوى السيف على يدها ، فقطع أصابعها    وصبرت حتى الليل ، وجمعت المسلمين غير هيابة ، حتى تم دفنه ، وبقيت وفية له بعد موته ، فقد خطبها  كثيرون ، ومن بينهم معاوية ابن أبي سفيان ، وكانت تقول لمن جـاءها بالخبر، ما الذي يعجب معاوية فيّ ؟ فقيل لها : معجب بفيك ، وكان أجمل ما فيها ثناياها ، فقلعتهـا وبعثت بهـا إلى معاويـة وقالت : حتى لا يطمع الرجال فيّ بعد عثمان .  وهذه آمنة بنت الشريد ، سجنها معاوية ، وقبض على زوجها حتى يصل إليها ، فقتله ثم قطع رأسه  وبعث به إلى آمنة ، وهي في السجن ، فارتاعت ونظرت إلى الرأس ، ولكنها تماسكت ، ومدت يدها نحو الرأس والدموع في عينيها  وهي تقول : واحزناه نفيتموه عني طويلاً ، وأهديتموه إليّ قتيلا ، فأهلاً وسهلاً بمن كنت له غير قالية  وأنا له اليوم غير ناسية ، ثم رفعت رأسها وقالت لرسول معاوية : ارجع إليه ، وقل له يتم الله ولدك ، وأوحش منك أهلك , ولا غفر الله لـك ذنبك ، فأرسل إليـها معاوية يؤنبـها ويقول : ءأنت صاحبة هذا الكلام ؟ فقالت : نعم . غير نازعة ولا معتذرة ولا منكرة له ، فلعمري لقد اجتهدت بالدعاء إن نفع الاجتهاد  وأن الحق لمن وراء العباد، وما بلغك شيء من جزاءك ، وأن الله بالنقمة من ورائك" تلك مواقف الوفاء المحببة للزوج ، والتي تزيد رصيد محبّتة لزوجتة  وكما قالت الأعرابيّة لابنتها ، حين أرادت زفافها إلى زوجها : أي بنية: إن الوصية لو تُركت لفضل أدبٍ ، تُركت لذلك منكِ   ولكنها تذكرة ٌ للغافل ، ومعونة ٌ للعاقل    ولو أن إمرأةً استغنت عن الزواج لغنى أبويها  وشدة حاجتهما إليها ، لكنت أغنى الناس عنه ، و لكن النساء للرجال خُلقنَ ، و لهن خُلقَ الرجال ، أي بُنية : إنكِ فارقتِ البيت الذي منه خرجتِ ، و خلفتِ العش الذي فيه درجتِ ، إلى وكر لم تعرفيه ، و قرين ٍلم تألفيه ، فكوني له أما ً ، يكن لكِ عبداً  واحفظي له خصالا عشرا ، يكن لك ذخرا. أما الأولى والثانية: فالخشوع له بالقناعة وحسن السمع له والطاعة. وأما الثالثة والرابعة: فالتفقد لمواضع عينه وأنفه فلا تقع عينه منك على قبيح ، ولا يشم منك إلا أطيب ريح. وأما الخامسة والسادسة: فالتفقد لوقت منامه وطعامه، فإن تواتر الجوع ملهبة ، وتنغيص النوم مغضبة. وأما السابعة والثامنة: فالاحتراس بماله ، والإرعاء على حشمه وعياله، ومالك الأمر في المال حسن التقدير، وفي العيال حسن التدبير. وأما التاسعة والعاشرة: فلا تعصين له أمرا ولا تفشين له سرا، فإنك إن خالفت أمره أوغرت صدره، وإن أفشيت سره لم تأمني غدره " ما أحوج النساء إلى مثل هذه الوصية الغالية؛ لتحيا البيوت حياة سعيدة  لأنّ من أعظم الأعمال ، التي تقرّب المرأة من الله ، وتنال بها رضاه، هو طاعة زوجها في كلّ الأمور، التي لا إثم عليها فيها   بشارةٌ قالها النبي عليه الصّلاة والسّلام للنّساء كافّةً، عن أمّ سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أَيُّمَا امْرَأَةٍ مَاتَتْ وَزَوْجُهَا عَنْهَا رَاضٍ دَخَلَتْ الْجَنَّةَ ) الترمذي ، لأن رضاء الزّوج ربع دين المرأة، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا صَلَّتْ الْمَرْأَةُ خَمْسَهَا، وَصَامَتْ شَهْرَهَا وَحَفِظَتْ فَرْجَهَا، وَأَطَاعَتْ زَوْجَهَا قِيلَ لَهَا: ادْخُلِي الْجَنَّةَ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شِئْتِ ) أحمد ، وقال صلّى الله عليه وسلّم:( لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لغير الله، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، والذي نفس محمّد بيده لا تؤدّي المرأة حقّ ربّها ، حتى تؤدّي حقّ زوجها كله، حتى لو سألها نفسها وهي على قتب لم تمنعه ) رواه أحمد وابن ماجه  وحسّنه الألباني.  

 

علوم الدين وعلوم الحياة

قال العلماء : العلم ضروريّ للعبادة لأنها علاقة العبد بالله ، وضروري للمعاملة ، لأنها علاقة العبد بالخلق ، والإنسان مضطرّ إلى التعلّم ، من أجل أن تصحّ عبادته ، ومن أجل أن تصحّ معاملته ، قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله :" من عمل من غير علمٍ فإنه يفسد أكثر مما يصلح ، وأغلبُ الظنّ أنّ الفساد الذي ينتجُ منه ، أضعاف النفع الذي ينفعهُ ". وقال معاذ بن جبل :" العلم إمام العمل ، والعمل تابعه " وروي أن النبي عليه الصلاة والسلام رأى رجلاً يصلّي فقال له : (  قمْ فصلّ فإنّك لم تصلّ ) فلماذا قال له : إنّك لم تصلّي ! وهو يصلّي ؟ استنبط العلماء ، أنّ هذه الصلاة لا فقه فيها ، لأنه ما علم أحكامها ، وما علم أحكام الخشوع فيها ، لأن العلم أساس العبادات ، به يعرف الحلال من الحرام  والصحيح من الفاسد ، وهناك أحكام يجبُ أن تُعلم من الدّين بالضرورة ، لأنها فرض عَين على كلّ مسلم ، كأركان الإيمان ، لأن الإيمان روح الأعمال ، والباعث عليها والآمر بأحسنها، والناهي عن أقبحها. ومن الأحكام التي يجب أن تعلم ، أركان الإسلام والأحكام الفقهيّة المتعلّقة بِعمل الإنسان أو مهنته ، لأن العلم دليل العمل ، بل إنّه  شرطٌ في صحّة القول والعمل ، فلا يصح العمل إلا به ، يقول الإمام الشافعي : " إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم ، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم ، وإذا أردتهما معًا فعليك بالعلم ". لأن أصل العلم أن تعرف الله عز وجل ، فقد روي عن الإمام الغزالي قوله : " حيثما وردَت كلمة العلم في الكتاب والسنة ، فإنّما المقصود بها العلم بالله " ؛ لأنّك إذا عرفت الله ، عرفت كلّ شيء ، وإن وجدْت الله ، وجدت كلّ شيء  وإن لم تجد الله ، لم تجد شيئًا ، وإذا رضي الله عنك ، فهذا كلّ شيء ، وإذا رضي الناس عنك ، فرضاهم لا شيء ، قال تعالى :﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ﴾ سورة فاطر2 ولو اجتمعت الأمة على أن ينفعوك بشيء ، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، وإن اجتمعت الأمّة على أن يضرّوك بشيء ، لم يضرّوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله عليك.  فالتفقُّه في الدين ، هو حصن العامل والخلفية الدينية والقانونية التي ينطلق منها ، والأساس الذي يستند إليه في كافة قراراته وأفعاله، لأن ترك التفقّه في الدين  سيؤدي بالعامل إلى أن يكون محكوماً للأهواء ، والتشبه بالآخرين  وقد نهى الإمام علي رضي الله عنه ، عن ترك التفقه في الدين فقال : "ليتأسَّ صغيرُكم بكبيركم  وليرأف كبيرُكم بصغيركم، ولا تكونوا كجفاة الجاهلية ، لا في الدين يتفقّهون، ولا عن الله يعقلون" نهج البلاغة . ولابدّ من نور العلم الدنيوي ، لأنّ الله عز وجل يرفع به أقوامًا  ويذلّ به آخرين ، ولذلك أنكر الإمام الغزالي على أهل بلدة اتَّجَهَ شبابها إلى طلب العلم الشرعي ، وأهملوا ما به قوام الحياة ، فأصبحت أرواح هذه البلدة   وعوراتهم بين يدي طبيب غير مسلم .

إن الدين الإسلامي ، ينظم حياة الإنسان  في نفسه ، وفي علاقاته مع غيره، وفي عمله وفي كل أحواله، وقد تكفل الإسلام ، بوضع منهج متكامل لها، وجعل الالتزام بهذا المنهج عبادة ، يُثاب عليها إذا خلصت النية لله عز وجل ، لهذا يجب على كل مسلم ، أن يتعلم من علم الدين قدرًا لا يستغني عنه  قال تعالى : ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ سورة الزمر.   وقالَ عليْهِ الصَّلاةُ والسّلامُ : ( مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ ) رواه البخاري ، وإذا فقِهَ الإنسان في الدين ، صحّ عمله ، قال الإمام الغزالي : " أدنى درجات الفقيه ، أن يعلمَ أنّ الآخرة خيرٌ من الأولى " فالذي يصرفُ كلّ وقته للدّنيا ، ما عرف ، وما فقه من الدّين شيئًا ، لأن أدنى درجة من درجات الفقيه ، أن يعلمَ أنّ الآخرة خيرٌ من الأولى  وأن يسعى لها بدليل قوله تعالى : ﴿وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً﴾ الإسراء 19، وكما لا يصلح بناء الأمة الإسلامية بغير العلوم الشرعية ، فإنه لا يصلح بنائها بدون العلوم الحياتية ، في مجال التكنولوجيا ، لأن المسلمين يحتاجون إليها في شؤون حياتهم الدنيوية ، وفي مجال الإعداد لمواجهة أعداء الله عز وجل ، في شتى الجوانب وجاءت نصوص الشريعة العامة وقواعدها تدل على وجوب تحصيل المسلمين ما يتقوون به ، ويواجهون به أعداءهم فقال تعالى:﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ الأنفال60.ولا يمكننا الحصول على القوة ، إذا اعتزلنا تكنولوجيا العصر ، ولم ننتفع بها  ويمكن أن يشمل مفهوم الإعداد في الآية  إعداد العلم الشرعي ، كما يشمل العلم الدنيوي ،كالطب والاقتصاد والمجال الصناعي والعسكري ، وغير ذلك مما يحقق القوة للمسلمين   والأمة الإسلامية اليوم  أحوج ما تكون ، إلى وجود متخصصين في جميع هذه الجوانب ، لتتكامل الجهود  وتتوحد القوى ، لتحقيق التمكين لهذا الدين في الأرض ، وتحقيقه في واقع الحياة، وما عرفَتِ الأمة الإسلامية السيادة والقوة ، إلا وكانت علومها الحياتية قوية ، وما عرفت   الضعف والتأخر والتخلف ، إلا وكانت علومها الحياتية ، ضعيفة ومهملة.

لقد اختل فهم كثير من المسلمين ، لمعنى كلمـة العلم النافع ، فصاروا يقصرونها على العلوم الشرعية فقط، مع أن الأدلة متواترة على عكس ذلك ، فقد كان من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم التُجَّار والزُرَّاع والصُنَّاع ، وقبلهم أنبياء الله عليهم السلام، كان لكلٍ منهم حرفة وصناعة بجانب مهمته الأساسية، كان آدم حرّاثًا وداود حدادًا، ونوح نجارًا، وإدريس خياطًا وموسى راعيًا، فلم يقعد بهم انشغالهم بالآخرة ، والعمل لها ، وتعليم علومها،عن العمل للدنيا ، وتعميرها ، وتعليم علومها  كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، إذا نظر إلى رجلٍ ذي سيما -هيئة حسنة- قال: أله حرفة؟ فإن قيل لا سقط من عينه  ثم ماذا يعني قوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ )؟! لماذا يغرسها وهي من نفع الدنيا، فضلاً عن أنه لن يستفيد منها دنيويًّا أصلاً؟ لأن الإسلام ، دين يدعو إلى إعمال العقل ، وتحريره من قيود التقليد والجمود والمحاكاة، وأن يطلق له العنان لأداء وظيفته ، وفق ضوابط معينة ، وأطر خاصة ، لذا فإن الذي يُعطِّل عقله عن العمل والتفكير والإبداع، يكون قد خالف المنهج الإسلامي ، مخالفة جسيمة، وأضرّ بنفسه، ثم بأمته .

خلال الحرب العالمية تحالف الألمان واليابان والإيطاليون ضد الغرب ، بما في ذلك أمريكا ، وكانت حرباً قذرة بمعنى الكلمة ، خلت من كل رحمة ، فدكت المدن وأزهقت أرواح أكثر من خمسين مليونا من البشر ، وجاع وتشرد الملايين  ونهبت بلاد ومصانع ، وفرضت غرامات  وضربت هيروشيما وناكزاكي بقنابل نووية  وانتهت الحرب بصورة من الدمار لم تعرفه البشرية من قبل ، وخلال سنوات حصلت مفارقة غريبة ، فقد تقدم المغلوب على الغالب ، وتجاوز المهزوم هزيمته ومن هزمه  فما سرُّ ذلك ؟ ما حصل في الحرب أن دُمِّر عالمُ الأشياء ، أما الإنسان وفكره فقد بقي ، فأقام كيانه مجدداً وتخطى من هزمه  وكان للدول الاشتراكية مجال السبق في إرسال صواريخ إلى الفضاء ، وتدفقت تكنولوجيات الصناعات المدنية عليها ، مما اقلق أمريكا التي أعادت النظر في مناهج التعليم ، وفتحت أبوابها لهجرة العلماء من كل بقاع الأرض ، ولم تسترح حتى أرسلت صاروخاً إلى الفضاء ، هذا دليل على أن الأفكار هي الضابط لسير المجتمعات  والمانع من تراكم الأخطاء ، ألا ترون أن العالم الصناعي اليوم يهتم جداً بإنشاء مراكز البحث ، ويمدها بكل ما تحتاج ، في الوقت الذي تكاد تنعدم مراكز البحث عندنا ، فافتقدت شخصية المسلم منهجيتها  وعجزت عن معرفة مواطن الخلل ،كما عجز المسلمون عن درء الفتنة عن الأرض والحيلولة دون الفساد الكبير ، لأنها بحاجة إلى بروز قوامه العدل ، وشهادة العدل   وأمة العدل ، وهذا منوط إلى حد بعيد بوعي الأمة المسلمة لذاتها ورسالتها ، لتصويب طريقتها ، ووعيها بالناس ، الذين كلفت بالشهادة عليهم قال تعالى : ) يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم (النساء 135 . وإذا كان من خصائص الأمة المسلمة ، الشهادة على الناس ، فإن التخلي عن هذه الشهادة ، إضاعة للحق والعدل والأمن وإيذان بالسقوط . ولأن الشهادة تتطلب معرفة   فلا تقبل شهادةٌ من غير معرفة ، وقد تعني شهادة العلم في سياق جعل الأمة الإسلامية شاهدة على الناس ، بأن تكون هذه الأمة قائمةٌ في عقيدتها وفي عملها ، على السعي الدائم للعلم بالحقائق ، وتأسيس الحياة عليها . وكما ذكر الإمام الغزالي : " بأن ثمة تلازماً قوياً بين علوم الدين وعلوم الدنيا ، فمن تعلَّم علماً واحداً ، فلا يكفي ، ومن تعلَّم علوم الحياة فقط ، فلا نصيب له في الآخرة  ومن تعلَّم علوم الدين، وجهل علوم الحياة فإن فهمه للدين سيكون ناقصاً " . ولا أقصد بالعلم بالدين العلم المتخصص  فذلك من نصيب علماء الشريعة ، إنما المقصود قدر مشترك من المعرفة الصحيحة  تشتمل على أصول العقائد ، ومتطلبات العبادة الصحيحة ، والأخلاق الإسلامية بعيداً عن التأويلات ، وليس المطلوب علماً نظريا ، لا يكون له في السلوك نصيب  فيكون التنظير بواد ، والعمل والفعل بواد آخر قال تعالى : ) وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا (القصص 77.

  

        

 

 

 

 

 

 

التدين المغشوش

إننا لا نعاني في هذا العصر من قلة التدين، ولكننا نعاني من عبث تطبيقه، حيث يعتقد كثير من الناس أن اللحية والحجاب وأداء الصلوات هي كل العبادات، وأن معاملة الناس ومراعاتهم هي آخر ما يلفت الانتباه .  

هذا الفهم العجيب ، جعل كل مظاهر التدين  عاجزة عن إحداث التغيير المطلوب، لأنها وقفت عند الأشكال والطقوس ولم تصل إلى المضمون  .

إنه لا يوجد مجتمع بلا دين كما قال أحد المؤرخين : قد وجدت في التاريخ مدن بلا حصون ومدن بلا مدارس ومدن بلا قصور ولكن لم يوجد في التاريخ مدن بلا معابد ، هذا يشير إلى أن الدين شيء  أساسي في حياة البشر يتعلق بالفطرة البشرية   لأن الدين منهج يوجه الناس ويجمعهم .

أما التدين فهو الالتزام بالدين وأحكامه وأوامره والعبادة هي جزء أساسي من الدين ، وليست كل الدين ، فمن يقيم الصلاة أو يتلو القرآن أو يذكر الله كثيرا  ، لكنه لا يقيم وزناً لحسن التعامل مع الناس  أو يتظاهر بالتقوى ويدعي الصلاح ولكن أعماله تكذبه ، لسانه يسبح ويده تذبح أو يصلي الفرض ويفسد في الأرض كما قال المعري :

إذا رام كيداً بالصلاة مقيمها فتاركها عمدا إلى الله أقرب فمن يتظاهر بالصلاح وبالتقوى يلبس العمة ويطيل اللحية ويقصّر الثوب ، وقد يكون عاقاً لوالديه قاطعاً لرحمه مسيئاً إلى جيرانه ، غاشاً في بيعه وتجارته غير محسن لعمله ، غليظ القلب مع الناس ، قاسياً على الآخرين ، فلا يرحم ولا يسامح ، فهذا ليس متديناً والدين من أعماله براء ، وقد وصف هذا التدين بالتدين المغشوش ، بمعنى أنه لا يميز بين العقائد والأعمال، ولا بين الكبائر والصغائر، ولا بين الفرائض والنوافل، ولا بين المحرمات والمكروهات   ولا بين المختلف فيه والمتفق عليه ، وقد تجده يهتم بالمختلف فيه ، قبل المتفق عليه ، فيهتم بالنوافل قبل الفرائض، وبالأشياء المكروهة قبل الأشياء المحرمة  ويهتم بالقشور قبل أن يهتم باللباب ، يعنى بالنوافل قبل أن يعنى بالفرائض ، ولذلك قال العلماء الراسخون:"   إن الله لا يقبل النافلة ، حتى تؤدى الفريضة ، وقالوا : من شغله الفرض عن النفل فهو معذور ، ومن شغله النفل عن الفرض فهو مغرور "  

فقد شرع الله العبادات لتزكي السرائر، وتقيها من العلل الباطنة والظاهرة، وتعصم السلوك الإنساني عن العوج والإسفاف ، والجور والعسف ، وهذا يتم إذا تجاوز العابدون صور الطاعات إلى حقائقها فسجدت ضمائرهم وبصائرهم لله  ، أما إذا وقفت العبادات عند القشور الظاهرة والسطوح المزورة ،فإنها لا ترفع خسيسة ولا تشفي سقاما ، لأن طبائع بعض الناس قد تحول الدين عن وجهته إلى وجهتها هي ، فبدل أن تهدي تصد ، وما علموا أن القلب القاسي والغرور الغالب ، هما أدل شيء على غضب الله والبعد عن صراطه المستقيم ، ومن السهل أن يرتدي الإنسان لباس الطاعات الظاهرة ، على كيانٍ ملوث وباطن معيب ، وقد نبه القران الكريم إلى خطورة نفر من الأحبار والرهبان ، الذين جعلوا الدين كهانة تفسد بها الفطرة ، وتصطاد بها المنفعة ] إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله [ وهذا النوع من الناس آفة الأديان كلها ، وفيه يقول الشاعر :

وهل أفسد الدين إلا الملوك  وأحبار سوء ورهبانها

فباعوا النفوس ولم يربحوا   ولم تغل في البيع أثمانها

وكم رأينا من وقف ليتكلم في الدين ولا حصيلة له إلا اللغو والهباء ، فلا علم بفقه ولا لغة ، وهناك من هو على جانب عظيم من البلاغة والعلم بالدين وأصوله وفروعه ، لكنه لا يبلغ هدفه بالوعظ إذا قارنته نيةٌ مغشوشة ، سمع الحسن البصري ناصحا قوي البيان ، ولكنه لم يتأثر به فقال له : يا هذا إن بقلبي شيئا أو بقلبك !

 إن بعض الشباب المتدين مختل المزاج ، والرسول صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ، وهؤلاء الشبان ما خيروا بين أمرين إلا اختاروا أصعبهما  وإذا كان لهم زاد علمي ، فمن أوراق شاحبة ليس فيها للفكر الإسلامي ، ولا لأقوال الفقهاء المرجوحة نصيب ! وهم يؤثرون الحديث الضعيف على الصحيح ، أو يفهمون الخبر الصحيح على غير وجهه وإذا كانت المدارس الفكرية في تراثنا كثيرة ، فهم مع ظاهر النص ضد مدرسة الرأي ، وهم مع الشواذ ضد الأئمة الأربعة ، وهم مع الجمود ضد التطور  يسمعون أن شُعب الإيمان سبعون شعبة ، بيد أنهم لا يعرفون فيها رأسا من ذنب ، ولا فريضة من نافلة  والتطبيق الذي يعرفون  هو وحده الذي يقرون  فمثلاً السواك سنة ، ومن حقنا أن ننظف أسناننا بأي فرشاة وأي معجون ، فالمهم نظافة الفم ، لكنهم ينظرون إلى من لا يستعمل السواك نظرة مريبة !   فلماذا لا يجعله في جيبه مع القلم ؟ ولماذا لا يخرجه في المسجد وينظف فمه في الصف ، ثم يعيده في جيبه  أهذا هو الدين ؟ ومثلاً آخر الخلاف الفقهي الذي لا يوهي بين المؤمنين أخوة  ولا يحدث وقيعة ! ولكنهم يجعلون من الحبة قبة ، ومن الخلاف الفرعي أزمة   والخلاف إذا نشب يكون لأسباب علمية وجيهة إلا أن خلافاتهم تكمن وراءها علل ، تحتاج إلى علاج  .

إن التدين يوم يفقد طيبة القلب ودماثة الأخلاق ومحبة الخلائق ، يكون لعنة على البلاد والعباد . والغريب أن التطرف لا يقع في مزيد من الخدمات الاجتماعية ، ولا في مزيد من مظاهر الإيثار والفضل لكنه يقع في الحرص البالغ ، على تقصير الإزار والتنطع السخيف ، في مكان وضع اليدين ، أو طريقة وضع الرجلين خلال الصلاة ، والاهتمام الهائل هنا ، تقابله قلة اكتراث ببناء دولة الإسلام   وتربية الأجيال للعمل على إقامة منهج الله في الأرض 

وإنك لتجد المجال المستحب ، ينفسخ عندما ينظرون في ذنوب الناس ، فيسارعون إلى الحكم بالفسق أو الكفر، وكأن المرء عندهم مذنب حتى تثبت براءته ، على عكس القاعدة الإسلامية .

إن الأحكام الشرعية التي جاء بها القرآن تندرج بشكل عام تحت العقائد ، وتشمل الإيمان بوجود الله وبوحدانيته ، وعبادته وحده لا شريك له ، والإيمان بملائكته ، وكتبه ورسله ، واليوم الآخر ، والقدر خيره وشره  والفروع من العبادات والمعاملات  والأخلاق حيث وردت آيات كثيرة تحث على مكارم الأخلاق .

إن التدين ليس مجرد التمسك بشكليات الدين دون جوهره ، إنما هو الفهم الواعي للدين ، والعمل به بما يربط حياة المتعبد بحياة المجتمع ، حتى لا ينعزل الدين عن واقع الحياة ، وقد أُسيئ هذا الفهم بسبب ممارسات بعض المتدينين ، البعيدة عن الدين، مما إلى نفور الناس واتهامهم للدين ، والدين من ذلك براء لأن العيب في المتدين ، الذي ينفر الناس ويفتنهم بسلوكه ، ويرحم الله الشافعي الذي قال :

نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عـيب سوانـا

ونهجو ذا الزمان بغير ذنب ولو نطق الزمان لنا هجانا

وجاء من يقول :

نعيب ديننا والعيب فينا   وما لديننا عيب سوانا

ونهجو ذا الدين بغير ذنب  ولو نطق الدين لنا هجانا

 وإنك لتجد التدين الروحي العاطفي: حيث تغلب العاطفة الدينية عند بعض المتدينين ، على الفهم   للدين السليم ، ونجد ذلك في أوساط الشباب خاصة الذين يندفعون إلى التدين بحماسة ، دون معرفة كافية بأحكام الدين، والتزام واع بهديه ، كما قد نجد هذا النوع من التدين ، أيضا عند بعض الكبار الذين صرفوا حياتهم في المعاصي والمنكرات حتى إذا تابوا فجأة ، لحادث أو طارئ في حياتهم، إذا هم يندفعون إلى الدين اندفاعا حماسيا ملؤه الرغبة في تكفير الخطايا، وتطهير النفس، فيغلب على هؤلاء الالتزام بمظاهر الدين وأشكاله دون المعرفة الكافية بأحكامه وحِكَمه ومقاصده.

  إن أصحاب هذا التدين ، يفتقرون إلى المعرفة الكافية بحكم ومقاصد ما يؤدون من الشعائر، كما يفتقرون إلى العمق الروحي في التعاطي مع   العبادات ، مما يجعلها مفرغة من محتواها الروحي فتكون عبادتهم مجرد عادة وتقليد ليس إلا ، وما علموا أن التدين ابتداء تعلق بالله تعالى ورسوله   وحب لهما، وتعظيم لأمرهما.. وكل مخالفة لهذه السبيل، هي في عمقها مجانبة لطريق السلامة في الارتباط بالدين، ولطريق الصحة في التدين قال تعالى: ] قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها، وتجارة تخشون كسادها، ومساكن ترضونها، أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين [ ومن هنا نفهم ضرورة إصلاح القلب في الإخلاص لله وحبه، حتى يبقى القلب حيا  يقظا خاشعا سليما كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب )  فالصلاح والفساد مرتبطان بالقلب  والموت الحقيقي هو موت القلوب  كما قال الشاعر:

ليس من مات فاستراح بميت  بل الميت ميت الأحياء

وموت القلب يعني توقفه عن الإحساس بوخز الذنوب والمعاصي ] كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون [ .

 

 

 

 

 الهمة العالية

 والهِمَّةُ: ما هَمَّ به من أَمر ليفعله. وهي الباعث على الفعل، وتطلق على صاحب العزم القوي فيقال له ذو همة عالية ، قال أحد الصالحين: همتك فاحفظها، فإن الهمة مقدمة الأشياء، فمن صلحت له همته وصدق فيها، صلح له ما وراء ذلك من الأعمال .

شعار صاحب الهمة قوله تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾الذاريات56 . والعمل من أجل تطبيق منهج الله عبادة ، هذا الشعار ينبغي أن يقذف في القلوب الإحساس بالمسؤولية والخوف من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، فما خلَقنا الله عبثاً ولا من أجل الأكل والشرب والنوم والتناسل، فتلك مهمة البهائم، لتكون في خدمة بني البشر، أما الإنسان فقد خلقه الله تعالى لمهمة أسمى وأرفع وأعلى، هي عبادة الله تعالى وخلافته في الأرض وتطبيق شرعه  قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ البقرة30 .

وهذه المهمة السامية والعظيمة ، تدع المسلم أن يحمل همّ الأمة فيحزن لمصابها ويفرح لنصرها يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر, يراقب أحوال المسلمين ويهتم بمشاكلهم أينما كانوا ، بعكس من يسير بلا   غاية ولا هدف ولا همّة، سوى تلبية الشهوات واتباع الهوى، شأنه شأن الأنعام، بل أضل سبيلا , كما قال الله تعالى : ﴿ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا ﴾ الفرقان44 .

فقد أمرنا الله بالعمل فقال تعالى : ﴿ وقل اعملوا ﴾  والعمل لإعزاز دين الله ، ورفع راية لا إله إلا الله  ينبغي أن يكون على رأس سلم الأولويات ، لأن من حق الله عز وجل علينا أن نعمل لدينه، وأن نقوم بما يريده منا سبحانه وتعالى، ولذلك خلقنا ، لنعمل للإسلام صغاراً وكبارا ، والذين يقولون: إن السن قد تقدم ولا مجال للعمل، هؤلاء ما فقهوا قول الله تعالى : ﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾ الحجر99. قال الحسن البصري رحمه الله: " لم يجعل الله للعبد أجلاً في العمل الصالح دون الموت " فالنهاية التي نقف عندها هي الموت، قال أبو طلحة الأنصاري لما قرأ سورة براءة، وأتى على هذه الآية: ﴿ انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً ﴾ التوبة:4 قال : " أرى ربنا عز وجل استنفرنا شيوخاً وشباباً ، جهزوني أي بني. فقال بنوه: يرحمك الله! قد غزوت مع رسول الله g  حتى مات، ومع أبي بكر رضي الله عنه حتى مات، ومع عمر رضي الله عنه حتى مات، فنحن نغزو عنك، فأبى، فجهزوه فركب البحر، فمات غازياً في البحر في سبيل الله، فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد سبعة أيام، ولم يتغير، فدفنوه فيها " .  

فلا يجوز للمسلم أن يخلد إلى الراحة من العمل ، فقد روي أن قا الإمام أحمد رحمه الله لما سئل: متى يجد العبد طعم الراحة؟ قال: عند أول قدم يضعها في الجنة. وهؤلاء الأنبياء بعثوا بعد الأربعين، وعملوا حتى الموت ، فلا ينبغي أن تشغلنا الدنيا عن العمل للإسلام ، وإن الانهماك التام في الأعمال الدنيوية يضيع على العبد فرصاً عظيمة لنيل الأجر والثواب

وقد قال النبي g : (فاتقوا الله وأجملوا في الطلب).

وقد مدح الله المؤمنين الذين يتركون عمل الدنيا عند حضور عمل الآخرة فقال: ﴿ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ﴾ النور36. وقد كان العابدون أعظم المندفعين للعمل، لأن صلتهم القوية بالله عز وجل كانت تجعلهم يغتنمون أوقاتهم في العمل لخدمة للدين ، والقارئ لسيرة العظماء من الرجال ، يري بأنهم لو لم يتحلوا بعلو الهمة لما كان لهم موضع في قوائم العظماء ولما تزينت بذكرهم صفحات التاريخ .

قال ابن القيم : "علو الهمّة ألا تقف النفس دون الله  ولا تتعوض عنه بشيء سواه، ولا ترضى بغيره بدلاً منه، ولا تبيع حظها من الله، وقربه والأنس به والفرح والسرور والابتهاج به بشيء من الحظوظ الخسيسة الفانية. فالهمّة العالية على الهمم كالطائر العالي على الطيور " .

فهذا الطبري قال يوما لأصحابه: أتنشطون لتفسير القرآن؟ قالوا: كم يكون قدره؟ قال: ثلاثون ألف ورقة! فقالوا: هذا مما تفنى الأعمار قبل تمامه! فاختصره في ثلاثة آلاف ورقة، وأملاه في سبع سنين.

ثم قال لهم: أتنشطون لتاريخ العالم من آدم عليه السلام، إلى وقتنا هذا؟ قالوا: كم قدره؟ فذكر نحواً مما ذكره سابقا ( أي ما يقارب الثلاثين ألف ورقة أو يزيد ، فأجابوه بمثل ذلك، فقال رحمه الله: إنا لله ماتت الهمم، فاختصره في نحو ما اختصر في التفسير.

وهذا ابن الجوزي:سُئل عن تآليفه؟ فقال: زيادة على ثلاثمائة وأربعين مصنفاً، فكان كثير التأليف والتصنيف، قال الحافظ الذهبي عنه: ما علمت أحداً من العلماء مثل ما صنف هذا الرجل، فإنه لا يضيّع من زمانه شيئاً، وقد كان يكتب في اليوم: أربعة كراريس، مع اشتغاله بالتدريس والتأليف وافتاء السائلين. ورحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية كتب أكثر فتاويه وهو في السجن ، وهذا الإمام النووي رحمه الله وصف حياته لتلميذه ابن العطار.. فذكر له أنه كان يقرأ كل يوم اثنا عشر درسا على مشايخه شرحا وتصحيحا ، درسين في الوسيط , ودرسا في المهذب ,ودرسا في صحيح مسلم ,ودرسا في اللمع  ودرسا في إصلاح المنطق , ودرسا في التصريف ودرسا في أصول الفقه , ودرسا في أسماء الرجال  ودرسا في أصول الدين ,..قال وكنت اعلق على جميع ما يتعلق بها من شرح مشكل.. ووضوح عبارة.. وضبط لغة..وبارك الله تعالى في وقتي .

فقد أمرنا الله أن نعمل لتحكيم منهج الله في الأرض وسوف نحاسب إن لم نعمل لإعزاز دين الله ونشره والدعوة إليه قال تعالى: ﴿ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ ﴾الزخرف44.  

 ومن أبرز صفات صاحب الهمة العالية أن يكون طموحا  الطَّمُوحُ : السَّاعي إلى المراتبِ العالية  فصاحب الطموح دائمًا يتطلع للمعالي ، فهذا عمر بن عبد العزيز وكان صاحب همة عالية ، ونفس طموحة  يقول : " إنَّ لي نفسًا توَّاقة تمنت الإمارة فنالتها   وتمنَّت الخلافة فنالتها ، وأنا الآن أتوق إلى الجنة  وأرجو أن أنالها ".

ونقل ابن قتيبة عن بعض كتب الحكمة :" ذو الهمة إن حُطَّ، فنفسه تأبى إلا عُلُوّاً، كالشعلة ِ من النار يُصَوِّبُها صاحبها، وتأبى إلا ارتفاعا ".

وقال  صلى الله عليه وسلم :" من همَّ بحسنة، فلم يعملها، كتبها الله عنده حسنة كاملة " رواه البخاري

وقال ابن قيم الجوزية: كمال الإنسان بهمّة ترقيه وعلم يبصّره ويهديه.

ذكرَ ابنُ الجَوْزِيِّ رَحِمَهُ اللهُ في (صيدِ الخواطِرِ): " قالَ الكلبُ للأسدِ يوما: يا سيِّدَ السباعِ غَيِّرْ اسمي فإنَّه قبيحٌ، فقال له: أنتَ خائنٌ لا يَصلحُ لك غيرُ هذا الاسمِ، قال: جَرِّبْني, فأعطاه قطعةَ لحمٍ، وقال له: احفظْ هذِهِ إلى الغَدِ وأنا أُغَيِّرُ اسمَكَ؛ أخذَ الكلبُ قِطْعةَ اللحمِ، وبعد زمنٍ جعلَ الكلبُ يَنظرُ إلى اللحمِ ويصبرُ، فلمَّا غلبتْهُ نفسُهُ، قال: وأيُّ شيءٍ في اسمي وما كلبٌ إلا اسمٌ حسنٌ، وأكلَ اللحمَ. يقول ابنُ الجوزىِّ معلّقاً على هذه القصة: " وهكذا خَسيسُ الهمةِ القنوعُ بأقلِ المنازلِ، المختَّارُ لعاجلِ الهوى على آجلِ الفضائلِ".

صاحب الهمة لا يستبد به اليأس ، الذي استبد بكثير من الناس ، لأن إيمانه يجعله على ثقة من ربه وعلى أمل في وعده، وهو قبل ذلك كله يؤدي واجبه ويحاول أن يبرئ ذمته ، وليكن ما يكون ، فليست مهمتنا أن نحصل على النتائج ولكن مهمتنا وواجبنا أن نؤدي المهمات، وأن نقوم بالواجبات، وأن نسعى إلى أعلى وأسمى الغايات، ثم بعد ذلك يقضي الله سبحانه وتعالى ما يشاء.

كان السلف يحذرون من التفرد عن العمل فقد قيل : " اسلكوا سبل الحق ولا تستوحشوا من قلة أهلها ". فإذا كنت على الحق ولو كنت وحدك فأنت الذي ينبغي أن تبقى على ما أنت عليه، وأن يتبعك الناس لا أن ترجع عما أنت عليه ، سمع عمر رضي الله عنه رجلاً يقول : " اللهم اجعلني من الأقلين فتعجب عمر من هذا الدعاء قال يا عبدالله وما الأقلون ؟! قال سمعت الله يقول: ﴿ وما آمن معه إلا قليل ﴾ وقال : ﴿ وقليل من عبادي الشكور ﴾ فقال عمر رضي الله عنه: كل الناس أفقه من عمر   يعني ما انتبه عمر لهذا المعنى . 

إن من أدوى الأدواء، وأقسى وأشد العلل وأفتك الأمراض في أهل الإسلام والإيمان اليوم ضعف الهمم وخور العزائم، ودناءة الاهتمامات، وسفالة الانشغالات التي صرفت عن معالي الأمور وشغلت عما يؤدي إلى الأخذ بالعمل والجد والبذل.

فنسأل الله - سبحانه وتعالى - أن يحيي الإيمان في قلوبنا، وأن يُعلي الهمم في نفوسنا، وأن يشحذ عزائمنا، وأن يمضي على طريق الحق أعمالنا .

 

 

أهل الدنيا وأهل الآخرة

قال صلى الله عليه وسلم : ( من كانت الدنيا همه فَرّق الله عليه شمله، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له ، ومن كانت الآخرة همه جمع الله عليه شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة)   لقد تكفل الله تعالى لمن آمن به وعمل صالحاً  وجاهد في سبيله وسار إليه وسعى له ، أن يزيده من فضله ويبارك له في عمله ، ويجزيه خير الجزاء كما قال تعالى: ﴿ مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾160الأنعام ، والإنسان لا يؤتى إلا من قبَل نفسه فهو الذي يضعف أو يكسل أو يسوف ، وذلك يؤخر وعد الله أو يصرفه عنه، ولذلك فإن العمل في هذه الدنيا غير مضمون النتائج ، وليس كل من عمل لطلب شيء في هذه الدنيا يناله، وكم من إنسان سعى لكسب مال فما ازداد إلا فقراً، أو سعى لكسب ود إنسان فما ازداد منه إلا بعداً، ذلك لاْن الله تعالى يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب كما قال تعالى : ﴿ كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا ﴾20الإسراء . فالله يمد جميع الناس بمقومات الحياة ، فمنهم من يستخدم هذه المقومات في الطاعة ، ومنهم من يستخدمها في المعصية ، كما اختص الله أمر الأرزاق والآجال ، بقسمته بين الناس لتستقيم حياة الناس ومعاشهم قال تعالى : ﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ 32الزخرف، فقوله ورفعنا بعضهم .. الآية كلمة مبهمة  تعني أن الكل مرفوع في شيء ، ومرفوع عليه في شيء آخر ، وبهذا يتكامل الخلق وتتم المصالح   وتُقضى حاجات المجتمع كما قيل : 

الناس للناس من بدو وحاضِرَةٍ   بعضٌ لبعضٍ بما لا يعلموا خَدَمُ

فأنت مرفوع فيما تُحْسِنه من الأعمال ومرفوعٌ عليك فيما لا تجيده ، فهو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ، بمقتضى حكمته وعلمه بما يُصلح حال الناس قال تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ 52 الزمر . فيبسط هنا بمعنى يوسع ، ويقدِر بمعنى يُضيّق  وعليه فإن المسألة في الرزق ، ليست شطارة ومهارة في تناول الأشياء ، إنما هي قدرٌ قدَّره الله الرازق ، ولذلك قال أبو العتاهية :

يُرزق الأحمق رزقاً واسعا    وترى ذا اللب محروماً نَكِدِ

ولذلك فإن أهل الدنيا لا ينالون بعملهم إلا الدنيا وما لهم في الآخرة من نصيب كما قال تعالى: ﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ ﴾ 20 الشورى، فمن عمل للدنيا لا يحْرَم متعتها ولذَّتها  لكن حين تُعَجل له الطيبات في الدنيا ، يُحْرَم منها في الآخرة ، أما  أهل الآخرة فإنهم ينالون بعملهم الدنيا والآخرة ، قال تعالى: ﴿ مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾ 134النساء . والمسلم الحق ينظر إلى الدنيا على أنها مسخرة له كما قال تعالى: ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ 13 الجاثية، فهي مخلوقة لتكون ممراً إلى الآخرة ، وليست دار قرار، فالمسلم يعمل عمله الدنيوي من زراعة أو صناعة أو تجارة أو غيرها لينال حظه من الدنيا ، ويستعين به على عبادة الله   وليطلب رزقه بما أباح الله  وليكن قلبه معلقاً بالله  ورجاؤه به، وتوكله عليه وحده لا على العمل أو السبب المادي ، فكم من إنسان جنى عليه اجتهاده وكما قال الشاعر : 

إذا كان عون الله للعبد ناصراً    تهيأ له من كل شيء مراده

وإن لم يكن عون من الله للفتى   فأكثر ما يجني عليه اجتهاده

 والعامل للدنيا يكون في الغالب ممن كثر أكله وضحكه ونومه وغضبه ، قليل الرضى ، لا يعتذر إلى من أساء إليه ، ولا يقبل معذرة من اعتذر إليه  كسلان عند الطاعة ، شجاع عند المعصية ، أمله بعيد وأجله قريب ، لا يحاسب نفسه ، قليل المنفعة  كثير الكلام ، قليل الخوف ، لا يشكر عند الرخاء ولا يصبر عند البلاء ، يعمل عمل أهل النار  كالإشراك بالله والتكذيب بالرسل والكفر والحسد والكذب والخيانة والظلم والفواحش والغدر وقطيعة الرحم والجبن عن الجهاد والبخل واختلاف السر والعلانية واليأس من روح الله ، والأمن من مكر الله والجزع عند المصائب والفخر والبطر عند النعم وترك فرائض الله واعتداء حدوده وانتهاك حرماته وخوف المخلوق دون الخالق ورجاء المخلوق دون الخالق والتوكل على المخلوق دون الخالق ، والعمل رياء وسمعة ومخالفة الكتاب والسنة وطاعة المخلوق في معصية الخالق والتعصب بالباطل والاستهزاء بآيات الله وجحد الحق ، والسحر وعقوق الوالدين وقتل النفس التي حرم الله بغير الحق وأكل مال اليتيم وأكل الربا والفرار من الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات . وكلها أعمال تدخل في معصية الله ورسوله ﴿ ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين ﴾  ، وأما أعمال أهل الجنة ، كالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والإيمان بالقدر خيره وشره والشهادتان ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت . وأن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك . ومن أعمالهم :  صدق الحديث وأداء الأمانة والوفاء بالعهد وبر الوالدين وصلة الأرحام والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين والمملوك من الآدميين والبهائم . ومنها :  الإخلاص لله والتوكل عليه والمحبة له ولرسوله وخشية الله ورجاء رحمته والإنابة إليه والصبر على حكمه والشكر لنعمه . ومنها : قراءة القرآن وذكر الله ودعاؤه ومسألته والرغبة إليه . ومنها : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله للكفار والمنافقين ، وكلها تدخل في طاعة الله ورسوله ﴿ ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم ﴾ .  دخل أحد الأشخاص على رجل من الصالحين .. وقال له: أريد أن أعرف .. أأنا من أهل الدنيا أم من أهل الآخرة ؟ فقال له الرجل الصالح ، إن الله أرحم بعباده ، إذ لم يجعل موازينهم في أيدي أمثالهم ، فميزان كل إنسان في يد نفسه  لماذا ؟ لأنك تستطيع أن تعرف أأنت من أهل الدنيا أم من أهل الآخرة ، قال الرجل كيف ذلك؟ فرد العبد الصالح : إذا دخل عليك من يعطيك مالا   ودخل عليك من يأخذ منك صدقة .. فبأيهما تفرح ؟ فسكت الرجل .. فقال العبد الصالح : إذا كنت تفرح بمن يعطيك مالا ، فأنت من أهل الدنيا ، وإذا كنت تفرح بمن يأخذ منك صدقة ، فأنت من أهل الآخرة .. والإنسان يفرح بمن يقدم له ما يحبه  فالذي يعطيني مالا يعطيني الدنيا .. والذي يأخذ مني صدقة يعطيني الآخرة .. فإن كنت من أهل الآخرة .. فأفرح بمن يأخذ منك صدقة .. أكثر من فرحك بمن يعطيك مالا . ولذلك كان بعض الصالحين إذا دخل عليه من يريد صدقة يقول مرحبا بمن جاء يحمل حسناتي إلي الآخرة بغير أجر  ويستقبله بالفرحة والترحاب . فالرجل من أهل الآخرة لا يفعل شيئا في حياته إلا وفي باله الله ، وأنه سيحاسبه يوم القيامة  أما من كان من أهل الدنيا فإنه يفعل ما يفعل وليس في باله الله ، وعن هؤلاء يقول الله سبحانه : ﴿ والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعةْ يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجده الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب ﴾ 39 النور . فمن يفعل شيئا وليس في باله الله .. سيفاجأ يوم القيامة بأن الله تبارك وتعالى الذي لم يكن في باله موجود ، أنه هو الذي سيحاسبه على ما عمل ، فمن آمن واتبع منهج الله فإلى الجنة ، ومن أنكر فإلى جهنم وبئس القرار . ومن عدل الله سبحانه أن أعد يوما للحساب .. لأن الذين ظلموا وبغوا في الأرض ربما يفلتون من عقاب الدنيا ، وهل من أفلت في الدنيا من العقاب يفلت من عدل الله ؟ .. أبدا لم يفلتوا .. بل أنهم انتقلوا من عقاب محدود إلي عقاب خالد .. وافلتوا من العقاب بقدرة البشر في الدنيا   إلي عقاب بقدرة الله تبارك وتعالى في الآخرة   ولذلك لابد من وجود يوم يعيد الميزان    فيعاقب فيه كل من أفسد في الأرض وأفلت من العقاب .. ولا خير لإنسان يفلت من عقاب الدنيا   لأنه أفلت من عقاب محدود إلي عقاب أبدي.  

من الخطأ أن نتصوّر أن العمل الدنيوي منفصل تماما عن عمل الآخرة وأنّه لا يُمكن احتساب شيءٍ أُخْروي من خلال العمل الدنيوي، ولكن الأعمال الدنيوية إذا لم تنضبط بضوابط الشّرع كانت وبالا على صاحبها، ويمكن أن يُمارس الإنسان أعمالا أخروية من خلال عمل دنيوي ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ بَيْنَا رَجُلٌ بِفَلاةٍ مِنْ الأَرْضِ فَسَمِعَ صَوْتًا فِي سَحَابَةٍ اسْقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ فَتَنَحَّى ذَلِكَ السَّحَابُ ( أي توجّه وقصد ) فَأَفْرَغَ مَاءهُ فِي حَرَّةٍ ( الأرض الصلبة ذات الحجارة السوداء ) فَإِذَا شَرْجَةٌ مِنْ تِلْكَ الشِّرَاجِ ( والشّراج مسايل الماء ) قَدْ اسْتَوْعَبَتْ ذَلِكَ الْمَاءَ كُلَّهُ فَتَتَبَّعَ الْمَاءَ فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ فِي حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ الْمَاءَ بِمِسْحَاتِهِ فَقَالَ لَهُ يَا عَبْدَ اللَّهِ مَا اسْمُكَ قَالَ فُلانٌ لِلاسْمِ الَّذِي سَمِعَ فِي السَّحَابَةِ فَقَالَ لَهُ يَا عَبْدَ اللَّهِ لِمَ تَسْأَلُنِي عَنْ اسْمِي فَقَالَ إِنِّي سَمِعْتُ صَوْتًا فِي السَّحَابِ الَّذِي هَذَا مَاؤُهُ يَقُولُ اسْقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ لاسْمِكَ فَمَا تَصْنَعُ فِيهَا قَالَ أَمَّا إِذْ قُلْتَ هَذَا فَإِنِّي أَنْظُرُ إِلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهَا فَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ وَآكُلُ أَنَا وَعِيَالِي ثُلُثًا وَأَرُدُّ فِيهَا ثُلُثَهُ وفي رواية : وَأَجْعَلُ ثُلُثَهُ فِي الْمَسَاكِينِ وَالسَّائِلِينَ وَابْنِ السَّبِيلِ ) مسلم  

دل الحديث على فضل الصدقة والإحسان إلى المساكين وأبناء السبيل , وفضل أكل الإنسان من كسبه , والإنفاق على العيال  نعلم جميعا أن هذه الدنيا مرحلة نعيشها فهي بلاغ للآخرة ولذلك لا يجب أن نترك العمل فيها ونكتفي بأداء الفرائض وحدها فقد قال صلى الله عليه وسلم  : ( ليس بخيركم من ترك دنياه لآخرته أو ترك آخرته لدنياه حتى يصيب منهما جميعا فإن الدنيا بلاغ للآخرة ) رواه النسائي  

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

فروض الكفاية ودورها في بناء الأمة

الفرض هو أحد الأحكام الشرعية، ومن أهمتقسيمات العلماء في الفرض أن هناك فرض عين وفرض كفاية ، أما فرض العين : فهو ما يتعين على شخص معين بذاته ، بحسب قدرته واستطاعته كالصلاة والصيام والزكاة وقول الصدق، ولا يجوز لشخص أن يتخلى عنها، أما فروض الكفاية : فهي تتعلق بما تحتاج إليه الأمة في مجموعها ، حتى تكون أمة قوية ، قادرة على الدفاع عن نفسها ومؤدية لرسالتها ، قال تعالى : ﴿ وأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ ومِن رِّبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وعَدُوَّكُمْ ﴾ إنه خطاب موجه للأمة بمجموعها       حتى لا يطمع فيها الطامعون، وحتى يرهبها الأعداء ﴿ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وعَدُوَّكُمْ ﴾ وهذا ما يسمى بالسلم المسلح ، بأن يكون المسلم قويا ولا يحارِب  قوة لا تجعل الأعداء يطمعون في  غزو بلاد المسلمين أو احتلال أرضهم .

وقد جاءت النصوص تحث المؤمنين على تأمين ما يلزمهم فقال تعالى : ﴿ فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ولِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾ هذا الأمر الإلهي لا يعدو كونه مثالا بارزا لحث المؤمنين على أن ينفروا طوائف لتأمين متطلبات معاشهم وعاقبة أمرهم في المجالات كافة ، ولكن الواقع الذي نعيش    أدى استيلاء الحكومات على تفاصيل الحياة اليومية  وكف أيد الناس عن المساهمة في كثير من شؤونهم العامة ، ورافق ذلك تسويق فهم قاصر للتديّن   انحصر في إطار المسجد ، والممارسة الفردية ، وأصبح المسلمون إزاء ذلك ، ما بين ناطق بباطل أو ساكت عن حق ، وإذا كانت كلمة الحق عند السلطان الجائر ترفع صاحبها إلى عليين ، فإن كلمة الباطل عنده تهوي بصاحبها إلى أسفل سافلين .

وما ضاعت الأمة واستكانت ، إلا يوم وجد فيها مَن ينطقون بالباطل ، ومَن يسكتون عن الحق   والساكت عن الحق شيطان أخرس، وإذا كان الناطق بالحق شيطانا متكلما ، فإن الساكت عن الحق شيطان أخرس .

لذا فإن الخطوة الأولى في طريق الدعوة تتمثل في معرفة الحق الموحى به ، والانطلاق منه في بناء القدرة على امتلاك المعايير المجردة في الحكم على الأمور  حتى تجيء بعدها خطوة الفعل صائبة ، وذلك ببناء الطائفة القائمة بالحق ، لأن وجود هذه الطائفة التي تقوم بالحق ، هي من لوازم الرسالة المحمدية ، وقد أوكل أمر التجديد بها ، لذلك نرى أن قول الرسول g ( لا تزال طائفة من أمتي قائمة بامر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى ياتي امر الله ) ليس مجرد إخبار ، إنما هو تكليف الأمة للعمل على بناء هذه الطائفة ، وهذا يأتي على رأس الفروض الكفائية ، التي بها يكون بقاء أمة الإسلام ، وقد لا نغالي إذا رأينا أن سبب التخلف والتراجع الذي   أُصيبت به الأمة ، يتمثل في غياب الفروض الكفائية والمعروف فقهاً أن الفروض والتكاليف الشرعية نوعان : فروض عينية وكفائية ، أما العينية : فهي التي تجب على كل إنسان بعينه ، وفق استطاعته   ولا يخرج من عهدة التكليف الشرعي إلا بأدائها   وقد وجدت لتزكية النفس وتهذيبها ، والمسئولية عنها أمام الله فردية ، يحكمها قوله تعالى : ﴿ ولا تزروا وازرة وزر أخرى ﴾ الأنعام 164 . ويكاد يأتي في مقدمتها العبادات جميعها .

أما الفروض الكفائية : فهي تكاليف شرعية اجتماعية ، والمسئولية عنها جماعية ، وقد جاءت الأحاديث تنذر بالمسئولية عن التقاعس والتقصير في أداء هذه الفروض ، لعل في مقدمتها فقدان خيرية هذه الأمة ، الذي أدى إلى عجزها عن أداء رسالتها بتحقيق الكفاية في بلاد المسلمين قال تعالى : ﴿ ولتكن منكم أمةٌ يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ﴾ أل عمران 104 . وقال : ﴿ واتقوا فتنةً لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ﴾ الانفال 25 . ولعل استفهام السيدة زينب زوجة رسول الله g يلفت النظر هنا ، عندما سألت رسول الله g : أنهلك وفينا الصالحون قال : نعم إذا كثر الخبث ) اخرجه البخاري .

فالعمل لدفع الظلم والفساد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وتحقيق الرقابة العامة على المجتمع والفرد والدولة ، يأتي على رأس الفروض الكفائية قال صلى الله عليه وسلم : ( إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه ) الترمذي .

 وروي ان ملكا أُمر أن يخسف بقرية فقال : إن فيها فلاناً العابد ، فأوحى الله عز وجل إليه : أن به فابدا فإنه لم يتمعّر وجهه فيَّ ساعة قط " . وذكر الإمام أحمد عن قتادة قال موسى : ( يا رب أنت في السماء ونحن في الأرض ، فما علامة غضيك من رضاك ؟ قال : إذا استعملت عليكم خياركم فهو علامة رضائي عنكم ، وإذا استعملت عليكم شراركم فهو علامة سخطي عليكم ) .

إننا نلمس أن الإحساس بأن الفروض الكفائية من الدين عملياً ، أمرٌ غائبٌ تماما عن حس المسلمين  وقد همشت حتى كادت تقتصر على المصير الأخروي   كما تجلى آثار قصور الفهم على إبعاد الواجبات الكفائية ، في مجالات الفقه السياسي ، الذي تركز على حقوق الحاكم على الرعية دون العكس ، وقد أدى عدم الاهتمام بالعلوم السياسية إلى مصادرة حريات النصح والمراقبة والشورى ، مما عرقل كل محاولات الإصلاح ، وشجع التدين الفردي   وتراجع فهم الواجبات الكفائية في قضايا المصير الفردي ، والتدين المظهري ، بعيداً عن الخوض في مقتضيات نظام العدالة والمساواة والمسئولية تجاه الضعفاء والفقراء والعاطلين ، ومن المعلوم أن الواجبات الكفائية ما شرعت إلا لحفظ المصالح العامة للأمة ، والوقوف في وجه الدول المستعمرة التي تعمل للاستيلاء على خيرات البلاد الإسلامية ، ولمعرفة هذه الدول بحيوية الدين الإسلامي ، وعلاقته الوثيقة بالحياة العامة وتنظيمها   الذي يحرِّك الناس نحو المقاومة ، فقد عمد بما يملك من وسائل وادوات ، إلى العمل على صرف توجيهات واهتمامات الناس عن المصالح العامة ، إلى الأمور الخاصة ، والاهتمامات الشخصية والمصالح الفردية ، وعمل على إغراء البعض بمميزات شخصية ، مقابل تنازلهم عن تبني مصالح العامة   والدفاع عنها ، كما ساهم في تكوين جماعات تُحرِّم التصدي لمن اعتدى على أمة الإسلام ، واحتل أرضها ، الأمر الذي تتحول فيه الفروض الكفائية إلى فروض عينية ، ومن هنا نصت القاعدة الشرعية على أنه " إذا فُقد شبرٌ من أرض المسلمين بات أو أصبح الجهاد فرض عين ، حتى أباح للمرأة أن تخرج دون إذن زوجها "  وقد دلت الأحاديث على أن الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة لا يعطله عدل عادل ولا جور جائر ، كما ساهمت هذه الدول في مصادرة حرية التعبير والنصح الفردي الذي أدى إلى تكريس الأخطاء ووصفها بالصواب المطلق .  

ومن هنا فإن أصح اقتداء برسول الله g هو أن ينظر المسلم إلى الواجبات العينية ، التي أوجبها الله عليه، وأن ينظر إلى المحرمات – وهي كلها عينية – التي حرمها الله عليه. ثم ينظر إلى الواجبات الكفائية التي أمر الله بإيجادها ،  ولعل من أهمها العمل لإقامة الدولة الإسلامية ، التي هي الطريق لإقامة غالبية أحكام الإسلام من عينية وكفائية .

 

 

 

 

قانون السمع والطاعة

 

هناك من يحرم الخروج على الحاكم ، ويوجب طاعته (ولو ضرب ظهرك وأخذ مالك) وتؤكد أنه لا فرق في هذه الطاعة بين الحاكم العادل و الحاكم الظالم  وليس للرعية من وسيلة لمواجهة الظلم والاستبداد إلا الصبر  مستدلين بالأحاديث التي تدل على وجوب طاعة أولي الأمر دون غيرها من أحاديث الأمر بالمعروف والنهي المنكر ، والأخذ على يد الظالم وإقامة الحق والعدل ، وحتى لا يفهم أن ذلك دعوة لإقرار الظالم على ظلمه ، أو قبول مخالفاته باسم إيجاب الشريعة لطاعة أولي الأمر ، متجاهلين أن طاعة الحاكم هي ضمن حدود الشرع لا لشخصه وإنما لما يتمثل فيه من تطبيقه لأحكام الشريعة واحترام قواعدها وتنفيذ حدودها وتحقيق أهدافها. 

 

ففي القرآن الكريم قال تعالى: ﴿ إنَّ اللَّهَ يأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا وَإذَا حَكَمْتُم بَينَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ﴾ النساء:58 .

 

وقد ذكر العلماء في تفسير هذه الآية أن الخطاب فيها موجه إلى ولاة الأمر بأداء الأمانات إلى أهلها، وأن يحكموا بالعدل بين الناس، وأن يقوموا برعاية الرعية وحملهم على موجب الدين والشريعة ورد المظالم، وأن اللَّه أمرهم بالرجوع إلى الكتاب والسنة فيما أشكل عليهم، وإذا حاد ولاة الأمر عن العمل بأحكام الشرع فإنه لا طاعة لهم.

 

فقد وضع رسول الله نظاماً لهذه القاعدة ، وجعل القيام عليها ، من معالم التقوى ، لأنه لا يستقر حكم ولا تصان دولة ، إلا إذا سادها النظام والطاعة فقال صلى الله عليه وسلم: ( من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن أطاع أميري فقد أطاعني  ومن عصى أميري فقد عصاني ) وقال تعالى :﴿ أطيعوا الله ﴾ أي اتبعوا كتابه :﴿ وأطيعوا الرسول ﴾ أي خذوا بسنته ﴿ وأولي الأمر منكم ﴾ أي فيما كلفوكم به من أمور تخدم الكتاب وسنته .

 

وعندما شُرع قانون السمع والطاعة ، لم يفترض في الأطراف التي تمثله ، إلا قيادة راشدة تنطق بالحكمة ، وتصدع بالحق وتأمر بالخير ، ثم جنودٌ يلبون النداء ، أما الطاعة العمياء ، لا لشيء إلا لأن القائد أمر ، فذلك أمر لا يقره شرع ولا عقل لما روى أحمد في مسنده قال : ( بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية واستعمل عليهم رجلاً من الأنصار ، فلما خرجوا وجد عليهم الرجل في شيء ، فقال لهم : أليس قد أمركم رسول الله أن تطيعوني ؟ فاجمعوا إلي حطبا   ثم دعا بنار فأضرمها فيه ثم قال: عزمت عليكم لتدخلنها ، فقال شاب منهم : إنما فررتم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن أمركم أن تدخلوها فادخلوها  فرجعوا إلى رسول  الله صلى الله عليه وسلم فاخبروه   فقال لهم : لو دخلتموها ما خرجتم منها أبدا ، إنما الطاعة في المعروف ) . هذا الترهيب الغليظ يستأصل جذور الطاعة العمياء من نفوس الأتباع جميعا ، ويجعلهم يحملقون فيما يصدر إليهم من أوامر ، فلا يكونون عبيدا إلا لله ، ولا جثياً إلا للحق ، ولو أنهم عندما أصدروا أوامر يمليها الغرور ، وتنكرها الحكمة وجدوا من يردها عليهم ويناقشهم ، لتريثوا قبل أن يأمروا بباطل ، ومن جهة أخرى يخفى أن كل أحاديث طاعة الحاكم مشروطة بأداء واجباته كحاكم وعدم خروجه على الشريعة  فقد روى البخاري ( السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ، ما لم يؤمر بمعصية ،فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة ) وما روى مسلم ( لا طاعة في معصية الله . إنما الطاعة في المعروف ) وما روى عنه صلى الله عليه وسلم( من أعان ظالما ليدحض بباطله حقا، فقد برئت منه ذمة الله ورسوله ) وحديث ( سيلي أموركم من بعدي رجال يعرفونكم ما تنكرون ، و ينكرون عليكم ما تعرفون، فمن أدرك ذلك منكم فلا طاعة لمن عصى الله عز وجل) السيوطي ، وسأل رجل عبد الله بن عمرو بن العاص : "هذا ابن عمك معاوية ، يأمرنا أن نفعل ونفعل ، قال : أطعه في طاعة الله ، واعصه في معصية الله "  . أما  الأمر بالصبر على الحكام الوارد في الأحاديث الشريفة  فإنه لا  يعني السكوت والرضا بظلمهم  وانتظار الفرج دون سعي لتغييره ، ولا يعني  السكوت على ذلك   لأن الصبر المأمور به ليس صبراً على أن ترى المنكر الذي يسيئك رؤيته فتسكت ، وإنما هو الصبر على الأذى الذي يصيبك من  الحاكم جراء مجاهرتك بإنكار المنكر أو الأمر بالمعروف ، ولذلك جاء في الحديث ( إن من أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر ) .

 

وولاة الأمر في أفضل حالاتهم ليسوا أكثر من وكلاء عن الأمة في إقامة شرع الله وتنظيم أداء فرائضه… فإن قصروا في هذا التعاقد، فيجب على أهل الحل والعقد من الأمة ، النظر فيما يستوجبه هذا التقصير من مساءلة تبدأ بالنصح والتوجيه ،  ويمكن أن تمتد لأكثر من ذلك ، ومن المعلوم أن العلاقة بين الحاكم والمحكوم تعاقدية ، تعرف في الفقه الإسلامي باسم البيعة بالتزام متبادل ، كما أعلن ذلك أبو بكر الخليفة الأول في خطبة الخلافة :" أطيعوني ما أطعت الله فيكم ، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم " .  والبيعة في دلالتها اللغوية مصدرٌ يُفيد معنى المبايعة وتعطي معنى المعاقدة والمعاهدة ، فالخليفة يعاقد ويعاهد الأمة على أن يحكم بالحق والعدل، وأن يرعى أحكام الشريعة ، ويصون مبادئ الدين، وأن يوفر للمواطن كل ما أقرته مبادئ الشريعة للمواطن من حقوق إنسانية وحريات، ويقوم المواطن نيابةً عن ذاته بمنح الحاكم توكيلاً أو تفويضاً بإدارة شئون البلاد على ما اتفقا عليه، ويقدم له مع ذلك الطاعة  ويتعهد بنصرته ، في كل ما من شأنه أن يحمي مصالح الأمة ، ويدافع عن حقوقها وكرامتها.

 

أما مطلق النهي عن مراجعة الظالم ونقده  ففيه غلو وتجاوز، بما يخالف تعاليم الإسلام الراشدة في هذا الشأن  لقوله تعالى :﴿ وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النار ﴾  وتذكر لنا كتب التاريخ عشرات من مواقف العلماء بل وعامة المسلمين من مراجعة الحكام وولاة الأمر ، ومنها حين قال عمر اسمعوا وأطيعوا ، قال أحد الحاضرين لا سمع ولا طاعة فقال عمر : " لا خير فيكم إن لم تقولوها ولا خير فينا إن لم نسمعها "  وحين راجعته امرأة في قراره بتخفيض المهور قال: أصبت امرأة وأخطأ عمر.  وتوجيه النصح للحكام لا يشترط أن يكون من عالم أو أن يكون سراً ، طالما أن المنكر الواجب إنكاره هو مخالف للشرع بما لا محل فيه لتأويل مثل المجاهرة بشرب الخمور أو التحريض على الفجور أو التمكين لأعداء الله في بلاد المسلمين .

 

إن إطاعة الحكام ليست مطلقة بل هي مشروطة بأن تتوافق مع إطاعة الله ورسوله، كما أن الحديث النبوي الشريف يبين حقيقة هذا الطاعة وشروط تحققها ( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ) وحديث ( إنما الطاعة في المعروف ) وحديث ( من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ومن يطع أميري فقد أطاعني ومن عصاني فقد يعصي الله ومن يعصي أميري فقد عصاني ) . 

 

والذي يشهد للخلفاء الراشدين ـ رضي اللَّه عنهم ـ أنهم خير من جاء بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، وأدى ما عليه من واجب المسئولية التي لابد من السؤال عنها أمام اللَّه وأمام الأمة، والحاكم في أدائه واجباته مسئول عن أخطائه وإهماله وتقصيره وسوء استعماله للسلطة الممنوحة له فضلاً عما يتعمده من خروج على حدود السلطة وما يرتكبه من جور أو تعسف أو ظلم، وهو في هذا كله خاضع للنصوص العامة؛ لأن الإسلام لا يفرق بين فرد وفرد، ولا بين حاكم ومحكوم، بل الكل سواء، يسري على هذا ما يسري على ذاك دون تمييز بينهما، لا يعفيه الإسلام من أخطائه، ولا يخفف من مسئوليته، ولا يميزه عن أي شخص آخر، لذلك كان الخلفاء والأئمة أشخاصًا لا قداسة لهم ولا يتميزون عن غيرهم، وإذا ارتكب أحدهم جريمة عوقب عليها كما يعاقب أي شخص آخر يرتكبها في الشريعة الإسلامية.

 

بعد أن بينت واجبات الحاكم وحقوقه وحددت سلطته ـ جعلته مسئولاً عن كل عمل يتجاوز به سلطته سواء تعمد هذا العمل أم وقع العمل نتيجة إهماله ولم تكن الشريعة الإسلامية في تقرير مسئولية الحكام عن تصرفاتهم أمام الأمة إلا متمشية مع منطق الأشياء، فقد بينت للحاكم حقوقه وواجباته وألزمته بأن لا يخرج عن أحكام الشريعة الإسلامية.

 

 

 

 

 

 

 

الآثار المترتبة على تطبيق القوانين الوضعية

لم تكن الشريعة الإسلامية مجرد حدود وتعزيرات ولكنها تمثل وسيلة لإقامة مجتمع  إسلامي ، خالٍ من صور الفساد والانحلال، لذا عاش المجتمع الإسلامي في ظلها قروناً طويلة ، يتمتع فيها بسلوكيات طاهرة  بعيدة عن الرذائل والفواحش ، فلم تُعرف دور البغاء المرخصة ، ولا حانات الخمور ولا أماكن القمار  ولا أماكن إشاعة الفاحشة ، من الملاهي والمراقص ونحوها. وما كان في المجتمع من كبائر المعاصي والذنوب،  لأن الشريعة كانت هي القانون الذي يحكم الدولة التي تطبق منهج الله ،  كما أن العرف العام الذي رسخته الشريعة في النفوس يستنكر كل مخالفة لمنهج الله ، لا يسكت عنها ولا يرضى بها .

وعندما أقصيت الشريعة وطبقت القوانين الوضعية  ظهرت آثار هذا التطبيق ، فاستُحل الحكم بغير ما أنزل الله، واستُحل الربا، وتُركت إقامة الحدود   وشاعت المنكرات على اختلاف أنواعها ، واختفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لأن القوانين الوضعية تحرس الفساد ، وتشجّع على الانحلال  وتفتح الباب لنقض بنيان الأخلاق الإسلامية ، مما أدى إلى كسر الحواجز النفسية والفضائل الخلقية  وقد ساعد على ذلك إشراف الكفار من وراء ستار على مناهج التعليم ، حتى تؤدي دورها في تخريج أجيال لا صلة لها بالدين ، أو أن تفهمه محرفاً منقوصا ، وحتى كثير من الشباب المسلم ، إذا ما ذهب إلى أوروبا لاستكمال تعليمه العالي ، تعاد صياغتهم الفكرية والنفسية ، حتى يقضى على الإسلام في نفوسهم ، فلا يرجعوا إلا وقد أخذوا طريقة عيشهم ، مظهراً ومخبراً ووجهة حياة.

فأما الثقافة فقد جهزت لتؤدي دورها في ردة المسلمين عن دينهم ، وذلك بالعمل على التمسك بفكر أعداء الإسلام ، وفلسفتهم وأنماط سلوكهم وعاداتهم ، وتقاليدهم الخاصة ، وتكمن خطورة هذه الثقافة ، في أنها تبدأ خيوطها ابتداءً من التعليم المدرسي ، وامتداداً إلى كل مجالات الحياة  عن طرق الكتب والمجلات أو الصحافة ووسائل الإعلام المسموعة والمرئية  .

يقول المستشرق الانجليزي ، جب بهذا الخصوص " إن النشاط التعليمي والثقافي عن طريق المدارس العصرية والصحافة ، قد ترك في المسلمين أثراً جعلهم يبدون في مظهرهم العام لا دينيين ، إلى حدٍ بعيد وربما من غير وعي منهم " ، فقد ركز المستشرقون  على الطلائع المثقفة من أبناء المسلمين ، خاصة الأدباء والمفكرين وأصحاب الدراسات القانونية ،  وكان من أخبث ما توصلوا إليه هو قيام مدرسة فكرية جديدة ، من بعض المسلمين ، ترمي إلى تقريب الشقة بين تعاليم الإسلام ، وبين ما جاءت به حضارة الغرب من أفكار ، ونتائج ونظريات ، وذلك بمحاولة تفسير الإسلام تفسيراً عصرياً ، يلائم الفكر السائد ، ومحاولة إيجاد نقاط التقاء بين الخطين على تباينهما وتباعدهما ، مما الجأ بعض العلماء في هذا العصر ، إلى مواقف دفاعية غريبة عن الإسلام ، وبعيده كل البعد عما تلقاه المسلمون عن النبي g وأصحابه ، كقضايا الجهاد في سبيل الله ، والحدود والربا والطلاق وتعدد الزوجات ، الأمر الذي يدعو المسلمين لمراجعة مواقفهم ، وإخلاص النيات لبناء العالم الإسلامي من جديد ، طبقاً لمنهج الإسلام ، وإخراجه من التبعية الرهيبة للغرب ، في أفكاره وعاداته وأخلاقه   والعودة إلى الإسلام ديناً ومنهج حياة ، وقيادة الأمة بالحق والعدل والهدي مصداقاً لقوله تعالى :﴿ الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهموا عن المنكر ولله عاقبة الأمور ﴾ . وأما في مجال الاقتصاد فقد ظهر التعامل بالربا الذي لا تجرمه القوانين الوضعية ، فاستدانت الحكومات بالربا، وتعامل به المسلمون، وتراكمت الديون وفوائدها ، حتى تدخلت الدول الأجنبية في سياسات المسلمين والإشراف عليها والتحكم في توجيهها وفق مصالحها .

وأما العقوبات : فقد شرع العقاب على الجريمة لمنع الناس من اقترافها، لأن النهي عن الفعل أو الأمر بإتيانه لا يكفي وحده لحمل الناس على إتيان الفعل أو الانتهاء عنه، ولولا العقاب لكانت الأوامر والنواهي أموراً ضائعة وضرباً من العبث، فالعقاب هو الذي يجعل للأمن والنهي مفهوماً ونتيجة مرجوة وهو الذي يزجر الناس عن الجرائم، ويمنع الفساد في الأرض، ويحمل الناس على الابتعاد عما يضرهم، أو فعل ما فيه خيرهم وصلاحهم. وإنما شرعت للمصلحة العامة فإنها ليست في ذاتها مصالح بل هي مفاسد، ولكن الشريعة أوجبتها لأنها تؤدي إلى مصلحة الجماعة الحقيقية، وإلى صيانة هذه المصلحة. وربما كانت الجرائم مصالح، ولكن الشريعة نهت عنها؛ لا لكونها مصالح، بل لأدائها إلى المفاسد فالزنا وشرب الخمر والنصب واختلاس مال الغير وهجر الأسرة والانتفاع عن إخراج الزكاة - كل ذلك قد يكون فيه مصلحة للأفراد، ولكنها مصالح ليس لها اعتبار في نظر الشارع، وقد نهى عنها  لا لكونها مصالح، بل لأنها تؤدي إلى فساد الجماعة.

والأفعال تختلط فيها المصالح والمفاسد، والإنسان بطبعه يؤثر ما رجحت مصلحته على مفسدته، وينفر مما ترجح مفسدته على مصلحته، ولكنه في اختياره ينظر لنفسه لا للجماعة، فيؤثر ما فيه مصلحته ولو أضر بالجماعة، وينفر مما يراه مفسدة عليه ولو كان فيه مصلحة الجماعة.وقد شرعت العقوبات بما فيها من التهديد والوعيد والزجر علاجاً لطبيعة الإنسان فإن الإنسان إذا نظر إلى مصلحته الخاصة وما يترتب عليها من العقوبات نفر منها بطبعه، لرجحان المفسدة على المصلحة ، وكذلك إذا ما فكر في الواجب وما يجلبه عليه من المشاق، فقد يدعوه ذلك لتركه، لكنه إذا ذكر ما يترتب على الترك من عقوبة حمله ذلك على إتيان الفعل، والصبر على المكروه والمشقة ، فالعقوبات مقررة لحمل الناس على ما يكرهون ، ما دام أنه يحقق مصلحة الجماعة ولصرفهم عما يشتهون ما دام أنه يؤدي إلى إفساد الجماعة ، وهذا مصداق قوله عليه السلام: ( حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات ) . 

وبالمقارنة بين الشريعة والقوانين الوضعية  ، فإن القوانين الوضعية من صنع الفئة الحاكمة، وهي حين تضعها تراعي مصلحتها دون غيرها من الفئات وتحاول أن تحمي بالقوانين أشخاص رجالها، والمبادئ التي يعتنقونها، والأنظمة التي يقيمونها، فإذا ما ذهبت هذه الفئة وجاء غيرها، تغيرت القوانين لتحمي الفئة والمبادئ والأنظمة الجديدة ، وهكذا تتغير القوانين بتغير الحاكمين والمبادئ ، والأنظمة التي يقوم عليها الحكم، وهي لا تفتأ تتغير وتتبدل بين حين وآخر وهذا يؤدي إلى عدم احترام القانون، وإلى ذهاب سطوته من النفوس، بل إلى عدم الاكتراث به، حتى لقد أصبحنا اليوم نرى الأحزاب المعارضة تحرض أنصارها على الاستهانة بالقانون والخروج على أحكامه ، لتصل على أشلائه إلى أغراضها، وما على الأحزاب المعارضة وأصحاب الدعوات الجديدة أو الدعوات الهدامة ، حرج فيما يدعون إليه، ما داموا يرون أن القانون من صنع أفراد مثلهم، وأنه وضع لحماية أناس ليسوا خيراً منهم، أو أنظمة هي شر في نظرهم، ولعل فيما هو حادث اليوم من تبدل الأنظمة والحكام ، وشكل الحكومات ، الدليل المقنع على زوال سطوة القانون من نفوس الأفراد .

أما الشريعة الإسلامية فهي تقرير للواقع والمنطق  فمن يؤمن بأن الدين الإسلامي من عند الله وجب عليه أن يؤمن بأن الشريعة الإسلامية من عند الله  لأن الشريعة هي بالذات القواعد التشريعية للدين الإسلامي، جمعت أحكامه من عبارات، ومعاملات  وأحوال شخصية، وجنايات، وغير ذلك.

وليس الغرض من الشريعة خدمة فرد أو هيئة أو جنس أو نظام معين، وإنما وجدت الشريعة لخدمة البشر على اختلاف ألوانهم وألسنتهم ومناهجهم  كما وجدت لإقرار المساواة والعدالة بينهم ، ولتيسير أمورهم ، فنسبتها إلى الله لا تفيده جل شأنه شيئاً لأنه غني عن خلقه، وإنما تفيد المجتمع وتعود عليه بالاطمئنان والثقة، وتؤدي به إلى الحياة الطيبة القائمة على المحبة والإيثار والمساواة والعدالة.

 

 

 

 

عوائق النهضة الإسلامية

إنَّ قضيَّة النَّهضة، هي قضيَّة الضَّرورة في عالمنا العربيِّ والإسلاميِّ وقضيَّة التَّغيير والتَّحديث، إنها قضية كيفيَّة دخول الأُمَّة إلى مدار العصر، ورحاب الحضارة الحديثة، وتحولها مِن مُستهلكٍ وتابعٍ، إلى مُنتجٍ ومشاركٍ في صياغة وصناعة الحضارة والثَّقافة  أي تحولها مِن مجتمعٍ مُتخلِّفٍ إلى مُجتمعٍ مُتقدِّمٍ.

النهضة مبدأ أساسي نعيش ونعمل من أجله  فالرسول g نجح ومعه الصحابة الكرام بالنهوض بمجتمع جاهلي ، وبشبه الجزيرة العربية وبالعالم أجمع فكانت نهضة ناجحة قابلة للمحاكاة والتكرار  ونحن اليوم بأيماننا بالله وثقتنا به ، وبإيماننا بأنفسنا وبمقدراتنا ، وبالعمل الجاد ، ستنهض أمتنا وترتقي بين الأمم فليبدأ كل شخص بنفسه وليرتقي وينهض بها من الداخل ، ثم ليتحرك ويعمل ، بشرط مراعاة الأساس الصحيح الذي يصلح للنهضة وذلك بالاستناد على الفكر الذي يوحد المفاهيم ، التي تؤثر في السلوك الذي يعبر عن النهضة ، فإن كان راقياً دل على النهضة  وإن كان منخفضاً دل على الانحطاط ، وبإذن الله ستنهض هذه الأمة ، وتعود إلى سابق مجدها ، تصدر للعالم العِلم والتطور والنور فقد تمكن المسلمون من بناء "الحضارة الإسلامية" بجدارة وباعتراف الأعداء قبل الأصدقاء، وكانت لهذه الحضارة الفضل الكبير في نهوض الحضارة الغربية الحديثة.

لكن هذا المجد ما لبث أن انهار ، وانطفأت أنواره وغابت أدواره وضعفت عزيمته ،  فلماذا ؟ وما السبب؟

لقد انشغل المسلمون في الخلافات الفرعية والمجادلات النظرية‏ ‏ ونسوا أنه لا يجوز أن يرتفع صوت يشغل الناس عن المعركة المصيرية التي تتصل بوجودهم ، فقد اختلفوا في الفروع وغفلوا عن القضية الكبرى , وهي التخلف في المجال الصناعي والحضاري بدل التوجه للعمل والإنتاج ، والتخطيط المستمر لتضليل العقول وتوهين العقائد وتخريب الأخلاق ، حتى تأخر المسلمون في ميادين لا حصر لها, مما أدى إلى الفقر الظاهر ، والتفاوت بين الطبقات ، رغم ما يمتلكون من ثروات ، وبدل السعي لعلاج الفقر والإعداد المعنوي والمادي ، وتجميع الأمة لتواجه مستقبلها, وتكوين رأي عام يوقظ الهمم ويوحد الصفوف, فقد شغلوا بأمور أخري من فقه المذاهب أو من هوى الأتباع , وجهلوا أن الدين لا ينهض بالأمة بتبادل معلوماته بين الألسنة والأسماع, أو استيعاب أحكامه في الذاكرة الجيدة, أو الأداء الصوري لعباداته المقررة, فهذا التناول للدين والوقوف بالإصلاح المنشود عند حد الكلام وإطلاق المقترحات غير العملية ، قليل النفع ، ولو أن كل امرئ انتقل من الكلام إلي العمل المنتج ، لاستطعنا حل أعقد المشاكل ، ولو أن كل واحد انصرف إلي عمله يتقنه ، والي واجبه المنوط به يجيده ، لكان ذلك أفيد للإنتاج وأزكي عند الله.

 لذا قام أعداء الأمة بنسج خيوط تلهي الدعاة عن دعواهم وللأسف قد حققوا النصر, وأصبح مجال الدعوة مفتوح لكل من هب ودب ،"إن الإسلام يراد هدمه  باسم الإسلام" والقائم بهذه المهمة شيوخ أو شباب لا هم من أهل الذكر ولا هم من أهل الفكر..." مما يدل على أن الخلل الواقع في طريق نهضة المسلمين ديني وأن الفلاح والصلاح والخروج من هذه الأزمة -التي كبلت الأمة الإسلامية في سجن التخلف –ما هو إلا الرجوع إلى الدين الحنيف والعمل بما جاء به ،  بعيداً عن الشوائب التي اختلطت بالإسلام ، وجعلت بعض الناس يعتقدون أن الدين الإسلامي دين انحراف، علماً بأن الدين اطهر مما يقولون ، ولذلك وجب على المسلمين أن يحرصوا عليه ، ويترفعوا به عما يضره،وذلك ببناء وتخريج علماء أكفاء لحماية وحمل هذه الأمانة،وإيصالها لأهلها وتعريفهم بها،ومحاربة الفراغ الروحي والغزو الثقافي بفهم الدين بطريقة صحيحة ، والإحاطة بالحضارة الجديدة ومنجزاتها وما وصلت إليه من تطور لاسيما التكنولوجي، ومحاولة الاستفادة من هذه الخبرات لخدمة الدين والمجتمع، وأخذ ما هو صالح لهذه الأمة لأجل تمكينها من اللحاق بالأمم الأخرى والتخلص من التبعية.

 ولابد أن يخرج مفهوم الإسلام من العبادات وحدها إلى العبادات والمعاملات ، وأن تتحول العقائد إلى سلوكيات وقيم ، تظهر في يوميات الناس ، لأن الغاية من تطبيق شرع الله ، استنقاذ الناس من ظلمات الفوضى والجهالة والفساد والاستبداد وخواء الروح، والله يقول لنبيه محمد  صلى اللع عليه وسلم : ﴿ كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور ﴾ .  إن كل مخلص من أبناء هذه الأمة يتحرق قلبه ألما، ويحترق فؤاده غيرة، بسبب ما تمر به الأمة اليوم من ضعف مادي وخواء فكري وتكالب من الأمم عليها ، من خلال انتهاك حرماتها، والاستهانة بدمائها واحتلال أراضيها، ونهب خيراتها، وقد انشغل المسلمون عن هذا الوضع الأليم بحياتهم ، فأضاعوا الدنيا والدين، فلم يفلحوا في إجادة أي منهما، ومن يرى الحياة من خلال واقعه ، وليس من خلال أمانيه ، يدرك أننا فقدنا لأهم القيم التي تحافظ على عزة الإنسان وكرامة أمته- والتي على رأسها: دين الله وشرعه الذي ينشئ الإنسان نشأة عزيزة كريمة، فالعاطفة الإسلامية والإيمان وإن كان موجودًا عند الأمة، وعند الأفراد ، إلا أنهم ابتعدوا كثيرًا عن مقتضيات هذا الإيمان، وعن تنميته، وتربيته الشخصية الذاتية فكان من أخطر ما يهدد وجود هذه الأمة ، هو تخليها عن فكرها المنبثق من عقيدتها ، وعن قيم الأخلاق، والصمود، والوقوف أمام المخططات المناهضة للإسلام بإيمان راسخ، وعزيمة صلبة، وإرادة قوية ، وإعداد الفرد المسلم  لتجاوز الهزيمة والنهوض بالأمة  ، وإذا كان ذلك يحتاج إلى جهود جبارة، وهمم عالية؛ فإنه يحتاج قبل ذلك إلى إعداد النفس وتهيئتها لهذه المهمة العظيمة ، فقد أنزل الله الكتاب والميزان ، ليقوم الناس بالقسط ، وقد أنزل الأسباب التي تحقق نصره، والمخرج من هذا الواقع المرير ، الذي نعيشه ، يكون بالعودة إلى كتاب الله وسنة نبيه عليه وسلم ، علمًا وعملاً وفهمًا وتطبيقًا  وقد حدد هذا المخرج  النبي  صلى الله عليه وسلم في قوله: ( تركت فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدًا: كتاب الله وسنتي ) . وكذلك التمسك بحبل الله المتين، والسير على صراطه لمستقيم، والاجتماع على محكمات الدين التي عناها الله في قوله : ﴿ هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب ﴾ آل عمران 7 ، فهذه المحكمات هي سبب نجاة الأمة ، التي صارَ الإسلامُ عند كثيرٍ مِن أبناءها شعارًا مُحدِّدًا  للهُويَّة فقط؛ تمييزًا بين المسلم وغيره، ولم يَعُدْ له من حقيقته إلاَّ اسمُه، ولا مِن مقاصد نزوله إلا رَسمُه  فانتُهكتِ الحُرُمات وهم ينظرون، وسُبيتِ النساء وهم لا يشعرون، وهُتِكتِ الأعراض وهم في غَفْلة سامدون.

ظَفِرَتْ بِنَا الأَعْدَاءُ يَوْمَ وَدَاعِكُمْ    فَدِمَاؤُنَا فَوْقَ الدِّمَاءِ تُرَاقُ

هُتِكَ السِّتَارُ وَقُطِّعَتْ أَوْصَالُنَا      وَنِسَاؤُنَا نَحْوَ الْهَوَانِ تُسَاقُ

أَوَ هَكَذَا يَنْسَى الْحَبِيبُ حَبِيبَهُ     بِحُطَامِ دُنْيِا مَا لَهَا مِيثَاقُ

 ورغم ذلك فالخير موجودٌ في امتنا ، مهما اشتدّ عليها الخطبُ  وطاف عليها طائف الفساد، إنها كالمطر، الخيرُ فيها لا يزول، ولا تزال تَلِد البدائلَ والعُدول ، روى النسائي عن ثابت البناني عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( أمتي كالمطر لا يُدرى أوله خير أم آخره ) وهذا التشبيه له واقع متجدد نراه ونسمعه ونعيشه، وهو أن خيرية هذه الأمة لا تنفصل عنها ولا تنعدم، وهذا الأمر يرجع لكون عقيدة هذه الأمة ، هي الدافع المحرك ، بغض النظر عن أي اعتبار آخر قوةً كان أم ضعفاً . لقد تميزت هذه الأمة عن غيرها من الأمم بعقيدتها الدافعة التي منحتها القدرة على التغيير ، وكانت القوة التي لا تقهر لا من قبل حاكم ولا من نظام مستبد، وإن الجور  الذي عانته منذ سقوط دولة الخلافة ما هو إلا مرحلة في سيرها نحو النهضة الفكرية المنشودة، فالمهر غال والعروس الجنة، وإن مرحلة الاستعمار والاستقلال وما نتج عنهما من الدمار والخراب لم يزد الأمة إلا صلابة وتمسكاً بعقيدتها لبناء دولتها، بعكس الأمم الأخرى التي سرعان ما كفرت وتنكرت لمبادئها وعقيدتها بين عشية وضحاها وأصبحت أثراً بعد عين  

لقد ابتليت الأمة بأزمات كثـيرة على طول تاريخها، مروراً بأزمة الردة الطاحنة، والهجمات التترية الغاشمة، والحـروب الصليبية الطاحنة، لكن الأمة مع كل هذه الأزمـات والمآزق كانت تمتلك مقومات النصر من إيمان صادق، وثقة مطلقة في الله واعتزاز بهذا الدين، فكتب الله لها جل وعلا النصرة والعزة والتمكين، ولكن واقع الأمة المعاصر واقـع مر أليم فقدت فيه الأمة جل مقومات النصر بعد أن انحرفت الأمة عن منهج رب العالمين وعن سبيل سيد المرسلين ، انحرفت الأمة في الجانب العقدي، والجانب التعبدي، والجانب التشريعي والجانب الأخلاقي، والجانب الفكري، بل وحتى فى الجانب الروحي، وما تحياه الأمة الآن من واقع أليم وقـع وفق سنن ربانية لا تتبدل ولا تتغير  ولا تحابي هذه السنن أحداً من الخلق بحال مهما ادعى لنفسه من مقومات تستدعي المحاباة، بل ولن تعود الأمة إلى عزها ومجدها إلا وفق هذه السنن التي لا يجدي معها تعجل الأذكياء ولا هم الأصفياء قال تعالى : ﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾  

 

 

 

 

 

مشروعية الثورات

رأيت أن أتحدث عن ثورات الشعوب التي ابتليت بنار الظلم والقهر ونهب مقدراتها ؛ فهي ثورات لها أسبابها، ومفاهيمها ، ولها ضوابطها التي تحكمها وترشِّد سيرها، إنها ثورات على الظلم والخيانة وموالاة الأعداء ، الذين حذرنا الله من موالاتهم حتى لا نكون منهم فقال تعالى : ﴿ ومن يتولهم منكم فإنه منهم ﴾ ولأن السلطة لا تكتب مشروعيتها إلا إذا كانت منا لقوله تعالى : ﴿ وأولي الأمر منكم ﴾ فإذا ما أسلمت أنظمة الأمة أرضها وحقوقها ومصالحها للأعداء ، فإن الثورة تكون واجبة ومشروعة ، وما يقوله بعض المنتسبين للعلم الشرعي ، الذين يعلنون أن هذه الثورات خروج على الحاكم وخرق لطاعة ولي الأمر، وأنها بدعة .. إلى غير ذلك من هذه التأويلات الفاسدة ، ومن يقول أن الخروج على الحاكم كان قديمًا يعنى شهر السلاح في وجهه، وما أظن أحدا ينتظر من الإسلام أن يبيح هذا الحق ، لمن يشاء متى يشاء، وكل ما ذكره الإسلام في إطفاء بذور الحرب الأهلية قول الرسول: ( ستكون هنات وهنات فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهى جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان ) وهذا حديث لا غبار عليه وأرقى الأمم الدستورية تعمل بوحيه في أيام حربها وسلامها، فإن حق الثورة المسلحة ليس كلأً مباحا يرعاه كلُّ غضبان، أما اعتبار المعارضة المشروعة خروجًا على الدين وحكومته ، يُقتل من أجلها المعارض ، استدلالاً من الحديث السابق ، فهو ما لا موضع له في أدمغة العلماء؛ لأن الظلمة والمستبدين قتلوا كثيرًا من الناس جريًا على طبائع الاستبداد ، لا اتباعا لأحكام الله، فلا ينبغي الاعتذار للمجرمين ، بأنهم تأولوا آيات الكتاب وأحاديث الرسول g فهم لا يعرفون لله حقًّا، ولا لرسوله حرمة .

كما أن التحذير من الثورات بدعوى الخوف من الفتنة ، والخوف على الدماء والأعراض ، متناسين الدماء التي سفكت ، والسجون التي ملأت من قبل الأيدي الظالمة ، ومتجاهلين أن  النبي g أذِن لأصحابه حين تعرضوا للأذى والظلم بمكة ، أذن لهم بالهجرة للحبشة وعلل ذلك بقوله (فإن فيها رجلا لا يظلم عنده أحد ) . 

وهذا يدل على أن الثورات ضد الظلم والطغيان والفساد، هي سنة من سنن الله في خلقه لا تتخلف في الانتقام من المجرمين، وقطع دابر الظالمين، كما قال تعالى : ﴿ إنا من المجرمين منتقمون ﴾ وقال سبحانه : ﴿ فقُطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين﴾ فالله ينتقم من الظلمة ويقطع دابر الظالمين ، وربما أمهلهم الله إلى أجل ليأخذهم أخذ عزيز مقتدر (إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ) وقد وعد الله بنصر من ظُلم وبُغي عليه فقال تعالى : ﴿ ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بُغي عليه لينصُرنه الله ﴾ الحج 60 وفي الحديث القدسي (يقول الله للمظلوم وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين ) . 

وقد رأينا كيف نصر الله المظلومين نصرا لم يتوقعوه ، ولم يخطر على بالهم ، وبهذا يتجلى عدل الله في الدنيا  كما سيتجلى عدله يوم القيامة قال تعالى :  ﴿ ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار ﴾ بتوريث المستضعفين الأرض ، وهي سنة من سنن الله في الخلق، فقد جعل الله الأيام بين الناس دولا ﴿ وتلك الأيام نداولها بين الناس﴾ لتتجلى قدرته وعزته، وأنه وحده مالك الملك ﴿ يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء ﴾  ولهذا يرى الخلق جميعا كيف يعلي الله شأن المستضعفين ، وكيف يذل المستكبرين، وينزع ملكهم قال تعالى : ﴿ ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ﴾ وقد شاهد العالم كله كيف أورث الله كثيرا من المستضعفين ملك بلدانهم   فأخرجهم الله من السجون إلى العروش ، سنة كونية يراها الناس في كل عصر ، فكم قصم الله من الملأ المترفين، وكم دمر من المستكبرين ، حتى أصبحوا أحاديث، وجعلهم آية لمن خلفهم، كما قال تعالى لفرعون حين أغرقه ﴿ الآن وقد عصيتَ قبلُ وكنتَ من المفسدين. فاليوم ننَجِّيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية ﴾ يونس 91  فالله جل جلاله لا يرضى الفساد في الأرض ﴿ ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ﴾ ولا يصلح عمل المفسدين {إن الله لا يصلح عمل المفسدين } وقد أفسد الطغاة الذين أطاحت بهم الثورات  فسادا عظيما ضجت منه الأرض، وسخطت منه السماء، فتجاوزوا الفساد الأخلاقي، إلى فساد جنائي وسياسي ومالي وإداري، حتى صارت أموال الشعوب نهبا لهم ولزوجاتهم وأبنائهم، بينما يموت الفقراء في بلدانهم جوعا وفقرا ، فكان هذا سبب لحدوث التغيير ، فقد جعل الله لكل شيء أسبابه التي يوجد بوجودها، ويتخلف بتخلفها، ومن ذلك أن التغيير في المجتمع لا يحدث إلا حين يتغير الناس ﴿ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ﴾ فلما تغيرت بعض الشعوب وتحررت من الخوف وخرجت عليه، وتصدت له، جعل الله العاقبة لها، وغير أحوالها  بعد عقود من الركود، وسنين من الجمود!

فهذه بعض سنن الله الجارية على الخلق جميعا، وهي سنن كونية لا فرق فيها بين مسلم وغير مسلم، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية (إن الله ينصر الدولة الكافرة العادلة، ويخذل الدولة المسلمة الظالمة  

 أنها ثورات على الظلم والطغيان، وعلى البغي والعدوان، وقد أمر الشارع برد الظلم ، كما قال تعالى في أبرز صفات أهل الإيمان ﴿ والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون ﴾  فأوجب الله على المؤمنين الانتصار ممن ظلمهم، والانتصاف لأنفسهم، ورد العدوان كما في قوله تعالى : ﴿ من اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ﴾ وقد أوجب الله على المؤمنين التعاون على البر والتقوى، وحرم عليهم التعاون على الإثم والعدوان، كما قال تعالى : ﴿ وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ﴾  وحرم الركون إلى الظالمين فقال تعالى : ﴿ ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ﴾ وكما في الحديث (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله) فكل من أعان الظالم على ظلمه ولو بكلمة فقد شاركه في ظلمه وباء به ، وكل من خذل مظلوما وهو يستطيع نصرته ، أو أسلمه للظالم فقد ظلمه! فالواجب التعاون على البر والتقوى ، ومن ذلك التعاون على القيام بالحق، والتصدي للجور والأخذ على يد الظالم، ونصرة من ثار عليه! 

وما يجهل أحكام الله في الظالمين، وما يجري عليهم وما يجب تجاههم ، إلا من طمس الله على قلبه وأشرب حب الطاغوت وحزبه، والمرء مع من أحب، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور!  .

 

 

 

 

 

 

 

جريمة الإنفاق غير المشروع

قال تعالى:﴿ فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن ، وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقولُ ربي أهانن ﴾ الفجر 15 ، وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ليس عطائي إكرامًا ولا منْعي حِرْمانًا ، عطائي ابْتِلاء  وحِرْماني دواء ) فالإنسان مُبْتَلى فيما أُعطي وفيما مُنِعْ  لذلك كان عليه الصلاة والسلام يقول : (اللهم ما رزقتني مما أحب فاجعله عونا لي فيما تحب، وما زللت عنِّي ما أحبّ فاجْعَلْهُ لي فراغًا فيما تحبّ ) . فالمال إن استُعمِل في طاعة الله تعالى، فهو نعمة، وإن استُعمِل في معصية الله تعالى، فهو نقمة  وباب سوء وعذاب؛ لذا يَحرُم الإنفاق في الطرق غير  المشروعة كما هو حال مالكي المليارات هذه الأيام؛ قال صلى الله عليه وسلم: (إن رجالاً يتخوَّضون في مال الله بغير حق، فلهم النار يوم القيامة) لقد عميت عيونهم عن رؤية نعم الله، فغفلت عن شكرها، فما أعطى الله المال إلا لنشتري به الجنة : ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ﴾ التوبة111. فَهِم عثمان بن عفان هذا فاشترى الجنة مرتين: مرة يوم سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( من جهز جيش العسرة فله الجنة )، فجهز جيش العسرة ومرة يوم سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( من حفر بئر رومة فله الجنة  ) فحفر بئر رومة .

دخل مقاتل بن سليمان رحمه الله، على المنصور يوم بُويعَ بالخلافة ، هنا قال أبو جعفر لنفسه: جاء ليعكر علينا صفو يومنا سأبدأه قبل أن يبدأني وقال له: عظنا يا مقاتل قال مقاتل: أعظُك بما رأيت أم بما سمعت؟ قال: بما رأيت قال: يا أمير المؤمنين إن عمر بن عبد العزيز أنجب أحد عشر ولدًا وترك ثمانية عشر دينارًا، كُفِّنَ بخمسة دنانير واشتُريَ له قبر بأربعة دنانير وَوزّع الباقي على أبنائه. ومات هشام بن عبد الملك  فكان نصيب إحدى زوجاته الأربع ثمانين ألف دينار، غير الضياع والقصور، كان نصيب الزوجات الأربع هو ثلاثمائة وعشرون ألف دينار، وهذا هو ثُمن التركة فقط  والله يا أمير المؤمنين لقد رأيت بعيني هاتين في يوم واحد ولداً من أولاد عمر بن عبد العزيز يحمل على مائة فرس في سبيل الله، وولدا من أولاد هشام بن عبد الملك يسأل الناس في الطريق.  هذا عمر عندما سأله الناس وهو على فراش الموت: ماذا تركت لأبنائك يا عمر؟ قال: تركت لهم تقوى الله، فإن كانوا صالحين فالله تعالى يتولَّى الصالحين، وإن كانوا غير ذلك فلن أترك لهم ما يُعينهم على معصية الله تعالى. فتأمَّل كثير من الناس يسعى ويكد ويتعب ليؤمن مستقبل أولاده ظنًا منه أن وجود المال في أيديهم بعد موته أمان لهم، وغفل عن الأمان العظيم الذي ذكره الله في كتابه: ﴿ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ﴾النساء 9. وتأمل في من ورث الملايين بل المليارات، ومع ذلك لم يوظِّف تلك الأموال في خدمة دينه ومجتمعه؛  بل صرفها لخدمة أعداء الله وهذا يدلنا على أنه لا قيمة لغنى الجيوب مهما بلغت أرقامه وأرصدته ، بل القيمة الحقة تكمن في غنى القلوب وقناعتها وإيمانها بأن الإنفاق على الشعوب وصلاحها أجدى وأنفع من المال الذي  ينفق على الملذات والأتوات ، فهل من مدكر؟

 

 

 

أهمية المسجد في الإسلام

المساجد بيوت الله تعالى، ومن أحب الله تعالى أحب بيوته، وأكثر من زيارتها قال تعالى: ﴿ وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً ﴾ 18 الجن. والضيف إذا نزل بساحة الكرماء، و منازل العظماء، أصابه جودُهم وفضلُهم، ونال من أعطياتهم وغنم من إكرامهم، فكيف بضيف نزل بأكرم الأكرمين، وحلّ على رب العالمين..؟ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله  صلى الله عليه وسلم قال فيما يرويه عن ربه: ( إنّ بيوتي في أرضي المساجد، وإنّ زوّاري فيها عمّارها، فطوبى لعبد تطهّر في بيته ثم زارني في بيتي فحقّ على المزور أن يكرم زائره ) رواه أبو نعيم. ولا شك أن أعظم هذه الكرامات، وأفضل هذه الأعطيات، أن يذيقه الله تعالى لذة قربه وحلاوة مناجاته، وأن يمنحه شهادة الإيمان.

فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي  صلى الله عليه وسلم : ( إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان، قال الله تعالى:﴿ إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر ﴾ رواه الترمذي.

وفي منازل القيامة، وأهوال مشاهدها، يكون في ظل عرش الرحمن آمنا مطمئنا جاء في حديث رسول الله : ( سبعة يظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله –ذكر منهم - ورجل قلبه معلق بالمساجد ) متفق عليه. ثم يصله تعالى بنعمة الجنة، وما أعده له فيها من نعيم مقيم ، عن أبي هريرة أن النبي  صلى الله عليه وسلم قال: ( من غدا  إلى المسجد أو راح  أعدّ الله له في الجنة نزلا كلما غدا أو راح ) متفق عليه.

وإذا كان حق الضيف إكرامه، فإن من واجبه معرفة قدر من يزور، والاستعداد لزيارته   والتأدب في حضرته بما يليق وجلال المزور وعظمته ، فهو المدرسة الأولى التي تخـرَّج فيها الصحابة رضي الله عنهـم. فقد كـان لهـم كبير الأثر في جميع المجالات العلمية والدعوية والقضائية والأدبية وغيرها ، فقد أدى المسجد دوره وقام برسالته التي أقيم من أجلها؛ فلم يكن المسجد دار صـلاة فحسـب ، بـل كـان دار اجتماع لكـل المسلمـين ، ومـركزاً لإرسال السرايا والجيوش ، ومنه انطلــق الدعـاة إلى اللـه يعلِّـمون النـاس الخير.

ففد كان المسجد روح المجتمع الإسلامي  ولذلك كان فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الأول عندما هاجر إلى المدينة ، أن يبني المسجد ، حتى يكون مَحْضِناً للرجال ومصنعاً للأبطال ، وكما نعلم أن المصانع نوعان : مصانع للسلع أو الأسلحة ومصانع للرجال ، والحقيقة أن المسجد كان مصنعاً للرجال ، وكل أمة ليس لديها مصنعاً للرجال ، فإن الأسلحة مهما كثرت فلا تغني عنها شيئا ، أما لماذا اهتم الرسول صلى الله عليه وسلم بإقامة المسجد ، لأن الناس الطيبين يوم يكون كلٌ منهم منطوٍ على نفسه بعيدٍ عن أخيه ، لا ينجحون في مقاومة الباطل والضلال ، ولذلك نرى أن الأعداء بالرغم من النجاح العسكري في غزو بلادنا ، فقد عملوا وبجد على ُسحب الإسلام من ميدان المقاومة ، وأن يجعل المسلمين المهزومين لا يلتقون في المساجد لقاءً نافعاً ، وقد تحقق لهم ما أرادوا   فقد أصبحت المساجد صوراً  وأصبح الكلام الذي يلقى فيها ميتاً ، فهانت المساجد رسالة  وهانت مظهراً وجوهراً ، وقد استطاع أعداؤنا أن يجعلوا صلتنا بالمسجد مبتوتة ، بينما تشبثوا بعقائدهم الباطلة في كنائسهم .  

كان المسجد يشكل الملتقى الروحي للناس فيعبدون الله فيه ، ويتعلمون العلوم النافعة لهم في دينهم ودنياهم، ويجتمعون فيه للتداول في أمورهم الداخلية والخارجية، فكانت تنطلق من منابره التوجيهات والتخطيطات المتعلقة بتنظيم حياتهم   كما كانت تنطلق منها صيحات الجهاد. وقد سارت حياة المسلمين في مساجدهم على هذا النحو ، بحيث جسّدت المفهوم الإسلامي للعبادة التي تنفتح على الله سبحانه، لينفتح الناس من خلال ذلك على الحياة في مواقعها المضيئة المتحركة في سبيل الخير.

لقد أصبحت المساجد هذه الأيام ، تعاني من اللغط واللهو والنوم ، وقضاء الأوقات في الأحاديث الدنيوية ، وربّما تعاطي الغيـبة والنميمة  والكذب ، وتناول أعراض المسلمين   وجلوس الناس في المسجد على هذا النحو يخالف أدب المسجد  لحديث أنس مرفوعاً وابن مسعود كذلك : (سيكون في آخر الزمان قومٌ يجلسون في المساجد حلقاً حلقاً، أمامهم الدنيا فلا تجالسوهم، فإنه ليس لله فيهم حاجة) أخرجه ابن حبّان والطّبراني وإسناده حسن . فالتحدث في المسجد في أمر الدّنيا ، وما جرى لفلانٍ ، وما جرى على فلانٍ ، مخالف لتعظيم المساجد ورعاية حرمتها وتنزيهها عن كل ما لا يليق بها ، لذلك طلب من الداخل إلى المسجد ، صلاة ركعتين سنة تحية المسجد قبل الجلوس ، وقبل التكلم مع الغير ، روي عن أبي قتادة  رضي الله عنه  أن رسول الله  صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا دخل أحدُكم المسجد فلا يجلس حتَّى يُصلي ركعتين ) رواه البخاري ، فكم هو عظيم وجليل وجميل أن يفتتح المسلم دخوله إلى بيت من بيوت الله في الأرض بركعتين يُعلِنُ بهما السمع والطاعة   والخشوع والخضوع لله سبحانه ، قطعاَ للحديث بين المصلين ، وانتظاراً للصلاة في  خشوعٍ ووقارٍ وسكينة ، وما يفعله بعض الناس من التحدث قبل الصلاة ، مناف لما أمرنا الله تعالى به من صيانة المساجد وتعظيمها، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بعدم التشويش على المصلي ولو بقراءة القرآن فكيف بالتشويش عليه بأحاديث تتنافى مع آداب المساجد وتعظيمها ، إضافة إلى  التسبّب في هتك حرمتها ، عن السائب بن يزيد الصحابي قال:( كنت في المسجد فحصبني رجل فنظرت فإذا عمر بن الخطاب فقال: اذهب فأتني بهذين، فجئته بهما  فقال: من أين أنتما؟ فقالا: من أهل الطائف   قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ) رواه البخاري.

 لقد ارتبط تاريخ الأمة الإسلامية بالمسجد ارتباطاً وثيقاً ، لأن الإسلام لم يقْصر رسالة المسجد على أداء الصلاة فحسب ، بل أراد أن يكون له دور إيجابي ، وأهداف سامية تخدم المجتمع الإسلامي  فكما أن المسجد محراب للعبادة، فهو مدرسة للعلم، وندوة للأدب ، ومصحة للأرواح ، لهذا نتمنى أن تعود للمسجد رسالته السامية، ومكانته التي كان عليها في صدر الإسلام ، ليعيش المسجد في هذا العصر ، كما كان في الماضي ، وأن لا يقتصر دوره على أداء الصلوات ، وطلب العون والمساعدات والإعلان عن المفقودات ، وعلى مداخله تباع السلع والحاجيات ، عن أبي ذر قال : قلت يا رسول الله كيف تعمر مساجد الله ؟ قال : ( لا ترفع فيها الأصوات، ولا يخاض فيها بالباطل ولا يُشتر فيها ولا يُباع واترك اللغو ما دمت فيها، فإن لم تفعل فلا تلومنّ يوم القيامة إلا نفسك ) . فيه النهي عن الاشتغال بأمور الدنيا  والبيع والشراء، والبحث عن ضائع ، كما جاء النهي عن ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم  حينما رأى رجلاً ينشد ضالته في المسجد فقال له : ( لا رده الله عليك فإن المساجد لم تبنى لهذا ) لماذا قال ذلك . لأن المسجد مكان للعبادة ، ولذلك نقول لمن يتحدث في المسجد بأي شيء يتعلق بحركة الحياة " أبشر بأنها لن تنفع " لأنك دخلت المسجد للعبادة فقط ، فلحظة دخولك المسجد هي لحظة جئت فيها لتتقرب من ربك وتناجيه ، وتعيش في حضن عنايته ، فلماذا تأتي بالدنيا معك ؟ وليكن لنا في أحد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة حسنة كان يقول : كنا نخلع أمر الدنيا مع نعالنا     فقال له صحابي آخر وزد : إننا نترك أقدارنا مع نعالنا . لا يخلع الدنيا مع نعله فقط على باب المسجد ، ولكن يخلع أيضاً قدره في الدنيا . لأن الدنيا يا أخي تأخذ منك ساعات اليوم الكثيرة   ولكن المسجد لن يأخذ منك إلا الوقت القليل   فضع قدرك مع نعلك خارج المسجد ، وادخل بلا قدرٍ إلا قدر إيمانك بالله ، واجلس في المكان الذي تجده خالياً ، ولا تتخط الرقاب لتصل إلى مكان معين في المسجد ، كما نلاحظ من يتخطى الرقاب ليجلس في الصف الأول ، وما درى أن الله قد صف الصفوف قبل أن يأتي هو إلى المسجد   فاجلس حيث ينتهي بك المجلس ، ولا تتخط الرقاب ، فقد كان رسول الله يجلس حيث ينتهي به المجلس ، أي عندما يجد مكانا له .

وللمسجد آداب منها : الذهاب إلى المسجد على طهارة تامة، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ﴿ من تطهر في بيته ثم مضى إلى بيت من بيوت الله، ليقضي فريضة من فرائض الله، كانت خطواته إحداها تحطّ خطيئة والأخرى ترفع درجة ﴾ رواه مسلم ، كما ينبغي المحافظة على المظهر الحسن ، ولبس الثياب النظيفة، والتجمّل والتطيّب ، عند ارتيادها والدخول إليها عملاً بقوله تعالى : ﴿ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ﴾ الأعراف 31 . ومعنى ذلك أن يلبس المصلي لباساً لائقاً بالمساجد ، و الحذر من ارتيادها بملابس غير لائقة ، كأن يأتي الإنسان إلى المسجد بثياب النوم أو بملابس العمل المتسخة   فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يلبس أحسن ثيابه ، لأن الإنسان يقف بين يدي الله عز وجل فيجب أن يستشعر عظمته والتجمل والتزين بأحسن الثياب وأطهرها أرأيت لو دعيت لمقابلة ملك أو مسئول في الدنيا ، ألا تلبس أحسن الثياب ، فكيف وأنت تقف بين يدي ملك الملوك ورب الأرباب.  

ومنها : تجنب أكل الثوم أو البصل، وما له رائحة كريهة، عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من أكل ثوما أو بصلا فليعتزلنا، أو فليعتزل مسجدنا ) متفق عليه.

ومنها : صيانة المسجد من الأطفال والمجانين  وتشجيع الصبية الذين تجاوزوا السابعة وإحضارهم الى المسجد تعويدا لهم على العبادة، وتحبيبهم بالمساجد مع تعليمهم آدابها قبل دخولها، والإشراف عليهم أثناء وجودهم فيها لتوجيههم وتنبيههم عند الإخلال بحرمتها أو مخالفة آدابها  .

ولكن المساجد هذه الأيام تعاني من الأطفال الذين يلعبون و يتسامرون داخل بيت الله على مرأى من الكبار و الرجال دون وجود من يوجههم أو يرشدهم، حتى وضعية جلوسهم التي تدل على أنهم لا يعرفون آداب المسجد، لكن الخطأ ليس خطأهم إن ذهبوا للمسجد بدون مرافق، بل الذنب على أولياء أمورهم بالدرجة الأولى الذين لا يصطحبون أبنائهم معهم ، ولا يحرصون على إبقائهم بجانبهم أثناء الصلاة ، وتعليمهم ما لا يعرفونه إن أخطأوا ، حتى تكون نشأتهم الدينية سليمة و يحسوا بقيمة بيوت الله ، لأن الطفل المؤذي والمشوش على المصلين يجب تعليمه وتربيته على آداب المساجد وصيانتها عن الأذى والإيذاء، فإن لم يفهم ولم يعقل وجب منعه ، بإجماع الفقهاء ، وما صدر عن دور الإفتاء في هذا العصر يقول الشيخ عبد الله  الجبرين رحمه الله :

"منع الصبيان ونحوهم من المساجد عند خوف العبث واللعب فيه: وذلك أن من طبيعة الأطفال كثرة اللعب والحركة، والتقلب والاضطراب، مما يشوش على المصلّين والقراء، وأهل الذكر والعلم، ولا يستطع وليه التحكم في تسكينه غالبًا، فهو في الصلاة يكثر الالتفات والتقدم والتأخر، ومد اليدين، وحركة القدمين، وذلك مما يشغل من يصلي إلى جانبه، ويلهيه عن الإقبال على صلاته، مما يذهب الخشوع، وينقص الأجر، ثم إن الأطفال الذين دون سن التمييز لا يؤمن تلويثهم للمسجد، فقد يحصل منهم التبول ونحوه، والروائح المستكرهة، واللعاب والبصاق ونحو ذلك، لعدم فهمهم بحرمة المكان، وصعوبة تأديبهم، والتحكم فيهم، فلذلك يتأكد على أوليائهم منعهم من دخول المساجد إلا بعد التأكد من فهمهم، وتعلمهم احترام المسجد، وتربيتهم على النظافة والأدب، وحفظهم عن كثرة الحركة وما يسبب ضررًا أو تشويشًا للمنظر الظاهر في بيوت الله التي أذن أن ترفع.

 

 

 

 

 

 

 

تشبهوا بهم إن لم تكونوا مثلهم

من العلماء والأئمة المجتهدين والمجاهدين من لهم الفضل ، بعد الله ، في إعلاء كلمة الحق باجتهادهم في شتى العلوم الدينية والدنيوية في وقت نحن بحاجة ماسة إلى نشر سيرهم حتى نسهم في ابتعاث ماضيهم الزاهر ، ليصل حاضر الأمة بماضيها ، وليطلع عليها جيلنا ، ليرى من خلال تلك السير ، عظمة الرجال الذين بنو مجد الإسلام ، وبالتالي يدرك سر انتشار الإسلام وسر انكماشه على أيدي من بعدهم ، ويدرك صدق القائل: "يا له من دين لو أن له رجال" لقد فقه سلفنا الصالحون عن الله أمره، وتدبروا في حقيقة الدنيا  ومصيرها إلى الآخرة، فاستوحشوا من فتنتها وتجافت جنوبهم عن مضاجعها، وتناءت قلوبهم من مطامعها، وارتفعت همتهم على السفاسف فلا تراهم إلا صوامين قوامين، باكين والهين، قد حفلت تراجمهم بأخبار زاخرة ، تشي بعلو همتهم في التوبة والاستقامة، وقوة عزيمتهم في العبادة والإخبات ، يقولون: حينما يشعر الإنسان بالإحباط، وحينما يفقد المثل الأعلى يهرب إلى الماضي ليعوض ما فقده في الحاضر ، فيقرأ سيرة أولئك الرجال ، الذين ضحوا بحياتهم من أجل رفعة الإسلام والمسلمين ، فليكونوا لنا قدوه نقتدي بها  في عصر لا توجد فيه قدوة نتأثر بها أو نقتفي أثرها قرأنا في التاريخ عن عدل عمر بن عبد العزيز  وبطش الحجاج بن يوسف الثقفي  ذاك خليفة عادل ، وهذا حاكم سفاح،  فمن يجعل من الحجاج قدوة له  ويترك الاقتداء بعدل عمر فقد ضل الطريق، وهناك تجارب إسلامية قديمة وحديثة  أساءت تطبيق الإسلام ، لكنها ليست حجة على الإسلام ، لأن الإسلام هو الحجة على الناس ، وما كان الناس في يوم من الأيام حجة على الإسلام ، وما ينبغي أن يتكلم باسم الإسلام إلا من يفهمه فكراً ومنهج حياة ، لقد خلد التاريخ ذكر الرجال الذين يقتدى بهم ، وكانوا ترجمة صادقة لدين الله ، بل كانوا معجزة من معجزات الإسلام ، فهذا عبد الله ابن المبارك من تابعي التابعين ،كان كما قال الإمام النووي   إماما في الفقه والحديث واللغة والأدب ، وكان يكتب كل ما سمعه ، وكان يطلب الدرس والعلم لوجه الله تعالى ، وكان من أشهر عباد زمانه وأكثرهم زهدا, وكان من فقهه وعبادته وزهده كما فى كتب الطبقات والتراجم ، كان يربح مئات الألوف من الدراهم ، وعندما قال له تلاميذه   تكلمنا عن الزهد وأنت وتربح مئات الألوف ، كيف نفهم هذا ؟ قال بهذا المال أصون وجهي ، وأكرم عرضي ، وأستعين على طاعة ربي ، ولا أرى حقا إلا سارعت إليه، نعم هذا كلام صحيح وفقه سديد ، لأن من لا دنيا له لا يستطيع حتى القيام بالتكاليف الشرعية، وقد أُمرنا أن نوازن بين الدنيا والآخرة والله يقول: ﴿ فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ , وهذا هو التوازن المطلوب ، دل عليه قوله تعالى :﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾.

فالإسلام لا يأمر أن نترك الدنيا وأن نستدبرها وإنما نوازن بين السعي للدنيا والسعي للآخرة ، فلا يتناقض الزهد مع الكسب قال تعالى: ﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ﴾   كان عبد الله ابن المبارك تاجرا كبيرا ، وكان فقيها وعابدا لكنه لم يرجح جانبا على جانب كانت الدنيا في يده ، ولم تكن في قلبه ، فقد ضم إلى الفقه والعبادة ، الجهاد والمرابطة ، ففي أول مرة له رابط في بلاد الشام  نظر إلى صاحبه وهو يرى تضحيات المجاهدين ، ويرى بطولاتهم فقال له : " إنا لله وإنا إليه راجعون يا حسرة على أعمال أفنيناها وليال قضيناها في قرض الشعر وتركنا أبواب الجنة هنا مفتحة " ويقصد بأبواب الجنة الجهاد والرباط في سبيل الله ، ولما سأل عن صاحبه الفضل بن عياض في ميدان الجهاد والرباط قالوا له : إنه معتكف للعبادة في مكة والمدينة المنورة فكتب إليه  يقول له :

يا عابد الحرمين لو أبصرتنا  لعلمت أنك في العبادة تلعب

من كان يخضب خده بدموعه   فنحورنا بدمائنا تتخضب

أو كان يتعب خيله في باطل    فخيولنا يوم الكريهة تتعب

والسؤال هل تتحول العبادة إلى لعب؟ نعم تتحول عندما يضعها الإنسان في غير موضعها ، فالعبادة صنوف كثيرة ، وشعب متعددة ، وقد يختار الإنسان العبادة التي هي أدنى إلى هواه أو أقرب إلى السلامة ، فمثلاً الغني الذي يكثر من الصلوات خاصة في النوافل لكنه يقتصد في النفقات والصدقات ، هذه عبادة أقرب إلى اللعب واللهو، أو العالم الجبان، الذي يصوم النهار ويقوم الليل ، ولكن إذا طلب منه أن يقول الحقيقة يلوذ بالصمت، علماً بأن عبادة الغني بعد الفريضة أن يبسط يده للمحتاجين والملهوفين ، وعبادة العالم أن يعلم الناس الحق ، وأن يقول الحقيقة ، وأن يكون قواما بالقسط ، يقول ابن عطاء الله السكندري : من علامات إتباع الهوى المسارعة في نوافل الخيرات والتكاسل بالقيام بحقوق الواجبات ، وقد قدم لنا عبد الله ابن المبارك رحمه الله نموذجا لفهم العبادة على هذا النحو الرفيع ، ولذلك يقول لصاحبه : يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تلعب أي تترك واجب الجهاد والرباط ، وتذهب إلى هناك تتعبد بالنوافل ، روي أن عبد الله بن المبارك كان يغزو عاما ويحج عاما ففي عام من أعوام حجه في سفره إلى الحج ، وجد في مغارة امرأة تلتقط هرة وتذبحها للأكل فذكرها بالآية ﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ﴾ فأجابته بباقي الآية: ﴿ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ فلما علم بأنها مضطرة لتطعم أولادها الجياع الذين عضهم الجوع بنابه ، وشارفوا على الهلاك ، ولم يجدوا ما سوى الميتة ، أعطاها ما كان معه من مال وطعام إلا ما يكفيه للرجوع إلى بلده ، ولم يحج تلك السنة،كان يفهم العبادة على حقيقتها وأنها ليست مجرد الحفاظ على القشور والشكليات ، دفع إليها هو ومن معه نفقة الحج كلها ، ولم يبق معه إلا ما يكفيه للرجوع من حيث أتى ، وقال عبارة عظيمة , لمن معه هذا أفضل من حجنا هذا العام  وكان من أخلاق عبد الله أنه كان يتخفى وهو يقوم بواجب الجهاد في سبيل الله ، حتى يبتعد عن مواطن الرياء ، وهذا يذكرني بالرجل الذي جاء إلى عمر بن الخطاب ، وهو ملثم ووضع بين يديه كميه من الذهب ، استولى عليها في الحرب ، ثم ولى ، فيأخذ العجب أمير المؤمنين ويقول : إن قوما أدوا هذا لأمناء ، فيقول الناس من حوله يا أمير المؤمنين ! عففت فعفو ، ولو رتعت لرتعوا أنت القدوة . وفي عصر صلاح الدين الأيوبي  كان يرقب معسكر الأعداء ، فرأى حريقاً اشتعل مرتين في معسكر الأعداء فاستغرب ، فرأى رجلا من جند المسلمين يخرج من معسكر الأعداء بعدما شب الحريق ، فعلم انه وراء ذلك ، فاستدعاه وقال له: ما اسمك فرفض الرجل أن يقول اسمه لصلاح الدين ، وعاد وقال له : ما اسمك قال : يعلمه الله قال : إني أريد مكافئتك ، فقال له : والله لو أردت المال لما رأيتني هنا ثم انصرف وشأنه .  كان لعبد الله كلاماً في غاية البلاغة ، فقد سئل ثلاثة أسئلة : "من الذين يستحقون هذا الاسم؟ ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ قال: العلماء ، ومن الملوك؟ قال: الزهاد الذين ركضوا الدنيا بأقدامهم ، فقيل له من السفلة المنحطون؟ قال: الذين يأكلون الدنيا بالدين " أي يسخّرون الدين لمصالحهم ، ولما سئل عن التواضع قال : التكبر على المتكبر " ووقف ذات يوم وأشار بيده إلى المقبرة وقال: " هذا كنز الرجال ، ثم أشار بيده إلى مزبلة وقال : هذا كنز الأموال ، نهاية الأموال هنا ، ونهاية الرجال هناك" ما أحوج امتنا إلى أن تعود إلى مصدر قوتها ، وفيض عزها وكرامتها ، بالعودة إلى تاريخها ومقومات دينها ، وما أحسن القدوة في مدرسة الرسول الأعظم ، التي خرجت رجالاً عرفوا معنى الحياة ، وواجب الأحياء في إعلاء كلمة الله ونصرة دينه ، فعاشوا لأمتهم أبطالا وماتوا في سبيلها بررة كراما ، وخلفوا من ورائهم مجدا سادت به الدنيا قيادة وفكرا وأسوة ، وحققوا لها مكانها الذي ارتضاه الله لها حيث يقول : ﴿ كنتم خير أمة أخرجت للناس ، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ﴾ آل عمران 110 . 

 

 

 

فتنة الموضة

 من نعم الله على عباده ، نعمة اللباس والزينة   وقد امتن الله على عباده بهذه النعمة في قوله تعالى: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾ الأعراف:26  وريشا ما يُتجمل ويُتزين به ، واللباس والزينة منحة ربانية  ونعمة عظيمة، والنعمة واجب على العباد شكرها، ومن شكرها لله أن لا نتعدى فيها حدود الله، وأن نأخذها بحقها، وأن نضعها في محلها الذي وضعها الله فيه، وقد ظهرت في زماننا هذا أشكال من اللباس والزينة في أوساط الشباب والشابات ، وافدة من الغرب، فيها امتهان لشخصية المسلم وكرامته ، اعتقاداً منهم أن لا ممنوع في اللباس والمظهر، بتصميمات مختلفة منها التركي والأسباني والخليجي ، ورسومات ووشم علي الأيدي والكتف وسلاسل وأساور يرتديها الشباب قبل الفتيات، وأشكال يقلدوها دون معرفه أصولها أو الهدف منها ، فمن قصّات الشعر التي لكل قصَّهٍ منها قصّْةٍ ومسمى ، كرأس الديك وجسد القنفد ورجل الزرافة ، إلى ارتداء البنطلونات بأشكالها المختلفة المواكبة للموضة فمنها : البرمودا والمقطع والتنانير الطويلة والقصيرة والحجاب الستايل والبنطلون الساقط الذي أصبح منتشراً جدا في المجتمع الغربي   وفكرة هذا البنطلون مأخوذ من السجون في أمريكا التي كانت لا تعط للمساجين حزام للبنطلون كي لا يشنقوا به أنفسهم أو لفض النزاع بينهم ، وقد حاولت بعض المدن الأمريكية منع هذه الموضة بصوره قانونيه، ففي ولاية لويزيانا صدر قرار بحبس كل من يرتدي البنطلون الساقط لمده ستة اشهر وغرامه 500 دولار، وفي ولاية نيوجرسي ، فان القبض علي من يتبعون هذه الموضة يُعني غرامه كبيرة بالإضافة للقيام بأعمال لخدمه المجتمع مثل نقل القمامة ، كما حظر مجلس الشيوخ الأمريكي ارتداء الطلاب لهذا البنطلون، ووافق علي قانون جديد يقضي بحرمان الطلاب الذين يرتدون تلك السراويل من الحضور إلي المدرسة ، وهناك البنطلون المقطع والبنطلون الضيق الذي يثير الاشمئزاز ، ولا يقف الأمر عند هذا الحد ، ولكن هناك بعض الملابس المكتوب عليها باللغة الإنجليزية ، واغلب الشباب لا يفهمون ما المقصود منها ، لكنهم يعتبرونها موضة جديدة ، وبعض الكلمات المكتوبة علي الملابس قد تسئ لمرتديها ، فقد تكون غير أخلاقية أو تعبر عن شئ ما ، وكل هذه تحت شعار "الموضة"، والمستفيد الوحيد هم المروجين لهذه السلعة.

إن مسايرة هذا الواقع من الفتنة التي لا ينجو منها  إلا من رحم الله ، وجاهد نفسه ، لأن ضغط الفساد ، ومكر المفسدين ، وترويض الناس عليه ردحاً من الزمان ، جعله متمكن من القلوب  وشربته النفوس حتى ألفته وأحبته .

ومن أعظم ما حصل من هذه الفتن في العصر الحاضر : مسايرة النساء في لباسهن للفاسقات والكافرات ، وتقليدهن لعادات الغرب الكافر    في الأزياء ، وصرعات الموضات ، وأدوات التجميل ، حتى صرنا نرى أكثر نساء المسلمين على هيئة في اللباس والموضات التي ينكرها الشرع   والعقل ، وتنكرها المروءة والغيرة ، وكأن الأمر تحول إلى شبه عبودية لبيوت الأزياء ، يصعب الانفكاك عنها .

يقول صاحب الظلال عن هذه العادات والتهالك عليها ، وسقوط كثير من الناس فيها : " هذه العادات والتقاليد التي تكلف الناس العنت الشديد في حياتهم ، ثم لا يجدون لأنفسهم منها مفراً . وهذه الأزياء والمراسم التي تفرض نفسها على الناس فرضاً ، وتكلفهم أحياناً ما لا يطيقون من النفقة ، وتأكل حياتهم واهتماماتهم ، ثم تفسد أخلاقهم وحياتهم ، ومع ذلك لا يملكون إلا الخضوع لها : أزياء الصباح ، وأزياء بعد الظهر   وأزياء المساء ، الأزياء القصيرة ، والأزياء الضيقة  والأزياء المضحكة ! وأنواع الزينة ، والتجميل  والتصفيف إلى آخر هذا الاسترقاق المذل : من الذي يصنعه ؟ ومن الذي يقف وراءه ؟ تقف وراءه بيوت الأزياء ، وتقف وراءه شركات الإنتاج ! ويقف وراءه المرابون في بيوت المال والبنوك من الذين يعطون أموالهم للصناعات ليأخذوا هم حصيلة كدها ! ويقف وراءه اليهود الذين يعملون لتدمير البشرية كلها ليحكموها !)  

لقد وضع الإسلام للمرأة سياجاً قوياً مانعاً من الضياع ؛ ذلك هو سياج الحشمة والعفاف   ولكن اليهود لم يعجبهم ذلك منذ قديم الزمان   فقد تآمروا قديماً على نزع حجاب المرأة المسلمة   وكشف سوءتها في سوق بني قينقاع ، أيام رسول الله  صلى الله علسه وسلم ومازالت حربهم لا يزيدها الزمن إلا اشتعالاً ؛ لأنهم يدركون جيداً أن إفساد المرأة المسلمة إفساد للمجتمع برمته .

فمعظم الذين يتحكمون اليوم في بيوت الأزياء  ويشعلون أجيج هذه الفتنة هم اليهود ، وأهدافهم ليست تجارية بحتة ؛ إنها تهدف إلى ما هو أسوأ من ذلك ، وهو هدم البنية التحتية للأسرة ، عن طريق إفساد المرأة ، لكونها القاعدة التي يرتكز عليها بنيان الأسرة ، بل المجتمع بأسره .

ومن المعلوم أن أكبر مستهلك على وجه الأرض  وفي كل بلد هي المرأة ، خاصة فيما يتعلق بأزيائها ، وجمالها ، وشكلها ، ومواكبتها للعصر  

والذين يسيطرون على بيوت الأزياء ، هم الذين يجلسون على عرش الإعلام ، ومن خلاله ينفذون إلى بيوت المسلمين بلا استئذان ، ويعرضون أفكارهم المسمومة عن طريق قنواته ، المرئية   والمسموعة ، والمقروءة ، لتلويث الدماغ   وتأسيس قواعد ثابتة ليس فقط في بلاد المسلمين بل حتى في قلوبهم ، إلا من رحم ربي .

ومن خلال الوسائل الهائلة التي يمتلكها اليهود  يلعبون بمعظم النساء كما يشاءون ، ويتحكمون في رغباتهن؛ فهم الذين يصنعون تلك الرغبات   ويصنعون عندهن إحساساً بأنهن ناقصات  متخلفات ، إذا لم يسايرن آخر الصيحات .

ومما يؤسف له أن نرى نساءً في بلادنا لا نقول : إنهن لكاسيات عاريات ؛ ولكنهن عاريات عاريات ، وقل أن نجد الآن دوراً أو مجلات تعرضهن بزي محتشم ، فموضة اللباس هذه توحي بأنه لم يعد عرضاً للباس ، ولكنه عرض للأجساد   واللحوم الرخيصة ، التي تُعرض بطرق دنيئة  وحركات مهيجة ، وأشكال ممقوتة ، تأباها الفطرة السليمة ، ويرفضها العقل المتزن .

  لقد تلاعب دعاة الموضة بالكثير من الشباب والشابات ، تلاعباً عجيباً  فابتكروا  أنواعاً عديدة من الملابس الفاضحة ، التي تحمل أسماء مختلفة : الميني   والميكرو , والتوبلس ( أي : الصدر العاري ) ، والسيرو ( أي : الشفاف الذي ترى ما تحته ، مخالفين الشرع وما اعتاده الناس من الحشمة والوقار ، ولكنها موضة العصر التي تسيطر على عقولهم ، والعقل الذي تسيره الموضة كيفما تريد ، هو عقل فاقد للوعي والإرادة سريع الانقياد للمهالك ، يسهل التحكم فيه لإبعاده عن القيم والمبادئ الأخلاقية النبيلة ، كما يسهل إبعاده عن دينه ، وتحويله إلى الوجهة التي يريدها له أعداؤه وأعداء دينه وأمته .

لقد أصيبت هذه الأمة في أعز ما تملك, وهو دينها الذي أعزها الله به, فنسيته أو تناسته, وسيطرت عليها الأهواء, والشهوات, وانطلقت بسرعة البرق تأخذ ما عند الأمم الأخرى, من باطل وضلال, وتقلدهم في فسقهم, وفجورهم وانحرافهم, تقليداً أعمى, لا تفريق فيه بين النافع  والضار. ومن أعنف مظاهر هذا التيار اندفاع المرأة المسلمة لمحاكاة المرأة الغربية في أوضاعها المختلفة وبخاصة في لباسها, وزينتها التي كان لها أكبر الأثر على غياب الفضيلة, وانتشار الرذيلة  وتفشي الانحلال, والتفسخ في المجتمع الغربي.

إن اللباس من النعم الكبرى التي امتن الله به على عباده, شرعه لهم ليستر ما انكشف من عوراتهم  وليكون لهم بهذا الستر  زينة وجمالاً بدلاً من قبح العُري وشناعته.

فستر الجسد من الحياء, وهو فطرة خلقها الله في الإنسان, فكل ذي فطرة سليمة يحرص على ستر عورته, وينفر من انكشافها وتعريها, ومن هنا يمكن الربط بين الحملة الضخمة الموجهة إلى حياء الناس وأخلاقهم, وبين الدعوة السافرة إلى العُري الجسدي, باسم الزينة  وبين الخطة الصهيونية لتدمير إنسانية الإنسان ، والتعجيل بانحرافه  ليسهل استعباده والسيطرة عليه, فيصبح ألعوبة في أيديهم يسخرونه لخدمة مصالحهم الخاصة.

 إن مسايرة الموضة ما هو إلا نتيجة إبتعاد الناس عن منهج الله للحياة, وإتباعهم مناهج الشيطان  ولكي يعود لهذا المجتمع بهاؤه ورونقه وسعادته  لابد من أن نضع أصبعنا على موطن الداء. وأن نحدد على من تقع المسؤولية في معالجة هذا الداء  وكيفية استعمال الدواء, ليتم الشفاء من جميع هذه الأمراض الخلقية الذميمة.  

أن طريق النجاة من الأوضاع المتردية ، يكمن في الرجوع إلى الله, والتزام منهجه الذي ارتضاه لنا دستوراً للحياة, فيلتزم كل فرد في المجتمع القيام بمسؤوليته, فيقوم بواجبه نحو الله أولاً ثم نحو أمته ووطنه, فالكل مسؤول عن رعيته, فالحاكم راعٍ وهو مسؤول عن رعيته  والرجل في أهله راعٍ وهو مسؤول عن رعيته والمرأة في بيتها راعية وهي مسؤولة عن رعيتها   وكلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته.

 فمسؤولية كل فرد تنبع من شعوره بتقوى الله ومراقبته ، والشعور بأنه مسؤول أمامه ، ومن هنا فمسؤولية الرجل, سواء كان أباً أو زوجاً, أو أخاً مسؤولاً, أن يبين لأهل بيته الأحكام التي تخُصُّ  أمور الزينة واللباس, موضحاً لهم أن التزيين وسيلة وليس غاية في ذاته, ومسئولية ولاة الأمر توجيه وسائل الإعلام , حتى تبني ولا تهدم ، والعمل على تطبيق منهج الله ، بدلاً من مناهج الكفر والضلال : ﴿ ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل من ﴾ .    

 

 

 

الاستهزاء بالدين وأهله

  إن الموفق من وفَّقه الله ، فوزن ألفاظَه قبل أن توزن  وفكَّر في عواقبها ونتائجها، فما كان من الكلام خيراً نطق به، وما كان شراً أمسك عنه قال تعالى : ﴿ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ ق 18 . فكم من كلماتٍ قضت على كثير من صالح الأعمال       لذلك يطلب من المسلم ألا يقول إلا خيراً ، وأن يعرض عن الباطل قال تعالى : ﴿ وَٱلَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً ﴾ الفرقان72 . كما ينبغي أن يبتعد عن كل ما يمكن أن يوقع في الكفر   كالاستهزاء بالله ودينه  ورسوله، أو السخرية بأوامر الله ونواهيه أو بوعده ووعيده ، لأن ذلك  من أخلاق المنافقين ، الذين آمنوا بألسنتهم وكفرت قلوبُهم قال تعالى : ﴿ وَإِذَا لَقواْ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ قَالُوا ءامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَـٰطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ ﴾  البقرة 14 ، فقد يكفر الإنسان بكلمة وهو يلعب ويضحك ولا يشعر: ﴿ قُلْ أَبالله وآياته وَرَسُولهِ كُنْتُمْ تَسْتَهزءون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم ﴾ التوبة 65 . وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقبل عذراً من مستهزئ ، ولم يلتفت لحجة ساخر ضاحك، وقد انعقد إجماع علماء الأمة على أن الاستهزاء بالله وبدينه وبرسوله كفر ، يقول أبن قدامة المقدسي : من سب الله تعالى كفر سواء كان مازحاً أو جاداً ، وكذلك من استهزأ بالله تعالى أو بآياته أو برسله أو كتبه ، وقال النووي : والأفعال الموجبة للكفر هي التي تصدر عن عمد واستهزاء بالدين، وقد حذر الله سبحانه وتعالى المؤمنين ونهاهم عن خلق السخرية والاستهزاء ، لكي يقوم المجتمع المسلم على الصدق والحق والاحترام والجدية ، بعيداً عن عيوب الجاهلية وأخلاقها قال تعالى : ﴿ يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ﴾ الحجرات 11 .   ينهى الله سبحانه عن السخرية بالناس ، باحتقارهم والاستهزاء بهم ، لأن لكل إنسان في المجتمع المسلم أدبه وكرامته التي لا تمس ، فنهى عن الغيبة والنميمة والتنابز بالألقاب التي يكرهها أصحابها ، لأن من حق المؤمن على المؤمن ألا يناديه بلقب يكرهه .

 هناك فئة من أبناء المسلمين انحرفت عن الحق   واستسلمت للشهوات ، تكره ديننا وتستخدم سلاح السخرية والاستهزاء لمعارضتة ، وهناك كتاب وقصاصون ، وإذاعيون وفنانون ونساء فاجرات متحررات من كل فضيلة ، وأصحاب خمور ومخدرات ، تراهم يتلذذون بالاستهزاء بالله وآياته  ورسوله والمؤمنين ، ويتلذذون بالضحك على الناس والاستهزاء بهم ، والسخرية منهم ، وقد جاءت الأحاديث تحذّر وتبين واقع هؤلاء الهازلين المستهزئين ، الذين يختلقون الأكاذيب وأساليب الغمز واللمز بالمؤمنين والمؤمنات ، ليضحكوا الناس   وقد جاءت الأحاديث النبوية تبين مصير هؤلاء فقال صلى الله عليه وسلم : ( ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك القوم   ويل له ويل له ) وقال : ( إن الرجل ليتكلم بالكلمة ليضحك بها جلساءه يهوي بها من أبعد من الثريا ) .

 ولا يحدث هذا إلا ممن مسخت عقولهم وفتنوا بالحضارة الغربية ، فأنتجوا أفلاماً ومسرحيات هزلية  فيها من السخرية والاستهزاء ما يخرج من الملة ، فهذا شاعر المزبلة الفكرية نزار قباني ، يقول في قصيدة بعنوان أصهار الله : وهل غلاء الفول والحمص والطرشي والجرجير شأن من شؤون الله ؟ . وهذا محمود درويش يقول : نامي فعين الله نائمة عنا وأسراب الشحارير . أما كبيرهم الذي علمهم السحر بدر شاكر السياب فهو القائل : فنحن جميعاً أموات . أنا ومحمد والله ، وهذا قبرنا أنقاض مئذنة معفرة ، عليها يكتب اسم محمد والله . ثم يقول :  وإن الله باق في قرانا ما قتلناه ، ولا من جوعنا يوماً أكلناه ، وهذا معبود الجماهير كما وصفوا يغني : قدر أحمق الخطا ، تعالى الله وتقدس عن هذا الكفر والنقائص ، وهذا صلاح جاهين رسام الكاريكاتير المعروف ، صور في يوم من الأيام ، صورة هزلية في جريدة الأهرام ، رسم فيها رجلاً بدوياً ، يرمز به إلى رسول الله  صلى الله عليه وسلم ، يركب حماراً في وضع مقلوب   ليكون رمزاً للرجعية ، وفي أرضية الصورة ديك وتسع دجاجات ، وعنوان الرسم محمد أفندي جوز التسعة ، وهذا من أقبح الهجوم والاستهزاء والسخرية على رسول الله صلى الله عليه وسلم . وهكذا يلتقي الحقد الصليبي النصراني مع الإتجاه العلماني الإباحي في مقال ورسم كاريكاتير ظناً من هؤلاء أنهم سيطفئون نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون .

وهذا ساخر يهزأ بأبي ذر الغفاري فيقول : عادل إمام مثل أبي ذر الغفاري ( يمشي وحده ، ويموت وحده ، ويبعث يوم القيامة وحده )  . وهكذا يُشَبه رمز من رموز العفن الفني وأصحاب السقوط الأخلاقي وسفِلةِ الناس بأصحاب رسول الله الأبرار الأطهار ، وهذا سفيه مستهزئ ساخر بالصلاة والمصلين يقول : أيها المصلون إذا ذهبتم للجنة فخذونا معكم . وما نشرته روز اليوسف  يوما     كاريكاتيرياً تصور فيه شاباً متديناً له لحية طويلة جداً يؤذن في منارة مسجد ، فبدلاً من أن يقول : حي على الفلاح قال : حي على السلاح . ومن يسخر باللحية فيقول : لو كان في اللحية خير ما نبتت في الفَرْج ، والأمثلة من الساخرين تطول .

 إن الاستهزاء الفاضح والسخرية اللاذعة بدين الله وشريعته وسنة نبيه ،كالاستهزاء بتحكيم الشريعة الإسلامية ووصمها بأنها شريعة الرجعيين والأصوليين   وأن فيها وحشية ! إذ كيف تقطع يد السارق ويُرجم الزاني المحصن ، وما علموا أن هذا إنكار لعلم الله الواسع المحيط بكل شئ ، وتنديد بحكمته ورحمته بل تمادى ورثة المنافقين في هذا الزمان ، فزعموا أن أحكام الله في شريعه الله قاسية ، لا تناسب الإنسانية لأنها مبنية على القسوة ، لا على الحكمة والرحمة  ولشناعة فعل المستهزئين سماهم الله في كتابه بالمجرمين فقال تعالى:﴿ إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون وإذا مروا بهم يتغامزون ﴾المطففين 29.

وفي عصرنا الحاضر ما ترك أهل الكتاب وسيلة من وسائل الإستهزاء بالله وبدينه وبعباده المؤمنين إلا سلكوها ، وهذا واضح في أقوالهم وإعلامهم وخططهم ، بل وحتى في منتجاتهم ، فحتى النعال يكتبون عليها اسم الله – تعالى الله وتقدس عن ذلك – وعلى الملابس الداخلية للرجال والنساء ، بل وصل بهم الحال إلى امتهان الآيات القرآنية ، وقد أبدل كثيرٌ من المسلمين رنة التلفون بآية من القرآن الكريم ، ومع هذا تجد المغفلين من المسلمين   يوالونهم ولو بطريق غير مباشر بالشراء من هذه المصانع ، وتلك الشركات التي تطعن في ديننا وتهزأ بربنا وتستبيح حرمة إسلامنا ، وإذا قام فينا غيور وذكّر الأمة بهذا الواجب الإيماني ، هُمز وغُمز ووصُف بالتطرف والرجعية ، وعداوة الإنسانية والتعسفية ، وغير ذلك من قاموس الشتائم الذي يصبه من سماهم الله بالمجرمين على المؤمنين الموحدين   فإلى الله المشتكى ، وهو حسبنا ونعم الوكيل .

وقد هدد الله من يجالس هؤلاء الهازلين الساخرين إذا لم يبتعد ويقم عنهم ، فسيكون منهم ويعذب بعذابهم قال تعالى : ﴿ وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً ﴾ النساء 140 .

نرى مع الأسف من يتخذ الهازلين أولياء وجلساء وأصفياء وأخلاء ، بل يدافع عنهم ويذب عن أعراضهم ، وكأنه قد نسي قول الله تعالى : ﴿ ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خواناً أثيماً ﴾ النساء 107 ، ألا فالتق الله في ديننا ونبينا ، ولنحذر السخرية والاستهزاء التي تمس إيماننا ، ولنقبل على شرعَ الله   ولنعلم أنه الحقُّ الذي لا شك فيه، وأن لا ننخدع  بضعفاء البصائر ممن يتخذون مجالسَهم في التفكُّه والضحك، فيسخرون من الإسلام وأهلِه  ويعيبون الإسلام وأهلَه، أعاذنا الله وإياكم من ذلك .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مفهوم المكر  

 المكر : هو التدبير بالخفاء لإيقاع الضرر بالآخر  كما قال تعالى: ﴿ وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ﴾ الأنفال 30 ، وهو خلق الكفار جميعا يخططون بالخفاء لإيذاء رسل الله وأتباعهم، والله يحبط خططهم في الدنيا ويعذبهم بها في الآخرة، فلا يحيق المكر السيئ إلا بأهله. والمكر السيئ عاقبته على صاحبه دائماً ﴿ ولن تجد لسنة الله تحويلا ﴾ فاطر 43 . والله يحبط المكر ويحفظ عباده منه قال تعالى ﴿ ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين﴾ الأنفال 30 كلمة ويمكرون ، يندرج تحتها كل ما يرتكب من جرائم ومكائد ومؤامرات وتزوير وتشويه وخيانات ونفاق وكذب ، في المقابل : ﴿ ويمكر الله والله خير الماكرين ﴾ فالله عز وجل يقابل مكرهم بمكره قال تعالى : ﴿ ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين ﴾آل عمران 54 . فالله يصرف كيد الظالمين القتلة ، بحكمة أمره وتدبيره بمكره المحمود ، لإحقاق الحق وسحق الظلم ونصرة المستضعفين ، وإقامة العدل وإبقاء كلمة الإيمان عالية خفاقة ، أما هذا المكر الذي نُسب إلى الله ليس مكراً ، فالله لا يمكر وليس من أسمائه أنه ماكر , لكنه كما يقول علماء البلاغة مكر مشاكلة، والمشاكلة هنا في اللفظ هي وحدها التي تجمع بين تدبيرهم وتدبير الله ، وإذا كان الذي يواجه المكر هو تدبير الله ، فأين هم من الله ؟ وأين مكرهم من تدبير الله ؟ قال تعالى :﴿ وما قدروا الله حق قدره، والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة ﴾ الزمر 67 . فهو سبحانه له مَكره ، وعلي كلّ مظلوم ٍأن يُوقِن بذلك الوعد من ربه ، وأنَّ له ناصرا ، يقول الإمام حقي في تفسيره للآية السابقة : " للخلق مكر   وللحقّ مكر ، فمكر الخلق من الحيرة والعجز   ومكر الخالق من الحكمة والقدرة ، فمكر الخلق مع مكر الحقّ باطل زاهق ، ومكر الحق حق ثابت   وذلك مهما كان سوء وشدة وإحكام مكر الماكرين ﴿ وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ﴾ ابراهيم  46 . 

 فما يتسرب الإحباط إلا إلى نفس من لم يفهم المعركة على حقيقتها، لإن المعركة ليست حرباً بين المسلمين والكافرين، أو بين الظلمة والمظلومين ، وإن كان ظاهرها كذلك.. إنما هي في حقيقتها حرب بين الله ، وبين من عطل منهج الله ، وكفر بعبادته وارتضى غيره حكماً ، وقَبِلَ غير كتابه شرعاً ، ومن رحمة الله بالمؤمنين ومن كرمه عليهم، منّ عليهم بأن جعلهم جنده وحزبه وأولياءه ، فالمؤمنون يقفون أمام الكافرين، ملتزمين بمنهج ربهم يفعلون ما يأمرهم ، واثقين بوعده، راغبين في جنته، راهبين لناره، مخلصين له، معتمدين عليه، لاجئين إليه.. إن فعلوا ذلك ،كان الله المدافع عنهم ، الحامي لهم  المؤيد لقوتهم، الناصر لجيشهم، الناشر لفكرتهم  المنتقم من عدوهم ، وقد جاءت الآيات تؤيد هذه الحقيقة قال تعالى : ﴿ إن الله يدافع عن الذين آمنوا ﴾ الحج 38 قال تعالى : ﴿ فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم ﴾ الأنفال 17 وقال تعالى : ﴿ إنهم يكيدون كيداً وأكيد كيداً ﴾ وقال تعالى : ﴿ ومكروا مكراً ومكرنا مكراً وهم لا يشعرون  فأنظر كيف كان عاقبة مكرهم، أنّا دمرناهم وقومهم أجمعين ﴾ النمل 50 .

 أما آن للمتآمرين ، الذين  يعلمون لمن يعملون؟! وإلى أي ركن يأوون؟! أما علموا أنهم غير بعيدين عن عينه سبحانه ﴿ يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل، فتكن في صخرة أو في السماوات أو الأرض   يأتي بها الله ، إن الله لطيف خبير ﴾ لقمان . فمن كان مع الله كان الأقوى ، فإما أن ينصره ، أو يضعف خصمه ، أو يوهم خصمه أنه الأقوى ، وإذا كان الله مع العبد فمن عليه ؟ وإذا كان عليه فمن معه ؟ قال تعالى : ﴿ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً ﴾

كن مـع الله تر الله معك   واترك الكل وحاذر طمـعك

وإذا أعطاك من يمنــعه       ثم من يعطـي إذا ما منعك

فالله عز وجل لا يمكر ولا يكيد ، إلا للرد على كيد الكائدين، أي يدبر تدبيراً حكيماً، يقمعهم، وينتقم منهم، ويكف أذاهم عن المؤمنين ﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ الأنفال 30 ..قد يقول قائل لماذا يُعذب المسلمون ؟ ولماذا تُحتل أراضيهم ؟ ولماذا تُنهب ثرواتهم ؟ ولماذا يقتل أبناءهم ؟ والله تعالى يقول : ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ﴾ ما تفيده هذه الآية، يا محمد ما دامت سنتك مطبقة في حياتهم، فهم في مأمن من عذاب الله، أي فمستحيل، وألف ألف مستحيل أن نُعذَّب ونحن نُطبق منهج الله وسنة رسول الله، مستحيل !. لأن قوله ﴿ وما كان الله ﴾ هي من أشد أنواع النفي في اللغة، وهذا اسمه نفي الشأن، قل لواحد: هل أنت جائع ؟ يقول لك: لا، قل له: هل أنت سارق ؟ هذا وضع ثان، ليس معقولاً أن يقول لك: لا، يقول لك: ما كان لي أن أسرق، بعض النحاة عدوا أكثر من عشرين فعلاً ينفي بهذه الصيغة لا أسرق، ولا أرغب ولا أتمنى، ولا أقبل، ولا أبارك، ولا أرضى    مستحيل ! أما أن يقول ، ما كان لي أن أسرق، هذا أشد أنواع النفي، والله عز وجل يقول: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ ﴾ أي مستحيل وألف ألف مستحيل أن يُعَّذبَ المسلمون ومنهج الله مطبق في حياتهم ، انظر إلى المساجد ترى إقامة الشعائر الدينية     أما في الأسواق فإنا قلما نرى تطبيقاً لمنهج الله ، أيمان كاذبة ، بضاعة محرمة ، آثام ومعاص ، مواد محرمة   تعامل بالربا ، فكيف يأمنوا من مكر الله والله يقول : ﴿ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ هذا تحذير للعباد من الأمن من مكر الله ، بالإقامة على المعاصي والتهاون بحقه، والمراد من مكر الله بهم كونه يملي لهم ويزيدهم من النعم والخيرات كما قال سبحانه:﴿ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ ﴾ .  

فالواجب على المسلمين ألا يأمنوا من مكر الله وعقوبته، كما أن من واجبهم ألا يقنطوا من رحمة الله بل يجب على كل مسلم أن يسير إلى الله سبحانه في هذه الدنيا بين الخوف والرجاء، فيذكر عظمته وشدة عقابه إذا خالف أمره فيخافه ويخشى عقابه  ويذكر رحمته وعفوه ومغفرته وجوده وكرمه فيحسن به الظن ويرجو كرمه وعفوه،  

كثيرٌ من الناس يعيش في هذه الدنيا بالمكر، فتجده يتعامل مع زوجته بالمكر، مع أبيه بالمكر، مع مديره وزميله في العمل بالمكر، مع جاره ومن حوله بالمكر.. فيظن أنه يستطيع أن يمكر بالله! ورحم الله ابن الجوزي حين قال :" تصر على المعاصي وتصانع ببعض الطاعات. والله إن هذا لمكر" فترى من يأكل الحرام ويتعامل بالربا ، ومع ذلك يصلي ويتصدق  

﴿ ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله ﴾ قال السعدي في تفسيره : ” .. فعادَ مكرهم في نحورهم ، وَرَدَالله كيدهم في صدورهم ، فلم يَبقَ لهم إلا انتظار ما يحِلّ بهم من العذاب الذي هو سُنّة الله في الأولين ، التي لا تُبَدَّل ولا تُغيَّر ، أنَّ كلّ مَن سارَ في الظلم والعناد والاستكبار علي العباد أن يحلّ به نقمته وتسلب عنه نعمته ، فليرتقب هؤلاء ما فعل بأولئك “

فكن يا أخي المسلم ، يَقِظا ًمُتفتحا ، مُستنيرا مُستبشرا   ولتكن مِمَّن يكشفون المكر والماكرين والظلم والظالمين   والفساد والمفسدين ، ولتكن ممن  ينتظر بعد ذلك عون الله ونصره ، ولتستبشر بسرعة مكره بهم ، إن لم ينتهوا عن مكرهم ويعودوا للخير ، لأنه يتوعدهم حينذاك بقوله : ﴿ إنَّ الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة ﴾ النور 19 وهو تعالي لا يُعجزه شيء في الأرض ولا في السماء : ﴿ فما هم بمعجزين ﴾ النحل 46 وما ينفقونه من جهود وأموال وأفكار سيعود وباله عليهم حسرة وخسرانا وانهزاما ﴿ فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يُغلبون ﴾ الأنفال 36 . 

 

 

 

 

 

البلطجة والتشبيح

ليس لهذا الاصطلاح أصل في العربية ويعود أصله إلى اللغة التركية، ويتكون من مقطعين: بلطة وجي ؛ أي حامل البلطة . ومعناها في الاصطلاح السياسي :   استعمال القوة لاستغلال موارد الآخرين ، بهدف تحقيق مصالح خاصة ، أما الشبيحة فهم مَن يقومون بأعمال البلطجة ، التي لا تنفذها النظم بشكل مباشر  ولا هدف لهم في الحياة ، إلا ممارسة القتل ، مقابل استرزاقهم وما يسرقوه وينهبوه ، شعارهم  تخوين واتهام كل من ينتقد النظام أو المسئولين ، وأعمالهم تتنافى مع الإسلام ومبادئه ، الذي يكفل للإنسان حقه في أن يعيش آمنا ، ولهذا جاء النهي عن أعمال البلطجة ، التي جاء ذكرها في الفقه الإسلامي ، باسم الحرابة ، واعتبرها فسادا في الأرض‏ لقوله تعالى : ﴿ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ المائدة33. ومدلول البلطجة والتشبيح  يماثل مدلول الحرابة في الشريعة ، لأن الفقهاء عرّفوا الحرابة بأنها جريمة قطع الطريق علي سالكيه الآمنين ، بغرض إرهابهم وقهرهم‏ ‏، أو نهب أموالهم‏,‏ ومجاهدتهم علي سبيل المغالبة والقهر‏,‏ أو بالتحايل والمكر وبالخداع والغدر‏,‏ أو بغرض قتلهم دون نهب الأموال ، وهو ما يعرف باسم‏‏ قتل الغيلة‏‏ أو من أجل الاعتداء علي الأعراض عنوة واغتصابا‏,‏ ولذلك أُطلق علي‏‏ الحرابة‏  اسم‏ ‏ السرقة الكبرى ، واعتبر الفقهاء كل من يقوم بأي من هذه الجرائم أو بها مجتمعة ‏ محارب‏‏ لله ولرسوله ولجماعة المسلمين‏,‏ سواء كان فردا أو جماعة‏,‏مسلحا أو غير مسلح‏,‏ ما دام مكلفا ملزما‏ وثبتت عليه الجريمة , وكل من يعين  المحارب بأي شكل من الأشكال كالتحريض‏,‏ أو الاتفاق‏ ‏ أو الرصد أو الإيواء أو غير ذلك من صور العون   يعتبر عند كثير من الفقهاء شريكا له في الجريمة‏ ‏ ويحمل وزرها ، وقد اختلفت التفاسير في فهم دلالة
قوله تعالى : ﴿ ‏أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ‏﴾ وأرجح الأقوال : هو التغريب أي التشريد بالطرد من ديار الإسلام‏(‏ بمعني إسقاط الجنسية في عصرنا الحاضر‏)‏ فإذا أخذ المحارب المال لا غير ، كان جزاؤه أن تقطع يده اليمني ورجله اليسري ، عند أغلب الفقهاء‏,‏ وإذا قتل المحارب ولم ينهب مالا ، فيري عدد من الفقهاء   أن عقوبته هي القتل حدا دون الصلب‏.‏ وإذا قتل المحارب ونهب المال ، كان عقابه القتل والصلب معا‏  على أن يصلب المحارب علي خشبة بقدر ما يشتهر أمره‏,‏ ردعا له‏ ‏ وزجرا لغيره‏,‏ ثم يقتل‏,‏ لأن العقوبة لا تقع علي ميت‏ ، ومن قطع الطريق وأرهب الناس ، ولكنه لم يقتل أحدا‏ ، ولم ينهب مالا فعقابه النفي من الأرض التي أجرم فيها‏.‏
ويري أغلب الفقهاء أن الإمام مخير في كل العقوبات المقررة في آية الحرابة ، بحسب حجم الجريمة ، وما تقتضيه المصلحة العامة‏.‏ ولا يجوز رفع العقوبة سواء عفا الأولياء وأرباب الأموال أم لم يعفوا‏,‏ وسواء أبرءوا من المحارب أو صالحوا عليه‏,‏ وليس للإمام إذا ثبت الحد عنده ، أن يتركه أو يسقطه أو يعفو عنه لأن الحد واجب التطبيق ، لأنه من حقوق الله‏-‏تعالي‏-‏ وفي ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( إقضوا الله فهو أحق بالوفاء‏,‏دين الله أحق أن يقضى ) ‏ ويقول‏: ( كتاب الله أحق وشرط الله أوثق ) . والإعجاز التشريعي في حد الحرابة ، أن الله كرّم الإنسان فقال الله في ذلك : ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ﴾الإسراء‏ 70 ومن حق هذا المخلوق المكرم ، أن يحيا وهو آمن علي نفسه وماله وعرضه وعقله ودينه‏,‏ وهي الضرورات الخمس ، التي تعارفت عليها المجتمعات الإنسانية‏.‏

والإنسان بطبيعة الحال ، مخلوق صاحب إرادة حرة‏ ‏ وهذه الإرادة الحرة ، قد تقوده إلي الالتزام بمكارم الأخلاق ، وقد تقوده إلي الانحراف فيقع في أوحال الرذيلة‏,‏ كما قال تعالى واصفاً هذه الحالة : ﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وقد خاب من دساها ﴾‏ الشمس‏7 . فالذي يجاهد نفسه من أجل تزكيتها ، يعرف طريق الفضيلة  ويلزم نفسه بها ،‏ ويسعي جاهدا من أجل إسعاد غيره  كما يسعي لإسعاد نفسه وأهله‏ ، أما الذي أتبع هوي نفسه ، فملأها بحب الشر وكراهية الخير‏ ،‏ وبالحقد علي الغير وكراهية الناس ، وحب إيذائهم والإضرار بهم‏,‏ حتى يجعل من وجوده عامل دمار وخراب وهدم للمجتمع الذي يحيا فيه‏,‏ حتى ينتهي به الأمر إلي ممارسة الجرائم ضد هذا المجتمع ، الأمر الذي يستوجب نفيه نفيا جزئيا أو كاملا بإنزال العقوبات به ، أو القضاء التام عليه قبل أن يقضي على مجتمعه الذي يتحرك فيه ،‏ وإذا أخذت الجرائم بعدا جماعيا ، كانت المحاربة للمجتمع كله, ‏وجزاء كل خارج على سلطان الحاكم المسلم المقيم لشريعة الله‏,‏ وكل مروع للآمنين من عباد الله في دار الإسلام‏,‏ وكل معتد علي أموالهم‏,‏ أو دمائهم‏,‏ أو أعراضهم أن يقتل‏,‏ أو يصلب ثم يقتل‏,‏ أو أن تقطع يده اليمني ورجله اليسري‏,‏ أو ينفى من الأرض ، عقابا له علي جرائمه ، وردعا لأمثاله من بعده‏,‏ وللفقهاء في ذلك تفصيل لا يتسع المجال لسرده‏,‏ وإن كان الهدف من العقوبة هو التغليظ علي المفسدين في الأرض ، الذين يروعون الآمنين في المجتمع المسلم ‏,‏ ومنع تكرار جرائمهم‏,‏ إلا أن هذا العقاب الصارم الذي يلقونه في الدنيا ، لا يسقط عنهم العذاب في الآخرة‏,‏ ولا يطهرهم من فظاعة ما اقترفوه في الدنيا ، كما هو الحال في بعض الحدود الأخرى ،‏ وهذا تغليظ للعقوبة‏,‏ وتبشيع للجريمة حتى لا يقع فيها غيرهم‏.‏ أما إذا استشعر كل خارج على القانون‏,‏ قاطع للطريق‏,‏ ومفسد في الأرض حجم جريمته‏,‏ فتاب إلي الله وأناب ، قبل أن تناله يد القانون والسلطان ، سقطت جرائمه وعقوبتها‏  وفوض أمره إلي الله الغفور الرحيم‏.‏
والحد الشرعي هو عقاب من الله تعالي للمجرم علي اقتراف جريمته ، وهو عقاب متكافئ مع حجم الجريمة‏,‏ لأن الجريمة لا يوقفها إلا العقاب الرادع‏ والعقاب لا يكون رادعا ، إذا اتصف بالرخاوة والضعف‏.‏ ولولا أن الله‏ تعالي‏ قد حد الحدود‏,‏ وأنزل العقوبات الرادعة ، لفسدت الأرض‏,‏ وعمتها الفوضى والخراب والدمار‏ ، وضاعت منها نعمة الأمن والأمان‏,‏ ونهبت الحقوق والممتلكات‏ ‏ وانتهكت الحرمات‏,‏ وتعطلت المصالح .

إن شريعة الله تحارب الجريمة والمجرمين‏,‏ والإفساد في الأرض والمفسدين‏,‏ وتحرم العدوان علي الآمنين‏ ‏ وتنزل أشد العقوبات على الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا‏,‏ وينشرون الخوف والفزع بين الآمنين ، جزاء عادلا فاضحا لهم في الدنيا‏ ‏ وتهددهم في الآخرة بالعذاب العظيم‏.‏ ولم يشرع ذلك ظلما للناس أو إذلالا لهم‏,‏ وإنما شرع عقابا مكافئا للمعتدين‏,‏ وردعا وزجرا وعظة وعبرة للمعتبرين حتى لا يقعوا فيما وقع فيه المعتدون من جرائم‏,‏ ودعوة للمسلمين أجمعين بضرورة المحافظة علي أمن مجتمعاتهم من الضياع‏,‏ لأن المعتدي إذا لم يجد من شرائع الله ما يمنعه من اعتدائه وعدوانه علي غيره فإنه يعيث في الأرض فسادا‏,‏ ويزيد من طغيانه علي الآمنين من قومه ,‏ وينشر الخوف والفزع والاضطراب بينهم‏,‏ وهي من الأمور المهلكة للمجتمعات الإنسانية‏,‏ والمتسببة في انهيارها وخرابها  ومن هنا تتضح حكمة الإعجاز التشريعي في حد الحرابة ، لأنه إذا اكتفى المشرع في عقاب المحارب بالسجن أو الغرامة المالية فقط ، فإنه سرعان ما يعاود الكرة إلي جريمته ، بمجرد خروجه من السجن أو حاجته إلي المال‏,‏ بينما إذا طبق شرع الله في عقاب المحاربين ، فإن ذلك يحقق  الأمن والأمان‏,‏ وصون حقوق العباد‏,‏ ومصالحهم من عبث العابثين‏  واستهتار المستهترين‏,‏ وطمع الطامعين‏ ، وإذا تم ذلك للمجتمع المسلم ، اختفت طبقة المحاربين لله ورسوله ‏ولن تتوقف مسلسلات الخروج على المجتمع إلا بالنزول عند أوامر الله ،‏ وتطبيق شرعه‏ ،‏ والالتزام بحدوده في كل أمر من الأمور‏,‏ والله يقول الحق ويهدي إلي سواء السبيل‏.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

  مفهوم الجباية والهداية

الهداية لغةً : الدلالة والإرشاد ، وفي الاصطلاح : سلوك الطريق الذي يوصل الإنسان إلى غايته  وهي إتباع شرع الله ، أما الجباية : فهي مبلغ مالي تتقاضاه الدولة من الأشخاص والمؤسسات بهدف تمويل نفقاتها .

وميزان الأشياء عند الذين يتبنون مفهوم الجباية   هو تضخم الميزانيات ، وتكثير الدخل والإيرادات ورفاهية الرجالات ، الذين يتولون المناصب المختلفة في الحكومات ، همهم جمع الأموال  وببناء القصور الفاخرة وامتلاك السيارات   وأفخم العقارات ، وإيداع ألفائض في البنوك في الحسابات ، على حساب فرض الضرائب والأتوات ، والهيمنة على الموارد والشركات .     

أما الذين يصرفون جهدهم للجباية لا للهداية  وللانتفاع لا للنفع ، فعنايتهم مصروفة إلى فرض الضرائب وجمع الأموال ، ولو على حساب الأخلاق والفضائل في المجتمعات ، فتبيح أنواعاً كثيرة من الخلاعة والفجور ، فينحط مستوى الأخلاق، وتنتشر عدوى الأمراض الخلقية   المنتشرة في الأقطار الأوربية ، التي تحمل مفاسد الحضارة الغربية ، ولأرباب الجباية، طابع خاص ونفسية خاصة ، لأن ميزان الأشياء ومناط الأحكام عندهم ، هو تضخيم الميزانيات ، وكثرة الدخل والإيرادات ، وان كان ذلك بامتصاص دماء الفقراء ، وفرض الضرائب المجحفة ، ورفع الأسعار وفرض الأتوات .  

أما شعار أرباب الهداية : فهو الدعوة إلى تطبيق منهج الله ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر  والدعوة إلى مكارم الأخلاق ، ومنع الخمور وتحريم الفجور ، ومطاردة المفسدين . روي أن عمر بن عبد العزيز خليفة المسلمين قال لعامله مرة : ( ويحك إن محمداً صلى الله عليه وسلم بُعِث هادياً ولم يُبْعَثْ جابياً ) وهذه الجملة تعرب عن روح الحكومة الدينية ، التي تتأسس على منهاج النبوة   وتسير على آثار الأنبياء وخطاهم ، فتكون عنايتها واهتمامها بالدين ، وبإصلاح أخلاق المحكومين ، وبما يعود عليهم بالنفع والضرر في الآخرة ، أكثر من اهتمامها بالجباية والخراج    والإيرادات ،وتنظر في جميع المسائل السياسة  الاجتماعية والمالية بما يتفق مع المبادئ الدينية والخلقية ، واجتناب المحرمات والمعاصي ، فتمنع الخمر ، وتحرم الزنا وأنواع الخلاعة والفجور   والعقود المالية الفاسدة ، النافعة للأفراد ، المضرة بالمجتمع ، وتحظر الربا والقمار ، وتعنى بتهذيب النفوس ، وسمو الروح ، والتحلي بالفضائل   والإقبال على الآخرة ، والزهد في الدنيا   والقناعة في المعيشة، ، والتنافس في الخيرات، ومنع كل ما يفسد على الناس عقيدتهم وأخلاقهم  حتى يكونوا ممن قال الله فيهم : ﴿ الذين إن مكناهم في الأرض: أقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة  وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، ولله عاقبة الأمور ﴾ الحج 41 ، وعلى مدار التاريخ فإن الجباية لا تحتاج إلى شرح وتعريف ، فهي السائدة ، في الماضي والحاضر، وفي الشرق والغرب، وقد جربها الإنسان ، وعرفها في كل عصر، أما الهداية فهي نادرة ، فمنذ دعا الرسول صلى الله عليه وسلم الناس إلى الإسلام ، كان الذين آمنوا ، هدف كل قسوة وظلم واضطهاد ، وبلاء وعذاب، فصمدوا وثبتوا   حتى أذن الله في الهجرة، ولم تزل الدعوة تشق طريقها وتؤتي أكلها ، حتى قضى الله أن يحكم رجالها في الأرض، ويقيموا القسط، ويخرجوا الناس من الظلمات إلى النور، ومن عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها    فإذا دولتهم الوليدة على مفترق الطرق – طريق الجباية وطريق الهداية – هنالك سمعوا هاتفا يقول: ويحكم إن محمدا صلى الله عليه وسلملم يبعث جابيا ، وإنما بعث هاديا ، وأنتم خلفاؤه ، فلم يترددوا في إيثار جانب الهداية على جانب الجباية، واتخاذ الدعوة والهداية ، شعارا ومبدأ لحكومتهم ، فكان لهم ذلك ، فقد علموا أنهم لو آثروا جانب الجباية   وأطلقوا أيديهم في أموال الناس، وطلبوا النعيم  ورتعوا في اللذات، لم يحل بينهم وبين ذلك أحد  ولم يقف في سبيلهم واقف. ولكنهم علموا أنهم لو فعلوا ذلك ، لغشّوا إخوانهم الذين سبقوهم بالإيمان، وقضوا نحبهم بدون أن يأكلوا ثمار غرسهم، وخانوا أولئك الذين لم يعرفوا إلا الجهاد والتعب والجوع ، فقد وصلوا إلى حكم الناس على جسر من متاعبهم وإيثارهم. ، وقفوا ولم يطب لهم الأكل والشرب، وأرادوا أن يلحقوا بإخوانهم ، ولم يأخذوا من الدنيا إلا البلاغ ، فقد تأسست دولة الإسلام ، وفتحت فارس وبلاد الروم  والشام ، ونقلت إلى عاصمة الإسلام – المدينة المنورة – كنوزُ كسرى وقيصر، وانصبت عليها خيرات المملكتين العظيمتين، وانهال على رجالها من أموال هاتين الدولتين وزخارفها، ما لم  يتوقعوه ، وقد انقضى على إسلامهم ربع قرن وهم في شدة وجهد من العيش، وفي خشونة المطعم ، وخشونة الملبس، لا يجدون من الطعام إلا ما يقيم صلبهم، ولا من اللباس إلا ما يقيهم من البرد والحر، فإذا بهم يتحكمون في أموال الأباطرة والأكاسرة، ولو أرادوا أن يلبسوا تاج كسرى ويناموا على بساط قيصر لفعلوا ، لكنهم آمنوا بقوله تعالى : ﴿ تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين ﴾ القصص 83. وما نسوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته : ( فو الله لا الفقر أخشى عليكم  ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا، كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم ) البخاري ومسلم . وقد هتفوا قائلين: " اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة " بهذا حافظوا على روح الدعوة الإسلامية ، وسيرة الأنبياء والمرسلين ، وكان شعار الدولة الإسلامية الأولى الهداية والدعوة إلى منهج الله ، وخدمة الناس   وهكذا انتشر الإسلام ، وانتشرت الأخلاق الفاضلة ، في عقود من السنين ، من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، ثم أتى على المسلمين حين من الدهر ، نسوا أن الحكومة في الإسلام ، لم تكن إلا جائزة الدعوة والجهاد في سبيلها، ولولا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم  ودعوته إلى الله، لما دانت الدنيا للعرب  وعندما أهملوا الدعوة إلى الله ، وعطلوا منهج الله   وأضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، ورجعوا يحتكمون إلى القوانين الفاسدة في مراكز الإسلام  وبالفوضى الدينية، كانت داهية عظيمة وفتنة كبيرة ، على رجال الإصلاح والدعوة في الأقطار الإسلامية .

 إن العالم الإسلامي بحاجة ماسة إلى حكومة تمثله تمثيلا صحيحا ، تقوم على أساس منهج الله   شعارها الهداية والإصلاح والكفاح ، وإيثار الأرواح على الأرباح ، وكسب الرجال على كسب الأموال، وبعد أن جربت الإنسانية اليوم حكومات الجباية على اختلاف أنواعها وأسمائها – من ديمقراطية، ورأسمالية واشتراكية وشيوعية – فلم تر منها إلا الشر والمر ، لأنها نظم تساعد في إفساد المسلمين ، وإبعادهم عن دينهم ، وتوهين الروابط التي تصلهم به ، وخلق أجيال فارغة من عقائد الإسلام وتعاليمه ، وتبني رجالاً يزورون تاريخ الإسلام ، ويجعلون أمتهم دون ماضٍ تستند إليه ، أو تراثٍ تعتمد إليه ، وتشجيع الإسلاميين الذين تكمن في دمائهم جرائم البدع المفسدة   والمفكرين الذين يلمزون الإسلام ، ويغمزون أصوله وفروعه ، ودفع العلمانيين إلى صدارة المجتمع ، ووضع مقاليد الأمور في أيديهم   وتدويخ المسلمين المخلصين ، وإقامة السدود في وجوههم ، وإبعادهم عن مراكز القيادة والتمكين ﴿ ويمكرون ويمكر الله ﴾ وسيبطل الله مكرهم إن شاء إنه على ذلك قدير .    

 

 

 

 

 

 

نجاح دنيوي وفساد أخروي

جاء الإسلام ليتناسب مع كل زمان ، فدلَّ الناس على ما فيه الخير ، وحذَّرهم مما فيه الشرّ والفساد   مَنْ تَبِعه اهتدى ، ومن خالفه ضل قال تعالى:﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾النور63 ، وجاء الأوروبيون فحرموا أنفسهم من الدين ، فلم يبق لهم رادع من خلق أو وازعٌ من دين ، ونسوا غاية خلقهم وقالوا : ﴿ إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين ﴾ فاعتقدوا بطبيعة هذه العقيدة ، أن ليس للإنسان وراء اللذة والراحة ، والانتفاع المادي والعلو في الأرض وبسط السيطرة عليها ، والتغلب على أهلها والاستئثار بخيراتها ، فاستغلوا القوة والعلم في حصول اللذات والشهوات ، وتنافسوا في اختراع الآلات التي بها يسيطرون على غيرهم ، فخرجوا عن منهج السماء؛ واخترعوا بعقولهم القاصرة ما تحتاج إليه البشرية ،كما ينادون تارةً بالإلحاد، وتارةً بالديمقراطية ، وصولًا لتحقيق المصلحة واللذة والشخصية ، بعيدًا عن قيود الدين ، فهي وإن حققت سعادة شهوانية لبعض الطبقات ، فعلى حساب طبقات أخرى ، ودماء وأعراض ومآسي أخرى ، جعلوا من اللذة والمال وثنًا ، ومن الجسد والجمال وثنًا، ومن القوة وثنًا، فاخترعوا أدواتهم لتحقق لهم سعادتهم، ولو على حساب العالم بأسره دون النظر لعواقب هذه الأدوات ، وآثارها على سائر المجتمعات ، إنهم يعانون من اختراعاتهم، ثم لن يسمحوا لأحد أن يلعب دورًا في لعبتهم ، إلا ما رسموه لهم ، فلن يسمحوا لأحد أن يخرج عن ما صنعوا من أسلحة فتاكة ، من طائرات وصواريخ عابرة للقارات ، كما قدموا الثلاجة ، وأنتجوا البرادة    وفسدوا مقابل ذلك في عالمِ الروح: ﴿ يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ﴾ ما استعدوا للقاءِ الله ، نجاسةُ وعهرُ وزنىً ، وربىً وفحشُ ، ونهبُ وسلب، فهذا عالم منهم ألف كتاب "الإنسانُ لا يقومُ وحدَه" يقول : إن أمريكا تسعى إلى الهاويةِ 100% لأنها ما عرفت الله. وفي كتابِ "اللهُ يتجلى في عصرِ العلم" الذي ألفَه نخبةُ من الأمريكان الذينَ أسلموا ، يحذرونَ شعبَهم العارَ والدمار والنار، ولكن من يعي! في أوكلاهوما أخبر مسلمُ أمريكيُ من تلك الولايةِ ، انه ثبت في التقاريرِ   أن جامعةَ أوكلاهوما ، فيها عشرون ألف فتاةٍ يدرسنَ في تلكَ الجامعةِ ، كلُهنَ حبلى من الزنى  فأي حضارة هذه ؟ في بلدٍ أفكارُه منكوسـة ، تُثقلُه بصائرُ مطموسـة ، يقدسون الكلبَ والخنزيرَ    وغيرَهم في نظرهم حقير ، ما عرفوا اللهَ بطرفِ ساعة  وما استعدوا لقيامِ الساعة ، استيقظوا بالجدِ يومَ نمنا   وبلغوا الفضاءَ يوم قمنا ، منهم أخذنا العودَ والسيجارة  وما عرفنا كيف نصنعُ السيارة ، نجاريهم في الموضة واللباس ، وما به كرامتنا تداس ، فهذا شاعرٌ عربي    يلعن الصعلوك الذي لا يتعدى نظره ، ولا يسمو فكره عن لباس وطعام فيقول :

  لحا الله صعلوكاً مناه وهمه  من العيش أن يلقى لبوساً ومطعما

فكيف إذا أشرف هذا الشاعر على هذه المدنية ، وهي تجري بفلاسفتها وسياسيها وعلمائها ، وكتابها وأغنيائها وفقرائها وراء غاية لا تتعدى لبوسا ومطعما ، ألسنا آثمون يومَ ما صنعنَا كما صنعوا ؟ وإنهم آثمونَ يومَ ما أسلموا كما أسلمنا ؟ نقصوا في الإسلامِ ، ونقصنا في العمل، ولا يعُفينا نقصنا ، فهم كفارٌ ملاحدَة ،  ونحن طلاب جنة وآخرة .

أمريكا التي تقدمَ رجلُ فيها يشتكي رجلاً ضربَ كلبَه ، حين اعتدى عليه في المطار، والكلبُ عندَهم آيةُ من الآيات، يغسلونَه في الصباحِ ويقبلونَه في المساء ، ينامُ على السريرِ ، ويركبُ السيارةَ مع الأمير ، ضُربَ كلبُ فقدمَت عريضةُ فيه ليحاكم   بينما المسلمون يضربوا بالهراوات، وتكسّر الرؤوس وتهدّم المساجد ، وتسحقُ الدور، وتدمرُ القصور   فما احتجوا ، ينصفونَ الكلاب ، وينقضون على الشعوب كالذئاب ، فما أنصفتهم هيئة الأمم التي يسيطر عليها أولو الألباب ، تقدموا بالقاذفات والصواريخ ، وحاربونا وحاربوا اللهَ يومَ كفروا  وحاربوا اللهَ يوم أخرجوا الفتاةَ عاريةً عاهرةً زانيةً سافرة ، حاربوا اللهَ يومَ سيروا الدعارةَ والخمرَ والزنى والربى في العالم ، حاربوا اللهَ يومَ قاموا مع الأقوياءَ   فسلبوا حقوقَ الضعفاء ، عاشوا الويلاتَ في قلوبِهم    ومن أراد المزيد عن انحرافهم ، فليراجع كتاب الأمريكي: " دع القلق وأبدأ الحياة " فقد عاشوا التوترَ في أعصابِهم، وعاشوا الانهيارَ في أخلاقهم  فهذه امرأةٌ تستضيف رجلا مع زوجِها فيفعلُ بها الفاحشةَ في بيتِ زوجِها وهو يعلمُ ولا ينكر  وهذه فتاةُ تسافرُ من أبيها وتعودُ حبلى بلا زواج   خمرُ يسكبُ ويشرب ، زنىً وفحشُ يعلنُ في الصحفِ والمجلات والأفلامِ والمسلسلات ، ورغم ذلك ينادي البعضُ بحضارتِهم التي تحمل في طياتها بذور فنائها

فقل للعيونِ الرمدِ للشمسِ أعينٍ   تراها بحقٍ في مغيبٍ ومشرقِ

وسامح عيونا أطفئَ اللهُ نورَها     بأبصارِها لا تستفيقُ ولا تعي

﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾ يرى ابن خلدون : أن الترف مظهر الحضارة، وهو هادمها أيضاً ، وهو غاية العمران ، ولكنه مؤذن بنهايته أيضاً  فالحضارة غاية العمران، ونهاية لعمره ، وإنها مؤذنة بفساده ، وقد أكد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه السنّةْ للدورة الحضارية الخالدة فقال: ( خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ) . وتتجلى آثار الحضارة المفسدة للعمران ، في حياة البذخ والترف ، إذ سرعان ما ينسى سكان الجيل الثالث ، عهد الخشونة والبداوة ، فيفقدون بذلك حلاوة العز والعصبية ، بما هم فيه من ملكة القهر ، ويبلغ فيهم الترف غايته   فتفسد أخلاقهم وطباعهم ، فينقلب التناصر إلى تنافر وصراع ، من أجل مكاسب شخصية ، ومصالح خاصة ، فيظهر الظلم إلى جانب الترف ، وهما مظهران من مظاهر خراب العمران ، وسقوط الدول   والى ذلك يشير قوله تعالى: ﴿ وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليهم القول فدمرناها تدميراً ﴾ الإسراء 16.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

حاجتنا إلى الإخلاص في العمل

إن ضعف المسلمين في شؤون دنياهم جعلهم عالة على غيرهم في الكثير من أمور معايشهم ، مما جعل الأعداء يتسلطون عليهم ، ويوجهونهم وفق ما يريدون ، لحاجة المسلمين إليهم . لأن المسلمين لا يعملوا ، ومن يعمل منهم لا يتقن عمله ، لذلك ضعفت قيمة العمل ، وقلّ العاملون المخلصون ؛ فانعكس ذلك مستوى الإنتاج ، الذي تدنى وأدى إلى ضعف المسلمون ، وتسلط الأعداء عليهم .

 

لذلك جاءت الدعوة إلى العمل في قوله تعالى : ﴿ وقل اعملوا ﴾ لأنه الطريق الوحيد الذي يخلص الأمة    من تسلط أعدائها عليها ، فتشعر بكرامتها وعزتها  وتحمل العقيدة والفكر الذي يعود بالخير على الأمة استجابة لقوله تعالى : ﴿ ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ﴾   والدعوة بحاجة إلى قوة ، والقوة بحاجة إعداد استجابة لقوله تعالى : وأهدوا لهم ما استطعتم من قوة ﴾ حتى تقدم هذه العقيدة وتدعو إليها من قوة        أمّا وهي ضعيفة مهزومة .. أمّا وهي فقيرة مستجدية لفضل غيرها ؛ فإنها لن تحمل فكراً ، ولن تدعو إليه .. ولو دعت فلن يقبل منها .

وحتى تتفوق الأمة في مجال الإنتاج والعمل لابد من شروط أساسية لتنطلق في ميدان الإنتاج والإتقان ؟؟

أهمها : القناعة بقيمة العمل والعلم الذي يجمع عقول الأمة ويوجهها نحو العمل والإنتاج ، وقد أوصل إهمالها الأمة إلى ضعفها وطمع الأعداء فيها .

ففي مجال تربية الأبناء ، فإن توجيههم إلى ضرورة الاهتمام بقيمة العمل والإنتاج، والتفوق فيه تكاد تكون من أضعف اهتمامات المربين والمدرسين مما جعل حصول الأبناء على الشهادة من أغلى الأماني ، وأكبر الأحلام ، دون أن يكون لديهم تصوّر لقيمة  لعمل الذي ينهض بالأمة ، بل إن الكثير منهم ربما لم يسمع طول حياته العلمية كلمة تشجيع على التفوق والإتقان في حياته العملية ، بل ربما إن حياته العملية التي سيدخلها لا ترتبط أصلاً بالعلم الذي اكتسبه ؛ فأصبحت الشهادة مطلباً مباشراً سواءً أنتج صاحبها أم لم ينتج ، فشباب الأمة الآن . لا يشعرون ، ولا يستشعرون أهمية العمل ؛ لأن العمل ليس من الاهتمامات التربوية لا في البيت ، ولا في المدرسة . . لا من الآباء ، ولا من المدرسين ، مما أدى إلى عدم   اهتمامهم بالإنتاج ، بسبب القصور في الإعداد التربوي ، ولن يصلح حالهم إلا عندما نصلح الخلل التربوي في البيوت والمدارس ، وفي الوسائل المؤثرة عليها .

أما في مجال العلم بميادين العمل الذي نحتاجه فحدث فيه ولا حرج . في بلاد المسلمين تطغى الدراسات النظرية حتى في العلوم التجريبية ، أما التطبيق فله أقل القليل من الوقت ، وله أقل القليل من الجهد ، وله أقل القليل من الاختبار أيضاً ؛ فيتخرج الطلاب من الكليات العلمية بحصيلة هزيلة في ميادين التطبيق ، ثم يذهبون إلى العمل الذي يعزلهم عن الميدان في الغالب ؛ فالمهندس يبتعد عن الهندسة ، ويعيش مع الأوراق فقط ، والسؤال هنا : من المسئول عن هذا القصور ؟ نحن المسئولون أولاً ، كما لا ننكر أن لأعدائنا نصيباً في تكريسه بيننا؛ لأن الشركات الأجنبية التي تعيش في بلاد المسلمين تستقدم خبراءها ومهندسيها معها ، ولا تتيح لأبناء المسلمين إلا المجالات النظرية . بل إن الكثير من شبابنا يخدع نفسه بالأسماء فقط ، ويعيش في المكاتب بعيداً عن ميدان العمل الفعلي .

فلا توجه العقول والجهود نحو العمل والإنتاج فتفرقت بين الأهواء والشهوات ، فأصبحت القدوة   لا تشجع على العمل ؛  لأنها من أهل اللهو والبطالة

 

فلو سألنا الشباب عن أمله في الحياة ، وماذا يريد أن يكون في المستقبل فلن نجد في الغالب إلا آمالاً جوفاء يتمنى أن يصبح ممثلاً أو مغنياً ساقطا ، أما أن يكون عاملاً منتجا أو مزارعاً ناجحاً . أو عاملاً جاداً أو عسكرياً مكافحا أو تاجرا ناصحا أو طبيباً ماهرا  فهذه مهنٌ لا تلمّع في الإعلام ، ولا تقدم للشباب . إن أقصى أمنيات كثير من شباب الأمة لا تتجاوز الرياضة أو الفوز في برنامج ذي فويس أو برنامج أرب آيدل في الأم بي سي  . أبهذا تعد الأمة للعمل ؟؟ أبهذا يدفع الشباب للعمل ؟؟ أبهذا تحقق الأمة التقدم في شؤونها ؟ أبهذا نصبح أمة قوية ؟

إن توجيه الأمة للعمل مطلبٌ ملحٌّ ، وغير قابل للتأجيل . يجب أن يتقدم في سلّم الأولويات، وقائمة الاهتمامات . هذا أمر لا بدّ منه إن كنا نريد العزّة والقوّة ،  والسؤال : من المسؤول عن توجيه الأمة نحو العمل ؟؟

إن الشعور بحاجة الأمة إلى تغيير كثير من أساليبها التي أدت بها إلى هذا الواقع المتخلف ، قد أدركه الكثير من أبناء الأمة الناصحين لها ؛ فمنذ الحرب العالمية الثانية ، بل وقبلها كان كثير من علماء الأمة ومثقفيها ينادون بضرورة تأمّل واقع الأمة ، والعمل على النهوض بها . وتعالت الدعوات للنهوض بالأمة منذ ذلك الوقت المبكر ، ولكن الحال كما نرى اليوم فإن الأمة لا تزال في تخلفها وضعفها . فما السبب ؟

 

إن من أبرز الأسباب  الفرقة والتنافر في أساليب الطرح للنهوض بالأمة . يقول الله تعالى : ﴿ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ، واصبروا إن الله مع الصابرين ﴾ فمن أسوأ ما أصيبت به الأمة الإسلامية في هذا العصر ما نجده من كثرة الآراء والأحزاب    وكثرة التناحر والتقاتل بين تلك الأحزاب ، وبين أصحاب تلك الآراء ، فتبددت جهود الأمة   كلٌّ يشغل نفسه لإسقاط الآخر ، أو إسقاط آرائه وأساليبه . يبذل كل حزب جهوده وطاقاته ليس للبناء والعمل ، ولكن لإسقاط الآخرين ، وإفساد عملهم ، وما علموا أنهم يفسدون ولا يصلحون     فلماذا لا يعمل شباب الأمة على العمل لسد حاجات الأمة ومتطلباتها ، بدل استيراد هذه الحاجات من الأمم الأخرى

ما الذي يمنع مدارس ومعاهد التدريب المهني في العالم الإسلامي أن تتبادل الخبرات لتخريج العمال المهرة ، لسدّ حاجة الأمة بدلاً من فتح البلاد الإسلامية لأعداء المسلمين ، وفي تخصصات عادية تجد فيها يمكنها القيام بها ، أليس من مصلحة الأمة جمع الجهود للعمل المنتج ، والاتجاه الجاد للتعاون لتحقيق ما من شأنه أن يحقق انتصار الأمة ، وتحريرها من سيطرة أعداء الإسلام عليها بسبب سيطرتهم على شؤون دنياهم ، فهل نحن فاعلون ؟

 

فهل نحن فاعلون ؟؟؟

 

 

لأمة المسلمة مدعوة اليوم قبل الغد إلى العمل الجاد الدؤوب، وخير الأعمال ما داوم عليه صاحبه وإن قل ، وإنما تبنى الأمم بالأعمال لا بالأحلام ولا بالأقوال والأماني، ويستحق الفرد منزلته في الآخرة بين الأبرار بعمله الصالح المبني على الإيمان، أو بين الأشرار بعمله الطالح المبني على الكفر والجحود والنكران.

العمل إذن طريق الرقي في الدنيا وسبيل السعادة في الآخرة، ومع إيمان المسلمين بهذا إلا أنهم لا يعملون العمل المناسب الذي يدفع الحياة إلى الأمام دفعا ، ويرقى بهم في مصاف الأمم، ليكونوا على مقربة من قامتها السامقة، ومنزلتها العالية.

كأنما تطرق إليهم ذلك المفهوم الخاطئ، الذي تسلل إلى عقولنا خلسة حين فهمنا أن الدين لا صلة له بالحياة، إذ يكفي أن الإنسان ينجو به من عذاب النار، أما أنه هو المحرك نحو العزة والكرامة، هو المحرك للهمم، هو الدافع للعمل، فذلك ما ليس للدين إليه سبيل هذا وهمهم في فهمهم، وكم من فهم خاطئ عن صلة الدين بالحياة يعيش بيننا الآن، ويشدنا إلى القاع، دون أن يرفعنا إلى القمة.

فهل غاب عن الناس أن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل؟ ولعلهم يظنون أن المقصود بهذا العمل هو العمل الصالح، وهل العمل الصالح في كثير من الأحيان إلا متصلا بالناس يقدم لهم ما يحتاجون، ويؤخر عنهم ما به يتضررون؟ وهل غاب عن الناس أن من بات كالا ،متعبا من عمل يده بات مغفورا له؟ وهل غاب عن الناس أن من كان يسعى على أبوين ضعيفين فهو في سبيل الله، ومن كان يسعى على صبية صغار فهو في سبيل الله؟ إن الرجل الذي سقى كلبا غفر الله له، وإن المرأة التي حبست هرة دخلت بسببها النار، أليس هذان نوعين من العمل الدنيوي أحدهما فيه الخير فكان جزاؤه الغفران، وثانيهما فيه الشر فكان جزاؤه الخسران؟ وكم بين سقي كلب وإحياء نفس من درجات في مراتب العمل؟ وكم بين حبس هرة وقتل نفس أو إشراك بالله من دركات في إحباط العمل؟

فمراتب العمل متفاوتة، والناس فيها متفاوتون بحسب قدراتهم وطاقاتهم وعلمهم وابتكارهم وغير ذلك مما فضل الله به بعض الناس على بعض، ولكن هذه الجهود المتفاوتة تنتظم في سلك واحد يخدم الأمة، حين يبذل كل إنسان ما استطاع من عمل عقلي أو عمل يدوي في إتقان ومهارة، بحيث نصل في يوم من الأيام ـ وعسى أن يكون قريبا ـ إلى أن تكتفي أمة الإسلام بما لديها في المرحلة الأولى، ثم يفيض ما عندها بعد ذلك على غيرها في جانبيه المعنوي والمادي، المعنوي المتمثل في الدين والقيم والأخلاق، والمادي المتمثل في كل ما يحتاج إليه الإنسان مما لا غنى عنه في أي مكان على وجه الأرض.

لترفع أمتنا بهذين الجانبين العمليين من قيمة الإنسان فلا يظل حيوانا ناطقا ، ولا حتى راقيا كما ينظر إليه الغربيون، بل إنه جنس آخر غير الحيوان، وغير الشيطان، وغير الملائكة الكرام، إنه جنس كرمه الله، وسخر له ما في السموات وما في الأرض جميعا منه، فكيف نوافق أصحاب الأهواء في تصورهم الناقص للإنسان حين يعتبرونه حيوانا همـه إشباع الرغبات وتحقيق الشهوات والملذات، ولا نتبع في تصورنا ما أخبر الله به من تكريم لهذا الإنسان حتى أسجد الملائكة لآدم أبي البشر؟

 

لقد انحرف تصور أصحاب الفلسفات الأرضية عن الإنسان فصار همهم الأول، بل الأوحد ما أخبر به القرآن: ،يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم فلماذا انحرف تصورنا نحن، وعندنا الخبر اليقين عن هذا المخلوق المكر م؟

إننا نحاول أن نتبع الغربيين في كل أمر، ونلهث وراء أعمالهم الدنيوية التي بغيرها تتعثر الحياة، فلماذا نتبعهم في الأفكار والتصورات ولا نتبعهم في الأعمال والإنجازات؟ لقد صار الإنسان عبدا للآلة، مع أن المفروض والمنتظر أن تكون الآلة في خدمة الإنسان، ولعل هذا الذي أ خبرك به بعيدا عن رأيك وفكرك مع أن الأمر واقع بيننا اليوم، وإذا ما نظرت إلى كثير من البيوت وجدت الأقساط تكاد تفتك بجهود صاحب البيت وتكاد تخربه لسداد قرض هنا، وقسط هناك في شراء بعض الأمور التي يمكن الاستغناء عنها بغير ضرر.

وإن العمل بجانبيه المادي والمعنوي المبني على الإيمان يجعل أصحابه روادا على طريق الخير للبشرية كلها، لأن العاملين المؤمنين المنتجين يدركون واجبهم نحو إخوانهم في الإنسانية، فلا يحرقون الغلات والحبوب حتى يحافظوا على بقاء الأسعار، ولا يلقون بمحصول في البحار لنفس الغرض، ولا يثيرون القلاقل في البلاد، ويبعثون الفتن بين العباد من أجل أن يبيعوا لهم سلعة معينة يكســبون من ورائها الملايين ولا يستفيد المشــترون لها شيئا يذكر حتى بعد سنين.

العمل في الإسلام عبادة، والمقص رون في أعمالهم لا يضرون ـ فقط ـ أنفسهم، بل يضرون غيرهم من البشر، ويؤثرون على التصورات والقيم، ويجعلون الحياة قحطا حين يقودها الماد يون الذين قست قلوبهم فخلت من الرحمة والشفقة إلا إذا كانت لهم من وراء ذلك مصلحة تذكر.

والأمم بحسب ما اعتاد أبناؤها، فإن عودتهم احتمال الشدائد والصبر على المكاره وإتقان العمل، وإشراقة الأمل خلقت منهم رجالا يشدون أزرها، ويقوون عضدها، وإن اعتادوا الرخاوة والترف والكسل في العمل والتهاون في المسؤولية كانوا كلا على الأمة وعالة عليها.

ونحن ـ بحمد الله ـ لم نكن كذلك، حين كانت أمتنا تقوم على الجهاد والاجتهاد، فكنا بحق كما قال شوقي:

ونحن في عين الوجود أمـة ذات اشـــتهار بعلـــو الهمـــة

والأمر محتاج إلى تربية وإلى بعث للعزيمة، وإلى قبول التحدي المطروح علينا، والدين الإسلامي خير حاد لنا وخير مرشد لأبنائنا على امتداد الأجيال.

 

 

 

 

  نحن في زمن الحليم فيه حيران

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يَأْتِي فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ حُدَثَاءُ الأسْنَانِ سُفَهَاءُ الأحْلامِ يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ يَمْرُقُونَ مِنْ الإسْلامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ لا يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ قَتْلَهُمْ أَجْرٌ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) رواه البخاري باب علامات النبوة   وقال : ( يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ أَقْوَامٌ إِخْوَانُ الْعَلانِيَةِ أَعْدَاءُ السَّرِيرَةِ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ قَالَ ذَلِكَ بِرَغْبَةِ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ وَرَهْبَةِ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ ) الطبراني عن معاذ .

إننا في حيرة ، بين دين لا يُعمل به ، ولا يُطبق منهجه ، لعادات نشا الناس عليها ، وأنظمة أفسدته ، وتعليم أزاغه ، وشهوات لا تتفق مع عقيدته ورسالته ، وبين جاهلية لا ترى أحكام الإسلام منسجمة مع العصر .

إننا في حيرة بين شعوب مسلمة ، تنكبت عن صراطه المستقيم ، وتنازلت عنه فحقت عليها كلمة الله ، وتسلطت عليها الأمم ، وفُرضت عليها الأنظمة والقوانين ، التي لا تمت إلى الإسلام بصلة ، لتسير عليها بدلاً من منهج الله القويم .                             

إننا في حيرة بين الفطرة التي فطرنا الله عليها بإتباع دينه ، الذي يدفعنا إلى الإيمان والجهاد   ويبعث في نفوسنا الثورة ، على المجتمع الفاسد والحياة الزائفة ، وبين التربية العصرية والمادية  التي زينت لنا ترك الجهاد ، فأورثنا تركه الجبن والضعف والخذلان ، والقبول بالزعامة التي تفرض علينا ، الاتكال على الغير ، والتنكر لمنهج الله   فكان الذل ، العقوبة التي ابتليت به الأمة نتيجة ذلك ، ومن المعلوم من فقه التربية الإيمانية ، أن الله يعاقب على الذنب بالذنب، وهي أقسى صنوف العقوبات. وهكذا عوقبت الأمة الإسلامية ، على انحرافها العملي والسلوكي بانحراف أشد منه ،، في العقيدة والتصور.

إن المسلم حائر بين شباب ثائر ، ودم فائر   وذهن متوقد وأزهار تريد أن تتفتح ، وبين من أفلست عقليتهم ، وحرَّمت الابتكار والإبداع والشجاعة والمغامرة .

إن المسلم حائر ، لأنه يعيش في بلاد من أغنى بلاد العالم بالثروات الطبيعية ، وبين موجهين وصانعين لا يعرفون قيمة هذه الثروات ، ولا يعرفون أين يضعونها ، وماذا يصنعون منها .

إننا في حيرة ، من هذا العالم الذي نعيش فيه    والذي يواجه عالماً لا يجد فيه غناءه ، ولا يجد فيه غوثا ومعقلا ، عن لصوص العالم المنظَمين  وذئاب الإنسانية التي تحكمت وعاثت في الأرض فسادا ، وبين المسيرة الإسلامية التي ينعقد عليها الأمل والرجاء ، في العمل على تطبيق منهج الله    لحل مشاكل العالم الإسلامي ، الذي دمره القلق والصراع، وتسلط عليه شياطين الجن والإنس   بعد أن جرب مختلف الأنماط في عصره الحاضر  وتسلطت عليه جماعات وأحزاب ، وعدتنا بأنها ستعيد إلينا عزتنا ومجدنا، وتجمع شملنا وتوحدنا  لكننا لم نرى إلا الفرقة والانقسام ، فأصبحت الأمة الواحدة أمماً، وأصبحت الدولة الواحدة  دولاً، وازداد الفقر والتعاسة في كثير من ديار المسلمين هنا وهناك، وفشل دعاة الوطنية والقومية، وفشل من بعدهم الاشتراكيون والبعثيون ولم يبق إلا الإسلام، الذي نجح عندما حكم هذه البلاد يوما ، في إيجاد مجتمع مثالي في عالم البشر، سعدت به البشرية، وترعرعت في جنباته الفضائل والقيم الصالحة، وتناسى المسلمون في ظله العصبيات للأقوام والأجناس والأوطان  وكان ولاؤهم فيه للحق، وعندما ترك المسلمون دينهم ومنهج ربهم ، واستبدلوه بعادات موروثة  وفلسفات وتوجيهات وافدة، جرّت عليهم الضياع والدمار، وكانت الفرقة والشتات  فتسلط عليهم الأعداء، وحصلت الهزائم العسكرية والفكرية والاقتصادية ، وعندما حاول المسلمون أن ينظموا صفوفهم، ويلتمسوا طريقهم؛ ليحملوا الراية من جديد، تربص بهم الأعداء يرقبون حركاتهم ، ويدرسون فكرهم ، ثم يأتمرون ويخططون، ثم يرسلون سهامهم، وبعض سهامهم   رجال من المسلمين أنفسهم ، كي يفرقوا ويقتلوا ويدمروا، فأصيبت جموع كثيرة من المسلمين  بسهامهم ومكرهم وخديعتهم ، وعملوا جاهدين للسيطرة على بلاد المسلمين ، عن طريق غرس بذور الخلاف ، بين الطوائف ، وإعادة صياغة دول المنطقة من جديد ، وتقسيمها على أساس طائفي أو عرقي أو مذهبي ، لإيجاد كيانات متنازعة ، وغير قابلة للاتحاد من جديد ، قال ناحوم جولدمان رئيس الرابطة اليهودية العالمية في خطابه بباريس بمؤتمر اليهود المثقفين عام 1968م: " إذا أردنا لإسرائيل البقاء والاستقرار في الشرق الأوسط علينا أن نفسخ الشعوب المحيطة بها إلى أقليات متنافرة تلعب إسرائيل من خلالها دوراً طليعياً وذلك بتشجيع قيام دويلة علوية في سوريا، ودويلة مارونية في لبنان، ودويلة كردية في شمال العراق " . ونشرت مجلة القوات المسلحة الأميركية (في 6/2006 م) تقريراً كتبه «رالف بيترز» الكولونيل السابق في الجيش الأميركي تحدث فيه عن تقسيم الشرق الأوسط من جديد وإقامة دولة كردية تقتطع أجزاء من العراق وإيران وتركيا وسوريا ، ودولة شيعية في جنوب العراق وإيران ، ومناطق أخرى من السعودية والإمارات والكويت والبحرين، ودولة مارونية درزية في جبل لبنان، وزيادة مساحة الأردن على حساب السعودية، حتى يتم تفكيك الدول الكبيرة مثل تركيا وإيران والسعودية ثم يأتي بعد ذلك الدور على مصر والسودان والمغرب.

كما فعلت الدول الاستعمارية ، بعد سقوط الدولة الإسلامية وتقسيمها إلى دويلات       على أساس قومي أو طائفي ، واللعب على مسألة الأقليات، فأثارت أهل الجنوب في السودان على أساس وجود أقليات غير مسلمة، وتحقق الانفصال ، وأثارت النعرات العرقية والجهوية ودعمت الانفصاليين في دارفور وكردفان وغيرها من المناطق. وأوجد الاستعمار مشكلة الأكراد في شمال العراق منذ نهاية خمسينات القرن الماضي. ومنذ منتصف ثمانينات القرن الماضي أيضاً أوجد المشكلة نفسها في جنوب شرق تركيا. وبدأ المستعمر الآن في إيجادها في سوريا ، ويقوم     في هذه الفترة على إيجاد مشكلة شيعية في العراق   تمهيداً لتمزيقه إلى ثلاث دويلات على الأقل. وفي المغرب مسألة الصحراء ، ومشكلة البربر في المغرب والجزائر ، ومسألة الأقباط في مصر. وفي إندونيسيا يراد فصل عدة جزر عنها ، بعدما نجحت دول الاستعمار في فصل تيمور الشرقية. ونجحت هذه الدول في تقسيم الباكستان عام 1971م، وسمي الجزء المنسلخ منها بنغلادش. وهناك مشاريع تجزئة للدويلات من قبل الدول الاستعمارية التي أقامتها .  

وإن أكثر تلك النظم قدرة على تمزيق المجتمع وتشتيت قواه ، هي تلك التي جاءت وهي تمتطي ظهر الأحزاب القومية، فمزقت ما كان يرجى وحدته، وكان من أعظم إنجازات تلك النظم التي تواجه اليوم شعوبها ، التي تتطلع للحرية والكرامة والتحرر من قبضتها القاتلة ، هي قدرتها على تفتيت المجتمعات التي استأثرت بحكمها   وأفسدت علاقاتها وزرعت المخاوف بين طوائفها  

وإلا بماذا نفسر أن يصطف إلى جانب النظام القاتل ، فريق كبير من المناصرين والمؤيدين  ناهيك عن الجاهزين لسحق أبناء شعبهم واستخدام أبشع الأساليب لوأد تطلعاتهم.. ما أبشع أن يتفقوا على القمع والقتل ، وهدر الكرامات لجزء من أبناء وطنهم ، انتفضوا في وجه القتل والظلم والمهانة والفقر، وما أبشع هذا الوعي البائس الذي لا يرى كل ما يحدث سوى مؤامرة خارجية تستهدف الدول العربية .

ما أبشع أن تكون ثمار عقود من عمر بعض الدول العربية هشاشة في كل شيء، وضعفاً في كل شيء، وتراخياً في كل شيء، وفشلاً في كل شيء ، إلا بقدرة زعامات الاستبداد على إنتاج فلول ملوثة العقول ، وعسيرة الأفهام ، وفاحشة الأقوال ومتوحشة الأفعال.

ما أبشع أن يصحو الحالمون بالخلاص من نظام القمع ، على كابوس الاقتتال الداخلي الطائفي  ما أفدح الثمن، وما أعظمها من جريمة.

 لمصلحة من كل ذلك ؟ في الشهر الماضي     أعلن الجنرال عاموس رئيس المخابرات العسكرية الإسرائيلية قال : " لقد نجحنا في تصعيد التوتر والاحتقان الطائفي والاجتماعي في مصر لتوليد بيئة متصارعة متوترة دائما ومنقسمة ، إلي أكثر من شطر ، في سبيل تعميق حالة الإهتراء داخل البنية والمجتمع والدولة المصرية " مما يكشف الإصرار من جانب قوي مشبوهة وعميلة للصهيونية ، علي تمزيق وتدمير وتقسيم العالم العربي والإسلامي ، إلي كيانات متداعية وهزيلة . وما قاله الجنرال عاموس كان بمثابة رسالة تحتاج إلي من يستكملها ، ولذلك كان الرجل يخاطب خليفته في نفس المنصب الجنرال افيف ، الذي تنتظر منه قيادة الصهيونية العالمية ، تجنيد العملاء لمواصلة أداء المهمة المطلوبة ، وهناك أصحاب مصلحة في خلق انطباع لدي سكان العالم كله ، بان هذه المنطقة تحولت إلي غابة ، تعربد فيها وحوش ضارية ، تمارس هواية القتل من أجل القتل ، ولا تطيق أو تتحمل وجود من يختلف معها ، في العقيدة الدينية علي قيد الحياة. وهناك من يريد تشويه صورة هذه المنطقة، وبالتحديد صورة العرب والمسلمين ، فهل بعد هذا المكر مكر ؟ ﴿ ويمكرون ويمكر الله ﴾ وسيبطل الله مكرهم إن شاء .

 

 

 

 

 

مقولة ملك

لله نقمة لم تبلغ غايتها فيكم  .. هذا ما قاله ملك من ملوك النوبة- والنوبة إقليم يقع في جنوب مصر ، شمال السودان على ضفتي النيل ، وله تاريخ يمتد إلى خمسة آلاف عام . ذكر ابن قتيبة في كتابه مختلف الحديث ، أن المنصور الخليفة العباسي ، سمر ذات ليلة ، فذكر خلفاء بني أمية وسيرتهم ، وأنهم لم يزالوا على استقامة ، حتى أفضى أمرهم إلى أبناءهم المترفين ، فكان همهم من عظيم شأن الملك وجلالة ، قصد الشهوات وإيثار الملذات ، والدخول في معاصي الله ، جهلاً منهم باستدراج الله تعالى ، وأمناً من مكره   فسلبهم الله الملك والعز ، ونقل عنهم النعمة   فقال له صالح بن علي : يا أمير المؤمنين ، إن عبيد الله بن مروان ، لما دخل النوبة هارباً فيمن اتبعه   سأل ملك النوبة عنهم ، فأخبر ، فركب إلى عبيد الله ، فكلمه بكلامٍ عجيب في هذا النحو ، لا أحفظه ، فإن رأى أمير المؤمنين ، أن يدعو به من الحبس بحضرتنا في هذه الليلة ، ويسأله عن ذلك   فأمر المنصور بإحضاره ، وسأله عن القصة ، فقال : يا أمير المؤمنين ، قدمت أرض النوبة ، بأثاثٍ سُلم لي ، فافترشته بها ، وأقمت ثلاثاً ، فأتاني ملك النوبة ، وقد خبر أمرنا ، فدخل عليَّ رجل حسن الوجه ، فقعد على الأرض ، ولم يقرب الثياب ، فقلت : ما يمنعك أن تقعد على ثيابنا ؟ فقال : إني ملك ، وحق لكل ملك ، أن يتواضع لعظمة الله ، إذ رفعه الله ، ثم قال : لم تشربون الخمرة ، وهي محرمة عليكم في كتابكم ؟ فقلت : اجترأ على ذلك عبيدنا وأتباعنا بجهلهم .

قال : فلم تطؤون الزروع بدوابكم ، والفساد محرمٌ عليكم ؟ قلت : فعل ذلك عبيدنا وأتباعنا بجهلهم .. قال : فلم تلبسون الديباج والذهب والحرير   وهو محرم عليكم في كتابكم ؟ قلت : ذهب منا الملك ، وانتصرنا بقوم من العجم ، دخلوا في ديننا   فلبسوا ذلك على كُرهٍ منا .

فأطرق ينكث بيده على الأرض ويقول : عبيدنا وأتباعنا وأعاجم دخلوا في ديننا ، ثم رفع رأسه وقال : ليس كما ذكرت ، بل أنتم قومٌ استحللتم ما حرم الله عليكم ، واتيتم ما عنه نهيتم   وظلمتم فيما ملكتم ، فسلبكم الله العز   وألبسكم الذل بذنوبكم ، ولله نقمة لم تبلغ غايتها فيكم ، وأنا خائف أن يحل بكم العذاب ، وأنتم ببلدي ، فينالني معكم ، وإنما الضيافة ثلاث   فتزود ما احتجت إليه ، وارتحل عن أرضي .

لقد أدرك هذا النوبي ، الأسباب الحقيقية التي أطاحت بملك بني أمية ، ومن أهمها الظلم : ظلم النفوس بالذنوب والمعاصي ، وظلم العباد بعدم إنفاذ حكم الله ، على وجهه الحق . ولذلك عندما قيل لرجل عاقل من بني أمية : أخبرنا عن أول شيء كان بدء زوال ملككم ؟ فقال : سألت فاسمع ، وإذا سمعت فافهم . تشاغلنا عن تفقد ما كان تفقده يلزمنا ، ووثقنا بوزراء آثروا مصالحهم على منافع أمتنا ، وأبرموا أمورا أسروها عنا ، فظلمت رعيتنا ، ففسدت نياتهم لنا ، وقل دخلنا ، فخلت بيوت أموالنا ، وضعف جندنا فزالت هيبتنا ، واستدعاهم أعداؤنا ، فظاهروهم علينا ، وكان أكثر الأسباب في ذلك ، استتار الأخبار عنا .

نعم إن هذا يقع ، عندما لا نجد الناصحين لولاة الأمر ، ولا نجد من يقول الحق ، وقول الحق     من أحد بنود عقد البيعة ، الذي تأسست عليها الدولة الإسلامية الأولى " أن نقول الحق حيثما كنا  لا نخاف في الله لومة لائم" فقد عز النصح لولاة الأمر وتلك وظيفة الرسالات التي حاء بها رسل الله :  ﴿أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ ﴾الأعراف 68   وَعَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ فإنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: ( الدِّينُ النَّصِيحَةُ. قُلنَا: لِمَنْ؟ قال: لله وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأئِمَّةِ المُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ )رواه مسلم. ولا خلاف بين العلماء في وجوب مناصحة الحاكم وتقويمه ، بل ومحاسبته على ما يقدم   فالحاكم إذا ما أراد الله به خيرا ، رزقه البطانة الصالحة ، التي تذكره إذا نسي ، وتقومه إذا اعوج   وقد فهم الصحابة رضي الله عنهم نصوص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فهما عاما بعيدا عن تقييده بوجوب السرية، فكان الخلفاء الراشدون يُنتَقدون ويُوجّهون ، وهم على المنابر، ولم يُحرِّموا أو يمنعوا ذلك، ولقد ضربوا أروع الأمثلة على ذلك , فها هو الصديق أبو بكر رضي الله عنه يقول في أول كلام له بعد توليه الخلافة والحكم : " قال: أيها الناس! لقد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الضعيف فيكم ، قوي عندي   حتى آخذ له الحق، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ منه الحق ، إن شاء الله، وما ترك قوم الجهاد إلا ضربهم الله بالذل، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله؛ فإن عصيت الله ورسوله ، فلا طاعة لي عليكم ". السيرة النبوية لابن حبان 419. ولقد أحسن الشاعر :

إذا ما الله شاء صلاح قوم   أتاح لهم أكابر مصلحينا

ذوي رأي ومعرفة وفهم    وإعداد لما قد يحذرونا

فلم يستأثروا بكثير جمع     وكانوا للمصالح مؤثرينا

وإن يشأ الإله فساد قوم    أتاح لهم أكابر معتدينا

ذوي كبر ومجهلة وجبن     و إهمال لمـا يتوقعونا

فجاروا حيثما أمروا بعدل  كأن قد قيل كونا جائرينا

فالعدل أساس الحكم ، ومن عدل في حكمه وكف عن ظلمه ، نصره الحق ، وأطاعه الخلق   وصفت له النعمى ، وأقبلت عليه الدنيا ، فيهنأ بالعيش ، ويستغنى عن الجيش ، ويملك القلوب   ويأمن الحروب ، فتصير طاعته فرضا ، وتظل رعيته له جندا ، لأن الله تعالى ما خلق شيئا أحلى مذاقا من العدل ، ولا أروح إلى القلوب من الإنصاف ، ولا أمر من الجور ، ولا أشنع من الظلم إلا غياب العدل ، لأنه يفسح المجال لإكابر المجرمين ، الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، وإذا تآمروا وتُرِكَ لهم الحبل على الغارب ، وأطلق لهم العنان، ولم يضرب على أيديهم ، كان ذلك من أعظم أسباب دمار الأمم والشعوب ، والأمة التي تقيم حدود الله على ضعفائها ، ولا تقيمها على أشرافها ، أمة معرضة للهلاك والدمار، فلا بد من إقامة أمر الله وحدوده   على الصغير والكبير، حتى ينـزجر الناس ويرتدعوا، فتسلم بذلك الأمة، وتنجو من عذاب الله وعقوبته، وبغير ذلك ، فإن الناس لا يزدادون إلا قسوة، مهما رأوا من نذر العذاب، لأن القلوب إذا قست ، وغفلت عن الله ، لا تؤثر فيها العبرة ولا الموعظة، فتصبح أمة خاملة، وغير قادرة على مجابهة التحديات التي تواجهها  وسرعان ما تنهار  وصدق الله ﴿ وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ﴾  لقد أخذ الترف والتعلق بزينة الحياة الدنيا ، وشهوتها بألباب   الكثيرين ، واستحوذ على عقولهم ، إلى درجة أنهم أصبحوا ينظرون إلى تعاليم الإسلام وأحكامه على أنها تفسد عليهم متعتهم وبهجتهم في الحياة  فاتخذوا كتاب ربهم وسنة نبيهم ، وراءهم ظهرياً وتولوا وأعرضوا ، حتى وصل الأمر ببعضهم إلى ترك الطاعة ، بل ومبارزة الله تعالى بالمعاصي.

والأمةَ التي تغرقُ في التَّرَف، وتُبطِرُها الرَّفاهيَّة  وتسعَى وراءَ غرائِب اللَّذَّات ، تتزعزعُ أخلاقُها  وتذوبُ قِيَمُها، وتنسلِخُ من مبادئِها، وتنسَى اللهَ والدارَ الآخرة، وتدِبُّ فيها عواملُ الانهِيار.

 وقد أنذر الله وحذَّر مِن هذا الداء المهلِك  الذي أصابَ الأُمم، فحلَّ بها عقاب الله المعجَّل كما قال تعالى: في كتابه لرسوله صلى الله عليه وسلم : ﴿ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ * لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ يس 6 .

 

 

 

 

 

 

إن لصاحب الحق مقالا

 عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : ( ابْتَاعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ رَجُلٍ مِنْ الْأَعْرَابِ جَزُورًا أَوْ جَزَائِرَ بِوَسْقٍ مِنْ تَمْرِ الذَّخِرَةِ ، وَتَمْرُ الذَّخِرَةِ الْعَجْوَةُ فَرَجَعَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَيْتِهِ وَالْتَمَسَ لَهُ التَّمْرَ فَلَمْ يَجِدْهُ فَخَرَجَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ يَا عَبْدَ اللَّهِ إِنَّا قَدْ ابْتَعْنَا مِنْكَ جَزُورًا أَوْ جَزَائِرَ بِوَسْقٍ مِنْ تَمْرِ الذَّخْرَةِ فَالْتَمَسْنَاهُ فَلَمْ نَجِدْهُ قَالَ : فَقَالَ الْأَعْرَابِي:ُّ وَاغَدْرَاهُ قَالَتْ: فَنَهَمَهُ النَّاسُ ، وَقَالُوا قَاتَلَكَ اللَّهُ أَيَغْدِرُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعُوهُ فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالًا ثُمَّ عَادَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا عَبْدَ اللَّه إِنَّا ابْتَعْنَا مِنْكَ جَزَائِرَكَ وَنَحْنُ نَظُنُّ أَنَّ عِنْدَنَا مَا سَمَّيْنَا لَكَ فَالْتَمَسْنَاهُ فَلَمْ نَجِدْهُ فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: وَاغَدْرَاهُ فَنَهَمَهُ النَّاسُ وَقَالُوا : قَاتَلَكَ اللَّهُ أَيَغْدِرُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعُوهُ فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالًا فَرَدَّدَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا فَلَمَّا رَآهُ لَا يَفْقَهُ عَنْهُ قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ : اذْهَبْ إِلَى خُوَيْلَةَ بِنْتِ حَكِيمِ بْنِ أُمَيَّةَ فَقُلْ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَكِ : إِنْ كَانَ عِنْدَكِ وَسْقٌ مِنْ تَمْرِ الذَّخِرَةِ  فَأَسْلِفِينَاهُ ، حَتَّى نُؤَدِّيَهُ إِلَيْكِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ، فَذَهَبَ إِلَيْهَا الرَّجُلُ ثُمَّ رَجَعَ الرَّجُلُ فَقَالَ : قَالَتْ نَعَمْ هُوَ عِنْدِي يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَابْعَثْ مَنْ يَقْبِضُهُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلرَّجُلِ ، اذْهَبْ بِهِ فَأَوْفِهِ الَّذِي لَهُ قَالَ: فَذَهَبَ بِهِ ، فَأَوْفَاهُ الَّذِي لَهُ قَالَتْ: فَمَرَّ الْأَعْرَابِيُّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي أَصْحَابِهِ فَقَالَ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا ، فَقَدْ أَوْفَيْتَ وَأَطْيَبْتَ ، قَالَتْ : فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أُولَئِكَ خِيَارُ عِبَادِ اللَّهِ ، عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، الْمُوفُونَ الْمُطِيبُون)َ رواه أحمد والبزار والألباني في السلسلة الصحيحة . إن معظم الخصومات التي تقع بين الناس ، ترجع في كثير من الأحوال ، إلى سوء طلب الدائن دينه ، وسوء الأداء من المدين ، وسوء الطلب ، يكون بالتشهير بين الناس ، أو بالرفع للقضاء أو بالتحكم فيه ، وهو في حالة عسر ، أما سوء الأداء ، فيكون بإنكار الحق ، أو المماطلة فيه بغير عذر . إن هذه المعاملة السيئة ، تقطع صلات المحبة ، وتوغر الصدور، وتفكك الروابط الاجتماعية ، وقد تؤدي الى التقاضي  ولذلك جاء الهدي النبوي في علاج هذه العلل ، لأن الله يرحم الرجل السمح في بيعه وشرائه ، السمح في مطالبته بحقه ، السمح في أداء ما عليه من حقوق ، ويخص الذي يُقَدِّر حال مدينه ، فيتصدق عليه بدينه ، أو يؤجل السداد إلى وقت الاستطاعة ، إذا كان في وضع لا يسمح له بالسداد ، فيبشره برحمة منه ورضوان من الله ، جاء ذكر ذلك فيما الرسول عن أبي مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( حوسب رجل ممن كان قبلكم ، فلم يوجد له من الخير شيء ، إلا أنه كان يخالط الناس وكان موسراً ، فكان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسر ، قال : قال الله عز وجل نحن أحق بذلك منه تجاوزوا عنه ) فالأصلُ أنّ يحب الناس الحقَّ ويسعون له، ولكنَّ الأهواء والشياطين ، تأخذهم من طريق الحق لترديهم في أودية الباطل، فيأتي دعاةُ الخير لينتشلوهم ويستمر صراعُ الخير والشر، والحق والباطل إلى أن يرثَ اللهُ الأرضَ ومَن عليها. وحتى يبقى الحقُّ موجوداً في الأرض معمولاً به، وحتى لا يعم الفسادُ وتنتشر الفوضى ، جاء الشرع يدعو الناسَ إلى العمل بالحق والسعي إليه وعدم السكوت عن الحق ، والنطق بالحق والاستماع لصاحب الحق ، ومن أجل هذا نزلتِ الشرائعُ، وأقيمتِ القوانين، وشُيِّدَتِ المحاكمُ، ونُصبَت القُضاة.

إن شريعة الإسلام توجب علينا ، أن نتربى ونربي أبناءنا على بذل الحق من أنفسنا  والمطالبة بحقنا بضوابط المطالبة، وذلك خيرٌ من أن نمنع الحق أهله ، أو نسكتَ عن المطالبة به فيضيع ، وقد ورد الوعيد في حق من يقصد إتلاف أموال الناس ، ولا يريد السداد ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ  : ( مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ وَمَنْ أَخَذَ يُرِيدُ إِتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ) رواه البخاري ، أوصى الإمام جَعْفَرِ بنِ مُحَمَّدٍ ولده فقَالَ: (يَا بُنَيَّ مَنْ قَنعَ بِمَا قُسِمَ لَهُ اسْتَغْنَى، وَمَنْ مَدَّ عَيْنَيْهِ إِلَى مَا فِي يَدِ غَيْرِه مَاتَ فَقِيْراً   يا بُنَيَّ  ! قُلِ الحَقَّ لَكَ وَعَلَيْكَ ، تُسْتَشَارُ مِنْ بَيْنِ أَقْرِبَائِكَ) ، وصاحب الحق ينبغي أن يُقَدَّر، وأن يُراعى شعوره ، ويُعنى بإحساسه  ولكن هناك من قست قلوبهم ، وغلظت أفئدتهم ، فجحدوا أصحاب الحق ، وازدروا المطالبة به ، ولم يكتفوا بسكوتهم عن الحق  وإقرارهم وموالاتهم للظالمين ، بل تفننوا بمزيد من إيلام صاحب الحق ، وجرح مشاعره  كلما صدع بالحق صادع ، أو طالب به مطالب ، توهينا لمطلبه ، وتشكيكا في صدقه  وطعنا في نيته ، متجاهلين تلك القاعدة النبوية ، التي تفرق بوضوح ، بين مقال صاحب الحق ، وبين الباغي الجائر في مطالبته  فصاحب الحق المطالب به ، إن وافق أذنا صاغية، وعقولا راجحة، ونفوساَ منصفة  سعد الطالب والمطلوب، لأن حفظ حقوق الناس ، هي بضاعة أهل الإسلام ، التي أخذها المتشدقون بحفظ حقوق الإنسان   والمنادون بالحرية ، والمخادعون بالديمقراطية وليتهم قالوا: هذه بضاعتكم ردت إليكم ولكنهم قالوا: نحن حماتكم، وهذه نظم حقوقكم ، التي حفظوا من خلالها حقوق شعوبهم ، وأكرموا رعاياهم ، أما بالنسبة للمسلمين ،  والشعوب المنكوبة المظلومة  فلم يجدوا لها إلا فتات الحقوق ، يسترضونهم بها ، وما هم على رضاهم بمشفقين، ولا حريصين ، فالشجب والتنديد، ومجالس النقاش والتمطيط ، هو غاية ما عندهم تجاه قضايا المسلمين ، " ومن نكد الدنيا على الحر أن يجد قضاياه يقضيها عدو معاند " إن على الدائنين ، ومن بيدهم حقوق الناس أن يتأسوا برسول الله : ﴿ لقد كان لكم في رسول الله اسوة حسنة ، لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا ﴾ .

 

 

مصيبة المرض

 قد ينحرف الإنسان ، وقد يقع في خطأ، وقد ينسى الله ويغفل عنه، وقد يأكل المال الحرام ، فتأتي المصيبة كرسالة من الله والمرض من أبرز مصائب الدنيا ، ومن الحكمة ،أن الأمراض تصيب كل الناس، تصيب الملوك  والأغنياء والفقراء والأقوياء والضعفاء، ما يدل على أن المرض يصيب الجميع ويقهر كل واحد ، فما أصيب به عبد إلا بذنب قال تعالى : ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾   الشورى  30 ، ولا يرفع إلا بتوبة، جاء في الحديث القدسي عن أبي ذَرّ رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال : ( يا عبادي، لو أنَّ أوَّلكم وآخرَكم، وإنسَكم وجِنَّكم   قاموا في صعيد واحد، فسألوني فأعطيتُ كُلَّ إنسان مسألتَه، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما يَنْقُص المِخْيَطُ إذا أُدِخلَ البحرَ، يا عبادي، إنما هي أعمالُكم أُحصيها لكم، ثم أُوفّيكم إيَّاها، فمن وَجَدَ خيراً فليَحْمَدِ الله، ومن وجد غير ذلك فلا يَلُومَنَّ إلا نَفْسَه ) وهو يكفر السيئات ، ففي الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم : ( ما يُصيب المؤمنَ من وَصَب، ولا نَصَب، ولا سَقَم، ولا حَزَن، حتى الهم يَهُمُّه، إلا كَفَّر الله به سيئاته ) وتكفر الخطايا: ( ما يَزَالُ البلاء بالمؤمن والمؤْمِنة، في نَفْسِهِ وولده ومالِه حتى يلقَى الله ومَا عَلَيه من خطيئة )حديث صحيح، أخرجه الترمذي ، وإذا كان للعبد ذنوب ولم يكن له ما يكفرها ، ابتلاه الله بالحزن أو المرض، وهذه بشارة من الله لأن مرارة ساعة في الدنيا، خير من احتمال عذاب الآخرة إلى الأبد ، ولذلك قال بعض السلف:" لولا المصائب لوردنا الآخرة مفاليس " لأن المصائب تسوق إلى طاعة الله  ،كما تدعو إلى التوبة، ويعقبها من اللذة والمسرة في الآخرة أضعاف لذة الدنيا ومسرتها ، حتى يتمنى الناس يوم القيامة أن جلودهم كانت تقرض بالمقاريض في الدنيا بما يرون من ثواب أهل البلاء ، وإذا نزل بالعبد مرض أو مصيبة فحمد الله عليها، بني الله له بيت الحمد في الجنة ، وحين يأخذ الله من مؤمن بعض صحته، يعوضه أضعافاً مضاعفة بالقرب منه، لأن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة  ، إنها جنة القرب من الله عز وجل ، والمرض أكبر باعث على القرب من الله   ورد في بعض الآثار: ( أنا عند المنكسرة قلوبهم ) وبالمرض يعرف صبر العبد، فإذا وجد الصبر وجد معه كل خير، وإذا فقد فقد معه كل خير، والمرض من المصائب  والمصائب مِحَكّ الرجال، عن أنس رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:( إنَّ عِظَم الجزاءِ مع عِظَم البلاء، وإنَّ الله تعالى إذا أحبَّ قوماً ابتلاهم، فَمَن رَضيَ فله الرِّضى، ومن سَخِطَ فله السَّخَطُ ) أخرجه الترمذي بإسناد حسن ، فإذا صبر العبد كتب في ديوان الصابرين، وإن أحدث له المرض رضىً ،كتب في ديوان الراضين ، أخرج مسلم في صحيحه: عن صهيب رضي الله عنه، أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: ( عَجَباً لأمر المؤمن إنَّ أمْرَه كُلَّه له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابتْه سَرَّاءُ شكر فكان خيراً له، وإن أصابتْه ضرَّاءُ صَبَر، فكان خيراً له )  وإذا نزل بالعبد الضر ، ألجأه الله إلى الخوف ، والخوف يلجئه إلى دعاء الله بدليل قوله تعالى : ﴿ وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ ﴾  فصلت 51 ، والمرض يدفع إلى التوبة والإنابة ، وقد قال الإمام علي رضي الله عنه: "الرضى بمكروه القضاء أرفع درجات اليقين ".  والمرض يحجِّم العبد ، لأنه لو أنه بقي صحيحاً قوياً ، لبغى وتكبر والله يسلط على بعض المؤمنين الذين ينتابهم الضعف ، الأسقام والآفات ، لأن الإنسان لا يعرف حقيقة العبودية إلا إذا شعر بضعفه  ولو جعله قوياً صحيحاً طوال حياته لاستغنى بقوته عن الله ولشقي باستغنائه ، لكنه حين يمرض يعرف حجمه ويعرف افتقاره إلى الله عز وجل ، وإذا أراد الله بعبد خيراً ، سقاه دواءً من الابتلاء ينقيه ، ورد في  الحديث القدسي : ( أن العبد إذا دعا لأخيه المبتلى فقال: يا رب ارحمه يقول الله: كيف أرحمه مما أنا به أرحمه، وعزتي وجلالي إن أردت أن أرحم عبداً ابتليته بكل سيئة كان عملها سقماً في جسده، أو إقتاراً في رزقه، أو مصيبة في ماله، أو ولده، حتى أبلغ منه مثل الذر، فإذا بقي عليه شيء شددت عليه سكرات الموت حتى يلقاني كيوم ولدته أمه )  

 فالمرض علامة على أن الله أراد صاحبه بالخير، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( مَنْ يُرِدِ الله به خيراً يُصِبْ منه ) حديث صحيح أخرجه البخاري ، فما من أحد من الناس يصاب بالبلاء في جسده، إلا أمر الله عز وجل الملائكة الذين يحفظونه أن يكتبوا ما كان يعمل وهو معافى، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما من مسلم يصاب ببلاء في جسده، إلا أمر الله الحفظة الذين يحفظونه: أن اكتبوا لعبدي في كل يوم وليلة من الخير على ما كان يعمل ما دام محبوساً في وثاقي ) حديث صحيح، أخرجه الحاكم في المستدرك ، وإذا كان للعبد منزلة في الجنة، ولم يبلغها بعمله ابتلاه الله في جسده: ( إن الرجل ليكون له عند الله المنزلة، فما يبلغها بعمل، فما يزال الله يبتليه بما يكره حتى يبلغه إياها )حديث صحيح أخرجه الحاكم في المستدرك . 

مفهوم الــــتـوبـــة

التوبة : رجوعٌ إلى الله بسبب المعاصي والذنوب أو المخالفات والتقصيرات ، وقد أمر الله بها وندب إليها فقال تعالى : ﴿ وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون ﴾ النور 31 ، والتائب من المحبوبين عند الله  قال تعالى : ﴿ إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ﴾البقرة 222 ومن لم يتب فهو من الظالمين قال تعالى : ﴿ بئس لاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون ﴾الحجرات 11،ومن  تاب يفرح به النبي صلى الله عليه وسلم ، ويفرح به الله تعالى ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لله اشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه ، من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة ، فانفلتت منه  وعليها طعامه وشرابه ، فأيس منها ، فأتى شجرة  فاضطجع في ظلها ، وقد أيس من راحلته  فينما هو كذلك ، إذا هو بها قائمة عنده  فأخذ بخطامها ، ثم قال من شدة الفرح : اللهم أنت عبدي وأنا ربك ، أخطأ من شدة الفرح ) رواه مسلم وهو متفق عليه  ، وإطلاق الفرح في حق الله مجازُ عن رضاه ، وقد شُرعت التوبة ، وقايةً للمجتمع من الأذى والشرِّ    فلو كان الذنب الواحد يُخَلِّدُ في النار ، ولا توبة بعده ، لتجبر العصاة و،ازدادوا شرّا  ولأُصيب المجتمع كله بشرورهم ، وليئس الناس من آخرتهم ، لذا جاءت الدعوة من الله ، ألاّ نيأس من رحمته فقال سبحانه : ﴿ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ، إن الله يغفر الذنوب جميعا ، إنه هو الغفور الرحيم ﴾ الزمر 53 . لذا شرع الله لنا التوبة ، ليرحمنا من الأذى والمعصية . قال تعالى :﴿إنما التوبة للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب ﴾ النساء 17. والسوء : هو الأمر المنهي عنه من الله ، وأما الجهالة فقد أجمَع أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم كما روى عن قتادة : على أن كل شيء عُصي الله به فهو جهالة ، عمداً كان أو غيره  والتوبة: تشمل كل أنواع السوء والمعاصي   وكل من عصى ربه فهو جاهل ، حتى ينزع من معصيته ويندم ، ويُعذِّب نفسه ، أما من يخطط لفعل المنكر ، وارتكاب الفحشاء  ويصرُّ على السوء ، ويتفاخر ولا يندم على ما فعل ، فهذا لا يغفر الله له ، إن استمر على حاله حتى شارف على الموت ، وقد نبه الرسول صلى الله عليه وسلم  إلى ذلك بقوله :(إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر )رواه أحمد والترمذي، وفي هذا يقول الله سبحانه : ﴿وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت فال إني تبت الآن ﴾النساء 18، وعلى المسلم أن يجتنب التسويف في التوبة ، ففي الخبر: ( هلك المسوفون )  وإذا كانت التوبة واجبة ، كان ما لا يتوصل إليها إلا به واجباً ، ومعرفة الذنوب واجبة  والذنب : عبارة عن كل ما هو مخالف لأمر الله تعالى في ترك أو فعل ، والذنوب صغائر وكبائر ، بدليل قوله تعالى : ﴿ إن تتجنبوا كبائر ما تنهون عنه نُكَفِّر عنكم سيئاتكم ﴾النساء 31 وقوله تعالى :﴿ الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم ﴾النجم 23 ، ولا يجوز للإنسان أن يتجاوز عن أخطائه ، ويقول: هذه صغيرة وتلك صغيرة ، لأن الصغيرة بالإصرار والمواظبة تكبر ، ففي الحديث أن رسول الله  صلى الله عليه وسلم  قال : ( لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار ) أخرجه الطبراني ورواه البيهقي ، وحين ننظر إلى قوله تعالى : ﴿ والذين إذا فعلوا فاحشةً أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ﴾ آل عمران 135 . نجد أن الذي فعل الفاحشة ، ظالم لنفسه  ، لأنه حقق لنفسه شهوة عارضة  وأبقى على نفسه عذاباً خالدا ، أما لماذا لم يقل الله الذين ظلموا أنفسهم فقط ؟ والعطف بأو لا بالواو ، ذلك لأن الله يريد أن يوضِّح لنا الاختلاف ، بين فعل الفاحشة وظلم النفس ، فالذي يفعل الفاحشة ، إنما يحقق لنفسه شهوة ولو عاجلة ، لكن الذي يظلم نفسه يذنب الذنب ، ولا يعود عليه شيء من النفع ، فالذي يشهد الزور مثلاً ، لا يحقق لنفسه النفع ، لأن النفع يعود للمشهود له زورا ، وشاهد الزور هنا ظلم نفسه ، لأنه لبى حاجة عاجلة لغيره ، ولم ينقذ نفسه من عذاب الآخرة ، أما الإنسان الذي يرتكب الفاحشة ، فقد أخذ متعته في الدنيا ، وبعد ذلك ينال العقاب في الآخرة ، والظالم لنفسه  لا يفيد نفسه ، كمن باع دينه بدنيا غيره . وأما قول الله تعالى :﴿ فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ﴾ معنى الذنب هنا كما قال الشعراوي : هو المخالفة لتوجيه المنهج  جاء الأمر من المنهج ، ولم ينفذ الأمر ، ذلك تقنين السماء ، أما في مجال التقنين البشري فنقول : لا تجريم إلا بنص ، ولا عقوبة إلا بتجريم ، وهذا يعني ضرورة إيضاح ما يعتبر جريمة ، حتى يمكن أن يحدث العقاب عليها  ولا تكون هناك جريمة ، إلا بنص عليها ، أي يتم النص على الجريمة ، قبل أن ينص على العقوبة ، فما بالنا إذا كان المنهج من عند الله ؟ إنه يعرِّفنا الذنوب أولاً ، وبعد ذلك يحدد العقوبات التي يستحقها مرتكب الذنب  ومن هنا كان قوله تعالى : ﴿ ولم يصرّوا على ما فعلوا وهم يعلمون﴾ آل عمران 135 ، فالاستغفار إذن  ليس أن تردف الذنب بقولك : أستغفر الله فقط ، روى جابر أن أعرابياً دخل مسجد رسول الله ًصلى الله عليه وسلم وقال : اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك وكبَّر ، فلما فرغ من صلاته ، قال له علي رضي الله عنه : يا هذا إن سرعة اللسان بالاستغفار توبة الكذابين ، وتوبتك هذه تحتاج إلى التوبة  فقال يا أمير المؤمنين وما التوبة ؟ قال : هي اسمٌ يقع على ستة معانٍ : على الماضي من الذنوب الندامة ، ولتضييع الفرائض الإعادة  ورد المظالم ، وإذابة النفس في الطاعة كما ربيتها في المعصية ، وإذاقتها مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية , والبكاء بدل كل ضحكٍ ضحكته "، إذن على الإنسان أن يردف الذنب بقوله : استغفر الله ، وأن يصرّ على ألا يفعل الذنب أبدا ، وليس معنى هذا ألا يقع الذنب مرَّةً أخرى ، فالذنب قد يقع من الإنسان ، ولكن ساعة أن يستغفر ، يصرُّ على عدم العودة ، وبشرط ألا يكون بنيةٍ مسبقة ، كأن يقول الإنسان ، سأرتكب الذنب وأستغفر لنفسي بعد ذلك ، فهذا كالمستهزئ بربه ، وهذا ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : (التائب من الذنب وهو مقيمٌ عليه كالمستهزئ بربه )    أما هل يعود إثم الذنب الذي تاب منه ثم عاد إليه ؟ قيل يعود إليه إثم الذنب الأول  لفساد التوبة وبطلانها بالمعاودة ، لأن التوبة من الذنب بمنـزلة الإسلام من الكفر ، فالكافر إذا أسلم ، هدم إسلامه ما قبله من الإثم وتوابعه ، فإذا ارتد ، عاد إليه الإثم الأول مع إثم الردة . كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أحسن في الإسلام أُخذ بالأول والآخر) .

قد يسأل سائل : إذا حيل بين العاصي وأسباب المعصية ، وعجز عن المعصية ، فهل تصح توبته ؟ فقد قيل لا تصح توبته ، لأن التوبة إنما تكون ممن يمكنه الفعل والترك . وقد سميت بتوبة المفاليس ، وأما حقوق الناس  فإن التائب يغفر له ، إما بأدائه أو الاستحلال بعد الإعلام ، لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (من كان لأخيه عنده مظلمة ، من مال أو عرض فليتحلله اليوم ، قبل أن لا يكون دينار ولا درهم ، إلا الحسنات والسيئات ) . وأن يبدأ قبل كل شيء ، بتأدية حقوق الناس ، ورد ظلامتهم ، فإن اغتصب رد ما اغتصبه ، وإن أساء طلب السماحة .

والتوبة : تكون إما عن الكبائر كلها أو عن بعضها ، بخلاف الصغائر، لأنها أقرب إلى تطرق العفو إليها ، أما من تعذَّرَ عليه أداء الحق المترتب عليه ، فإن كان في حق الله  كمن ترك الصلاة عمدا من غير عذر، فتوبته بالندم ، والاشتغال بأداء الفرائض المستأنفة  وقضاء الفرائض المتروكة .

أما حقوق العباد : فإن كانت أموالاً ، ردها إلى أصحابها ، فإن تعذَّر ذلك ، تصدق بتلك الأموال عن أصحابها ، ويوم الحساب  يُخيَّرُ بين أن تكون له أجورها ، أو يأخذ من حسنات التائب بقدر أمواله . لما روى عن ابن مسعود أنه اشترى من رجل جاريه   ودخل يزن له الثمن ، فذهب رب الجارية  فانتظره حتى يئس من عودته ، فتصدق بالثمن  وقال : "اللهم هذا عن رب الجارية  فإن رضي فالأجر له ، وإن أبى فالأجر لي  وله من حسناتي بقدره" .   

وأما توبة من اختلط ماله الحلال بالحرام  وتعذَّر عليه تمييزه ، فإنه يتصدَّقُ بقدر الحرام ويُطَيِبُ باقي ماله . وقد اتفق الجمهور ، على أن التوبة ،  تأتي على كل ذنب ، لحديث رسول الله صلى الله علي وسلم فيما يرويه عن ربه : ( ابن آدم لو لقيتني بقراب الأرض خطايا ، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لقيتك بقرابها مغفرة ) ، أما هل تصح توبة العاجز عن اقتراف الذنب ؟ لا تصح ، لأن التوبة عبارة عن ندم ، يبعثُ العزم على الترك ، فيما يقدر على فعله ، لأن مالا يقدر على فعله انعدم بنفسه لا بتركه إياه .                         

وهل تصح التوبة من ذنب مع الإصرار على غيره؟ حكى النووي الإجماع على صحة ذلك  لأن التوبة من الله سبحانه ، هي فتح المجال لرجوع الإنسان الذي انحرف ، والله حين شرع التوبة ، وفتح باباً لها ، إنما يريد أن يجعل للإنسان العذر في الغفلة أو النسيان أو الضعف ، الذي قد يصيب النفس الإنسانية فتعصي ، ولكن ذلك لا يعني أن يتمادى الإنسان في المعصية ، لأن صحة التوبة متوقفة على العزم على الفرار إلى الله والرجوع إليه  وهنا سؤال : هل يصح أن تتبعض التوبة كالمعصية ، فيكون تائباً من وجه دون وجه كالإيمان والإسلام ؟ الراجع صحة ذلك   كما لو أتى الإنسان بفرض ، وترك فرضاً آخر ، فإنه يستحق العقوبة على ما تَرَكَه   دون ما فَعَلَه ، فكذلك إذا تاب من ذنب وأصر على الآخر ، فقد أدى أحد الفرضين وترك الآخر ، فإن ما تَرَكَ لا يكون موجباً لبطلان ما فعل ، كمن تَرَكَ الحج وأتى بالصلاة والصيام والزكاة .

ذكر ابن القيم في مدارج السالكين : بأن التوبة لا تصح من ذنب ، مع الإصرار على آخر من نوعه ، أما التوبة من ذنب مع مباشرة آخر لا صلة له به ، ولا هو من نوعه  فذلك صحيح  ،كمن تاب من الربا ولم يتب من شرب الخمر .

وهل يشترط في صحة التوبة أن لا يعود إلى الذنب أم ليس ذلك بشرط ؟ ذهب أكثر العلماء إلى:  أن ذلك ليس بشرط ، لأن صحة التوبة ،تتوقف على الإقلاع عن الذنب والندم عليه ، والعزم الجازم على ترك معاودته ، وباب التوبة مفتوح في كل لحظه  فإذا ما اخطأ العبد فإن رحمة الله ، تمنحه البر والعافية والمغفِرةَ  قال تعالى : ﴿ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله . إن الله يغفرُ الذنوب جميعا . إنه هو الغفورٌ الرحيم ﴾ الزمر 53 . فليتوجه الإنسان المخطئ إلى ربه ، حتى يفتح له بابه ، ويتقبله بين عباده ، ويمنحه رحمته وعفوه ، وليطرق بابه كل مُسيء ، وألا يقنط وييأس من روح الله . قال تعالى:﴿ ولا تيأسوا من روح الله . إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ﴾ يوسف 87 ، ويذهب الإسلام في هذا مذهباً بعيدا ، حتى ليحسبه الجاهل عند النظرة السريعة ،يُزَيِّنُ للناس الخطيئة ، ليتوبوا منها  قال ًصلى الله عليه وسلم:(كلُّ بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون ) ، وقال : (والذي نفسي بيده لو لم تُذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يُذنبون ويستغفرون فيغفر لهم )رواه مسلم . إنه لا يُزَيِّنُ الخطيئة هنا ، ولكن يُيَسِّرُ التوبة  التي حض عليها بقوله : ﴿ يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبةً نصوحا ﴾ التحريم 8 .       

 

 

 

 

 

شكل الولاية بين المسلمين والكفار

نهى الله أن يكون بين المسلمين وبين اليهود والنصارى ، ولاية تناصر وتحالف وتعاون   لأن القرآن الكريم ، يقرر أن أهل الكتاب   بعضهم أولياء بعض ، في حرب المسلمين   لأنهم لن يرضوا عن المسلم ، إلا أن يترك دينه ويتبع دينهم ، ويتحالفون مع من يحارب المسلمين ، وهذا ما لا يدركه من يقولون أننا   نتحالف مع أهل الكتاب ، للوقوف في وجه الإرهاب ، ناسين تعاليم القرآن ، وحقائق التاريخ ، فقد ذكر القرآن ، أنهم كانوا يقولون للذين كفروا من المشركين : ﴿هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً﴾ وقد ألبوا المشركين على المسلمين ، على مدار التاريخ   وكانوا درعاً لهم ، وهم الذين شنوا الحروب الصليبية ، وهم الذين ارتكبوا فظائع الأندلس   وهم الذي شردوا أهل فلسطين ، وهم الذين يشردون المسلمين في كل مكان ، ويتعاونون في هذا التشريد ، مع الإلحاد والمادية والوثنية     ثم يأتي من يقول : أنه يمكن أن يقوم بيننا وبينهم ولاء ، وتحالف وتناصر ، حتى ندفع خطر الإرهاب، وكأنهم ما قرأوا القرآن   الذي نهى أن يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء   وكأن الإسلام ، لا يعيش في حسهم ، لا بوصفه عقيدة ، لا يقبل الله من الناس غيرها   ولا بوصفه دعوة ، تستهدف إنشاء واقع جديد في الأرض؛ تقف في وجه عداء الكافرين والملحدين ، موقفاً لا يمكن تبديله   لأن القرآن نص عليه : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ المائدة 51 . وإذا كان اليهود والنصارى ، بعضهم أولياء بعض  فإنه لا يتولاهم ، إلا من هو منهم ، والذي يتولاهم من المسلمين ، يخرج من الصف المسلم ، وينضم إلى صفهم : ﴿وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾ ومن يتولاهم يكون ظالماً لنفسه ، ولدين الله وللمسلمين ، ولا يهتدي إلى الحق : ﴿ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ إنه تحذير عنيف للمسلمين ، لأنه لا يمكن أن يمنح المسلم ولاءه لليهود والنصارى ، ثم يبقى له إسلامه وإيمانه ، لأنه ليس للمسلم ، ولاء ولا حلف ، إلا مع المسلم ; ولا ولاء  له إلا لله ولرسوله وللمسلمين ، والإسلام يكلف المسلم أن   يقيم علاقاته مع الناس ، على أساس العقيدة   لأن الإسلام جاء ليصحح اعتقادات الناس   ودعاهم إلى الإسلام ، فإن تولوا عنه فهم كافرون ، وها نحن نرى من يتجاهل الآيات التي تنهى عن اتِّخاذ الكافرين أولياءَ من دون المؤمنين ، ويتحالف معهم ويطلب معونتهم قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾النساء 144  

ولئن كانت ولايتهم ، التي تعني التناصر والتحالف معهم ، الذي يحسبه بعض المسلمين جائزا ، بحكم ما يقع بين الناس ، من تشابك المصالح والأواصر، والذي يتخذ في عصرنا الحاضر صورا شتى ، عند بعض الناس ، من أولئك الذين هم من بني جلدتنا ، ويتكلمون لغتنا ، ويزعمون أنهم على ديننا ، ولكنهم صنيعة من صنائع الكفار ، صنعوهم على أعينهم ، وربوهم تربية غربية خالصة في التفكير والسلوك ، فكانوا نموذجا لطليعة التغريب ، وأمثلة للغزو الفكري ، وأداة التقريب ، بين الكفار والمسلمين .  

لقد أباح الله لنا ، اتخاذ أولياء من الكفار ، في حالة أن نتقى منهم تقاة ، والمراد أن نأخذ منهم أسباب الحذر ، حتى لا يعتدوا علينا  وفى هذا قال تعالى : ﴿ لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ﴾ آل عمران . هذه الحالة المستثناة ، لا تكون إلا إذا كان المسلم ، تحت سلطان الكافر ، مغلوبًا على أمره ، أي أن الحذر من الكافر ، يجيز موالاته في تلك الحالة فقط، فإذا ذهب الحذر ، حَرُمت الموالاة ، بجميع أشكالها ومظاهرها ، وعلى ذلك فإن القضية ليست إظهار الموالاة ، وإبطان غيرها  بل القضية استثناء حالة حَذَر المؤمن من الكافر   حين يكون المسلم مغلوبًا على أمره، مقيماً تحت سلطان الكافر ، وفي الآية نَهْيُ مُغَلَّظ جازم للمؤمنين ، أن يتخذوا الكافرين أولياء لهم، وأن يدخلوا معهم في حلف عسكري ضد المسلمين   أو يؤجروهم قواعد عسكرية، أو يقاتلوا معهم تحت رايتهم ، وأن يستعينوا بهم على المسلمين    ويلتجئوا إليهم ضد المؤمنين، وأن ينصروهم على أهل الإسلام ، فحرّم على المؤمنين ، موالاة الكافرين من دون المؤمنين ، ثم استثنى من ذلك حالة واحدة فقط ، وهي حالة وجود الخوف منهم ، عندما يكون المسلمون ، مقهورين من الكفار ، وتحت سلطانهم ، فإنه يجوز إظهار المسالمة لهم ، ومصادقتهم لدفع شرهم وأذاهم   بهذا المعنى المحدود، وفي حدود الضرورة أو الحاجة فقط، مع بقاء الحرمة المغلظة ، لإعانتهم أو نصرتهم أو محالفتهم ضد المسلمين بقول أو فعل.  

وإذا انضم المسلم إلى لواء الكفار ، ليقاتل معهم المسلمين ، فهذا من أعظم صور الموالاة على الإطلاق، وهو خيانة عظمى لله ورسوله والمؤمنين ، وحتى إن أمكن إحضار المسلم إلى صف القتال مكرهاً، لم يجز له قصد المسلمين بالقتل، بل يتعمد أن يخطيء فلا يصيبهم  وهذا في معركة القتال ممكن ، وعلى كل حال ، لا يجوز أن ينقذ نفسه ، بقتل غيره من المعصومين، كما نص عليه شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية، مصيباً للحق في هذه المسألة  موافقاً لجمهور العلماء ،بل للإجماع : حيث قال في الفتاوى الكبرى " فلا ريب أن هذا يجب عليه ، إذا أكره على الحضور ، أن لا يقاتل ، وإن قتله المسلمون ، كما لو أكرهه الكفار ، على حضور صفهم ، ليقاتل المسلمين، وكما لو أكْرَه رجلٌ رجلاً على قتل مسلم معصوم ، فإنه لا يجوز له قتله   باتفاق المسلمين " .

 وقد أشار القرآن الكريم إلى أن موالاة الأعداء، إنما تنشأ عن مرض في القلوب   يدفع أصحابها إلى هذه الذلة ، التي تظهر بموالاة الأعداء، فقال تعالى: ﴿ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ ﴾المائدة ٥٢ .  

 فالواجب على المسلمين حكامًا ومحكومين  أن يمتثلوا أمر ربهم ، ويقيموا شرعه، ويقيموا العدل بينهم، فإن لم يُجْدِ النصح والحوار مع أهل البغي والغلو، ولم يندفع شرهم إلا بقتالهم؛ فإن من يتولى ذلك القتال ، هم أهل الإسلام وحدهم؛ في ضوء مقاصد السياسة الشـرعية ، وفقه المصالح والمفاسد  ولا يجوز الاستعانة بغير أهل الإسلام في ذلك القتال.

 مفهوم الأمن والأمان

 يتحدث الناس عن الأمن والأمان والاستقرار  الذي لا يتحقق إلا بالحفاظ على العقيدة السليمة الصحيحة ، التي تؤدي إلى ارتباط المسلم بربه   ارتباطا وثيقا ، بعيداً عن الممارسات الخاطئة ، في تطبيق الشريعة الإسلامية وتعاليمها ، قال تعالى : ﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُون ﴾ الأنعام 82 ، وقال صلى الله عليه وسلم  :  ( من أُعطي فشكر ومُنِع فصبر وظَلَم فاستغفر وظُلِم فغفر، وسكت ، قال : فقالوا : يا رسول الله ما له ؟ قال: أولئك لهم الأمن وهم مهتدون ) رواه ابن كثير في تفسير هذه الآية ، إذاً ليس كل من ادعى الإيمان   له الأمن الموعود من الله , إلا بشرط ألاّ يخلط ذلك الإيمان بشرك أو بمعصية من الكبائر ، والأمن في العرف : اطمئنان النفس وزوال الخوف   وينقسم الأمن إلى قسمين : أمن في الدنيا : ويتحقق على الصعيد الفردي والاجتماعي بمختلف الأشكال الحياتية : من سياسية   وعسكرية، واقتصادية   وتعليمية ، واجتماعية   وأمن في الآخرة : وهو الاطمئنان بعدم العذاب في جهنم ، وهذا خاص بالمؤمنين ، الذين عملوا الصالحات ، وقد وعد الله أن يستخلفهم في الأرض، ويمكن لهم فيها، كما مكن لمن قبلهم   ممن عمل عملهم، واستقام على الإيمان والعمل الصالح، وأدى حق الله، وطبق شرعه ، قال تعالى : ﴿ وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من فبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً ﴾ النور 55، وما ذلك إلا بسبب إيمانهم وعملهم الصالح ، وقد ذكروا أن الخوف من العوامل التي تدفع الإنسان إلى تحقيق الأمن   ومن هنا قالوا :" نعم مطية الأمن الخوف ." والأمن من أهم أسس ومقومات المجتمع الإسلامي، فقد روى عن الإمام جعفر الصادق :" ثلاثة أشياء يحتاج إليها جميع الناس ؛ الأمن والعدل والخصب ." فبالعدل تطمئن النفوس وتستقر البلاد , وبالعدل تصان الحقوق وينـتصف الناس . وبالخصب يُقضى على الفقر والعوز " وإن شر البلاد بلد لا أمن فيه , فإذا انتشر الأمن بين الناس ، زادت الحركة الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع ، وعلت سياسة دولته بين الدول ، ولذلك فإن الإسلام ينظر إلى استتباب الأمن في المجتمعات ، على أنه من أقدس الأهداف الإنسانية ، التي يوفق الله بها عباده الصالحين ،كي ينالوا رضاه ويفوزوا بجنته .   

ولذلك فإن الدعوة إلى الأمن ، توجيه إسلامي لإقامة علاقات طيبة ، وحسنة بين الناس وإصلاح ذات بينهم، وإغاثة الضعيف وإنصاف المظلوم ، وإغاثة الخائف ، ونجدة الملهوف، ونصرة الحق، وردع المجرم، لأن الحياة لا تهنأ بغير أمن ، والمجتمع لا يستقر بدون أمن ، فإذا ساد الأمن اطمأنت النفوس وانصرفت إلى العمل المثمر ، وساد العدل بين الناس ، فالأمن غاية العدل ، والعدل سبيل للأمن ، وإذا كان العدل يقتضي تحكيم الشرع ، والحكم بميزانه ، والشرع ما نزل إلا لتحقيق الأمن في الحياة، وغياب العدل يؤدي إلى غياب الأمن ، ولذا فإن الحكمة الجامعة تقول: "إن واجبات الدولة تنحصر في أمرين هما:  عمران البلاد وأمن العباد ".

هناك من يقول بضرورة توفير الأمن ، كلمة حق يراد بها باطل ، فقد بتنا نسمعها في كثير من المناسبات ، بغية خلط الأوراق والتلبيس    ليوهموا الناس ، بان احتلال بلاد المسلمين   ليس فقدانا للأمن ، كما انه ليس من الأولويات ، التي يجب أن يضعها الناس في حساباتهم، بل إنهم زعموا ، أن وجود الأعداء وبقاءه في بلدانهم ، هو سبب استتباب الأمن   مما يدل على أنهم لا يفكرون إلا بأمنهم ، ولو أدى ذلك إلى ضياع البلاد والعباد ، والتنازل عن دينهم ومبادئهم، غير مبالين بما يحصل للمسلمين ، من نكبات على أيدي الكفار والطامعين ، ويغمضون أعينهم عما يفعله أعداء الأمة ، من تدمير لأمن المسلمين ، مع أن الواجب شرعا وعقلا ، أن نقول الإسلام أولا ، وليس الأمن أولا، فلا أمن من غير إيمان، وما فائدة أن يكون الإنسان آمنا في بيته   وبلده محتل من قبل الأجنبي؟ وما الطائل من أمنه الشخصي ، ودينه مهدد بالزوال ، على أيدي أعداءه ، المهيمنين على مقدرات حياته؟ فالأمن الحقيقي إذن ، هو في ظل الإسلام   وفي طاعة الله ، وترك معاصيه، ولا بقاء لأمن   إذا ابتعد الناس عن ربهم ، وقابلوا نعم الله بالكفر والمعصية ،لأن كثرة المعاصي ، وتحكيم القوانين الوضعية ، هو إيذان بذهاب الأمن وزواله ، وحلول الخوف محله، وما البلايا والمصائب ، إلا صورة من صور العذاب   الذي يحل بالناس ، الذين ارتكبوا الذنوب والمعاصي ، وأمِنوا مكر الله ﴿ فلا يأمنُ مكرَ الله إلا القومُ الخاسرون﴾الأعراف 99 ، فمن ذا الذي يمنّ بالنعم على الناس ، ومنها نعمة الأمن أليس هو الله تعالى؟ ألم يقل الله ﴿ الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ﴾قريش4 أليس هو المعطي ، وهو المانع، فلماذا إذن لا يطلب الأمن من معطيه ، وهو الله ؟ ولماذا نطلبه من غيره؟ ولماذا نجعله مقصورا على الأمور الشخصية ، ونتغاضى عن الأمن الأكبر ، وهو أمن الدين؟ فالأمن الذي يتحدث عنه أعداء الله ، والسائرون في ركابهم ، هو أمن شكلي   ولا يلبث أن يزول ، لان عوامل بقاءه غير موجودة، ويكفي أن ننظر إلى العد التنازلي للمفهوم الأمني ، بمعناه الضيق لدى    كثير من الدول ، بسبب شيوع الفساد   وانتشار الرذيلة ، والفواحش في مجتمعاتهم   مع أنهم يبذلون أموالا طائلة ، لتامين أمنهم   ولكن من غير نتيجة، إذ كيف يستتب الأمن في بلد ما ، وهو محتل من فبل الأعداء؟ وأنّى للأمن في بلد ، قد نحيت شريعة الإسلام فيه جانبا؟ وكيف يتأتى الأمن في بلدٍ ، أغرقت الخمور أسواقه ، والربا تعاملاته ، حتى صار الناس لا يعرفون أحلالا يأكلون أم حراما؟ علماً بأن الأمن ، لا يكون إلا لمن استقام على أمر الله  وطبق شرعه ، وأنصف المظلوم من الظالم، وأقام حدود الله ، بذلك تنعم البلاد بالأمن والأمان  والراحة والطمأنينة، والحياة الكريمة، تحقيقاً لما وعد الله به عباده ، وهذا واضح لمن عرف أحوال العالم ، ودرس أحوال الدول الموجودة، والبائدة ﴿ وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ ﴾ النحل 112. نعمة عظيمة من الله  حينما يُلَبِسُ الله الأمة    لباس الأمن والأمان، عقوبة إلهية شديدة ، حينما تُلَبََّسُ الأمة لباس الخوف ، والألم والقلق ، وعدم الاستقرار ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴾ البقرة 155 إن الناس ليتحملون قلة الطعام وشحه،ويتعايشون مع قلة الأموال والأرزاق ، ولكنهم لا يطمئنون ولا يتعايشون في أرض ، لا أمن فيها ولا استقرار ، لأن الخير والرخاء ، يعم ويسود في ظلال الأمن ، وتجد الدعوة طريقها ، وتظهر ثمارها ، وإذا تزعزع الأمن واختل ، سادت الفوضى ، وانتشر الفساد وعم الشر ، وهنا نتساءل : كيف يمكن تطبيق الأمن ونشره بين العباد ؟ وكيف نحافظ على أمننا   لنعيش في هدوء وسعادة ؟ ومن هم الموعودون بالأمن والأمان من الله ؟ ومن هم الذي يأمنون في الدنيا والآخرة ؟ إنهم المؤمنون الصادقون المخلصون لله ، الذين آمنوا بالله رباً وبالإسلام دينا ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً ، الذين جاهدوا في الله حق جهاده ، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ، وقاموا بالعبودية لله حق قيام ، فوالوا أولياءه ، وعادوا أعدائه ، وأحبوا في الله   وأبغضوا في الله ، الذين كلما زادت الفتن ، زادوا رجوعاً إلى الله ، وإقبالاً عليه ، أولئك هم أهل الأمن ﴿ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ ﴾الأنعام 81 .   

أفيكون المؤمنون الصادقون كما يقال ، هم مصدر القلق والخوف ، وإبعاد الأمن ؟ أفيكون الإيمان بالله وتطبيق شرعه ، والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، سبباً في الفوضى وتسلط الأعداء ؟ أم يكون دعاة التقريب ، وأهل العلمنة ، وأتباع الاستعمار ، هم مصدر الأمن ؟  ويكون المؤمنون المتبعون لشرع الله ، هم مصدر القلق ، وعدم الاستقرار كما يقولون ؟ نعم يكون هذا ، عندما تنقلب الموازين ، ويطلب المنافقون الأمان ، بالثورة على تعاليم الدين ، وموالاة أعداء الله ، ومعاداة أولياءه ، يكون هذا عندما نستمع لنعيق الناعقين ، وأصوات المنافقين ، يكون هذا ونحن نرى الثورة على تعاليم الإسلام ، ومبادئ الدين ، نراها ونحن نحمّل الدين أخطاء المخطئين  وأفعال المتسرعين ، وما علموا أن أفعالهم هي السبب في فقدان الأمن والأمان ، أما كان الأجدر بهم أن يعودوا إلى دينهم ، بدل أن ينقلبوا على الإيمان وأهله ، أما علموا أن الأمن والأمان   لا يبقى إلا بالإيمان والتقوى ، لا بالجبروت والقوة ، والاستهانة بدماء المسلمين ، وإراقتها في أوطانهم ، مما أفقدهم الأمن الاستقرار ، الذي يدعيه أصحاب تلك القوى ، التي تتباهى بانتصارات ، تزيد من الذل والطغيان للأمة الإسلامية ، وإحكام القبضة عليها ، وما ذلك إلا لضرب أي توجه نحو الإسلام وحكمه، وتنفيذ الخطط التي تهدف إلى تقسيم البلاد وظلم العباد   ﴿ فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ﴾الحج 46 .

 

 

 

كيف نحقق القيم الإسلامية ؟

القيم : صفات إنسانية إيجابية مضبوطة بضوابط الشريعة الإسلامية ،  ولها دور مهم في حياة الفرد والمجتمع ويبدو ، ذلك في انتقاء الأفراد الصالحين لبعض المهن، مثل رجال السياسة والدين ، وقد قامت عقيدة الإسلام وأفكاره ونظامه ، بصياغة سلوك كل الأفراد    بحيث يكون وراء كل فعل ، يفعله الإنسان قيمة تتحقق ، من خلال الأفعال، ولا يخلو أي فعل من الأفعال ، من دافع وهدف، وهناك أربعة من القيم لا خامس لها ، وهي القيمة المادية ، والقيمة الإنسانية ، والقيمة الأخلاقية والقيمة الروحية ، والعالم اليوم في حاجة إلى هذه القيم الحضارية التي تجعل الإنسان مسئولا عن كل ما يمكن أن يقترف من أفعال ، أما القيمة الروحية ، فهي تتمثل في العبادة والدعاء والإخلاص والصدق والوفاء والتسامح والعدل والإصلاح ، وتستند إلى القران والسنة ، وكلاهما يحث المسلم على التراحم والتعاطف وإشاعة الخير وحسن معاملة الناس ، ومجالات التدرب عليها   العبادات المختلفة ، الواجبة منها والمستحبة   لأن شعائر العبادات ، تعزز الصلةَ بالله .

والقيم الروحية ، تخاطب باطن الإنسان وكيانه الداخلي ، وخاصة القلب والنفس     أما بالنسبة للقلب قال تعالى : ﴿ ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شيء عليم ﴾ ويقول صلى الله عليه وسلم : ( ألا وإن الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب ) فالقلب سلطان الحواس وبمقدوره توجيهها ، نحو الخير أو نحو الشر  وأما النفس : فهي أنواع ، ومن أخبثها الأمارة بالسوء ، التي تزين لصاحبها الفاحشة وتدفعه إلى المعصية قال تعالى :﴿ وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي ﴾ ولا تستقيم هذه النفس ، إلا بتربيتها على الفضائل ، وإبعادها عن الخبائث ، لأنها دائمة الوسوسة للإنسان قال صلى الله عليه وسلم : ( إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم ) كما أرشدنا إلى تزكية النفس ، وتربيتها على صالح الأخلاق وتطهيرها من الخبائث والانحرافات قال تعالى : ﴿ ونفس وما سواها  فألهمها فجورها وتقواها . قد افلح من زكاها وقد خاب من دساها ﴾ فواجب المسلم ، تعويد نفسه على الخير والصلاح ، وقمع منافذ الشر والضلال طمعا في نيل رضى الله ، والفوز بنعيم الدنيا وثواب الآخرة . ولا يتحقق هذا للمسلم إلا بأداء الواجبات ، والإكثار من الطاعات وتجنب الفواحش والمنكرات ، وحب الخير للناس، وقد نبّه الإسلام إلى أن مخالطة الناس والصبر على أذاهم، والنصيحة لهم والعفو عنهم، والمسارعة إلى فعل الخير المفيد من مكارم الأخلاق، قال تعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ...﴾ آل عمران133 . ودعا إلى تجنب كل ما يسيء إلى أفراد المجتمع، من غيبة ونميمة وظلم واعتداء على الأنفس والأموال وقطيعة رحم وغرور وكبر قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ ﴾ الحجرات 11 والمتأمل في هذه النصوص يجد أن حسن الخلق مفتاح القيم الاجتماعية، قال صلى الله عليه وسلم : (إن من خياركم أحاسنكم أخلاقا ) مسلم . والإيمان بالله في كل ذلك قوة دافعة لفعل الخير ورادعة عن الشر، قال تعالى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجوهَكُمْ قبلَ المشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ﴾ البقرة 177.

وقد فصل رسول الله صلى الله عليه وسلم قيم التماسك الاجتماعي ورغب فيها، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : ( حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام وعيادة المريض واتباع الجنائز وإجابة الدعوة وتشميت العاطس ) البخاري ، وقال صلى الله عليه وسلم : ( أطعموا الجائع وعودوا المريض وفكّوا العاني)  رواه البخاري . ونهى صلى الله عليه وسلم عن كل ما يضر بالعلاقات الاجتماعية فقال: ( والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن"، قيل: ومن يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جارُه بوائقَه) البخاري .

إما القيمة المادية ، فقد ارشد الله الإنسان إلى وسائل تحقيق حاجاته المادية من غذاء وكساء وتطبيب وغير ذلك ، وفي توفر المصالح العامة   من الماء والكهرباء والأمن والمواصلات والصناعة والزراعة والصحة والتعليم، وموجبات العزة والكرامة والنهضة بشكل عام، وتحقيق الرفاهية، كل ذلك يعتبر من الإحتياجات الضرورية المادية.

 

أما على المستوى الدوْلي، فنهضة الدولة الواحدة من أهم مجريات القيم المادية التي تسعى لها الدول، وتواجه فيها الدول الأخرى، والتي تتحقق إبتداءً بحريتها وإستقلاليتها، وإنتهاءً بتحقيق الإكتفاء الذاتي وصناعة هيبتها بين دول العالم .

وحينما يعرض الإسلام نظريته الاقتصادية فإن ما يميزه عن غيره يكمن في منظومة القيم الموجهة للفعل الاقتصادي للمسلم  وعلاقتة  بالمال والإنفاق ، بأن يكون مسعاه ورزقه حلال وإنفاقه حلال ، ‏وانطلاقا من هذه القيمة رسم الإسلام نظاما متماسكا للتصرف في المال كسبا وإنفاقا، فأحل الله البيع، ودعا إلى الكد في كسب الرزق الحلال، فرخص في عقود الشركات والتجارة المبنية على التراضي الشرعي، وغير ذلك من ضروب الكسب، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ﴾ النساء 29 .ونظم الهبات والصدقات الواجبة والتطوعية؛ وحرم الربا والغش وغيرها من ضروب الكسب الحرام، مما يدل على أن المال مال الله والناس فيه مستخلفون فيه، وسيُسألون عن تصرفهم فيه حفظوا أم ضيعوا، قال صلى الله عليه وسلم : ( لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن علمه ما عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه) رواه الترمذي . وانطلاقا من نظرية الاستخلاف ركز الإسلام قيم حفظ الأمانة، وجعل الخيانة من آيات النفاق، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان" (متفق عليه). ورسم للمجتمع سياسة مالية تنفي الجشع والطمع والظلم والقهر وتضمن للناس توازنا في الكسب والإنفاق، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا﴾الفرقان 67 . وأقر صورا للتداول في المال حتى لا يكون فقط بين الأغنياء، ومن ذلك نظام الإرث والزكاة والوقف والهبة والصدقة    ونظم الوصايا حتى تحقق مقصدها وغايتها     ونهى عن الاحتكار والتبذير والإسراف وأكل مال اليتيم، ورغب في العمل المقرون بالعفة،  ودعا إلى تكافؤ الفرص في الكسب وتحفيز القادرين على العمل، واهتم بالقيم  الناظمة للسلوك الوقائي والصحي ، فنهى الإسلام عن كل ما يضر بالصحة الجسمية والنفسية من مخدرات وخمر وكافة المهلكات، ودعا إلى ممارسة الرياضة البدنية ، لأن الأمة بأبنائها ولن تسود أمة تخترقها الأمراض وتنهكها الأوبئة ، وحث على التداوي والْتِماس كل وسائل الاستشفاء، وسن منظومة من الآداب والاحتياطات الصحية التي تكون وقاية وحصنا من انتقال العدوى والأمراض، قال صلى الله عليه وسلم : ( فر من المجذوم فرارك من الأسد )   البخاري ومسلم . وقال : ( إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها وإذا وقع بأرض وانتم فيها فلا تخرجوا منها ) رواه البخاري .

 

  

 

 

نكران الجميل وأكل الحقوق

إن الدين الإسلامي يحثّ على مكارم الأخلاق ويدعو إليها ؛ عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مكارم الأخلاق ) رواه البخاري في الأدب المفرد وأخرجه أحمد . ومن حسن أخلاق المسلم حفظ المعروف ، ورد الجميل ، ومقابلة الإحسان بالإحسان ، قال   تعالى : ﴿ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ﴾القصص 771   ويحذِّر من نكران الجميل ، وقلة الوفاء ، التي نهى الشرع عنها ، وحذر منها ، لأنها سبب من أسباب العقوبات ، وزوال النعم ، وعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (لاَ يَشْكُرُ اللهَ مَنْ لاَ يَشْكُرُ النَّاسَ ) . أخرجه أحمد والبُخاري في الأدب المفرد   وعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( مَنْ سَأَلَكُمْ بِاللَّهِ فَأَعْطُوهُ وَمَنْ دَعَاكُمْ فَأَجِيبُوهُ وَمَنْ أَهْدَى لَكُمْ فَكَافِئُوهُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُوهُ فَادْعُوا لَهُ ) أخْرَجَهُ أحمد والبُخَارِي في الأدب المفرد . وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:" إن النعمة موصولة بالشكر، والشكر يتعلق بالمزيد، وهما مقرونان ، فلن ينقطع المزيد من الله حتى ينقطع الشكر من العبد " وقال الشاعر :

ومن يسدِ معروفًا إليك فكن له      شكورًا يكن معروفه غيرَ ضائع

ولا تبخلنّ بالشكر والقَرض فاجزه    تكن خير مصنوع إليه وصانع

يعني أن من كان من طبيعته وخلقه عدم شكر الناس ، على معروفهم ، وإحسانهم إليه ، فإنه لا يشكر الله؛ لسوء تصرفه ، لإنه في الغالب  لا يشكر الله في مثل هذه الحال ، لذا يجب على المؤمن أن يشكر الله سبحانه وتعالى على ما أحسن إليه ، وأن يشكر الناس على معروفهم وإحسانهم إليه، والله يحب من عباده أن يشكروا من أحسن إليهم، وأن يقابلوا المعروف بالمعروف، فلا يستغني الناس عن بعضهم البعض ، في هذه الحياة  ، ولا يستطيع أن أيّ إنسان أن يعيش بمعزل عن الناس     لذا ينبغي على المؤمن ، أن يقابل من أحسن إليه بالإحسان، وأن يثني عليه خيراً ، عن جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( مَنْ أُعْطِيَ عَطَاءً فَوَجَدَ-سعة مالية- فَلْيَجْزِ بِهِ- فليكافئ بالعطاء- فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيُثْنِ بِهِ- فليمدحه أو فليدْعُ له- فَمَنْ أَثْنَى بِهِ فَقَدْ شَكرَهُ- أي جازاه- وَمَنْ كَتَمَهُ- أي النعمة بعدم المكافأة بالعطاء أو المجازاة بالثناء- فَقَدْ كَفَرَهُ ) أَبُو دَاوُدَ. إن نكران الجميل   من أقبح الصفات الإنسانية وأرذلها ، لما تمثله من صفات سيئة ، من اتصف بها فهو لئيم جاحد ، لصنائع المعروف والإحسان ، ومن هنا ، فإن النفس التي تنكر الجميل   والإحسان إليها وتتناساه ، نفس لئيمة، وقد صدق من قال" الكريم شكور أو مشكور واللئيم كفور أو مكفور" وإذا كان المعروف صدقة  ،كما قال صلى الله عليه وسلم :( كل معروف صدقة ) فكيف بنا بشكر المعروف ورده وشكر الناس، ما أعظم هذا التوجية النبوي برد المعروف والجميل ، والفضل إلى أهله، ومقابلة الاحسان بمثله ، وعدم نكرانه   في زمن يجد الكثيرون النكران ممن يحسنون إليهم ، حتى أصبح الناس في تناكر وتخاصم   وتقاطع وتهاجر ، بسبب نكران الجميل ، وعدم رد الإحسان إلى من أحسن ، مخالفين الهدي النبوي ،بالعرفان بالجميل  والذكر الحسن ، ولو بكلمة طيبة ،فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من أتى إليكم معروفاً فكافئوه-أي بالعطاء- فإن لم تجدوا فادعوا الله له حتى تعلموا أن قد كافأتموه ) وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عظيم الوفاء ، لمن أحسن إليه ، وكان يقبل الهدية ، ويثيب عليها ، ويذكر المعروف ، ويجازي به ، بل كان يفعل أعظم من ذلك ، كان يشكر من أحسن إلى الناس ، فقد أعتق ابنة حاتم الطائي ، مكافأة لإحسان أبيها ، وفضائله على الناس .  

 لذا على الإنسان ، أن يكون وفيا شاكرا لأهل الإحسان ، ذاكرا للجميل ، يحفظ الود   ويرعى حرمة الصحبة والعشرة ، ولا ينسى المعروف لأهله ، ولو طال به الزمان. 

وقد كان السلف الصالح يعرفون الفضل لأهله ويجازون الإحسان بالإحسان ، ويكافئون أهل المعروف ولا ينكرونه ، فقال شاعرهم :

اذا المرء لا يرعاك الا تكلفا      فدعه ولا تكثر عليه التأسفا

فلا كل من تهواه يهواك قلبه  ولا كل من صافيته لك قد صفا

اذا لم يكن صفو الوداد طبيعة   فلا خير في ود يجيء تكلفا

ولا خير في خل يخون خليله    ويرميه من بعد المودة بالجفا

سلام على الدنيا اذا لم يكن بها  صديق صدوق صادق الوعد منصفا

لما بلغ سفيان بن عيينة قتل جعفر بن يحي وما نزل بالبرامكة ، حوَّل وجهه إلى الكعبة وقال : اللهم إنه كان قد كفاني مؤونة الدنيا ، فاكفه مؤونة الآخرة. ومكث الإمام أحمد أربعين سنة ما بات ليلة إلا ويدعو فيها للشافعي وفاء بمعروفه ، في تعليمه الفقه والأصول .

إن نكران الجميل صفة مذمومة ، وتتنافى مع طبائع النفوس السوية، التي طُبعت على حب مَنْ أحسن إليها، والتسامح والعفو مع مَنْ أساء إليها. وكثيرة هي النماذج ، التي نسمع عنها بين الحين والآخر ، من العقوق ونكران الجميل ، أو ما نعرفه عن أصدقاء تقطعت بينهم صلات المودة والصداقة ، بعد أن تنكر بعضهم لبعض "يروى عن صديقين كانا يمشيان في الصحراء ، فتجادلا ، فضرب أحدهما الآخر على وجهه ، فتألم المضروب ، دون أن ينطق بكلمة واحدة ، فكتب على الرمال : ضربني اليوم أعز أصدقائي على وجهي ، واستمر الصديقان في مشيهما ، إلى أن وجدوا واحة   فقرروا أن يستحموا ، فعلقت قدم الذي ضُرِب على وجهه في الرمال المتحركة ، وبدأ في الغرق  ولكن صديقة أنقذه من الغرق، وبعد أن نجا من الموت  ،كتب على قطعة من الصخر :اليوم أعز أصدقائي ، أنقذ حياتي ، فسأله صديقه :لماذا في المرة الأولى عندما ضربتك كتبت على الرمال ، والآن عندما أنقذتك   كتبت على الصخرة ؟فأجاب : عندما يؤذينا أحد ، علينا أن نكتب ما فعله على الرمال   حيث رياح التسامح ، يمكن لها أن تمحيها  ولكن عندما يصنع معنا معروفاً ، علينا أن نكتب ما فعل على الصخر ، حيث لا يمكن للرياح أن تمحوها " نعم أيها المؤمنون ، تعلّموا أن تكتبوا آلامكم على الرمال ، وأن تنحتوا المعروف على الصخر ، فإن أقسى شيء على نفس الإنسان ، أن يُقابل جميله بالنكران ومعروفه بالأذى ، إننا في حاجة إلى أن يقف كل منا ، وقفة مراجعة مع نفسه ، من وقت لآخر، ليتأكد أنه في علاقاته مع غيره ، يسير على الطريق السوي ، فلا ينكر لهم حقا، ولا يجحد لهم معروفا، ويكافيء على المعروف بمثله   أو أحسن منه ، والدعاء لصاحبه ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( مَنْ استعاذ بالله فأعيذوه، ومَنْ سألكم فأعطوه، ومَنْ دعاكم فأجيبوه، ومَنْ آتى إليكم معروفاً فكافئوه، فإنْ لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تعلموا أن قد كافأتموه ) ، فالكريم يحفظ ود ساعة، ولا يزهدنك في المعروف كفر من كفره، فأجره عند الله لن يضيع ، وسيرفع الله قدره وشأنه عند الناس، ويخذل من ينكر صنيعه ، والنفس تحب من أحسن إليها ، وتحب حفظ الجميل ورده لمن يستحقه , كان ابن عمر يمشي في الصحراء على دابته ، فقابله أعرابي ، فتوقف ابن عمر ونزل ،ووقف معه وقال: ألست ابن فلان بن فلان؟ قال: بلى ،ثم ألبسه عمامة كانت عليه   وقال له: اشدد بها رأسك ، ثم أعطاه دابته  وقال: اركب ،فتعجب أصحاب ابن عمر وقالوا له: إن هذا من الأعراب ، وهم يرضون بالقليل فقال: إن أبا هذا كان وِدّاً لعمر  وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه بعد أن يولي) أَخْرَجَهُ أحمد والبُخَارِي في الأدب المفرد ومسلم  . وجاء في الأدب والسير: " أن أعرابياً ، وفد على الخليفة وهو يبكي فقال الخليفة: ما لك ؟ قال : أصبت بأعظم من مصيبة المال ، قال: ما قصدك ؟ قال: ربيت ولدي، سهرت ونام  وأشبعته وجعت ، وتعبت وارتاح ، فلما كبر وأصابني الدهر ، واحدودب ظهري من الأيام والليالي ، تغمط حقي، ثم بكى وقال:

وربيته حتى تركته أخا القوم      واستغنى عن الطر شاربه

تغمط حقي ظالماً ولوى يدي  لوى الله يده الذي هو غالبه

قيل : فلويت يد الابن وأصبحت وراء ظهره ".

وأما أكل الحقوق فغير جائز لقوله تعالى: ﴿ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ ﴾ البقرة 188. وإن حرمة مال المسلم  ،كحرمة دمه ، ولا يحل مال امرئ مسلم ، إلا بطيب نفس منه ، وقد تنوعت الأدلة والنصوص ، على حرمة أكل أموال الغير ، بأي صفة كانت ، سواء على وجه الظلم والسرقة والخيانة ، أو بالغصب والنهب ، وما لم يبح الشرع أخذه من مالكه    أو بالحيل والمكيدة والغبن ، وما جرى مجراه   فهو مأكول بالباطل ، وقد تساهل كثيرٍ من الناس في أكل المال الحرام ، مصداقًا لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم : ( ليأتينَّ على الناس زمانٌ، لا يبالي المرءُ بما أخذَ المالَ: أمِنَ الحلال أم من الحرام) البخاري ، يشير النبي صلى الله عليه وسلم   إلى خطورة أكل المال الحرام  ، بأي طريقة كانت ، وأي وسيلة حصلت ، والمال الحرام سبب لمنع إجابة الدعاء ، وإغلاق باب السماء   

وقد جاء في الحديث الصحيح: (يأتي على الناس زمان يأكلون فيه الربا، قيل يا رسول الله: الناس كلهم. قال: من لم يأكله، ناله من غباره) أخرجه أحمد . فأين إسلام ممن يأكل الربا   وأين ممن لم يسلم الناس من يده ، وأين إيمان من لم يرع أموال الناس ، وقد أمرنا الله برد الأمانات إلى أهلها ، والتوبة إليه ، قبل أن لا يكون دينار ولا درهم ، وإنما هي الحسنات والسيئات ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهَا   فَإِنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ  مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ لِأَخِيهِ مِنْ حَسَنَاتِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ   أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ أَخِيهِ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ) أخرجه البخاري .

    

فتنة قتل الحسين

الحسن والحسين ابنا علي رضي الله عنهم ، وحفيدا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من أهل بيت النبوة ، ومن الصحابة الكرام الأطهار ، نتقرب إلى الله تعالى بمحبتهما وموالاتهما ، دون مغالاة ، كما يفعل أهل البدع   ونبرأ إلى الله ممن يبغضهما ولا يحبهما ، روى الإمام أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( مَنْ أَحَبَّهُمَا فَقَدْ أَحَبَّنِي ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمَا فَقَدْ أَبْغَضَنِي ) صححه الألباني ، ولاشك أن فتنة قتل الحسين محزنة مؤلمة  أخبر الرسول عنها ، لما روي عن أم سلمة قالت: (كان جبريل عند النبي صلى الله عليه وسلم والحسين معي، فبكى الحسين فتركته فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم ،فدنى من النبي صلى الله عليه وسلم ،فقال جبريل: أتحبه يا محمد؟ فقال: نعم. قال: إن أمتك ستقتله ، وإن شئت أريتك من تربة الأرض التي يقتل بها ، فأراه إياها ، فإذا الأرض يقال لها كربلاء ) أخرجه أحمد في فضائل الصحابة بسند حسن ، استيقظ ابن عباس يوما وهو يقول: ان لله وان اليه راجعون ، فقال له اهل بيته: خيرا يا ابن عباس؟ فقال لقد رأيت رسول الله في المنام فأعطاني زجاجه مليئة بالدم ، وقال يا ابن عباس !هذا دم الحسين وأصحابه " لقد خرج من جهة العراق فتن كثيرة، لعل من أولها فتنة الحسين رضي الله عنه ، روي أن أهل الكوفة   كتبوا إليه ليخرج إليهم ليبايعوه على الإمارة ، وذلك بعد موت معاوية رضي الله عنه ، وتولية ابنه يزيد ، فأرسل الحسين (عليه السلام) ابن عمه مسلم بن عقيل ليتقصى الأمور، ويتعرف على حقيقة البيعة ، فلما وصل مسلم إلى الكوفة تيقن أن الناس يريدون الحسين فبايعه الناس على بيعة الحسين، ولما بلغ الأمر يزيد بن معاوية في الشام أرسل إلى عبيد الله بن زياد والي البصرة ليعالج هذه القضية، ويمنع أهل الكوفة من الخروج عليه مع الحسين   فدخل عبيد الله بن زياد إلى الكوفة وأخذ يتحرى الأمر ويسأل حتى علم أن دار هانئ بن عروة هي مقر مسلم بن عقيل وفيها تتم المبايعة. فأرسل إلى هانئ بن عروة وسأله عن مسلم بعد أن بيّن له أنه قد علم بكل شيء، قال هانئ بن عروة قولته المشهورة التي تدل على شجاعته وحسن جواره: والله لو كان تحت قدمي هاتين ما رفعتها فضربه عبيد الله بن زياد وأمر بحبسه ، فلما بلغ الخبر مسلم بن عقيل خرج على عبيد الله بن زياد وحاصر قصره بأربعة آلاف من مؤيديه ، فقام فيهم عبيد الله بن زياد وخوفهم بجيش من الشام، ورغبهم ورهبهم، فصاروا ينصرفون عنه حتى لم يبق معه أحد ، فقبض عليه وأمر عبيد الله بن زياد بقتله فطلب منه مسلم أن يرسل رسالة إلى الحسين ،هذا نصها : ارجع بأهلك ولا يغرنك أهل الكوفة فإن أهل الكوفة قد كذبوك وكذبوني، وليس لكاذب رأي ، ثم أمر عبيد الله بقتل مسلم بن عقيل ، وكان مسلم بن عقيل قد أرسل إلى الحسين    قبلها : " أن أقدم فخرج الحسين من مكة ، وحاول منعه كثير من الصحابة، ونصحوه بعدم الخروج ، خرج إليهم الحسين وهو لا يعلم بمقتل مسلم بن عقيل ، ولا بتغيرهم نحوه ، فقال له عبد الله بن عمر: دع هؤلاء لا تذهب إليهم ، لكنه أصر أن يخرج، فلما رآه عبد الله بن عمر مصراً خرج معه إلى أطراف المدينة ثم ضمه إليه وبكى وقال: أستودعك الله من قتيل  ، سار الحسين إلى العراق ، وفي أثناء سيره قابله رجل اسمه الفرزدق فقال له الحسين : من أين يا فرزدق ؟ قال : من العراق ؟ قال الحسين : فكيف حال الناس هناك ؟  قال له الفرزدق : يا ابن بنت رسول الله قلوب الناس معك ، ولكنّ سيوفهم عليك ،كانت قلوب أهل العراق مع الحسين ، غير أن سيوفهم مع عبيد الله بن زياد ، الذي قَتَلَ مسلمَ بنَ عقيل رسولَ الحسين إليهم ، ولما جاء الحسين خبر قتل مسلم بن عقيل عن طريق الرسول الذي أرسله مسلم همّ الحسين بالرجوع فامتنع أبناء مسلم وقالوا: لا ترجع حتى نأخذ بثأر أبينا فنزل الحسين على رأيهم ، وكان عبيد الله بن زياد قد أرسل كتيبة قوامها ألف رجل بقيادة الحر بن يزيد التميمي ليمنع الحسين من القدوم إلى الكوفة ، فالتقى الحر مع الحسين في القادسية. وحاول منع الحسين من التقدم ، لكن الحسين تقدم   إلى كربلاء ، وقد وصلت بقية جيش عبيد الله بن زياد وهم أربعة آلاف بقيادة عمر بن سعد فقال الحسين: ما هذا المكان؟ فقالوا له: إنها كربلاء، فقال: كرب وبلاء ، ولما رأى الحسين هذا الجيش العظيم علم أن لا طاقة له بهم ، فطلب منهم أن يدعوه يرجع أو يلحق ببعض الثغور ، أو يلحق بابن عمه يزيد فمنعوه هذا وهذا ، حتى يستأسر وقاتلوه فقاتلهم فقتلوه وطائفة ممن معه مظلوما شهيدا . 

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " فإن يزيد بن معاوية ولد في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه ، ولم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم ; ولا كان من الصحابة باتفاق العلماء ; ولا كان من المشهورين بالدين والصلاح وكان من شبان المسلمين ; ولا كان كافرا ولا زنديقا ; وتولى بعد أبيه على كراهة من بعض المسلمين ورضا من بعضهم وكان فيه شجاعة وكرم ولم يكن مظهرا للفواحش كما يحكي عنه خصومه . " وَجَرَتْ فِي إمَارَتِهِ أُمُورٌ عَظِيمَةٌ : - أَحَدُهَا مَقْتَلُ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَهُوَ لَمْ يَأْمُرْ بِقَتْلِ الْحُسَيْنِ ، وَلَا أَظْهَرَ الْفَرَحَ بِقَتْلِهِ ؛ وَلَا نَكَّتَ بِالْقَضِيبِ عَلَى ثَنَايَاهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلَا حَمَلَ رَأْسَ الْحُسَيْنِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى الشَّامِ . لَكِنْ أَمَرَ بِمَنْعِ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَبِدَفْعِهِ عَنْ الْأَمْرِ ، وَلَوْ كَانَ بِقِتَالِهِ ؛ فَزَادَ النُّوَّابُ عَلَى أَمْرِهِ ؛ وَحَضَّ الشمرُ بن ذي الْجَوشَن عَلَى قَتْلِهِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ ؛ فَاعْتَدَى عَلَيْهِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ ، فَطَلَبَ مِنْهُمْ الْحُسَيْنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يَجِيءَ إلَى يَزِيدَ ؛ أَوْ يَذْهَبَ إلَى الثَّغْرِ مُرَابِطًا ؛ أَوْ يَعُودَ إلَى مَكَّةَ ؟ فَمَنَعُوهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَّا أَنْ يَسْتَأْسِرَ لَهُمْ ... فَقَتَلُوهُ مَظْلُومًا وطَائِفَةِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَكَانَ قَتْلُهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ الْمَصَائِبِ الْعَظِيمَةِ؛ فَإِنَّ قَتْلَ الْحُسَيْنِ ، وَقَتْلَ عُثْمَانَ قَبْلَهُ : كَانَا مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الْفِتَنِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ ، وَقَاتلُهُمَا مِنْ شِرَارِ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ .

وَلَمَّا قَدِمَ أَهْلُهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، عَلَى يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ : أَكْرَمَهُمْ ، وَسَيَّرَهُمْ إلَى الْمَدِينَةِ ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَعَنَ ابْنَ زِيَادٍ عَلَى قَتْلِهِ ، وَقَالَ : كُنْت أَرْضَى مِنْ طَاعَةِ أَهْلِ الْعِرَاقِ بِدُونِ قَتْلِ الْحُسَيْنِ !! لَكِنَّهُ مَعَ هَذَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ إنْكَارُ قَتْلِهِ ، وَالِانْتِصَارُ لَهُ ، وَالْأَخْذُ بِثَأْرِهِ : كَانَ هُوَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ ، فَصَارَ أَهْلُ الْحَقِّ يَلُومُونَهُ عَلَى تَرْكِهِ لِلْوَاجِبِ ، مُضَافًا إلَى أُمُورٍ أُخْرَى، وَأَمَّا خُصُومُهُ فَيَزِيدُونَ عَلَيْهِ مِنْ الْفِرْيَةِ أَشَياءَ ، انتهى بتصرف واختصار يسير من مجموع الفتاوى" وقال أيضا : "فلما قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما يوم عاشوراء قتلته الطائفة الظالمة الباغية ، وأكرم الله الحسين بالشهادة ، كما أكرم بها من أكرم من أهل بيته . أكرم بها حمزة وجعفرا وأباه عليا وغيرهم وكانت شهادته مما رفع الله بها منزلته وأعلى درجته ، فإنه هو وأخوه الحسن سيدا شباب أهل الجنة ، والمنازل العالية لا تنال إلا بالبلاء ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل : أي الناس أشد بلاء ؟ فقال : (الأنبياء ، ثم الصالحون ، ثم الأمثل فالأمثل . يبتلى الرجل على حسب دينه ، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه ، وإن كان في دينه رقة خفف عنه ، ولا يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة) رواه الترمذي وغيره .

فكان الحسن والحسين قد سبق لهما من الله تعالى ما سبق من المنزلة العالية ، ولم يكن قد حصل لهما من البلاء ما حصل لسلفهما الطيب ، فإنهما ولدا في عز الإسلام ، وتربيا في عز وكرامة ، والمسلمون يعظمونهما ، ويكرمونهما ، ومات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يستكملا سن التمييز ، فكانت نعمة الله عليهما أن ابتلاهما بما يلحقهما بأهل بيتهما ، كما ابتلى من كان أفضل منهما ، فإن علي بن أبي طالب أفضل منهما ، وقد قتل شهيدا ، وكان مقتل الحسين مما ثارت به الفتن بين الناس ، كما كان مقتل عثمان رضي الله عنه من أعظم الأسباب التي أوجبت الفتن بين الناس ، وبسببه تفرقت الأمة إلى اليوم 

 

من ينقذ حلب

 تعيش حلب الآن يوماً أحمرا  يوم فيه من الخذلانِ والخيبةِ ما الله به أعلم! كيف لا، ودونها أمة  صامتة ، وهي تئنّ    كلّما الموتُ بأطفالها ارتطم  تنادي وتنوح وتبكي ، ولا صوتَ يعلو فوق صوتِ الألم  الذي تعانيه من اجتماع الأعداء، وتخاذل الأصدقاء وزيادة البلاء، لا عليك يا حلب ، فقد اختارك الله للجهاد ، فلا تخلعي ثوبا وضعك الله فيه ، في زمن تتلاقى فيه قوى وإرادات مختلفة ، تتدافع وتتصارع قال تعالى : ﴿ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ﴾ الحج 40 ، فالتدافع واقع ومشهود ، وفي كل يوم نسمع أخبار القتل والتعذيب  والقصف والتخريب ، والعالم إما متآمر أو ملتزم الصمت  بخلاف ما لو كان المعتدى عليه يهودياً أو نصرانيا ، فإن الدنيا كلها تبكي وتصرخ وتحتج ، ولو أن روسيا التي تقصف حلب ، قصفت دولة يهود ، فماذا سيحدث ؟ قد تقوم حرباً عالمية ، يقتل الملايين وتباد الجيوش ، رأينا كيف يبكي الغرب ويلطم الخدود ، على قتلى بعض التفجيرات ، ولكن لا أحد يبكي قتلى العراقيين والسوريين والفلسطينيين الذين يموتون تحت التعذيب والقصف ، ولم نسمع أحداً بكى أو تباكى على الذين دفنوا تحت الأنقاض ، نتيجة قصف الطائرات ، التي تضرب وتقتل ، وتستعمل كافة الأسلحة ، ولا من يحتج  أليس هذا تآمراً مكشوفا  يقول المؤرخ البريطاني توينبي : " إن الغرب اضطهد اليهود وأساء إليهم ، وكان المفروض أن يعوضهم ، لكن الذي حصل أن الثمن دفعه أهل فلسطين ، فنزل بهم على أيدي الصهاينة بمساعدة من الغرب أكثر مما نزل باليهود  ومع ذلك قام الغرب والشرق مسارعاً للاعتراف بإسرائيل ودعمها بالمال والرجال والعتاد لتمارس اعتداءاتها  هناك دول كبرى تمنع تسليح المدافعين عن ثورتهم ، لكنها لا تمانع بتسليح الظالمين  بأحدث الأسلحة ،  فقد دعمت إسرائيل من قبل  وقدمت لها الوف الملايين  حتى تطرد أهل فلسطين  ليحل مكانهم مهاجرين من الحبشة أو روسيا ، ولعل مما يدخل في سلسلة التآمر ما يصرح به أمثال كيسنجر علنا بأن من الواجب " تفتيت المقدرة الإسلامية قبل أن يقدّر لها الاكتمال" وقد قدّر الدكتور حامد ربيع أن الرب سيعمل لإجهاض الصحوة الإسلامية عن طريق التلويث والتطويع والإذابة ، أما حملة التلويث : فقائمة على قدم وساق ، تساهم فيها الصحافة العربية ، بعلم أو بدونه ، نيابة عن الآخرين ، أما التطويع : فتلك مهمة الحكومات المحلية فهي تشد يوما وترخي آخر  حتى قال وزير داخلية أحد دولها : " إن احكام الطوارئ تطبق عل الإسلاميين فقط وحقوق الإنسان تشمل كل البشر ما عدا المسلم فهو حلال الدم " أما الإذابة : فقد تكفل بها أشخاص  بهدف ضرب الصحوة الإسلامية وإذابتها" من كتاب- موقف اسرائيل من الحركة الإسلامية- أما التقصير : فلا يخفى ، فقد أصبحنا من مستهلكي الحضارة الغربية ، كما تحولت بلادنا إلى معارض لبضائع الآخرين ومنتجاتهم وأفكارهم  تقصير لا نستطيع إنكاره  فهذه جامعاتنا ومعاهدنا ، لم تخرّج سوى سيل من الموظفين الذين ينتظرون الترقيات والعلاوات ، وكما قيل " يعد أياماً ويقبض راتبا " فما يحصل لنا هو مزيج من تقصير وتآمر ، وإذا عجزنا عن منع الأعداء في وقف تآمرهم علينا  فلماذا نعجز عن تلافي التقصير ؟ إن الواجب يحتم علينا التحرك لنصرة ديننا وإنقاذ إخواننا ، لأن ما يجري ما هو إلا فلسطين ثانية ، بعد العمل على وضع اللمسات الأخيرة على نعش فلسطين الأولى ، واليوم يستطيل العالم النصراني المتواطئ ويقومون بنفس الجريمة التي تحرمها مواثيقهم وقوانينهم ، التي لا تساوي قيمة الحبر الذي كتبت به ، لكنهم في خضم الخوف الذي يشتعل في الصدور ، ينسون أن جهودهم توجه ضد الإسلام  وقد تحول الصراع من بُعْدِه العلماني كصراع حول الأرض والشجر، إلى منازلة عقيدة ودفع ، بين الحق المجاهد ، والباطل المستكبر  لأن العلمانيين ، يمثلون أكبر خطر على الأمة ، وعداوتهم لهذا الدين وأهله ، متأصلة في نفوسهم ، وهم لا يتورعون عن ارتكاب القتل والاغتصاب ، للحفاظ على مصالحهم ، ويتحالفون مع أعداء الأمة ، لوأد المسلمين في ديارهم ، فماذا ينتظر المسلمون ، ولماذا هذا البرود المخيف ، والصمت المطبق عما يجري في بلاد المسلمين  إن الأخبار والصور التي تعرض على أمتنا ، التي كانت معروفة بالنخوة والمروءة والانتصار للمظلوم ، لم تحرّك ساكنا ، فهل تودّع منها  وماذا لو كان مرتكبو المذابح مسلمين ، تصوروا كيف يكون رد الغرب ، بل وللأسف رد حكومات عالمنا المنكوب ، ترى هل سيبقى المسلمون متفرجين على احتلال أوطانهم ، واستئصال دينهم ، وانتهاك أعراضهم   وتلطيخ شرفهم ، أما آن لهم تقديم المساعدة اللازمة للمحاصرين والمهددين بالتهجير أو الإبادة ، ليدافعوا عن دينهم ووجودهم ، ورغم التآمر والتقصير ، فلا نخاف على حلب بإذن الله تعالى  لأن الرجال في حلب سيدافعون عن شرفهم وكرامتهم وتاريخهم ومدينتهم، وسيدفع  المهاجمون دماء كثيرة على أبواب حلب، وقد بدأ الدفع فعلاً. ستستنزفهم حلب في معركة طويلة ، قد تطال أنحاء أخرى من سوريا وغير  سوريا. 

 

نداء ولا مجيب

سمعت كلمات مريرة لامرأة من  سوريا ، مزجتها بطعم الألم  والحسرة والخيبة ، التي ارتوت منها العروق ، والتي تعتبر شاهداً على أعلى صور الخزي والهوان والتي حسبنا أن الأمة لن تمر بتلك الصورة من التخاذل المخزي ، قالت يائسة : لا نريد أن تدافعوا عنا ، ولا ترسلوا جيوشكم إلينا ، ولا تبعثوا بالسلاح إلينا ، لا نريد صدقاتكم وأموالكم ، نريد فقط أن ترسلوا إلينا حبوب منع الحمل حتى لا ينبت في احشائنا أبناء الروافض والشبيحة ، ظننا بعد طول انتظار ، وبعد قطيعة الرحم ما أدى إلى التخاذل ، الذي ما كنا نتوقعه قبل الحرب .

إننا نتوقع أن يصدر هذا النداء المرير الأليم من امرأة أخرى   ولكن ليس من سوريا ، وإنما من العراق أو ليبيا أو اليمن ، وليس غريباً أن يسمع هذا النداء من أي بلد عربي او إسلامي ، لأنه وكما أعتقد لا يوجد ما يمنع ذلك ، فألم الدمار والقتل والتشريد والاعتقال ، والمقابر الجماعية ، والخراب الهائل وما رأيناه قبل العراق وسوريا ، في جروزني وأفغانستان وفي غزة  فقد حل في تلك الديار ما حل بهم ، ولم نجد ما يمنع ذلك   ونحن نتلقى ما يوجعنا ، ويقض مضاجعنا ، ولسان الحال ينادي  أعيرونا مدافعكم لا مدامعكم  أعيرونا وظلوا في مواقعكم  حرّاساً أمينين لأعدائكم ، نسأل أنفسنا ونسألكم ، ألسنا أخوة في الدين قد كنا وما زلنا ، فهل هنتم وهل هنا ؟ أيعجبكم إذا ضعنا ؟ أيسعدكم إذا جعنا ؟ فهل اجتماعكم وبحث مآسينا تظنوا انه يرضينا ؟ لا وألف لا  لأنه لا معنى لقلوبكم معنا  فالدمع لا يشفي لنا صدرا ، ولا يبرئ لنا جرحا ، فلا نحتاج منكم رزاً ولا قمحا ، فخلوا الشجب واستحيوا ، فقد سئمنا الشجب والردحا ، هذه الأيام في سوريا في العراق في فلسطين  المدينة تلو المدينة تنتظر دورها في الهدم والقصف والذبح والاعتقال  والموقف يتكرر ، والأمة تقف موقف الشاهد والمتفرج ، رغم وضوح الصورة ، وقوة الصوت وبشاعة المشهد ، ورغم المشاهدة والسمع فإن الاستجابة مخزية  وكأنهم يرون مشهداً سينمائياً مؤلما ، أو يسمعون أغنية عاطفية مؤثرة كالتي أشربوها من قنواتهم ومذاييعهم ، فماذا يقولوا لربهم  عن خذلانهم لإخوانهم في الدين وهو القائل : ﴿ وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر ﴾ وماذا يقولوا لرسول الله

الذي علمنا أن إغاثة الملهوف من الواجبات التي تقع على عاتق المسلم ، لأن رفع الظلم والأذى  مطلوب من المسلم ، بل هو من أوجب الواجبات على المسلم لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، ومَن كان في حاجة أخيه كان اللّه في حاجته، ومن فرّج عن مسلم كربة فرّج اللّه عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره اللّه يوم القيامة ) البخاري. وهو القائل : ( ما من امرئ يخذل امرأً مسلما في موضع تنتهك فيه حرمته ، وينتقص فيه من عرضه إلا خذله الله ) ماذا نقول لهم وهم ليسوا بعيدين عنا ؟ وماذا فعلوا لتلك الدموع التي تستغيث ليل نهار ولا مغيث ، وما زادهم ذلك الا بعداً وفرارا ، فمعذرة يا بلادنا ، فقد فجعت بنا ولم نفجع بك ، صمت عندنا كل شيء ، وعندك حركوا الأرواح فبذلوها ، رخيصة في سبيل الله وقد أثبتوا أنهم ماتوا جبنا  وشبابك يصنعون الحياة بموتهم  معذرة يا بلاد المسلمين ، فما عادت النخوة كما كانت ، وما عادت هناك شهامة ، لأن منهم من ألف الذل والمهانة والاستكانة ومن بينهم من النساء من جادت بروحها حماية للقاعدين والمتثاقلين ، فقد سمعنا النداءات ورأينا الأهوال ، فما الذي تحرّك فيهم ، فقد تحركت الدعوة إلى جمع التبرعات ، ومن تعدَّ الخطوط الحمراء ، واعتبر جريئاً في التصريحات ، أكد على أن ما يجري إجرام يفوق الضمير  ولكن الذي لا نعرفه سبب الصمت المزري ، الذي أدى إلى صمت الأسلحة ، التي صدّى بعضها ، والآخر في الطريق على ذلك ، وهذه الجيوش والعساكر والنياشين والأوسمة اللامعة  أميدانها العروض العسكرية والمقابلات التلفزيونية ، أم ميادين القتال وساحات الجهاد ، أم التصدي للمتظاهرين والمحتجين الذي يخرجون لينفذون بعض غيظ قلوبهم ، بصيحات وهتافات ، وفي ظل هذا الواقع أخشى أن يتحول حرص كل دولة إلى أن يستفرد بها العدو وتؤكل وحيدة ، وتستصرخ البقية فلا تجد من يجيب ويصرخون، ولا سامع لهم  ويستغيثون، ولا مجيب لهم  ويتوجعون، ولا واسي لهم ، اين نحن منهم  ، إنهم يعذبون لانهم  مسلمين قال تعالى: ﴿ وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ﴾ .   

            

خف الله فإنه يراك

خلق العباد ، وأمرهم ونهاهم، وابتلاهم بالشهوات المعارضة لأمره، فمن انقاد لأمر الله وأحسن العمل، أحسن الله له الجزاء ، ومن مال مع شهوات النفس، ونبذ أمر الله، فله شر الجزاء ، فاجعل الله في بالك دائما ، يكن لك عوضاً عن كل فائت ، واستح أن يطلع عليك وانت تعصيه ، فقد ورد في الحديث  القدسي : ( إن كنتم تعتقدون أني لا أراكم فالخلل في إيمانكم ، وإن كنتم تعتقدون أني اراكم فلم جعلتموني أهون الناظرين إليكم ) ولما سئل أحد العارفين فيما أفنيت عمرك ؟ قال في أربعة اشياء : 1-علمت أني لا أخلو من نظر الله طرفة عين ، فاستحييت أن أعصيه 2 - وعلمت أن لي رزقاً لا يتجاوزني وقد ضمنه الله لي ، فقنعت به  3- وعلمت أن عليَّ ديناً لا يؤديه عني غيري فاشتغلت به 4- وعلمت ان لي أجلاً يبادرني فبادرته .

وقد شرح أحد العارفين هذه الأربع فقال : اجعل مراقبتك لمن لا تخلو عن نظره إليك _ واجعل شكرك لمن لا تنقطع نعمه عنك – واجعل طاعتك لمن لا تستغني عنه – واجعل خضوعك لمن لا تخرج عن ملكه وسلطانه وهكذا جمعت هذه الأقوال الدين كله . فالخوف رقيب القلب ، والرجاء شفيع النفس ومن كان بالله عارفاً ، كان من الله خائفاً واليه راجياً ، فأرج الله رجاء لا يجرئك على معاصيه ، وخف الله خوفاً لا يؤيسك من رحمته ، قال علي رضي الله عنه : خمسة لو رحلتم فيهن ، ما قدرتم على مثلهن ، لا يخاف عبد إلا ذنبه ، ولا يرجو إلا ربه .

ولا يستحي : الجاهل إذا سئل عما لا يعلم ، أن يقول الله و رسوله أعلم .

ولا يستحي : الذي لا يعلم ، أن يتعلم .

والصبر : من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد  ولا إيمان لمن لا صبر له . 

 

ذو الوجهين وشاهد الزور

من كرم الله أن جعل الله للإنسان ظاهراً وباطناً، فباطنه محجوبٌ عن الناس، والناس لهم الظاهر، ولو تكاشفتم لما تدافنتم   فالناس لهم الظاهر، ولك الباطن، ولو أن كل واحدٍ منا كشف باطن أخيه، وكان في باطن أخيه غِل أو حقد أو حسد لتدابر الناس، ومن كرم الله أن جعل الباطن محجوباً.  بإمكان الإنسان أن يتكلم كلاماً طيباً، ويعمل عملاً طيباً، وينتزع إعجاب الناس، وهو من ألدّ الخصام ، عدوٌ لدود، لكن الله عز وجل حجب باطنه عن الناس، ولكن الله إذا كان باطن الإنسان سيّئ، وأصر عليه، واستمر، فإنه يغضحه ، ﴿ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ﴾آل عمران: 179، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏واجتنبوا قول الزور‏} عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعا: ( إن الطير لتخفق بأجنحتها، وترمي ما في حواصلها من هول يوم القيامة وإن شاهد الزور لا تزول قدماه حتى يتبوأ مقعده من النار) رواه ابن ماجه ، وأصل الزور: تحسين الشيء ووصفه بخلاف الحقيقة حتى يخيل لمن سمعه أنه خلاف ما هو به ، ولذلك حذّر رسول الله صلى الله عليه وسلم من  ذي الوجهين عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم ، فقلت يا جبريل من هؤلاء قال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم ) رواه أبو داود .وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا ( إن شر الناس عند الله يوم القيامة ذو الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه ) رواه أحمد والبخاري ومسلم . ولهما : ( وتجدون شر الناس ) ، و قد ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم خطورة قول الزور و العمل به في رمضان فقد روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ) , ومعنى قول الزور كما عرفه علماء اللغة هو كل قول مائل عن الحق فيدخل في هذا التعريف الكذب وشهادة الباطل زورا والغش والغيبة بغير حق , وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن شهادة الزور من أكبر الكبائر فقال: ( ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟" ثلاثاً، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين"، وجلس وكان متكئاً فقال: ألا وقول الزور، ألا وقول الزور، ألا وقول الزور، قال: فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت، إشفاقا عليه صلى الله عليه وسلم. وقد جاء في ذي الوجهين وعيد شديد، روى أبو هريرة عن النبي عليه السلام أنه قال‏:‏ ‏(‏ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيهًا‏)‏ وروى أنس عن النبي عليه السلام أنه قال‏:‏ ‏(‏من كان ذا لسانين في الدنيا جعل الله له لسانين من نار يوم القيامة‏)‏ فينبغي للمؤمن العاقل أن يرغب بنفسه عما يوبقه ويخزيه عند الله- تعالى‏.‏

 

 

 

 

معركة الكرامة

الحمد لله الذي أمرنا بالجهاد في سبيله، ووعد عليه الأجر العظيم والنصر المبين، فقال تعالى       :﴿ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ الحمد لله الذي جعل الجهاد في سبيل الله من أفضل القربات ، ومن أعظم الطاعات لما يترتب عليه من نصر المؤمنين وإعلاء كلمة الدين، وقمع الكافرين والمنافقين، فقد جاء النصر الذي تحقق في معركة الكرامة ، في وقت كنا فيه بأمس الحاجة إلى ملامح نصر وعزة وكرامة ، والى وقفة شرف وإباء  وكانت أول نصر على اسرائيل  وكان من النتائج المعنوية لها  تحطيم أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر، فقهروه بالجهاد الذي رفع لوائه ابطالها ، لأنهم آمنوا بان الجهاد ذروة سنام الإسلام ، وفريضة من فرائضه  وقد جاءت هذه المعركة لتذكرنا   بأن الجهاد هو الشعيرة الربانية التي تنفخ روح الحياة في هذه الأمة ، وتحفظ وجودها ، وتدفع عنها شر أعدائها، وتبث الحمية والقوة والجرأة في نفوس أبنائها ليكونوا المضحين في سبيل الله لقد ضحى أبطال معركة الكرامة لأنهم لا يخافون في الله لومة لائم ولا يرهبون قتلا، ولا يخضعون لطاغ، ولا يستسلمون لمعتد، ولا يطأطئون ولا يذلون ولا يحسبون الحياة تستحق أن تعاش ، إن لم تكن عزيزة كريمة، وحرة رضية  جاءت هذه الذكرى في وقت تعرضت شعيرة الجهاد ، لأكثر من حملة تشويه ، وعدوان ونكران ، من أعداء الإسلام  الذين يشنون حملة منظمة لتشويه شعيرة الجهاد ، التي تخيفهم    فعملوا على النيل منها، وتزييف حقيقتها، وجعلها عنوانا باتهام استباقي ، بكل من يدعو إليها  حتى غدا بعض المحسوبين على الإسلام ، مع الأسف يتخوفون من لفظ كلمة الجهاد على ألسنتهم ، متناسين أن الجهاد في سبيل الله ، هو شعيرة من شعائر الإسلام ، وعنوان من عناوين فرائضه الكبرى ، التي يجب تعظميها ، والدفاع عنها، لتظل حاضرة في العقول والقلوب  وشعارا تتعلق به الأفئدة، وتتربى عليه الأجيال ، ليظل الجهاد حاضرا على مائدة ثقافة هذه الأمة، وفي كتب تعليم أجيالها  وفي مناهج تربيتها ، تعليما وتثقيفا وتدريبا .

إن مما يحز في النفس ، أن انضم إلى ركب السائرين في الحملة على شعيرة الجهاد ، المتخاذلون والمستسلمون ، الذين لم يروا في مواقعهم ، إلا الرغبات واللذائذ والفساد والاستبداد ، والتحكم برقاب العباد ، فناموا   عن نصرة الأرض والعرض ، وسار في موكبهم ، طائفة من الأدعياء كان أكبر همهم ، أن يسوغوا عجزهم، وأن يشرعنوا تقاعسهم، وان يجدوا المعاذير لخنوعهم واستسلامهم ، ونومهم في أحضان عدوهم، فصادروا على المنادين بالجهاد طريقهم وفتحوا الباب على مصراعيه أمام نفوس تمردت ، فكان ما نرى من فوضى واضطراب وفساد .

 إن الأمم والحكومات ، تربي شبابها ، على ما تدعوه عقيدتها القتالية ، دفاعا عن مصالح غالبا ما تكون قائمة على ظلم وبغي وعدوان ، لذا ينبغي أن يتربى شبابنا  ، وقد وقر في قلب كل واحد منهم ، أن من واجبه أن يضحي وان يبذل ، دفاعا عن الحق المهضوم، أو نصرة المستضعفين في الأرض ، لا كما نراه اليوم من حالة الفوضى التي يستنفر فيها أفراد تحت رايات عمية ، بدعوى الجهاد وهي لمنهج الخارجين على الدولة والمجتمع أقرب ، وبمنهج أهل البغي أشبه.

نعم يجب أن يتربى شبابنا تربية علمية واعية ، تضع شعيرة الجهاد في نصابها النظري والعملي لا تسوغ لمتقاعس تقاعسه ، ولا لمتهور تهوره واندفاعه في طريق التهلكة ، وليعلموا أن الإسلام شرع الجهاد، فريضة ماضية إلى يوم القيامة ، لإبلاغ الرسالة الحق لكل الخلق ، ورفع الظلم عن الناس ، وهاتان هما الكلمتان  اللتان لخص بهما  ربعي بن عامر : إن الله ابتعثنا لإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله ، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة " لقد أساء أعداء الأمة عمدا إلى مصطلح الجهاد ومفهومه ، وشوهوا التصور عنه في العقول والقلوب، شاركهم في ذلك لفيف من الطغاة والمستبدين والناطقين باسمهم ؛كما فعل الشيء نفسه ، فريقان آخران من أبناء الأمة عبر تاريخها الطويل فريق آثر الخمول والسلامة  وأدار ظهره للحياة ، حتى ذلت الأمة، وطمع فيها أعداؤها وركب أكتافها المعتدون الطامعون والمستبدون، والطاغون الفاسدون ، وفريق وظفوا شعيرة الجهاد في غير موضعها، فضلوا الطريق، وارتكبوا الجنايات التي ما أنزل الله بها من سلطان فأعطوا بذلك الذرائع ، لكل معتد أثيم، ليمعنوا في النيل من شعيرة الجهاد ، بما يرتكبون باسم الجهاد من آثام ، الجهاد الذي  لن تجد الأمة بدونه السبيل إلى الله ، الذي جعله سببا ًلتمكين الدين في الأرض ، وتحطيم عروش الطغاة من البشر ، وإذلال المنافقين ، وكسر شوكتهم وإرهاب الأعداء مهما اتسعت ممالكهم وعظمت قوتهم .

جاءت معركة الكرامة، لتثبت  القدرة على مقاومة المحتل ، وإذا كان لهذه الأمة من معركة كمعركة الكرامة ، فمعركتها تحرير المسجد الأقصى ، وإن كان لها من كرامة ، فكرامتها تطهير المسجد الأقصى ، من رجس اليهود .

 

النهي عن الطيرة 

  المسلم لا يعرف التشاؤم أو التطير وعند القيام بأي عمل يأخذ بالأسباب فإن كان التوفيق والنجاح فالحمد والشكر لله وإن كان غير ذلك فالصبر لأن المصائب إما أن تكون تكفيراً للسيئات أو رفعاً للدرجات وكل شيء عند الله بقضاء .  وقد اعتبر رسول الله صلى الله عليه وسلم الطيرة من الشرك وأمرنا بما هو خير وذلك بصلاة الاستخارة وهي ركعتان يطلب المسلم من الله بعدها أن يختار له الخير . ولا يليق بالمسلم أن يتشائم بسبب حلم مزعج وإذا حصل هذا فقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن يتفل المسلم عن يساره ويتعوذ بالله من الشيطان الرجيم ومن شرّ هذا الحلم ، ولا يليق أن يتراجع عن عمل بسبب التشاؤم فإن ذلك يتقص من إيمان وتوكله على الله وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : "من رجعته الطيرة من حاجته فقد أشرك وكفارة ذلك أن يقول أحدهم اللهم لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك ولا إله غيرك ، اللهم لا يأتي بالحسنيات إلا أنت ولا يذهب بالسيئات إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بك " .  وقد علّق أحد التابعين على هذا الدعاء النبوي " والذي نفسي بيده إنها لرأس التوكل وكنز العبد في الجنة ولا يقولهن عبد عند ذلك ثم يمضي إلا لم يضّره شيء " . وروى أحمد وأبو داود أن عروة القرشي قال : ذكرت الطيرة عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال : "أحسنها الفأل ولا ترد مسلماً فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ولا يدفع السيئات إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بك ".  ولا يجوز للإنسان أن يتمادى في التشاؤم وترك العنان للوساوس والهواجس تلعب به فقد يصاب بالشيء الذي تشاءم منه أما من بتوكل على الله ويعلّق قلبه به فإنه لا يلقى ما يضرّه من هذه الوساوس والهواجس روى ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" لا تضرُّ الطيرة إلا من تطير ".

 

 

 

 

إثم تدنيس آيات القرآن

ما هو الحكم الشرعي في تدنيس الآيات القرآنية وأسماء الله الحسنى؛ مثل المشي عليها ورميها في البراميل في شكل نفايات ولف الأطعمة بالجرائد مع وجود الآيات القرآنية بها وعدم رفعها من الأرض؟

 أجمع المسلمون على أن من تعرَّض للقرآن بامتهان أو بابتذال متعمداً فإنه مرتد خارج من الملة إن كان من المسلمين، وأن من تعرض له من غير المسلمين فهو محارب لله ورسوله، وأما من رضي بذلك أو بدر منه ما يؤيده فقد دخل في النفاق ألاعتقادي فالراضي كالفاعل. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وقد اتفق المسلمون على أن من استخفَّ بالمصحف مثل أن يلقيه في الحش أو يركضه برجله إهانة له أنه كافر مباح الدم"  فالواجب على المسلم تعظيم الآيات القرآنية وأسماء الله الحسنى وكذلك أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم لعموم قوله تعالى : { ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه }وقوله تعالى : { ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب } ولأن المتواتر من فعل المسلمين الصالحين الحرص على ذلك؛ ومن باب التعظيم للقرآن أن جمهور العلماء قد حرَّموا مس المصحف إلا على طهارة كاملة، وذكر أهل العلم في تعظيم المصحف ألا يحمل بالشمال وألا يوضع على الأرض وإن كانت طاهرة وألا يوضع فوقه شيء لأن كلام الله يعلو ولا يعلى، وألا تقلب صفحاته ببل الإصبع بالريق لأن الريق وإن كان طاهراً فإنه مستقذر إلى غير ذلك من الأحكام . وعليه فإنه يحرم المشي على الآيات القرآنية أو رميها مع النفايات أو الأكل عليها أو لف الأطعمة فيها، ومن فعل ذلك متعمداً عالماً فإنه يخشى عليه من الردة لقوله تعالى : { أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } ومن وقع في شيء من ذلك فعليه التوبة إلى الله عز وجل والله أعلم .

 

 

 

 

 

اصول البر

 

يظن بعض الناس خطأ أن البر هو العبادة وحدها ، وهذا غير صحيح لأن البر يشمل العقيدة والعبادة والأخلاق وتنظيم العلاقات الاجتماعية ، وقد أنزل الله آية جمعت أصول البر كلها ، ذكر فيها بعض أركان الدين وهي الإيمان والإسلام ، وذكر فيها قواعد الإيمان وبعض قواعد الإسلام وهي الصلاة والزكاة وحددت صفة الصادقين المتقين قال تعالى:﴿ ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله  واليوم الآخر والملائكة والكتابِ والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابنَ السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقامَ الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون ﴾ البقرة 177

 

ليس المطلوب من العبد أن يتوجه إلى الله بجهة مخصوصة   ولكن البر المطلوب أن يعتقد بقلبه هذه الأشياء وأن يظهر على جوارحه ما يصدّق صحة اعتقادها ، وذلك كالاتصاف بالسخاء والكرم فيعطي المال على محبته له وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الصدقة افضل ؟ ( فقال أن تتصدّق وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر ) . فقوله :﴿ آتى المال على حبه ﴾ يعطينا إما منـزلة إخراجه من الملك وإما منـزلة إخراجه من القلب الذي يحبه ، ولذلك يعيب الله على جماعة من الناس يريدون العمل على طاعة الله ، لكنهم لا ينفقون لله إلا مما يكرهون فيقول في حقهم ) ويجعلون لله ما يكرهون ( ولكن لمن يكون ذلك المال الذي ينطبق عليه القول إنه لذوي القربى ، مع أن المفروض في الإنسان المؤمن أن يجعل كل الناس قرباه ، نذكر في هذا المقام قصة معاوية عندما كان أميراً للمؤمنين ودخل عليه الحاجب وهو يقول: يا أمير المؤمنين رجلٌ بالباب يدّعي أنه أخوك ، فقال معاوية : أبلغ بك الأمر ألا تعرف إخوتي ؟ أدخله ، فلما دخل الرجل قال له معاوية : أي إخوتي أنت ؟ قال أخوك من آدم  فقال معاوية رحمٌ مقطوعة ، والله لأكونن أول من وصلها  وأكرمه . فإذا كان الإنسان لا يستطيع أن يصل قرباه من الناس كافة ، ألا يستطيع أن يصل خاصة أقاربه ؟ ولأن الحث على البر أول ما جاء فيه هو إيتاء ذوي القربى  لأن لهم مكانة خاصة لقول رسول الله r ( صدقتك على المساكين صدقة وعلى ذوي القربى إثنتان صدقةٌ وصلة )   وعندما يعطي كل منا أقاربه ويحملهم على فائض ماله فلن يوجد محتاج ، وإذا وجد فسيكون قليلا تتسع له الزكاة الواجبة .  وفيها حضٌ على إعطاء اليتامى لإهمالهم ، والمساكين الذين أسكنهم الفقر في بيوتهم ، وابن السبيل المسافر الغريب أو الضيف ، والسائلين الذين يضعون أنفسهم موضع السؤال وفي الحديث ( أعط السائل ولو على فرسه ) وعنه  صلى الله عليه وسلم : ( هدية الله إلى المؤمن السائلُ على بابه ) لأنك لا تعرف لماذا يسأل ، بعض الناس يبررون الشح فيقولون : إن كثيراً من السائلين هم قوم محترفون للسؤال ، نقول لهم : ما دام قد سأل انتهت المسألة ، وما دام قد عرض نفسه للسؤال فأعطه ولا تتردد ، ولن تخسر شيئا من عطائه ، فلأن تخطىء في العطاء خيرٌ من أن تصيب في المنع .

 

ومن أوجه البر إقامة الصلاة في أوقاتها على الوجه المطلوب شرعا وإيتاء الزكاة ، وذلك لمن أراد أن يدخل في مقام الإحسان ، وهو أن تلزم نفسك بشيء لم يفرضه الله عليك ، ولذلك عندما سئل رسول الله r هل في المال حقٌ غير الزكاة ؟ ذكر رسول الله r هذه الآية ليس البر .. هذه أوجه البر المطلوبة ، والزكاة أيضاً مطلوبة ، وفي مصرف الزكاة لا يوجد ذوو القربى ولا اليتامى ، ففي البر هناك أشياء غير موجودة في الزكاة ، وكأن لسان الحال إذا أردت أن تفتح لنفسك باب البر مع الله فوسع دائرة الإنفاق ، وستجد أن البر قد أخذ حيزاً كبيرا من الإنفاق   لأن المنفق مستخلف عن الله ، والله هو الذي خلق الإنسان   وما دام خلقه فهو مكلفٌ بإطعامه ، فإذا أنفقت على المحتاج من خلقه ، فإنك تتودد إلى الله بمساعدة المحتاجين من خلقه دون أن يلزمك به ، ولذلك يقول الله : ﴿ من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسنا فيضاعفه له أضعافاً كثيرة ﴾ البقرة 245 . إذا كان هو الذي أعطى المال فكيف يقول أقرضني ؟ ذلك لأنه سبحانه لا يرجع فيما وهبه لك من نعمة المال ، فمالك هبة من الله ، لكن إن احتاجه أخ لك مسلم ، لا يقول لك أعطه من عندك أو أقرضه ، إنما يقول لك أقرضني أنا ، لأني خلقته ورزقه مطلوب مني ، وكأنك حين تعطيه تقرض الله ، وهذا معنى الآية فهو سبحانه متفضلٌ بالنعمة ثم يسألك أن تقرضه . ولنا عبرة وعظة من السيدة فاطمة عندما دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآها ممسكة بدرهم والدرهم يعلوه الصدأ وأخذت تجلوه ، فسألها : ما تصنعين يا فاطمة ؟ قالت أجلو درهماً قال : لماذا ؟ قالت : لأني نويت أن أتصدق به قال وما دمت تتصدقين به فلماذا تجلينه ؟ قالت : لأني أعلم أنه يقع في يد الله قبل أن يقع في يد المحتاج .

 

وأخيراً يتبع الله قوله عن البر كلمة التقوى ، فكل حكم يعقبه السبب من تشريعه هو التقوى ،  ومعناها أن تتقي معضلات الحياة ومشكلاتها بأن تلتزم منهج الله وتطبقه فتكون اتقيت المشكلات ، أما من يعرض عن تقوى الله   فإن الله يخبر عن مصيره بأن له معيشة ضنكا قال تعالى :

 

﴿ ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ﴾ طه 144 . وليست التقوى هي اتقاء النار كما يظن إنها أعم وشمل ، إنها اتقاء المشكلات التي تنشأ عن مخالفة منهج الله

 

 

 

 

 

 

 

حملة الإساءة للإسلام والرسول

 لقد أصبحت الإساءة للدين الإسلامي أمرا معتادا في الغرب ، حيث ظهرت العنصرية بوجهها القبيح ضد الدين الإسلامي في الدنمارك وايطاليا وأمريكا وحتى بابا الفاتيكان نفسه ، لم يتوان عن الإساءة للإسلام .  

إن مما يدعو للأسى أن بعض الحكومات العربية والإسلامية تلتزم الصمت تجاه هذه الإساءات ، وكأن الأمر لا يعنيها في شيء ، ما أدى إلى تمادى تلك الدولة في السخرية والاستهتار بالإسلام ، وقد أثبتت الوقائع أنها حملة منظمة ومنسقة تأتى في إطار عداء الغرب المتصاعد ضد الإسلام . وأداءً لواجب النصيحة لله ولرسوله وللمؤمنين ، وقياما ببعض حقه صلى الله عليه وسلم على أمته وتعبيراً عن مشاعر الإساءة لدى كل مؤمن ومؤمنة ، تجاه هذه الجريمة المنكرة ، فإنه يجب على ولاة الأمر والعلماء والمثقفين والإعلاميين والساسة ، الوقوف ضد ذلك كلٌ بحسب استطاعته  ، علماً بأن هناك من المستشرقين والعلماء في الغرب من أنصف الإسلام ورسوله ، ومن الجدير بالذكر أن الحملة المسعورة ضد الإسلام ورسوله أتت بردود أفعال إيجابية ،  حيث يزداد شوق الغربيين للتعرف علي الحضارة الإسلامية ، وقراءة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم حيث تجري يوميا ، عمليات إشهار الإسلام لعشرات الأشخاص في كل أركان المعمورة..   نسأل الله عز وجل أن يعلي كلمتة ، وينصر دينه ، وأن يوفق المسلمين للسير على نهجه وإتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم .     

 

 

يوم عاشوراء

 هو يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه ، وأغرق فرعون وقومه .  وهو في اليوم العاشر من شهر محرم لحديث عَبْد اللّهِ بْن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا قال : حِينَ صَامَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ: إِنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم : «فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ، إِنْ شَاءَ اللّهُ، صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ ». قَالَ: فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِلُ، حَتَّىٰ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللّهِ . رواه مسلم 

ويتأكد صيام يوم عاشوراء ؛ لحديث ابن عباس – رضي الله عنهما- قال: ( ما رأيت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يتحرى صيام يوم فضَّله على غيره إلا هذا اليوم يوم عاشوراء، وهذا الشهر يعني شهر رمضان ) رواه البخاري ومسلم

ولصيام هذا اليوم المبارك فضل عظيم كما في حديث أبي قتادة – رضي الله عنه- عن النبي –صلى الله عليه وسلم- (صيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يُكفّر السنة التي قبله ) رواه أحمد ومسلم  . وصيام هذا اليوم سنة مؤكدة وليس واجباً ؛ لحديث عبد الله بن عمرو- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: ( إن عاشوراء يوم من أيام الله ، فمن شاء صامه ومن شاء تركه ) رواه مسلم   وعن عائشةَ رضيَ اللّهُ عنها قالت:( كان عاشوراءُ يوماً تَصومهُ قريش في الجاهلية، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يصومه. فلما قدِمَ المدينةَ صَامَهُ وأمرَ بصيامه، فلما نزلَ رمضانُ كان مَن شاءَ صامه، ومن شاء لا يَصومُه ) رواه البخاري 

وسبب صيام هذا اليوم المبارك ما جاء في حديث ابن عباس – رضي الله عنهما- قال: قدم النبي – صلى الله عليه وسلم- المدينة، فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: ( ما هذا ) ؟ قالوا: هذا يوم صالح ، هذا يوم نجا الله بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى ، قال: ( فأنا أحق بموسى منكم ، فصامه وأمر بصيامه ) رواه البخاري 

 

 

 

 

مفهوم الـــحُــبّ والبغض

الحب لا ينكره الدين ، ولا تمنعه الشريعة  وأفضله محبة المتحابين في الله ، قال صلى الله عليه وسلم: ( أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله ) وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم: ( من أحب في الله وأبغض في الله وأعطى لله ومنع لله؛ فقد استكمل الإيمان) أبي داود ، فالمؤمن يحبّ في الله، ويوالي في الله ، ولا يوالي من خالف الله ورسوله ، قال تعالى:﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ﴾ فمحبة الله , لا تجتمع مع محبة   الكفار وموالاتهم ، وقد أساء الناس هذا الفهم، فنرى من يتحابون ويتباغضون من أجل المال ، ومن أجل القبيلة والعشيرة  وربما حصل الحب من أجل التصاحب والمعرفة ، أو من أجل الطمع في جاه المحبوب ، وهذا ليس صحيحاً ، لأن الحب في الله ، والبغض في الله ، الذي لا يُبتغى به وجه الله ، لا قيمة له عند الله ، وقد أشار إلى هذا ابن عباس فقال : "من أحب في الله وأبغض في الله، ووالى في الله ، وعادى في الله؛ فإنما تُنال ولاية الله بذلك  ولن يجد أحدٌ طعمَ الإيمان إلا بذلك" أما البغض في الله, فهو لمن عصى الله وخالفه ، ورد عن عيسى عليه السلام:"تحبّبوا إلى الله ببغض أهل المعاصي, وتقرّبوا إلى الله بالتباعد عنهم" .

ومن لوازم الحب في الله ، النصح للمسلمين، والإشفاق عليهم، والدعاء لهم  وزيارة مريضهم، وتشييع جنائزهم، وتفقد أحوالهم ، وأما لوازم البغض في الله ، ألا نبتدئهم بالسلام، ولا نتشبه بهم ، ولا نشاركهم في أعيادهم ، قد يقال بأن بغضهم ومعاداتهم يُؤدي إلى نفورهم وبغضهم للإسلام ، وها نحن نرى من والاهم وأحبهم ، فما أسلموا  بل ازدادوا عتوّاً ونفوراً عن الإسلام وأهله. وتجاهل القائلون أن عقيدة الولاء والبراء ، التي تعني محبة المؤمنين وموالاتهم ، وبغض الكافرين ومعاداتهم ، والبراءة منهم ومن دينهم  تجاهلوا أنها أكبر ضمان ، لحفظ الأمة من الانجراف في تيار الأمم الكافرة ، ألا نرى أن أصحاب عقيدة الولاء ، هم من أعظم الناس إيمانا ، إذ لا يمكن لهم بأي حال من الأحوال ، التشبه بالكفار ، أو الإعجاب بأخلاقهم وأفكارهم ، بخلاف الموالين لهم  الذين ينظرون إليهم بكل استحسان وإكبار    مع أن الأصل أن يكون الحب كله لله، ولا يحب معه سواه ، ومن أحب الله, وأطاع المخلوق وعصى ربه, فهو كاذب , لأنه لو أحبه لأطاعه :

تعصي الإله وأنت تظهر حبه     ذاك لعمري في القياس شنيع

لو كان حبـك صادقاً لأطعته  إن المــحب لمن يحب مطيع

في كلّ يومٍ يبتديك بنعمةٍ منه   وأنت لشكر ذلك الحب مضيع

وحب الله يكون باتباع منهج الله ، فقال سبحانه : ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ﴾ آل عمران31. 

لقد مُسِخ مفهوم الحب عند الناس   فاعتبروه يدل على ميل الذكر للأنثى ، بينما هو في الإسلام ، يتغنى بذكره العابدون ويوصي به الأطباء والمصلحون ، ويسعى إلى ترسيخه الدعاة المخلصون ، لأن التقصير في حق الله، ومخالفة منهج الله ، يؤدي إلى العداوة والبغضاء بين الناس ، قال تعالى:﴿فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِروا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾ المائدة 14. إننا بحاجة إلى التفقه في الحب   الذي عمت به البلوى, وشغل به من يعيشون للهوى ، وأحلام اليقظة, وشتان بين قلب امتلأ حباً للرحمن, وقلوب اشتغلت حباً للأخدان قال تعالى: ﴿ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ للهِ وَالّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُباً لله ﴾البقرة 165، لكن كثيراً من الناس خرجوا بالحب عما ينبغي أن يكون عليه ، من معانٍ نبيلة  إلى معانٍ مبتذلة محرّمة ، حيث انتهكت الحرمات, وارتكبت المحرمات, ولا أدلَّ على تعلق البعض بالحب المحرّم ، عندما نقرأ ما يكتبون, ونسمع ما ينطقون ، نجدهم وقد ذهبت أيامهم في المغازلات والمطاردات فوصفهم القائل :

تولَّعَ بالعشق حتى عشق فلما استقلَّ به لم يطق

رأى لُجَةً ظنها موجةً      فلما تمكَّن منها غرق

وشطَّ البعض في الحب ، غلواً أخرجه عن الحد, فأوجب لهم الإثم, وعَظُمَ منهم الجرم وربما أخرج أناساً من الملة والدين ، وحياض المسلمين ، ولئن اقتصر إثم أهل الجاهلية على حب الرجال للنساء, فإن فتنة أهل زماننا بالحب ، أشد وأفظع, فقد شغلوا  فيما تعارف الناس على تسميته بالعشق أو الإعجاب, والسبب خواء قلوبهم من حب الله, لأن النفس البشرية ، لو شغلت بما يرضي الخالق, لما أحبت ما يغضبه , فكيف طابت نفوس عشاق القَدِّ والخد ، أن يجعلوا في قلوبهم الدُّونَ من الحب لله ، وما تعلق قلب بغير الله ، إلا أذله الله ، لأن الله تعالى هو المستحق لكمال المحبة, قال الله عز وجل:﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُباً لله ﴾البقرة 165 فأطعم حبه تعالى من جوع ،  وكسا من عُريِّ, وآمن من خوف, وأغنى من بعد فقر حبٌ يورث سعادة الدنيا ونعيم الآخرة، قال تعالى في الحديث القدسي: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب, وما تقرب إليَّ عبدي بشيءٍ أحبَ إِليَّ مما افترضته عليه  وما يزال يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه, فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به, وبصره الذي يبصر به, ويده التي يبطش بها, ورجله التي يمشي بها, وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذ بي لأعيذنه ) رواه البخاري. ومن أحبَّ اللهَ, أحبَّ لقاء اللهِ, ومن أحبَّ لقاء اللهِ  أحبَّ اللهُ لقاءَه، وقد جعل الله حبه أساساً في الإيمان وأصلاً, فلا يتم الإيمان إلا بحبه وحب رسوله صلى الله عليه وسلم .   

إن من روابط المحبة ، الأخوَّة الإسلامية، بين المسلمين, فمَثلُهُم في التوَّاد والتراحم ،كمثل الجسد الواحد, وهم لبعضٍ كالبنيان يشد بعضه بعضاً، ومحبة المسلمين فيما بينهم يجب أن تكون لله وفي الله, لا تبنى على عوارض الدنيا وأغراضها, ففي الحديث أن من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله (رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وعليه تفرقا ) لأنه الإخاء عندما خالصاً لله, والوُد قائماً على الإيمان بالله والترابط يَشُدُ عراه حبل الإيمان, يكون من ثماره مثل قول النبي عليه السلام:(إن من عباد الله أناساً ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء بمكانهم من الله قالوا: يا رسول الله أخبرنا من هم؟ قال:هم قوم تحابوا في الله علي غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها ) رواه أبو داود. وكل محبة في الدنيا لم تكن لله ، تنقلب في الآخرة إلى عداوة وبغضاء قال سبحانه:﴿الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ ﴾الزخرف 67 فليراعى في المحبة ، وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل: (أحبب حبيبك هوناً ما عسي أن يكون بغيضك يوماً وأبغض بغيضك هوناً ما عسي أن يكون حبيبك يوماً ما ) رواه البخاري في الأدب .

إن من البدع ، الاحتفال بما يعرف بعيد الحب, الذي يتبادلون فيه التهاني, والورود الحمراء, وما علموا أن عيد الحب أو الفالنتاين ، ما هو إلا احتفال ديني خاص لدى النصارى, وتخليد لذكرى إحدى الشخصيات النصرانية وهو القس فالنتاين الذي كان له دور بارز في دين النصارى في القرن الثالث الميلادي، وأياً ما كان فمالنا ولأعيادهم؟ فقد آن الأوان أن يدرك المسلمون أن عليهم العيش قادة لا منقادين, ومتبوعين لا تابعين, لأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ، ولكن أكثرهم لا يعلمون.

 

  

 

 

 

 

 

القيم المادية والقيم الروحية

 

القيم المادية تتجلى في تلبية حاجات الجسد من الاكل والشرب والسكن والعلاج والغرائز ، فاذا تمسك الانسان بدينه وحرص على طهارة روحه سما وارتفع . وان هو استجاب للمادة والشهوات خسر الدنيا والآخرة . وقد شبه تعالى الذين للشهوات الجسدية بالانعام قال تعالى :﴿ اولئك كالأنعام بل هم اضل ﴾ . 

 

-  أما بالنسبة للقـصد مـن العمل فإنه لا بدّ أن يكون لكل عامل قصد قد قام بالعمـل مـن أجله. وهذا القصد هو قيمة العمل. ولذلك كان حتماً أن تكون لكل عمل قيمة يراعي الإنسان تحقيقها حين القيام بالعمـل، وإلا كان مجرد عبث. ولا ينبغي للإنسان أن يقوم بأعماله عبثاً من غير قصد، بل لا بد أن يراعي تحقيق قيم الأعمال التي قـصد القيـام بالعمل من أجلها.

 

وقيمة العمل إما أن تكون قيمـة ماديـة، كالأعمـال التجارية والزراعية والصناعية ونحوها، فإن المقصود من القيام بهذه الأعمال هو إيجاد فوائد مادية منها، وهي الربح، وهي قيمة لهـا شأنها في الحياة، وإما أن تكون قيمة العمل إنسانية كإنقاذ الغرقى وإغاثة الملهوفين، فإن المقصود منها إنقاذ الإنسان بغض النظر عن لونه وجنسه ودينه أو أي اعتبار آخر غير الإنسانية، وإما أن تكون قيمة العمل خُلُقية، كالصدق والأمانة والرحمة، فإن المقصود منها الناحية الخُلقية بغض النظر عن الفوائد وبغض النظر عن الإنسانية، إذ قد يكون الخُلق مع غير الإنسان، كالرفق بالحيوان والطير ، وقد تحصل من العمل الخُلقي خسارة مادية، ولكن تحقيق قيمته واجبة، ألا وهي الناحية الخُلقية. وإما أن تكون قيمـة العمـل روحيـة كالعبادات، فإنه ليس المقصود منها الفوائد المادية، ولا النـواحي الإنسانية ولا المسائل الخلقية، بل المقصود منها مجـرد العبـادة، ولذلك يجب أن يراعى تحقيق قيمتها الروحية فحسب بغض النظر عن سائر القيم.  هذه هي القيم للأعمال جميعها، وهي التي يعمل لتحقيقها الإنسانُ عند القيام بكل عمل من أعماله.

 

وقياس المجتمعات الإنسانية في حياتها الدنيوية إنّما يكون حسب هذه القيم، ويكون بقدر ما يتحقق منها في المجتمع ، ومـا يضمن تحقيقها من رفاهية وطمأنينة. ولذلك كان على المسلم أن يبذل وسعه لتحقيق القيمة المقصودة من كل عمل يقوم به حـين أداء هذا العمل ومباشرته، حتى يساهم في رفاهية المجتمع ورفعته، ويضمن ــ في الوقت نفسه ــ رفاهية نفسه وطمأنينتها.

 

وهذه القيم ليست متفاضلة ولا متساوية لذاتها، لأنّـه لا توجد بينها خصائص تتخذ قاعدة لمساواتها ببعـضها أو تفـضيل بعضها على بعض، وإنّما هي نتائج، قصدها الإنسان حين القيـام بالعمل. ولذلك لا يمكن وضعها في ميزان واحد، ولا تقاس بمعيار واحد، لأنّها متخالفة إن لم تكن متناقضة. غير أن الإنسان مـن شأنه أن يفاضل بين القيم ليختار أفضلها وإن لم تكن متفاضـلة، ولا متساوية، إلاّ أن الإنسان لا يرضى بذلك بل يفاضل ويساوي بينها. وهذه المفاضلة والمساواة لا تكون بناء على نفس القيمة، بل بناء على ما يصيبه هو منها، وعلى ذلك بنى الإنـسان التفاضـل والتساوي بين القيم على نفسه، وما تجره هذه القيم له من نفع أو ضر. ولذلك يجعل نفسه المقياس أو يجعل الأثر الذي يصيب ذاتـه من هذه القيم هو المقياس، فتكون في الحقيقة مفاضلة بين آثار هذه القيم في نفسه لا بين القيم ذاتها. وبما أن استعدادات بني الإنـسان تختلف بالنسبة لآثار القيم، لذلك تختلف مفاضلتهم بينها.

 

فالأشخاص الذين تتغلب عليهم المشاعر الروحية ويملكهم الميل لها ويهملون القيمة المادية يفضلون القيمة الروحية على القيمة المادية، فينصرفون للعبادات ويزهدون في المادة. ولذلك يعطلـون الحياة لأنّها مادة، ويسببون تأخرها المادي، ويـنخفض بـسببهم مستوى المجتمع الذي يعيشون فيه، بما يشيع فيه من كسل وخمول.

 

والأشخاص الذين تتغلب عليهم الميول المادية وتملكهـم الشهوات ويهملون القيمة الروحيـة يفـضلون القيمـة الماديـة وينصرفون لتحقيقها. لذا تتعدد عندهم المثل العليا، ويضطرب بسببهم المجتمع الذي يعيشون فيه، ويشيع فيه الشر والفساد.

 

ولهذا كان من الخطأ أن يترك للإنسان تقدير هذه القيم، بل يجب أن تقدر القيم من قبل خالق الإنسان وهو االله . ولـذلك كان لا بد أن يكون الشرع هو الذي يحدد للإنسان هذه القـيم ويحدد وقت القيام بها، وبحسبها يأخذها الإنسان. وقد بيّن الشرع معالجات مشاكل الحيـاة بـأوامر االله ونواهيه، وألزم الإنسان بالسير في هذه الحياة حسب هذه الأوامر والنواهي، كما بيّن الأعمال التي تحقق القيمة الروحيـة، وهـي العبادات التي أوجبها وسنها. كما بيّن الصفات التي تحقق القيمـة الخلقية. وترك للإنسان أن يحقق القيمة المادية التي تلزمه ليسد بهـا ضروراته وحاجاته، وما هو فوق الضروريات والحاجات، وَفـق نظام مخصوص بينه له، وأمره أن لا يحيد عنه. وما على الإنسان إلاّ أن يعمل لتحقيق هذه القيم وَفق أوامر االله ونواهيه، وأن يقـدرها بالقدر الذي بينه الشرع.  وبذلك تتحقق في المجتمع القيم بالقـدر الـذي يلزمـه ، كمجتمع معين. ويقاس هذا المجتمع بمقاييسها. وعلى هذا الأساس يجب أن يعمل لتحقيق القيم، ليوجد المجتمع الإسـلامي حـسب وجهة نظر الإسلام في الحياة. وعلى ذلك فإن العمل الإنساني مادة يقوم به الإنـسان قياماً مادياً  إلاّ أنه حين يقوم به يدرك صلته بالله من كـون هـذا العمل حلالاً أو حراماً فيقوم به أو يمتنع عنه على هذا الأسـاس، وهذا الإدراك من الإنسان لصلته بالله هو الروح. وهو الذي يجبر الإنسان أن يعرف شرع االله ليميز أعماله فيفهم الخير من الـشر حين يعرف ما يرضي االله من الأعمال وما يسخطه ويميز القبـيح من الحسن حين يعيّن له الشرع الفعل الحسن والفعـل القبـيح، وليرى القيم التي تلزم للحياة الإسلامية في المجتمع الإسلامي حسب ما يعيّنها الشرع. وبهذا يمكنه حين يقوم بالعمل ويدرك صلته بالله  ، أن يقدم على العمل أو يحجم عنه حسب هذا الإدراك، لأنّه يعلم نوع العمل ووصفه وقيمته

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

  

 

 

 

  

عجائب قدرة اللَّه

 

إن في الكون كائنات دقيقة، يأخذ المسلم منها عظةً، وإيمانًا بالخالق سبحانه، ومن عجائب ما فيها، قدرة الله المتناهية في كل أمر، منها ما يُدْرَكُ بالإحساس وله منافع في تلاقح الأشجار وجودة الثّمار، وإزالة بعض الأمراض، ومكافحة الأوبئة، وغير ذلك، حسب ما بدأ يتكشّف للإنسان، ومنها ما لا يُدْرَكُ، ولكنّه عالم مستقل بذاته. فمثلاً الطير الأبابيل ، فقد توسّع سيد قطب في تفسير هذه السورة وغيرها، ليبيّن أن البشر يجب ألاّ يخضعوا الآيات الكونيّة، لمفهوم عقولهم؛ لأنّهم (مَا قَدَرُوْا اللهَ حَقَّ قَدْرِه) وإنّما ينبغي تسليم الأمور في الغيبيّات، لمشيئة الله وقدرته، وعدم إخضاعها لأحاسيس البشر الضّعيفة القاصرة، وخاصةً في كل كائن ضعيف في نظرنا، خلقه الله، خاصّةً وأننا لا ندرك أمورًا كثيرةً، منها تسبيح هذه المخلوقات المتناهية في الصّغر، يقول سبحانه:﴿ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحَ بِحَمْدهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ﴾ 44 الإسراء.

 

وهذا من علم الله الذي يفتحه لمن يشاء مِنْ عباده، حتى يزداد الإيمان بالله، وعجائب قدرته، مثلما علمّ الله أنبياءه، ما لم يعلمونه، وقال عن صفوته من خلقه صلى الله عليه وسلم، وهو الأميّ: ﴿ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ﴾ 113 النساء . ففهم لغة جذع النخلة، الذي كان يخطب عليه، فحّن كالطفل بعدما تركه للمنبر الذي عمِل له، فضمّه حتى هدأ، ومثل ما قال للجبل الذي اهتزّ، وعليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر وعمر وعثمان، وقال له: ( اهدأ ثبير فإنّما عليك: نبيّ وصدّيق وشهيدان). وغير هذا من الوقائع التي تبرز فيها الخوارق التي هي من عجائب قدرة الله، وتزيد المتأمل يقينًا وإيمانًا بقدرة الله جلّ وعلا، وعبرةً توصل اليقين، وعبرةً لمن أراد أن يعتبر، مثلما قال الله في قصة إحياء الموتى، على لسان نبيّ الله إبراهيم عليه السلام، لـمّا سأل ربّه: كيف يحي الموتى.؟ فقال الله: ﴿ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ﴾ 260 سورة البقرة . فأرشده ربه إلى طريقة حسّية، تثبت إيمانه، وهي أيضًا من الخصائص التي منحها الله لنبيّه، عيسى ابن مريم عليه السلام.

 

وعلّم الله نبيّه سليمان عليه السلام، منطق الطير، ولغة النمّل ومخاطبة الهدهد، فقد جاء في الكتاب الكريم، قول النملة وهي من أصغر مخلوقات الله لما شاهدت، جحافل موكب النّبيّ سليمان: من الجن والإنس والطير وغيرها، موجهة القول لعالم النمل ومحذّرة: قالت نملة: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوْا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُوْنَ ﴾ النمل الآية18. وقد استدل بعض المحقّقين من كلمة ﴿ لا يَحْطِمَنَّكُمْ ﴾ أن عالم النمل مخلوق من مادّة زجاجيّة؛ لأنه هو الذي يتحطّم، ولو كان من عظام أو حديد لجاءت عبارة أخرى: كالتكسير والتمزّيق وما إليها.. 

 

وذكرت الآية حديث النملة، وانعكاسه على سليمان عليه السلام، فكان الردّ من سليمان على حديثها الذي أسمعه الله إياه : ﴿ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ﴾ سورة النمل 18 والنماذج على عجائب قدرة الله في مخلوقاته، لا تُعَدُّ ولا تُحْصىٰ، وكما يقول الشاعر :

 

وفي كل شيء له آية    تدلُ على أنه الواحدُ

 

فالله سبحانه أعطي الآيات التي علم أن الفطرة السليمة تستقبلها كآية وتؤمن بها. وأنزل لنا القرآن لنؤمن بالرسول الذي يحمله منهجا يُصلح حياتنا  وقد جعلنا سادة للكون؛ تخدمنا كل الكائنات، في الوجود ، وتصب جهدها المسخر لخدمتنا ، لأن الله ما خلقها عبثاً، ولا خلقها للعب، إنما خلقها من أجلنا نحن ، لذلك يقول سبحانه في الحديث القدسي: ( يا ابن آدم، خلقتُ الأشياء من أجلك، وخلقتُك من أجلي، فلا تنشغل بما هو لك عمن أنت له ) .

 

فالكون مملوك لك، وأنت مملوك لله، فلا تنشغل بالمملوك لك عن المالك لك. فإذا كنتُ قد جئتُ للأجناس كلها وجعلتُها دونكم وأعطيتها ما يصلحها ويقيمها ووضعت لها نظاماً، وأعطيتها من الغرائز ما يكفي لصلاح أمرها حتى تؤدي مهمتها معكم على صورة تريحكم فإذا كان هذا هو شأننا وعملنا مع من يخدمكم فكيف يكون الحال معكم؟ إنني أنزلت المنهج الذي يُصْلِح حياة من استخلفته سيداً في الأرض﴿ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ  الى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ﴾  الأنعام 38 . وكل الدواب دون الإنسان أعطاها الإله الإيمان بالفطرة، وهداها إلى الرزق بالغريزة. وميز الإنسان فوق كل الكائنات بالعقل، ولكن الإنسان يستخدم عقله مرة استخداما سليما صحيحا فيصل إلى الإيمان، ويستخدمه مرة استخداما سيئا فيضل عن الإيمان. وكان على الإنسان أن يعلم أنه تعلم محاكاة ما دونه من الكائنات؛ فقابيل تعلم من الغراب كيف يواري سوأة أخيه. ومصمم الطائرات تعلم صناعة الطيران من دراسة الطيور. إذن كان يجب أن يتعلم الإنسان أن له خالقاً جعل له من الأجناس ما تخدمه ليطور من حياته ومن رعاية كرامته بعد الموت. والمثال ما قالته نملة لبقية النمل:﴿ حَتَّى إِذَآ أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ ﴾النمل 18. إن النمل أمة لها حرس، قالت حارسة منهم هذا القول تحذيراً لبقية النمل. والله سبحانه يقول:﴿ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـاكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ﴾ الإسراء 44 . إذن فكل أمة من تلك الأمم الكثيرة التي خلقها الله في الكون تسبح بحمده، ولكن لا يفهم أحد لغات تلك الأمم. وأعلمنا الله أنه علم سيدنا سليمان لغات كل الأقوام وكل الأمم المخلوقة لله، ولذلك عندما سمع سيدنا سليمان ما قالته النملة: ﴿ تبسم ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا ﴾ .

 

وهكذا علمنا أن الله قد أعطى إذن سليمان عليه السلام ما جعلها تمتلك حاسية التقاط الذبذبة الصادرة من صوت النملة وتفهم ما تعطيه وتؤديه تلك الذبذبة، لذلك تبسم سليمان عليه السلام من قولها؛ لأن الله علمه منطق تلك الكائنات. ولو علمنا الله منطق هذه الكائنات لفقهنا تسبيحهم لله، ونحن لا نفقه تسبيحهم لأننا لم نتعلم لغتهم ، إذن لو علمك الله منطق الطير، ومنطق الجماد، ومنطق النبات؛ لعلمت لغاتهم ، ألم يقل الحق سبحانه وتعالى:﴿ وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ ﴾ الأنبياء 79 . إن الجماد تسبح مع داود. وكذلك الطير؛ فها هو الهدهد قد عرف قضية التوحيد، وحز في نفسه أنه رأى ملكة سبأ وقومها يسجدون للشمس من دون الله: ﴿ وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ ﴾ النمل: 24 . إذن فالهدهد قد عرف قضية التوحيد، وعرف أن السجود إنما يكون لله سبحانه وتعالى:﴿ أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ النمل: 25. إذن كل الكائنات هي أمم أمثالنا. وقد يقول قائل: ولكن هناك كائنات ليست في السماء ولا في الأرض، مثل الأسماك التي في البحار؟ ونقول: إن الماء ثلاثة أرباع الأرض والسمك يسبح في جزء من الماء الذي هو جزء من الأرض. فهو يسبح في جزء من الأرض فسبحانه الذي خلق الدواب في الأرض، وخلق الطيور، وخلق الأدنى من هذه الأمم وهداها إلى مصلحتها ومصدر حياتها: ﴿ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ﴾. ونرى العلماء يحاولون الآن اكتشاف لغة الأسماك واكتشاف كل أسرار مملكة النحل ونظامها، وكيف تصير أعشاش النمل مخازن في الصيف لقوت الشتاء. ودرسوا سلوك النمل مع حبة القمح، وكيف تخلع النملة خلايا الإنبات من بذرة القمح، لأن خلايا الإنبات إن دخلت مع حبة القمح إلى مخزن غذاء النمل قد تنبت وتدمر جحر النمل. قال الألوسي: "ومن تتبع أحوال النمل لا يستبعد أن تكون له نفس ناطقة؛ فإنه يدخر في الصيف ما يقتات به في الشتاء، ويشق ما يدّخره من الحبوب نصفين مخافة أن يصيبه الندى فينبت إلا الكزبرة والعدس فإنه يقطع الواحدة منهما أربع قطع ولا يكتفي بشقها نصفين؛ لأنها تنبت كما تنبت إذا لم تشق، وهكذا نرى صدق الحق الأعلى : ﴿ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى  وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَا ﴾ الأعلى: 2-3.وقرون الاستشعار في النملة تثير العلماء؛ لأن النملة الواحدة ترى على سبيل المثال قطعة السكر، فلا تقربها ولكنها تذهب لاستدعاء جيش من النمل قادر على تحريك قطعة السكر، ووجد العلماء أن وزن الشيء الذي يتغذى به النمل إن زاد على قدرة نملة، فهي تستدعي أعداداً من النمل ليؤدوا المهمة. وتساءل العلماء: من أين للنمل إذن هذه القدرة على تحديد الكتلة والحجم والوزن؟ إن تحديد العدد الذي يحمل حجماً محدداً يثير الغرابة والعجب، فكيف يمكن أن نتصور أن النمل يفرق بين شيئين يتحد حجمهما ويختلف وزنهما ككتلة من حديد وأخرى تماثلها في الحجم من الأسفنج؟ إن النمل يستدعي لكتلة الحديد أضعاف ما يستدعيه لحمل كتلة الأسفنج مع اتحادهما في الحجم؛ إنها من قدرة الحق الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى. ثم إنك تلتفت إلى الحيوان فتجد الذكر والأنثى، وتجد أن الجمال كله في ذكور الحيوان، بينما لا يكون الأمر كذلك في إناث الحيوان، والكثرة الغالبة هي من الإناث والقلة من الذكور، ولا يقرب الذكر أنثاه إلا في موسم معين، وإلى أن يأتي موسم التلقيح تنصرف الأنثى إلى إعداد العش وتهيئته لما عساه أن يوجد من نتاج، وهذه العملية لحكمة عالية ربما تكون لبقاء نوع الحيوان حتى يعين الإنسان في إعمار الأرض ، وفي عالم الطير نجد الطيور تبني العش بفن جميل لاستقبال الفرخ الذي خرج من البيض وتفرش له العش بأنعم الأشياء، إنها تفعل ذلك بإتقان جيد وبصورة ربما يعجز البشر أن يعمل مثلها. ثم نجد في دنيا الحيوان والطير أن الكائن ما إن يبلغ القدرة على الاعتماد على نفسه فلا تعرف الأم ابنها من ابن غيرها. إذن فكل المخلوقات أمم أمثالنا أرزاقاً وآجالاً، وأعمالاً، فصدق الله إذ يقول: ﴿ مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ﴾ ، وقد يكون المراد من الكتاب هنا هو اللوح المحفوظ، ولكننا نقول: إنه القرآن، وكل شيء موجود ومذكور أو مطمور في القرآن الكريم. وذكر القرآن أن هذه الأمم تعرف التوحيد، وأنهم يسبحون لله. والعمل المعاصر يكتشف في كل دقيقة حقائق هذا الكون المنظم. ونجد العقل يهدينا إلى أن نوجد أشياء لصالح حياتنا، ولكن عندما نتبع الهوى فإننا نفسد هذا الكون. إن الله سبحانه  جعل للخادم من دواب الأرض نطاقًا للعمل والرزق والأجل بحكم الغريزة، وكذلك جعل للطير، ولكل الكائنات: ويقول الحق سبحانه وتعالى في محكم آياته الكريمة: ﴿ مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ﴾الأنعام 38 . إذن كل شيء يحشر يوم القيامة. ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه: ( لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء ) . أي أن الحق سبحانه يقتص من الشاة ذات القرون التي نطحت الشاة التي بلا قرون ويعوضها عن الألم الذي أصابها. وبعد أن يأخذ كل كائن من غير الإنس والجن حَقَّه يصير إلى تراب. أما الذين يسمعون ولا يستجيبون فهم المكذبون بالآيات، ولذلك يقول عنهم الحق سبحانه وتعالى: ﴿ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا﴾   

 

 

 

 

 

 

 

 

رأيت وتمنيت

 

رأيت من المسلمين من فجر حرباً أزهقت روح الأخوة  فتذكرت حديثاً لأبي ذر يخبر أن الفتن سوف تنتشر بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، وتهيج الغرائز القديمة نحو القتال ( قال أبو ذر يا رسول الله أفلا آخذ سيفي وأضعه على عاتقي ؟ قال رسول الله له : شاركت القوم إذن ، قلت فما تأمرني ؟ قال : تلزم بيتك ، قال : فإن دخل علىَّ بيتي ؟ قال إن خشيت أن يبهرك شعاع السيف فالق ثوبك على وجهك يبوء بإثمك وإثمه ) . أول ما يتبادر إلى الذهن أن من اقتحم بيتي يريد قتلي قتلته لما روى مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من قتل دون نفسه فهو شهيد ) وتمنيت لو أن المسلمين سلكوا مسلكاً آخر غير القصاص ، لأن القصاص لا يحل المشكلات الداخلية ، والقطيعة بين ذوي الأرحام تنمو على العقاب وتقل مع العفو ، وعندما تتعقد الأمور بدوافع سياسية فمفتاحها الحل السياسي ، لا سفك الدماء ، ولعل ذلك ما عناه النبي صلى الله عليه وسلم عندما أوصى بموقف سلبي في مقابلة الفتن ، بتدخل أولو النهى لإنهاء الخلاف بردم منبع الشر ، وكأن الوصية النبوية تؤكد هذا المعنى عندما تقول عن الفتنة ( القاعد فيها خيرُ من القائم والماشي فيها خيرُ من الساعي ) . وتمنيت أن يكون في الأمة رجال لهم حلمٌ وأناة  لهم إخلاصٌ وتجرد ، يبتعدون عن أسباب النـزاع ويرفضون صيحات الجاهلية ، ويتحرون وحدة الكلمة  ويشدون الفرقاء المتخاصمين إلى الخلف ، ريثما يتم إصلاح ذات البين بحل تتغلب فيه المصلحة العامة ، مع شعورنا بصدق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ( الجماعة رحمة والفرقة عذاب ) ومع ما بلوناه من عواقب الاسترخاء في تنفيذ قوله تعالى : ﴿ ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ﴾ الأنفال 46 . رأيت من لا يزداد من الإسلام إلا بعدا ولا يزيده الخطر الداهم إلا غفلة ، فتمنيت لو تخلقوا بأخلاق عرب الجاهلية الأولى ، يحمون الديار ويطلبون الثأر ، ويحظرون على أنفسهم المتع حتى يقهروا عدوهم وينتصروا لأنفسهم ، فهذا أحد صعاليك العرب في الجاهلية يتوعد قتلَة قريب له فيقول :

 

إن بالشَّعب الذي دون سلْع   لقتيلاً دمه ما يُطَـل

 

خلّـف العبء علىَّ وولّى    أنا بالعبء له مستقل

 

ووراء الثأر مني ابن أختٍ    قصيعٌ عقدته ما تـحل

 

فلما أدرك ثأره أباح لنفسه الاستمتاع واللذة وشرب الخمر فقال تأبط شرّا يصف حالته تلك :

 

حلت الخمر وكانت حراما   ويالأَىٍ مـا ألـمت تحل

 

لعل هذا يستنهض الهمم للوقوف أمام عدونا الذي يصول ويجول ويقتل ويدمر .  وفي ميدان التدين ، فإن الله ينظر إلى البواطن لا إلى الصور وإن التدين أبعد شيءٍ عن القسوة والكبرياء ، وهذه خصالٌ ما وضعت في كفة إلا هوت بها ، وإذا ما استعرضنا سيرة رسولنا صلى الله عليه وسلم فإننا نرى تجسيداً للتواضع والإحسان وحب كل شيء .

 

ففي هذا الميدان رأيت من ينسى الأصل ويتعلق بالفرع ، ومن يغفل عن الركن ويتشبث بالنافلة ، ورأيت مشكلات أعجزت من تصدى لحلها ، لأنهم عموا عن الداء ، داء القلب الميت والشهوة الغالبة ، وتلك هي عللنا التي هزمتنا في كل صراع لأن كلمة الإسلام التي تمرق بين الشفتين دون رصيدٍ من إيمان أو خلقٍ لا جدوى منها لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ولا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له ) . ورأيت من لا يملكون إلا بعض القشور في الدين ، يريدون تمزيق الأمة بإيثار رأي على رأي ، وهم من وجهة نظري فتنةٌ نُحذِّر من غوائلها ، لأن الذين ينشرون التعصب خطرٌ على وحدة هذه الأمة ومستقبلها .

 

ورأيت من يكره إنسانا فيحاول النيل منه بكل أسلوب ويجتهد ما وسعه لإلحاق الأذى به وهو ما سماه النبي صلى الله عليه وسلم ( الفجور في الخصومة ) . فالمسلم الصادق هو الذي يعرف الرجال بالحق أما أولئك الذين يعرفون الحق بالرجال ، ويثقون في أي كلام يلقى إليهم ، لأنه صادر عن فلان أو فلان ، فهم أبعد الناس عن فهم الإسلام ، بل هم آخر من يقدم للإسلام خيراً أو يحرز له نصرا .  ورأيت بعض الدعاة مصاباً بحول فكري لا تنضبط معه الحقائق   فقد يرى العادة عبادة ، والنافلة فريضة والشكل موضوعا ، ثم يضطرب علاجه للأمور ، فتصاب الدعوة على يديه بهزائم شديدة . مع أن الداعية الناجح يجب أن يتوفر لديه النقاء وأن يكون محباً للناس ، عطوفاً عليهم لا يفرح في زلتهم ، ولا يشمت في عقوبتهم ، بل يحزن لخطئهم ويتمنى لهم الصواب .  وتمنيت أن يكون هدف الداعية بناء العقائد والأخلاق والعبادات ، عوضاً عن التعصب للمذاهب والأهواء باسم الغضب للإسلام ، والله يعلم أنهم بحاجة إلى من ينير عقولهم ويطهر أفئدتهم . ثم تمنيت لو اشتغلوا بحرفة أخرى ، وما أظنها ستكون سعيدة بهم ، فهم إذا كان الدين تيسيرا فإنهم معسّرون   وإذا كان تبشيرا فهم منفّرون ، محور نشاطهم بعض الأحكام الفرعية يؤثرون فيها رأياً ويقاتلون الرأي الآخر ، ولو أخلصوا لله نياتهم لوجدوا ألف طريق لخدمة الإسلام بعيداً عن الجدال المحموم  ، ورأيت أناساً لا تصيب الحقيقة من قلوبهم هدفا ، ولا تجد بها مقرا ، فهم كما قال تعالى : ﴿ أمواتٌ غيرُ أحياءٍ وما يشعرون أيان يبعثون ﴾ النحل 21 . فقيمة الإنسان في الدنيا والآخرة ترتبط بمدى صلاحية قلبه ، ولعل ذلك ما قرره قوله تعالى : ﴿ إلا من أتى الله بقلب سليم ﴾ الشعراء 89 . وما عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : ( ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله  وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهي القلب ) .

 

إنه لن يفهم الإسلام ولن يخدمه من حرم هذا القلب ، ولو استجمع شارات التدين من قلبه إلى رأسه ، أو من رأسه إلى قدمه ، لأن الدعوة لن تنجح إلا إذا حملها أصحاب القلوب الكبيرة ، وعملوا على نصرتها بفهمٍ حصيف وبصرٍ عفيف .  رأيت طائفة من العلماء احترفت العلم فبدلاً من أن تهذب به الناس ، أخذت تسخره في نيل الدنيا وتحريف الكلم عن مواضعه ، رأيت للعصبية المذهبية ضراوةً أنكى من ضراوة الخمر ، لأن ضراوة الخمر تغطي العقل ، أما هذه فتغطي الضمير ، ثم تسخر العقل لمسايرة الحقد وطلب الانتصار بأية وسيلة ، ولعل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن البغضاء هي الحالقة ) أي التي تحلق الإيمان والأخوة والفضيلة ، لعله يشير إلى هذا . رأيت من الناس مظهر القسوة في سلوكهم ، واعتداد بالشخصية لا يعرف التواضع ، وميل إلى اتهام الغير لا يقبل العذر ، يفهمون من المرويات فهماً ما ، ثم يقولون هذا هو النص ، وإذا خالفتهم فكأنك تخالف الإسلام ، وكثيراً ما يرتكب هؤلاء سلوك الجهال ، غير مكترثين بما يوجه لهم من نصح أو نقد ، لأنهم في زعمهم متعلمون ، لا يجوز القدح في علمهم ومسلكهم ، وقد يرتكبون من التصرفات ما يوقع المرء في حيرة بالغة من أمرهم ، فهم يجيدون نصف دينهم ، ولا يتقون الله في النصف الآخر .

 

رأيت من الحاقدين الذين إن وجدوا خيراً دفنوه ، وإن رأوا شراً أذاعوه ، وإن استطاعوا إدارة خصومتهم على غير قانون من خلق أو شرف فعلوه ، لا هم لهم إلا إشباع نفوسهم المحرجة وإرضاء صدورهم الموغرة ، تُرى أيغني في لقائهم الإحساس البارد والقلب الفارغ والابتسام المبذول ؟ ولكن هيهات هيهات : ﴿ فلا تطع المكذبين ، ودوا لو تدهن فيدهنون ﴾ القلم 4 . أتمنى ألا نتوجس من هذه الخصومات ، وأن نأخذ من ذلك مدداً ندعم به أنفسنا ، وأن نسلم الوجه لله ، فمن أسلم وجهه لله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى ، ومن قرر أن يكرِّس عمره لإدراك مآربه فهو الخاسر ، إن نبينا صلى الله عليه وسلم استقبل هذا التوجيه الإلهي وعمل به وهو : ﴿ قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ﴾ ومن أجل ذلك أخبرنا صلى الله عليه وسلم : أن أول ثلاثة تُسعَّر بهم النار – ونعوذ بالله من الخذلان – قاريء ومجاهد ومتصدق ، لأنهم بعللهم الخفية يعكرون رونق الدين ويضللون سيرته ، ودورانهم حول أنفسهم يزين لهم ظنون السوء بالآخرين ، والطعن في أحوالهم وأعمالهم ، كما يخفون وراء كلمة الإسلام صلفاً يثير الدهشة ، يرى القشة عند غيره ويذهل عن الخشبة في عينه ، ومن تدبر القرآن والسنة النبوية ، يرى أن الإسلام يبني الشخصية الإنسانية على سلامة الفطرة وأصالة الفكر ، فمن فسدت فطرته هبطت عبادته ، فما تساوي عند الله شيئا: ﴿ وما يذَّكر إلا أولوا الألباب ﴾ . إننا في وقت أحوج ما نكون إلى الحكمة القرآنية والسيرة النبوية في التهذيب ، كما أننا أحوج ما نكون إلى جهاد النفس والهجرة إلى الله في علم الشهوات الجلية والخفية ، فمن عمى عن هدي الله واستيقظ من نومه ليتحرك حول نفسه وأهوائه وليس للآخرة في وعيه حساب فهو هالك قال تعالى ) إن الذين لا يرجون لقائنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها  والذين هم عن آياتنا غافلون ، أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون ( يونس 7. إن سرور الدنيا أحزان ، وإقبالها إدبار ، وآخر حياتها الموت ، وكم من مستقبلٍ يوماً لا يستكمله ، ومنتظرٍ غداً لا يبلغه ، ذم رجلٌ الدنيا عند علي بن أبي طالب فقال له : " الدنيا دار صدق لمن صدَقَها ودار نجاة لمن فهم عنها " أما الدنيا التي ذمها الإسلام فهي دنيا الغفلة والبلادة والذهول عن الواجبات ، والجري وراء الشهوات ، الدنيا التي تشغل عن الله وتلهي عن الآخرة ، الدنيا التي شاء الله أن تكون ملكاً لنا  فجاء صغار الهمم وأبو إلا أن يكونوا ملكاً لها . وخطب علي فقال : " ألا وهذه الدنيا التي أصبحتم تتمنونها وترغبون فيها ، وأصبحت تغضبكم وترضيكم ، ليست بداركم ولا منـزلكم الذي خلقتم له ، ولا الذي دُعيتم إليه ، ألا وإنها ليست بباقية لكم ولا تبقون عليها ، وهي وإن غرتكم منها فقد حذَرَتْكُم شرها ، فدعوا غرورها لتحذيرها ، وإطماعها لتخويفها ، وسابقوا فيها إلى الدار التي دٌعيتم إليها ، وانصرفوا بقلوبكم عنها ، ألا وإنه لا ينفعُكم بعد تضييع دينكم شيءٌ حافظتم عليه من أمر دنياكم ، أخذ الله بقلوبنا وقلوبكم إلى الحق ، وألهمنا وإياكم الصبر " .                    

 

 

 

 

 

 

من الرويبضة

 

أننا نعيش في زمان كثرت فيه الفتن والبلايا، وعظمت فيه المحن والرزايا، ونطق الرويبضة  وقيل للحق باطل  وللباطل حقاً  وهذا ما أخبر به صلى الله عليه وسلم  مما سيقع  في آخر الزمان ؛ كما في الحديث الذي حدث به أنس بن مالك وأبي هريرة-رضي الله عنهما- حيث قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (سيأتي على الناس سنوات خداعات  يُصدَّقُ فيها الكاذبُ، ويُكذَّبُ فيها الصادقُ ، ويُؤتمن فيها الخائن ويُخوَّن فيها الأمين، وينطق الرُّويبضة)، قيل: وما الرَّويبضة ؟ قال:(الرجل التافه يتكلم في أمر العامة) . قال ابن الأثير- رحمه الله-: الرويبضة تصغير الرابضة ، وهو العاجز الذي ربض عن معالي الأمور، وقعد عن طلبها ،  والتافه : هو الخسيس الحقير . الرويبضة : من انحرف وراء فكر لا يجيز لغيره أن يناقشه فيه  السفيه يتكلم في أمر العامة ، سفيه لا دين ولا عقل ولا حكمة عنده ، إن اطلاق هذا الوصف على من آمن بأن اختلاف وجهات النظر مأنوس في تراثنا مقبولٌ في مسالكنا مأجورٌ عند الله سبحانه خطأً كان أم صوابا ، يعتبر غيبة ونميمة تنم عن حقد دفين يخرج من الإنصاف ، ولا مساغ لجعله حجر عثرة في طريق الدعوة ، ولم يرض لنفسه أن يكون من الأدعياء على الدعاة والمتعالم على العلماء ، والمتذاك على الأذكياء ، فما الذي أؤتمنا عليه وخناه وما الذي وعدنا به وأخلفناه  إنه طعن  في المسلمين باسم الإسلام ، يسمون من يقوم بتبيان الأحكام الشرعية بأدلتها التفصيلية بالرويبضة التافه ، ولكنها كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً. ! نعقوا بها يتيهون ويهيمون ، وليتهم عرفوا مدلولها الشرعي فهي حجة عليهم ، ومصيبتهم أنهم لا يُحسنون إلا ترديد الببغاوات . إن هؤلاء الرويبضات ديدنهم الكذب، وشعارهم التدليس، لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة، ، إذا رأوا عالماً أو طالب علم لا يوافق أهوائهم ولَغوا في عرضه ، فتارة يتغامزون، ويهمزون ويلمزون  وهم غافلون عن قول الله لاهون :﴿ وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ ﴾ وقوله :﴿ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُون ﴾ سورة المطففين 29 ، إنه زمن القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر ، زمن تصديق الكاذب وتكذيب الصادق وائتمان الخائن وتخوين الأمين ، وكأن الدين من قلوب الناس قد انعدم ، والإيمان قد زال منها وانثلم ولقد أحسن القائل :

 

وكم فصيحٍ  أمات الجهلُ  حُجَّتَهُ   وكم صفيقٍ لهُ الأسـماعُ  في رَغَدِ

 

دار الزمان على الإنسان وانقلبَتْ  كلُّ الموازين واختلَّـتْ بمُســتندِ

 

أمَّا الذيـن كتـاب الله منهجهمْ   فهُمْ منـابرُ إشــعاعٍ بلا مَـدَدِ

 

ما ضرَّهم أبداً إسفاف من سفهوا  أو ضرَّهم أبداً  عقلٌ  بدون يــدِ

 

يقول ابن تيمية رحمه الله : إنما يفسد الدنيا ثلاثة أنصاف نصف فقيه, نصف طبيب, نصف نحوي . فنصف الفقيه يفسد الدين, ونصف الطبيب يفسد الأبدان, ونصف النحوي يفسد اللسان . ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن من أشراط الساعة أن يلتمس العلم عند الأصاغر )  رواه الطبراني في المعجم الكبير‌ وصححه الألباني (2207) في صحيح الجامع ‌. ولكن للأسف لم يسلم هذا المنبر  من العديد من السلبيات ، حتى لاح لبعض العقلاء اليأس من صلاح أحوالها ، فعمد إلى أوراقه فمزقها ، وإلى أقلامه فكسرها ، ولسان حاله يقول ما قاله شعبة ـ رحمة الله ـ : "عقولنا قليلة ، فإذا جلسنا مع من هو أقل عقلا منا ذهب ذلك القليل ، وإني لأرى الرجل يجلس مع من هو أقل عقلا منه فأمقته" .

 

ولا يظن أحد بأني أعني بكلامي هذا أناس بأعيانهم ، ولكني أتكلم في هذا المسألة بشكل عام كنصيحة عامة أُذكّر بها نفسي أولا ، وأعتذر مقدما من شدة لهجتي أثناء بذلها ، فقد قيل : إننا لا نكتب بالمداد ، ولكن بدم القلب ، فعذرا إن ظهرت آثار الجراح بين السطور . كالتشنجات العصبية ، والمنهجية الاستبدادية ، والسلاطة اللسانية ، والاضطرابات العلمية ، والسفسطائيات الفلسفية ، الإرهابيات الفكرية ، وغير ذلك من الآفات والأمراض النفسية .

 

قيام الدين على أمرين

 

إن الشريعة الإسلامية والشرائع التي سبقت تقوم على أمرين هما كما قال تعالى في سورة الشورى : ﴿ أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا ﴾ بدعم المسلمين لقواعده والقيام بتكاليفه وأن لا ينحرفوا عنه ويقفوا تحت رايته صفاً واحدا  ، ثم نهى عن التفرق لأن الأعداء متربصون به وبه ضائقون ومنه نافرون وله كائدون ، كلمتان ما أيسر النطق بهما وما أصعب الحفاظ عليهما ، نحن جميعاً نؤمن بجملة العقائد المطلوبة منا ، ومع ذلك نهمل الكثير من المتفق عليه  ونهتم بالقليل من المختلف فيه للتفاوت في الفهم او التعبير في قضية من قضايا الاختلاف ، مما يجعل الأمة أحزاباً متباغضة وأقساماً متنافرة وهذا يذكرني بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما ضل قومٌ بعد هدي كانوا عليه إلا أوتوا الجدل ) وهنا سؤال : هل المولعون بقضايا الاختلاف مخلصون للقضايا المتفق عليها ؟ ولماذا ننسى القواعد التي تجمعنا ونسلك الدروب التي تفرقنا ؟ إننا أمة هي خمس العالم من حيث التعداد ، تبحث عنها في حقول المعرفة  وساحات الإنتاج فلا تجدها ، بماذا شغلت نفسها ؟ بقضايا جزئية محقورة ، وانقسامات ظاهرها الدين وباطنها الهوى ، إن أهل القرآن خانوه واتخذوه مهجورا ، في الوقت الذي انسوا فيه بباطل من القول وسخف من الجدل ، وغرقوا في غيبوبة من المباحث ما عرفها السلف الأول ، ولو عرفها ما أفلح أبدا ، ولا افتتح بلدا ولا أنشا حضارة .

 

ونحن نتنازع هل حديث التوسل صحيح أم ضعيف ؟ وهل كرامات الأولياء حق أم باطل ، في الوقت الذي كشف الغرب عن كنوز المعادن في بلادنا ، وقاموا بتصنيع النفط ونقله إلى بلادهم وأعطونا ثمنه ، فماذا صنعنا بهذا الثمن ؟ لقد ذهب اقله في خيرنا وأكثره في ضرنا ، وما الذي أوصلنا إلى هذا الحال ؟ فأصبحنا نأخذ ولا نعطي ، وأصبح البعد بيننا وبين كتاب ربنا بعد المشرقين ، وما سرّ المحنة التي نعيش ؟ إنه لن يصلح لنا مستقبل إلا إذا عرفنا أسباب تخلفنا ، عندما نسمع عن الأسلحة الحديثة نشعر بهول ما بلغه القوم من القوة ، صواريخ أرض أرض وأرض جو وجو أرض وجو جو ، وهذه طائرات قاذفة وتلك مقاتلة وهذه وهذه ، ما أروع ما أعد هؤلاء لنصرة معتقداتهم وقيمهم ؟ فهل أعد المسلمون شيئاً من هذا ؟ كلا اللهم إلا ما نشتريه منهم فيبيعون لنا ما يستغنون عنه ، فهل هناك فشل يعدل هذ الفشل  وبماذا شُغلنا عن مثل هذا الإنتاج ؟ أتدرون بماذا ؟ بالجدل فيما لا داعي في الخوض فيه في أمور نعلم علم اليقين بأن وجهات النظر كلها مأجورة من الله ، وبالانصراف عن شئون الدنيا انصراف بلادة وغباء ، وليس تجرداً لتقوى ولا ترفعاً عن شهوة ، ينظرون إلى التقدم الحضاري بعيونٍ ناعسة ، وينظر العالم إليهم نظرة استهانة يتحرك كل ذي دين لنصرة دينه ، وبطالب المسلمون وحدهم بنسيان دينهم ، وعدم التجمع على شعائره أو شرائعه   اللهم إلا في بعض الجوانب ، فقد يستغرق شرح الصلاة شهرا   وقد يطول الحديث في الوضوء والغسل ، لماذا يغوص غيرنا في الماء   ويسبح في الفضاء ونحن ننظر مشدوهين ، أليس غريباً أن تكلف امة ببناء إيمانها عل دراسة الكون ، ومع ذلك تحيا محجوبة عن الكون ونواميسه وأسراره ، أهذه هي استجابتها لقول الله ) ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك (  الغرب سيّر الأقمار الصناعية وأرسل المركبات الفضائية ليتزود بالمعرفة ، ونحن نتودد له مشترين من أسواقه أو مستعيرين من أسلحته ما نحتاج إلي تعلمه منه قبل أن نحسن استخدامه ، إنها من عجائب الدنيا أمة لديها كتاب الله ولا تحسن صحبته ، ولا تتعرّف منه على حقوق الله وحقوق الناس ، يجود عليها هذا بآلة وذاك برغيف ، أو يمتن هذا عليها بدواء تعالج به عللها ، أو سلاح ترد العادين عليها ، أما إعدادها لدينها ودنياها فصفر . إن من واجبنا أن نعرف أن القضية ليست في انتصار مذهب على مذهب ، إنما هي في حماية الإسلام من عداوات لم يخمد الزمان نارها ، عداوات أهل الكتاب من جانب ، والملاحدة والوثنيين من جانب آخر ، وقد امتلكوا من وسائل الإعلام ومن حظوظ المعرفة المادية ما جرأهم علينا، وأعانهم على ذلك أخطاؤنا   وما أكثرها  وتهاوننا وما سواه .       

 

 

 

 

الثقة بالله

الثقة بالله هي خلاصة التوكل على الله  وقمة التفويض إليه سبحانه  

قال تعالى ﴿ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾ غافر44

وهي الاطمئنان القلبي الذي لا يخالطه شك   والاستسلام لله عز وجل ، ومن فوض أمره فقد نجا ، ومن عصى فقد طغى .

ومن الأمثلة التي تدل على قوة الثقة بالله عز وجل ، قصة ذلك الشيخ الذي كلما جرى له أمر من الأمور ، أو مصيبة من المصائب ، قال :" عسى بالأمر خيره"    فإذا ما سرّه أمر قالها ، وإذا ما أحزنه أمر قالها ، وقد أغضب هذا الأمر من حوله وكان له قطيع من الإبل ، وليس لديه من يرعاها ، فقالوا : تعالوا نختبر الشيخ  لنعرف صدق كلامه ، وهل يردد جملته المعهودة عندما تؤخذ إبله ، فأخفوا إبله ورجعوا بالإبل الأخرى إلى مضاربهم  وأخبروه بأن إبله قد ضاعت ، وأنهم بحثوا عنها ولم يجدوها ، فما كان من الشيخ إلا أن قال قولته :" عسى بالأمر خيره "  ولم يتذمر أو ينـزعج ، وفي تلك الليلة أغار الغزاة عليهم ، وأخذوا جميع إبلهم   وعندها قالوا للشيخ : أبشر فإبلك سالمة  وهي بالمكان الفلاني ، وقد أردنا أن نختبر ثقتك بربك ، فقال لهم : " عسى بالأمر خيره " اذهبوا واحضروها ، وقد رحل عليها كل القوم الذين فقدوا كل إبلهم في تلك الغارة .

وقال بعض السلف : " صفة الأولياء ثلاثة : الثقة بالله في كل شيء ، والفقر إليه في كل شيء ، والرجوع إليه من كل شيء   وها هو النبي  صلى الله عليه وسلم يلقن الأُمة درساً في الثقة بالله فيقول لابن عباس (احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله تعالى لك ، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء ، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف) رواه الترمذي وقال: حسن صحيح. 

 

 

 

النهي عن التجسس وسـوء الـظن

من المبادئ الأخلاقية المهمة في التعامل إحسان الظن بالآخرين قال تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ﴾ . كثير من الظن هنا تعني الظنون السيئة، التي يجب اجتنابها ، وكأن مضمون الآية الكريمة يفصح عن أن الظنون التي تساور الإنسان تجاه الآخرين ، إما أن تكون حسنة وإما سيئة ، ولكن أكثرها سيئة لذا ينبغي اجتنابها ، لأنها داخلة في دائرة الإثم ، أما الظنون الحسنة فلا بأس بها    لأنها توطد العلاقة بالآخرين.

فالانطباعات التي نحملها عن بعضنا البعض ينبغي أن تكون منسجمة وتوجيهات قيم الإسلام  التي تدعونا إلى اجتناب الظن . والآية الكريمة تحذرنا من تشكيل قناعاتنا ومواقفنا من الآخرين ، من خلال سوء الظن  وفي الجانب المقابل نلتمس المعاذير لإخواننا  ونقول ما قال بعض السلف الصالح : " ألتمس لأخي من عذر إلى سبعين ، ثم أقول : لعل له عذرًا آخر لا أعرفه! " وإن من أعظم شعب الإيمان حسن الظن بالله ، وحسن الظن بالناس ، وفي المقابل يتنافى مع الإيمان ، سوء الظن بالله ، وسوء الظن بعباد الله .

 لأن سوء الظن من خصال الشر الذي ورد النهي عنه في القرآن والسنة ، وأن لا نظن بعباد الله إلا خيرا ، وأن نحمل ما يصدر عنهم على أحسن الوجوه قال صلى الله عليه وسلم : ( إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث..) . وما أصدق ما قيل :

تأنّ ولا تعجل بلومك صاحبًا      لعل له عـذرًا وأنت تلـوم!

وينبغي أن نقدم دائمًا حسن الظن ولا نتبع ظن السوء ، فإنه لا يغني من الحق شيئا.  ويشتد الخطر حينما يجتمع إتباع الظن  وإتباع الهوى ،كالذي ذم الله به المشركين في قوله: ﴿ إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ﴾ النجم 28 . وقد دلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرشدنا إلى خير ما يعلمه لنا ، وحذرنا وأنذرنا من شر ما يعلمه لنا ؛ جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله ) إذاً فحسن الظن بالله  يجب أن يكون صفة المؤمن طيلة حياته ، ويتأكد أكثر عند مماته وهو محب للقاء الله ؛ وفي الحديث الصحيح: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه) . وهو يرتبط ارتباطاً كبيراً بالتوكل على الله والثقة به ؛ حيث إنك لا تتوكل إلا على من تحسن الظن به ؛ ولذا قال ابن القيم :" بأن حسن الظن بالله يدعو إلى التوكل عليه ؛ إذ لا يتصور التوكل على من ساء ظنك به ولا التوكل على من لا ترجوه " وكذا الاستعانة بالله والاعتصام به واللجوء إليه ،فهذه كلها تستلزم أن يحسن العبد الظن بربه ، وحَسُن الظن بالله يجب أن يقترن بالخوف منه ، حتى لا يفضي إلى الغرور وترك العمل ، ومن الناس من اتكل على حسن ظنه بربه  واعتمد عليه مع إقامته على المعاصي ، متناسياً ما توعد الله به ، من وقع في المعاصي  وغفل عن الخوف من الله حتى وقع في الغرور ، وعلى المؤمن أن يتحرى معرفة المنهج الصحيح في حسن الظن بالله ، حتى لا يقع فيما نهى الله عنه من الغرور أو سوء الظن بالله . والمؤمن حين يحسن الظن بربه ، فإن قلبه لا يزال مطمئناً ونفسه آمنه تغمرها سعادة الرضى بقضاء الله وقدره وخضوعه لربه ، فالقلب المؤمن حَسَنُ الظن بربه يَتوقّع منه الخير في السراء والضراء ، ويؤمن بأن الله يريد به الخير في الحالين ، ومن أثرِ حسن الظن بالله على المؤمن أنه عندما يسمع ما يخبر به الله عن نفسه من أنه عفو غفور وتواب رحيم ، ويسمع قول نبيه صلى الله عليه وسلم : ( إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل ، حتى تطلع الشمس من مغربها)  فإنه عندما يسمع ذلك يطمع بعفو الله ،  فيطرق بابه راجياً مغفرته ، بأن يتوب عن المعاصي .

ولما كان السلف هم أقرب الناس إلى منهج الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم  أدركوا أهمية حسن الظن بالله ، ومدى أثره على المؤمن ؛ فكانوا أحرص الناس عليه ، وأكثرهم دعوة إليه وحثاً على التمسك به ، فهذا سعيد بن جبير  كان يدعو: " اللهم إني أسألك صدق التوكل عليك وحسن الظن بك " . وقال عبد الله بن مسعود : " والذي لا إله غيره ما أُعطي عبد مؤمن شيئاً خير من حسن الظن بالله ، والذي لا إله غيره لا يحسن عبد بالله  الظن إلا أعطاه اللـه ظنه " ، وحيث جاء الأمر بحسن الظن   فإن بعض الناس قد أساء في هذا الأمر وغلا فيه ، حتى سقط في الغرور ، جاهلاً بكيفية إحسان الظن بالله ، ناسياً  عقاب الله الأليم   وغافلاً عن شدة عذابه ، ومحاسبته لعباده عما اقترفت أيديهم . ذكر الإمام ابن القيم شيئاً من أحوال المغترّين وجهلهم بالله فقال: " وكثير من الناس يظن أنه لو فعل ما فعل ، ثم قال : أستغفر الله ، زال الذنب وراح هذا بهذا " . وسمعت من يقول أنا أفعل ما أفعل ثم أقول : سبحان الله وبحمده مائة مرة ، فإن الله يغفر ذلك كله  كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قال في يوم : سبحان الله وبحمده مائة مرة حُطّتْ خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر) . مما يدل على أن لي رباً يغفر الذنب ويأخذ به.   هذا الصنف من الناس قد تعلق بنصوص من الرجاء واتكل عليها ، وإذا عوتب على الخطايا والانهماك فيها ، سرد لك ما يحفظه من نصوص الرجاء وسعة رحمة الله ومغفرته   كقول القائل :  

وكثّر ما استطعت من الخطايا     إذا كـان القدوم على كريم

متجاهلاً أن على المؤمن مع إحسانه الظن بربه ، أن لا يغفل عن محاسبة الله لعباده بعدله وحكمته ، ومجازاته لهم بما كانوا يعملون  وأن يجتهد في القيام بما عليه موقنًا بأن الله يقبله ويغفر له ; لأنه وعد بذلك وهو لا يخلف الميعاد ، فإن ظن أن الله لا يقبله ، أو أن التوبة لا تنفعه ، فهذا هو اليأس من رحمة الله وهو من كبائر الذنوب .  

إن حسن الظن بالله يؤدي إلى سلامة الصدر وتدعيم روابط الألفة والمحبة بين الناس ، فلا تحمل الصدور غلاًّ ولا حقدًا ، امتثالاً لقوله  صلى الله عليه وسلم :( إياكم والظن  فإن الظن أكذب الحديث ، ولا تحسسوا ، ولا تجسسوا ، ولا تنافسوا ، ولا تحاسدوا ، ولا تباغضوا ، ولا تدابروا ، وكونوا عباد الله إخوانًا). وإذا كان أبناء المجتمع بهذه الصورة المشرقة فإن أعداءهم لا يطمعون فيهم أبدًا ، ولن يستطيعوا أن يتبعوا معهم سياسة فرِّق تَسُد ؛ لأن القلوب متآلفة والنفوس صافية . فلو أن كل واحد منا عند صدور فعل أو قول من أخيه وضع نفسه مكانه لحمله ذلك على إحسان الظن به وقد وجه الله عباده لهذا المعنى حين قـال سبحانه :﴿ لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً ﴾ النور 12. وأشعر الله عباده المؤمنين أنهم كيان واحد ، حتى إن الواحد حين يلقى أخاه ويسلم عليه فكأنما يسلم على نفسه: ﴿ فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ ﴾النور 61 . وكان السلف يحملون الكلام على أحسن المحامل . قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لا تظن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن شرًّا ، وأنت تجد لها في الخير محملاً ". وانظر إلى الإمام الشافعي رحمه الله حين مرض وأتاه بعض إخوانه يعوده   فقال للشافعي : " قوى الله ضعفك ، قال الشافعي: لو قوى ضعفي لقتلني ، قال: والله ما أردت إلا الخير . فقال الإمام : أعلم أنك لو سببتني ما أردت إلا الخير"   هكذا تكون الأخوة الحقيقية  بإحسان الظن حتى فيما يظهر أنه لا يحتمل وجها من أوجه الخير   وكان الصالحون إذا صدر من أحدهم ما يسبب ضيقاً أو حزنا  يحسنون به الظن  ويلتمسون له المعاذير حتى قالوا : " التمس لأخيك سبعين عذراً "، وقال ابن سيرين رحمه الله :"إذا بلغك عن أخيك شيء فالتمس له عذرًا ، فإن لم تجد فقل: لعل له عذرًا لا أعرفه ". إنك حين تجتهد في التماس الأعذار ستريح نفسك من عناء الظن السيئ ، وستتجنب الإكثار من اللوم لإخوانك :

تأن ولا تعجل بلومك صاحبًا    لعـل له عـذرًا وأنت تلوم

 ومن آفات سوء الظن أنه يحمل صاحبه على اتهام الآخرين ، مع إحسان الظن بنفسه  وهو نوع من تزكية النفس التي نهى الله عنها في كتابه :﴿ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ﴾ النجم 32 . ولذلك نجد أن التوجيهات الإسلامية تحثنا على حسن الظن واحترام  الآخر ، شخصاً وفكراً ووجداناً ، حيث جاء في التوجيه الإسلامي (ضع أمر أخيك على أحسنه ، حتى يجيء ما يغلبك منه ولا تظنن بكلمة خرجت من فم أخيك المسلم سوءا وأنت تجد لها في الخير محملا) . ويقول الغزالي : " ليس لك أن تعتقد في غيرك سوءًا إلا إذا انكشف لك بعيان لا يقبل التأويل". وإذا انحدر الظان إلى مزلق آخر وهو إشاعة ظنه وقع في الحرام " وإن تكلم بذلك الظن وأبداه أثم " كما نقل الشوكاني   وحكى القرطبي عن أكثر العلماء : " أن الظن القبيح بمن ظاهره الخير لا يجوز ". وقال الغزالي: " اعلم أن سوء الظن حرام مثل سوء القول ، فلا يستباح ظن السوء إلا بما يستباح به المال ، وهو بعين مشاهدة أو بينة عادلة ". ويقول ابن قدامة رحمه الله : " فليس لك أن تظن بالمسلم شرًا إلا إذا انكشف أمر لا يحتمل التأويل ، فإن أخبرك بذلك عدل فمال قلبك إلى تصديقه ، كنت معذورًا " وأشار إلى قيد مهم فقال :" بل ينبغي أن تبحث هل بينهما عداوة وحسد ؟." ويروى أن سليمان بن عبد الملك قال لرجل: " بلغني أنك وقعت فيَّ وقلت كذا وكذا. فقال الرجل: ما فعلت. فقال سليمان: إن الذي أخبرني صادق . فقال الرجل: لا يكون النمام صادقًا . فقال سليمان: صدقت اذهب بسلام". وجاء في النصوص النهي عن الاستماع إلى النمام قال صلى الله عليه وسلم : ( لا يبلغني أحدٌ عن أحد من أصحابي شيئًا   فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر ) أحمد في مسنده . فلا تجعلوا بطانتكم من النمّامين   فإن من وشى إليكم اليوم يشي بكم غدًا  ومثله ليس أهلاً للثقة – لفسقه بالنميمة – وفي ذلك يقول ابن قدامة المقدسي: " لا تصدّق الناقل لأن النمام فاسق ، والفاسق مردود الشهادة . فإن ركنتم إلى النمامين وأصبتم إخوانكم بجهالة فلا تنسوا أن تصبحوا على ما فعلتم نادمين ".                                                                                                                                               

والفطن من يفرق بين خبرٍ دافعه التقوى  وخبر غرضه الفضيحة أو التشهير . والذي لم يتخلق بخلق (التثبت) تجده مبتلى بالحكم على المقاصد والنوايا والقلوب   وذلك مخالف لأصول التثبت. يقول الشافعي – ووافقه البخاري -: " الحكم بين الناس يقع على ما يُسمع من الخصمين ، بما لفظوا به ، وإن كان يمكن أن يكون في قلوبهم غير ذلك ".

ومن أخطر المزالق لعدم التثبت ، أن يحسن الأمير الظن برجل من الناس ليس أهلاً للثقة  ثم يكون أسيرًا لأخباره ، أُذنًا لأقواله ، يصغي إليه ويصدقه . يقول ابن حجر: " المصيبة إنما تدخل على الحاكم المأمون من قبوله قول من لا يوثق به ، إذا كان هو حسن الظن به ، فيجب عليه أن يتثبت في مثل ذلك " .

 ومن أهم أصول التثبت فيما يُنقل من أخبار: السماع من الطرفين ، فقد أخرج أبو داود والنسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل عليًّا رضي الله عنه إلى اليمن قاضيًا فأوصاه : ( فإذا جلس بين يديك الخصمان ، فلا تقضين حتى تسمع من الآخر ، كما سمعت من الأول ، فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء ) . يقول علي رضي الله عنه: "ما شككت في قضاء بعد" ، فكان الصواب حليفة بالتثبت ، وكم زلّت أقدام ، ووقعت فتن بسبب عدم التثبت والظن يقول الشوكاني:" الخطأ ممن لم يتبين الأمر، ولم يتثبت فيه هو الغالب، وهو جهالة ". وكم تجد من الناس من يسارع للشهادة على أمر لم يفقهه   في حق امرئ لا يعرفه!! ولذلك أفتى الحسن البصري تحريًا للتثبت: " لا تشهد على وصية حتى تُقرأ عليك ، ولا تشهد على من لا تعرف "    وليس من خلق المتثبت التسرع والعجلة وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أرسل خالدًا رضي الله عنه للتحقق من عداوة بني المصطلق أمره أن يتثبت ولا يعجل . ولما أرسله إلى بني جذيمة للتحقق من إسلامهم فتعجل في القتل. قال  صلى الله عليه وسلم : ( اللهم إني أبرا إليك مما صنع خالد) رواه البخاري . إن كل مسلم ظاهره الصلاح صادق ولا نقول له إلا خيرًا ، وإلا فإن الاتهام بغير تثبت سبب في كثير من المظالم ، ولذلك كتب عمر بن عبد العزيز إلى أمير البصرة في قتيل وُجد عند بيت ولم يُعرف قاتله : "إن وجد أصحابه بينة وإلا فلا تظلم الناس  فإن هذا لا يقضى فيه إلى يوم القيامة". بل جاء في الحديث: ( لو يعطى الناس بدعواهم ، لادعى الناس دماء رجال وأموالهم ) .

وإن الواحد من الصحابة على عدالته كان يُطالب - في الخصومات-بإحضار شهود أو الإدلاء ببينات ، أو القسم ، ولم تكن عدالته لتشفع له في استقطاع شيء من حقوق الناس أو مس أعراضهم . وقد اشترط الشرع البينة دفعًا للاتهامات الرخيصة ، لئلا يبادر أحد إلى اتهام أحد إلا عن يقين ؛ ولذلك حين قُتل صحابي وجد بين بيوت اليهود في خيبر ، اتهم أصحابه اليهود في قتله  فطالبهم رسول صلى الله عليه وسلم بالبينة : قالوا : مالنا بينة . قال: فيحلفون . قال: لا نرضى بأيمان اليهود . فاضطر رسول الله  صلى الله عليه وسلم أن يدفع ديته مائة من الإبل، ولم يتهم اليهود بلا بينة .

ما أحوجنا اليوم إلى الأخذ بحسن الظن سواء على المستوى الفردي أو بين الجماعات لأننا نواجه مشكلة في العلاقة بين الجماعات ، كل جماعة تسيء تفسير تصرف الجماعة الأخرى   ولعل تصرفاً فردياً يصدر من أحد الأفراد يحسب على الجماعة بأكملها وهذا غير صحيح ، لأنه ينبغي على كل إنسان مؤمن عاقل ، أن يتجاوز ذلك وينظر إلى الآخرين نظرة إيجابية ، ولو تصور في خاطره تصوراً خاطئاً على شخص ما ، فعليه أن لا يبنيَ عليه موقفاً قد يضر أو يسيء به إلى إليه ، فذاك إثم وظلم نهى الشرع عنه ، ويرفضه العقل السليم 

 

 

 

 

 

 

 

  

فضل الاستغفار

روى أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ما من مسلم يذنب ذنباً ثم يتوضأ فيصلى ركعتين  ثم يستغفر الله لذلك الذنب إلا غفر له ، وقرأ هاتين الآيتين : } والذين إذا فعلوا فاحشةً أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصرّوا على ما فعلوا وهم يعلمون { آل عمران 135 وقوله : } ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيما { النساء 110 .

إن الله سبحانه وتعالى موجود للمغفرة والرحمة حيثما قصده مستغفرٌ منيب  وهو يستقبل المستغفرين فيغفر لهم ويرحمهم متى جاءوا تائبين .

إن الله يدرك ضعف الإنسان الذي تدفعه شهواته ورغباته إلى المخالفة عن أمر الله فلا يقسو عليه ولا يطرده من رحمته حين يظلم نفسه ، وحين يرتكب الفاحشة   وحسبه أن يعرف أنه عبدٌ يخطئ ، وأن له رباً يغفر ، فكان الاستغفار ملاذ الخائفين من الله وعزاء المكروبين من تقصيرهم وسوء حالهم وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيقٍ مخرجا )  وقال : ( والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقومٍ يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم ) . والاستغفار الكامل يتضمن علمًا يورث خوفًا وندمًا على فعل الذنوب ، وتركًا لها ، وطمعًا في رحمة الله ومغفرته .فما دام الإنسان يذكر الله ولا ينساه ، ولا يُصِرُّ على الخطيئة وهو يعلم أنها خطيئة ، ويُقِرُّ بالعبودية لله ، فإن الله لا يُغْلِق في وجهه باب التوبة  ويطمعه في المغفرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما أصرَّ من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرَّة ) رواه الترمذي . أما إن كان مقترف الذنب مصِرّاً فإنه لا يكون ممن عناهم الرسول صلى الله عليه وسلم لأن الحديث يشير إلى المستغفر من ذنبه غير المصرِّ عليه   وهذا ما أشار إليه سبحانه وتعالى بقوله : } ولم يصِرّوا على ما فعلوا وهم يعلمون {  

 من ثمار الاستغفار

  إذا كنا نريد راحة البال. وانشراح الصدر وسكينة النفس وطمأنينة القلب  فعلينا بالاستغفار: ] اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً [ هود: 3.

وإذا كنا نريد قوة الجسم وصحة البدن والسلامة من الآفات والأمراض  والغيث المدرار والذرية الطيبة والولد الصالح والمال الحلال والرزق الواسع  فعلينا بالاستغفار قال تعالى : ] اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً [نوح :1012.وإذا كنا نريد دفع الكوارث والسلامة من الحوادث والأمن من الفتن والمحن  فعلينا بالاستغفار: ]وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال:33 .وإذا كنا تريد تكفير السيئات وزيادة الحسنات ورفع الدرجات فعلينا بالاستغفار :]وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ [البقرة 58.

الاستغفار هو الدواء والعلاج الناجح من الذنوب والخطايا ، لذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم به دائماً وأبداً بقوله: ( يا أيها الناس استغفروا الله وتوبوا إليه فإني استغفر الله وأتوب إليه في اليوم مائة مرة ) والله يرضى عن المستغفر الصادق لأنه يعترف بذنبه ويستقبل ربه فكأنه يقول: يارب أخطأت وأسأت وأذنبت وقصرت في حقك  وظلمت نفسي وغلبني شيطاني   وقهرني هواي وغرتني نفسي الأمارة بالسوء  وطمعاً في سعة حلمك وكريم عفوك  وعظيم جودك جئت تائباً نادماً مستغفراً ،فاصفح واعف عني  وسامحني  وأقل عثرتي  وزلتي   وأمح خطيئتي  فليس لي رب غيرك ، ولا إله سواكوفي الحديث الصحيح : ( من لــزم الاستغفار جــعل الله لـه من كل هم فـرجا  ومن كل ضيق مخرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب ) . فمن مزقه القلق  وأضناه الهم  وعذبه الحزن ، فعليه بالاستغفار فإنه يقشع سحب الهموم ويزيل غيوم الغموم، وهو البلسم الشافي، والدواء الكافي. قال بعض العارفين : ينبغي للعبد أن تكون أنفاسه كلها نفسين : نفسا يحمد فيها ربه  ونفسا يستغفر فيها من ذنبه . وروي عن الحسن أنه مرّ بشابٍ كان يجلس في المسجد وحده فقال له : ما بالك لا تجالسنا ؟ فقال : إني أصبح بين نعمة من الله تستوجب علي حمدا ، وبين ذنب مني يستوجب استغفارا ، فأنا مشغول بحمده واستغفاره عن مجالستك. فقال : أنت أفقه عندي من الحسن .

ومتى شهد العبد هذين الأمرين استقامت له العبودية ، وترقى في درجات المعرفة والإيمان ، وتصاغرت إليه نفسه ، وتواضع لربه ، وهذا هو كمال العبودية .

قال القرطبي : قال علماؤنا : الاستغفار المطلوب هو الذي يحل عقد الإصرار ويثبت معناه في الجنان لا التلفظ باللسان   فأما من قال بلسانه : استغفر الله ، وقلبه مُصِرٌّ على معصيته فاستغفاره ذلك يحتاج إلى استغفار ، وصغيرته لاحقةٌ بالكبائر . وروي عن الحسن البصري أنه قال : استغفارنا يحتاج إلى استغفار .

فمن يكثرون من الذنوب عليهم أن يستكثروا من الاستغفار ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( طوبى لمن وجد في صحيفته استغفاراً كثيرا ) رواه ابن ماجة . وقال سفيان الثوري لجعفر بن محمد بن علي بن الحسين : لا أقوم حتى تحدثني قال له جعفر : أنا أحدثك ، وما كثرة الحديث لك بخير ، يا سفيان إذا أنعم الله عليك بنعمة فأحببت بقائها ودوامها فأكثر من الحمد والشكر عليها لقوله تعالى : ] لئن شكرتم لأزيدنكم [ وإذا استبطأت الرزق فأكثر من الاستغفار ، قال تعالى : ] استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا [  يا سفيان إذا حَزَبَك أمرٌ من سلطان أو غيره فأكثر من : لا حول ولا قوة إلا بالله فإنها مفتاح الفرج  وكنـز من كنوز الجنة، ولا ينال ثمرة الاستغفار إلا من استوفى شروطه ، وهي الإقلاع عن الذنب  وعقد العزم على عدم العودة إليه ، والندم على ما فرط في جنب الله تعالى ، أما الذي يستغفر الله بلسانه وهو مقيم على معصية الله غير نادم على ما فات منه -فإنه كالمستهزئ بربه- بل إن استغفاره هذا يلزم منه الاستغفار  والاستغفار التام الموجب للمغفرة هو ما قارن عدم الإصرار كما مدح الله تعالى أهله ووعدهم بالمغفرة .قال أحد السلف: من لم يكن ثمرة استغفاره تصحيح توبته فهو كاذب في استغفاره .حالات الاستغفار

فهي حال التلبس بالعبادة أو الفراغ منها فيقبل العبد على الاستغفار، يدفع به عن نفسه تبعة التقصير ، وقد أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بالاستغفار في مواطن كثيرة: قال تعالى: ] فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ [ محمد:19. وفي آخر ما أنزل على رسوله : ] فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر:3. وفي الصحيح أنه ما صلى صلاة بعد ما نزلت عليه هذه السورة إلا قال فيها: ( سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي ) .

ويروى عن لقمان عليه السلام أنه قال لابنه: " يا بني، عوِّد لسانك: اللهم اغفر لي، فإن لله ساعات لا يرد فيها سائلاً " . وقالت عائشة رضي الله عنها: " طوبى لمن وجد في صحيفته استغفاراً كثيراً " .

وقيل: " ما جاور عبد في قبره من جار أحب من الاستغفار ". قال قتادة: " إن هذا القرآن يدلكم على دائكم ودوائكم   فأما داؤكم فالذنوب وأما دواؤكم فالاستغفار " . وقال الحسن: أكثروا من الاستغفار في بيوتكم ، وعلى موائدكم  وفي طرقاتكم وفي أسواقكم وفي مجالسكم  فإنكم لا تدرون متى تنـزل المغفرة . وشُرِع أن يُختم المجلس بالاستغفار، وإن كان مجلس خير وطاعة . - وهو كفارة لما يكون في المجلس. فعَنْ أَبِي بَرْزَةَ الأسلمي قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم  يَقُولُ بآخرة إِذَا أَرَادَ أَنْ يَقُومَ مِنَ الْمَجْلِسِ:(سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ ) . فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ لَتَقُولُ قَوْلاً مَا كُنْتَ تَقُولُهُ فِيمَا مَضَى. قَالَ: ( كَفَّارَةٌ لِمَا يَكُونُ في الْمَجْلِسِ ) وشرع أن يختم العبد عمل يومه بالاستغفار فمما يقول عند النوم: كما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة (باسمك رب وضعت جنبي ، وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فاغفر لها...).

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

بين التمني والتوبة

 

إني أومن أن كل إنسان وهبه الله تعالى قدرا من الإيمان، مهما كانت ذنوبه ، فكل إنسان فيه شيء من فطرة الله تعالى التي فطر الناس عليها، والطريق لا بد فيه من بذل حتى نصل إليه ، فلا نكتفي بمجرد الأمنية ؛ فالأمنية وحدها غير كافية ؛ ولذا جاء في الأثر: ( ليس الإيمان بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل ) ولا يعني عدم العمل نفي الإيمان بالكلية، ولكنه ليس إيمانا صادقا، لقد كان القرآن الكريم دائم الربط بين الإيمان والعمل الصالح، لأنه دليل الصدق.

 

من الناس من ذبح نفسه بسكاكين المعاصي، وخناجر الآثام ، بل منهم من أودى بحياته بقذائف الرذائل، وقنابل الحرام ، وصواريخ الشرك والكفر، فأصبح كالأرض البور، لا يصلح فيها نبت ولا زرع  والإسلام لم يجعل الإنسان مقلدا في الخير والشر ، وقد حذر النبي  صلى الله عليه وسلم من ذلك حين قال: ( لا يكن أحدكم إمعة ، يقول: إن أحسن الناس أحسنت وإن أساؤوا أسأت، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساؤوا ألا تظلموا )  ويقول ابن مسعود، وهو من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يتبعن أحدكم دينه رجلا، إن آمن آمن ، وإن كفر كفر، فإنه لا أسوة في الشر".  والإنسان هو الذي يحدد لنفسه طبيعة حياته ، أن يكون صالحا ، أو يكون فاسدا، فهذه له هو، والله تعالى ترك له حرية الاختيار ) وهديناه النجدين( إن طبيعة الخطأ يجب أن يكون لها حدود، فإن زينت المعصية للإنسان، فليبتعد عن الكبائر، لأن الصغيرة تمحى بيسير الأعمال ) والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم (  وكون الإنسان دائما لا يقرب الكبائر فيكون في مأمن منها، بل الأصل أن يسعى المسلم إلى مرضاة ربه ، وأن يبتعد عما نهى عنه ، وفي الحديث: ( إن الله تعالى يغار، وغيرة الله أن يأتي العبد ما حرم الله ) . إن إتيان الفاحشة الكبرى أمر مذهل، وقد أنكرت هند بنت عتبة، وكانت على جاهليتها لم تسلم بعد، حين أتت تبايع الرسول على الإسلام، فاشترط الرسول صلى الله عليه وسلم على النساء عدم الزنى، فتعجبت المرأة العربية الجاهلية، وقالت: "أو تزني الحرة يا رسول الله؟!"، فكأن النفوس مفطورة على البعد عن الفاحشة، ولهذا فقد حذر القرآن منها أشد التحذير، وحرم الأسباب المفضية لها قبل أن يحرمها، فقال تعالى: ﴿ ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا ﴾ .

 

وقد نفى النبي صلى الله عليه وسلم وصف الإيمان عن الزاني حين قال: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ) فالإيمان يخلع حين ممارسة الفاحشة، وهذا يعني أن مرتكب الفاحشة وقع فريسة الهوى والشيطان، وزين له الشيطان فعله، وأوهمه أن ارتكاب الحرام طريق الغنى .  وقد قال تعالى: ﴿ ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ﴾ وقال أيضا: ﴿ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ فالواجب على الإنسان أن يأخذ قرارا حاسما بترك الفواحش من الآن ، وليس بعد ساعة   وأن يصدق الله تعالى ولقد صدق القائل :

 

تعصي الله وأنت تظهر حبه  هذا لعمري في القياس شنيع

 

لو كان حبك صادقا لأطعته  إن المحب لمن يحب مطيع

 

في كل يوم يبتديك بنعمة   منه وأنت لشكر ذاك مضيع

 

فالتمس في حب الله تعالى لك عونا على ترك معصيته، واللجوء إليه، فإنه سبحانه يحب التائبين إليه، العائدين إليه، مهما كانت ذنوبهم، وهو القائل : ﴿ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم ﴾ انظر إلى قوله : ) ﴿ إن الله يغفر الذنوب جميعا ﴾  فليس بينك وبين التوبة حائل مهما عظم فإن كان ذنبك عظيما ، فعفو الله أعظم . واسمع إلى ربك حين يبلغ عنه الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي:  ( يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو انك أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة ) .

 

إن الله تعالى يفتح لنا أبواب التوبة ، ورزقنا الخوف منه حين ذكره ، فلم لا نجعل هذا حاجزا لنا عن المعصية ساعتها ، ولم لا نستجب لنداء الحق حين نسمعه والله تعالى لن يجبرنا على ترك المعصية ، ولن يجبرنا على فعل الطاعة ؛ لأنه سبحانه سيحاسب الناس على أعمالهم ، كل بما عمل ، وكل امرئ يختار لنفسه ما يحب . وما لنا ومن لا يفهم دين الله حق الفهم ؛ فالذي يقنط الناس من رحمة الله جاهل بحقيقة التوبة ، وحب الله لعباده ، إن الله يفرح بتوبة التائبين، ويسعد بعودة العصاة الآثمين، وقد جاء في الأثر: ( إني لأجدني أستحي من عبدي يرفع إليّ يديه يقول يا رب يا رب فأردهما؛ فتقول الملائكة إلهنا إنه ليس أهلا لتغفر له فأقول ولكني أهل التقوى وأهل المغفرة أشهدكم أني قد غفرت لعبدي ) . وجاء في بعض الكتب: "أوحى الله لداود، يا داود لو يعلم المدبرون عني شوقي لعودتهم ورغبتي في توبتهم لذابــوا شوقا إليّ، يا داود هذه رغبتي في المدبرين عني فكيف محبتي في المقبلين عليّ ، وفي الأثر: إنه إذا رفع العبد يديه للسماء وهو عاص فيقول يا رب فتحجب الملائكة صوته فيكررها يا رب فتحجب الملائكة صوته فيكررها يا رب فتحجب الملائكة صوته فيكررها في الرابعة فيقول الله عز وجل إلى متى تحجبون صوت عبدي عنى؟ لبيك عبدي لبيك عبدي لبيك عبدي لبيك عبدي. وفي الحديث القدسي: ( ابن آدم خلقتك بيدي وربيتك بنعمتي وأنت تخالفني وتعصاني فإذا رجعت إلى تبت عليك فمن أين تجد إلها مثلي وأنا الغفور الرحيم ) .

 

وقال أحد الصالحين: "ولا تقطع الاعتذار ولو رددت، فإن فتح الباب للمقبولين فادخل دخول المتطفلين ومد إليه يدك، وقل له مسكين فتصدق عليه فإنما الصدقات للفقراء والمساكين". أما التفكير في الخلوة، فهو شيء محمود، خلوة عن العصاة المذنبين، والاختلاط بعباد الله الصالحين ، الذين يعينونك على طاعة الله تعالى وما أكثرهم لو نويت خيرا . 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

حب الله والتقرب إليه

قال تعالى : } قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم { آل عمران 32 . إن المحبة المحمودة التي أمر الله بها وخلق الخلق لأجلها هي محبته وحده لا شريك له ، المتضمنة لعبادته دون عبادة سواه ، لأن العبادة تتضمن غاية الحب بغاية الذل ، ولا يصلح ذلك إلا لله عز وجل قال تعالى : ) والذين آمنوا أشدُّ حباً لله ( البقرة 165 .  

 ومحبة المؤمنين لله ورسوله ، تكون بطاعتهما  وإتباع أمرهما ، وابتغاء مرضاتهما ، لأن حبهما بلا إتباع كذبٌ وافتراء ، ومحبة الله للمؤمنين تكون بثوابه وعفوه وإنعامه عليهم بالغفران وذلك قوله تعالى : ] ويغفر لكم ذنوبكم [  وإذا أحببت لله فإن ذلك يكون من محبة الله  فمن أحب الله وأحبه الله أحب ما يحبه الله وأبغض ما يبغضه الله  ووالى من يواليه الله وعادى من يعاديه الله ، وهذا ما يوجب محبة الله للعبد كما جاء في الحديث الصحيح عن الله تعالى : ( من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وما تقرّب إليّ عبدي بمثل أداء ما افترضته عليه     ولا يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أحبه   فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ، فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي ، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن ، يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه )  ومن يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه أن يعمل بما جاء به  ويقتدي بسنته ويطبق نهجه وتعاليمه ، وأن يفعل مثل ما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا يقع في إطار التكليف المقدور عليه . روي أن عمر بن الخطاب حينما قـال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعن ) . وقف عمر عند هذه النقطة فقال : أمعقول أن يكون الحب لك أكثر من النفس ؟ إنني أحبك أكثر من مالي ، أو من ولدي ، إنما من نفسي ؟ ففي النفس منها شيء فكررها النبي صلى الله عليه وسلم ثانياً وثالثاً   فعرف عمر أنها قد أصبحت تكليفا ، وعرف أنها لا بد أن تكون من الحب المقدور عليه   وهو حب العقل وليس حب العاطفة ، وهنا قال عمر الآن يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الآن يا عمر ؟ أي كمل إيمانك الآن. 

وحب الله ليس دعوى باللسان إلا أن يصاحبه الإتباع لرسول الله ، والسير على هداه  وتحقيق منهجه في الحياة ، أما من يدّعي هذا الحب ولا يفعل مثلما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهذا عدم صدقٍ في الحب ولقد صدق القائل :       

تعصي الإله وأنت تظهر حبه    هذا لعمري في الفعال بديع

لو كان حبك صادقاً لأطعته    إن المحب لمن يـحب مطيع

والطاعة تكون فيما يقرِّب العبد من الله بقلوب صادقة ، فتكون منه المعونة ويكون الرضا جاء في الحديث الذي يرويه رسول الله r عن ربه قال :  ( من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي   ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه  ومن تقَّرب إليّ شبراً تقربت إليه باعاً ، ومن تقرب إليّ باعاً تقربت إليه ذراعاً ) . فإذا أردنا أن يتقرب الله منا فلنتقرب إليه بتأدية ما افترض علينا من الفرائض ، لحديث البخاري أن رسول الله e قال فيما يرويه عن ربه : ( وما تقرّب إلىّ عبدي بشيءٍ أحبَّ إلىّ مما افترضت عليه ) . فليس من العقل والحكمة أن يتقرّب

 العبد إلى الله بما أباحه له أو نديه إلى فعله  بإهمال الواجب الذي فرضه عليه وألزمه به ، إذ لا تتحقق طاعة العبد لله إلا بتنفيذ الأوامر واجتناب النواهي التي تعد الفيصل الأساسي بين العبد المطيع والعبد العاصي ، وما شرعت النوافل بعد ذلك ، إلا تكميلاً لمعنى الطاعة ومبالغة في معنى التقرب من الله والتحبب إليه سبحانه ، ومن العجيب أن نرى أناساً يحرصون على كثير من النوافل في بعض العبادات ، في الوقت الذي يهملون فيه فروضاً أخرى ، مما يقدح في حقيقة عبوديتهم ، وصدق طاعتهم لربهم .  هناك أولويات في طريق التقرب إلى الله عز وجل ، والأولويات المطلقة هي لأداء الفروض الشرعية ، وتأتي النوافل والمندوبات في الدرجة الثانية ، وهي تابعة ومكملة ، لما ورد في الحديث أن رسول الله قال  فيما يرويه عن ربه : ( ولا يزال العبد يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ) رواه البخاري  .

 

 

شرع الله مقدّم على هوى النفس

إن المؤمن الحق خاضع لأوامر الله، منقاد لشرعه ، مقدم شرع الله على هوى نفسه ومشتهياتها ، ويكون هواه تبع لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم بقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به ) فلا ينقاد إلى الهوى ، بل يخالف الهوى وينقاد إلى الشرع ، ويتذكر قول الله سبحانه ذاماً من اتبع هواه: ﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ : ﴿ 23الجاثية . فالمؤمن هواه تبع لما دلَّ عليه الكتاب والسنّة ، يتلقى أوامر الله بالقبول فينفذها ، ونواهيه  فيجتنبها ويبتعد عنها ، أما الذين ثقلت عليهم أوامر الشرع، فلم ينقادوا لها، سواء كان ذلك في أصول الدين أم في فروعه ، فقد ذمهم الله تعالى في قوله :﴿  كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ ﴾ 13 الشورى . دعاهم إلى عبادة الله، وإخلاص الدين لله ، وأن يكون الله وحده المعبود دون سواه وأن العبادة بكل أنواعها حق لله لا حق لمخلوق كائناً من كان ، فلما دعاهم إلى ذلك كبر عليهم وشقّ عليهم وقالوا: ﴿ أجعل الآلهة إلهاً واحدا إن هذا لشيءٌ عجاب ﴾ 5 ص ،  كبر عليهم هذا الدين بأحكامه وأوامره ونواهيه ، وكبرت عليهم الدعوة إلى تحيكم الكتاب والسنة والاقتصار عليهما وتلقي الأحكام منهما   كبر عليهم وجوب تحكيم الكتاب والسنّة والتحاكم إليهما والرضا بأحكامهما ، وأنها هي الأحكام العادلة التي تعطى كل ذي حق حقه، وفيها ردع الظلم وتحقيق العدل وإرساء دعائم الأمن ، و إذا ما دعونا الى ذلك اعترض المعرضون واعترض المنافقون  وقالو ا: هذه أحكام لأمة مضت وأجيال سلفت ، ونحن في القرن الحادي والعشرين يجب أن تكون لنا نظم وقوانين تحاكي واقعنا وتتحسس مشكلاتنا ، وكل هذا من الضلال البعيد ، فهم كما وصف الله سابقيهم قال تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا ﴾ 61 سورة النساء .

هذا واقع من لا يقبلون أحكام الله ، ولا يرضون بها ويحاولون الحط من قدرها، ويحاولون انتقاصها بكثير من الشبه الضالة والآراء الباطلة نفاقاً وكفراً - والعياذ بالله - ولذا حكم الله على من لا يحكم شرعه بالكفر وبالظلم وبالفسق، لأن من لم يقبل شرع الله ولم يحكم شرع الله، فإن ذلك دليل على فقدان الإيمان من قلبه .

لقد كبر على ضعفاء الإيمان والبصائر إذا ذكرت لهم بعض الأوامر أو بعض النواهي، رأيت ذلك ثقيلاً عليهم وشاقاً : ﴿ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ ٌ﴾ 143 البقرة .  وإذا ما تعرض لبعض النواهي التي نهى عنها الشرع   قابلك بالتشكيك في نواهي الله ، وبعدم الإيمان والرضا بها ، فعندما تقول لهم الربا حرام ، حرَّمه الله في كتابه وحرَّمه نبيه صلى الله عليه وسلم وأجمع المسلمون على تحريمه ؛ ومن استحله بعد العلم بحقيقة تحريمه فقد ضل وخرج من الإسلام  ، فيجيبون بتكبر وعناد ،  كما قالت الجاهلية هذا بيع والله يقول : ﴿ وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾ 275 البقرة ، رداً على من قال: ﴿ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ﴾ 275 البقرة ، يقول هذا الجاهل ضعيف  الإيمان ، كيف تحرِّم الربا علينا ، أتمنع عجلة الاقتصاد ، أتحول بين الناس وبين الرقي الاقتصادي المادي؟ فإذا منعت الربا تعطَّلت المصالح وضعفت الموارد وأصبحنا بمعزل عن العالم ، ولسان حالهم الربا يجب أن يكون حلالاً طيباً ، وإن كان الشرع يقول بخبثه ، ولا يريدون أن يسمعوا صوتاً يقول : هذه معاملات محرمة ، ملعون آكل الربا ، ملعون موكل الربا  ملعون كاتب الربا ، ملعون شاهدا الربا ، فيكبر ذلك عليهم ويضيقون بذلك ذرعاً لقلة الإيمان ولضعف الإيمان في النفوس ، كما كبر على رجال شركات التأمين التجارية المبنية على الفسق والغبن والغرم التي لا تحقق للشخص هدفاً  ولكنها تأخذ أموال الناس بالباطل ، ما بين غانم وغارم ، لا تتحقق فيها المصالح  وإنما فيها المفاسد والمغارم ، فيقول: تلك معاملة طيبة وتلك معاملة نافعة وإلى غير ذلك مما تسمعه من المبررات لهذا العقد الخبيث الفاسد ، وهكذا يتصور ضعفاء الإيمان، ويكبر عليهم إذا حذَّرتهم من بعض المحرمات ، لأنه لا يتفق مع أفكارهم المنحرفة ، وآرائهم الضالة ، وعندما تبيِّن موقف الإسلام من محاربة الرذائل وسقوط الأخلاق ، يعترضون بقولهم لقد أغلقتم على الناس حرياتهم ، سلبتموهم حرياتهم ، قضيتم على شخصياتهم، تدخلتم في شؤونهم الخاصة قلتم وقلتم، نعم نحن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، ونبيِّن للأمة المسلمة أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خلق وصفت به هذه الأمة المحمدية التي هي خير أمة أخرجت للناس : ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ ﴾ 110 آل عمران .

أما من يقول إذا أمرت بهذا ونهيت عن هذا ، تكون قد تدخلت في الحقوق الشخصية لكل فرد ، وعطّلت حريته ، فهذا لا يقول به ديننا ، الذي يدعونا لأن   نكون أمة واحدة كلمتها واحدة ، ورأيها وفكرها متحد ، واتجاهها سليم  وعقيدتها عقيدة التوحيد ، وأخلاقها مصانة من كل من يريدها بالفساد والسوء  وإذا ما قلت هذا دين الله ، قالوا : أنت تريد إرجاع العالم إلى قرون خالية وقرون ماضية ، وتدعو إلى أمور انتهى زمانها وذهب دورها ، ونحن نريد أن نصبغ منتدياتنا ومواسمنا وثقافاتنا بصبغة عصرية بعيدة عن الدين والأخلاق ، لأنهم يرون الدين منغصاً لشهواتهم ، قاضياً على انحرافهم ، فهم يريدون أن يصبغوا كل شيء بصبغة بعيدة عن الإسلام ، وصدق الله العظيم إذ يقول: ﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾ 72 الحـج . إن الإسلام يريد من المؤمنين أن يرتبطوا بدينهم الإسلامي في أنظمتهم وفي كل أحوالهم ، لأن ارتباطهم بدينهم هو سبيل عزهم وكرامتهم ورفعتهم في الدنيا والآخرة : ﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ ﴾ 10 فاطر . وقال تعالى: ﴿ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ ﴾ 18الحـج .

 فعز الأمة وشرفها إنما يكون باتباع شرع الله وتحكيمه والتحاكم إليه ،  إن قصور أفهام الناس عن إدراك ما دلَّ الكتاب والسنة عليه شيء، وكمال الشريعة وانتظامها لمصالح العباد في الحاضر والمستقبل شيء آخر والله يقول: ﴿ مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ﴾ 38 سورة الأنعام ، وإن قصور الأمة وضعف الإدراك وقلة التصور هو الذي حمل بعض الناس أن يجعلوا ضعف البشر وقلة إدراكه يميناً في الشريعة وحاشا أن يكون فيها عيب، فهي شريعة أكملها الله وأتمها ورضيها لنا وإن التمسك بها والثبات عليها نعمة من أجل نعم الله على العباد وإن العدول عنها وقلة التمسك بها هو الشقاء والبلاء : ﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى  وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا ، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى ﴾ 126 سورة طـه .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

فضل المسجد وآدابه

  قال تعالى : ] في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب [لنور . إن أحب البقاع إلى الله عز وجل المساجد ، وإن خدمة المسجد عبادة لله تعالى ، وإن الآداب مع المسجد آداب مع الله تعالى الذي أذن أن تعظّم المساجد وترفع ويعلى شأنها بالعبادة والتضرع إليه سبحانه بأنواع الطاعات   كما مدح عمارها الذين لا تلهيهم التجارة ولا البيع ولا تشغلهم أمور الدنيا عن الاستجابة لندائه وعمارة بيته وأداء ما افترض عليهم من العبادة في أوقاتها طمعا في رحمته ومغفرته وخوفا من عذابه وعقابه . هؤلاء أمنهم الله في الدنيا والآخرة فوعدهم الله بزيادة الفضل والتوسعة في الرزق والفوز بالتجارة الرابحة   أما في الآخرة فجزاؤهم أحسن ما كانوا يعملون إنه الفوز بالجنة والأمن يوم الفزع الأكبر فقد أخرج ابن أبي حاتم وصححه الحاكم عن أسماء بنت يزيد قالت : قال  صلى الله عليه وسلم : ( يجمع الله يوم القيامة الناس في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر ، فيقوم مناد فينادي أين الذين كانوا يحمدون الله في السراء والضراء فيقومون وهم قليل فيدخلون الجنة بغير حساب ، ثم يعود فينادي أين الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع فيقومون وهم قليل فيدخلون الجنة بغير حساب ، ثم يعود فينادي ليقم الذين كانوا لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله فيقومون وهم قليل فيدخلون الجنة بغير حساب ثم يقوم سائر الناس فيحاسبون ) . هذا جزاء عمار بيت الله وإن أحب البقاع إلى الله المساجد فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أحب البلاد إلى الله مساجدها وأبغض البلاد إلى الله أسواقها ) . فالمسجد قلعة الإيمان وحصن الفضيلة وهو المدرسة الأولى التي يتخرج منها المسلم إذ فيه يتعلم الفضائل ومكارم الأخلاق ، يتعلم فيه الرفق والحياء والإحسان والصفح عن الزلات وخفض الجناح لأخيه المسلم ولين الكلام معه والتلطف مع المؤمنين في القول والفعل  فالمسجد بيت الأتقياء ومحل تناصح المسلمين إذ هو مكان اجتماعهم كل يوم خمس مرات ،  وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم  يقولون بأن المساجد بيوت الله في الأرض ، وأنه حق على الله أن يكرم من زاره فيها " . وعلينا عند زيارة المسجد أن نراعي أدب المكان ، وأدب المضيف وهو الله سبحانه  فنحن في بيوته وإنما جئنا لعبادته ، وتفرغنا لذكره .. فكيف بنا لا نلتفت إلى الأمور الواجبة ، والتعظيم المطلوب لها من الآداب التي ينبغي الحرص عليها ومن هذه الآداب : عدم تخطي الرقاب الذي يحصل في الجمعة وغيرها وهو منهي عنه ، وقد وردت النصوص بأنه قد يبطل الصلاة ويذهب بالأجر في صلاة الجمعة لذا ينبغي على من يأتي متأخرا أن لا يؤذي الناس بتخطيهم لما روي عن أبي بسرة قال : ( جاء رجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة والنبي يخطب فقال له النبي صلى الله عليه وسلم اجلس فقد آذيت ) وأن يعتني بنظافة جسده وملبسه وحسن مظهره وأن يتطيب ما استطاع لذلك ، وخصوصاً في الجمعة والعيدين لقوله تعالى : ] يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد [ . روي أن الإمام مالك كان إذا خرج إلى المسجد اغتسل ولبس أحسن ثيابه وتطيّب ، وليعلم المؤمن أن كل ما يفعله حفاظا على المسجد وآدابه وحرصا على محبة المؤمنين يؤجر عليه فهو عبادة لله تعالى يثيب عليها ويزيد الأجر لصاحبها ويوسع له في رزقه لقولـه تعالى: ] ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب [. ومن تعظيم المساجد تنظيفها وتطييبها فعن عائشة رضي الله عنها قالت:  ( أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطيب ) . وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه ( أن رجلا أسود أو امرأة سوداء كان يقم المسجد – أي ينظفه-فمات فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عنه فقالوا: مات .فقال أفلا كنتم آذنتموني به. دلوني على قبره أو قال على قبرها فأتى قبره فصلى عليه )

ومن تعظيم المساجد تنـزيهها عن الروائح الكريهة سواء أكانت طعاما كالبصل والثوم أو غيرهما مما له رائحة يتأذى بها المصلون والملائكة  فقد روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أكل من هذه الشجرة -يعني الثوم – فلا يقربن مسجدنا  ) . وقد ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج من المسجد كل من أكل الثوم والبصل. ويقاس عليهما كل ما من شأنه أن يؤذي الإنسان . ومن تعظيم المساجد أن لا يرفع الصوت فيها بغير ذكر الله عز وجل  روى البخاري عن  السايب بن يزيد قال : ( كنت في المسجد فحصبني رجل - يعني رماني بحصى صغيرة من ورائي - فالتفت فإذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال لي : اذهب فأتني بهذين الرجلين - رجلان كانا يتحدثان بصوت عالي – قال : فأتيته بهما ، فقال: من أين أنتما ؟ فقالا : من الطائف ! فقال : لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما - أي ضرباً - ترفعا أصواتكم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية في مسجد رسول الله  صلى الله عليه وسلم !) . ولا تنشد في المساجد الضالة فقد روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال  صلى الله عليه وسلم : ( من سمع رجلا ينشد الضالة في المسجد فليقل لا ردها الله عليك ) . وفي سنن أبي داود: ( نهى رسول الله  صلى الله عليه وسلم عن البيع والشراء في المسجد وأن تنشد فيه الأشعار وأن تنشد فيه الضالة ) . وانطلاقا من هذا نهى العلماء حتى عن رفع الصوت في المسجد طلبا للصدقة ومن سأل في المسجد رافعا صوته لا يعطى من الصدقة . وهنا ينبغي أن نعرف أن السؤال وخاصة على الهيئة التي نراها من التشكي وعرض ما قد يكون صحيحا أو غير صحيح من أنواع البلاء والابتلاء الرباني كأنما هو اعتراض على قدر الله  والسؤال في المساجد والتسول فيها منهي عنه لقوله تعالى:] وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا[  قال السعدي في تفسير الآية : " المقصود الأمران معاً : دعاء العبادة ، ودعاء المسألة "  فكيف تسأل في بيت الله غير الله ؟ . " وقد لقي هشام بن عبد الملك وهو يطوف بالبيت الحرام سالم بن عبد الله - من أئمة التابعين - فسلّم عليه  وقال : سلني حاجتك ! قال : إني استحي من ربي أن أسأل غيره وأنا في بيته ! فلما خرج قال : نحن الآن قد خرجنا من المسجد فسلني حاجتك ! قال : من أمر الدنيا أم من أمر الآخرة ؟ قال : من أمر الدنيا فأمر الآخرة لا أملكه ! قال : أما الدنيا فما سألتها من يملكها فكيف أسأل من لا يملكها ! ".  ومن تعظيم المساجد تنـزيهها عن النجاسات والقاذورات ، وتسوية الصفوف عند القيام للصلاة وسد الفرج والخلل ففي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم  كان يقول قبل أن يكبر: ( سووا صفوفكم فإن تسوية الصفوف من تمام الصلاة ) ، ومن تعظيم المساجد عدم إحضار الصغار من الأبناء الذين لا يعرفون آداب المساجد ، يعيثون فيها فساداً يلعبون فيها ، فيشوشون على المصلين ويفقدونهم الخشوع في الصلاة . ومنها عدم التدافع عند الخروج من المساجد ، فكما ندخلها بسكينة ووقار علينا أن نخرج منها بسكينة ووقار ، واعلم يا أخي أن العبادة لا تتوقف عند الركوع والسجود بل إن خدمة المسجد والتأدب في المسجد عبادة لها أجرها. 

 

آداب السلوك داخل المسجد

قال كثير من العلماء بعدم التكلم في أمور الدنيا لأنك جئت من حركتك المطلقة في الأرض إلى بيت الله في تلك اللحظة  فاجعل لحظاتك لله ، ولذلك حينما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً ينشد ضالَّته في المسجد قال له : ( لا ردها الله عليك فإن المساجد لم تبن لهذا )  لماذا قال ذلك ؟ لأن المسجد مكان للعبادة ولذلك نقول لمن يتحدث في المسجد بأي شيء يتعلق بحركة الحياة " أبشر بأنها لن تنفع " لأنك دخلت المسجد للعبادة فقط ، فلحظة دخولك المسجد هي لحظةٌ جئت فيها لتقترب من ربك وتناجيه ، وتعيش في حضن عنايته ، فلماذا تأتي بالدنيا معك ؟ وليكن لنا في أحد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة حسنة كان يقول : كنا نخلع أمر الدنيا مع نعالنا . وزاد صحابي آخر فقال له وزد : إننا نترك أقدارنا مع نعالنا . لا يخلع الدنيا مع نعله فقط على باب المسجد ، ولكن يخلع أيضاً قدره في الدنيا .

يمكن يا أخي أن تأخذك الدنيا ساعات اليوم الكثيرة ، ولكن المسجد لن يأخذ منك إلا الوقت القليل ، فضع قدرك مع نعلك خارج المسجد ، وادخل بلا قدرٍ إلا قدر إيمانك بالله واجلس في المكان الذي تجده خاليا ، ولا تتخط الرقاب لتصل إلى مكان معين في المسجد ، كما نلاحظ من يتخطى الرقاب ليجلس في الصف الأول وما درى أن الله قد صف الصفوف قبل أن يأتي هو إلى المسجد ، فاجلس حيث ينتهي بك المجلس ولا تتخط الرقاب ، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس حيث ينتهي به المجلس أي عندما يجد مكاناً له .

 

 

 

 

 

 

ضعف الإيمان

لقد عمت ظاهرة ضعف الإيمان بين المسلمين ، وكثير من الناس يشتكي من قسوة القلوب وتترد على ألسنتهم عبارة : " أحس بقسوة في قلبي " لا أجد لذة في العبادة  ولا أتأثر بقراءة القرآن وأقع في المعصية بسهولة " ، ظاهرةٌ تعود إلى القلب لسرعة تقلبه قال صلى الله عليه وسلم : ( إنما القلب من تقلبه ، إنما مثل القلب كمثل ريشة معلقة في أصل شجرة يقلبها الريح ظهراً لبطن ) صحيح رواه أحمد   وهو شديد التقلب كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : ( لقلب ابن آدم أسرع تقلباً من القدر إذا استجمعت غلياناً ) والله سبحانه وتعالى هو مقلب القلوب ومصرفها كما جاء عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء ) .  وحيث : ﴿ أن الله يحول بين المرء وقلبه  ﴾  وأنه لن ينجو يوم القيامة : ﴿ إلا من أتى الله بقلب سليم ﴾ وأن الويل : ﴿ للقاسية قلوبهم من ذكر الله ﴾ وأن الوعد بالجنة لـ  : ﴿ من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب ﴾ كان لابد للمؤمن أن يتحسس قلبه ويعرف مكمن الداء وسبب المرض ويشرع في العلاج قبل أن يطغى عله الران فيهلك  وضعف الإيمان مرضٌ له أعراض ومظاهر متعددة منها : الوقوع في المعاصي وارتكاب المحرمات : ومن العصاة من يرتكب معصية يصر عليها ومنهم من يرتكب أنواعاً من المعاصي   وكثرة الوقوع في المعصية يؤدي إلى تحولها إلى عادة مألوفة ثم يزول قبحها من القلب تدريجياً حتى يقع العاصي في المجاهرة بها ويدخل في حديث

( كل أمتي معافى إلا المجاهرين ، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً ثم يصبح وقد ستره الله فيقول : يا فلان عملت البارحة كذا وكذا ، وقد بات يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه ) رواه البخاري .  ومنها : الشعور بقسوة القلب وخشونته : حتى ليحس الإنسان أن قلبه قد انقلب حجراً صلداً لا يترشح منه شيء ولا يتأثر بشيء  والله جل وعلا يقول : ﴿ ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة ﴾ البقرة 74 .  وصاحب القلب القاسي لا تؤثر فيه الموعظة .  ومنها : عدم إتقان العبادات : ومن ذلك شرود الذهن أثناء الصلاة وتلاوة القرآن والأدعية ، بدون التدبر والتفكر لذلك قالوا : ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها والتكاسل عنها وإضاعتها وإذا أداها فإنما هي حركات جوفاء لا روح فيها  فهي صفة المنافقين الذين ذكرهم الله بقوله : ﴿ وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى ﴾ النساء ومنها : ضيق الصدر وتغير المزاج  يشعر بالضيق من تصرفات الناس حوله وتذهب سماحة نفسه ، وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم وصف الإيمان بقوله : ( الإيمان : الصبر والسماحة ) ووصف المؤمن بأنه : ( يألف ويؤلف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف ) .    ومنها : الغفلة عن ذكر الله عز وجل والتوجه إليه في الدعاء : وقد وصف الله المنافقين بقـوله : ﴿ ولا يذكرون الله إلا قليلاً  ﴾ النساء 142 . والله سبحانه : ( لا يقبل دعاء من قلب غافل لاه ) رواه الترمذي .   ومنها : عدم الغضب إذا انتهكت محارم الله فلا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر . ومن زال من قلبه حب المعروف وكراهية المنكر واستوت عنده الأمور فما الذي يدفعه إلى الأمر والنهي بل إنه ربما سمع بالمنكر يعمل في الأرض فيرضى به فيكون عليه من الوزر مثل وزر شاهده فأقره كما ذكر صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود : ( إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها كمن غاب عنها ، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها ) فهذا الرضا منه وهو عمل قلبي ، أورثه منـزلة الشاهد في الإثم . ومنها : الشح والبخل ولا شك أن ضعف الإيمان يولد الشح بل قال صلى الله عليه وسلم : ( لا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبداً ) رواه النسائي . أما خطورة الشح وآثاره على النفس فقد بينها النبي  صلى الله عليه وسلم  بقوله : ( إياكم والشح فإنما هلك من كان قبلكم بالشح أمرهم بالبخل فبخلوا وأمرهم بالقطيعة فقطعوا وأمرهم بالفجور ففجروا ) رواه أبو داود . وأما البخل فإن صاحب الإيمان الضعيف لا يكاد يخرج شيئاً لله ولو دعى داعي الصدقة وظهرت فاقة إخوانه المسلمين وحلت بهم المصائب ، وما أبلغ كلام الله في هذا الشأن : ﴿ ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ﴾ محمد  38 ومنها : أن يقول الإنسان ما لا يفعل قال الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون   كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) الصف 3. ولا شك أن هذا نوع من النفاق ومن خالف قوله عمله صار مذموماً عند الله مكروهاً عند الخلق  .

ومنها : السرور والغبطة بما يصيب إخوانه المسلمين من فشل أو خسارة أو مصيبة أو زوال نعمة  فيشعر بالسرور لأن النعمة قد زالت ، ولأن الشيء الذي كان يتميز عليه غيره به قد زال عنه .     ومنها : احتقار المعروف ، وعدم الاهتمام بالحسنات الصغيرة وقد علمنا صلى الله عليه وسلم أن لا نكون كذلك روى أحمد في مسنده عن أبي جري قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم  فقلت يا رسول الله ؟ إنا قوم من أهل البادية فعلمنا شيئاً ينفعنا الله تبارك وتعالى به فقال : ( لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستقي  ولو أن تكلم أخاك ووجهك إليه منبسطاً ) .   

ومنها : عدم الاهتمام بمصائب المسلمين ، فإن المؤمن بخلاف ذلك روى أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن المؤمن من أهل الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ، يألم المؤمن لأهل الإيمان كما يألم الجسد لما في الرأس ) .

إن الابتعاد عن الأجواء الإيمانية فترة طويلة  مدعاة لضعف الإيمان في النفس قال تعالى :  ﴿ ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون ْ﴾ الحديد 16 . وكذلك الابتعاد عن القدوة الصالحة  فالشخص الذي يتعلم على يدي رجل صالح يجمع بين العلم النافع والعمل الصالح وقوة الإيمان ، يتعاهده مما عنده من العلم والأخلاق والفضائل ، ولو ابتعد عنه فترة من الزمن فإن المتعلم يحس بقسوة في قلبه  يقول الحسن البصري رحمه الله تعالى : " إخواننا أغلى عندنا من أهلينا فأهلونا يذكروننا الدنيا  وإخواننا يذكروننا بالآخرة " .  أما إن وجد المسلم في وسط يعج بالمعاصي حيث الأغاني الماجنة   والأفلام الساقطة ، والاختلاط المحرم وغير ذلك فهذا يصيب  القلوب بالمرض وتصبح قاسية . ومنها : طول الأمل قال الله تعالى : ﴿ ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون ﴾ وقال علي رضي الله عنه : " إن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى وطول الأمل فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق وأما طول الأمل فينسي الآخرة " وجاء في الأثر : " أربعة من الشقاء جمود العين وقسوة القلب وطول الأمل والحرص على الدنيا   ويتولد من طول الأمل الكسل عن الطاعة والتسويف والرغبة في الدنيا ونسيان الآخرة وقسوة القلب لأن رقته وصفاءه إنما يقع بتذكير الموت والثواب والعقاب وأهوال القيامة كما قال تعالى : ﴿ فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم ﴾  وقيل : من قصر أمله قل همه وتنور قلبه لأنه إذا استحضر الموت اجتهد في الطاعة " ومنها : الإفراط في الأكل والنوم والسهر والكلام والخلطة ، فكثرة الأكل تبلد الذهن وتثقل البدن عن طاعة الرحمن وتغذي مجاري الشيطان في الإنسان وكما قيل : " من أكل كثيراً شرب كثيراً فنام كثيراً وخسر أجراً كبيراً " فالإفراط في الكلام يقسي القلب ، والإفراط في مخالطة الناس تحول بين المرء ومحاسبة نفسه والخلوة بها والنظر في تدبير أمرها ، وكثرة الضحك تقضي على مادة الحياة في القلب فيموت ، جاء في الحديث الصحيح : ( لا تكثروا الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب ) رواه ابن ماجه  .

 

 

 

علاج ضعف الإيمان

روى الحاكم والطبراني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب فأسالوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم ) . يعني بذلك أن الإيمان يبلى في القلب كما يبلى الثوب ، وقد تعتري قلب المؤمن في بعض الأحيان سحابة من سحب المعصية فيظلم وهذه الصورة صورها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديث الصحيح : ( ما من القلوب قلب إلا وله سحابة كسحابة القمر   بينا القمر مضيء إذ علته سحابة فاظلم ، إذ تجلت عنه فأضاء ) رواه أبو نعيم في الحلية . فالقمر تأتي عليه أحياناً سحابة تغطي ضوءه   وبعد فترةٍ الزمن تزول وتنقشع فيرجع ضوء القمر مرة أخرى ليضيء في السماء   وكذلك قلب المؤمن تعتريه أحياناً سحب مظلمة من المعصية ، فتحجب نوره  فيبقى الإنسان في ظلمة ووحشة فإذا سعى لزيادة إيمانه واستعان بالله عز وجل انقشعت تلك السحب ، وعاد نور قلبه يضيء كما كان

وعلى الإنسان أن يعلم قبل تصور علاج ضعف الإيمان معرفة أن الإيمان يزيد وينقص ، وهذا ما يعتقده   أهل السنة والجماعة ، فإنهم يقولون أن الإيمان نطق باللسان واعتقاد بالجنان- أي القلب -وعمل بالأركان- أي الجوارح- يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان ، وقد دلت على هذا الأدلة من الكتاب والسنة قال تعـالى : ] ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم [ وقـولـه : ] أيكم زادته هذه إيماناً [ وقوله صلى الله عليه وسلم : ( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ) البخاري . روي عن بعض السلف : " من فقه العبد أن يتعاهد إيمانه وما ينقص منه ، ومن فقه العبد أن يعلم أيزداد إيمانه أو ينقص ؟ وإن من فقه الرجل أن يعلم نزغات الشيطان أنى تأتيه ؟ " . ومما ينبغي معرفته أن نقص الإيمان إذا أدى إلى ترك واجب أو فعل محرم فهذا فتور خطير مذموم يجب عليه التوبة إلى الله والشروع في علاج نفسه ، أما إذا لم يؤد الفتور إلى ترك واجب أو فعل محرم وإنما كان تراجعاً في عمل مستحبات مثلاً ، فعلى صاحبه أن يسوس نفسه ويسدد ويقارب حتى يعود إلى نشاطه وقوته في العبادة وهذا مما يستفاد من قوله صلى الله عليه وسلم : ( لكل عمل شرة - يعني نشاط وقوة - ولكل شرة فترة - يعني ضعف وفتور - فمن كانت فترته إلى سنتي فقد أفلح ومن كانت إلى غير ذلك فقد هلك ) صحيح رواه أحمد .   ويمكن أن يعالج ضعف الإيمان بأمور منها : تدبر القرآن العظيم  ولا شك أن فيه علاجاً عظيماً ودواء فعالاً قال تعـالى : ] وننـزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين[ أما طريقة العلاج فهي التفكر والتدبر . وكان عليه الصلاة والسلام يتدبر القرآن وقد بلغ في ذلك مبلغاً عظيماً ، روى ابن حبان في صحيحه بإسناد جيد عن عطارة قال : دخلت أنا وعبيد الله بن عمير على عائشة رضي الله عنها  فقال عبيد الله بن عمير : ( حدثينا بأعجب شيء رأيتيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكت وقالت : قام ليلة من الليالي - تعني يصلي - فقال : يا عائشة ، ذريني أتعبد لربي ، قالت : قلت : والله إني لأحب قربك وأحب ما يسرك قالت : فقام فتطهر ثم قام يصلي فلم يزل يبكي حتى بل حجره ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل الأرض ، وجاء بلال يؤذنه بالصلاة فلما رآه يبكي قال : يا رسول الله تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال : أفلا أكون عبداً شكوراً ، لقد نزلت علي الليلة آيات ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها : ] إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض [ آل عمران  190 . وهذا يدل على وجوب تدبر هذه الآيات   وكان الصحابة يقرأون ويتدبرون ويتأثرون وكان أبو بكر إذا صلّى بالناس وقرأ كلام الله لا يتمالك نفسه من البكاء ومرض عمر من أثر تلاوة قول الله تعالى : ( إن عذاب ربك لواقع ماله من دافع ) وقال عثمان : " لو طهرت قلوبنا ما شبعت من كلام الله " . ومن أعظم التدبر أمثال القرآن لأن الله سبحانه وتعالى لما ضرب لنا الأمثال في القرآن ندبنا إلى التفكر والتذكر فقال تعـالى : ] ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون [ وقال : ] وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون [ . تفكر أحد السلف مرة في مثل من أمثال القرآن فلم يتبين له معناه فجعل يبكي ، فسئل ما يبكيك ؟ فقال:إن الله تعالى يقول : (وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون)   العنكبوت 43. وأنا لم أعقل المثل  فلست بعالم   فأبكي على ضياع العلم مني

ويلخص ابن القيم رحمه الله ما على المسلم أن يفعله لعلاج قسوة قلبه بالقرآن فيقول : " ملاك ذلك أمران : أحدهما : أن تنقل قلبك من وطن الدنيا فتسكنه في وطن الآخرة ، ثم تقبل به كله على معاني القرآن واستجلائها ، وتدبر وفهم ما يراد منه ، وما نزل لأجله ، وأخذ نصيبك من كل آياته ، وتنـزلها على داء قلبك  فإذا نزلت هذه الآية على داء القلب برئ الله"   ومنها : استشعار عظمة الله ومعرفة أسمائه وصفاته ، والتدبر فيها والنصوص من الكتاب والسنة في عظمة الله كثيرة إذا تأملها المسلم ارتجف قلبه وتواضعت نفسه للعلي العظيم وخضعت أركانه للسميع العليم وازداد خشوعاً لرب الأولين والآخرين  .

 ومنها : طلب العلم الشرعي  وهو العلم الذي يؤدي تحصيله إلى خشية الله وزيادة الإيمان به عز وجل كما قال الله تعالى : ] إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ [ فلا يستوي في الإيمان الذين يعلمون والذين لا يعلمون ] قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون [ . ومنها : لزوم الذكر وهو يؤدي إلى زيادة الإيمان ، وغشيان الرحمة ، ونزول السكينة ، وحف الملائكة للذاكرين  وذكر الله لهم في الملأ الأعلى ، ومباهاته بهم الملائكة ، ومغفرته لذنوبهم ، كما جاء في الأحاديث الصحيحة كقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده ) مسلم  .  قال ابن حجر رحمه الله : ويطلق ذكر الله ويراد به المواظبة على العمل بما أوجبه أو ندب إليه كتلاوة القرآن ، وقراءة الحديث ، ومدارسة العلم  .

 ففي ذكر الله تعالى  جلاء القلوب وشفاؤها ، ودواؤها عند اعتلالها ، وهو روح الأعمال الصالحة وقد أمر الله به فقال : ] يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً [ ووعد بالفلاح من أكثر منه فقال تعالى : ] واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون [ وذكر الله أكبر من كل شيء قال الله تعالى : ] ولذكر الله أكبر [ وهو وصية النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله ) رواه الترمذي .  

 ومنها : الاستكثار من الأعمال الصالحة وملء الوقت بها ، وهذا من أعظم أسباب العلاج وهو أمر عظيم وأثره في تقوية الإيمان ظاهر كبير ، وقد ضرب أبو بكر الصديق في ذلك مثلاً عظيماً لما سأل الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه ( من أصبح منكم اليوم صائماً ؟ قال أبو بكر أنا ، قال فمن تبع منكم اليوم جنازة ؟ قال أبو بكر أنا ، قال، فمن أطعم منكم اليوم مسكيناً ، قال أبو بكر أنا ، قال فمن عاد منكم اليوم مريضاً؟ قال أبو بكر أنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم  ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة ) رواه مسلم   

 ومنها : تنويع العبادات ، فمن رحمة الله وحكمته أن العبادات منها ما يكون بالبدن كالصلاة ومنها ما يكون بالمال كالزكاة ومنها ما يكون بهما معاً كالحج ومنها ما هو باللسان كالذكر والدعاء  ولعل من الحكمة في ذلك أن لا تمل النفس ويستمر التجدد ، ثم إن النفس ليست متماثلة في انجذابها وإمكاناتها وقد تستلذ بعض النفوس بعبادات أكثر من غيرها ، وسبحان الذي جعل أبواب الجنة على أنواع العبادات كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من أنفق زوجين في سبيل الله نودي من أبواب الجنة : يا عبد الله هذا خير فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة ) رواه البخاري . والمقصود المكثرون من أصحاب النوافل في كل عبادة أما الفرائض فلا بد من تأديتها للجميع ، أتى النبي  صلى الله عليه وسلم رجل يشكو قسوة قلبه فقال له صلى الله عليه وسلم : ( أتحب أن يلين قلبك وتدرك حاجتك ؟ أرحم اليتيم ، وامسح رأسه ، وأطعمه من طعامك ، يلن قلبك وتدرك حاجتك ) رواه الطبراني .  ومنها : الإكثار من ذكر الموت يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( أكثروا من ذكر هاذم اللذات يعني الموت ) رواه الترمذي . وتذكر الموت يردع عن المعاصي ويلين القلب القاسي ولا يذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه عليه ولا ذكره في سعة إلا ضيقها عليه ، ومن أكثر ذكر الموت أكرم بثلاثة أشياء : " تعجيل التوبة ، وقناعة القلب ، ونشاط العبادة ، ومن نسي الموت عوقب بثلاثة أشياء : تسويف التوبة وترك الرضا بالكفاف ، والتكاسل بالعبادة " . 

 ومنها : مناجاة الله والانكسار بين يديه عز وجل ، أعجبني كلاماً جميلاً بلسان الذلة والانكسار للتائب بين يدي الله لابن القيم عندما قال : " فلله ما أحلى قول القائل في   أسألك بقوتك وضعفي وبغناك عني وفقري إليك ، هذه ناصيتي الكاذبة الخاطئة بين يديك ، عبيدك سواي كثير ، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك أسألك مسألة المساكين   وأبتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل  وأدعوك دعاء الخائف الضرير   سؤال من خضعت لك رقبته ورغم لك أنفه   وفاضت لك عيناه ، وذل لك قلبه " فعندما يأتي العبد بمثل هذه الكلمات مناجياً ربه فإن الإيمان يتضاعف في قلبه أضعافاً مضاعفة . وكلما كان العبد أكثر ذلة وخضوعاً كان إلى الله أقرب ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء ) مسلم . لأن حال السجود فيه ذلة وخضوع ليست في بقية الهيئات والأوضاع ، اللهم إنا نسألك لساناً ذاكراً وقلباً شاكراً .

 

  

 

 

بدع الصوفية

لا يعرف متى بدأ التصوف ، وإن كان روي عن الشافعي عندما دخل مصر قوله :"تركنا بغداد وقد أحدث فيها الزنادقة شيئاً كثيراً يسمونه السماع ".

لكنه بلغ غايته من حيث العقيدة والتشريع في نهاية القرن الثالث الهجري فظهر الحاج ، وفي القرن السادس الهجري ظهرت مجموعة من رجال التصوف زعموا أنهم من نسل رسول الله  صلى الله عليه وسلم فظهر الرفاعي في العراق والشاذلي والبدوي في مصر ، والذي لا يعرف له أم ولا أب ولا أسرة ، وقد بلغت الصوفية أوجها في عصر الدولة الفاطمية .

حيث ظهرت فرقٌ خاصة عرفت بالدراويش وبنيت القباب على القبور والمزارات المفتراة ، كقبر الحسين ابن علي والسيدة زينب ، وإقامتهم الموالد والبدع والخرافات عندها ، وقد كان التصوف في بدايته زهداً في الحياة وانقطاعاً عن الدنيا ، وتركاً لأسباب الجهاد في سبيل الله لأنهم مشغولون على زعمهم بالجهاد الأكبر مستدلين بالحديث الذي رواه ابن تيميه أن رسول الله  صلى الله عليه وسلم قال :" رحنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر ".

إن جهاد الكفار من أعظم القربات وهو ذروة ، والصحيح سنام الإسلام ولهم أقوال خاصة بالجهاد يقول ابن عربي :"إن الله إذا سلط ظالماً على قوم فلا يجب أن يقاوموه لأنه عقابٌ لهم من الله ".  ويذكر الغزالي في كتابه المنقذ من الضلال عند بحث طريق التصوف ، أنه خلال الحروب الصليبية كان مشغولاً في خلوته ، تارة في مغارة دمشق وتارة في صخرة بيت المقدس ، ولما سقط بيت المقدس لم يحرك ساكنا ولا دعا للجهاد حتى إنه لم يذكر في كتابه الإحياء شيئاً عن الجهاد أبداً ، وقد اهتم بذكر الخرافات والخزعبلات .

ومما يجدر ذكره في المجال تنبه الاستعمار الحديث إلى عدم اهتمام الصوفية بالجهاد فاستخدمهم كجواسيس ، فقد ذكر محمد فهر السوري في كتابه التصوف قال : نرى من واجبنا خدمة للحقيقة والتاريخ أن نذكر أن الحكومة الفرنسية في زمن الانتداب على سورية حاولت نشر الطريقة التيجانية واستأجرت بعض الشيوخ لهذه المهمة ، فقدمت لهم المال والمكان لتنشأة جيل يميل إلى فرنسا ، ومؤسس هذه الطريقة يطالب أتباعة إذا وقع الواحد منهم في ضيق ان يناديه هوى يلجأ إلى الله ويقول :

إذا كنت في هم وغم وكربة فنادني   أبا مرغني أنجيك من كل كربة

وقد مرَّ التصوف بمرحلة من الغموض وابتداع حركات غريبة ومصطلحات فلسفية كانت بداية الطريق إلى الإلحاد ، مثل البقاء والصحو والمحو واعتقدوا في الله أنه كل الوجود ، فليس هناك خالق ومخلوق ، وقد زعموا أن الولي إذا وصل إلى درجة اليقين سقطت عنه التكاليف فلا يصلي ولا يصوم ، وبلغ من اجرأهم أنهم يأخذون علمهم عن الحي الذي ى يموت ويسمونه بالعلم اللدني و قد تمادوا فزعموا أن الشيخ يعلم ما ضمائر المريدين ويطلب منهم أن يتصوروا شيخهم عندما يذكرون الله حتى في صلاتهم ، كما يطلب منهم التعصب لشيوخهم ، وبدراسة سيرة أقطاب الصوفية نجد الانحرافات التي لا تتفق مع الحقيقة ، فمنهم من يدعي الكشف وعلم الغيب ، فقد قالوا أن أحمد البدوي يصلي في المسجد الحرام ، عندما قيل بأنه لا يصلي وأنه يحمي الناس ويقضي حاجاتهم وقد نقل أن التيجاني وضع حزباً أو ورداً سماه صلاة الفاتح ، وأن من قرأه فكأنما قرأ القرآن ست مرات وقد ذكرت كتب الصوفية عن زعمائم ما لا يخفى عن كل ذي عقل من انحرافات لا يصدقها عقل فمن الحلوليين والتحاديين ، الحلاج الذي رمي بالكفر وقتل صلباً ، ومنهم رئيس وحدة الوجود محي الدين بن عربي المدفون بدمشق والذي اعتبر نفسه خاتم الأولياء وكان يقول :

العبد ربٌ والربُ عبدٌ     يا ليت شعري من المكلف

إن قلت عبدٌ فذلك حقٌ   أو قلت ربٌ فأني يكلف

ويعتقد ابن عربي أن الله هو المخلوق والمخلوق هو الله ، وكلٌ منهما يعبد الآخر ويعبر عن ذلك بقوله :

فيحمدني وأحمده      ويعبدني وأعبده

ألف كتاب الفتوحات المكية ، وادعى فيه العلم الكامل ، وانه لم يكتبه إلا عن وحي رباني.

ومنهم أبو زيد البسطامي الذي يدعي أنه يخاطب الله فيقول : " فزيني بوحدانيتك وألبسني ربانيتك وارفعني إلى أحديتك حتى إذا رآني خلقك قالوا رأيناك ، ويقول في نفسه : سبحاني سبحاني ما اعظم شاني الجنة لعبة صبياني ."

وقد ذكر الغزالي في كتابه الإحياء ، باب حكايات المحبين ومكاشفاتهم هذه القصة عن أبي يزيد قال : قال أبو تراب يوماً لو رأيت أبا يزيد البسطامي ؟ فقال فأغناني عن أبي يزيد ، فقال أبو تراب : ويلك تعتز بالله عز وجل ؟ لو رأيت أبا يزيد واحدة كان أنفع من أن ترى الله سبعين مرة ، ثم قال الغزالي : فأمثال هذه المكاشفات لا ينبغي أن ينكرها مؤمن ، والصحيح إنكارها لأنها كذب وكفر .

وما زاد الطين بله انهم حظروا عليهم ان يستمعوا لغير شيخهم ، فأبعدوهم عن كل علم نافع  اللهم سوى تلك الأوراد والأذكار المحرفة والرقص على نغمات الناي وضرب الدفوف ، مع تقبيل يد الشيخ والتمسح بأثاره وتعظيمه .

وأما الكرامة والولاية التي كانوا يدعون ، لا يمكن أن تظهر الكرامة على يد فاسق ولا يمكن أن تكون بالوراثة على الأجداد ، بل تكون بالإيمان والعمل الصالح ، وما يظهر على أيدي هؤلاء من ضرب السيف لأنفسهم او أكل النار أو المشي عليها ، فهو من عمل الشياطين والمجوس ، وهو استدراج لهم ليسيروا في ضلالتهم قال تعالى :﴿ومن يعشُ عن ذكر الحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين﴾. الزخرف 36.

إن من الأضرار التي أدخلتها الصوفية على المسلمين ، العقائد المنحرفة والتصورات الشركية الفاسدة ، حتى أصبح التصوف في نظر كثير من المسلمين اليوم هو الدين الحقيقي ، وان كل مخالف لهم لا يفقه من الدين شيئاً . وإن الكثير من المسلمين يفهم أنهم يمثلون الإسلام في حقائقه العليا وروحيته العظمى ، فكان من واجد المسلم أن يكشف عن حقيقة هؤلاء القوم حتى لا يُحتج بهم على الإسلام ، وأن هداية الأمة في اتباع القرآن والسنة ، وأنه لا يجوز لنا الاقتداء إلا برسول الله أعلم الخلق بربه وأعظمهم طاعة له .

 

   

 

 

حرب اخر الزمان

عن أبي هريرة رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( تأتيكم بعدي أربع فتن الأولى يستحل فيها الدماء . والثانية : يستحل فيها الدماء والأموال والثالثة : يستحل فيها الدماء والأموال والفروج . والرابعة : صماء عمياء مطبقة تمور مور الموج في البحر حتى لا يجد أحد من الناس منها ملجأ – وفي رواية لا يبقى بيت من العرب والعجم إلا ملأته ذلا وخوفا – تطيف بالشام ، وتغشى العراق ، وتخبط الجزيرة بيدها ورجلها ، وتعرك الأمة فيها بالبلاء عرك الأديم ثم لا يستطيع أحد من الناس يقول فيها مه مه ثم لا يعرفونها من ناحية إلا انفتقت من ناحية أخرى ) وفي رواية : فالرابعة منها الصماء العمياء المطبقة تعرك الأمة فيها بالبلاء عرك الأديم حتى ينكر فيها المعروف ويعرف فيها المنكر تموت فيها قلوبهم كما تموت أبدانهم .  

وفي رواية : ( في الفتنة الثالثة فتنة الدهيم ويقاتل الرجل فيها لا يدري على حق يقاتل أم على باطل ) رواه نعيم ابن حماد : الفتن برقم 125 وإسناده حسن ، أورده الهيثمي وقال : أخرجه الطبراني ورجاله ثقات ، مجمع الزوائد ( 7/220) .    

الشاهد في هذا الأثر أن هذه الفتنة أول ما تطيف إلا بالشام ؛ أي أن بدايتها أو طيفها الأول يكون بالشام ، ثم تغشى العراق مما يشير إلى أن البلاء في العراق يكون أعظم بكثير ، أما الجزيرة العربية فإن هذه الفتنة تخبطها بيدها ورجلها ؛ أي أن للجزيرة نصيباً منها إلا أنه أخف حدة من العراق ، إنما هي خبطة أو خبطتان

كذلك في الأثر إشارة إلى إنه لا يجد إنسان منها ملجأ في الأرض ، والمتتبع لحرب الإرهاب المصطنعة في كل العالم اليوم يفهم دلالات هذه العبارة .

وهذا الوصف الدقيق لفتنة الدهيماء أليس هو عين ما تعيشه الأمة اليوم بصورته الكاملة . مقاتلون سنة يذهبون للموت في الشام لتحقيق نبوءات دينية، وآخرون شيعة يحلمون بالموت والبعث جنودا في جيش المهدي.

إذا كان أي من هذه الأحداث يبدو مألوفا للعالم، الذي يشعر بالقلق وهو يتابع الحرب الأهلية المدمرة في سوريا.. فإنها تلقى صدى أكبر بين المقاتلين السنة والشيعة على خطوط الجبهة الذين يؤمنون بأن هذا كله ورد في نبوءات الأنبياء.

ومنذ البوادر الأولى لتفجر الأزمة في مدينة درعا بجنوب سوريا وانتشار التوقعات بغرق الشرق الأوسط في بحر من الدم، وكثير من المقاتلين على جانبي الصراع يقولون إن هذا المسار مهدت له قبل 1400 سنة أحاديث للرسول محمد، صلى الله عليه وسلم، تناقلها الصحابة والتابعون.

ومن بين آلاف الأحاديث النبوية التي تواترت عبر الأجيال يتحدث بعض الرواة عن مواجهة بين جيشين إسلاميين كبيرين في الشام، وعن معركة كبرى قرب دمشق وعن تدخل من شمال البلاد وغربها.

ويؤمن كثير من المقاتلين على طرفي النزاع بهذه النبوءات، في دلالة صارخة على أن الصراع المستمر منذ أكثر من أربعة أعوام له جذور أعمق كثيرا ، وأصعب حلا من كونه مجرد صراع على السلطة بين الأسد وخصومه ، قال أحد المجاهدين من بعض الفصائل الإسلامية الذين يقاتلون في حلب "إذا كنت تظن أن كل هؤلاء المجاهدين جاءوا من أنحاء العالم ليقاتلوا الأسد فأنت مخطئ كلهم هنا كما أخبرنا الرسول إنها الحرب التي وعد بها إنها الملحمة الكبرى " ومن جهةٍ أخرى فقد   اجتذبت الحرب شيعة كثيرين من لبنان والعراق وإيران إيمانا منهم بأنها تمهد لعودة الإمام المهدي، الذي انحدر من نسل النبي صلى الله عليه وسلم ، ليبسط العدل وقواعد الحكم الرشيد في آخر الزمان ، في زمن الحرب ، التي أزهقت ارواح مئات الآلف ، وأخرجت الملايين من ديارهم ، ويعتمد السنة والشيعة على عديد من الأحداث كإشارات على صدق النبوءات ،  ويعتقد كثير من الشيعة وبعض المراجع الشيعية أن المهدي سيظهر من مكة حيث يشكل جيشه ويتجه الى اليمن ثم العراق، فيلاقيه الايرانيون ويتجه على راس جيش عظيم الى الشام لإسقاط حاكمها ، وقال إمام شيعي عاش في القرن الثامن ، إن من علامات ظهور المهدي وقوع معركة يقاتل فيها محاربون يرفعون رايات صفراء، وهو اللون المرتبط بجماعة حزب الله اللبنانية ، وذكروا أن الإمام الصادق قال: عندما يقاتل ذوو الرايات الصفر أعداء الشيعة في دمشق وتنضم إليهم القوات الإيرانية سيكون هذا تمهيدا وعلامة على ظهور المهدي " ، وإن المجاهدين الذين جاءوا من بقاع متفرقة لا يساورهم أدنى شك في أن الأزمة في سوريا هي ما تحدث عنه الرسول عندما حث على الجهاد من أجل اقامة دولة اسلامية بعد وفاته ، ومن بينهم مجاهدون من روسيا وأميركا والفلبين والصين وألمانيا وبلجيكا والسودان والهند واليمن وغيرها ، لأن هذا ما قاله الرسول ووعد به ، وأن الملحمة الكبرى بدأت وقائعها .  

ويؤكد الجانبان أن الهدف المنشود هو إقامة دولة إسلامية تحكم العالم قبل أن تعم الفوضى العارمة ، ويرى البعض أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم تنبأ في بعض أحاديثه بمسار الصراع في سوريا  وهناك حديث متواتر جاء به ( تكون فتنة بالشام أولها لهو الصبيان ثم لا يستقيم أمر الناس على شيء ) ، كما أن هناك أحاديث يرد فيها ذكر الشام على أنها ساحة رئيسية للقتال وتحدد مدنا وبلدات سيراق الدم فيها.   ومن بين الأحاديث المنسوبة إلى النبي، والتي يكثر ذكرها ( عليك بالشام فإنها خيرة أرض الله يجتبي إليها خير عباده ، فإن أبيتم فعليكم باليمن ، واسقوا من غُدَرِها فإن الله تكفل لي بالشام وبأهله ) وفي حديث آخر  ( فسطاط المسلمين يوم الملحمة بالغوطة إلى جانب مدينة يقال لها دمشق من خير مدائن الشام ). وتقع الغوطة إلى الشرق من دمشق  ، وفي حديث صحيح ( ستصالحون الروم صلحا آمنا وستغزون أنتم وهم عدوا من ورائهم فتسلمون وتغنمون ثم تنزلون بمرج ذي تلول فيقوم رجل من الروم فيرفع الصليب ويقول: غلب الصليب ، فيقوم إليه رجل من المسلمين فيقتله ، فعندئذ يغدر الروم ويأتونكم تحت ثمانين راية ، تحت كل راية اثنا عشر ألفا). لا تقوم الساعة حتى تنزل الروم بالأعماق أو بدابِقَ.

 عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تقوم الساعة حتى تنزل الروم بالأعماق أو بدابِقَ فيخرج إليهم جيش من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذ ، فإذا تصافوا ، قالت الروم : خلوا بينا وبين الذين سُبُوا مِنَّا نقاتلْهم، فيقول المسلمون : لا والله، كيف نُخَلِّي بينكم وبين إخواننا  فيقاتلونهم ؟ فينهزم ثُلُث ولا يتوب الله عليهم أبدا -‏أَيْ لَا يُلْهِمهُمْ التَّوْبَة- ويُقتَل ثلثُهم أفضل الشهداء عند الله  ويفتتح الثلث، لا يُفتَنون أبدا ، فيفتَتحِون قسطنطينية ، فبينما هم يقتسمون الغنائم، قد عَلَّقوا سُيوفَهُم بالزيتون ،إذ صاح فيهم الشيطان : إنَّ المسيحَ الدَّجَّالَ فد خَلَفَكم في أهاليكم، فيخرجون ، وذلك باطل ، فإذا جاؤوا الشام خرج ، فبيناهم يُعِدِّون القتال  يُسَوُّون صفوفَهم ، إذا أقيمت الصلاة ، فينزل عيسى بن مريم ، فأمَّهم ، فإذا رآه عدو الله ذاب كما يذوب في الماء فلو تركه لا نزاب حتى يهلك ، ولكن يقتله الله بيده -يعني المسيح- فيريهم دَمه في حربته) أخرجه مسلم . في الحديث تنبأ النبي صلى الله عليه وسلم بوجود قرية دابق ، وهذا كما أرى إعجاز كبير لأنها قرية صغيرة في شمال حلب التي لم يأتيها في حياته ، ودابق من أفضل الأراضي لقيام المعارك ، لأنها تقع في سهل واسع منبسط لا جبال ولا وديان وهو من أنسب الاماكن لمعارك كبيرة وفاصلة  ودابق من القرى التاريخية التي تقع شمال   وتبعد عن الحدود التركية حوالي 15كم تقريباً. نزل بها الخليفة سليمان بن عبد الملك عندما أرسل أخاه مسلمة بن عبد الملك لفتح القسطنطينية وتوفي فيها ، خلفه فيها الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز قبل أن يتوجه إلى حمص ، ويوجد فيها قبر سليمان بن عبد الملك ، والتابعي عبد الله بن مسافع ، وقعت فيها معركة عظيمة بين العثمانيين ، بقيادة سليم الأول والمماليك ، بقيادة قنصوه الغوري عام 1516. انتصر فيها العثمانيون ، ويتنبأ النبي صلى الله عليه وسلم إلى قيام حرب بين المسلمين والروم في آخر الزمان في دابق ولم يذكر الحديث سوى الروم ، وانا اتوقع انه سوف تزول وتضمحل امريكا في آخر الزمان ربما بكارثة طبيعية ، ويصبح هناك ما يسمى دولة الروم أي أوربا حاليا والله اعلم ، ويشير الحديث إلى فتح القسطنطينية- اسطنبول- بعد هذه الملحمة الهائلة ، وهذا دليل أكيد على أنه سيتم احتلالها ، وما حولها في آخر الزمان من قبل الروم ، لأن نزول الروم في دابق لم يتم بعد ، ويشير الحديث بأنه سوف يسلم الكثير من الروم ويعيشوا مع المسلمين في الشام أو يتم سبيهم من الروم ويشهرون إسلامهم ثم يقاتلون مع المسلمين ضد الروم ، ويشير الحديث إلى انه سوف يكون للشام في آخر الزمان شأن كبير فيها يقتل الدجال وفيها ينزل المسيح عيسى بن مريم وفيها ينتصر المسلمون على الروم. ويشير الحديث إلى أن خيار أهل الارض سوف يجتمعون في المدينة المنورة في آخر الزمان (أرجو الله تعالى ان يجعلنا جميعا من سكانها ) ويخرجون منها مجاهدين إلى الشام للقاء الروم في دابق ويكون النصر على أيديهم. والحديث يشير إلى أن النصر يأتي من المجاهدين المخلصين الذي هم من خيار الناس. وإلى انه سوف يكون هناك زراعة للزيتون في دابق آخر الزمان فقد اشار الحديث إلى تعليق السيوف بالزيتون. ودابق تقع في مكان يفصل بين الشرق الاسلامي والغرب الرومي النصراني وهي مكان المواجهة في آخر الزمان.

وما بعد حصار سوريا وقيام الأمه مره اخرى ، في سوريا سيتغير  ميزان القوى وامم كثيره شرها سينكسر ومشروع ضخم يريد شر بهذه الأمه سيزول ، في آخر الزمان يكون جند في العراق والشام واليمن سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم  مع اي جند اكون قال عليك بالشام فالملائكة باسطة اجنحتها على الشام ، الشام التي قال النبي عنها : إن الأيمان اذا كثرت الفتن بالشام ،  أي ان الأيمان يكون في الشام عند كثرة الفتن . ( وكل شعاراتهم الأن يا الله ما النا غيرك يا الله) ، وفي الحديث لا تقوم الساعه حتى تنزل الروم وهم الأوروبيون والأمريكان بالأعماق او قال دابق وهما شمال سوريا ، وفي الحديث ايضا تصطلحون انتم والروم صلحا تاما فتقاتلون عدوا من ورائكم  ، من هذا العدو ؟ الكل يجمع ان من يقاتلنا يتكلمون بالفارسيه ايران ومن ورائها روسيا ،الصين  ، حزب الله ، فيلق بدر،  جيش المهدي ، .  ايران الآن تقاتل بكل خبراتها... قال تتحالفون انتم والروم حلفا تاما فتغزون عدوا من ورائكم فتنصرون .. ( تبدأ علامات الساعه الكبرى في الظهور)  فإذا نصرتم رفع رجل من الروم الصليب ويقول نصر الصليب فخرج له مسلم وقال كذبت ويكسر الصليب فيخرج له رجل من الروم فيقتل المسلم ثم يخرج رجل مسلم ويقتل الرومي ، فيتواعدون للحرب فتأتي الروم تحت ثمانين رايه ( ربما 80 جيشا ) تحت كل رايه 12 الفا فيلتقون فينزل الروم في اوائل البلاد العربيه وهي سوريا ويبدأ القتال وتبدأ الملحمة الكبرى فينتصر المسلمون .. رواه مسلم  هذه المرة عزة المؤمنين وايمانهم يجعلهم ينتصرون . وفي رواية اخرى : فيخرج عليهم جيش من المدينة ( وهي دمشق وليس مكة )   من خيار اهل الأرض يومئذ فيلتقون قال الرسول صلى الله عليه وسلم: يوم الملحمة الكبرى فسطاط المسلمين (يعني اجتماع المسلمين) في ارض يقال لها الغوطة فيها مدينة يقال لها دمشق خير منازل المؤمنين يومئذ رواه ابو داوود ، وفي رواية اخرى:  يخرج رجل من آل النبي اسمه كأسم النبي واسم ابيه كاسم ابيه محمد بن عبد الله وهو من اشراف الناس يصلحه الله فجأة وقد امتلأت الأرض جورا وظلما يبايع هذا الرجل ويدفعه الناس دفعا   يبايعه المؤمنين بين الركن والمقام في الكعبة على الجهاد في سبيل الله فيهزم ثلث ويفر وهذا الثلث لا يتوب الله عليهم ابدا ويقتل ثلث هم خير الشهداء عند الله ويفتح الله على ثلث .

وفي الحديث :  تكون النبوة فيكم ما شاء الله لها ان تكون ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ثم يكون ملكا عاضا اي متمسكا بالحكم  ثم يكون ملكا جبريا اي حكم بالقوة وبالعسكر ( حالنا اليوم) .. ثم تعود خلافه على منهاج النبوة ، وإذا كانت هذه الأحداث التي نعيشها اليوم هي التحضير الفعلي للملحمة الكبرى لذا على السوريين أن يعودوا الى بلدهم الأم سوريا للمشاركة بهذا الحدث العظيم وأن لا تكونوا من الثلث الفار الذي لا يتوب الله عليهم ابدا .

 

 

عيد العمال في الإسلام

للناس أعياد ومناسبات يحتفلون فيها ، فأعياد أهل الكتاب والأمم الكافرة ترتبط بأمور دنيوية ، أو مناسبات دينية   خاصة بهم ، وكعيد النيروز الخاص بالمجوس ، أو أعياد هي من شعائر الله ، التي ينبغي إحياؤها ، كعيدي الفطر والأضحى الخاص بالمسلمين   ولا يحل للمسلمين أن يتشبهوا بالكفار والمشركين في شيء مما يختص بأعيادهم  

ويأتي أصل الاحتفال بعيد العمال ، من كندا حيث النـزاعات العمالية  وحركة التسع ساعات في هاميلتون ثم في تورونتو كندا ، وقد قامت المسيرات لدعم هذه الحركة ، واستلهاماً من أحداث هذه الاحتفالات التي شهدها زعيم العمال الأميريكى ، الذي قام بتنظيم أول عيد للعمال في نيويورك ،  يحتفل به في الخامس من سبتمبر من كل عام ، ومن الجدير بالذكر أن أمريكا قتلت أبناءها حين تعارضت مصالح عمالها مع مصالح  أغنيائها ، وبسبب قتلها للخيرين من أبنائها ، كان عيد العمال .  إن العمل في الإسلام عنصر أساسي ، في بناء الدولة العصرية ، إذا كان هذا العمل يستجيب لكل مطالب الحياة ، ويستند إلى تخطيط علمي ، والويل للقول إن لم يترجمه عمل ، لأنه يصبح ثرثرة تشقى بها الأمة ، لذلك قل كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وكثر عمله  وتعلم منه أصحابه أن يقللوا حجم الكلام ، ويكثروا حجم العمل  صعد عثمان بن عفان المنبر يوماً ، فلم يجد كلاماً يقوله   وطالت حيرته ، وأخيراً فتح الله عليه بهذه الكلمات : " أيها الناس سيجعل الله بعد عسر يسرا ، وبعد ضيق فرجا ، وأنتم إلى إمام أفعال ، أحوج منكم على إمام أقوال   ثم نزل " فتهللت أسارير الصحابة ، وظهرت الغبطة على وجوههم ، لأنهم سمعوا أبلغ خطبة في أوجز لفظ وأحلاه   وظهر الخليفة من خلال هذه الكلمات ، بأنه رجل أفعال وليس رجل أقوال . إن للعمل في مجتمع الإسلام قيمة عليا ، ومكانة الإنسان فيه  تبرز من خلال عمله ، نجد ذلك واضحاً في قوله تعالى : { ولكل درجات مما عملوا } فالآية تبرز قيمة العامل ، ومن خلال آيات العمل الواردة في القرآن ، نجد أنها تتناول نوع العمل ، وكرامة العامل وحق العمل واجر العمل وهدف العمل ووقته وإتقانه ولذلك اعتبر الإسلام العمل عبادة لله كالصلاة ، وما دام العمل عبادة ، فإن العامل يحرسه ضميره المؤمن ، بأن عليه رقيباً من داخله يذكره دائماً بربه ، وهو ما يبرزه قوله تعالى :{ وفل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون } فالآية تأمر بالعمل المطلق ، الذي ينظم شئون الدين والدنيا  ويكون شعار المجتمع المسلم : { وقل اعملوا } تكليف وعبادة  وأمر رباني ، وفيه إشارة إلى كرامة العامل وتقديسه ، ولم يكتف الإسلام بطلب العمل والحض عليه   وإنما تجاوز ذلك إلى المطالبة بإتقان العمل وإخلاص النية فيه ، وقد فاخر النبي صلى الله عليه وسلم كل عمل مخلص وفاخر باليد العاملة قائلاً : ( تلك يد يحبها الله ورسوله )

وجاء في الآيات ما يشير  إلى أن المنهج الإسلامي  منهج عقيدة ، وعمل يصدق العقيدة ، منهج لا تكفي فيه النوايا  إنما هي تحسب مع العمل ، فتحدد قيمة العمل   وكحافز على إتقان العمل قال تعالى :{ ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه}  يونس 61 . وأما إخلاص النية في العمل ، فقد بينه الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله ( إنما الأعمال بالنيات ) الأعمال لا مجرد النيات

فقيمة الفرد في الإسلام ، هي بما يقدمه لأمته من عمل   وبما يحرزه في نفسه من صلاح وتقوى ، وبذلك يكون تفاضل الناس أمام الله ، وليست قيمة الفرد بما يملك من مال أو يحرز من جاه أو سلطان .  

ولا قيمة للفرد في الإسلام ، إذا تكلم ولم يفعل ، لأن سرّ قوة الكلمة  كامن في قوة الإيمان ، بمدلول الكلمات لتحويل الكلمة المكتوبة إلى حركة حية ، والمعنى المفهوم إلى واقع ملموس ، فلا يقعد القادر على العمل ، طمعاً في أن يؤدي واجبه بالكلام ، وقديماً قال الشاعر :

السيف أصدق أنباء من الكتب   في حدّه الحد بين الجِدِّ واللعب

ففي كثيرٍ من الأحيان ، يصبح من العبث أن نتكلم ونتكلم ثم لا نفعل شيئا ، لأن الكلمة لا يمكن أن تفعل شيئا ، إلا إذا تحولت إلى فعل ، والفعل لا بد له من عقيدة   لأن قوة الكلمة ، إنما تنبع من أنها ترجمان العقيدة ، وقد عاب الله على من يقولون ولا يفعلون قال تعالى :{ يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ، كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون } الصف .  ولما للعمل من أهمية ، فإن الإسلام يحرص على إقامة المجتمع القوي ، الذي يأكل مما يزرع ، و الذي تتحقق فيه الكفاية في الإنتاج ، من أجل توفير الحاجات الأساسية لأفراده ، وتحقيق خلافتهم في أرض الله  كما جاء في الحديث ( إن الله يحب العبد المؤمن المحترف ) فاليد الخشنة العاملة ، يد يحبها الله ورسوله ، ولا يمكن للأمة أن تكون خير أمة أخرجت للناس ، إلا عن طريق العمل والإعداد ، وبذل الجهد والسعي في الأرض قال سبحانه وتعالى : { هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور } ومن هنا كان للعمل في الإسلام قيمته وأهميته ، وفي هذا يقول صلى الله عليه وسلم : ( ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده ، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده ) . 

وقد أنزل الدين الإسلامي العاملين منـزلة تقترب من منـزلة الأنبياء والصديقين والشهداء ، يقول عليه الصلاة والسلام : ( التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء ) .

والذين يقرؤون سير الأنبياء والرسل الكرام ، يزدادون إيماناً بقيمة العمل ، وإدراكاً لمـنـزلة العاملين ، ذلك أن الأنبياء والرسل ، كلهم كانوا يعملون ، فقد كان لكل نبي حرفة يعمل فيها ويعيش منها ، ليكون قدوة لقومه  فقد كان إدريس خياطا ، وكان داود عليه السلام حدادا ً، وكان نوح عليه السلام نجاراً ، وكان موسى عليه السلام راعياً للغنم وكذلك كان محمد صلى الله عليه وسلم .

ولقد اقتدى الصحابة برسولهم الكريم ، فلم يركنوا إلى الكسل أو يقعدوا عن طلب الرزق، بل كانوا جميعاً يعملون ، فقد كان الصحابي الأول أبو بكر رضي الله عنه تاجر قماش، وكان الزبير بن العوام خياطاً وكان عمرو بن العاص جزاراً ، والعمل شرف مهما كان متواضعاً  فقد روي أن أحد الأمراء مر على عامل نظافة ، وهو يكنس الشوارع وينشد قائلاً :

وأكرم نفسي إنني إن أهنتها  وحقك لم تكرم على أحد بعدي

فقال الأمير للعامل: وأي إكرام هذا الذي أكرمت به نفسك ، وأنت تعمل كناساً ، فقال : إن عملي هذا أفضل من أن أقف على أبواب اللئام أمثالك يعطونني أو يمنعوني ، وقد أكرم الإسلام العمال ، وجعل لهم حقوقاً كثيرة ، وجاءت الأحاديث الشريفة موضحة ذلك فقال صلى الله عليه وسلم : ( من استأجر أجيراً فليعطه أجره ) وقال : ( أعط الأجير أجره قبل أن يجف عرقه ) .

وحث الإسلام على العمل حتى عند قيام الساعة وفي أحرج الأوقات ( إذا قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها ) .

إن أهم شيء تقوم عليه هذه الحياة ، هو العمل فكل ميسر لما خلق له ،  والعمل في ذاته حركة ، والحركة دليل الحياة ، والسكون دليل الموت ، فلا يمكن أن تستقيم حياة بغير عمل ، ولا يمكن إن تنتظم حياتنا بغير عمل  ولذلك اعتبر العمل محور الإسلام وجوهره ، على أن يكون في حدوده الشرعية ، التي لا تمس حقوق الآخرين   ولا تضر بمصالحهم ، فكان من قواعد الإسلام قوله صلى الله عليه وسلم : ( لا ضرر ولا ضرار ) وقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) .

وقد وضع الإسلام للعمل قواعد عامة ، وقواعد خاصة في كثيرٍ من أنواع التصرفات ، تدور كلها حول وقاية المجتمع من الخصومات ، التي تبدد شمله ، وتكدر صفوه ، كما عنى بتنظيم العمل وتوزيعه ، حتى لا يشغل عمل الدنيا عن عمل الآخرة ، وعما يجب عليه من حقوق كما بين أن المغالاة فيه ، وعدم تحري طرق الكسب الحلال لا تجلب رزقا ، ولا تضاعف كسبا قال صلى الله عليه وسلم : ( إني لا أعلم شيئاً يقربكم من الجنة ويبعدكم من النار إلا أمرتكم به ، وإني لا أعلم شيئاً يبعدكم من الجنة ويقربكم من النار إلا نهيتكم عنه ، وإن الروح الأمين نفث في روعي أن نفساً لن تموت حتى تستوفي رزقها ، وإن أبطأ عنها ، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ، ولا يحملنكم استبطاء شيء من الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله تعالى  فإن الله لا ينال ما عنده بمعصيته ) .   

 

 

 

إن الله اشترى

قال تعالى :﴿ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة  يقاتلون في سبيل الله فيَقْتلون ويُقْتَلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن، ومن أوفى بعهده من الله ، فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم ﴾ التوبة 111 .

لم أر ترغيباً في الجهاد أحسن ولا أبلغ من هذه الآية   ولعظم درجة المجاهدين في سبيل الله ، تمنى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو خير العباد كلهم ، أن يقتل وهو يجاهد في سبيل الله فقال صلى الله عليه وسلم : ( وددت لو أغزو في سبيل الله حتى أُقتل ، ثم أغزو حتى أُقتل ، ثم أغزو حتى أُقتل ) . وذلك لفضل الجهاد عند الله ، وما أعده الله سبحانه للمجاهدين ، من درجات التكريم والنعيم في الدنيا والآخرة فقال صلى الله عليه وسلم : ( ذروة سنام الإسلام الجهاد لا يناله إلا أفضلكم ) . ومن حمل راية الجهاد في سبيل الله بايع الله ، ومن بايع الله ربح البيع ، لأن الله سبحانه فيها هو المشتري والمؤمن هو البائع ، بيعة لا يبقى بعدها للمؤمن شيءٌ في نفسه ، ولا في ماله يحتجزه دون الله ودون الجهاد في سبيله ، لتكون كلمة الله هي العليا ، ويكون الدين كله لله ، وقد اختار الله المجاهد ليجعله موضع تكريمه وتشريفه ، ويمنحه أعلى درجات البر ، فقد روى الحسن أن رسول الله e قال : ( إن فوق كل برٍّ برٌّ حتى يبذل العبد دمه   فإذا فعل ذلك فلا برَ فوق ذلك ) . إنها بيعةٌ باع المؤمن فيها نفسه وماله لله ولقد احسن القائل :

الجود بالمال جودٌ فيه مكرمة   والجود بالنفس أقصى غاية الجود

باع نفسه مقابل ثمن محدد معلوم وهو الجنة  وانعم به من ثمن ، لأنهم باعوا الدنيا واشتروا الآخرة ، قال الحسن البصري : "بايعهم والله فأغلى ثمنهم" .     

والله يحرِّض عباده المؤمنين على أن يسلكوا طريق البذل والتضحية والفداء ليكونوا أهلاً لشراء الله أنفسهم وأموالهم بالجنة ونعيمها الدائم قال الله تعالى : ﴿ فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل في سبيل الله فيُقْتل أو يَغْلِبْ   فسوف نؤتيه أجراً عظيما ﴾ النساء 74   .  ونحن نتحدث المجاهدين فإنهم بالنسبة لنا أكثر من قدوة وأسوة ، وكم هو جميل أن نتحدث عن الجهاد حين يخلصه أصحابه لوجه الله عز وجل وينـزهونه عن الغرض  ويقفونه في سبيل الحق والعدل والخير واليقين .  إن امتنا أراد لها قدرُ الاختبار والابتلاء ، أن تصيبها طعنات خلفت من ورائها جراحات ، ولن تلتئم هذه الجراح ويستعيد جسم الأمة مناعته ، إلا إذا تغذى  بزاده الأصيل ، من أمثلة البطولة ونماذج الجهاد ومواقف الفداء .

ونحن نتحدث عن المجاهدين والشهداء ، فإننا نتحدث عن طائفة عظيمة من أبناء امتنا ، وأبطال من أبطال العقيدة والجهاد ، الذين دانوا للدنيا وأهلها بما ضحوا في سبيل عقيدتهم بأنفسهم ومن أجل تحرير الديار المغتصبة وغسل العار وأخذ الثأر ، اثبتوا بما لا يدع مجالاً للشك ، أن أصدق أنواع الجهاد وأزكاها هو ما كان خالصاً لله منبعثاً من نفس مؤمنة واثقةٍ بأن الله لن يتركها ولن يضيّع إيمانها ولن ينسى جهادها ، فيرضى عنها ويهديها قال تعالى : ﴿ والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين     العنكبوت  ﴾  .

 

 

من العار أن نولي الأدبار

قال الله تعالى : ﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار ﴾ الأنفال 16 . من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، ويؤمن بأن النصر والهزيمة موكلان إلى إرادة فوق إرادة الناس ، ويؤمن أن الله هو الذي يدير المعركة ، وإنما المؤمنون ستار للقدرة  يريد الله أن يجعل لهم ثواب الجهاد ، وهو الذي يلقي في قلوب الذين كفروا الرعب ما دام المر كذلك ، ومن أعطى للعدو دبره وتولى ، واعتبر ما يجري في بلاد المسلمين أمر لا يهمه ، فقد استحق من الله العقاب والمأوى غضباً من الله قال تعالى : ﴿ ومن يولهم يومئذٍ دبره متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئةٍ فق باء بغضب من الله ﴾ الأنفال 6 . وما علموا أن المؤمن لا تهزمه في الرض قوة ، لأنه موصول بقوة الله التي لا غالب لها ، وأنه أقوى من أي خصم يواجهه ، لأنه يؤمن بإحدى الحسنيين ، إما أن يحيا عزيزا أو يموت شهيدا ، هذا حكم الله في القرآن عن المعركة .

أما عن واقعنا فلا ندري ماذا يجري غداً أو بعد غد ، وحتى على غير العادة لم تتضح لنا الصورة الصدقة عما يجري للحقيقة التي تطمس في الحروب الدائرة في بلاد المسلمين ، ولا تجد الإجاب الكافية ، فلماذا تقتل الشعوب وتهجر ؟ ولماذا يقف المسلمون موقف المتفرج ؟ ألم يسمعوا بكاء الثكالى والمنكوبين واستغاثات المظلومين ؟ أم أن الحس تبلّد وما عاد له وجود ؟ أم أن اخوة الدين ماتت في القلوب ؟ فما عاد لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( مثل المؤمنون في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) ما عاد له في القلوب وجود ، لذلك فقد الإحساس لما يعاني المسلمون ، وما عاد ذلك يحرك اخوة الدين ، أم أن ذلك لا يعنيهم ؟ أم تناسوا أنهم مسئولين أمام الله ، وأن تجاهل ما يجري لا ينجي من عذاب الله ؟ أم أنه عزَّ أن نجد في هذا الزمن نخوة وامعتصماه ؟ ولماذا هده المواقف الحيادية ؟ ولماذا يرضى المسلمون بهذا التقصير ؟ ولماذا لا يلبى نداء الواجب ؟ علماً بأن ما يجري ليس مسألة كلام أو انتظار قرار يتخذ أو مقالة تكتب أو خطب تلقى بل هي مسألة حياة أو موت ، بل هي مسألة مصير أمة ، فتباً لمن يرى أخاه يموت ولا يمد له يد العون ، وسحقاً لمن يرى باب الجهاد ولا يجاهد .      

إن ما يجري هو امتحان لعزائم الأمة ومدى استعدادها للتضحية والجهاد ، فقد سقط المتخاذلون سقوطاً ليس له نظير ، وسبقوا كل سابق في الخيانة والجبن   غير سائلين عن مناصرة المجاهدين والمظلومين ، وضربوا المثل المخزي في التنكر لدينهم ، والإعراض عن الثواب الذي أعده الله للمجاهدين ، فكانوا عار هذه الأمة ومصدر بلائها ، فماذا نقول عندما نرى الإجماع في الإعراض عن الجهاد ؟ ونرى المماراة في الحق والمجادلة في الواقع فلا نحرك ساكنا ؟ ولماذا نسير وراء من تنكروا لدينهم ، فلم يعد يجدي معهم وعظ ولا إرشاد ؟ ولماذا نقعد  عن المطالبة بحقنا فلا نناله منهم ؟ ولماذا نصدّق قول القائل :  إننا نجتمع للعمل على رفع المعاناة ووضع حد لما يجري ؟ ما يذكرني بحكاية تعلمناها في المرحلة الابتدائية وهي أن رجلاً  كان يذبح العصافير واحداً بعد الآخر ،  و كانت دموعه تسيل على خدَّيه من البرد الشَّديد, فقال عصفورٌ لأخيه الكبير: انظر ما أرحم هذا الرَّجل, إنَّه يبكي شفقةً علينا, فقال له أخوه: لا تنظر إلى دموعه الَّتي تسيل     وانظر إلى ما تفعل يداه.. ألم تسمع بدموع التماسيح يا أخي؟! إنَّها تأكل فريستها و عيونها تدمع . 

أوقات الشدة والفرج

 قال الله تعالى في وصف حال بعضٍ العباد : ﴿ وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً. أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً. أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفا مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً ﴾ الإسراء 67 . المشهد الذي تعرضه الآية نموذجاً للحظات الشدّة والفرج  الذي يشعر الناس أن يد الله تدفع لهم الفلك في البحر ليبتغوا من فضله ، فيتوجهون إليه في لحظة الخطر ، لا يدْعون أحداً سواه  إنه وصف للإنسان إذا أحاطت به الأخطار فلا يلجأ إلا إلى الله ، حتى وإن كان كافرا ، لأنه وحده القادر على تفريج الكروب وإغاثة الملهوف ، وإن دعوه سمع لهم وأجابهم على كفرهم وعنادهم ، فما أرحمه حتى بمن كفر به ، لذلك قال الله في الحديث القدسي : ( قالت الأرض : يا رب إئذن لي أن اخسف بابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك ، وقالت السماء : يا رب إئذن لي أن أسقط كسفاً على ابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك ، وقالت الجبال : يا رب إئذن لي أن أخر على ابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك ، وقالت البحار : يا رب إئذن لي أن أُغرق ابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك فقال تعالى : دعوني وما خلقت ، لو خلقتموهم لرحمتموهم ، أنهم عبادي فإن تابوا إلي فأنا حبيبهم ، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم ) . بعض العباد إذا فوجئ بالمصيبة فإنه لا يراها إلا في الحالة التي فاجأته ، وشعر من جرائها بالضر والألم ، فإذا ما ابتلي بمرض يستقر في ذهنه أن البلاء إنما هو نابع من هذا المرض الذي ابتُلِيَ به، وإذا عُوفِيَ من آلامه استطاع أن يضمن لنفسه الأمن والرغد من العيش ، هذا التصور الخاطئ يُنَبِّهُنَا الله سبحانه إلى خطورته  فالله الذي شاء أن يبتليك بفقر ، ربما ابتلاك بالغنى ، فكان الغنى أشد بلاءً من الفقر الذي كنت تعاني منه . والله الذي يبتليك بمرض أفقدك الراحة ، ربما عافاك بعد ذلك ففجَّر من العافية التي تتمتع بها بلاءً ومصيبة أشد ، وهذا معنى كلام الله تعالى : ﴿ أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً ﴾ الإسراء 68. هذا المعنى ذاته يلفت نظرنا إلى البيان الإلهي عندما يقول: ﴿ أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ. أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ ﴾ الملك 16 . فما أكثر ما يتصور الإنسان أن الأرض مهدٌ جعلها الله سبباً للسعادة والرخاء ، لكنه ينسى أن الله الذي جعل من الأرض مهداً - إن شاء - جعل منها سبباً للدمار ، لأن البشر في قبضة الله في البر ، كما هم في قبضته في البحر  فكيف يأمنون أن يخسف بهم جانب البر بزلزال أو بركان يقذفهم بالحمم ، فلا يجدوا لهم من دون الله من يحميهم  وكيف يأمنون الغرق بالماء الذي جعله الله سراً للحياة ، فأهلك به كثيراً من العباد ، ولو أن الإنسان تدبر الوصية التي أوصى بها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عبدَ الله بن عباس إذ قال فيها : (تعرَّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ) . لعلم أن الساعة التي يتمتع فيها بالعافية والصحة ، لربما تحولت في لحظة واحدة إلى سبب للشقاء ، فكثيرٌ من الناس يلتجئون إلى الله عز وجل عند الشدة فراراً منها ، حتى إذا ما زالت الشدة نسي الله ونسي الالتجاء إليه .

 روي أن احد الحكماء ابتلي بمصيبة ،فدخل عليه إخوانه يعزونه في المصاب   فقال : إني عملت دواء من ستة أخلاط . قالوا : ما هي ؟ قال الخلط الأول : الثقة بالله والثاني : علمي بأن كل مقدور كائن والثالث : الصبر خير ما استعمله الممتحنون والرابع : إن لم أصبر أنا فأي شيء أعمل ؟ ولم أكن أعين علي نفسي بالجزع والخامس : قد يمكن أن أكون في شر مما أنا فيه والسادس: من ساعة إلي ساعة فرج. وذكروا عن الفضل بن سهل: " أنَّه كان يتميَّز بسَعة العلم والكرم وكان قد أكرمه الله أن برِئَ من علَّة كان فيها، فجلس للنَّاس وهنَّؤوه بالعافية فلمَّا فرغ الناس من كلامِهم قال : "إنَّ في العلل لنعمًا لا ينبغي لعاقِلٍ أن يَجهلها: تمحيص للذنب، وتعرُّض لثواب الصبر، وإيقاظٌ من الغفلة، وإذْكار بنعمة الله في حالة الصحَّة، واستدعاءٌ للمثوبة وحضٌّ على الصدقة، وفي قضاء الله وقدرِه بعدُ الخيار " .  وقد أحسن القائل :

قَدْ يُنْعِمُ اللَّهُ بِالبَلْوَى وَإِنْ عَظُمَتْ   وَيَبْتَلِي اللَّهُ بَعْضَ القَوْمِ  بِالنِّعَم

فالابتلاء في هذه الدنيا لا ينجو منه احد ، وهنا قد يتساءل البعض : لماذا خلق الله البلاء ؟ ولماذا يتألم البعض بينما لا يحس به الغير ؟ قال تعالى :﴿ أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون* ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ﴾ العنكبوت2-3 . ففي هاتين الآيتين بين الله سبحانه ، الهدف من وجود الإنسان على الأرض   آلا وهو الابتلاء أي الاختبار والامتحان ، ليظهر في عالم الشهادة من يستحق نعيم الجنة ممن يستحق جحيم النار ، وهذا الابتلاء هو وسيلة التمييز بين العبد الصالح والعبد الطالح . وقد جعل الله تعالى لهذا الابتلاء بابين : باب الشدة وباب الرخاء قال تعالى :  ﴿  كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة والينا ترجعون ﴾ الأنبياء 35 . ومن هنا يمكن قسمة الابتلاء إلى قسمين : الابتلاء بالشر وهو النوع الذي دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى التعوذ منه ، فعن ابي هريرة رضي الله عنه قال  : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء ) . وسبب تعوذ الرسول صلى الله عليه وسلم من شدة البلاء وسؤال الله العافية يعود إلى أن البلاء أمره شديد على النفس ، لا يطيقه كل الناس مهما ادعوا القوة والقدرة حتى الإيمان نفسه ، يخشى عليه من الضعف أمام شدة البلاء لهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم  ينصح أصحابه ، بان لا يسالوا الله البلاء بل يسألوه العافية ، وإذا وقع البلاء فلا دواء له إلا بالصبر والرضا ، لأن الله مع الصابرين ، والصبر مفتاح الفرج ، وإذا لم يأتي الفرج فالآخرة خير وأبقى قال الله تعالى :  ﴿  إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ﴾ . قال الشافعي :

ولرب نازلة يضيق بها الفتى        ذرعاً وعند الله منها المخرج

ضاقت فلما استحكمت حلقاتها  فرجت وكنت أظنها لا تفرج

فالبلاء أمر لا يقوى عليه كل الناس ، وقد يشتد مع اشتداد إيمان العبد وفي ذلك تطهيرٌ له من الذنوب ، حتى يلقى الله وليس عليه خطيئة سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم  :  (  أي الناس اشد بلاء ؟ قال: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل فيبتلى الرجل على حسب دينه فان كان دينه صلبا اشتد بلاؤه وان كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه من خطيئة ) . وهنا قد يتساءل الناس عن سبب كون حال الكافر في هذه الحياة الدنيا أفضل من حال المؤمن يتمتع بنعيم المال والجاه بينما يتخبط المؤمن في الفقر والجوع ؟ إن هذا الكلام لا يمكن الأخذ به بشكل مطلق لسببين:  إن إعطاء الله المال والغنى والصحة للكافر أمور لا يمكن أن نجزم بها في كل الأحوال ، إذ انه كما يوجد كافر غني يوجد أيضا مؤمن غني فعطاء الله في هذه الحالة لا يتعلق بالمحبة   وإنما يتعلق بحكمته سبحانه وتعالى وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم :  ( إن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب ولا يعطي الدين إلا لمن أحب )   ثم إن اشتداد البلاء على المؤمن لا ينفي وجود المدد والعون من الله تعالى في حين ينتفي هذا الأمر تماما بالنسبة للكافر ، والواقع يشهد أن ما يصيب المؤمنين من الشرور والمحن والأذى ، دون ما يصيب الكفار ، وقد أكد القران الكريم على حقيقة شدة بلاء الكافر ، خاصة انه لا يعرف معنى الصبر الذي يعرفه المؤمن كما انه لا يؤمن بالجزاء الذي ينتظره المؤمن ، فأي البلاءين اشد؟ قال تعالى: ﴿ ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليما حكيما ﴾ النساء 104. ومن هنا من المفيد ذكر قصة ذكرها الإمام الغزالي في كتابه " إحياء علوم الدين " تُلَخِصْ الفرق بين بلاء المؤمن وبلاء الكافر ، وهذه القصة تروى عن ابن عباس حيث قال : " شكا نبي من أنبياء الله إلى ربه فقال: يا رب العبد المؤمن يطيعك ويجتنب معاصيك تزوي عنه الدنيا وتعرض له البلاء ، والكافر لا يطيعك ويجترىء عليك وعلى معاصيك فتزوي عنه البلاء ، وتبسط له الدنيا فأوحى الله تعالى إليه :  أن العباد لي والبلاء لي ، والكل يسبح بحمدي   فيكون المؤمن عليه من الذنوب ، فأزوي عنه الدنيا وأعرض له البلاء ، فيكون كفارة لذنوبه ، حتى يلقاني فأجزيه بحسناته  ويكون الكافر له حسنات، فأبسط له في الرزق وأزوي عنه البلاء ، فأجزيه حسناته في الدنيا حتى يلقاني فأجزيه بسيئاته " . فالمؤمنون يجزون بحسناتهم في الدنيا والآخرة، ويُزاد في بلائهم في الدنيا ليكفر الله عنهم من خطاياهم ، فلا يُعاقبون عليها هناك ، وحتى تسلم لهم حسناتهم في الآخرة. وأما الكفار فيُجزون بحسناتهم كلها في الدنيا، فيكون ما يستمتعون به في دنياهم – مما يُرى أنه قدر زائد على ما أعْطيه المؤمنون- يكون هذا في مقابلة ما يكون لهم من حسنات ، وفي الآخرة لا يقام لأعمالهم وزنا قال تعالى : ﴿ وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثورا ﴾ .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

التقوى زاد الصالحين

زاد الصالحين تقوى الله ، فأين تقوى الله في القلوب ؟  تأملت في هذه الكلمات "أين تقوى الله في قلوبنا؟" ووقفت معها وفكرت وسألت نفسي كثيراً : هل نحن نعظم الله حق التعظيم ؟ وكيف تكون عظمته  في قلوبنا ؟ لقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو يصف الصالحين "عَظُمَ الخالقُ في قلوبهم ، فصغُر ما دونه في أعينهم " أنظروا إلى هذا التعظيم الذي جعلهم ينشغلون بعظمته وحده عن عظمة من سواه كائنا من كان ، فصاروا لا يخافون إلا منه ، ولا يسكنون ولا يطمئنون ولا يلجئون إلا إليه  ولا يرون رقابة أحد سواه حتى تعلقت به قلوبهم   واستحوذ جلاله على نفوسهم ، فصار هو سبحانه وتعالى حسبهم ووكيلهم  يوافيهم بالعطايا والهبات ويؤيدهم بالمعاني ويثبتهم بالكرامات وصاروا هم أهله وأحبابه وخاصة أوليائه .

 أين نحن من حب الله ؟ وكيف هي علاقتنا برسوله صلى الله غليه وسلم ؟ وهل نحن حريصون على تصحيح  مساراتنا على خطاه ؟ بمعنى هل نحب أن يكون الله كما نريد منه جل جلاله ؟ أم نحب ونجتهد أن نكون نحن كما يريد الله منا ؟  ثم نقف بعدها على عتبة العبودية؟! اسمعوا نداء ربكم لداود عليه السلام : " يا داود.. أنت تريد وأنا أريد ، إن أطعتني فيما أريد أرحتك فيما تريد ، وإن عصيتني فيما أريد أتعبتك فيما تريد ولا يكون إلا ما أريد "  وفي الخبر الإلهي أيضا : " إذا أطاعني عبدي رضيت عنه ، وإذا رضيت عنه باركته ، وليس لبركتي نهاية ، وإن عصاني عبدي غضبت عليه ، وإن غضبت عليه لعنته...".

يا إخواني إن الله لا يحب أن تزاحمه أعراض الدنيا في قلب عبده وحبيبه  فحين يزاحم حب الولد محبة الله في قلب الخليل يأمره الله بذبح ابنه ، وعندما تصدق المحبة يخلص قلب الخليل لربه العظيم ، وحينما يكون لتعظيم البيت الحرام مكان في قلب الرسول صلى الله عليه وسلم وقلوب الصحابة يأخذ الله عز وجل منهم القبلة التي استأثرت بقلوبهم ويأمرهم بالصلاة جهة بيت المقدس حتى يرى هل حبه أعظم وأقوى وأكبر من حبهم وتعظيمهم للبيت الحرام ؟ وحين تكون الإجابة نعم يرد إليهم البيت بأمره كما أخذه منهم بأمره . وفي الخبر الإلهي "من آثرني على من سواي آثرته على من سواه". أوقات القرب الإلهي أين الله في قلوبنا ؟ هل نفرح بالقرب منه ؟ هل نحرص على أن يكون معنا دائما ؟ إذن فما مدى فرحنا بالصلاة التي نقابله فيها ونناجيه ؟ وما مدى حبنا للسجود الذي نكون فيه أقرب إلى الله ؟ وما مدى دوامنا على الذكر الذي يوجب معيته لنا ؟  ففي الخبر الإلهي  ( وأنا مع عبدي متى ذكرني وتحركت بي شفتاه  ) .

 وهل لنا نصيب من وقت القرب الإلهي في ثلث الليل الأخير وربنا ينادي علينا (هل من تائب فأتوب عليه، هل من مستغفر فأغفر له، هل من سائل فأعطيه )   يا إخوتي أليس المحب يتمنى الخلوة مع حبيبه فأين قلوبنا من الخلوة بالله ؟! أوليس المحب يضحي من أجل حبيبه ؟! فأين تضحيتنا من أجل الله ومن أجل إعلاء كلمته ودينه ؟! أليس المحب يسعى في رضا حبيبه ويتحمل من أجل رضاه ما قد يشق على نفسه ؟ فهل نحن نراقب مواضع رضا مولانا وحبيبنا لنسرع إليها ؟ وهل نراقب مواضع سخطه لنفر إليه منها ؟ ونرتمي في ساحات رحمته ونشكو إليه بثنا وأحزاننا وضعفنا ، ونطرق بابه لعله يتكرم ويفتح لنا ونحن المذنبين المقصرين ؟!! . أذكر موقفاًً لشابٍ أراد أن يتلمس موضعا من مواضع رضا ربه وحبيبه في غزوة بدر ، يسأل عوف بن الحارث الرسول صلى الله عليه وسلم يا رسول الله ما يضحك الرب من عبده ؟! فيقول لـه : ( غمسه يده في العدو حاسرا ) - يعني دخول القتال بدون درع – فنـزع عوف درعا كانت عليه فألقاها ثم أخذ سيفه فقام فقاتل القوم حتى قُتل! فمن منا يسأل نفسه عما يضحك الرب ؟ أو عما يفرح الرب فيسارع إليه؟!! ومن منا يتساءل عما يغضب الرب فيفر منه ويبتعد عنه حتى لا يغضبه ؟!!  فكم مرة شاهدنا الله في نعمة أنعمها علينا فشكرناها وأدينا الذي علينا فيها ؟ هل شكرنا الله على نعمة الهداية والإسلام ؟ هل شكرنا الله على نعمة الصحة ؟ هل شكرنا الله على نعمة المال ، على نعمة الولد على نعمة الأبوين ، على نعمة الزوجة الصالحة على نعمة التوفيق... إلخ ؟ أم تأتي النعمة فننسى المنعم وننسب النعمة إلى غيره ، ونصرف كثيرا من نعمه فيما يغضبه وليس فيما يرضيه عنا  ؟ وتأملوا معي هذا العتاب الإلهي ( إني والأنس والجن لفي نبأ عظيم : أخلق ويُعبد غيري ، وأرزق ويُشكر سواي  خيري إلى العباد نازل وشرهم إلي صاعد   أتودد إليهم بالنعم وأنا الغني عنهم  ويتبغضون إلي بالمعاصي وهم أحوج شيء إليّ...)  وما أجمل كلام ابن القيم حين قال : " ليس العجب من عبد يتملق سيده ولكن العجب كل العجب من سيد يتودد إلى عبيده وهم يفرون عنه "!! يا سبحان الله على هذا الإنسان العجيب!! . أين حب الله في البلاء والقدر ، فكثيرا ما تأتي الأقدار بما لا يوافق أهواءنا ، وتكون الابتلاءات التي تستلزم منا الصبر الجميل   فهل نتساءل عند البلاء والمحنة أين الله في قلوبنا ؟ وهل نشاهد رحمة الله بنا في البلاء ؟ وهل نستشعر حب الله لنا عند الابتلاء ؟ قال صلى الله عليه وسلم : ( إذا أحب الله عبدا ابتلاه...)  وهل نعيش معاني الصبر الجميل الذي ليس فيه شكوى ؟! حقا ما أعجب كلام ابن القيم وهو يصف ناسا نظروا إلى المصائب نظرة أخرى فاستقبلوا مصائبهم كما يستقبلون النعم لأن مصدرهما واحد وهو الله ، ولنتوقف مع كلامه حين يقول : " وكل ما يصدر عن الله جميل وإذا كنا لا نرى الجمال في المصيبة فلا بد أن نتأمل قصص موسى عليه السلام مع الخضر في سورة الكهف ، ونتأمل كيف كان خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار في قرية السوء شرا محضا من وجهة نظر سيدنا موسى وكيف ظهرت له مواطن الجمال في أفعال الله بعد معرفة الحقائق والحِكَم التي وراء الابتلاء!! " .  وهناك من الناس من يعترض على قدر الله وقضائه ، وقد تبدو منهم علامات السخط على القدر أو عدم الرضا بالقضاء ، فهل سألوا أنفسهم أين الله في قلوبنا ؟ ، وهناك من يترك أحكام القرآن والسنة ويحكمون أهواءً أو أشخاصاً أو قوانين غير قوانين الله! وهناك من يعرضون أنفسهم لغضب الله بالمعاصي فيحجبهم الله عن كل خير! وكل هذا لأنهم لم يقفوا يوما ليسألوا أنفسهم أين الله في قلوبنا؟! ، فقد تأخذنا الحياة وقد تلهينا الدنيا وقد تشغلنا الأنفس والأموال والأولاد ولكن لا بد أن نتوقف في كل حين لنسأل أنفسنا : أين الله في قلوبنا؟!   وإذا هممت أن تقع في المعصية فقل لنفسك : أين الله في قلبي ؟ الله أحب إلي أم المعصية ؟ هل استهنت إلى هذا الحد بنظر الله إليك ؟! كيف ستقابل الله لو مت وأنت على هذه المعصية ؟ : ﴿ قُلْ أَرَأَيْتَكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ* بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ ﴾ هكذا يظهر عند الشدة أنك لا تثق في أحد إلا في الله ، فأين الله في قلبك عند الرخاء؟! وإذا تكاسلت عن طاعة فقل : أين الله في قلبي ؟ وهل حبي للراحة والكسل أكثر من حبي لله ؟! وتذكر قول الله لرسوله  صلى الله عليه وسلم في القرآن : ﴿ فإذا فرغت فانصب وإلى ربك ارغب﴾  فبعد الفراغ من متاعب السعي على الحياة لا يرتاح ، بل يتعب ويتقرب إلى ربه ويرغب لأن راحة المؤمن في رضا الله .  وهكذا أيها الأخوة تعالوا ندرِّب أنفسنا على أن يكون الله ملء قلوبنا ولا شيء معه  ويكون لنا في كل صغيرة وكبيرة وقفة لنتساءل : أين الله في قلوبنا؟! تعالوا ندرب أنفسنا على استصغار العمل واستعظام الذنب  فالذنب إذا كبُر في عين الإنسان قلَّ في ميزان الرحمن ، وروى البخاري في أن النبي صلى الله عليه وسلم  قال : (إنَّ المؤمنَ يرى ذنوبه كأنَّه قاعدٌ تحت جبلٍ يخاف أن يقع عليه وإنَّ الفاجر يرى ذنوبه كذباب مرَّ على أنفه  فقال به هكذا ) . وإنَّ الرضا عن العمل قد يُحبط العمل كله ، فأين هو العمل الذي يليق بجلال ربِّ العزَّة ويساوى نقطةً في بحر نعمه علينا ؟ أين هو العمل الذي يوفّيه حقَّه وقَدْرَه ؟ . إنَّ من الملائكة مَن هو ساجدٌ لله منذ خَلَقَه  فإذا أتى يوم القيامة ارتعد وقال: " سُبحَانك ما عبدناك حقَّ عبادتك " فإذا كان هذا هو حال الملائكة ، فما بالك بنا نحن البشر ؟!!. لذا فالعاقل هو الذي يعمل ويعرف أنَّه إن نجا ورضي الله عنه فبرحمة الله وعِلْمه بمن خلق . روى البخاري في أن أَبا هريرة رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله  صلى الله عليه وسلم يقول : (  لن يُدخِل أحدًا عملُه الجنة"، قالوا: ولا أنت يا رسول الله ؟ قال: لا، ولا أنا ، إلا أن يتغمَّدني الله بفضلٍ ورحمة، فسدِّدوا وقاربوا...) .

إنَّ الإيمان بالله هو مزيجٌ من الحبِّ والخوف والرجاء ، وقد نصح السلفُ الشبابَ أن يُغلِّبوا الخوفَ على الرجاء ، اتقاءً للفتن من ناحية ، ولأنَّ الشباب يرون الدنيا أمامهم غضَّةً نضرة ، فربما تصدهم بجمالها عن سواء السبيل ، أو تحيد بهم عن طريق الله عز وجل ، ولو غلَّبوا الرجاء لدخل عليهم الشيطان من باب التسويف والتأجيل ، كما نصحوا الشيوخ بتغليب الرجاء على الخوف ؛ لأنَّ الدنيا منهم في إدبار، والزمن لم يعد في صالحهم فلو كان الخوف هو الأغلب فلربما تسلل الشيطان لهم من باب اليأس   روى البخاري أن النبي  صلى الله غليه وسلم قال:  ( يأتي الشيطان أحدكم فيقول: مَن خلق كذا، مَن خلق كذا، حتى يقول: مَن خلق ربك ؟ فإذا بَلَغَه فليستعذْ بالله ولينتهِ ) .  

إنَّ الشيطان يعزُّ عليه أن يجد مؤمنًا مخلصًا لله يتقرَّب إليه بالفرائض تارة وبالنوافل تارة يخاف عقابه ويرجو ثوابه ، فيجعل مِن صدِّه عن سبيل الله هدفه وشغله الشاغل ، ويظل المؤمن يحاربه بالاستعاذة والذِّكر حتى ييأس عدو الله منه ، ويعرف ألا سلطان له عليه فينصرف عنه باحثًا عن غيره ، أو متحيِّنًا لحظة ضعفٍ تحين منه في وقت آخر . 

واعلم يا أخي أنَّ خير الأعمال أدومها وإن قل ، وأنَّ مِن أحب العبادات لله تعالى بعد فرائضه الذِّكْر ، يروي الترمذي بسندٍ صحيح عن عبد الله بن بسر رَضِيَ الله عنه أنَّ رجلاً قال: يا رسول الله إنَّ شرائع الإسلام قد كثرت عليّ فأخبرني بشيءٍ أتشبَّث به، قال: ( لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله ) . 

 

 

بلاد المسلمين بلا حدود ولا شعب ولا ماء ولا تراب

أما أنها بلا حدود فلأن هذه الحدود تنقص كل يوم عن الذي قبله ، تبتلع الدول منه شبراً واليهود متراً ، والجوار هكتاراً ، لذلك ليس لها حدود خارجية ثابتة   فهي تتناقص يوماً بعد يوم ، لأنه لا يوجد من يحمي حدودها من الطامعين والمعتدين . وأما أنها بلا شعب ، فلأنها لو كان فيها شعباً لقام وحارب كل معتدٍ ونظرة إلى الشعوب التي فيها نجدها تركض وراء الطعام والشراب ، وقد يأتي اليوم الذي تركض فيه  فلا تجد ما تركض إليه ، لأنه مقهور مستغل مستهلك مكاناً وزماناً ، لصالح القائمين على أمره لتمجيدهم وحمايتهم من أهل الوطن ، والعدو الأجنبي لا يخاف منهم فهم يحمونه  وإذا ما طلبوا فتح باب الجهاد ولو بدون سلاح على طريقة أهلنا في فلسطين ، كان لسان الحال أنهم يريدون سلاماً ، وحتى هذا لا يجدون أذناً صاغية تستجيب له  .

وأما أنها بلا ماء ، فلأن مياهها محرمه عليهم فليس لهم فيها حرية الملاحة إلا بموافقة خارجية ، حتى صيادو السمك بحاجة لموافقة ، وها هي الأساطيل المدمرة تحل الموت بشعبنا ، تجول في مياهنا من الخليج الأحمر إلى الأبيض المتوسط .

وأما أنها بلا تراب فلأن ترابها أصبح أرخص تراب في الكون ، لا قيمة ولا ثمن له  تدنسه أقدام الصهاينة والأوروبيين بحجة الدعم والمساعدة والحماية ، بين كل دولة ودولة مخافر أمنية وحواجز تفتيشية تشدد على المسلمين ، وقد يعبر الأعداء  بدون سؤال ، فأي أرض أرخص منها ، وقد يحذر على قواتها التواجد على أرضها وضمن حدودها ، فقد ذهبت أرض المسلمين في فلسطين والفلبين وسوريا وغيرها من بلاد المسلمين ، وسكت المسلمون على ذلك ، ولم يبذلوا المهج والأرواح في سبيل إعادتها ، ذهبت الأرض يوم فقدت حارسها وحاميها وسيدها  فبكت هذه الأرض على الأعزة والعزَّ ، وهي تنادي هبوا فقد استأسد الجبناء  وأغيثوني فقد نكص على أعقابهم الأبناء ، وانجدوني فقد غشيني الألداء وأدركوني فإن ذهبت فمالكم بعدي من بقاء ، واسقوني من دمائكم ففي سبيل الله يهون كل عناء ، فأنا أنا أرض الأنبياء ، أنا أرض الإسراء لا بل أنا أرض الإسلام ، ألا يكفيكم الفشل إثر الفشل واللطمة تتلوها اللطمات  .    

وأما منابع الخيرات والثروات فلا فائدة منها ، بترولنا لعدونا وربحه لأعدائنا ، يعود لصدورنا أسلحة وصواريخ وطلقات ، تصوب إلى صدور المسلمين في  أنحاء متفرقة من بلاد المسلمين فلا يتحركون ، ويسمعون صيحات الثكالى والأرامل والأيتام فلا يأبهون ، وكأن الصمت على جرائم اليهود من متطلبات حسن الجوار

وكل ما يستطيعون فعله الشكوى والتشكي ، اللذان لا يردان حقا ولا يرفعان ضيما   فلماذا حادوا عن درب العزم والإرادة والمثابرة ، هذا الدرب الذي سلكه أجدادنا العظام حاملين ألوية الحق والعدل فاتحين بلاد الله لنشر دينه ، فقد كانوا يتمتعون بخبرةٍ فائقة في   فتح البلاد . شاور عمر بن الخطاب الهرمزان في أيها يبدأ الفتح أولاً بأذربيجان أم  بلاد فارس وأصبهان فقال له ، إن فارس وأذربيجان الجناحان وإن أصبهان هي الرأس ، فإن قطعت أحد الجناحين قام الآخر ، وإن قطعت الرأس وقع الجناحان   فابدأ بالرأس يا أمير المؤمنين ، فانتدب عمر بن الخطاب خير القادة لهذه المهمة النعمان بن مقرن   وكان دعاؤه في المعركة : اللهم إني أسألك أن تقرَّعيني اليوم بفتح يكون فيه عزُّ للإسلام وذلُّ للكفار ، ثم أقضي بعد ذلك إليك على الشهادة ، فأمن المسلمون وبكوا ، وكان النصر العزيز واستشهد النعمان .

لماذا لا يسير ولاة أمور المسلمون على هذا النهج ، ولماذا لا تكون لهم هذه المواقف نسمعهم يقولون : يجب علينا أن نتضامن ، يجب أن نوجد الجهود والكلمة  من يمنعهم مما يقولون ، أهو الشعب ؟ أهم أنفسهم ؟ هل هم حكام بشر أم رعاة غنم ؟ إن رعاة الغنم عندما يهجم الذئب عليهم وليس معهم سلاح  يجمعون غنمهم بقطيع واحد  ويقف كل راع على جهة ، فليحسبنا حكامنا غنما ويجمعوا أمرهم ، ويدافعون عنا ونحن معهم ، وإذا كانوا يخافون على الكراسي فليجلسوا آمنين ، ويدعونا ندافع عن أنفسنا بالحجارة والعصي والتضحية بالمهج والأرواح .  ألم يعلموا أن عوازم الأمور أفضلها ، ليقولوا الحق حتى يُعْرَفوا به ، ويكونوا من أهله . وليغضبوا لله حسب ما تمليه العقيدة والإرادة ، ليغضوا غضب رسول الله على قريش يوم نقضت عهدها الذي جاء بالفتح العظيم . وغضب أبي بكر الذي وأد الردة ، وأعاد للإسلام ، هيبته وأعاد النائمين إلى صوابهم ، وغضب المعتصم لله يوم حرق عمورية وما حولها وذاد عن عرض المسلمين ، ليغضبوا غضب أولئك ، لا الغضب الخالي من العمل والإرادة ، ولا الغضب الضعيف الذي يهمل مراقبة الله ، ويرجوا من الأعداء أن ينصفوه ولا إنصاف .

 لماذا يكونوا عار الحياة وزبد الوجود ، ولماذا يبررون استسلامهم بعدم قدرتهم على الأعداء لامتلاكه أفتك الأسلحة ، لماذا لا يجاهدون في سبيل الله ، فهو أفضل من حياة الذل والقهر ولاستعباد ، لماذا لا يطلبون الموت في سبيل الله ، لأن ميتتة في سبيل الله خير من حياة في معصيته .

لما كان يوم اليمامة في حروب الردة ، جُرح أبو عقيل الأنصاري ورُمي بسهم فوقع قريباً من فؤاده ، فأخرج السهم وقد وهن نصفه الأيسر فجُر إلى الرحل ، فلما حمي القتال وانهزم المسلمون أمام جيش مسيلمة ، وانحازوا إلى رحالهم وأبو عقيل واهن في جراحه فبينما هم كذلك ، إذ نادى مناديا للأنصار الله الله ، الكرة على عدوكم أخلصونا واخلصوا إلينا ، فنهد الأنصار رجلاً رجلاً ، يقول ابن عمر فنهض أبو عقيل يريد قومه للجهاد ، فقلت إلى أين تريد يا أبا عقيل ؟ أفيك قتال ؟ قال: قد نوه المنادي باسمي ، قال عبد الله بن عمر له : إن المنادي يقول : الأنصار وليس الجرحى !! فقال : أنا رجل من الأنصار أجيبه وألبي ولو حبواً ، فتحزم أبو عقيل وأخذ السيف بيمينه مجرداً ، ثم جعل ينادي يا معشر الأنصار كرة كيوم حنين !! فاجتمعوا واقتحموا على عدوهم الحديقة ، واختلطت السيوف بالأجساد ، وقطعت يد أبي عقيل المجروحة من المنكب  فوقع على الأرض وبه من الجراح أربعة عشرة جرحاً كلها قد خلصت إلى مقتل ، وقتل عدو الله مسيلمة ، قال ابن عمر : فوقفت على أبي عقيل وهو صريع بآخر رمق

 فقلت يا أبا عقيل قال لبيك بلسان ملتاث ، ثم قال لمن الدَّبْرةُ أي الهزيمة ؟ قلت أبشر ورفعت صوتي قُتل عدو الله ، فرفع إصبعه إلى السماء يحمد الله والتحق بركب الشهداء ، هؤلاء هم آباؤنا ، وهاهم رجالنا . 

فيا معشر المنهزمين أمام عدوكم ... يا معشر المبررين لهزائمكم واستسلامكم ألا تتأسون بهؤلاء الجرحى المشرفين على الموت من صناديد المسلمين . ثم بماذا تفسرون الأعمال الهمجية ومعاناة المسلمين من القتل والتشريد والتدمير لمقدرات الأمة ، ها هو شعب فلسطين يعاني من قهر العدو الإسرائيلي له بالحديد والنار  يلجأ الى التضحية بالنفس لإرهاب أعداء الله وزرع الخوف في قلوبهم ، لأنه آمن بقول الله تعالى : ﴿ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون ﴾التوبة111 فليتأمل العاقد مع الله هذا التبايع ما أعظم خطره وأجله ، فالله هو المشتري والثمن جنات النعيم ، وما أعظم التضحية بالنفس إن كان فيها مصلحة للمسلمين ونكاية لأعدائهم ، وفي مثل هذا المضحي أنزل الله قوله : ﴿ ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رءوفٌ بالعباد ﴾ البقرة 207 . ولا يفوتني أن أنبه في هذا المجال إلى أن أدلة قتال الكفار جاءت مطلقة وجاءت عامة في القتال دون تقييد بأسلوب أو وسيلة  وعليه فكل أسلوب أو وسيلة يستعملها المسلم في قتال الكفار تكون جائزة ما دامت قتلاً للعدو الكافر ، وقد دلت النصوص على ذلك قال تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة ﴾ وقال : ﴿ واقتلوا المشركين كافة ﴾ .

إن إنزال القتل بالعدو هو الوسيلة الوحيدة التي يفهمونها ، وهذا ما يضطرهم إلى إعادة النظر في مواقفهم الإجرامية وسياساتهم الهمجية ، حتى يأذن الله بنصره بعز عزيزٍ أو بذل ذليل ، ولن يكون ذلك إلا بالجهاد والاستشهاد والمقاومة .    

 

 

       

 

 

 

عودة الخلافة

قال عليه الصلاة والسلام : ( إن أول دينكم نبوة ورحمة ، فتكون فيكم ما شاء الله أن تكون   ثم يرفعها الله جل جلاله ، ثم تكون ملكاً عضوضا  فتكون فيكم ما شاء الله أن تكون  ، ثم يرفعها الله جل جلاله ، ثم تكون ملكاً جبرية    فتكون فيكم ما شاء الله أن تكون  ،  ثم يرفعها الله جل جلاله  ، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة  تعمل في الناس بسنة النبي صلى الله عليه وسلم  وَيُلْقِيَ الإسلام بِجِرانِه _أي يستقيم ويقرُّ قراره _في الأرض  يرضى عنها ساكن السماء  وساكن الأرض ،فلا  تُبْقِي السماء من قطرها إلا أنزلته ، ولا تبقي الأرض من خيراتها ونباتها إلا أخرجته ) . إن الحديث يخبر عن الواقع الذي تعيشه الأمة من الضعف والتفرق والذلة هذه الأيام ، ويُطمئن بعودة الخلافة في الأرض ، وأنها لا بد قائمة طال الزمان أم قصُر ، فكما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أول عهدنا نبوة كان الرسول فيها  يسوس الناس بهديه ، ويدبر أمورهم بما يوحى إليه ، ثم جاء عهد الخلفاء الراشدين ، عهد الرحمة وهم قدوة لمن جاء بعدهم ، وهدايةً لمن سار على طريقهم . ثم يكون السلطان بعد هؤلاء ملكاً عضوضا_ أي يصيب الرعية عسفٌ وظلم - نتيجة لإساءة تطبيق أحكام الإسلام ، ثم أخبر الحديث أنهم سيفترقون شيعاً وأحزابا ، وأوصاهم بالتزام الجماعة وعدم الخروج من الطاعة ، ولو لحقهم ظلم وجور ، ونهاهم عن الدخول في الفتن ، فقد كان الناس يتمتعون في ظل الإسلام بالعدل  . أمّا هذه الأيام حيث أُبعد الإسلام عن الحياة  وطبقت أحكام الكفر ، فقد ورد ذم ذلك على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده أنه عليه السلام قال لكعب بن عجرة : ( أعاذك الله من  إمارة السفهاء ، قال : وما إمارة السفهاء ؟ قال : أُمراء يكونون بعدي ولا يهتدون بهديي ، ولا يستنون بسنتي فمن صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم   فأولئك ليسوا مني ولست منهم ولا يردون على حوضي ، ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم ، فأولئك مني وأنا منهم وسيردون على حوضي ، يا كعب الصيام جُنة ، والصدقة تطفئ الخطيئة ، والصلاة قربان أو قال برهان  يا كعب الناس غاديان فمبتاع نفسه فمعتقها   أو بائعٌ نفسه فموبقها ) . هذه هي حال الناس هذه الأيام ، حيث تُركت السنة ، وانتشرت الموبقات ، وتحكَّم التافه في رقاب الناس ، وهو ما أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : ( سيأتي على الناس سنواتٌ خدّا عات ، يُصدَّقُ فيها الكاذب ، ويُكَذَّبُ فيها الصادق ، ويؤتمن فيها الخائن ويُخوَّنُ فيها الأمين ، وينطق فيها الرويبضة قيل وما الرويبضة ؟ قال : الرجل التافه ينطق في أمر العامة ) . لقد ذلت الأمة وضعفت واستولى عليها اليأس ، حتى غدت لا تثق بنفسها ، حتى أذلها ألعن خلق الله ، وما دروا أن ذلك غضبٌ من الله ، لما ورد في الحديث القدسي عن رب العزة : (من عرفني وعصاني  سلطت عليه من لا يعرفني ولا يخشاني ) .

 لقد تسلط علينا اليهود لا لأنهم كريمون على الله بل كما قال : لا يعرفونني ليكون تسلطهم خالياً من الرحمة بعيداً عن الحق ، فيه إذلال ٍوإخضاع ليكون عقاباً لنا في الدنيا ، وذلاً لا نجاة منه إلا بإتباع منهج الله ، وصدق رسول الله عندما قال : (فإن أنتم تركتم سنتي سلط الله عليكم من لا يخافه ولا يرحمكم ، فلا ينزع خوفه من قلوبكم حتى تعودوا لسنتي ) .

وإذا كان لا خلاص لنا مما نحن فيه إلا بذلك ، فلم لا نعود إلى كتاب ربنا وسنة نبينا ، أما آن للمسلمين أن يفيقوا من غفوتهم ، وينفضوا غبار الذل عن وجوههم  ويستهينوا بوعيد الكافرين لوعد ربهم ، فيقبلون على الكتاب والسنة يحيونهما بالتمسك بما جاء فيهما ، وتعلمهما وتعليمهما الناس ، وحثهم على العمل بهما وهذا ما أمرنا به رسولنا صلى الله صلى الله عليه وسلم حيث قال :( إن السلطان والقرآن سيفترقان ، فلا تفارقوا الكتاب ، إلا أنه سيكون عليكم أمراء مُضُلون يقضون لأنفسهم ما لا يقضون لكم ، إن عصيتموهم قتلوكم وإن أطعتموهم أضلوكم قالوا :يا رسول الله كيف نصنع ؟ قال :كما صنع أصحاب عيسى نشروا بالمناشير ، وحملوا على الخشب ، موتٌ في طاعة الله ، خيرٌ من حياةٍ في معصيته ) . لهذا فليعمل العاملون وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ، لأن الدور الذي أخبرنا عنه الرسول صلى الله عليه وسلم آت لا محالة ، دور يبشر بأن عزة الإسلام ستكون على أيدي الداعين الى حياةٍ على منهاج النبوة  حياةٌ تأتي بعد هذا الدور الذي نحن فيه  وفي الطريق عقبات ومشقات ، وهو ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم : من أن  قسماً من الناس  سيأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر  ويتعرضون للأذى وتسؤ الأحوال ، وفي هذا الصدد يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( ليت شعري كيف أمتي بعدي حين يتبختر رجالهم وتمرح نساؤهم   ليت شعري كيف هم حين يصيرون صفين : صفاً ناصبي نحورهم في سبيل الله   وصفاً عمالاً لغير الله ) . فريق يتحمل الأذى في سبيل الوقوف إلى جانب الحق ومعاداة الباطل  مستهينين بوعيد الظالمين لوعد الله ، أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ، أما الفريق الثاني  الذي انصرف إلى الدنيا ، لا يهمه إلا نفسه  غافل عن آخرته ، أغرته المظاهر الزائفة ، يفتخر بما يجمع ويغترُّ بما يملك ، فهذا فريق يصدقُ فيه وفي أمثاله ، قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أصبح وهمه غير الله فليس من الله ، ومن انقطع إلى الدنيا وكله الله إليها ) . فهو لا يعرف للحياة إلا معاني المتع الجسدية ، ولا يقيم لعمل وزناً إلا من خلال المنافع المادية ، إن أصابه منها خير اطمأن به ، وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ، وذلك هو الخسران المبين  وهؤلاء هم العمال لغير الله ، يعملون لغيرهم  ليصيبوا حظاً وافراً من هذه الدنيا فضلوا متاعها الزائل على نعيم الجنة الدائم ، باعوا أخرتهم بدنيا غيرهم ، فهم وأمراؤهم الأخسرون أعمالا   الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا .

إن المستقبل في الدور القادم للإسلام ولهذه العقيدة ، التي يقوم عليها بناء الإسلام ، وإن العودة إلى راية لا إله  إلا الله التي مزقها الاستعمار ذات يوم  ليسهل عليه الهيمنة على العالم الإسلامي جزءاً جزءاً ، وأخرجوا فريقاً من المسلمين من ديارهم ، وظاهروا على إخراجهم  هؤلاء يحِّرم الله علينا أن نُمدّ أيدينا لهم ، نسالمهم ونعاملهم ونتعاون معهم ، مصداقاً لقوله تعالى : ﴿ إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين  وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم ، أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون ﴾ الممتحنة 9. إن كل معاهدةٍ  أو تعاون مع عدونا الذي أحتل أرضنا  يحرِّمها الإسلام ، ويعد الذي يتعاون معه خارج عن نصٍ إسلامي صريح ، وإنه منكر لا تجب الطاعة فيه  وعلى الأمة أن ترده بكل وسيلة ممكنة ، وما ينطبق على الدول في هذا المجال  ينطبق على الشركات والأفراد والمؤسسات المالية والتجارية ، فأي تعاون أياً كان هذا التعاون ، هو خروج على الإسلام  ومخالفة لأوامر الله   وخروج على مصلحة الأمة . وكل جهة من هذه الجهات في كل بلد إسلامي  عليها أن تجاهد قوي البغي والظلم ، بكل الوسائل المستطاعة ، لأن المسلمين في حالة حرب دائم مع هذا العدو  حتى يزول عدوانه عنا ، هذا هو موقف الإسلام بصراحةٍ ووضوح  يقود البشرية إلى الخلاص  ويرسم لها طريق السلام الشامل ، المبرأ من البغي والفساد والعدوان .

إن الإسلام قوة تنطلق في الأرض لتحرير البشر  من قوى البغي والظلم وتمنحهم الحرية والنور والكرامة . قوة تجاهد قوى الشر والفساد والعدوان في الأرض ، حتى تمحوها وتعيد للإسلام مجده وعزته . حرب على الاستبداد وعبودية البشر   وعلى الطغيان والظلم ، حرب تحمل معها المساواة والعدالة ، تحققها في عالم الواقع ، في التشريع والتنفيذ ، وإلا فستظل البشرية تعاني من الظلم والطغيان والانحراف ، وهو من صنع الحضارة الكافرة الضالة عن الله ، إلى أن يتسلم الإسلام الزمام ، فيقود البشرية الحائرة إلى عدل الإسلام والنظام والسلام    ويومئذٍ يفرح المؤمنون بنصر الله ألا بنصر الله تطمئن القلوب .

 

 

 

أرباب القول المؤثر والفعل المخرّب

 قال تعالى : ﴿ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ﴾ من حسن منطقهم تطرب لاستماعه، فأجسامهم وأقوالهم معجبة، وليس وراء ذلك من الأخلاق الفاضلة والهدى الصالح شيء  ولهذا قال تعالى: ﴿كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ ﴾ لا منفعة فيها ولا ينال منها إلا الضرر المحض ﴿ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ﴾  وذلك لجبنهم وفزعهم وضعف قلوبهم ، فهؤلاء ﴿ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ حذّر منهم لأن العدو البارز المتميز أهون من العدو  الخفي وهو مخادع ماكر ويزعم أنه ولي ، وخطورة هذا الصنف من الناس ، ترجع إلى دورهم الفعّال في إحداث الفتنة ، وتمزيق الكلمة وبث الكراهية ، فئةٌ تظهر الإيمان ، وتكن العداوة والبغضاء ، كما تكمن خطورتهم في قدرتهم على التلون ، فهم مؤمنون صالحون إذا كان ذلك يحقق لهم مطالبهم ومصالحهم ، وهم علمانيون إذا كان ذلك يحقق لهم بغيتهم وما يريدون ، وهم علماء ومفكرون إذا لزم الأمر ، يكتمون العلم ويخفونه وقت الحاجة ، وهم جهلاء بسطاء أبرياء ، إذا اقترفوا الذنب وارتكبوا المعصية ، وهذا يؤكد لنا أن هذا الصنف من الناس أسوأ من المشركين والكفار ، لقدرتهم على الخداع والتضليل ، فيكون إيذائهم شديدا ، فكم من أنفسٍ مسلمة بريئة أُزهقت بأيديهم ، وكم مِن نفوس مؤمنة رُوّعت وخوفت  وكم من أموال وممتلكاتٍ أُتلِفت، لم يرحَموا طفلاً ولا شيخًا ولا امرأة ، ولم يراعوا أيَّ قِيَم دينيّة وأخلاقية، ولم يبالوا بشرعٍ ولا عقلٍ ولا إنسانية  لسيطرت المصالح المادية والأهواء الشخصية على أغلب مجالات الحياة عندهم ، فانفصل القول عن العمل عندهم ، وتدهورت القيم والأخلاق   وظهرت بطانات النفاق التي استطاعت أن تتبوأ المراكز الحساسة التي تمس حاضر الأمة وتؤثر على مستقبلها ، ومن أهمها وسائل الإعلام ، ومراكز صنع القرار ، ورغم أنه من المعلوم ديناً ، أن المنافق في الدرك الأسفل من النار ، وأن الكذب أصل النفاق   فإنه يوجد بيننا من يكذب وينافق ، ويخون العهد ويضلل الناس ، ورغم إيماننا بأن الله تكفل بالأرزاق وأنها مقدّرةٌ ومكتوبة ، تجد الصراع على الكسب غير المشروع على أشده ، ومع العلم بأن الظلم ظلمات يوم القيامة ، تجد المظالم تمارس ، وإذا كان من المسلم به أن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن ، فإن مهمة تغيير المنكر باليد مطلوبة في المقام الأول من الأمراء ، وإذا كان الجهر بكلمة الحق جهادا ، فإن مهمة التغيير باللسان هي مهمة العلماء ، لكننا في زمن انقلاب الموازين واضطراب الأمور، لعدم توافق الأقوال مع الأفعال   ورحم الله ابن مسعود فقد قال : «مَن كان كلامه لا يوافق فعله، فإنما يوبّخ نفسه» ، فلا خير في كلام لا تعززه الأفعال ، وقد بين ذلك بأفصح لسان، عثمان بن عفان فقد قال للناس عشية استخلافه : "إنكم إلى أمير فعّال أحوج منكم إلى أمير قوّال"، ولقد صدق القائل  :

وإلا أكن فِيكُم خَطِيبًا فإنني   بسيفي إِذا جد الوغى لخطيب

فالإقلال من الكلام  والإكثار من الفعل هو ديدن القادة الحقيقيين ودأبهم؛ ولهذا قالوا: دع أعمالك هي التي تتكلم. ولقد نعى القرآن على اليهود مخالفة أعمالهم منطقهم، فهم يرفعون شعارات البر، وواقعهم الفجور قال تعالى : ﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ البقرة 44 ومثل الصورة التي رسمها المتنبي لمن هجاهم بقوله:

إنّي نَزَلْتُ بكَـذّابِينَ  ضَيْفُهُمُ       عَنِ القِرَى وَعَنِ الترْحالِ محْدُودُ

جودُ الرّجالِ من الأيدي وَجُودُهُمُ  منَ اللّسانِ، فَلا كانوا وَلا الجُودُ

وهذا حال عبيد الأجانب في بلادنا ، فعالهم أعجمية، وأقوالهم عربية  ويتمسحون بالوطنية . وهنا سؤال : ما هو المطلوب ؟ لقد كرمّ الخالق عز وجل، الإنسان وأمره بالصدق والأمانة والعدل، والوفاء، والبيان والتبيان، وعدم الكتمان، ونهاه عن الكذب والغش والغدر والخيانة والنفاق. يقول تعالي: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ *كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُون ﴾ الصف2. إن الأقوال لن تبلغ أثرها المنشود دون اقترانها بالعمل ، وقد توعد الله من  يأمر بمعروف، ولا يأتيه، وينه عن منكر ويأتيه فقال تعالى‏: ﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ ‏ فقد كبر مقتاً عند الله أن يقول العبد ما لا يفعل‏ ،‏ قال احد الحكماء :أفسد الناس جاهل ناسك، وعالم فاجر  هذا يدعو الناس إلى جهله بنسكه ، وهذا ينفر الناس عن علمه بفسقه ، فقد كان المتقون السابقون يحاسبون أنفسهم، ويخافون من مخالفة عملهم لأقوالهم، قال رجل لابن عباس: "أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر؟" فقال له ابن عباس: "إن لم تخش أن تفضحك هذه الآيات الثلاث فافعل وإلا فابدأ بنفسك"، ثم تلا: ﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ ﴾ البقرة44، وقوله تعالى: ﴿ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾ الصف2 وقوله تعالى حكاية عن شعيب -عليه السلام-: ﴿ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ﴾ هود88 . لما دخل الحجاج بن يوسف الثقفي البصرة قال: من سيد البصرة ؟ فقيل له: الحسن البصري، قال: كيف وهو من الموالي ؟! فقيل له: لأن الناس احتاجوا إلى علمه ، وزهد هو عما في أيدي الناس.

نعم، إنه العلم الذي يرفع الله به صاحبه مهما كان شكله أو لونه أو صنعته أو حالته ، إنه سيد التأثير  تأثير موصول بالسماء  تأثير عابر للقرون والأحقاب، إذ لازال الناس يتأثرون بأقوال العلماء الأفذاذ الذين بليت أجسادهم منذ أمد بعيد وما بليت أقوالهم وأعمالهم ، ولا تبدد تأثيرهم ونفعهم.

ويقول الحسن البصري: " يوزن مداد العلماء بدماء الشهداء فيرجح مداد العلماء " ويقول الشاعر:

رضينا قسمة الجبـار فينا    لنا علم وللجهال مال

فعز المال يفنى عن قريب   وعز العلم باق لا يزال

إن أزمة الأمة في هذه الأيام هي أزمة قدوات.. لقد ابتليت أمة الإسلام بأسماء لا مسميات لها، وبألقاب تفتقر إلى مضمون. لذا كثر المتكلمون وقل المؤثرون، ونُمقت العبارات وشُوهت الحقائق.

فنرى من  يحث على التحلي بفضيلة وهو لا يتحلى بها، أو أمر بالتخلي عن نقيصة وهو ملوث بها لا يقابل قوله إلا بالرد، و لا يعامل إلا بالإعراض و الإهمال ، فقوله موضع حيره للبسطاء، ومحل سخرية للعقلاء، يروى عن أسامة بن زيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقتاب بطنه، فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون: يا فلان مالك، ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى، قد كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه ) رواه مسلم

فالحذر الحذر ، من مخالفة الأقوال الأعمال. وحذار أن يكون النصح باللسان والقول دون الجنان والعمل ، عن عمران بن حصين قال : قال صلى الله عليه وسلم : ( أخوف ما أخاف عليكم بعدي كل منافق عليم اللسان ) رواه الطبراني في الكبير والبزار . فيجب على كل من يعظ الغير أن يتعظ هو أولاً ثم يعظ ، ويُبصر ثم يُبصّر، ويهتدى ثم يهدى غيره ، ولا يكون دفتراً يفيد ولا يستفيد ، وأن يكون كالمسك يطيب غيره وهو طيب فى نفسه، وأن لا يناقض مقاله بفعله، ولا يكذّب لسانه بحاله.

 

 

 

 

 

رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه

قال تعالى: ﴿ ومن يتولَّ الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون}المائدة 56 . إن حزب الله : هم أولئك الرجال الذين يعملون لعودة الحياة الإسلامية ، حاملين راية الهدى والحق ، وهم يشكلّون امتداداً مباركاً لصفوف المؤمنين الذين سبقوهم ، لأن حزب الله لا يقتصر على اصحاب رسول الله فحسب ، بل سيمتدُ عبر الأجيال الوافدة والازمنة المقبلة ، حتى يرث الله الأرض ومن عليها ، ضاماً إلى صفوفه كل مؤمن بالله ورسوله . وقد جاء الوعد بالغلب في هذه الآية بعد بيان قاعدة الايمان في ذاتها ، وأنها هي الولاء لله ورسوله وللمؤمنين .

إن الله يريدُ من المسلم ان يسلم لمجرد أن الاسلام خير ، لا لأنه سيغْلِب أو سَيُمَكْنُ له في الأرض ، فهذه ثمرات تأتي في حينها ، وتأتي لتحقق قدر الله في التمكين لهذا الدين ، لا لتكون هي بذاتها للإغراء على الدخول في هذا الدين  .

إن الغلب للمسلمين قدر يجريه على أيديهم ، ويرزقهم إياه لحساب عقيدتهم لا لحسابهم ، فيكون له ثواب الجهد فيه ، وثواب النتائج التي تترتب عليه من التمكين لدين الله في الأرض ، وصلاح الأرض بهذا التمكين ، وقد يَعِدُ الله المسلمين الغلب ، لتثبيت قلوبهم واجتياز المحن وتخطي العقبات ، طمعاً في أن يتحقق على أيديهم وعد الله للمسلمين ، فيكون لهم ثواب الجهاد وثواب التمكين لدين الله في الأرض ، إن سنة الله تقضي أن يكون حزبه هم الغالبون  وهذا وعد من الله ، ولا يخلف الله وعده ، إن وجدت الفئه التي تتمسك بالمنهج والعقيدة والشريعة ، وأن الولاء لله ورسوله ، هو الطريق المؤدي لتحقيق وعد الله  لقد ضرب المسلمون الاوائل أروع الأمثال في صدق الإيمان ، وعمق العلم وصفاء الاخوة وسمو الجهاد ، والاستمساك بمبادئ الإسلام ، حتى صنعوا بفضل الله أولاً ثم بإخلاصهم وطهارة نفوسهم ، نموذجاً للامه العاقلة الفاضلة المجاهدة .

إن الخيرية تتمثل بكل أبعادها في ذلك الخُلقِ الطاهر، والسلوك المرضي الذي أثمرته العقيدةُ الاسلامية ، في أجل معانيها وابهج صورها . كالرعيل الاول الذي تربى في مدرسة النبوة ، مدرسة النور والهدى ، كانوا من الطراز الفريد الذي عجب له التاريخ ، فكانت لهم اليد الطولى في كل مجالات الحياة ، وكان لهم من مدرسة النبوة مدداً وعطاءً لا ينضب . اننا بحاجةٍ ماسةٍ الى امثالهم في معركتنا مع قوى الالحاد والكفر ، فقد كانت حياتهم خلال المعارك جهاداً بالنفير والثبات والتضحية والفداء ، وبعد المعركة بالإصلاح والبناء والتعمير ، وتقويم النفوس وتطهير القلوب ، لقد جاهدوا اعداءهم لم يملّوا ولم يميلوا ، ولم يَخْدَعوا ولم ينخدعوا  بل طاولوا الأيام بالطهر ، وعمروا القلوب بالذكر ، وطلبوا عند الله الأجر ، وظلوا أهل وفاء وفداء .

إننا نحمد الله لوجود شباب في امتنا ، يحيا لله ويدعو للجهاد في سبيل الله  ويكشف حقيقة  اعداء الله ، هؤلاء هم الذين يوجهنا الشرع الى موالاتهم والركون اليهم . شباب أحسنوا الجمع بين القول الجميل والعمل الجليل ، تكلموا فأصابوا  وعملوا فأتقنوا ، وامتحنوا بالشديد من الابتلاء والاختبار ، فصبروا صبراً جميلاً  واحتملوا الأذى في سبيل الله ، وتخلقوا بأخلاق الإسلام ، إنها صورة الداعين الذين يتعرضون للأذى والمطاردة والاعتقال في سبيل العقيدة ، وفي سبيل العمل على تطبيق المنهج الرباني ، الذي قدّر الله أن يكون تحقيقه في واقع الحياة بالجهد البشري ،  وعن طريق هدا الجهد ، وبالقدر الذي يبذله المؤمنون في سبيل الله وابتغاء وجه الله ، انهم مثال الايمان الصادق ، والثبات على المبدأ والولاء لله والرسول صلى الله عليه وسلم ، باعوا أنفسهم لله وأخلصوا لله وثبتوا على دينهم وعقيدتهم . إن العمل لإنقاذ الأمه بالعودة الى الحياة الإسلامية ، يجب ان ينطلق من الأدراك العميق لطبيعة هذا الدين ، بحيث يصبح خطاب العاملين من أجل الاسلام للناس خطاباً عملياً لا كلامياً .

إن واقعنا اليوم  يختلف كثيراً عن الواقع النبوي ، وحتى العصور التي تلته ، وحتى الى عهد قريب ، حيث كانت الشفاعة تتم عبر العلماء والوجهاء والأعيان عن طريق المثول أمام الخليفة أو السلطان أو الوالي ، ليقضي حاجات المحتاجين أو تقديم النصح لهم ، فأوقفهم ذلك مواقف رآها الله ورآها المؤمنون وحفظها لهم التاريخ ، فكانت لهم لسان صدق في الآخرين ، مما يدل دلالةً واضحةً على وجود فئةٍ من المخلصين من ابناء المسلمين على مدار التاريخ ، بامتثال أوامر الله  فهذا مالك بن دينار الذي كان يقول : " كفى بالمرء خيانةً ان يكون أميناً للخونة " وقد روىّ أنه ذهب الى العشَّارُ وكان قد حجز سفينةً لرجل فلما رآه قال له ما حاجتك؟ فقال له حاجتي أن تُخْلوا سفينة هذا الرجل ، قالوا قد فعلنا  قال : وكان عندهم كوز يجعلون فيه ما يأخذون من الناس من الدراهم .فقالوا أدع لنا فقال : قولوا للكوز يدعو لكم ، فكيف أدعو لكم والف يدعون عليكم ؟ أترى يستجاب لواحد ولا يستجاب لألف 0

هؤلاء العلماء الذين علموا ليعملوا ، وآمنوا فظهر إيمانهم على أقوالهم وأفعالهم   فما خافوا قسوة الحكام ، وكذلك من هم على شاكلتهم هذه الايام وما يلاقون من ملاحقة وسجن ، يصدق فيهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تزال طائفة من امتي على الحق لا يضرها من خالفها حتى تقوم الساعة ) .

 

 

 

وحدة البلاد الإسلامية

ينفرد المسلمون برابطةٍ هي أقوى من كل الروابط الأرضية ، ألا وهي رابطة العقيدة قال الله  تعالى : ﴿ فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميعٌ عليم ﴾ البقرة 256. لقد عملت هذه الرابطة في نفوس المسلمين عملها  وأخذت طريقها في حياتهم  فكانت مصدر عزَّةٍ وسعادةٍ لهم ، فقد كانوا دولة واحدة ، لها عاصمة واحدة ، ويحكمها خلفية واحد ، رغم اتساع مساحاتها وصعوبة المواصلات بين أجزائها ، وكانت الأمة تشرب من معين فكري واحد   فكانت خير أمة أخرجت للناس ، وكانت أقوى أمةٍ على خارطة هذا العالم .

لقد أدرك الأعداء سرَّ قوة أمة الإسلام ، وسبب عظمتها وسبيل وحدتها ، فعملوا كل ما بوسعهم لإبعادها عن هذا السرّ والسبب والسبيل ألا وهو الإسلام ، فاعتمدوا شباباً من أبناء الأمة الإسلامية كانوا أشد فتكاً بهذه الامة من الجيوش الجرارة  لأنهم ناصبوا فكر أمتهم وعقيدتها العداء ، وعملوا في منابعها تكديراً وتلويثاً ، حتى ظهر في هذه الأيام شبابٌ يخجل من الانتساب الى الإسلام  ويعتبرون الالتزام بالإسلام رجعية وتأخراً وجموداً 

وفي ظل غياب الإسلام تمزقت الأمة شرَّ ممزق  وحلّت بها نكبات لم يعرف لها التاريخ مثيلاً   لأنها لم تقتصر على احتلال الأرض ، بل تعدتها إلى سلب النفوس التي استمرئت الذل والهوان والضياع متجاهلةً دعوة الدين الى الاتحاد والتآلف قال تعالى:﴿ واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرَّقوا ﴾ آل عمران 103 . وقال في نفس السورة: ﴿ ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم  وحبل الله هو عهده ونهجه ودينه .

كما حذَّر من التفرُّق والاختلاف فقال الله  تعالى : ﴿ إن الذين فرَّقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء ، إنما أمرهم الى الله ثمَّ ينبئهم بما كانوا يفعلون ﴾ الأنعام 159 .  وقد قررت وأكدت السنة النبوية وفصلت ما جاء في القرآن الكريم من الدعوة إلى الاتحاد والتحذير من التفرق والاختلاف  روى الترمذي عن أبن عمر قال : خطبنا عمر فقال : ( يا أيها الناس إني قمت منكم مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا فقال : أوصيكم بأصحابي ، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة فإن الشيطان مع الواحد ، وهو من الأثنين أبعد من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة  . وفي الصحيحين   ( أن من فارق الجماعة شبراً فمات فميتتة جاهلية ) وأما استدلال البعض بالأحاديث التي تنبيء بأن الله تعالى جعل بأس هذه الأمة بينها ، وأن تفرق الأمة أمر لازم فرضه القدر ، وأخبر به الشرع فلا مهرب منه ، واستدلوا بأحاديث منها ما رواه الأمام أحمد والذي جاء فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (سألت ربي عز وجل ثلاث خصال فأعطاني أثنين ومنعني واحده ، سألت ربي عز وجل أن لا يهلكنا بما أهلك به الأمم قبلنا ، فأعطانيها  وسألت ربي عز وجل أن لا يظهر علينا عدواً من غيرنا فأعطانيها ، وسألت ربي عز وجل أن لا يلبسنا شيعاً فمنعنيها ) . إن هذا الحديث وما ورد بمعناه ، لا يعني بحال من الاحوال ، أن يكون تفرق الأمة وتسلط بعضها على بعض أمراً لازماً ودائماً يشمل كل الأزمنة ، وإلا لم يكن هناك معنى لقوله تعالى: ﴿ واعتصموا بحبل الله جميعاً آل عمران 103 .وقوله: ﴿ ولا تكونوا كالذين تفرقوا آل عمران 105 . وقوله :﴿ ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ﴾ الأنفال 46 . وقوله : ﴿ وإن هذه امتكم أمة واحدة ﴾ المؤمنون 52 . إلى غير ذلك من النصوص التي أمرت بالاتحاد ونهت عن التفرق والاختلاف ، والتي أوجبت على المسلمين أن يكون لهم إمام واحد ، وأن لا يبايعوا لخليفتين في وقت واحد ، وأن يقاوموا من يريد أن يفرق كلمتهم وأمرهم . فلو كان التفرق كما يزعمون قدراً مفروضاً على الأمة بصورة  عامة ودائمة ، لكانت هذه الأوامر والنواهي عبثاً  لأنها تأمر بما لا يمكن وقوعه ، وتنهى عما يستحيل اجتنابه ، وما ذكر قد يقع في مكان دون مكان ، وفي زمان دون زمان ، وبين قوم معينين دون غيرهم ، فقد جاء في بعض الأحاديث ، أن جعل بأس الأمة بينها عقوبة من الله لها على انحرافها عن شرعه وكتابه ، ولا سيما أئمتها ورؤساؤها ، كما ورد في حديث أبن عمر مرفوعاً : ( وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله  إلا جعل الله بأسهم بينهم ) . وقد بشَّرت الأحاديث بأن المستقبل لهذا الدين ، حين يدور الزمان دورته المباركة بإذن الله ، وتتبنى المبدأ الإسلامي دولةٌ تحكم المسلمين وتقيم سلطتها على أساسه ، وتحكم به في علاقاتها الداخلية والخارجية ، وتحمله رسالة إلى العالم وترفع رايته من جديد ، وتطالب سائر أقطار العالم الإسلامي بالانضمام تحت تلك الراية .

وهنا يرد سؤال : ما هو حكم حمل السلاح في سبيل ضم تلك الأقطار تحت هذه الراية ؟

وهل القتال هنا هو من الجهاد في سبيل الله بمعناه الاصطلاحي أم لا ؟ وقبل الإجابة على هذه الأسئلة يرد سؤال : ما هو الحكم الشرعي في وحدة البلاد الإسلامية ؟ بمعنى توحيدها في كيان واحد ، وجمعها في دولة واحدة ، وتحت سلطة واحدة ورئيس واحد ؟ وهل الوحدة بهذا المفهوم فرض من الفرائض كالصلاة والصيام والجهاد ، بحيث يأثم المسلمون بإهمال السعي إلى تحقيق ذلك ؟ أم هو متروك لاختبار المسلمين يحققونه بالرضى والاتفاق إن أمكن ؟ وهل يرفض ذلك الذين يجدون في الوحدة ما يتعارض مع مصالحهم الخاصة ، أو مصالح من يدفعونهم لاتخاذ موقف الرفض ، سواء على مستوى الرعية أو الرؤساء ؟ وحتى يتضح الجواب على هذه التساؤلات ، لا بد من بيان الموقف الإسلامي حيال هذا الطرح .

إن الموقف الإسلامي من الوحدة بين البلاد الإسلامية كلها ، في دولة واحدة بالاستناد إلى النصوص الشرعية ، هو وجوب إيجاد هذه الوحدة ، كما يجب المحافظة عليها ، وتحريم تقسيمها إلى كيانات منفصلة ، ودول متعددة   فقد روى مسلم عن عبدالله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من مات وليس في عنقه بيعة ، مات ميتتة جاهلية ) . وفي صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحدة ، يريد أن يشقَّ عصاكم ، أو يفرق جماعتكم  فاقتلوه ) . والعصا كناية عن السلطة ، حيث يرمز للقوة المرهوبة الجانب بالعصا ، ومن ذلك قولهم: "الناس عبيد العصا " كناية عن القوة المتسلطة التي يهابها الناس ، لأنها تؤذي من يخالفها .

وعلى هذا فمن أراد شق السلطة الواحدة إلى سلطتين أو أكثر ، وبالتالي تفريق الجماعة الواحدة إلى جماعتين أو اكثر كلُّ يتبع سلطة مختلفة ، فإن الجزاء المترتب على ذلك هو القتل ، ويحرم على المسلمين الاستجابة لذلك ، ويجب عليهم ردع أصحاب تلك المحاولات ، ولو أدى ذلك إلى تصفيتهم وتخليص المسلمين من شرورهم .

كما ورد التحذير من أصحاب الدعوات الفكرية   الذين يرفعون شعارات ليست من الإسلام ، من أجل تفرقة الامة إلى جماعات تهدف كل واحدة منها الى الاستيلاء على السلطة ، ولو على إقليمٍ خاص ، وفصله عن جسم العالم الإسلامي   مؤلفين بذلك ما يسمى بدولٍ تتمتع باستقلال ذاتي  وكيانٍ دوليٍ خاص ، وقد ورد هذا التحذير في حديث حذيفة الذي رواه البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (دعاةٌ على ابواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها ) .. كما وصفهم في نفس الحديث فقال : (هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا ) . إن النصوص الشرعية تدل على أن تكون البلاد الإسلامية دولة واحدة ، تحت سلطة إمام واحد  وأن يكون المسلمون كلهم تحت تلك السلطة جماعة واحدة ورعيَّةً واحدة . وقد روى البيهقي تحذير أبي بكرٍ الصديق من الانقسام في السلطة فقال : " لا يحلُّ أن يكون للمسلمين أميران ، فإنه مهما يكن ذلك يختلف أمرهم واحكامهم   وتتفرَّقُ جماعتهم ، ويتنازعوا فيما بينهم  وهنالك تترك السنة ، وتظهر البدعة ، وتَعْظُمُ الفتنة  وليس لأحدٍ على ذلك صلاح " .

إن المسلم الذي يقاتل من أجل القيام بواجب  الوحدة بين البلاد الإسلامية . إنما يقاتل من اجل الإسلام ، لأن وجوب إقامة الوحدة هذه  هو حكم من أحكام الإسلام ، والقتال من أجل إقامته هو قتال من أجل كلمة الله عزَّ وجل ، التي تخاطب كل الأمم وكل الأجناس وكل الشعوب   لذا فإن الرسالة المحمدية هي رسالة العالم أجمع  وهذا ما أوضحه القرآن الكريم ، قال تعالى:﴿ وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين الأنبياء 107. وقال تعالى : ﴿ قل يا أيّها الناس إني رسول الله إليكم جميعا}الأعراف158 .    

 

                                        وضع المرأة

إن أجيالاً كثيرة انحرفت بالمرأة ، وعطلت كفايتها وأخلَّت برسالتها ، فالمرأة المفترى عليها   أصبحت مفترية على الإسلام ، تتظلم من أحكامه ،  وتشكو  من شرائعه ، وما درت أنها ما سُلِبَتْ حقها ، إلا حين  شملت الجاهلية مجتمعها ، وحين غاب الإسلام عنها ، فالإلحاد والفجور ، هو الجو الذي اعْتُدِىَ فيه على النساء ، مع أن الإيمان واليقين والاستقامة ، هو الجو الذي صلُحَ فيه  أمر النساء  وأصبح لهن بجانب الرجال ، مكان النصفة والعدل .

لكنها اليوم ، في أغلب بلاد العالم تعيش على إبراز أنوثتها  للرجال ، وان احتفاظ المرأة بعملها مرهونٌ بمدى نجاحها في إبراز جسدها ، وحسن عرضه ، مما يحط من قيمة المرأة في نظر الرجل العاقل  ولا تنال إلا إعجاب الرجل الفاجر  وتبتغي رضاه .

أما الإسلام فيسمو بالمرأة إلى آفاق لا تدركها حضارة الغرب ، فإذا كانت المرأة في الإسلام أُماً ففي طاعتها رضوان الله ، وتحت أقدامها الجنة وإن كانت زوجةً صالحة ،ً فهي  أفضل ذخر ، يستفيده  المرءُ من دنياه بعد تقوى الله.

 أما أن تخرج لتتملق شهوات الرجال ، وتتدخل فيما لا شأن لها به ، فإن ذلك يثير في الحياة الخلل والاعوجاج ، وهناك أعمالٌ لا ينبغي في نظر الإسلام ، أن تتورط فيها المرأة ، مهما بلغت من الفاقة والاحتياج .

فما معنى أن تعمل الفتاة سكرتيرة خاصة لرجل  أولُ ما يطلبه الجمال والمظهر الحسن ، وما معنى أن تعمل الفتاة مضيفه في ملهى أو مرقص أو عارضة أزياء ، أو راقصة أو ممثلة ، في سلك الفن الجنسي السافر ، إن الفتاة في هذا كله  تؤجِّرُ أُنوثتها ، وإن المستغلين ، يلوحون للفتاة بهذه الأعمال ، لتتخلّى عن كل شئ ، وتتنازل عن كل قيمة .

إنه لا بد من حماية المرأة من هذا الاستغلال  البشع ، الملوث بتجارة الجنس ، الهادف إلى الهدم والإفساد ، مع أن الأولى بالمرأة أن تحافظ على إنسانيتها ، وتدافع عن قيمتها ، ولا تتدنى إلى مجرد الأنوثة ، والكسب من هذا  الطريق ، وأن تستعين بمبادئ الإسلام الذي يضع لذلك الضوابط والحدود ، فاهتم بتطهير المجتمع من الفوضى والفساد والتحلل الخلقي ، حفظاً للأمة من عوامل التردي في بؤرة الإباحية والفجور والدعارة والمجون ، والذي يتسبب في ضياع العرض والشرف .

إن الإسلام وهو يقرِّر العقوبة الشديدة والصارمة على مرتكبي جريمة الزنى ، لم يكن يُغْفِلُ الدوافع الفطرية أو يحاربها ، إنما أراد محاربة الحيوانية التي لا تفرِّق بين جسدٍ وجسد ، أو لا تهدف الى إقامةبيتٍ وإنشاء حياةٍ مشتركة ، لا تنتهي بانتهاء اللحظة الجسدية الغليظة ، لكنها تهدف الى إقامة العلاقات الجنسية على أساس المشاعر الإنسانية التي تربطها حياة مشتركة ، ومن هنا شدّد الإسلام في عقوبة الزنا بوصفه نكسةً حيوانية همها إرواء جوعة اللحم والدم في لحظةٍ عابرة .

إن الإسلام لا يشدّد في عقوبة الزنى هذا التشديد إلا بعد تحقيق الضمانات الوقائية المانعة من وقوع الفعل ، ومن توقيع العقوبة إلا في الحالات الثابتة التي لا شبهة فيها .

إن الإسلام منهج حياة متكامل لا يقوم على العقوبة ، إنما يقوم على توفير أسباب الحياة النظيفة ، ثمَّ يعاقب بعد ذلك من يدع الأخذ بهذه الأسباب الميسرة ، ويتمرَّغ في الوحل طائعاً غير مضطر .

إن مما يدعو للأسف أن تنشر صحفنا بلا خجل ولا وجل هذا العنوان " الحملة الوطنية الشعبية للقضاء على ما يسمى بجرائم الشرف " وما دروا أنهم بذلك تنصلوا من الشرف ولا شرف ، لأنهم ادّعوا أن المادة التي تضمنها الدستور بهذا الخصوص تتنافى مع أحكام الإسلام  

إن القائمين على هذه الحملة هم بلا شك ممن تأثروا بالثقافة الغربية ، التي ترى في الحدود والعقوبات من الشدَّة والقسوة ما لا يتفق مع روح العصر ، وما يتعارض مع الحرية الشخصية وخاصة حرية المرأة التي تنادي بها دول الكفر باسم التحرُّر والمساواة وتحت شعار الديمقراطية  

إن الإسلام يعتبر الزنى لوثةً أخلاقية وجريمةً اجتماعية خطيرة ينبغي أن تقاوم بدون هوادة  حتى أن الإسلام اعتبر الذين يقتلون في سبيل الدفاع عن العرض في عداد الشهداء فقال صلى الله عليه وسلم : ( من قتل دون أهله فهو شهيد ) . لأن الدفاع عن الأهل يعني الدفاع عن العرض ، ولا شيئ على من قتل زوجه أو ابنته أو اخته إن وجد مع أحدهما رجلاً يمارس جريمة الزنى ، ولا شيئ عليه إن قتل الرجل  لأن واجب المسلم أن يحمي عرضه ويتولى الدفاع عنه دفاعاً زاجراً ومؤثراً ولو أدى الى القتل ، ولا يكون بذلك قد تولى الأمر عن الدولة ، لأنه يقوم بأمرٍ طلبه الإسلام منه مباشرة .

ويا ليت القائمين على هذه الحملة الذين يدّعون أن المادة التي تنص على ما يسمى بجرائم الشرف تتناقض مع أحكام الإسلام ، يا ليتهم يقومون فعلاً بالمطالبة بإلغاء كل القوانين التي تتنافى مع مبادئ الإسلام وما أكثرها . 

لقد منح الإسلام للمرأة حقوقاً ، لم تنلها في كلِّ النظم والقوانين ، التي عرفتها الإنسانية حتى يومنا هذا . قال تعالى : ﴿ ومن يعمل من الصالحات من ذكرٍ وأنثى ، فأولئك يدخلون الجنة ، ولا يظلمون نقيرا ﴾ النساء 124 .

كما ضمن للمرأة من ناحية الأهلية ، حقوقاً لم تبلغها كلُ القوانين الوضعية في العالم . قال تعالى: ﴿  للرجال نصيبٌ مما اكتسبوا ، وللنساء نصيب مما اكتسبن ﴾ النساء32.       

 

 

 

 

 

 

 

 

أحكام تتعلق بالمرأة

لقد رفع الإسلام من شأن المرأة ، وجعل لها نصيب في كل التشريعات التي جاء بها ، كما سوّى بينها وبين الرجل ، إلا فيما تدعو إليه طبيعة كلٍّ من الجنسين  ومراعاة المصلحة العامة للأمة  والحفاظ على تماسك الأسرة ، ومنفعة المرأة ذاتها ، كما أعطى لها الحق في الحياة والميراث والتملك ، وحرية التصرف في الأموال  وإبداء الرأي فيمن تتخذ شريكا لحياتها  والحق في العمل والتعليم  وغير ذلك من الحقوق والواجبات  التي تهدأ معها النفوس  وتطمئن إليها القلوب .

فهي السكن وعنوان المودة والرحمة .قال تعالى: ﴿ ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها  وجعل بينكم مودة ورحمة ، إن في ذلك لآيات لقومٍ يتفكرون ﴾ الروم 21 وقال: ﴿ والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا ، وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ﴾ النحل 72 . إن المهمة الأساسية للمرأة ، أن يسكن إليها الرجل ، تُعِدُّ له ما يرتاح في بيته وسكنه  وتكون وعاءً للتكاثر ، وحضانة الأطفال ، وهي أشرف مهمة في الوجود . أما رغبة المرأة في العمل ، بحجة زيادة الدخل  وتحسين مستوى المعيشة للزوجين  فهذا خطأ ، لأن المفروض أن يُحَدَّدَ مستوى الحياة ، على قدر الدخل ، لا أن يُحَدِّدَ الزوجانِ مستوى الحياةِ أولاً  الأمر الذي قد يؤدي إلى الانحراف .

إن الإسلام لا يمنع المرأة من العمل ، لأن الذي خلق الإنسان  يعرف أن هناك ظروفا ،ً قد تضطر المرأة للعمل ، والإسلام يُعَرِّف هذه الضرورة ، في قصة سيدنا موسى ، عندما ورد ماء مدين  ووجد عليه أمةً من الناس يسقون ، ووجد امرأتان تذودان بمعنى تمنعان ما ترعيان من الماء ، وما دامتا تمنعان ما ترعيان من الماء  فلأي شئ خرجتا ؟ قال لهم سيدنا موسى : ما خطبكما ؟ قالتا : لا نسقى حتى يُصْدِرَ الرِعاء  وقفنا بعيداً حتى ينتهي الرجال ، من سقى ماشيتهم  وبعد ذلك يخلو البئر منها ، فهما أخذتا الضرورة بالقدر ، وليس معنى أن الضرورة ، التي أخرجتهما أن يتناسيا نوعَهُما ، إنهما نوعٌ لا يصح أن يحتك بالنوع الآخر ، وكان التبرير للخروج لهذا العمل ، وأبونا شيخ كبير . فالمرأة إذا خرجت يُلْزِمُها الشارعُ ، أن تجتنب أماكن الزحام ، وأن تكون على هيئةٍ غير مثيرة إن طبيعة الإسلام التشريعية ، تجعل الأعمال التي يقوم بها الإنسان بوصفه إنسان ، مباحةً لكلٍ من الرجل  والمرأة ، فالحكم والسلطان مثلاً ، للرجال دون النساء  وحضانة الأولاد ، للنساء دون الرجال .وعمل المرأة الأصلي هو الأمومة ، وتربية الأولاد ، لكن ليس معنى ذلك أنها محصورة في هذا العمل ، وَتُمْنَعُ من مزاولة غيرة من الأعمال ، فالله خلق المرأة ليسكن اليها الرجال ، وَلْيوجَدَ منها النسلُ والذُرِّية .

ويجوز للمرأة أن تعمل في الحياة العامة ، كما تعمل في الحياة الخاصة ، فيجب عليها حمل الدعوة  وطلب العلم ، ويجوز لها البيع والتجارة ، والإجارة والوكالة  كما يجوز لها أن تزاول الزراعة والصناعة ، وأن تتولّى العقود ، وأن تملك كل أنواع التملك ، وأن تنمي أموالها ، وأن تكون أجيرةً وشريكة ، وأن تقوم بكافة المعاملات ، لعموم خطابات الشارع ، وعدم تخصيص المرأة بالمنع  إلا أن تتولى الحكم ، فإن ذلك لا يجوز  لقوله صلى الله عليه وسلم: ( لن يُفلح قومٌ ولوا أمرَهُمْ امرأة) . كما لا يعني إباحة العمل للمرأة ، أن يكون ذلك وسيلةً للخروج  الذي يجعلها وسيلةً للفتنة .

إن الدعوة لتحرير المرأة ، من أجل أن تعمل في أي مكان ، تخرج حين تريد ، وتعود حين تريد  وتختلط بالرجال في كل صعيد  تحت عنوان الدعوة  لمشاركة المرأة الرجل ، في الوظائف والأعمال  وهي في الحقيقة ، دعوة للحصول على المرأة ، التي تذهب إلى العمل ، أو إلى الجامعة أو المعهد ، وقد تزينت كالراقصة ، بحجة طلب العلم ، علماً بأن العلم لا يتطلب هذه الملابس والحركات  والضحكات المثيرة  ولا يتطلب أحمر الشفاه ، والجلوس مع الطلبة  والتمشي في الساحات والطرقات  ولا يتطلب المواعيد الخَلوية  بحجةِ الاستذكار ولا استذكار

إن ما يجري عند نسبة كبيرة من الفتيات ، ليس رغبة في العلم  بقدر الرغبة في الاختلاط الذي  يحرِّمه الإسلام . إن التساؤلات التي تطرح ، حول وضع المرأة في المجتمع المسلم  والدور الذي تقوم به هي : هل تخرج إلى الشارع ، أو تبقى في المنزل ؟ هل تذهب إلى الجامعة والمعاهد لتتعلَّم ؟ وهل يجوز لها أن تعمل وبأية كيفية ؟

إن الإجابة على هذه الأسئلة ، يجب أن يتطابق مع وجهة نظر الإسلام ، والالتزام بتوجيهاته ، حسب النصوص الشرعية ، وبقوة القانون ، لأن الوعظ والإرشاد وحده لا يكفي ، إذا كان المجتمعُ فاسداً والنظامُ منحلاً ، مما يتطلبُ العملَ ، لإقامة نظامٍ اجتماعيٍ متوازن  وسياسيٍ راشد ، على أساس الإسلام .

 وحتى يكون المجتمعُ مسلماً ، لابد أن يشتمل على الحكومةِ المسلمة ، والمدرسةِ والأسرةِ والفرد   والإذاعةِ والصحيفة ، والكتابةِ والسينما ، والإعلان والفن ، والاقتصادِ والفكر المسلم ، بل كلُ شيءٍ ينبثقُ من الإسلام ، ويخضعُ لمنهج الإسلام .

 فإذا وجِدَ هذا المجتمع ، الذي يُحَكِمُ نظام الإسلام  ويستمدُ منه منهج الحياة ، ويسيُر على هديه الذي ارتضاه ، يعبد الله فعلاً لا قولاً ، متمثلاً قولَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ليس الإيمان بالتمني  ولكن ما وقر في القلب وصدَّقه العمل) . مجتمعٌ لا يفعل الفاحشة  ولا يسمحُ بوقوعها ، مجتمعٌ يقوم على المودةِ والنصيحة ، لا يسرق ولا يكذب ولا يغتاب  ولا يغمز ولا يلمز ، مجتمعٌ تتعامل فيه مع التاجر لا يَغِشُكْ ، ومع الموظف لا يستهتر بمصلحتك  مجتمعٌ نشيطٌ مفكر .

 ذلك هو المجتمع المسلم ، الذي يوفِّرُ للمرأة ضمانات الحياة ، ولا يحوجها أن تعمل ، لكفالة نفسها وأسرتها  لكي تتوفر على أخطر مهمةٍ في حياة البشرية ، وهي مهمةُ الإنتاج البشري  ورعايتهِ وصيانتهِ من الفساد ، وإنها لحماقة ما بعدها حماقة ، أن تُنْزَعَ المرأةُ من اختصاصها  الذي لا يحسنه غيرُها ، لكي تشترك في الإنتاج المادي ، الذي ينبغي أن يقوم به الرجل .

إن الإسلام لا يمنع العمل للضرورة ، ولكنه لا يجعله الأصل ، لأن طبيعة الإسلام ، لا تريد تجنيد طاقة المرأة في غير ميدانها الأصيل  فإن التدريس والتمريض والتطبيب ، يفرضه الإسلام فرضاً على النساء  وفي مجال العلم ، فإنه فريضة ليس لها حدود ولا قيود   وأما خروج المرأة  في أماكن ترى الرجال ويرونها  فإنه ليس هو الممنوع في ذاته ، إنما الهدف هو موضوع السؤال

 هل تخرج المرأة لتتعلم أو تعمل ؟  نعم  ذلك مباح ومشروع ، باللباس الذي عينه الشرع بلا تبرج ولا ابتذال ، وألا يكون موضع إثارة وفتنة  أما إذا كان العمل أو العلم ستاراً لذلك  فهذا هو الممنوع ، لأن هذا أول الطريق ، الذي نهايته ما نراه في الغرب المنحل ، وفي الشرق المفتون . إن الرجل والمرأة في نظر الغرب سواء ، إن الرجل عندهم ليس قواماً على المرأة ، إنها هي القوامة عليه  يتملقها ويطلب رضاها  وفي أغلب الأحيان يكون تابعاً لا متبوعاً .

 ولعمري إن الرجل عندما يكون عبداَ في بيته ، لا يهش ولا ينش  هذا الصنف من المخنثين  يستحيل أن يصلح ما فسد ، وأن يصنع مجداً ، إنه ثمرة الأفلام والمسلسلات الفاسدة  والأقلام المأجورة  التي تعنى بالتوجيه الفاسد .

 إن المعركة مع عدو الدين والإنسانية ، لن يستطيعها المختالون في أزيائهم ، من الشباب الناعمين  ولا المشغوفون بلذاذاتهم ، من أشباه الرجال ولا رجال هناك لون من الأفلام والمسلسلات  والكتابات السافلة ، ككتاب صانع الحب ، وبائع الحب وغيرها الكثير الكثير   وما يكتب في بعض الصحف والمجلات ، ساهم مساهمة فعّالة ، في انحلال الأمة وفساد الدين ، بما يقدمونه من غذاء للأجيال الناشئة  والأجيال المكلفة ، باسترجاع المقدسات .

وخلاصة القول ، فيما يتعلق بعمل المرأة ، تمنع من أي عملٍ ، فيه خطر على الأخلاق ، أو فساد المجتمع  دليل ذلك ما روى عن نافع قال : ( نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كسب الأمة إلا ما عملت بيديها ، وقال : هكذا بإصبعه نحو الخبز والغزل والنقش ). فكل عمل يقصد منه استغلال أنوثة المرأة ممنوع  ويباح لها باقي الأعمال ، وهذا الفهم من قوله إلا ما عملت بيديها ، أي مما يُقصد فيه استغلال جهدها  ومفهومه ، منع استغلال أنوثتها ، على أن القاعدة الشرعية : الوسيلة إلى الحرام محرَّمه ، فالمرأة تمنع من كل عمل يوصل إلى الحرام ، وإن كان العمل مباحا لها  لأن القاعدة الشرعية تنص : على أن الشيء المباح إذا أدى فرد من أفراده إلى الضرر يمنع ذلك الفرد ويبقى الشيء مباحا0 

إن الإسلام هو نظام الحياة الوحيد ، الذي يحقق للمجتمع الإنساني  برجاله ونسائه ، الحياة السعيدة  وإن أمتنا اليوم ، أحوج ما تكون  لما يحقق لها العزة والكرامة ، وليس كالإسلام نظاماً للحياة يحقق ذلك . 

هجر القران والاستشفاء به

  هجر القران أنواع : هجر سماعه ، هجر الإيمان به ، هجر تحكيمه والتحاكم إليه ، هجر تديره وتفهم معانيه ، هجر الاستشفاء التداوي به .

ومن واجبنا نحن المسلمين أن نعرف ما ينبغي نحو القران الكريم ، بأن نسمعه ونحسن الاستماع له والإنصات له ، ونؤمن به ونحتكم إليه في أمور دنيانا وآخرتنا ونتدبر معانيه ونفهمها ، ونستمد منه الشفاء والبركة والدواء لجميع أمراض قلوبنا   حتى لا نكون ممن اتخذوا القران مهجورا . وما أريده اليوم هو التركيز على العلاج بالقران الكريم قال تعالى: ﴿ وننـزل من القران ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خَسَارا﴾ .

الآية تعطينا نموذجين لتلقي القرآن : إن تلقاه المؤمن كان له شفاء ورحمة ، وإن تلقاه الظالم كان عليه خسارا . ومن أهم شروط المعالج أن يكون قوي الإيمان ، حسن الظن بالله وكلامه ، ذا توجه صادق إلى الله ، وعلى قدر درجة الإيمان تكون درجة الشفاء .  ذكر ابن القيم في زاد المعاد : " بأن القران هو الشفاء التام من جميع الأدواء القلبية والبدنية وأدواء الدنيا والآخرة ، إذا احسن العليل التداوي به ووضعه على دائه بصدق وإيمان وقبول تام واعتقاد جازم ، بهذا لا يُقاوِم الداء ، وكيف تقاوم الأدواء كلام رب العالمين الذي لو نزل على الجبال لصدعها . فما من مرض من أمراض القلوب والأبدان إلا وفي القرآن سبيل الدلالة على دوائه وسببه والحماية منه . ولمن رزقه الله فهما في كتابه  ومن لم يشفه القران فلا شفاه الله   ومن لم يكفه القران فلا كفاه الله " .

والاستفادة من العلاج بالقران تتوقف على مدى قبول المريض وتعلقه بالله وإخلاصه له واقتناعه بأن الشفاء إنما هو بيد الله وحده وبإرادته . وأن يكون المعالج بالقران أو الراقي موقنا ومقتنعا بأن الآيات والتحصينات ، هي الوسيلة والغاية والسبب الذي يؤدي إلى تحقيق الشفاء بإذن الله .

وهناك أمر آخر مهم لتحقيق فائدة العلاج وهي أداء الفروض والنوافل والالتزام بها كأساسيات   والامتثال التام لكل الأوامر الشرعية وعدم اقتراف النواهي الشرعية .  قال ابن القيم :" الأذكار و الآيات والأدعية التي يستشفى بها ويرقى بها هي في نفسها نافعة شافية   ولكنها تستدعي قبول المحل وقوة الفاعل وهمته وتأثيره  . وإذا لم يحصل الشفاء إما لضعف تأثير الفاعل ، أو عدم قبول المنفعل ، أو وجود مانع بحيث لا ينجح  الدواء كما هو الحال في الأدوية التي يتناولها المريض وهو غير مقتنع بها ، فلا يشفى من مرضه ، وكثيرا ما يحصل أخذ الدواء بقبول تام ، فينتفع بدن المريض بحسب ذلك القبول ، كذلك الرقى إن أُخذت بقبولٍ تام وكان للراقي نفس فعّالة وهمةٌ مؤثرة زال الداء بإذن الله 

فالفعل قد يكون واحدا ، ولكن الذي يختلف هو القابل للفعل ، وأثر هذا الفعل من شخص لآخر   فقد يشرب الماء الزلال الصحيح فيجد له لذة وحلاوة ، ويشربه العليل فيجده مرّا ، فالماء واحد لكن المنفعل للماء مختلف ، كذلك أكل الدسم إن أكله الصحيح نفعه وإن أكله السقيم ضرّه . إذن قول الله ﴿ وننـزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ﴾ الإسراء 82 . متوقف على سلامة الطبع وسلامة الاستقبال والفهم عن الله .

والشفاء أن تعالج داءً موجوداً لتبرأ منه ، والرحمة أن تتخذ من أسباب الوقاية ما يضمن لك عدم معاودة المرض مرَة أخرى ، وعليه تكون الرحمة وقاية والشفاء علاج .

ومما لا شك فيه أن القرآن شفاء لأمراض البدن وأمراض القلوب ، وليس ذلك بمستغرب لأننا حين نقرأ كلام الله رب كل شيء الذي  يتصرف في كونه بما يشاء ويفعل ما يريد   فليس ببعيد أن يؤثر كلام الله في المريض فيشفى .

ولما ناقش بعض المعترضين أحد العلماء بأن شفاء المريض بكلمة غير معقول ، قال له العالم اسكت أنت حمار ، فغضب الرجل وهم بترك المكان   فنظر إليه العالم وقال : أنظر ماذا فعلت بك كلمة   فما بالك إذا كان المتكلم هو الله .

وآيات الشفاء في القرآن ست آيات : قوله تعالى :

﴿ ويشف صدور قومٍ مؤمنين  التوبة 14.وقوله :﴿ وشفاء لما في الصدور وهدىً ورحمة للمؤمنين ﴾ يونس 57 . وقوله : ﴿ فيه شفاء للناس إن في ذلك لآيات لقومٍ يتفكرون ﴾ النحل 69 .  وقوله ﴿ ونـزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ﴾ الإسراء 82 .  وقوله  ﴿  وإذا مرضت فهو يشفين  ﴾  الشعراء 80 . وقوله : ﴿ قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء ﴾ فصلت 44 . أما التداوي بالأدوية الإلهية من الرقى الشرعية فهذا ما سنبحثه في الخطبة القادمة بمشيئة الله  

 

زمان التآمر على تقسيم بلادنا

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يَأْتِي فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ حُدَثَاءُ الأسْنَانِ سُفَهَاءُ الأحْلامِ يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ يَمْرُقُونَ مِنْ الإسْلامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ لا يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ قَتْلَهُمْ أَجْرٌ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) رواه البخاري باب علامات النبوة   وقال : ( يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ أَقْوَامٌ إِخْوَانُ الْعَلانِيَةِ أَعْدَاءُ السَّرِيرَةِ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ قَالَ ذَلِكَ بِرَغْبَةِ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ وَرَهْبَةِ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ ) الطبراني عن معاذ .

إننا في حيرة ، بين دين لا يُعمل به ، ولا يُطبق منهجه ، لعادات نشا الناس عليها ، وأنظمة أفسدته ، وتعليم أزاغه ، وشهوات لا تتفق مع عقيدته ورسالته ، وبين جاهلية لا ترى أحكام الإسلام منسجمة مع العصر .

إننا في حيرة بين شعوب مسلمة ، تنكبت عن صراطه المستقيم ، وتنازلت عنه فحقت عليها كلمة الله ، وتسلطت عليها الأمم ، وفُرضت عليها الأنظمة والقوانين ، التي لا تمت إلى الإسلام بصلة ، لتسير عليها بدلاً من منهج الله القويم .                                                

إننا في حيرة بين الفطرة التي فطرنا الله عليها بإتباع دينه ، الذي يدفعنا إلى الإيمان والجهاد   ويبعث في نفوسنا الثورة ، على المجتمع الفاسد والحياة الزائفة ، وبين التربية العصرية والمادية  التي زينت لنا ترك الجهاد ، فأورثنا تركه الجبن والضعف والخذلان ، والقبول بالزعامة التي تفرض علينا ، الاتكال على الغير ، والتنكر لمنهج الله   فكان الذل ، العقوبة التي ابتليت به الأمة نتيجة ذلك ، ومن المعلوم من فقه التربية الإيمانية ، أن الله يعاقب على الذنب بالذنب، وهي أقسى صنوف العقوبات. وهكذا عوقبت الأمة الإسلامية ، على انحرافها العملي والسلوكي بانحراف أشد منه ،، في العقيدة والتصور.

إن المسلم حائر بين شباب ثائر ، ودم فائر   وذهن متوقد وأزهار تريد أن تتفتح ، وبين من أفلست عقليتهم ، وحرَّمت الابتكار والإبداع والشجاعة والمغامرة .

إن المسلم حائر ، لأنه يعيش في بلاد من أغنى بلاد العالم بالثروات الطبيعية ، وبين موجهين وصانعين لا يعرفون قيمة هذه الثروات ، ولا يعرفون أين يضعونها ، وماذا يصنعون منها .

إننا في حيرة ، من هذا العالم الذي نعيش فيه    والذي يواجه عالماً لا يجد فيه غناءه ، ولا يجد فيه غوثا ومعقلا ، عن لصوص العالم المنظَمين  وذئاب الإنسانية التي تحكمت وعاثت في الأرض فسادا ، وبين المسيرة الإسلامية التي ينعقد عليها الأمل والرجاء ، في العمل على تطبيق منهج الله    لحل مشاكل العالم الإسلامي ، الذي دمره القلق والصراع، وتسلط عليه شياطين الجن والإنس   بعد أن جرب مختلف الأنماط في عصره الحاضر  وتسلطت عليه جماعات وأحزاب ، وعدتنا بأنها ستعيد إلينا عزتنا ومجدنا، وتجمع شملنا وتوحدنا  لكننا لم نرى إلا الفرقة والانقسام ، فأصبحت الأمة الواحدة أمماً، وأصبحت الدولة الواحدة  دولاً، وازداد الفقر والتعاسة في كثير من ديار المسلمين هنا وهناك، وفشل دعاة الوطنية والقومية، وفشل من بعدهم الاشتراكيون والبعثيون ولم يبق إلا الإسلام، الذي نجح عندما حكم هذه البلاد يوما ، في إيجاد مجتمع مثالي في عالم البشر، سعدت به البشرية، وترعرعت في جنباته الفضائل والقيم الصالحة، وتناسى المسلمون في ظله العصبيات للأقوام والأجناس والأوطان  وكان ولاؤهم فيه للحق، وعندما ترك المسلمون دينهم ومنهج ربهم ، واستبدلوه بعادات موروثة  وفلسفات وتوجيهات وافدة، جرّت عليهم الضياع والدمار، وكانت الفرقة والشتات ، فتسلط عليهم الأعداء، وحصلت الهزائم العسكرية والفكرية والاقتصادية ، وعندما حاول المسلمون أن ينظموا صفوفهم، ويلتمسوا طريقهم؛ ليحملوا الراية من جديد، تربص بهم الأعداء   يرقبون حركاتهم ، ويدرسون فكرهم ، ثم يأتمرون ويخططون، ثم يرسلون سهامهم، وبعض سهامهم   رجال من المسلمين أنفسهم ، كي يفرقوا ويقتلوا ويدمروا، فأصيبت جموع كثيرة من المسلمين  بسهامهم ومكرهم وخديعتهم ، وعملوا جاهدين   للسيطرة على بلاد المسلمين ، عن طريق غرس بذور الخلاف ، بين الطوائف ، وإعادة صياغة دول المنطقة من جديد ، وتقسيمها على أساس طائفي أو عرقي أو مذهبي ، لإيجاد كيانات متنازعة ، وغير قابلة للاتحاد من جديد ، قال ناحوم جولدمان رئيس الرابطة اليهودية العالمية في خطابه بباريس بمؤتمر اليهود المثقفين عام 1968م: " إذا أردنا لإسرائيل البقاء والاستقرار في الشرق الأوسط علينا أن نفسخ الشعوب المحيطة بها إلى أقليات متنافرة تلعب إسرائيل من خلالها دوراً طليعياً وذلك بتشجيع قيام دويلة علوية في سوريا، ودويلة مارونية في لبنان، ودويلة كردية في شمال العراق " . ونشرت مجلة القوات المسلحة الأميركية (في 6/2006 م) تقريراً كتبه «رالف بيترز» الكولونيل السابق في الجيش الأميركي تحدث فيه عن تقسيم الشرق الأوسط من جديد وإقامة دولة كردية تقتطع أجزاء من العراق وإيران وتركيا وسوريا ، ودولة شيعية في جنوب العراق وإيران ، ومناطق أخرى من السعودية والإمارات والكويت والبحرين، ودولة مارونية درزية في جبل لبنان، وزيادة مساحة الأردن على حساب السعودية، حتى يتم تفكيك الدول الكبيرة مثل تركيا وإيران والسعودية ثم يأتي بعد ذلك الدور على مصر والسودان والمغرب.

كما فعلت الدول الاستعمارية ، بعد سقوط الدولة الإسلامية وتقسيمها إلى دويلات ، على أساس قومي أو طائفي ، واللعب على مسألة الأقليات، فأثارت أهل الجنوب في السودان على أساس وجود أقليات غير مسلمة، وتحقق الانفصال ، وأثارت النعرات العرقية والجهوية ودعمت الانفصاليين في دارفور وكردفان وغيرها من المناطق. وأوجد الاستعمار مشكلة الأكراد في شمال العراق منذ نهاية خمسينات القرن الماضي. ومنذ منتصف ثمانينات القرن الماضي أيضاً أوجد المشكلة نفسها في جنوب شرق تركيا. وبدأ المستعمر الآن في إيجادها في سوريا ، ويقوم  في هذه الفترة على إيجاد مشكلة شيعية في العراق ، تمهيداً لتمزيقه إلى ثلاث دويلات على الأقل. وفي المغرب مسألة الصحراء ، ومشكلة البربر في المغرب والجزائر ، ومسألة الأقباط في مصر. وفي إندونيسيا يراد فصل عدة جزر عنها ، بعدما نجحت دول الاستعمار في فصل تيمور الشرقية. ونجحت هذه الدول في تقسيم الباكستان عام 1971م، وسمي الجزء المنسلخ منها بنغلادش. وهناك مشاريع تجزئة للدويلات من قبل الدول الاستعمارية التي أقامتها .  

وإن أكثر تلك النظم قدرة على تمزيق المجتمع وتشتيت قواه ، هي تلك التي جاءت وهي تمتطي ظهر الأحزاب القومية، فمزقت ما كان يرجى وحدته، وكان من أعظم إنجازات تلك النظم التي تواجه اليوم شعوبها ، التي تتطلع للحرية والكرامة والتحرر من قبضتها القاتلة ، هي قدرتها على تفتيت المجتمعات التي استأثرت بحكمها   وأفسدت علاقاتها وزرعت المخاوف بين طوائفها  

وإلا بماذا نفسر أن يصطف إلى جانب النظام القاتل ، فريق كبير من المناصرين والمؤيدين  ناهيك عن الجاهزين لسحق أبناء شعبهم واستخدام أبشع الأساليب لوأد تطلعاتهم.. ما أبشع أن يتفقوا على القمع والقتل ، وهدر الكرامات لجزء من أبناء وطنهم ، انتفضوا في وجه القتل والظلم والمهانة والفقر، وما أبشع هذا الوعي البائس الذي لا يرى كل ما يحدث سوى مؤامرة خارجية تستهدف الدول العربية .

ما أبشع أن تكون ثمار عقود من عمر بعض الدول العربية هشاشة في كل شيء، وضعفاً في كل شيء، وتراخياً في كل شيء، وفشلاً في كل شيء ، إلا بقدرة زعامات الاستبداد على إنتاج فلول ملوثة العقول ، وعسيرة الأفهام ، وفاحشة الأقوال ومتوحشة الأفعال.

ما أبشع أن يصحو الحالمون بالخلاص من نظام القمع ، على كابوس الاقتتال الداخلي الطائفي  ما أفدح الثمن، وما أعظمها من جريمة.

 لمصلحة من كل ذلك ؟ في الشهر الماضي     أعلن الجنرال عاموس رئيس المخابرات العسكرية الإسرائيلية قال : " لقد نجحنا في تصعيد التوتر والاحتقان الطائفي والاجتماعي في مصر لتوليد بيئة متصارعة متوترة دائما ومنقسمة ، إلي أكثر من شطر ، في سبيل تعميق حالة الاهتراء داخل البنية والمجتمع والدولة المصرية " مما يكشف الإصرار من جانب قوي مشبوهة وعميلة للصهيونية ، علي تمزيق وتدمير وتقسيم العالم العربي والإسلامي ، إلي كيانات متداعية وهزيلة . وما قاله الجنرال عاموس كان بمثابة رسالة تحتاج إلي من يستكملها ، ولذلك كان الرجل يخاطب خليفته في نفس المنصب الجنرال افيف ، الذي تنتظر منه قيادة الصهيونية العالمية ، تجنيد العملاء لمواصلة أداء المهمة المطلوبة ، وهناك أصحاب مصلحة في خلق انطباع لدي سكان العالم كله ، بان هذه المنطقة تحولت إلي غابة ، تعربد فيها وحوش ضارية ، تمارس هواية القتل من أجل القتل ، ولا تطيق أو تتحمل وجود من يختلف معها ، في العقيدة الدينية علي قيد الحياة. وهناك من يريد تشويه صورة هذه المنطقة، وبالتحديد صورة العرب والمسلمين ، فهل بعد هذا المكر مكر ؟ ﴿ ويمكرون ويمكر الله ﴾ وسيبطل الله مكرهم إن شاء .

 

 

 

 

 

 

أهل الدنيا وأهل الآخرة

قال صلى الله عليه وسلم : ( من كانت الدنيا همه فَرّق الله عليه شمله، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له ، ومن كانت الآخرة همه جمع الله عليه شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة)   لقد تكفل الله تعالى لمن آمن به وعمل صالحاً  وجاهد في سبيله وسار إليه وسعى له ، أن يزيده من فضله ويبارك له في عمله ، ويجزيه خير الجزاء كما قال تعالى: ﴿ مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾160الأنعام ، والإنسان لا يؤتى إلا من قبَل نفسه فهو الذي يضعف أو يكسل أو يسوف ، وذلك يؤخر وعد الله أو يصرفه عنه، ولذلك فإن العمل في هذه الدنيا غير مضمون النتائج ، وليس كل من عمل لطلب شيء في هذه الدنيا يناله، وكم من إنسان سعى لكسب مال فما ازداد إلا فقراً، أو سعى لكسب ود إنسان فما ازداد منه إلا بعداً، ذلك لاْن الله تعالى يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب كما قال تعالى : ﴿ كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا ﴾20الإسراء . فالله يمد جميع الناس بمقومات الحياة ، فمنهم من يستخدم هذه المقومات في الطاعة ، ومنهم من يستخدمها في المعصية ، كما اختص الله أمر الأرزاق والآجال ، بقسمته بين الناس لتستقيم حياة الناس ومعاشهم قال تعالى : ﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ 32الزخرف، فقوله ورفعنا بعضهم .. الآية كلمة مبهمة  تعني أن الكل مرفوع في شيء ، ومرفوع عليه في شيء آخر ، وبهذا يتكامل الخلق وتتم المصالح   وتُقضى حاجات المجتمع كما قيل : 

الناس للناس من بدو وحاضِرَةٍ   بعضٌ لبعضٍ بما لا يعلموا خَدَمُ    

فأنت مرفوع فيما تُحْسِنه من الأعمال ومرفوعٌ عليك فيما لا تجيده ، فهو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ، بمقتضى حكمته وعلمه بما يُصلح حال الناس قال تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ 52 الزمر . فيبسط هنا بمعنى يوسع ، ويقدِر بمعنى يُضيّق  وعليه فإن المسألة في الرزق ، ليست شطارة ومهارة في تناول الأشياء ، إنما هي قدرٌ قدَّره الله الرازق ، ولذلك قال أبو العتاهية :

يُرزق الأحمق رزقاً واسعا  وترى ذا اللب محروماً نَكِدِ

ولذلك فإن أهل الدنيا لا ينالون بعملهم إلا الدنيا وما لهم في الآخرة من نصيب كما قال تعالى: ﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ ﴾ 20 الشورى، فمن عمل للدنيا لا يحْرَم متعتها ولذَّتها  لكن حين تُعَجل له الطيبات في الدنيا ، يُحْرَم منها في الآخرة ، أما  أهل الآخرة فإنهم ينالون بعملهم الدنيا والآخرة ، قال تعالى: ﴿ مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾ 134النساء . والمسلم الحق ينظر إلى الدنيا على أنها مسخرة له كما قال تعالى: ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ 13 الجاثية، فهي مخلوقة لتكون ممراً إلى الآخرة ، وليست دار قرار، فالمسلم يعمل عمله الدنيوي من زراعة أو صناعة أو تجارة أو غيرها لينال حظه من الدنيا ، ويستعين به على عبادة الله   وليطلب رزقه بما أباح الله  وليكن قلبه معلقاً بالله  ورجاؤه به، وتوكله عليه وحده لا على العمل أو السبب المادي ، فكم من إنسان جنى عليه اجتهاده وكما قال الشاعر : 

إذا كان عون الله للعبد ناصراً  تهيأ له من كل شيء مراده

وإن لم يكن عون من الله للفتى فأكثر ما يجني عليه اجتهاده

 والعامل للدنيا يكون في الغالب ممن كثر أكله وضحكه ونومه وغضبه ، قليل الرضى ، لا يعتذر إلى من أساء إليه ، ولا يقبل معذرة من اعتذر إليه  كسلان عند الطاعة ، شجاع عند المعصية ، أمله بعيد وأجله قريب ، لا يحاسب نفسه ، قليل المنفعة  كثير الكلام ، قليل الخوف ، لا يشكر عند الرخاء ولا يصبر عند البلاء ، يعمل عمل أهل النار  كالإشراك بالله والتكذيب بالرسل والكفر والحسد والكذب والخيانة والظلم والفواحش والغدر وقطيعة الرحم والجبن عن الجهاد والبخل واختلاف السر والعلانية واليأس من روح الله ، والأمن من مكر الله والجزع عند المصائب والفخر والبطر عند النعم وترك فرائض الله واعتداء حدوده وانتهاك حرماته وخوف المخلوق دون الخالق ورجاء المخلوق دون الخالق والتوكل على المخلوق دون الخالق ، والعمل رياء وسمعة ومخالفة الكتاب والسنة وطاعة المخلوق في معصية الخالق والتعصب بالباطل والاستهزاء بآيات الله وجحد الحق ، والسحر وعقوق الوالدين وقتل النفس التي حرم الله بغير الحق وأكل مال اليتيم وأكل الربا والفرار من الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات . وكلها أعمال تدخل في معصية الله ورسوله ﴿ ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين ﴾ ، وأما أعمال أهل الجنة ، كالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والإيمان بالقدر خيره وشره والشهادتان ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت . وأن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك . ومن أعمالهم :  صدق الحديث وأداء الأمانة والوفاء بالعهد وبر الوالدين وصلة الأرحام والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين والمملوك من الآدميين والبهائم . ومنها :  الإخلاص لله والتوكل عليه والمحبة له ولرسوله وخشية الله ورجاء رحمته والإنابة إليه والصبر على حكمه والشكر لنعمه . ومنها : قراءة القرآن وذكر الله ودعاؤه ومسألته والرغبة إليه . ومنها : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله للكفار والمنافقين ، وكلها تدخل في طاعة الله ورسوله ﴿ ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم ﴾ .  دخل أحد الأشخاص على رجل من الصالحين .. وقال له: أريد أن أعرف .. أأنا من أهل الدنيا أم من أهل الآخرة ؟ فقال له الرجل الصالح ، إن الله أرحم بعباده ، إذ لم يجعل موازينهم في أيدي أمثالهم ، فميزان كل إنسان في يد نفسه  لماذا ؟ لأنك تستطيع أن تعرف أأنت من أهل الدنيا أم من أهل الآخرة ، قال الرجل كيف ذلك؟ فرد العبد الصالح : إذا دخل عليك من يعطيك مالا   ودخل عليك من يأخذ منك صدقة .. فبأيهما تفرح ؟ فسكت الرجل .. فقال العبد الصالح : إذا كنت تفرح بمن يعطيك مالا ، فأنت من أهل الدنيا ، وإذا كنت تفرح بمن يأخذ منك صدقة ، فأنت من أهل الآخرة .. والإنسان يفرح بمن يقدم له ما يحبه  فالذي يعطيني مالا يعطيني الدنيا .. والذي يأخذ مني صدقة يعطيني الآخرة .. فإن كنت من أهل الآخرة .. فأفرح بمن يأخذ منك صدقة .. أكثر من فرحك بمن يعطيك مالا . ولذلك كان بعض الصالحين إذا دخل عليه من يريد صدقة يقول مرحبا بمن جاء يحمل حسناتي إلي الآخرة بغير أجر  ويستقبله بالفرحة والترحاب . فالرجل من أهل الآخرة لا يفعل شيئا في حياته إلا وفي باله الله ، وأنه سيحاسبه يوم القيامة  أما من كان من أهل الدنيا فإنه يفعل ما يفعل وليس في باله الله ، وعن هؤلاء يقول الله سبحانه : ﴿ والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعةْ يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجده الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب ﴾ 39 النور . فمن يفعل شيئا وليس في باله الله .. سيفاجأ يوم القيامة بأن الله تبارك وتعالى الذي لم يكن في باله موجود ، أنه هو الذي سيحاسبه على ما عمل ، فمن آمن واتبع منهج الله فإلى الجنة ، ومن أنكر فإلى جهنم وبئس القرار . ومن عدل الله سبحانه أن أعد يوما للحساب .. لأن الذين ظلموا وبغوا في الأرض ربما يفلتون من عقاب الدنيا ، وهل من أفلت في الدنيا من العقاب يفلت من عدل الله ؟ .. أبدا لم يفلتوا .. بل أنهم انتقلوا من عقاب محدود إلي عقاب خالد .. وافلتوا من العقاب بقدرة البشر في الدنيا   إلي عقاب بقدرة الله تبارك وتعالى في الآخرة   ولذلك لابد من وجود يوم يعيد الميزان    فيعاقب فيه كل من أفسد في الأرض وأفلت من العقاب .. ولا خير لإنسان يفلت من عقاب الدنيا   لأنه أفلت من عقاب محدود إلي عقاب أبدي.  من الخطأ أن نتصوّر أن العمل الدنيوي منفصل تماما عن عمل الآخرة وأنّه لا يُمكن احتساب شيءٍ أُخْروي من خلال العمل الدنيوي، ولكن الأعمال الدنيوية إذا لم تنضبط بضوابط الشّرع كانت وبالا على صاحبها، ويمكن أن يُمارس الإنسان أعمالا أخروية من خلال عمل دنيوي ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ بَيْنَا رَجُلٌ بِفَلاةٍ مِنْ الأَرْضِ فَسَمِعَ صَوْتًا فِي سَحَابَةٍ اسْقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ فَتَنَحَّى ذَلِكَ السَّحَابُ ( أي توجّه وقصد ) فَأَفْرَغَ مَاءهُ فِي حَرَّةٍ ( الأرض الصلبة ذات الحجارة السوداء ) فَإِذَا شَرْجَةٌ مِنْ تِلْكَ الشِّرَاجِ ( والشّراج مسايل الماء ) قَدْ اسْتَوْعَبَتْ ذَلِكَ الْمَاءَ كُلَّهُ فَتَتَبَّعَ الْمَاءَ فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ فِي حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ الْمَاءَ بِمِسْحَاتِهِ فَقَالَ لَهُ يَا عَبْدَ اللَّهِ مَا اسْمُكَ قَالَ فُلانٌ لِلاسْمِ الَّذِي سَمِعَ فِي السَّحَابَةِ فَقَالَ لَهُ يَا عَبْدَ اللَّهِ لِمَ تَسْأَلُنِي عَنْ اسْمِي فَقَالَ إِنِّي سَمِعْتُ صَوْتًا فِي السَّحَابِ الَّذِي هَذَا مَاؤُهُ يَقُولُ اسْقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ لاسْمِكَ فَمَا تَصْنَعُ فِيهَا قَالَ أَمَّا إِذْ قُلْتَ هَذَا فَإِنِّي أَنْظُرُ إِلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهَا فَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ وَآكُلُ أَنَا وَعِيَالِي ثُلُثًا وَأَرُدُّ فِيهَا ثُلُثَهُ وفي رواية : وَأَجْعَلُ ثُلُثَهُ فِي الْمَسَاكِينِ وَالسَّائِلِينَ وَابْنِ السَّبِيلِ ) مسلم  

دل الحديث على فضل الصدقة والإحسان إلى المساكين وأبناء السبيل , وفضل أكل الإنسان من كسبه , والإنفاق على العيال .

 نعلم جميعا أن هذه الدنيا مرحلة نعيشها فهي بلاغ للآخرة ولذلك لا يجب أن نترك العمل فيها ونكتفي بأداء الفرائض وحدها فقد قال صلى الله عليه وسلم : ( ليس بخيركم من ترك دنياه لآخرته أو ترك آخرته لدنياه حتى يصيب منهما جميعا فإن الدنيا بلاغ للآخرة ) . رواه النسائي  

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

أثر خوف الله في حياة المسلم

إنّ الخوف من الله فرض على كل أحد، ولهذا عُلِّق على الإيمان ، فمن كان مؤمناً حقَّاً خاف الله سبحانه قال تعالى: ] فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [ آل عمران 175 . وقال : ] وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [ .  البقرة40 . فالخوف الذي دعا إليه سبحانه في هذه الآيات   هو الخوف القائم على مراقبة الله ، والخضوع لأمره  وترك المحرمات خوفاً منه وتعظيماً له ، وهذا  يستلزم الرجوع إلى الله ، والاعتصام بحبله وقد قيل : "الخوف سوط الله يقوِّم الشاردين عن بابه".  

 قال الإمام أحمد : " من كان بالله أعرف كان منه أخوف ، فكل واحد إذا خفته هربت منه إلا الله عز وجل ، فإنك إذا خفته هربت إليه قال تعالى : ] ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين [ . ويكون الخوف محموداً ، إذا حال بين صاحبه ويبن محارم الله عز وجل ، فلا يتعامل بالربا ، ولا يأكل مالا حراما   ولا يشهد زورا ، ولا يحلف كاذبا، ولا يخلف وعدا   ولا يخون عهدا ، ولا يغش في المعاملة ، ولا يمشي بالنميمة، ولا يغتاب الناس ، ولا يترك النصيحة والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، ولا يزني   ولا يتعاطى محرما ، ولا يقصّر في الصلاة ، بل يجب أن يصلي ، لأن الخوف من الله : أن يجدك حيث أمرك ويفتقدك حيث نهاك قال تعالى : ] أقيموا وجوهكم عند كل مسجد [ لأن في الصلاة سجود   والخوف من الله فيه ، يحرق وجود الشيطان ، لأنه يتصاغر ويولول ويقول : يا ويلي أُمِر هذا بالسجود فسجد ، وأُمرت بالسجود فلم أسجد ، بل إن الخوف من الله في قلب المؤمن ، يعصمه من فتنة الدنيا ، وبدونه لا تصلح الحياة ، قال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه : ( وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين وأمنين : إذا خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة ، وإذا أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة ) رواه أبن حبان في صحيحه   كثير من الناس لا يريدون أن يعملوا ، ولا يريدون أن يتذكروا خوف الله  معتمدين على عفو الله وستره ، وما علموا أن اعتمادهم على هذا مرّة بعد مرّة ، قد يكون استدراجا من الله لهم قال الله تعالى :  ] سنستدرجهم من حيث لا يعلمون [ الأعراف 182 .  كان السلف الصالح  يخافون ويبكون ، حتى قال الله تعالى عنهم : ] ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا [ . وقال صلى الله عليه وسلم : (حرمت النار على عين دمعت أو بكت من خشية الله) . وما كانوا يخافون ويبكون ويتضرعون ، نتيجة تقصير أو عصيان أو كثرة الذنوب ، بل كانوا يخافون أن لا يتقبل الله منهم ، فلم لا ترتجف قلوبنا من الخوف تأسياً بهم   فلسنا أشرف ولا أزكى من رسولنا صلى الله عليه وسلم ، فقد كان إذا ذكرت النار يهتز قلبه ، وكان صدره كأزيز المرجل ، وكان عمر بن عبد العزيز إذا مرّ بآية من آيات النار ، شعر أن لفح جهنم في أذنيه ووجهه . 

وما دام العبد مستشعراً روح الخوف من الله ، فإن قلبه يظل عامراً بالإيمان واليقين ، ولذلك قالوا : "إذا سكن الخوفُ القلوبَ ، أحرق مواضع الشهوات منها ، وطرد الدنيا عنها ". قال ابن رجب : " القدر الواجب من الخوف ، ما حَمل على أداء الفرائض واجتناب المحارم ، فإن زاد على ذلك ، بحيث صار باعثاً للنفوس على التَّشمير في نوافل الطاعات والانكفاف عن دقائق المكروهات ، والتَّبسُّط في فضول المباحات ، كان ذلك فضلاً محموداً ". فمن خاف الله عز وجل وخاف حكم الله فيه    ونهى نفسه عن هواها، وردها إلى طاعة مولاها فمصيره إلى الجنة قال تعالى : ] وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [ النازعات 40 وقال سبحانه : ] وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [ الرحمن 46 . وقال صلى الله عليه وسلم : ( ثلاثٌ منجيات: خشية الله تعالى في السرِّ والعلن، والعدل في الرِّضا والغضب  والقصد في الغنى والفقر. وثلاثٌ مهلكات: هوىً مُتَّبع، وشحٌّ مُطاع  وإعجاب المرء بنفسه ) البزّار والبيهقي 

فما أحوجنا اليوم إلى الخوف من الله ، لأن وازع الخوف إذا انعدم أو ضعف في النفوس ، فإنها تنتهك الحرمات، وتفعل الكبائر والموبقات ، وبذلك تفشو الرذيلة ، وتنعدم الفضيلة ، لأن الخوف يدفع لفعل الطاعات، والكف عن المحرمات .

إذَا ما خَلَوْتَ الدَّهْرَ يوماً فَلا  تَقُل خَلَوْتُ ولكن قُل عليَّ رَقيبُ

وَلا تحسـبَنَّ اللهَ يغفـلُ ساعَـةً         وَلا أنَّ ما تُخفِي عليهِ يَغيبُ

فالخوف من الله سمة المؤمنين ، وآية المتقين ، قال تعالى : ] وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ [ الرعد 21 .  وهو درجة عظيمة تدل على قوة الإيمان ، قال عمر بن عبد العزيز : "مَن خاف الله ، أخاف الله منه كل شيء   ومن لم يخف الله ، خاف من كل شيء".

وخوف الله تعالى هو الذي حجب قلوب الخائفين عن زهرة الدنيا ، وعوارض الشبهات ، وقوة مراقبة المرء لربه ، ومحاسبته لنفسه ، بحسب قوة معرفته بجلال ربه ، والخوف من وعيده .

إذا مـا الليل أظلم كابـدوه     فيسفـر عنهمُ وهـمُ ركوع

أطار الخوف نومهمُ فقاموا  وأهل الأمن في الدنيا هجوعُ     

عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم : ( دخل على شاب وهو في الموت ، فقال: كيف تجدك ، قال : أرجو الله يا رسول الله ! وإني أخاف ذنوبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن  إلا أعطاه الله ما يرجو وأمَّنه مما يخاف) رواه الترمذي وابن ماجه .

وقد ذكر الله تعالى في كتابه آيات كثيرة تدل على عِظَم شأن الخوف ، وأنه لا بد منه للمؤمن في حياته الدنيا؛ لكي يصل إلى رضا الله تعالى وجنته ، لأنه كلما زاد خوف العبد من ربِّه ، زاد عمله ، وقل عُجْبه، وقلت معصيته ، وكلما قلَّ خوف العبد من ربِّه ، نقص عمله ، وزاد عجبه ، وكثرت معصيته لذا يجب على الإنسان تنمية الخوف من الله في قلبه لأنه صفة بارزة من صفات عباد الله الصالحين  لا غنى لهم عنها ، في إقبالهم على الله تعالى ، فتراهم يؤدون حقوق الله ، وهم خائفون وجلون من عدم قبولها ، فكانوا أحرص الناس على طاعة ربهم والمسارعة إلى رضاه ، والبعد عن معصيته ، والفرار من سخطه وغضبه ، ومع ذلك يخافون من عدم قبول أعمالهم ، لأن الخوف من الله دليل كمال الإيمان وحسن الإسلام عندهم ، وخشيته في السر والعلن من صفاتهم ، لذا مدحهم الله وأثنى عليهم فقال: ] إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُون  وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُون [ المؤمنون 57 . وعن هذه الآية سألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ! قولُ الله : ] وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [ أهو الذي يزني  ويشرب الخمر ويسرق ؟ فقال: لا يَا ابنة الصِّدِّيق، ولكنَّه الرَّجل يصوم ويصلي ويتصدق ، ويخاف أن لا يُقبل منه". فمع كونهم يخشون ربهم ويؤمنون بآياته ، ولا يشركون به شيئا ، ويؤدون طاعته ، فإنهم يخافون عدم قبوله لهم ، عند الرجوع إليه ، ولقائهم له . فمن يخاف الله تعالى يتقيه ، ورد في الحديث : ( مَنْ خاف أدلج ، ومَنْ أدلج بلغ المنـزل ) من أدلج :  يعني- سرى في الليل ، وصل إلى مكان يأمن فيه . فكذلك مَنْ خاف من عذاب الله ، ابتعد عن أسبابه ، فيتَرَكَ المعاصي والمحرمات ويفعل الطاعات . قال الحافظ بن حجر في الفتح :" إن الخوف من المقامات العلية ، وهو من لوازم الإيمان قال الله تعالى : ] وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [ آل عمران 175 وقال الله تعالى : ] فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ [ المائدة44 وقال الله  تعالى: ] إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [ فاطر 28 وقال صلى الله عليه وسلم : ( أنا أعلمكم بالله وأشدكم له خشية ) وكلما كان العبد أقرب إلى ربِّه ، كان أشد له خشية ممن دونه   وقد وصف الله تعالى الملائكة بقوله : ] يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [ النحل50 والأنبياء بقوله : ] الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ [ الأحزاب 39 . وإنما كان خوف المقربين أشد ؛ لأنهم يطالبون بما لا يطالب به غيرهم ، فيراعون تلك المنـزلة " .

 

 

 

جريمة السكوت عما يعاني المسلمون

لماذا السكوت وعدم التكلم  ،كمن قُطع لسانه أو أصيب بالخرس ، كحال المسلمين هذه الأيام  وهم يشاهدون صور ما يجري ، من قتل ومجازر   واغتصاب للأعراض، والتعذيب ، وتدمير البيوت والمساكن ، ومنع الطعام والشراب، والدواء وتصفية الجرحى، ومنع علاجهم ،أمرٌ ليس له بالعالم مثيل وهنا نسأل ؟ إذا كان للعالم أن يسكت ، فما عذر الساكتين من المسلمين ؟ أليس من يقتلوا عرباً ومسلمين؟! ألا ينتمون إلى البشر؟! أليست المساجد التي هدمت ، والتي انتهكت حرماتها للمسلمين؟! أليست أعراض النساء التي اغتصبت أعراض المسلمين؟! أليست المصاحف التي مزقت  وحرقت مصاحف المسلمين؟! فما بال العرب والمسلمين إذن ؟ تحركوا لمحاولة قس حرق المصحف الشريف في أمريكا، ويسكتون عما هو أفظع في بلاد المسلمين ، هل ماتت النخوة فيهم؟! هل أصبحت دماءهم بهذا الرخص ، لا قيمة لها، ولا بواكي لأهلها؟! فلماذا خذلوهم  وقد خذلهم القريب والبعيد وانصرفوا عنهم ، ولم يرُعبهم الدم الذي يسُفك ، ولم يستثر نخوتهم ، ويوقد حميتهم   الأعراض التي تنتهك ، والبيوت التي تقُصف   والمساجد والمآذن التي تهُدم ، ولا من ماتوا جوعا  ولا المشردين الذين يعيشون حياة البؤس والشقاء  والسؤال هنا لماذا ؟ في تقديري ، لأن الشرق إمّا عملاء وإمّا مكبلين  ، وأما الغرب ، فمواقفه مرهونة بمصالحه، يدور معها حيث دارت  وأما الشيعة وفرقهم على اختلافها ، فهم خنجرٌ مسمومٌ في ظهر الأمة الإسلامية  يسومونها سوء العذاب وصنوفه، مما لم تتوقعه حتى من أعدى أعدائها   فلا غرابة ، لأنها عقيدة الحقد والانتقام ، التي تربت عليها النصيرية ، للتقرب إلى إلههم ، بدم النواصب من أهل السنة  ،كما زعموا ، ورحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية ، الذي أفتى أنهم أشد خطرًا على الإسلام ، من اليهود والنصارى .

قد يكون قدر جيلنا هذه الأيام ، أن يكون وقودًا لتحرر البلاد الإسلامية والعربية  من الطغاة والجبارين ، ليمهد الطريق أمام الأجيال القادمة ويمكّن لهذا الدين  ويحرر المقدسات ، إذ لا بد من دفع ثمن لسنوات التخاذل والضياع ، التي تعيشها الأمة ، والتي أتت بالمجرمين، الذين تسلطوا عليها  وباعوها لأعدائها، وانحرفوا بها عن نهجها . وبقدر ما يحزننا صور الشهداء ليل نهار، فإننا نحسب أنهم وقود التمكين والعزة، وقد فازوا بما يتمناه كل مسلم، نحسبهم كذلك ، والله حسيبهم ولا نزكي على الله أحدا ، والحزن الأعظم ، الذي  يدمي القلوب ، ويفتت الأكباد ، ما نلمسه من تخاذل المسلمين ، عن نصرة المستضعفين والاستهانة بسفك دماء الأبرياء ، متجاهلين أن رفعتهم وتمكينهم ، في اعتصامهم بدينهم ووحدتهم  وأن الغرب وحلفاءه من الشيعة ، لن يرحموا يومًا صرختهم، ولن يتورعوا أبدًا عن إزهاق أرواحهم.  ذكر التاريخ : قيام جيوش الإسلام يومًا ، من أجل استغاثة امرأة واحدة!! واليوم تُقتل عوائل بأكملها ولا يتحرك جندي واحد من جيوش المسلمين .     مما يجعلنا نتساءل ، متى تتحرك هذه الجيوش والطائرات والدبابات ، على الظلم والطغيان ؟ .  وإيران تستنفر جيش المهدي ، وفيلق بدر ، وحزب الله بلبنان والعراق ، لإفساد الثورة السورية؛ لأنهم يعلمون ، أنها معركة بقاء أو فناء لهم، ويدركون أن نجاح الثورة السورية ، يعني نهاية حتمية لمخططاتهم ومؤامراتهم ، التي دفعوا الغالي والنفيس فيها   لتحقيق ما تحقق لهم اليوم.. ويعلمون أيضًا أن الأمر في تأثيره ، لن يقف على حدود حمص أو حماة وإنما يتجاوز بعمقه ، الأنبار بالعراق ، حتى يصل إلى بغداد الأسيرة؛ ليستنهض بعدها شعبًا ذاق الويلات ، من إيران وأذنابها! فلم يكن لإيران أن تلتهم العراق وتبيد أهله ، وتحاول مسح هويته، ولا أن تغتال في لبنان ، وترسم هلالها المزعوم ، وتهدد المنطقة ، لولا تحالفها مع النظام السوري.. لقد جاءت هذه الثورة ، لتكسر شوكتهم ، بعدما دبَّ اليأس في نفوس الناس ، من التهاون والتساهل في مواجهة هذا المد السرطاني . 

لقد شعر الإيرانيون ، أن أحلامهم التوسعية ،لم يبق عليها بعد الانسحاب الأمريكي من العراق إلا مزيدًا من الضغوط ، على دول المنطقة؛ لذلك فإن إيران اليوم ، تعيش أصعب مراحلها، فكلما ضاق الخناق عليها ، وارتفعت وتيرة الثورة السورية ، فإنها   تشعر بالخوف أكثر، فتحرك عملاءها لإشغال المنطقة ، بخلق البلبلة والفوضى ، في الوقت الذي ترسل جنودها وخبراءها وسلاحها، ويُشاهد قناصتها ، على أسطح المنازل في درعا ودير الزور وغيرها، وهذا يقابل بخطابات ، واستنكارات واجتماعات ، تحت مظلة عربية ، وأخرى أممية   في وضع عالمي ، تتبادل القوى العظمى فيه أدوارها . إن ما يجري في بلاد المسلمين من مجازر ، لا يمكن أن ينتهي بالحناجر دون الخناجر؛ فالحرب كما قالت العرب: أوَّلها كلام، ونقول: أوسطها سهام وآخرها سلام. ولم أرَ في التاريخ شرًّا أُبيد بالكلام دون السهام، أو الحناجر دون الخناجر، ولا سلام دون سهام ، تردع اللئام ، وتؤمِّن الكرام، والأمر في بلاد المسلمين قد بلغ الذروة ، من القتل والسفك ولا أعلم حيوانات في الكرة الأرضية ، تفعل ما يفعله النظام السوري بشعبه ، ولو تكلم الأسد الحقيقي من أية حديقة حيوان ، لتبرأ من عائلة الأسد كلها ، ورغم قسوة البطش الذي يمارس   فإن أحرار وحرائر سوريا ، يعيشون صبرًا جميلاً  ورباطًا طويلاً ، وصمودًا عظيمًا، وتحديًا كبيرًا  وفوق ذلك يفوضون أمرهم إلى الله ، في الوقت الذي اكتفى العالم ، بنصرتهم بالحناجر دون الخناجر ، واللسان دون السنان، مخالفين هدي النبي صلى الله عليه وسلم ، الذي حرَّك الجيش   على يهود بني قينقاع؛ بسبب كشفهم عورة امرأة مسلمة واحدة، وأعلن الحرب على يهود بني النضير   لمجرد الشروع في محاولة اغتيال ، وحرّك الجيش على يهود بني قريظة ، لأنهم نقضوا عهدهم ، وانتصر لقتيلين غير مسلمين من بني خزاعة ، وفاءً لم عاهدهم ، أن ينصر بعضهم بعضًا، إذا كانت هذه سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المعتدين  فكيف ساغ للأمة القعود عن قتالهم ، وقد جاءت النصوص القرآنية والأحاديث النبوية ، تؤكد على أن  الاعتداء على المسلمين ، يوجب الحرب ويحرك الجيوش ، لأنه لا يفلّ الحديد إلا الحديد، ولا يُعامل الكرام بما يُعامل به اللئام، ولا تُجدي  الحناجر دون الخناجر ، لوقف هذه المجازر؟! أما آن للشعوب الإسلامية ، أن تخرج عن صمتها  والجيوش العربية من ثكناتها، والسيوف من أغمادها؛ كي تتحول الظاهرة الصوتية ، إلى غارات جوية، وقنابل يدوية، وقذائف نارية، لحماية أهل السُّنَّة ، بعد أن فَجَرتْ إيران وانجرف حزب الله إلى الميدان السوري ، يخططون ويهجمون ، ويقتلون ويعربدون، ويسرقون ويغتصبون، ونحن في الجوامع والصوامع ، ندعو فلا يُستجاب لنا؛ لأن الله تعالى لا يجيب الكسالى، ولا يقبل من المخلّفين، ولا يرضى عن القاعدين، ولا ينصر الذين يقولون ما لا يفعلون، بل كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو في العريش يوم بدر : «اللهم إن تُغلب هذه العصابة، فلن تعبد في الأرض بعد اليوم»، كان هذا والجيش قد خطط ، واستعد الرجال للنزال ، فكان الدعاء مقبولاً، ونزلت الملائكة تثبت الذين آمنوا وتضرب فوق الأعناق، وتبث الرعب في نفوس الكافرين ، ولا غرابة أن يحصل ذلك ، لأصحاب الحناجر والخناجر، وأرباب القول والفعل. أليس بظالم بل من أكابر المجرمين، لا عهد لنا عليه ولا عهد له علينا ولا طاعة ، من اغتصب السلطة وانقلب على إرادة الأمة، وعمل فيهم بالتنكيل والسجن والاعتقال ، والقتل والتشريد ، وإغلاق المساجد ، وتكميم الأفواه ، ومنع شرع الله   ومناصرة أعداء الله ، فإن تمكَّن وغلب الناس، فلا أقل من عدم إعانته على الظلم، فضلاً أن نصبغ عليه الصبغة الشرعية ، بعدم جواز الخروج عليه فمن قنن ظلمه بقانون مصطنع، أو كرَّس فساده بدليل مُتأول ، فقد خان الأمة ، أيما خيانة  وساهم بشكل كبير ، في تغييب الشرع، وضياع الحقوق، وانتهاك الحرمات، ولطالما ضاعت أممٌ حينما تسلّط عليها جبارٌ عنيد ، سانده عالمٌ باع دينه بعرض من الدنيا .  روى مسلم في صحيحه عن ابن عمر أنّه صلى الله عليه وسلم قال: ( على المرء المسلم السمع و الطاعة فيما أحبّ و كره إلاّ أن يؤمر بمعصية فلا سمع و لا طاعة ) . إلى غير ذلك من الروايات الناهية عن إطاعة الإمام الجائر ، مطلقاً أو فيما يأمر بمعصية. ما يدل عن حرمة الإطاعة مطلقاً، كما دل عليه قول رسول صلى الله عليه وسلم  :  ( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ) .

 

 

 

الأحداث المعاصرة

وها نحن اليوم نعيش في هذا العالَم، وهناك مجالات موجَّهة في الحياة من الذين يسيرون على غير نورٍ من الله، بِطانة لا تحبُّ الطُّهْر في الاعتقاد بأنَّ الله واحدٌ أحدٌ، فردٌ صَمَدٌ، خَلَق الْخَلْق لعبادته، وأوْجَد البشر لتوحيده، ولا تحبُّ الطُّهر في الحياة الاجتماعية، فنَحَرَتِ الحياء والعِفَّة بسكين الفنِّ العميل والحرية المغشوشة، وطَعَنَتِ السعادة والرِّيَادة بِخِنْجر الغَلاء والثراء، وضربتِ العِزَّة والكَرَامة بمدْفَع الذُّلِّ والاستبداد! ولا تحبُّ الطُّهْر الاقتصادي، فطَحَنَت الشعوب والأمم بِرَحى الرِّبا والاحتكار! ولا تحبُّ الطُّهْر السياسي، فأقصتْ شَرْعَ الله، وحَارَبَتْ عباد الله، وحَرَمَتِ الشعوب من عَدَالة الإسلام تحت ستار الإرهاب والكباب!!

إلى المؤمنين في أرض الله، وإلى دُعاتهم العاملين لنُصرة دين الله: لا تَهِنوا ولا تحزنوا إذا ما اتَّقيتُم وصَبَرتُم وأبشروا؛ فإن الله - تعالى - يقول: ﴿ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ﴾ آل عمران: 120 ، ﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ آل عمران: 139 . أنتم الأعلون فلا تحزنوا، وأنتم الأعلون فلا تَهِنوا، أنتم الأعلون فلا تخافوا إذا حقَّقتُم شَرْط الإيمان، ولن يجعلَ الله للكافرين على المؤمنين - الذين حقَّقوا شرْطَ الإيمان - سبيلاً.  وهل ضاعت الأمة وفقدت ريادتها وصدارتها، وعزتها وقوتها إلا لما صار لهؤلاء النكرات المنحرفين رأي وقول، وسُلِّموا منابر الإعلام، ومصادر صنع القرار؛ فكان من أمر المسلمين ما كان من الذلة والهزيمة، والتقليد والتبعية. فهم ما أرادوا إيمان الناس الذي ارتضاه الله تعالى لهم، واعتبروه إيمان السفهاء؛ فكان لهم إيمان آخر، وهو إيمانهم المطلق بالأعداء ولو ظلموهم وأهانوهم وأذلّوهم، وسلبوهم حقوقهم، ومنعوهم مما هو لهم ولأمتهم! وإيمانهم المطلق بالأعداء هو الذي ضيع فِلَسطين، وضيع غيرها من بلاد المسلمين؛ إذ استخدمهم الصهاينة والصليبيون والملاحدة، دعايةً إعلامية لمشاريعهم الاستعمارية في المنطقة الإسلامية، فإذا ما قضوا غرضهم منهم تنكروا لهم، وتخلوا عنهم، ورموهم في مزابل التاريخ.

هناك من يُظهرون النصح للأمة في أثواب قومية، أو شعارات وطنية، فلما كان الجدّ والمواجهة وجدناهم أول من تخلى عن الأوطان، وباعها بثمن بخس للأعداء؛ وهم في هذا كله يخدعون الذين آمنوا، ويظهرون أنهم معهم وهم مع أعدائهم :  ﴿ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ﴾ البقرة: 14. وشياطينهم هم أعداء الذين آمنوا من أي دين ومذهب. وهذا من مخادعتهم للمؤمنين، ومن خيانتهم العظمى للأمة ﴿ اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ البقرة: 15 . والله تعالى يملي لهم، فيحققون بعض ما يريدون من السوء والشر؛ حتى يستدرجهم بذلك، فيرديهم ويهلكهم.

هناك وسائلَ للشَّرِّ قد تكاثرَت وتعدَّدت وتنوَّعَت الأساليب، وكلُّها تهدِف إلى هدفٍ واحد؛ زعزعةِ عقيدةِ المسلم قبل كلِّ شيء، إضعافِ الإيمان في قلبه، تشكيكه في ثوابتِ دينه، تَشكيكه في قِيَم إسلامِه وأخلاقه، البُعد به عن الفَضائلِ وتهوين الرذائل، والسَّعي في مَسخ الفِطَر والقِيَم والأخلاقِ الكريمة.

أيّها المسلم، إنَّ العالَمَ يشاهِد اليومَ نهضة إعلاميّة عظيمة، تمثَّلت في قنواتٍ فضائيّة متعدِّدة مختلِفة الاتِّجاهات، فما بين قنواتٍ أخذت على عاتِقِها حَربَ العقيدة، محارَبَة العقيدةِ السليمة والطَّعن فيها وتَشكِيك المسلم فيها، وما بين قنواتٍ فضائيّة أخذت على عاتقِها تدميرَ قِيَم الأمة وأخلاقها، وما بين قنواتٍ فضائيّة اتَّخذت مسارًا آخَر لتفكيك الأمّة والطعن في بعضها البعض، ومحاولَة إيجاد البغضاء بين الشعوبِ الإسلاميّة.

 

 

 

 

 

 

 

 

أوضاعنا والتقصير

نعيش واقعًا مريرًا، نحى فيه حياة الذل والهوان ، ونرضخ لما يملى علينا من أعوان الكفر والإلحاد ، ولا زلنا القصعة المستباحة  للشرق أو الغرب، ونعيش الهجمة الشرسة من الشيوعية المادية الملحدة ، والصهيونية العالمية الماكرة، والصليبية الجديدة الخادعة، يساعدهم العملاء والأذناب  وأمتنا شاردة عن رسالتها، غافلة عن غايتها تتخبط ذات اليمين وذات الشمال، وعدوها باسط ذراعيه إليها ، بالفتن والشهوات، وقد مزقتها المؤامرات ، وفي نفس الوقت فإنهم   لا يُريدون لنا أن نبني قوةً ، وكلما حاولنا بناء قوة دمّروها ، ولا يكتفون بإضعافنا  ولكنهم يشغلونا بقضايا وفتن ، ليقتل بعضنا بعضا ، ويشغلونا عن قضايانا الرئيسة، ثم يعملوا على إَخْضَاعنا ، لأساليبهم السياسية والفكرية ، ويطالبونا بتبَنَّى الديمقراطية   التي أَذلَّتنا ، وأخرجتنا من ديارنا، وسلَّمت فلسطين لليهود، ومزَّقت العالم الإسلامي إرْباً ، وما زالت ، وامتدتْ جرائمها إلى حّدٍ يصعب حصرُه ، كما حصل في المراحل التي عانتها قضية فلسطين ، وأخيراً التنازلٍ الصريح ، عن تحرير فلسطين كلها  والاعتراف بالعجز ، وعدم القدرة على تحقيق ما أُعلن من شعارات، لأننا نريد من عدوّنا أن يقيم لنا دولة، وأن يمنحنا وسائل معيشتها وأسباب حياتها! وأن يعطينا المال! وأن يقيم لنا دولة ، غير قادرين على إقامتها  وتلك مهزلة ، ضاعت فيها العقولُ ، وماتت المبادئ ، في شهوة دولة ميتة  ستكون في أحسن حالاتها ، تابعة لإسرائيل ، فتحوَّل الصراع ، إلى تجارة دنيوية ، يسعى كلُّ فريق فيها ، إلى إثبات وجوده في الساحة، أو كسب نصر دنيوي ، معزول عن أي عقيدة أو قيم أو مبدأ، فامتدّ الوهمُ  وسقطت الشعارات ، ونشطت التجارة بالوطن وبالشعب وبالقضية . 

 إننا نعيش في نوم عميق ، قد لا تفيق منه    لأن العرب ينظرون إلى مصالحهم ، وإلى الفائدة التي تعود عليهم، بعيدا عن النظر إلى الشعوب ، الذين يغدر ويمكر بهم   ونحن واقفون كأننا خشب مسندة  ، نتمنى أن نفيق ، ونستيقظ من نومتنا ، ونصحوا من سباتنا ، ونفتح أعيننا  لندرك ما يدور بالعالم من حولنا ، قبل أن يفوتنا قطار الزمن وأحسبه قد كاد ، وأن  ننفض غبار الذل والوهن والعار عن جبيننا ، ونهبّ لاستعادة كرامتنا المفقودة ، وتحقيق وحدتنا المنشودة ، ونتجمع حول ديننا الحنيف الذي أكرمنا الله به ، وندرك قولة عظيمة من رجل عظيم من عظماء هذه الأمة  عمر بن الخطاب  : " نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فمتى ابتغينا العزة من غيره أذلنا الله "  ألا يكفنا ذلا ومهانة ، والذئب لا يأكل إلا القاصية من الغنم ، فأين النخوة والشجاعة والكرامة ؟ أين التلاحم والتكافل والتضامن : 

يا ويح أمتنا تساق إلى الردى  ويسومها الخسف الذليل الأرذل

وإذا بساحتها ألمـت نـكبة          يعلـوا صراخ نسائها وتولول

إلى متى سنظل نجري ونلهث وراء السراب ونحن المستهدفون والمظلومون والمقهورون أما آن لنا أن نحزم أمرنا ، ونشد أزرنا ونعتصم بحبل ربنا ، ﴿ ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم ﴾  أما آن لنا أن نكفر بأعدائنا ، ﴿ فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى﴾ هناك خلل كبير في واقع المسلمين ، لا يمكن علاجه بالمسكنات والمجاملات   ولا بلقاءات تحمل ضعفاً وخلالا ، بسبب دعاة الفوضى والانحراف، والمبشرين بمبادئ العلمانية ، والتحرر الكاذب ، الذين ينادون بسلخ الأمة عن دينها . 

إن على المسلمين في لقاءاتهم مسؤولية كبرى ، لتحقيق مصالح الأمة ، والأمن والاستقرار ، والدفاع عن مصالحها في المحافل الدولية ، ولا يمكن إعفاء الدول العربية والإسلامية ، مما يجري في المسجد الأقصى، ويظهر أن حالة الشجب والاستنكار من العرب والمسلمين ، لم ترق إلى المستوى المطلوب، ولم يلتفت لهم الاحتلال ، فمضى في هجومه واقتحاماته  مما يدل على أنهم مقصرون ، تجاه ما تتعرض له القدس والفلسطينيون ، بدعوى أنّ قضية القدس أكبر من الفلسطينيين   وأنّ الأمة العربية والإسلامية ، هي المقصرة بشكل أكبر تجاه دعمها، والتي تقتصر على الاستنكارات والإدانات ، دون تحرك عربي ودولي جاد وفعال ، يدنس الأقصى أمام مرأى ومسمع العالمين العربي والإسلامي   وما أكثرهم ، وما أقل بركتهم، فلم نر منهم ردات فعل قوية وفاعلة ، ترتفع إلى مستوى الفعل الإسرائيلي ، الذي بدأ يشكل خطراً   كبيراً يهدد القدس ، ومعالمها الإسلامية .

وإذا ما توقف المرء أمام دور الرأسمال الصهيوني ، والرأسمال العربي ، يشعر بالغثيان والرغبة بالتقيؤ ، من حال أصحاب المليارات العرب بمن فيهم الفلسطينيون. لأن أصحاب المليارات اليهود ، وغيرهم من أباطرة المال والإعلام، يصبون ثقلهم المالي والإعلامي في خدمة المشروع الصهيوني ويعملون بجد وثبات على تقديم الخدمات المالية الهائلة ، لتصفية الحقوق الفلسطينية في القدس والخليل وعموم الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 67.  فهو يشتري البيوت ، ويدفع ثمنها  ويحولها إلى مستعمرات ، ويبيعها لليهود الذين يجدون الدعم والإسناد ، والتغطية من فتاوى الحاخامات لشراء البيوت، وعدم بيعها أو تأجيرها للعرب الفلسطينيين  وبالتأكيد فإن العرب ليسوا اقل غنى من الصهاينة، ولكن ليس لديهم انتماء لقضاياهم القومية ، وخاصة قضية العرب المركزية ، فماذا قدم أصحاب المليارات للأقصى لينقذوه من اليهود , إنهم لم ينالوا شرف الدماء التي سالت ، وما تزال تسيل على أرض فلسطين ، ولا يمكن لأيديهم أن تنال شرف مواجهة العدو الصهيوني ، ولا نامت أعين الجبناء ، من الأمة التي كرمها الله ، ولم تحافظ على كرامتها ، إن فلسطين تنتهك ، ولا تجد إلا سواعد رجال ، تحمل السكين والحجارة ، لتدافع عن كرامة الأمة   هنيئاً لمن يدافع عن الدين والأرض والعرض   ولرافع راية الجهاد ، والخزي والعار لمن يدمر بلاده ، ويقتل شعبه ، من أجل منصب زائل ، وبوركت دماء الشهداء ، التي عطرت تاريخ هذه الأمة ، وبوركت الحجارة والسكاكين ، التي تواجه الدبابة والبندقية   في الوقت الذي توجه فيه بنادق الأمة إلى صدور أبنائها ، وبورك الرجال الذين انتفضوا بوجه الاحتلال ، لينفضوا غبار التخاذل الذي فرض على الأمة ، ممن لم يعرفوا إلا الخيانة والعمالة ، تتهاوى وتتجمع المآسي اليومية ، على هذه الفئة الفلسطينية ، ولا نرى من يحرك ساكنا ، من أهل الحل العقد   في بلاد العالم ، فمئات المليارات يمتلكها العرب ، ويتم استخدامها لإنقاذ الاقتصاد العالمي ، وخاصة الأمريكي المتهاوي  بينما أهل فلسطين ، يبدو أن لا نصيب لهم من هذه المليارات من الدولارات الملعونة  كلعنة طابعيها ومسوقيها ، بلا رصيد اقتصادي حقيقي ، في الأسواق المالية العالمية . فهل يكفي ان يسمع ويشاهد الأهل المنكوبين في فلسطين ، والعالم يتفرج ولا من مغيث ، ونقول للمتفرجين من السلاطين ، وأصحاب الأموال والكنز الدفين ، أعيرونا مدافعَكُمْ ليومٍ ...لا مدامعَكُمْ...أعيرونا وظلُّوا في مواقعكُمْ  بني الإسلام! ما زالت مواجعَنا مواجعُكُمْ  ومصارعَنا مصارعُكُمْ...إذا ما أغرق الطوفان شارعنا...سيغرق منه شارعُكُمْ...يشق صراخنا الآفاق من وجعٍ... فأين تُرى مسامعُكُمْ؟ أترانا هرمنا ؟ فأغلقنا آذاننا بعد أن أغلقنا أفواهنا ، ولم نعد نسمع ، إلا ما أرادوا سماعه ؟ وصدق من قال : يريدون عقولنا معطلة ، وعيوننا أن تبصر ما أرادوا   رؤيته . ورحم الله ابْنُ السَّمَّاكِ إذ قال : هِمَّةُ العَاقِلِ فِي النَّجَاةِ وَالهَرَبِ ، وَهِمَّةُ الأَحْمَقِ فِي اللَّهْوِ وَالطَّرَبِ ، عَجَباً لِعَيْنٍ تَلَذُّ بِالرُّقَادِ   وَمَلَكُ المَوْتِ مَعَهَا عَلَى الوِسَادِ ، أَفَلاَ مُنْتَبِهٌ مِنْ نَوْمَتِهِ ، أَوْ مُسْتِيْقظٌ مِنْ غَفْلَتِهِ ، وَمُفِيْقٌ مِنْ سَكْرَتِهِ ، وَخَائِفٌ مِنْ صَرْعَتِهِ ؟! وَلَكِنْ صُمَّتِ الآذَانُ عَن المَوَاعِظِ ، وَذَهلَتِ القُلُوْبُ عَن ِالمنَافِعِ ، فَلاَ الوَاعِظُ يَنْتَفِعُ   وَلاَ السَّامِعُ يَنْتَفِعُ "سير أعلام النبلاء (8/330) .

ويا من علينا تتفرّج ، أخبرنا متى تغضبْ؟ فقد انتهكت محارمنا .. ونُسفت معالمنا ، وقُتلت شهامتنا.. وديست كرامتنا.. وقامت قيامتنا.. ولم تغضبْ.. فأخبرني متى تغضبْ؟ إذا هُدمت مساجدنا .. وأحرق المسجد الأقصى .. وظلت قدسنا تُغصبْ ولم تغضبْ .. فأخبرني متى تغضبْ؟

  

 

أحكام إنكار المنكر

إن إنكار المنكر فرض كفاية ، إذا قام به البعض سقط عن الباقين ، بدليل قوله تعالى : ﴿ ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ، ويأمرون بالمعروف  وينهون عن المنكر ، وأولئك هم المفلحون ﴾ آل عمران 104  ويصبح تغيير المنكر فرض ، على من يشاهد المنكر  من القادرين على إزالته ، لقوله عليه السلام: (ما من رجل يكون في قوم يعْمل فيهم بالمعاصي  يقدرون على أن يُغَيِّروا عليه ، ولا يُغَيِّرون ، إلا أصابهم الله منه بعقاب قبل أن يموتوا )رواه أبو داود .

أما إذا خاف المنكرون ، الاعتداء على حرماتهم الخاصة ، وترتب على الإنكار مفسدةً اكبر من مفسدة المنكر الذي يقع ، حرُم الإنكار ، تطبيقاً للقاعدة الشرعية "إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضرراً  بارتكاب أخفهما".

أما إذا ترتب إيقاع الأذى ، على أشخاص المنكرين فحسب ، دون أن يتعداهم إلى غيرهم من أقارب وأصحاب ومواطنين آخرين ، فإنِّ الإنكار في هذه الحالة يكون مندوباً ، وإذا هلكوا نتيجة هذا الإنكار فإنهم يكونون شهداء الآخرة .

وكذلك إذا رضي الآخرون بوقوع الضرر ، وفدوا دينهم بأنفسهم ، فالإنكار مندوب ، لما روى أبو داود والبيهقي في السنن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قتل دون دينه فهو شهيد) .

وهناك أكثر من قول ، في حال وقوع المنكرات من صاحب السلطان في البلاد منها .  يجب الإنكار على الحاكم ، على مستوى الوعظ والنصح بالقول الليَّن في بادئ الأمر ، للنصوص الشرعية الواردة في ضرورة حفظ هيبة الحاكم  حين تقديم النصيحة له ، لذا كان استخدام الخشونة معه غير مشروع ، لما في ذلك من الاستخفاف به ، وهو أمرٌ محذور ، عملاً بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم : (من كانت عنده نصيحة لذي سلطان ، فلا يكلمه بها علانية وليأخذ بيده  فلْيَخْلُ به ، فإن قبلها وإلا كان قد أدَّى الذي عليه ، والذي له)رواه البيهقي في السنن . ويندب استخدام الخشونة مع الحاكم ، في الإنكار عليه باللسان ، وذلك إذا اقتضى الأمر إظهار الغَيْرة على حُرُمات الله ، وإفهامه فظاعة ما يُقْدِم عليه ، من الخروج عن الشرع ، يستدل على ذلك بما روى النسائي أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم : أي الجهاد أفضل ؟ قال:(كلمة حقٍّ عند سلطان جائر). ويحرم استعمال السلاح في قتال الحاكم المنحرف  من أجل الإنكار عليه ، لما روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنه يُسْتَعْمَل عليكم أمراء  فتعرفون وتنكرون ، فمن كره فقد برئ ، ومن أنكر سلم ، ولكن من رضي وتابع  قالوا : يا رسول الله ألا نقاتلهم ؟ قال : لا ، ما صلَّوا ) . أي من كره وأنكر بقلبه . وتجب طاعة الحاكم في المعروف لا في المنكر ، لما ورد في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ، وتصلّون عليهم ويصلُّون عليكم ، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم ، وتلعنونهم ويلعنونكم  قالوا : قُلْنا : يا رسول الله ؟ أفلا ننابذهم عند ذلك ؟ قال : لا ، ما أقاموا فيكم الصلاة ، ألا مَنْ وليَ عليه والٍ ، فرآه يأتي شيئاً من معصية الله ، فلْيكْره ما يأتي من معصية الله ، ولا ينْزِعَنَّ يداً من طاعة ) .

والذي يفهم من الأحاديث ، أن المسلم مطلوبٌ منه أن يجمع بين موقفين من الحاكم المنحرف  فإذا كان انحرافٌ لا يخرج عن الإسلام لا في عقيدته ، ولا في نظام حكمه ، فإن على المسلم أن يجمع في موقفه من هذا الحاكم ، بين طاعته في المعروف ، وبين مخالفته في المنكر ، سواء أكان هذا المنكر ، معصية يرتكبها الحاكم ، أو أمراً غير مشروع يُصْدرُه إلى الناس ، فعلى الحاكم وزر ما يرتكبه من منكرات في سلوكه الشخصي ، كما عليه وزر ما يأمر به من أحكام وقوانين تخالف أحكام الشرع . والناس بُراءُ من ذلك الوزر ، ما داموا لا يتابعون الحاكم في كلا الحالين وينكرون عليه ما وسعهم لإنكار ، للحديث الذي رواه أبو عاصم في كتاب السنن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أطيعوا أمراءكم مهما كان ، فإن أمروكم بشيء مما جئتم به ، فإنِّهم يُؤْجرون عليه وتُؤْجَرون بطاعتهم ، وإن أمروكم بشيء مما لم آتكم ، فإنه عليهم ، وأنتم منه براء …).

أما العمل على تنحية الحاكم المنحرف ، فإنه من اختصاص محكمة المظالم ، لأن الحاكم عندما يرتكب أمراً من الأمور ، التي يستحق معها العزل عن السلطان كالفسْق ، فإنه بذلك أحْدث مظلمةً من المظالم ، التي لا بد من إزالتها ، فتختص محكمة المظالم بإزالتها ، وهي المحكمة التي تنظر في شؤون النـزاع بين الأمة  والسلطان في الدولة . أما إذا وصل الأمر ، بصاحب السلطة الشرعية إلى الكفر البواح ، سواء في عقيدته نفسه ، أو العقيدة التي يقوم عليها نظام حكمة . فقد نقل النووي إجماع العلماء ، على أن الإمامة لا تنعقد لكافر ، فلو طرأ عليه كفرٌ أو تغيير للشرع أو بدعة ، خرج عن حكم الولاية وسقطت طاعته  ووجب على المسلمين القيام عليه وخلعه   ونَصْبُ إمام عادل إن أمكن .

وإن كفر الحاكم فعلاً ، وساندته قوى أيدته على باطله ، فالقتال في سبيل إزاحته وقتله ، هو جهاد في سبيل الله ، لأنه ينطبق عليه ، أنه قتال كافر لإعلاء كلمة الله ، والمقتول يكون شهيداً في الدنيا والآخرة حتى لو قتله مسلم يؤيد ذلك الحاكم. أما إذا لم يرتد الحاكم عن الإسلام ، وإنما ارتكب انحرافات ، حكم عليه معها بخلعه ، فتمسك بالسلطة وجرى القتال معه ومعه أنصاره ، فإن القتال هنا يكون قتال بُغاة ، كما قاتل على بن أبى طالب معاوية بين أبي سفيان بعد عزله من   ولاية الشام ، ورفض معاوية التنازل عن سلطته  وعلى هذا لا يكون هذا القتال ، جهاداً في سبيل الله . وهنا سؤال : هل الحكام المسلمين ، إذا حكموا بغير ما أنزل الله يعتبرون مرتدين ؟ لقد وصف الله الذين يحكمون بغير ما أنزل الله   بثلاثة أوصاف في آياته ثلاث متعاقبات وهي : ﴿ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون …الظالمون…الفاسقون… ﴾ المائدة 44-47. وخلاصة أقوال العلماء ، في توزيع هذه الأوصاف  على أصناف الذين يحكمون بغير ما أنزل الله .

إنَّ من حكم بغير ما أنزل الله ، جاحداً بما أنزل الله ، أو شاكاً في صلاحيته للحكم به ، أو معتقداً بأن الحكم بغير ما أنزل الله أصلح من الحكم به  فإن مثل هذا الحاكم يكون كافراً ، ويعتبر بذلك مرتداً ، أما إذا كان الحكم بغير ما أنزل الله ، ناتج عن اتباع الهوى أو التهاون أو الخوف من المعارضين أو الأعداء ، فهنا يكون الحاكم فاسقاً ، ولا يعتبر مرتداً عن الإسلام إذا مارس الحكم على هذا الأساس . وعلى كل الأحوال ، لا بد من دليل قاطع يعطي اليقين ، على أن حاكماً ما من المسلمين ، إنما يحكم بغير ما أنزل الله ، بناء على شكه بصلاحية الإسلام للحكم ، أو اعتقاده بأن غير الإسلام أصلح في الحكم من الإسلام .

وبدون وجود الدليل القاطع ، لا يجوز تكفير الناس ولا الحكام ، بناءً على مجرَّد الشك أو الظن الراجع عملاً بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم.(…إلا أن تروا كفراً بواحاً ، عندكم من الله فيه برهان) رواه البخاري ومسلم.

 

 

 

أعمال القلوب وسرائرها

قال تعالى : ﴿ إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ﴾   الطارق10. يُذكِّر الله عباده بشأن القلوب، وأعمالها وسرائرها ، مما لا يعلمه الناس وهو بها عالم ، وإِصلَاحُ السَّرِيرَةِ يَكُونُ بِصِدقِ الإِخلَاصِ مَعَ اللهِ عز وجل بِحَيثُ لَا يَهتَمُّ بِالخَلقِ، مَدَحُوهُ أَو ذَمُّوهُ نَفَعُوهُ أَو ضَرُّوهُ ، ويَكُونُ قُلبُهُ مَعَ اللهِ تَعَبُّدًا وَتَأَلُّهًا، وَمَحَبَّةً وَتَعظِيمًا ، وتَقدِيرًا وَتَدبِيرًا، يَعلَمُ أَن مَا أَصَابَهُ لَم يَكُن لِيُخطِئَهُ وَمَا أَخطَأَهُ لَم يَكُن لِيُصِيبَهُ، يَرضَى بِمَا قَدَّرَ اللهُ لَهُ ، إِذَا وَقَعَ الأَمرُ يَقُولُ: عَسَى أَن يَكُون خَيرًا، يَستَشعِرُ دَائِمًا قَولَ اللهِ عز وجل: ﴿ فعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا  ﴾ النساء 19، ومعنى تبلى السرائر : أَي تُختَبَرُ سَرَائِرُ الصُّدُورِ وَيَظهَرُ مَا كَانَ فِي القُلُوبِ مِن خَيرٍ وَشَرٍّ عَلَى صَفَحَاتِ الوُجُوهِ   فمن كانت سريرتهُ صالحة ، كان عمله صالحًا ، فتبدو سريرته على وجهه نورًا وإشراقًا وحياء ، ومن كانت سريرته فاسدة ، كان عمله تابعًا لسريرته،  لا اعتبار بصورته  فتبدو سريرته على وجهه سوادًا وظلمة  كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ يوم تبيض وجوه وتسود وجوه  ﴾ آل عمران 106 ؛ فَفِي الدُّنيَا، يَنكَتِمُ كَثِيرٌ مِنَ الأَشيَاءِ، وَلَا يَظهَرُ عِيَانًا لِلنَّاسِ وَأَمَّا يَوم القِيَامَةِ  فَيَظهَرُ بِرُّ الأَبرَارِ، وَفُجُورُ الفُجَّارِ وَتَصِيرُ الأُمُورُ عَلَانِيَةً  وَلِله هَاتَيكَ القُلُوبُ, وَمَا انطَوَت عَلَيهِ مِنَ الضَّمَائِرِ, وَمَاذَا أَودَعَتهُ مِنَ الكُنُوزِ وَالذَّخَائِرِ؟! وَلِله طِيبُ أَسرَارِهَا! وَلَا سِيَّمَا يَومَ تُبلَى السَّرَائِرُ وقد قيل : «قُطبُ الطَّاعَاتِ لِلمَرءِ فِي الدُّنيَا : هُوَ إِصلَاحُ السَّرَائِرِ، وَتَركُ إِفسَادُ الضَّمَائِر  فَطهر لله سريرتك فإنها عنده علانية  وأصلح له غيبك فهو عنده شهادة ، وزيِّن له باطنك  فإنه عنده ظاهر  . والسريرة إذا صلحت صلح شأن العبد كله ، وصلحت أعماله الظاهرة ، وإذا فسدت تفسد أقوالُه وأعماله  ويشرح هذا ما نقله صاحب الحلية عن وهب قال : ( ولا تظن أن العلانية هي أنجح من السريرة ، فإنَّ مثَل العلانية مع السريرة ، كمثَلِ ورق الشجر مع عرقها ، العلانية ورقها  والسريرة عرقها . إن نُخر العرق هلكت الشجرة كلها، ورقها وعودها  وإن صلح صلحت الشجرة كلها  ثمرها وورقها، فلا يزالُ ما ظهر من الشجرة في خيرٍ ما كان عرقها مستخفيًا، لا يُرى منه شيء ، كذلك الدين لا يزال صالحًا ، ما كان له سريرةً صالحة ، فإنَّ العلانية تنفعُ مع السريرة الصالحة ، كما ينفع عرق الشجرة ، صلاح فرعها " . والسريرة هي محطُّ نظر الله عز وجل ، وعليها مـدارُ القبـول عنده سبحانه ، وحسب صلاحها وفسادها يكون حسـن الخاتمة وسوؤها وكلما صلحت الســريرة ، نمـت الأعمال الصالحة وزكت، ولو كانت قليلةً ، والعكس من ذلك ، في قلة بركة الأعمال  حينما تفسد السريرة ، ويصيبها من الآفات ما يصيبها .

وأخبار السلف في حرصهم على أعمال القلوب، وإصلاح السرائر كثيرة ومتنوعة، وبخاصة فيما يتعلق بمحبة الله عز وجل، والخوف منه وإخلاص العمل له سبحانه، ومن ذلك : قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه :" القوة في العمل أن لا تؤخر عمل اليوم للغد، والأمانة ألاَّ تخالف سريرةٌ علانية، واتقوا الله فإنما التقوى بالتوقي، ومن يتق الله يقه " .  وعن عثمان رضي الله عنه قال : " ما أسرَّ أحدٌ سريرة إلاَّ أظهرها الله على صفحاتِ وجهه، وفلتات لسانه " . وعن الحسن  قال : " ابن آدم  لك قولٌ وعمل، وعملك أولى بك من قولك، ولك سريرةٌ وعلانية   وسريرتك أولى بك من علانيتك " ، وعن عبد الله بن المبارك قال : قيل لحمدون بن أحمد ، ما بال كلام السلف أنفعُ من كلامنا؟! قال: لأنَّهم تكلموا لعزِّ الإسلام   ونجاة النفوس ورضا الرحمن ، ونحن نتكلمُ لعز النفوس وطلب الدنيا، ورضا الخلق .  ومن العلامات الدالة على صلاح السريرة، وسلامة القلب : عناية العبد بأعمال القلوب ، ومنها إخلاص الأعمال والأقوال لله عز وجل ، ومحاولة إخفائها عن الناس  وكراهة الشهرة والظهور، والزهد في ثناء الناس وبعكس ذلك الرياء، وإرادة الدنيا بعمل الآخرة، وحب الظهور.  ثم التواضع والشعور بالتقصير، والانشغال بإصلاح النفس وعيوبها وبعكس ذلك الكبر والعجب، والولع بنقد الآخرين.

 ومنها : الإنابة إلى الدار الآخرة ، والتجافي عن الدنيا والاستعداد للرحيل وحفظ الوقت، وتدارك العمر وبعكس ذلك الركون إلى الدنيا وامتلاءُ القلب بهمومها ومتاعها الزائل، ونسيان الآخرة، وقلة ذكر الله عز وجل وتضييع الأوقات .

ومنها : سلامة القلب من الحقدِ والغلِ والحسد، وبعكس ذلك امتلاؤه بهذه الأمراض-  والعياذ بالله -.  ومنها : الاهتمام بأمر الدين والدعوة إلى الله عز وجل  والجهاد في سبيل الله ، ومحبة كل داعيةٍ إلى الخير والحق والدعاء له والتعاون معه على البر والتقوى، وبعكس ذلك القعود عن تبليغ دين الله عز وجل، وعدم الاهتمام به، بل إذا صفى له مأكله ومشربه ومسكنه، وغير ذلك من متاع الدنيا الزائل، لا يهمه بعد ذلك شيء، وقد لا يقفُ الأمر في فساد السريرةِ عند هذا الحد، بل قد يتعداه إلى مناصبة العداء للداعين إلى الحق  أو التشهير بهم  والتشكيك في نواياهم، ومحاولة إحباط جهودهم الخيرة. ومنها : شدة الخوف من الله عز وجل، ومراقبته في السر والعلن، والمبادرةِ بالتوبة والإنابة من الذنب، وبعكس ذلك ضعف الوازع الديني، وقلة الخوف من الله ، بحيث إذا خلا بمحارم الله عز وجـل انتهكها، وإذا فعل معصيةً لم يتب منها، بل أصر عليها .  ومنها : قبول الحق والتسليم له ، من أي جهة كانت  وبعكس ذلك التعصب للأخطاء، والجدال بالباطل   وإتباع الهوى في ذلك. فاللهَ اللهَ في إِصْلاحِ السَّرَائِرِ؛ فَإِنَّهُ ما يَنْفَعُ مَعَ فَسَادِهَا صَلاحٌ ظَاهِرٌ قَالَ تعالى: ﴿ يعلم سركم وجهركم ﴾ التوبة 9 . فدَاوِ قلبك وأصلحهُ يا أخي فإنَّ مرادَ الله من العباد صلاح قلوبهم ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم  : ( إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الجَنَّةِ، فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَإنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ، فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ )   وإن إصلاح السريرة من أهم عوامل ارتقاء العبد عند الله   كان لقمان الحكيم يقول لابنه : يا بني اتق الله ، ولا ترِ الناس أنك تخشى الله عز وجل ليكرموك بذلك وقلبك فاجر  ، كثيرٌ من الناس إذا اختلى بنفسه أو سافر وحده فإنه يعصي ربه ومولاه المطَّلع عليه ، الذي لا تخفى عليه خافية، ويبارز الله بالمعاصي والآثام ولا يبالي ، ويسعى جهده أن يخفيها عن الخلق ، يُعظم نظر المخلوق إليه أكثر من نظر الخالق إليه  يحترم ويقدر المخلوق أكثر من احترامه وتقديره للخالق ، يتأدب مع المخلوق  أكثر من تأدبه مع الخالق ، يستحي من المخلوق ، أكثر من استحيائه من الخالق  يعتذر إلى المخلوق إذا أخطأ في حقه   ولا يعتذر إلى الخالق إذا قصر في حقه   

فالله الله في السرائر : قال ابن الجوزي رحمه الله : والله لقد رأيت من يكثر الصلاة والصوم والصمت، ويتخشع في نفسه ولباسه، والقلوب تنبو عنه وقدره في النفوس ليس بذاك ، والله الله في السرائر، فإنه ما ينفع مع فسادها صلاح ظاهر ويوضحُ هذا قوله صلى الله عليه وسلم : ( ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب ) .

 

 

 

 

مؤامرة تحديد النسل

كشفت الإحصائيات أن العالم يتضاعف تلقائياً كل خمسة وأربعون عاماً . وكمسلمين نؤمن بان الله هو الخالق والكون كله له ، وأن ظاهرة التفوق البشري ظاهرة طبيعية . إلا أن ظاهرة تقلص حجم المواليد في عالم الغرب  وزيادة هذا الحجم في عالم الإسلام من الظواهر التي تزعج الغرب الكافر إزعاجاً شديداً ، لأنهم يحسون بمدى الخطر الذي ينتظرهم نتيجة نضوب المواليد وتنازل نسبها ، بينما تزداد هذه النسبة وتتضاعف في بلاد المسلمين . ومن هنا نجد أن الغرب يشن حملة شديدة وعنيفة على هذه الزيادة المضطردة ، بوصفها بعيدة الأثر في عالم الإسلام ، تحت إسم الانفجار السكاني ويجند لها عشرات من الأقلام والمفكرين والساسة  دون أن يشير إلى حقيقة الموقف وطبيعة التحول الحضاري والاجتماعي الذي يوحي بأن فساد المجتمعات الغربية قد أدى الى تدني نسبة المواليد  نتيجة انصراف المرأة الغربية عن رسالتها  وكراهيتها الشديدة للولادة وتربية الاولاد والاسراف في عمليات الزواج غير الشرعي  وظاهرة اللقطاء واستعمال حبوب منع الحمل ، رغم ما تقدمه حكومات الغرب من اغراءات وتشجيع للزواج والولادة ، في الوقت الذي تُشَنُ حملة شديدة على الولادة المتزايدة في البلاد العربية والاسلامية ، حيث تنفق ملايين كثيرة من أجل تحديد النسل وتعقيم الرجال ، والإغراء بإعطاء الحبوب واللوالب وغيرها من أجل تقليل نسبة المواليد  لأن الغرب يرى في ظاهرة التقلص في مواليده وزيادة نسبة مواليد البلاد النامية ، خطراً شديداً على نفوذه ، وعلى المقدرات التي يحصل عليها من الخامات والثروات والمواد الأولية وعلى كل ما يعينه على التفوق والتقدم التقني ، وفي الوقت الذي يعلن فيه البابا عن رأيه صراحة في تأييد المسيحية لكثرة النسل ، نجد أنهم يجبرون المسلمين في مناطق كثيرة من العالم على التعقيم الإجباري ، كما حصل لمسلمي الهند على يد انديرا نماندي ، مما يدل على اكذوبة تهديد العالم الثالث بنضوب الثروات .

إن ظاهرة الانحسار السكاني تخيف الغرب وتقلق القائمين على مقاليد الأمور فيه فأمريكا تتجه نحو حالة الصفر في النمو السكاني ، أي أنها تقف عند النقطة التي يكون فيها عدد المواليد مساوياً لعدد الوفيات ، مما يؤدي إلى انخفاض القوة العاملة ، والذي يؤدي بدوره إلى ركود الانتاج  يقول البروفسور خورشيد في جامعة كراتشي في بحث له عن سوء نية الأوروبيين بإدامة سيطرتهم على الشعوب النامية " إن اسيا والعالم الإسلامي هي أكبر مناطق الأرض اليوم ازدحاماً بالسكان  وما عدد السكان في البلاد الغربية بالقياس اليها إلا قليل  وإن هذا التفوق السكاني سوف يقضي على الأسس التي أقامها الغرب لسيادته السياسية في العالم منذ القرون الخمسة الماضية . وأشار في بحثه إلى أن عدد السكان في بلاد الشرق  أكبر بدرجات من عدد السكان في الغرب ، وأن هذا معناه أنه ليس في الإمكان بقاء شعوب الشرق محكومة مغلوبة على أمرها  بعد تدربها على الآلات المكانيكية وتصنيعها في العلوم الفنية  ويتابع قائلاً : إن أية محاولة للحد من زيادة السكان في الشرق ، عن طريق تحديد النسل ومنع الحمل مسألة فاشلة تماماً ".

إن المحاولة الخطيرة التي يقوم بها الغرب لإيقاف النمو السكاني والتفوق البشري في عالم الإسلام وتحويل ارادة المسلمين والعرب لتوجيه مقدراتهم وثرواتهم ومقدرتهم الاقتصادية والمالية إلى طريق الاستهلاك والترف ، يجب أن تسترعي اهتمام المسئولين فيه . يقول الدكتور خورشيد : إن هذيان أمريكا وكل ما تبذل من النصائح والمواعظ عن مشكلة السكان ، إنما هو نتيجة إلى حد كبير لشعورها بخطر تلك النتائج والمؤثرات السياسية المتوقعة على أساس تغير الأحوال في اسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية . يقول العلامة علال الفاسي :"إن أكبر الخطر أن تدّرس حركة تحديد النسل منفصلة عن سياقها السياسي والتاريخي ، فحين لا نستطيع أن نفهمها على حقيقتها ، ولا أن نرسم لإنفسنا خطة عملية راشدة إلا داخل نطاق التحدي ، إذا اضفنا إلى هذا الخطط الصهيونية لإجلاء العرب عن الشرق الاوسط ، وتهجير أكبر عدد ممكن من اليهود اليه  وخلق حركات داخل كل بلد إسلامي وعربي  من الاقليات التي يصل بها التعصب احياناً إلى الانفصال  ،  إذا أضفنا هذا عرفنا أن التنقيص في عدد المواليد لا يخدم إلا مصلحة الاستعمار والصهيونية  "

إن حمل الأمة الإسلامية أو تشجيعها على تطبيق فكرة تحديد النسل ، جريمة بحق هذه الأمة لا يقوم بها إلا جاهل بالحقيقة غافل عن النتائج ، أو ساقط في شبكة مكيدة من المكائد الكبرى التي تدبر ضد المسلمين للحد من تزايد طاقاتهم البشرية ، ولا تجوز المشاركة في المؤتمرات العالمية التي تدعو وتشجع على تحديد النسل ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم  حث على الزواج من المرأة الودود الولود ، ليكاثر الأمم بالسلالات الإسلامية ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  في الحديث الذي رواه أبو داود والنسائي : ( تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم )  وعليه لا يجوز للإنسان إن ينظم تخطيطاً جماعياً على الشكل الذي تدعوا اليه منظمات الكفر، لأن ذلك يتنافى مع مقاصد الشريعة التي جعلت من غايات الأسرة تكثير النسل ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : (تناكحوا تناسلوا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة ) . وقد نص الامام الشاطبي في الموافقات : على أن مما اجمعت عليه الملل والنحل وجوب حفظ المال والنفس والعِرض والنسل ، فمحاولة المساس بواحدة من هذه الأربعة بغير حق مناف للشرائع كلها ولا يقع إلا من الظالمين الذين قال الله تعالى فيهم : ﴿ وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد ﴾ البقرة 205 . وقد التبس على بعض المتملقين ، ما قاله بعض الفقهاء في مسألة اباحة العزل ، مع أن قضية العزل هي غير قضية التخطيط العائلي ، لأنها مسألة تتعلق بحالات فردية اختيارية ، لا تتدخل فيها الدولة ولا تنظمها ولا تدعو اليها ولا تجعلها جزءاً من برنامجها . يقول العلامة علال الفاسي :" أما ادعاء أن التنقيص من عدد السكان ضروري لتنفيذ التخطيطات الاقتصادية وتحقيق النمو فهو خطأ  من الناحية الاقتصادية ومن الناحية الاجتماعية ، لأن المواليد لا يولدون بإفواههم فقط ، بل يولدون بعقولهم وسواعدهم ، فهم مادة وعامل قوي في النمو الاقتصادي وتقوية الانتاج    وليسوا مجرد طفيليين في المجتمع . وان عجز التدبير من الحاكمين وسوء توزيع الثروة على المواطنين والتخلي عن الاقاليم للمستعمرين ، هو الذي يدفع إلى هذا التفكير الكسول ، الذي يرضى بهذه التدابير غير الانسانية  ولا يعلم أن مقتضيات التطور الحديث يقضي بتحمل الدولة لتكاليف العائلة . وأما قضية نضوب الموارد وعدم كفاية الأرزاق وانتشار المجاعة في العالم كما يدَّعي الغربيون فليست صحيحة ، لأن الله تعالى قد يسَّر طريق الرزق وجعله مستطاعا ، إلا أن صعوبة الرزق بدأت بعد أن تدخلت اهواء الناس ومطامعهم   وظهرت عمليات الاحتكار والاحتجاز، وعوامل التفرق والاستغلال ، فهي أزمة الجشع والتسلط وليست أزمة الرزق الذي أعطى الله عهده وميثاقه وأقسم على ذلك بضمانه لكل مخلوق حتى تطمئن النفس الإنسانية إلى عهد الله الصادق الأكيد الذي حفظ للإنسان الموارد التي لا تنضب ، في نفس الوقت فقد دعا إلى السعي في الأرض التي جعلها الله مستودعاً لأقوات المخلوقات جميعاً  المقضي لهم بأن يحيوا فيها إلى أن تقوم الساعة  وضمن حدود الآجال المقدرة لها في قضاء الله وقدره وما على الناس إلا أن يهتدوا إلى مفاتيح ابواب هذه المستودعات لتتدفق عليهم خيرات الأرض إن السبب الأول لمشكلة الجوع ، يكمن في صراع قوى الشّر على خيرات الأرض واحتكار مقدراتها ، وفي رفاهية الفئة القليلة على حساب شقاء الفئة الكثيرة .

الم نسمع عن احراق المحاصيل الزراعية للمحافظة على الغلاء وارتفاع الاسعار  ولو اتجه العالم إلى الانتاج السلمي فقط ، لزادت خيرات الأرض عن حاجة اهلها   

نشرت مجلة اليونكسو بحثاً جاء فيه: "إن تكاليف قذيفة نووية واحدة تكفي لبناء 75 مستشفى في كل واحد منها مئة سرير بكامل المعدات أو شراء خمسين الفا من الجرارات الزراعية التي يمكن أن تحرث ملايين الأفدنة بدلاً من حرثها بمن عليها بقنابل الدمار " . ولو صح الرأي القائل : إن خيرات الأرض واقواتها لا تفي بحاجة أهلها ، لكان معنى هذا أن الله لم يحسن التقدير والتدبير ، أو أنه اخطأ في تقدير ما يحتاجونه من الأقوات ، تعالى الله عما يقول الجاهلون . إن حل مشكلة الجوع لا يكون بالحروب ولا بتحديد النسل ، ثم ما جدوى هذا التحديد ما دام في الناس ظالم ومظلوم وآكل ومأكول ، إن الحل لا يكون إلا بإزالة الموانع التي تحول بين الإنسان واسباب معيشتة واستغلال ميزات الأرض لإنتاج الغذاء والكساء ، لسد كل ما يحتاجه الإنسان الحاضر والآتي ، وما على الإنسان إلا العمل على استخراج الأقوات من مستودعات الأرض وخزائنها . قال تعالى : ﴿ قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين ، وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدَّر فيها أقواتها في أربعة ايام سواء للسائلين ﴾ فصلت 9 .

   

 

            

 

 

 

 

الاستعاذة من الشيطان

إن التعوذ بالله من الشيطان الرجيم هو أفضل العبادات ، والاستعاذة أحصنُ حِصْنٍ لدين المؤمن من كيد الشيطان الرجيم ، وأحرز حرز من وساوسه . والمستعيذ بالله من الشيطان الرجيم  معتصمٌ بحبل الله المتين ، ذكر بن الجوزي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من استعاذ بالله في اليوم عشر مرات من الشيطان الرجيم ، وكلّ الله به ملكاً يذود عنه شر الشيطان ، كما تذاد الغريبة من الإبل عن الحوض ، فكيف لا يسلم المستعيذ بالله من الشيطان ، والملك يذود عنه بأمر الملك الديان).

 

ومن أراد أن يقرأ القرآن فليستعذ بالله ، لأن التعوذ بالقرآن هو الشفاء من آفات الشيطان وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ من آفات كثيرة تواترت بها الأخبار , فقد تعوّد من البخل والجبن والكسل وعذاب القبر ، وتعوَّذ من الشيطان الرجيم الذي نهى الله عن طاعته لأن من أطاعه خذله وصده عن هدى الله ، وفتح في قلبه أبواب الضلالة والردى وقد دلت الأحاديث على أنه ما من أحد إلا ومعه شيطان ؟ لما روت عائشة أنها قالت : قلت يا رسول الله ما من أحد إلا ومعه شيطان ؟ قال : نعم , قالت : وأنت يا رسول الله قال : وأنا إلا أن الله أعانني عليه فأسلم ) رواه مسلم .   

فإذا أراد الله بعبد خيراً أبعد عنه شيطانه وأعانه عليه ، ونشّطه للطاعة وأزال عن بدنه الكسل فاقبل على الله وآثر رضاه على هواه . وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الشيطان  يفرح بالإنسان العاصي لربه عندما قال : ( إذا بلغ الرجل أربعين سنة ولم يغلب خيره على شرّه قبله الشيطان بين عينيه , وقال : فديت وجهاً لا يفلح أبداً ) .

أما معصية الشيطان فهي من خصال الخير قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه :" من جمع ست خصال لم يدع للجنة مطلباً ولا عن النار مهرباً أولها : من عرف الله فأطاعه والثانية : من عرف الشيطان فعصاه , والثالثة : من عرف الحق فاتبعه   والرابعة : من عرف الباطل فاجتنبه والخامسة : من عرف الدنيا فأعرض عتها والسادسة : من عرف الجنة فطلبها . أبي سعيد الخدري قال : رأيت إبليس اللعين في المنام منكوساً فهممت أن أقرعه بالعصا فقال لي : يا أبا سعيد أما علمت أني لا أخاف من العصا ولا من الأسلحة ، فقلت له : يا ملعون فما الذي تخافه ، قال : أخاف من شيئين : أحدهما استعاذة المستعيذين والثاني : شعاع معرفة الصادقين .  وللوقاية من شرّ الشياطين أمر الله بالاستعاذة بالله منها فقال تعالى : ﴿ وإما ينـزغنّك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ﴾ فصلت 46.  كما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الدعاء الذي يعصم من الشياطين فقال : ( من قال حين يصبح وحين يمسي : أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم قال قرينه عوفي هذا العبد مني اليوم ) .

وجاء الأمر بالتعوذ في آية أخرى قال تعالى :

﴿ فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ﴾ النحل 98. ويمكن أن نتجنب شرّ الشياطين فنصنع كما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة كادته الشياطين كما رُوِيَ أنها تحدّرت ليلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأودية والشعاب وفيهم شيطان بيده شعلة نار يريد أن يحرق بها وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهبط إليه جبريل عليه السلام فقال : يا محمد ! قل ،  قال ماذا أقول ؟ قال : ( قل أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق وذرأ ومن شرّ ما ينـزل من السماء ، ومن شرّ ما يعرج فيها ومن شرّ فتن الليل والنهار ومن شرّ كل طارق إلا طارقاً يطرق بخير يا رحمان ، فطفئت نارهم وهزمهم الله ) . وروى عن بعض السلف أنه قال لتلميذه : " ما تصنع بالشيطان إذا سوّل لك الخطايا ؟ قال : أجاهده قال : فإن عاد ؟ قال أجاهده قال : فإن عاد قال : أجاهده قال هذا يطول أرأيت إن مررت بغنمٍ فنبحك كلبها أو منعك من العبور ما تصنع ؟ قال أكابده أو أرده جهدي قال : هذا يطول عليك ، ولكن استعن بصاحب الغنم يكفه عنك " . وقد ذُكر عن أبي سعيد أنه قال في قوله تعالى : ﴿ إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ﴾ كأن يقول إن كان لك عليهم سلطان أن تلقيهم في معصية الله ، فليس لك عليهم أن تمنعهم من مغفرة الله . وقد دلت الأحاديث على أن للشياطين أعوانٌ من بني آدم فقد روى عن النبي الاستعاذة من الشيطان إن التعوذ بالله من الشيطان الرجيم هو أفضل العبادات ، والاستعاذة أحصنُ حِصْنٍ لدين المؤمن من كيد الشيطان الرجيم ، وأحرز حرز من وساوسه . والمستعيذ بالله من الشيطان الرجيم  معتصمٌ بحبل الله المتين ، ذكر بن الجوزي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من استعاذ بالله في اليوم عشر مرات من الشيطان الرجيم ، وكلّ الله به ملكاً يذود عنه شر الشيطان ، كما تذاد الغريبة من الإبل عن الحوض ، فكيف لا يسلم المستعيذ بالله من الشيطان ، والملك يذود عنه بأمر الملك الديان). ومن أراد أن يقرأ القرآن فليستعذ بالله ، لأن التعوذ بالقرآن هو الشفاء من آفات الشيطان وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ من آفات كثيرة تواترت بها الأخبار , فقد تعوّد من البخل والجبن والكسل وعذاب القبر ، وتعوَّذ من الشيطان الرجيم الذي نهى الله عن طاعته لأن من أطاعه خذله وصده عن هدى الله ، وفتح في قلبه أبواب الضلالة والردى وقد دلت الأحاديث على أنه ما من أحد إلا ومعه شيطان ؟ لما روت عائشة أنها قالت : قلت يا رسول الله ما من أحد إلا ومعه شيطان ؟ قال : نعم , قالت : وأنت يا رسول الله قال : وأنا إلا أن الله أعانني عليه فأسلم ) رواه مسلم . فإذا أراد الله بعبد خيراً أبعد عنه شيطانه وأعانه عليه ، ونشّطه للطاعة وأزال عن بدنه الكسل فاقبل على الله وآثر رضاه على هواه .

وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الشيطان  يفرح بالإنسان العاصي لربه عندما قال : ( إذا بلغ الرجل أربعين سنة ولم يغلب خيره على شرّه قبله الشيطان بين عينيه , وقال : فديت وجهاً لا يفلح أبداً ) . أما معصية الشيطان فهي من خصال الخير قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه :" من جمع ست خصال لم يدع للجنة مطلباً ولا عن النار مهرباً أولها : من عرف الله فأطاعه والثانية : من عرف الشيطان فعصاه , والثالثة : من عرف الحق فاتبعه   والرابعة : من عرف الباطل فاجتنبه والخامسة : من عرف الدنيا فأعرض عتها والسادسة : من عرف الجنة فطلبها .

عن أبي سعيد الخدري قال : رأيت إبليس اللعين في المنام منكوساً فهممت أن أقرعه بالعصا فقال لي : يا أبا سعيد أما علمت أني لا أخاف من العصا ولا من الأسلحة ، فقلت له : يا ملعون فما الذي تخافه ، قال : أخاف من شيئين : أحدهما استعاذة المستعيذين والثاني : شعاع معرفة الصادقين .  وللوقاية من شرّ الشياطين أمر الله بالاستعاذة بالله منها فقال تعالى : )وإما ينـزغنّك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم( فصلت 46.

كما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الدعاء الذي يعصم من الشياطين فقال : ( من قال حين يصبح وحين يمسي : أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم قال قرينه عوفي هذا العبد مني اليوم ) . وجاء الأمر بالتعوذ في آية أخرى قال تعالى : ﴿ فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ﴾ النحل 98. ويمكن أن نتجنب شرّ الشياطين فنصنع كما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة كادته الشياطين كما رُوِيَ أنها تحدّرت ليلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأودية والشعاب وفيهم شيطان بيده شعلة نار يريد أن يحرق بها وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهبط إليه جبريل عليه السلام فقال : يا محمد ! قل ،  قال ماذا أقول ؟ قال : ( قل أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق وذرأ ومن شرّ ما ينـزل من السماء ، ومن شرّ ما يعرج فيها ومن شرّ فتن الليل والنهار ومن شرّ كل طارق إلا طارقاً يطرق بخير يا رحمان ، فطفئت نارهم وهزمهم الله ) .وروى عن بعض السلف أنه قال لتلميذه : " ما تصنع بالشيطان إذا سوّل لك الخطايا ؟ قال : أجاهده قال : فإن عاد ؟ قال أجاهده قال : فإن عاد قال : أجاهده قال هذا يطول أرأيت إن مررت بغنمٍ فنبحك كلبها أو منعك من العبور ما تصنع ؟ قال أكابده أو أرده جهدي قال : هذا يطول عليك ، ولكن استعن بصاحب الغنم يكفه عنك " . وقد ذُكر عن أبي سعيد أنه قال في قوله تعالى : ﴿ إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ﴾ كأن يقول إن كان لك عليهم سلطان أن تلقيهم في معصية الله ، فليس لك عليهم أن تمنعهم من مغفرة الله . وقد دلت الأحاديث على أن للشياطين أعوانٌ من بني آدم فقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إن للشياطين أعوانٌ من  بني آدم يبعثهم الملعون إلى المؤمنين ، يشغلونهم عن الصلاة وعن الصدقة   وعن ذكر الله ، ويحبب إليهم كسب السحت والحرام ، والذي بعثني بالحق ليعبدوا الدنيا والدرهم أشد عن عبادة الأوثان  ) . جاء في البحر المديد عن ابن جزي أن وسوسة الشيطان أنواعٌ كثيرة منها : فساد الإيمان والتشكيك في العقائد ، فإن لم يقدر ثبط عن الطاعات ، فإن لم يقدر على ذلك أدخل الرياء في الطاعات ليُحْبِطها ، فإن سَلِمَ أدخل عليه العُجْب بنفسه واستكثار عمله ، ومن ذلك أنه يوقد في القلب نار الحسد والحقد والغضب ، حتى يقود الإنسان إلى سوء الأعمال وأقبح الأحوال ، وعلاج وسوسته بثلاثة أشياء وهي : الإكثار من ذكر الله  والإكثار من الاستعاذة منه   وأنفع شيء في ذلك قراءة سورة الناس . اللهم إنا نعوذ بك من شرّ الشياطين وأعوانهم من الآدميين اللهم آمين .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مؤامرة تحديد النسل

كشفت الإحصائيات أن العالم يتضاعف تلقائياً كل خمسة وأربعون عاماً . وكمسلمين نؤمن بان الله هو الخالق والكون كله له ، وأن ظاهرة التفوق البشري ظاهرة طبيعية . إلا أن ظاهرة تقلص حجم المواليد في عالم الغرب  وزيادة هذا الحجم في عالم الإسلام من الظواهر التي تزعج الغرب الكافر إزعاجاً شديداً ، لأنهم يحسون بمدى الخطر الذي ينتظرهم نتيجة نضوب المواليد وتنازل نسبها ، بينما تزداد هذه النسبة وتتضاعف في بلاد المسلمين .

ومن هنا نجد أن الغرب يشن حملة شديدة وعنيفة على هذه الزيادة المضطردة ، بوصفها بعيدة الأثر في عالم الإسلام ، تحت اسم الانفجار السكاني ويجند لها عشرات من الأقلام والمفكرين والساسة  دون أن يشير إلى حقيقة الموقف وطبيعة التحول الحضاري والاجتماعي الذي يوحي بأن فساد المجتمعات الغربية قد أدى الى تدني نسبة المواليد  نتيجة انصراف المرأة الغربية عن رسالتها  وكراهيتها الشديدة للولادة وتربية الاولاد والاسراف في عمليات الزواج غير الشرعي  وظاهرة اللقطاء واستعمال حبوب منع الحمل ، رغم ما تقدمه حكومات الغرب من اغراءات وتشجيع للزواج والولادة ، في الوقت الذي تُشَنُ حملة شديدة على الولادة المتزايدة في البلاد العربية والاسلامية ، حيث تنفق ملايين كثيرة من أجل تحديد النسل وتعقيم الرجال ، والإغراء بإعطاء الحبوب واللوالب وغيرها من أجل تقليل نسبة المواليد  لأن الغرب يرى في ظاهرة التقلص في مواليده وزيادة نسبة مواليد البلاد النامية ، خطراً شديداً على نفوذه ، وعلى المقدرات التي يحصل عليها من الخامات والثروات والمواد الأولية وعلى كل ما يعينه على التفوق والتقدم التقني ، وفي الوقت الذي يعلن فيه البابا عن رأيه صراحة في تأييد المسيحية لكثرة النسل ، نجد أنهم يجبرون المسلمين في مناطق كثيرة من العالم على التعقيم الإجباري ، كما حصل لمسلمي الهند على يد انديرا غاندي ، مما يدل على اكذوبة تهديد العالم الثالث بنضوب الثروات .

إن ظاهرة الانحسار السكاني تخيف الغرب وتقلق القائمين على مقاليد الأمور فيه فأمريكا تتجه نحو حالة الصفر في النمو السكاني ، أي أنها تقف عند النقطة التي يكون فيها عدد المواليد مساوياً لعدد الوفيات ، مما يؤدي إلى انخفاض القوة العاملة ، والذي يؤدي بدوره إلى ركود الانتاج  يقول البروفسور خورشيد في جامعة كراتشي في بحث له عن سوء نية الأوروبيين بإدامة سيطرتهم على الشعوب النامية " إن اسيا والعالم الإسلامي هي أكبر مناطق الأرض اليوم ازدحاماً بالسكان  وما عدد السكان في البلاد الغربية بالقياس اليها إلا قليل  وإن هذا التفوق السكاني سوف يقضي على الأسس التي أقامها الغرب لسيادته السياسية في العالم منذ القرون الخمسة الماضية . وأشار في بحثه إلى أن عدد السكان في بلاد الشرق ، أكبر بدرجات من عدد السكان في الغرب ، وأن هذا معناه أنه ليس في الإمكان بقاء شعوب الشرق محكومة مغلوبة على أمرها  بعد تدربها على الآلات المكانيكية وتصنيعها في العلوم الفنية  ويتابع قائلاً : إن أية محاولة للحد من زيادة السكان في الشرق ، عن طريق تحديد النسل ومنع الحمل مسألة فاشلة تماماً ".

إن المحاولة الخطيرة التي يقوم بها الغرب لإيقاف النمو السكاني والتفوق البشري في عالم الإسلام  وتحويل ارادة المسلمين والعرب لتوجيه مقدراتهم وثرواتهم ومقدرتهم الاقتصادية والمالية إلى طريق الاستهلاك والترف ، يجب أن تسترعي اهتمام المسئولين فيه .  يقول الدكتور خورشيد : إن هذيان أمريكا وكل ما تبذل من النصائح والمواعظ عن مشكلة السكان ، إنما هو نتيجة إلى حد كبير لشعورها بخطر تلك النتائج والمؤئرات السياسية المتوقعة على أساس تغير الأحوال في اسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية . يقول العلامة علال الفاسي :"إن أكبر الخطر أن تدّرس حركة تحديد النسل منفصلة عن سياقها السياسي والتاريخي ، فحين لا نستطيع أن نفهمها على حقيقتها ، ولا أن نرسم لأنفسنا خطة عملية راشدة ، إلا داخل نطاق التحدي  إذا اضفنا إلى هذا الخطط الصهيونية لإجلاء العرب عن الشرق الاوسط ، وتهجير أكبر عدد ممكن من اليهود اليه  وخلق حركات داخل كل بلد إسلامي وعربي  من الاقليات التي يصل بها التعصب احياناً إلى الانفصال  ،  إذا أضفنا هذا عرفنا أن التنقيص في عدد المواليد لا يخدم إلا مصلحة الاستعمار والصهيونية  "

إن حمل الأمة الإسلامية أو تشجيعها على تطبيق فكرة تحديد النسل ، جريمة بحق هذه الأمة لا يقوم بها إلا جاهل بالحقيقة غافل عن النتائج ، أو ساقط في شبكة مكيدة من المكائد الكبرى التي تدبر ضد المسلمين ، للحد من تزايد طاقاتهم البشرية ، ولا تجوز المشاركة في المؤتمرات العالمية التي تدعو وتشجع على تحديد النسل ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم حث على الزواج من المرأة الودود الولود ، ليكاثر الأمم بالسلالات الإسلامية ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو داود والنسائي : ( تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم )  وعليه لا يجوز للإنسان إن ينظم تخطيطاً جماعياً على الشكل الذي تدعوا اليه منظمات الكفر   لأن ذلك يتنافى مع مقاصد الشريعة التي جعلت من غايات الأسرة تكثير النسل ، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (تناكحوا تناسلوا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة ) .  وقد نص الامام الشاطبي في الموافقات : على أن مما اجمعت عليه الملل والنحل وجوب حفظ المال والنفس والعِرض والنسل ، فمحاولة المساس بواحدة من هذه الأربعة بغير حق مناف للشرائع كلها ولا يقع إلا من الظالمين الذين قال الله تعالى فيهم : ﴿ وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد ﴾ البقرة 205 . وقد التبس على بعض المتملقين ، ما قاله بعض الفقهاء في مسألة اباحة العزل ، مع أن قضية العزل هي غير قضية التخطيط العائلي ، لأنها مسألة تتعلق بحالات فردية اختيارية ، لا تتدخل فيها الدولة ولا تنظمها ولا تدعو اليها ولا تجعلها جزءاً من برنامجها . يقول العلامة علال الفاسي :" أما ادعاء أن التنقيص من عدد السكان ضروري لتنفيذ التخطيطات الاقتصادية وتحقيق النمو ، فهو خطأ  من الناحية الاقتصادية ومن الناحية الاجتماعية ، لأن المواليد لا يولدون بأفواههم فقط ، بل يولدون بعقولهم وسواعدهم ، فهم مادة وعامل قوي في النمو الاقتصادي وتقوية الانتاج    وليسوا مجرد طفيليين في المجتمع .  وان عجز التدبير من الحاكمين وسوء توزيع الثروة على المواطنين ، والتخلي عن الاقاليم للمستعمرين ، هو الذي يدفع إلى هذا التفكير الكسول ، الذي يرضى بهذه التدابير غير الانسانية  ولا يعلم أن مقتضيات التطور الحديث يقضي بتحمل الدولة لتكاليف العائلة . وأما قضية نضوب الموارد وعدم كفاية الأرزاق وانتشار المجاعة في العالم كما يدَّعي الغربيون فليست صحيحة ، لأن الله تعالى قد يسَّر طريق الرزق وجعله مستطاعا ، إلا أن صعوبة الرزق بدأت بعد أن تدخلت اهواء الناس ومطامعهم   وظهرت عمليات الاحتكار والاحتجاز ، وعوامل التفرق والاستغلال ، فهي أزمة الجشع والتسلط وليست أزمة الرزق الذي أعطى الله عهده وميثاقه وأقسم على ذلك بضمانه لكل مخلوق حتى تطمئن النفس الإنسانية إلى عهد الله الصادق الأكيد الذي حفظ للإنسان الموارد التي لا تنضب ، في نفس الوقت فقد دعا إلى السعي في الأرض التي جعلها الله مستودعاً لأقوات المخلوقات جميعاً  المقضي لهم بأن يحيوا فيها إلى أن تقوم الساعة  وضمن حدود الآجال المقدرة لها في قضاء الله وقدره وما على الناس إلا أن يهتدوا إلى مفاتيح ابواب هذه المستودعات لتتدفق عليهم خيرات الأرض .

إن السبب الأول لمشكلة الجوع ، يكمن في صراع قوى الشّر على خيرات الأرض واحتكار مقدراتها ، وفي رفاهية الفئة القليلة على حساب شقاء الفئة الكثيرة .

الم نسمع عن احراق المحاصيل الزراعية للمحافظة على الغلاء وارتفاع الاسعار  ولو اتجه العالم إلى الانتاج السلمي فقط ، لزادت خيرات الأرض عن حاجة اهلها   

نشرت مجلة اليونسكو بحثاً جاء فيه: "إن تكاليف قذيفة نووية واحدة تكفي لبناء 75 مستشفى في كل واحد منها مئة سرير بكامل المعدات أو شراء خمسين الفا من الجرارات الزراعية التي يمكن أن تحرث ملايين الأفدنة بدلاً من حرثها بمن عليها بقنابل الدمار " .  ولو صح الرأي القائل : إن خيرات الأرض واقواتها لا تفي بحاجة أهلها ، لكان معنى هذا أن الله لم يحسن التقدير والتدبير ، أو أنه اخطأ في تقدير ما يحتاجونه من الأقوات ، تعالى الله عما يقول الجاهلون . إن حل مشكلة الجوع لا يكون بالحروب ولا بتحديد النسل ، ثم ما جدوى هذا التحديد ما دام في الناس ظالم ومظلوم وآكل ومأكول ، إن الحل لا يكون إلا بإزالة الموانع التي تحول بين الإنسان واسباب معيشتة واستغلال ميزات الأرض لإنتاج الغذاء والكساء ، لسد كل ما يحتاجه الإنسان الحاضر والآتي ، وما على الإنسان إلا العمل على استخراج الأقوات من مستودعات الأرض وخزائنها . قال تعالى : ﴿ قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين ، وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدَّر فيها أقواتها في أربعة ايام سواء للسائلين ﴾ فصلت 9 .

   

 

            

 

 

 

 

معنى التوحيد

 التوحيد : هو واجب الله على بني الإنسان ، بأن يعبدوه ويوحدوه ، في أُلوهيته وربوبيته ، ولا يشركوا به شيئا ، لقوله تعالى : ﴿ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ﴾ الذاريات 56 . والتوحيد تحقيق لمضمون لا إله إلا الله ، الكلمة التي تجمع دين الله ، والتي قامت عليها رسالات الأنبياء جميعاً ،كما أخبر تعالى :    ﴿ وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ ، إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ﴾ الأنبياء 25 . إنه العبادة التي كلف الله بها عباده ، أمراً بكل ما فرضه الله تعالى وأوجبه ، أو رغب فيه من الطاعات وحظراً بكل ما نهى عنه ونفَّر منه ، أو كرهه الله تعالى من المحرمات .   وسبب التكليف هذا ، هو الابتلاء من الله ، ليظهر به المحسن من المسيء ، لقوله تعالى : ﴿ ليبلوكم أيكم أحسن عملا ﴾ هود 7. ومشروعية التكليف هذه ، مبنية على الزام الرب ، والتزام العبد .إلزام يتمثل بفعل المأمور ، وترك المحظور بلا تفريط . والتزام يتمثل بما يوجبه العبد على نفسه لربه ، بطريق النذر .

 ما هي أركان التوحيد ؟  هي الإسلام ، والإيمان ، والإحسان ، فالإيمان به : هو التصديق بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم مما علم من الدين بالضرورة ، وقد فسره النبي عليه السلام ، في الحديث الطويل الذي رواه مسلم ، عن عمر بن الخطاب ، عندما سأل جبريل النبي عليه السلام قال : (فأخبرني عن الإيمان ، قال : أن تؤمن بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله واليوم الآخر : وتؤمن بالقدر خيره وشره ).

 وأما الإسلام له ، فيكون بالامتثال والانقياد لما جاء به النبي عليه السلام ، مما علم من الدين بالضرورة ، أو قام عليه الدليل اليقيني . وقد فسره رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل الذي رواه البخاري (قال:يا محمد أخبرني عن الإسلام ،قال : الإسلام أن تشهد أن لا اله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا) . إن الإيمان ، من الباطن الذي يستقر في القلب ، نيةً واعتقاداً . وإن الإسلام هو الظاهر الذي يتجلى في عمل الجوارح . وإن كمال الإيمان وتمام الإسلام ، هو الإحسان الذي فسره النبي عليه السلام بقوله : (أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ).

فما هي مراتب العبادات إذن في دين التوحيد ؟

إنها مندرجةٌ من الأهم إلى المهم ، وقد قسمت المأمورات تبعاً لذلك ، إلى الركن والفرض والواجب والمسنونات . كما قسمت المحظورات ، إلى الكبائر والصغائر والمكروهات .

ومن أكبر الكبائر الكفر ، وهو على أربعة أنحاء :   

 الأول : كفر إنكار : بأن لا يعرف الله أصلاً ولا يعترف به ، بأن يكفر بقلبه ولسانه ، ولا يعرف ما يُذكرُ له من التوحيد ، كما في قوله تعالى : ﴿ إن الذين كفروا سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ﴾ البقرة 6 ، أي الذين كفروا بتوحيد الله .

الثاني : كفر جحود : بأن يعترف بقلبه ، ولا يقرَّ بلسانه ، فهو جاحدٌ كافر ككفر إبليس ، ومنه قوله تعالى : ﴿ فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ﴾ البقرة 89 

الثالث : كفر معاندة : أن يعترف بقلبه ويُقرَّ بلسانه ، ويأبى أن يقبل كأبي طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم .

الرابع : كفر النفاق : بأن يقرَّ بلسانه ويكفر بقلبه ولا يعتقد .

واعلم يا أحي المسلم ، أن من سب الله أو دينه ، كما هو حال كثيرٍ من الناس ، ومنهم من يرتاد المساجد ، ويحافظ على الجمع والجماعات ، ليعلم هؤلاء أن من أتى بلفظ الكفر حبط عمله ، وتقع الفرقة بين الزوجين ، ويجدد النكاح بعد تجديد الإيمان ، والتبرّي من لفظ الكفر ، ولو أتى بالشهادة عادةً ولم يرجع عما قال ، لا يرتفع الكفر عنه ، ويكون وطؤه زنا ، وولده ولد زنا .   

ما هي أقسام التوحيد؟  توحيد الربوبية ، و الألوهية ، والأسماء والصفات .

فما هو توحيد الربوبية ؟ هو توحيد الله بجمع أفعاله ، من الخلق والرزق ، والإماتة والإحياء ، وإمساك السموات والأرض من الزوال .

أما توحيد الألوهية : هو توحيد الله من عباده ، بجميع ما يفعلونه ، ومما شرع لهم من العبادات التي تعبدهم بها ، وهذا ما جحده الكفار ، وخاصموا رسلهم من أجله ، فأوجب الله جهادهم ، وأباح دمائهم وأموالهم .

وأما توحيد الأسماء والصفات : فهو الإيمان بكل ما ورد في القرآن الكريم والسنة النبوية ، من صفات الله ، نصفه بها كما وصف نفسه ، وكما وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم، بلا تكييف ولا تعطيل ، ولا تشبيه ولا تمثيل ، ولا تحريف ولا تأمين ،لأن ذلك خروج بها عن حقيقتها ، إلى الميل والإلحاد في معانيها ، قال تعالى : ﴿ وذروا الذين يلحدون في أسمائه ، سيجزون ما كانوا يفترون ﴾ الأعراف 130 .

وأخيراً ما هي أصول التوحيد ؟  هي معرفة العبد ربه ودينه ونبيه ، وذلك يكون بمعرفة آياته ومخلوقاته ، وأثار قدرته في كل شيء . وطريق الوصول إليها يكون بكتاب الله ، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وهذه الأصول هي :

   أولاً : الأيمان بربوبية الله .

   ثانيا : الأيمان بملائكته .

  ثالثاً : الأيمان بكتبه . 

  رابعاً : الأيمان برسله . 

 خامساً : الأيمان باليوم الآخر . 

 سادساً : الأيمان بالقدر : نؤمن به ولا نحتج به ، فلوا كان القدر حجه للعباد ،لم يعذب أحداً من الخلق ، لا في الدنيا ولا في الآخرة ، ولما أقيم الحد على ذي جريمة ، وعندما سئل النبي عليه السلام عن هذا قال ( ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ، ومقعده من النار . فقيل يا رسول الله ، أفلا ندع العمل ؟ ونتكل على الكتاب ؟ قال : لا . اعملوا فكل ميسر لما خلق له ) ثم قرأ :   ﴿ فأما من أعطى واتقى ،وصدَّق بالحسنى ، فسنيسره لليسرى ، وأما من بخل واستغنى  وكذب بالحسنى ، فسنيسره للعسرى ﴾ الليل 6 . فالله سبحانه علم الأمور   وكتبها على ما هي عليه ، بناءً على علمه المسبق بأفعال العباد ، فقد كتب الله ما يصير إليه العباد ، من الشقاوة والسعادة ، وجعل الأعمال سبباً للثواب والعقاب .

سابعاً : الإخلاص في العمل : وحقيقته النية بسلامتها ، وذلك بطمأنينة القلب وحُسن القصد والسكينة واليقين ، مع التسليم للمأمور ، والرضى بالمقدور ، والإعراض عن المحظور .

ثم الكلمة بصدقها ، بعيداً عما يهدم الأعمال كلياً وجزئياً ، من النفاق والكذب  والخيانة والرياء والسمعة والشك والشبهة .

 ثامناً : الحب والكره لله وفي الله ، وكره من كرههم الله ، وذلك من ثمرات الإخلاص .

 تاسعاً : الخشية والرجاء .

 فالخشية : تعظيم الله خوفاً من عقابه .

 والرجاء : إحسان الظن بالله تعالى ، أملاً في ثوابه ، ودفع النفس إلى الطاعة ، ومنعها من المعصية .               

العاشر : الولاء . ويقصد به الدخول في الإيمان والإسلام والطاعة ، ونصره الله ورسوله للمؤمنين وطريق الموالاة لله ، تكون بإتباع كتابه الكريم ، وللرسول بالاقتداء بسنته ، وللمؤمنين بالتذلل لهم وخفض الجناح ولين الجانب ، وإخلاص النصح وبذل المشورة .   

 الحادي عشر : التبرؤ من الجاهلين : والتبرؤ الخروج من الكفر ، والشرك والمعصية .

الثاني عشر : الدعاء : وهو إعلان من العبد عن عبوديته ، وضعفه وعجزه ، وإعلان عن ربوبية الله وقدرته وحمديته  .

الثالث عشر : وهي الرجوع عن المعصية والدخول في الطاعة .

الرابع عشر : ابتغاء الوسيلة وطلب الشفاعة : وهي التقرب إلى الله بعمل صالح وطلب الشفاعة وهي التقرب إلى الله به تعالى ، أو بكرامة عمل صالح ، أو بدعاء كريم عند الله من نبي مرسل ، أو ولي صالح من المؤمنين ، وقد اتفق المفسرون على أنها القربة والطاعة . و شفاعة الله معينته ورحمته ورضوانه ومغفرته  أما شفاعة الملائكة ، فهي استغفارهم لمن في الأرض ، والصيغة المشروعة في طلب الشفاعة : أن يتوسل إلى ربه فيقول : اللهم اشفع لي ، أو يقول اللهم شفِّع فيَّ ملائكتك ، وكتبك ورسولك المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم.

 الخامس عشر : الحلف بالله . 

السادس عشر : النذر لله : وهو أن يوجب العبد على نفسه لربه ما يفعله ، أو يتركه بصيغة النذر والوفاء به واجبٌ شرعاً ، ولا يقبله الله إلا بشرط التقوى والإخلاص ، لقوله تعالى : ﴿ إنما يتقبل الله من المتقين ﴾ المائدة 27 .

 السابع عشر : الذبح لله : وهو من النسك ، وهو عبادةٌ تصرف لله وحده ، ومن صرفها لغير الله فقد أشرك ، لقوله تعالى : ﴿ إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له ﴾ الأنعام 162 ، وتعظيم الله في الذبح ، يكون بذكر أسمه عليها دون غيره ، والتقرب بها إلى الله وحده دون سواه .

 الثامن عشر : الجهاد في سبيل الله : وهو بذل الجهد في القتال ، لدفع الظالمين المستكبرين ، والدفاع عن المظلومين من المستضعفين ، لإعلاء كلمة الله على الأرض كلها .

التاسع عشر : الهجرة في سبيل الله : وهي الانتقال في مرحلة الضعف والعجز  من دار الكفر والظلم إلى دار الإسلام والعدل ، فرارا بالدين وطلباً لنصره المسلمين .

العشرون : الحكم والتحاكم : الحكم بما أنزل الله ، والتحاكم إلى ما أنزل الله والحكم في الإسلام يقوم على أسس وأصول ، من الالتزام بالشورى ، والحق والعدل ، وتحقيق المساواة ، والحرية والإخاء ، ورعاية شؤون الناس ، من جلب المنافع لهم ، ودفع المضار عنهم ، وتنفيذ الحدود وإعلان  الجهاد ، وإظهار الشعائر ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .

الحادي والعشرين : شعائر الإسلام وشعائر الكفر : شعائر الإسلام : هي العبادات التي يعرف بها المسلم ، أو يحكم له بوصف الإسلام ، وتتمثل في الأركان من المسنونات .  أما شعائر الكفر : فهي معاصٍ صغيرة وكبيرة ، يعرف بها الكافر ، و أعظمها نقص الأركان ، وقول الزور والزنى ، وقتل النفس وأكل الربا .

الثاني والعشرون : البسملة والحمد له : والبسملة هي أول ما أمر الله به نبية : في أول ما أنزل من قرآن . قال تعالى : ﴿ اقرأ باسم ربك الذي خلق ﴾ وفي البسملة تعظيم لمقام الرب بذكر اسمه ، ونسبة الفعل إليه ، وفيه تأدبٌ وخضوعٌ من العبد  وأما الحمد له ، فيدخل فيه الثناء ، وهو حمد باللسان والشكر حمدٌ في مقابل النعمة ، ويعمّ الحمد فيكون على النقمة كذلك ،لأن الله يبتلي عبده بالنعمة والنقمة ، يشكر في الأول ، ويصبر ويحتسب في الثانية .

وإذا كان الحمد مطلوباً في السراء والضراء ، فإن الشكر مطلوب لتدوم النعم وتزيد لقوله تعالى : ﴿ لئن شكرتم لأزيدنكم ﴾ إبراهيم 7 ، ومن شكر النعمة إعلانها والتحدث بها ، لقوله تعالى : ﴿ وأما بنعمة ربك فحدث ﴾ الضحى  وذكر الله أن كفران النعمة يؤدي إلى الهلاك قال تعالى : ﴿ وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ﴾ الإسراء 16          

     

 

            

 

 

مشكلة الغذاء

إن جميع المشكلات والأزمات التي تعاني منها البشرية ، هي في الحقيقة من صنع الإنسان نفسه  وهو الجاني وهو الضحية في الوقت نفسه ، وأية معالجة لهذه المشكلات بعيدة عن التفكير ، وإعادة صياغة الإنسان وتحصينه بالعقيدة الصحيحة ، التي تمنحه الثقافة والرؤية للكون والحياة ، وتشعره بالرقابة والمسؤولية عن تصرفاته فيما يفعل ويدع فسوف تبوء بالفشل لأنها تعالج الآثار وتغفل الأسباب .   إن العقيدة الإسلامية ركزت على الإنسان  وإعادة صياغته ، وبناء رؤيته للحياة وتنظيم مسالكه في التعامل معها ، أكثر من التركيز على أشيائه ، بل إن الاهتمام الأكبر ، انصب على أخطر المشكلات الإنسانية ، التي تساهم بقلق الإنسان وشقوته ، وفي مقدمة هذه المشكلات مشكلة الرزق أو الغذاء ومشكلة الحياة ، حيث جعل الله الإيمان بأنها قدر مكتوب ، ومستقبل مضمون ، من أركان الإيمان وبناء الإسلام قال تعالى:{وفي السماء رزقكم وما توعدون}الذاريات 22 ، وأقسم الله تعالى أن هذا الرزق المخزون يقين وحق ، سوف يتحقق بشكل محس ، كمثل النطق الذي أمكن الله الإنسانية منه بقدر ، فقال تعالى : ﴿ فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون ﴾ الذاريات 23 . فالفهم الإسلامي ، أن النطق لا يتحصل إلا بتشغيل جهازه ، وأن الرزق لا يكسب إلا بفعل صاحبه .  وقد جاءت السنة النبوية لتؤكد هذه الرؤية لقضية الرزق ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إن روح القُدُس نفث في روعي أن نفساً لن تموت حتى تستكمل أجلها ، وتستوعب رزقها ، فاتقوا الله واجملوا في الطلب ، ولا يحملنَّ أحدَكم استبطاءُ الرزق أن يطلُبَهُ بمعصية الله ، فإن الله تعالى لا ينالُ ما عنده إلا بطاعته ) رواه أبو نعيم في الحلية . فالرزق مضمون من الله ، والسعي لتحصيله مرتبط بالإنسان ، فإذا تحرَّك لتحقيق ذلك فقد جعل الله ذلك عبادة وتكليفاً شرعياً ، كما أن الإسلام يحض على العمل ، ويعتبره أفضل الكسب ، ويحذِّر من العبث والهدر والعدوان  وأن المعاناة التي تعانيها البشرية ، من أزمة الغذاء في أكثر مناطق العالم ترجع الى سوء التوزيع  ، فقد كانت حصيلة الفترة الماضية ، من هيمنة الغرب بحريته الاقتصادية ، كارثة على مستوى الكون بأسره ، ففي عام 1992 لوحظ أن 80 % من الخيرات الطبيعية في العالم ، يتم استهلاكها من قبل 20 % من سكان العالم ، وكان نتيجة هذا التوزيع الجائر ، أن يموت سنوياً 25 مليوناً من البشر  بسبب أنموذج التنمية المفروض من الغرب ، وقد أعلن صندوق الامم المتحدة للتنمية ، أن الفرق الشاسع بين البلدان الأكثر غنىً والأكثر فقرا ً تضاعف خلال ثلاثين سنة . ففي فرنسا عام 1992 يتصرف 6 % من الشعب في 50 % من الثروات . وفي الولايات المتحدة يمسك 5 % من الشعب بحوالي 90 % من الثروات الطبيعية . إذن المشكلة هي في الفلسفة التي تحكم المسالك  والتي ينتج عنها سوء التوزيع والظلم الاجتماعي  وليست في نضوب الموارد ، وبعبارة أخرى  ليست المشكلة في عجز الطبيعة ، وإنما هي في مسؤولية الإنسان نفسه .

إن الأزمة الغذائية والاقتصادية ، هي أحد منعكسات أنظمة الاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي  التي ساهمت بطرد العقول والسواعد والخبرات والأموال ، ويكفي أن نشير في هذا المقام ، في مجال الأموال إذ تفيد المعطيات بشأنها  أن كل دولار استثمر في الوطن العربي ، استثمر مقابله 56 دولار في الاسواق الدولية ، وأن رؤوس الأموال العربية المستثمرة في الخارج  وصلت الى حدود 850 مليار دولار ، إذ أن حجم استثمار أقطار الخليج العربي بالولايات المتحدة لوحدها ، ما بين أفراد وحكومات بلغ 250 مليار دولار في شكل وداءع وعقارات واسهم ، وبلغ مجموع الفوائض العربية المهاجرة الى الاسواق المالية الدولية 670 مليار دولار .

 أما في مجال هجرة العقول والسواعد والخبرات فحدث ولا حرج .. فمن  أين  تتحقق التنمية وكيف تعالج  الأزمة ؟ إذا كان الذين يقومون على أمر السياسات لا يعانون من الأزمة أصلاً  كما أن فلسفة صناعة الهزائم والأزمات ، تسوغ وتحقق لهم الالتجاء والارتماء في أحضان أسيادهم  ، وإن كثيراً من الأنظمة التي جاءت باسم معالجة الأزمة الاقتصادية ، ورفعت شعارات تحسين أوضاع العامل والفلاّح ، انتهت إلى واقع أكثر حزناً . فقد  خربت الأراضي الزراعية بل وعطلتها ، وسمحت باستغلالها لبناء العمارات بدل زراعة المثمرات ، واستغل العمال والفلاحين للمساندة والمناصرة والتأييد ، وتسخيرهم عيوناً للسلطان ، مما أدى إلى إرهاق الأمة وبؤس خدماتها ، وإقفار القرى  والمزارع من الإنتاج  واليد العاملة ، ووجود طاقات هائلة معطلة   تنتظر خبر السلطان ، كما أدى ذلك إلى تقديم أهل الولاء وإبعاد أهل الخبرة ، مما جعلهم بحاجةٍ الى المساعدات والخبرات الخارجية لصالح التنمية ومعالجة الأزمات

فتحولت إلى تنمية التخلف والعطالة ، وعدم الاعتماد على الذات ، ثم إنتهت إلى الارتماء عند أقدام الغرب الكافر ، وفتح الأسواق لمنتجاته وبضائعه ، والعيش عالةً عليه ، واستمرار الحاجة إليه ، بالإضافة إلى أن محاولات تحويل المجتمع   من مجتمع زراعي  إلى مجتمع صناعي ، أدت إلى ذهاب الأموال لشراء المصانع ، واستقدام العمالة والخبراء ، واستيراد المواد المعدة للصناعة في كثير من الأحيان ، مما أدى إلى تكديس منتجاتها  ففشل التصنيع وفشلت الزراعة ، مما أوصل الى حالة الوهن التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو داود في باب الملاحم عندما قال صلى الله عليه وسلم:( وليقذفنَّ الله في قلوبكم  الوهن فقال قائل : يا رسول الله ؟ وما الوهن ؟ قال : حب الدنيا وكراهية الموت) .

وقد يكون الوهن أن تعيش الأمة عالة على الأمم  وسوقاً لاستهلاك منتجاتها  وعجزاً عن الإنتاج وتحقيق الاكتفاء الذاتي .

إن المساعدات أو الدعم أو المعونات التي تقدمها دول الكفر ، هي في حقيقتها لتصريف فوائض انتاجها ، ومراقبة البلاد التي أصبحت خاضعة لها من أجل لقمة العيش ، كما تملي عليها شروطها  حتى أن البلاد الإسلامية أصبحت تعتمد على ما يقدم اليها من التبرعات ، وتلهث وراء مساعدة المستشارين ، والعمل على جلب الشركات الاحتكارية العالمية ، سعياً وراء سراب الانطلاق الاقتصادي ، كما تهدف هذه الدول الى إبعاد الإسلام فكراً وثقافةً ومنهج حياة . 

ولن تخرج  الأمة مما هي فيه ، إلا بإنسان الإسلام الحق ، في إيمانه ومنهجه ونظرته المتوازنة ، في مركب يجمع انسجام الأرض والسماء في نظام الكون ، والدنيا والآخرة في نظام الدين والعقيدة والروح والجسد في نظام الإنسان  والعبادة والعمل في نظام الحياة ، والشورى والعدالة في نظام الحكم والإدارة ، والعمل والإنتاج في نظام الاقتصاد ، والأمن واليقين بتوفر الرزق وانقضاء الأجل .

ولا يمكن أن تتحقق هذه المهام الجسام ، إلا إذا تمسكنا بعقيدتنا ، وانطلقنا من الغاية المثلى وهي توحيد الله عز وجل ، حيث تقترن الممارسة بالوعي ، والوعي بالمسؤولية ، والمسؤولية بالآخرة  ويمتزج الإيمان بالإخلاص ، والاخلاص بالتقوى  والتقوى بالعمل . قال تعالى : ﴿ وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ﴾ .  

 

     

 

 

 

 

 

 

 

               

 

 

ليس الإيمان بالتمني

إن الإسلام هو دين الله تعالى الذي يدعو إلى الاعتدال في جميع جوانب الحياة  ولكن بعض المسلمين يركزون اهتمامهم على جانبٍ من الدين ويغفلون عن بقية الجوانب ، ويتصورون أنهم ينعمون بالطمأنينة في حياتهم في ظل أي نظام على وجه الأرض غير إسلامي  مما يدعو للتساؤل : كيف يقبل المسلمون أن يستوردوا أصول مجتمعهم وقواعده من أية فكرة على وجه الأرض غير إسلامية ، وكيف يمكن أن يستوردوا تقاليدهم من أي مجتمعٍ غير مسلم ، ثم يظلوا مع ذلك مسلمين ، وكيف يمكن لمسلم أن يتصور أنه يستطيع أن يخالف تعاليم ربه في كل شيء ، ويخون أماناته كلها ، فيغش ويكذب ويخون ويخدع ، ويرتكب المحرمات ويقبل الذل والمهانة ، ولا يكلف نفسه عناء العمل على إيجاد المجتمع المسلم  بسلوكه الذاتي أو بالدعوة إلى ذلك المجتمع غير مسلم ، القائم على الظلم والانحراف والمعصية ، ثم بعد كل هذا يتصور أن بضع ركعاتٍ في النهار يمكن أن تسقط عنه تبعاته أمام الله وتسلكه في عداد المسلمين ، ناهيك عما ابتلى به المسلمون اليوم بالابتعاد عن منهج رب العالمين وكثير منهم من ركن إلى التقصير والتساهل بالأحكام الأصلية الصحيحة ، وقد ينسونها ويغفلون عنها   ويهتمون بالدعوة إلى البدعة وتطبيقها والالتزام بها   وفريق آخر ينابذون أصحاب الدعوة الحق ، ويشككون فيهم و يحملون عليهم ، وقد تصل الأمور إلى الملاسنة والشتائم والنظر إليهم يعين الحقد والكراهية ، مما يحقق لأعداء الله أهدافهم المرجوة من نشر الفرقة بين جماعة المسلمين ، وغرس العداوة والانشقاق بينهم ، الأمر الذي يؤدي إلى الانقسامات القاتلة التي تؤدي إلى الفساد والهلاك ، والخروج عن جادة الحق والصواب . وكيف يمكن أن تتصور المسلمة مخالفة تعاليم الإسلام   فتخون الأمانة وتكذب وتغتاب ، وتخرج شبه عارية تعرض فتنتها في الطرقات ، وتخلّي نفسها من تبعة إقامة المجتمع المسلم ، سواء بالسلوك المستقيم في ذات نفسها أو بتربية أبنائها عليه ، أو بالدعوة إلى ذلك المجتمع ، ثم تشارك في إقامة مجتمع غير مسلم ، قائم على الظلم والانحراف والمعصية ، ثم يدور في خلدها بعد ذلك أن النية الطيبة في داخل قلبها يمكن أن تسقط عنها تبعاتها أمام الله ، وتسلكها في عداد المسلمات  

وهنا سؤال : من أين أتت تلك الأفكار الغربية التي تقول ما للدين ونظام المجتمع ؟ ما للدين والاقتصاد ؟  ما للدين والسلوك العملي في واقع الحياة ؟ ما للدين والتقاليد ؟ ما للدين والفن ؟ ما للدين والصحافة والإذاعة والسينما والتلفزيون ؟ إلى غير ذلك من التساؤلات . لم يكن المجتمع المسلم كذلك ، لأنه كان يمارس أصول الإسلام و قواعده ، وتحكم حياته المفاهيم الإسلامية في الكليات والجزيئات وكان يستمد قوانينه كلها من شريعة الإسلام ، ولا يستمدها مصدر سواه ، ولم يفهم المسلمون في المجتمع الإسلامي كما فهم المسلمون في هذا العصر ، بأن الإسلام هو مجموعة من العبادات يؤديها الإنسان بمعزل عن السلوك العملي ، يتجه إلى الله مخلصاً إثناء العبادة ، ولا يهمه أن يتجه إلى غير الله في أي أمر من أمور الحياة . ولم يفهموا ما فهمه الأولون لمعنى لا إله إلا الله بأنه وحده الذي يملك ويحكم ، وهو الذي يشرِّع للبشر ويضع لهم قوانين حياتهم ودستور معيشتهم ، وأن النية وحدها لا يمكن أن تكون إسلاما ، وما لم تتحقق في أعمال محسوبة وسلوك واقعي ، فهي لا تساوي شيئاً في ميزان الواقع وميزان الله والرسول صلى الله عليه وسلم لحديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ، ولكن ما وقر في القلب وصدقته العمل ) . فالنية وحدها لا تكفي لأنها لم تتحول إلى حركة وعمل ، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدركها حق إدراكها وهو يقول : وصدّقة العمل ، كما كان يدركها أصحابه الأوائل وهم يجاهدون ويجتهدون ليقيموا المجتمع على قواعد الإسلام ، ثم ما قيمة النية الطيبة التي يدعيها كثير من الناس ، حين يطلب منهم مطالبة الناس بالتحول عن انحرافهم أو مواجهة الطواغيت ، وما ينتج عن ذلك من أخطار على الحياة ، وما هو الرصيد الواقعي للنية الطيبة الكامنة في الضمير وما قيمة هذه النية إذا لم تتحول إلى قوة ظاهرة تعمل في واقع الحياة ، وهل كان تعنتاً قول الرسول صلى الله عليه وسلم ليس الإيمان بالتمني ، أم أنه كان واقعياً إلى أقصى درجات الواقعية . إن الرصيد الحقيقي لهذه النية ، هو مقدرتها على مقاومة الهوى من داخل النفس ، والطاغوت من خارجها ، من أجل ذلك لم يكتف الإسلام فقط بالنية الطيبة ، ومن أجل ذلك لم يقل القرآن الذين آمنوا وإنما قال دائماً الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وهو ما وقر في القلب وصدقه العمل ، فالإيمان لا بد أن يقترن بالعمل ، لأن العمل هو ثمرة الإيمان وبرهانه   وعندما قال قومٌ فرَّطوا فيما يجب عليهم : نحن نحسن الظن بالله ، قال عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم :  ( وكذبوا لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل ) . ولم يفهم أحد من المسلمين الأوائل أنه يستطيع أن يكون مسلماً بالنية الطيبة ، وهو يخالف الإسلام في سلوكه الواقعي اعتماداً على أن الله رب قلوب ، وأنه مطلع على بواطن النفوس ومدرك للنوايا الطيبة المختفية وراء الأعمال ، وإنما أدركوا أن النية والعمل وجهات لأمر واحد ، وأن العبادة تلتقي مع العمل في معنى واحد   لأن الإنسان خُلق في هذه الأرض ليعمل ، وقد جعلت الدنيا مزرعةً للآخرة ، ومن لم يعمل فقد عطَّل حكمة الله في خلقه ، وعصى أمره إذ يقول الله تعالى :

 ﴿ وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسولُه والمؤمنون  ﴾ التوبة 105 .

إن النية الطيبة بدون عمل هي تمني فارغ لا رصيد له من الواقع ، والعمل وحده المنقطع عن النية الطيبة عمل ضائع في السماء والأرض ، لأن الله لا يقبل من العمل إلا ما أريد به وجهه خالصاً ، لذا لم يفهم أحد من المسلمين أنه بهذه النية يكون مسلماً ، وهو يتسابق مع هواة وشهواته ، أو أن يترك المجتمع غير المسلم على ما هو عليه ، وإنما فهموا أن معنى إسلامهم ، هو تحويل هذا المجتمع المنحرف إلى مجمع مسلم بالله  ويلتزم ويحدد ما أنزل الله ، وأن التشريع الإلهي هو المصدر الدائم للحياة ولا مصدر سواه ، وإلا فما معنى هذا الإيمان إذا لم يكن معناه التصديق بما يقول الله للناس في كتابه ، بأنه أراد لهم الخير بما شرع لهم   والزمهم بتنفيذ ما شرع لهم ، وأنه يعتبرهم كافرين وظالمين وفاسقين إذا لم يحكموا بما أنزل الله ؟  إن الدين ليس للمتاجرة ، وجعله صنعة وحرفة ليطبق بعضه حسب الأهواء والأذواق ، والحاجات والمصالح الشخصية ، ويهمل بعضه الآخر إذا تعارض مع الهوى والمصالح ليتم نسيانه ، وإن أغلب ما تتقزز منه النفس اليوم ، يأتي من هذا الجانب للتطبيق الجزئي للإسلام ، وتمزيق الدين سواء من ناحية الفرد أو الدولة .

وقد طلب الشرع الالتزام بأحكام الدين عقيدة وشريعة وسلوكا ، ليتم تطبيقه الفعلي في الحياة ، وندد القرآن بمن يعرف حكم الله ولا يعمل على تطبيقه  وبمن يدعو الناس إلى دين الله وهو لا يلتزم به ويعفي نفسه من ذلك قال تعالى : ﴿ يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ، كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ﴾  .  وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم صورة من يدعو إلى عمل ثم يخالفه ، وكيف يكون مصيره وجزاؤه يوم القيامة فقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم  : ﴿ يؤتى بالرَّجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابُ بطنه فيدور بها كما يدور الحمار في الرحا ، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون : يا فلان ، مالك ؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ؟ فيقول بلى  كنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر وآتيه ﴾ .                 

    

 

 

لمن العزة

قال تعالى : ﴿ ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكنَّ المنافقين لا يعلمون ﴾ المنافقون 8 . نفهم من هذه الآية أن الله يضمُ رسوله والمؤمنين الى جانبه   ويضفي عليهم من عزته ، وهذا تكريمٌ هائل لا يكرمه الا الله   وأي تكريم بعد أن يوقف الله سبحانه رسوله والمؤمنين معه الى جواره ، و يقول هذا لواء الأعزاء  وهذا هو الصف العزيز   وقد جعل الله العزة صنو الإيمان في القلب المؤمن ، العزة التي لا تهون ولا تهن ، ولا تنحني ولا تلين ، إنها لله ولدينه بالذات بهما يكون الإنسان عزيزا وبغيرهما يذل ، وما ذل المسلمون في هذه الأيام   إلا لأنهم اعتزوا بغير الله ربا وبغير الإسلام دينا . ومن طلب العزة فليطلبها من الله وسيجدها عنده ولن يجدها عند الناس من أرباب الحكم والجاه أو القبائل والعشائر لأن هؤلاء ليسوا مصدراً للعزة  ولا يملكون أن يعطوها أو يمنعوها  "فإن العزة لله جميعا". وإن كانت لديهم قوة فإن مصدرها الأول هو الله وإن كانت لهم منعةً ، فإن الله واهبها ، فمن أراد العزة إذن فليطلبها من مصدرها الأول لا من الآخذ المستمد من هذا المصدر . ليأخذ من الأصل الذي يملك وحده العزة ، ولا يذهب يطلب قمامة الناس وفضلاتهم  وهم مثله طلاب محاويج ضعاف إنها حقيقةٌ أساسية من حقائق العقيدة الإسلامية ، حقيقة كفيلة بتعديل القيم والموازين ، وتعديل الحكم والتقدير ،وتعديل النهج والسلوك والوسائل والأساليب ويكفي أن تستقر هذه الحقيقة وحدها في أي قلب ليقف بها أمام الدنيا كلها عزيزاً كريماً لا يتزعزع ما دام على طريق العزة ، الطريق الذي لا عزة بسواه . ومن التزم هذا الطريق لا يحني رأسه لمخلوق متجبر ، ولا لعاصفة طاغية ، ولا لوضع شاذ ولا لحكم منحرف ، ولا لدولة ظالمة  ولا لمصلحة طاغية ، ولا لقوة من قوى الأرض جميعا لماذا ؟ لأن العزة لله جميعا  وليس لأحدٍ منها شيء إلا برضاه  وقد اشار الله إلى أسباب العزة ووسائلها لمن يطلبها عند الله فقال تعالى : ﴿ اليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ﴾

 بالقول الطيب والعمل الصالح يكرم الله الإنسان ويمنحه العزة والاستعلاء ، العزة الحقيقية التي تستقر في القلب فيستعلي بها على كل أسباب الذلة والانحناء لغير الله ، حقيقة يستعلي بها على نفسه قبل كل شيء ، يستعلي بها على شهواته المُذلة ورغائبه القاهرة ، ومخاوفه ومطامعه من الناس وغير الناس ، ومتى استعلى الإنسان على هذه فلن يملك أحد وسيلة إذلاله واخضاعه ، لأن الذي يذل الناس في دنياهم ، شهواتهم ورغباتهم ومخاوفهم ومطامعهم ، ومن استعلى عليها فقد استعلى على كل وضع وعلى كل شيء وعلى كل إنسان ، وهذه هي العزةُ الحقيقية ذات القوة والسلطان . إن العزة ليست عناداً أو استكباراً على الحق وليست طغياناً فاجراً ، وليست اندفاعاً باغياً يذل للشهوة ، وليست قوة عمياء تبطش بلا حق ولا عدل ، كلا ! إنها استعلاء على شهوة النفس  استعلاء على القيد والذل ، استعلاء على الخضوع الخانع لغير الله ، انها خضوع وخشوع وخشية وتقوى ومراقبة لله في السراء والضراء  ومن هذا الخضوع ترتفع الجباه ومن هذه الخشية لله تصمد لكل ما يأباه ، ومن هذه المراقبة لله التي لا تحظى إلا برضاه . أما الذين يمكرون السيئات طلبا للعزة الكاذبةً والغلبة الموهومة ، فيبدو ظاهراً أنهم أعزاء وأقوياء ناسين أن القول الطيب هو الذي يصعد إلى الله والعمل الصالح هو الذي يرفعه الله اليه ، وبهما تكون العزة في معناها الواسع الشامل .

أما المكر السيء قولاً وعملاً فليس سبيلاً إلى العزة ، ولو حقق القوة الطاغية الباغية في بعض الأحيان ، لأن نهايته إلى البوار والعذاب الشديد ، ذلك وعد الله ولن يخلف الله وعده وإن أمهل الماكرين بالسوء ، حتى يحين الأجل المحتوم في تدبير الله . إن معاني العزة والكرامة التي تغرسها العقيدة في قلب المؤمن ، تُشْعِره أنه في ولاية الله وحمايته لا يحني رأسه لمخلوق . قال تعالى : ﴿  الله ولي الذين آمنوا ﴾ البقرة 257 فلا عجب إذا رأينا عبداً أسود كبلال حين يشرب قلبه الإيمان ، فيرفع رأسه عالياً وينظر الى أمية بن خلف وأبي جهل وغيرهما من زعماء قريش نظرة البصير للأعمى ، ولا غرو إذا رأينا اعرابياً مثل ربعي بن عامر حين باشرت قلبه عقيدة الإسلام ، وأضائت فكره آيات القرآن ، يقف أمام رستم قائد الفرس في ابهته وسلطانه غير مكترثٍ ولا عابيء به وبما حوله من خدمٍ وحشم ، حتى إذا سأله من أنتم ؟ أجابه إجابةً خلَّدها التاريخ قال : " نحن قومٌ ابتعثنا الله لنخرج الناس من عبادة العباد الى عبادة الله وحده ، ومن ضيق الدنيا الى سعتها ، ومن جور الأديان الى عدل الإسلام " ، ولا عجب أن نقرأ لشاعرٍ مؤمن يناجي ربه في عبودية عزيزة بالله فقيرة الى الله قائلاً :

وما زادني شرفاً وعزّا      وكدت بأخمصي أطأ الثـريا

تحت قولك يا عبادي       وأن أرسـلت أحمد لي نبياً

   إن العزة تجعل صاحبها ينظر الى قصور الأمراء وخزائن الملوك والأغنياء وما فيها من متع وخيرات ، نظرة احتقارٍ وازدراء لا يبالي ولا يخاف ، يتغنى بقول الشافعي :

أنا إن عشت لست أعدم قوتا     وإذا مت لست أعدم قبرا

همتي همت الملـوك ونفسي       نفس حرٍ ترى المذلة كفرا

وإذا ما قنعت بالقوت عمري     فلماذا أخاف زيداً وعمرا

ويحكي الإمام الغزالي في كتابه الإحياء باب الأمر بالمعروف : " أن شيخاً كان يمشي في الطريق  يلتقط النوى من الأرض فكسر عوداً مع خادمٍ يحمله الى جارية من جواري هارون الرشيد تغني عليه ، فلما بلغ الخبر الرشيد غضب وأرسل ليأتوا اليه بالشيخ ، فلما وقف على باب القصر ، غيَّر الرشيد مجلسه ثم امر بالشيخ فادخل وفي كمه الكيس الذي فيه النوى   فقال له الخادم : أخرج هذا من كمك ، وادخل على امير المؤمنين فقال له : من هذا عشائي الليلة ، قال الخادم نحن نعشّيك قال : لا حاجة لي في عشائك ، فقال الرشيد للخادم : اي شيء تري منه ؟ قال : في كمه نوى قلت له اطرحه وادخل ، فقال الرشيد : دعه ، فدخل وسلم وجلس ، فقال له الرشيد : يا شيخ ؟ ما حملك على ما صنعت ؟ قال الشيخ وأي شيءٍ صنعت ؟ فاستحى هارون أن يقول كسرت عودي ، ولما أكثر عليه قال : إني سمعت آبائك وأجدادك يقرأون هذه الآية على المنبر : ﴿ إنَّ الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ﴾ النحل90  وأنا رأيت منكراً فغيرته فقال له هارون : غيِّره . قال راوي القصة  : فو الله ما قال إلا هذا . فلما خرج أعطى الخليفة رجلاً عشرة آلاف درهم وقال : اتبع الشيخ ، فإن رأيته يقول : قلت لأمير المؤمنين وقال لي ، فلا تعطه شيئا  وإن رأيته لا يكلِّم أحداً فأعطه . فلما خرج من القصر إذا هو بنواة في الأرض قد غاصت فجعل يعالجها ولم يكلم أحدا ، فقال له : يقول لك أمير المؤمنين خذ هذه ، فقال : قل لأمير المؤمنين يردها من حيث أخذها ولسان حاله :

أرى الدنيا لمن هي في يديه    هموماً كلما كثـرت لديـه

تهـين المكرمين لها بصـغرٍ        وتكرم كلَّ من هانت عليه

إذا استغنيت عن شيءٍ فدعه  وخـذ ما أنت محتاج الـيه

بمثل هذه النفوس القانعة والتي ترفض قبول الآلاف من الخلفاء والملوك ، تعلو كلمة الحق وتنتصر المبادىء والرسالات . 

 

                                 

 

لابد من الرجوع إلى الإسلام

نلاحظ أن أكثر من مليار وربع المليار من المسلمين في العالم يمتحنون بشتى ظروف الابتلاء التي لا تخفى على أحد ، بدأً من التضييق والاضطهاد والتهميش  وانتهاءاً بالتصفية الكاملة والإبادة الجماعية ، والكثير منهم يعانون من الفقر والتخلف والمرض والجهل ، أضف إلى ذلك ما يواجهونه من تحدياتٍ خطيرة  يأتي في مقدمتها فكر العولمة ، الذي يدعمه ويحرص على نشره النظام العالمي الجديد . كما أصبح مدركاً لدى الغالبية العظمى من المسلمين إثر النكبات التي حلت بهم أنهم يسيرون على غير هدى ، وأن الطريق الذي يسلكونه لن يؤدي بهم إلا إلى الهاوية ، وأن الرجوع إلى الدين هو وحده الذي يخلصهم مما هم فيه .

ففي الجلسات الخاصة والعامة يتكلم الناس عن ضرورة الرجوع إلى الدين ، بل إن الكثيرين من المفكرين والعلماء والأدباء يقولون بوجوب ذلك  ولكن الكيفية التي يجب علينا أن نسلكها لم يقل بها أحد من أولي الأمر ، ومن أراد أن يسلك الطريق التي رسمها لنا الإسلام يلقى المعارضة والمطاردة ، وأن قسماً كبيراً من علماءنا وأُدبائنا ومفكرينا ، يعرض علينا صوراً مشرقة من الماضي المجيد  وأحاديثاً رائعة عما كان عليه سلفنا الصالح ، وكيف حكموا فعدلوا و كيف حاربوا فانتصروا وكيف انقذوا العالم من جهالته .

ولكن لا أحد منهم يطالب بضرورة التزام ما التزموا به من تطبيقٍ لمنهج الله والسير على هداه ، وأن ما حلَّ بنا وما نحن عليه وما صرنا اليه   راجعٌ الى عدم تطبيق أحكام الله  .  وأننا ما زلنا منجذبين إلى الوراء نعيش في جنات الماضي ، لأننا نشعر بألم جحيم الحاضر الذي نحن فيه ، نعتزُّ بعزَّة الأجداد والأمجاد ، لأننا لم نبلغ ما بلغوه   وليس عندنا ما نعتز به لا مجداً ندَّعيه ولا فخراً ننتسب اليه  ، أنا لا أنكر بأن من كان له ماضٍ مثل ماضينا حق له أن يفاخر به ، ولكن الفخر لا يكون بالتحدث عن ذلك فقط ، فلا بد من الاقتداء بهم والسير على الدرب الذي ساروا عليه حتى نضيف الى ذلك الماضي المجيد حاضراً مجيدا وإن كل مسلمٍ تسأله عن رأيه بدينه ، يقول لك عن عقيدة وإيمان إنه احسن دين وأفضل عقيدة وأروع نظام كفل للإنسان سعادة الدنيا والآخرة وإنه خير نظام لبني البشر. 

ولكن كيف نستطيع أن نترجم هذا القول إلى عمل ؟  إن مما يدعو للأسى عندما نقول لبعض المسلمين أن الإسلام هو الحل ، وان شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وتطبيقاتها في الحياة هي الحل ، وأن العبادة الصحية لله كما جاء بها الإسلام هي الحل ، يهز كتفيه ساخراً ها هو الإٍسلام موجود ولا إله إلا الله والعبادة موجودة وقائمة وملتزمون بالذكر الذي  طلبه الله منا في قوله تعالى : ﴿إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآياتٍ لأولي الألباب  الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً ﴾ آل عمران 190. لكنه يتناسى كيف كانوا يذكرون الله ؟ هل كانوا يذكرونه باللسان وحده ؟ وهل يكفي ذلك للقيام بالمهمة المطلوبة من هذه الأمة ؟ والتي ذكرها الله بقوله : ﴿كنتم خير أمةٍ اخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله﴾ آل عمران 110 . وقوله تعالى : ﴿ وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا 2شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ﴾ البقرة 143. فهل يكفي لمهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومهمة الشهادة على كل الأمم الذكر باللسان ؟ وهل يكفي ذلك ليوفر مقتضيات هذه المهام العظام ؟

إن الدارس لأحوال صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى أنهم كانوا يذكرون الله ليس بطريقة بعض الذاكرين الذين يمسكون بالمسابح ويرددون اسماً من اسماء الله الحسنى مرة أو مائة مرة ، كلا والله ، فما كانوا يذكرون الله باللسان والقلب وحدهما   لأنهم آمنوا أنَّ هذه الأمة كُلفت أن تعبد الله وحده لا شريك له مخلصة له الدين ، وأن تقيم الصلاة وتؤدي الزكاة وتصوم وتحج البيت بالإضافة إلى الدعوة لدين الله قال تعالى : ﴿ ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر ﴾ آل عمران 104 . والجهاد في سبيل نشر هذه الدعوة لتصل إلى كل آفاق الأرض قال تعالى :﴿ وجاهدوا في الله حق جهاده ﴾  

فهل يكفي الإيمان وحده للقيام بهذه والمهام ؟  وهل يكفي ذكر الله باللسان والقلب أم لا بد من شيء آخر  ؟ لقد أخبر القرآن أن ألله استجاب لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض وهم يتضرعون إلى الله ، فلأيٍّ من هذه الأربع استجاب الله سبحانه ؟ هل للتفكر ؟ هل للتدبر ؟ هل للذكر ؟ هل للضراعة قال الله تعالى  :

﴿ فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأذوا في سبيل الله وقاتلوا وقتلوا﴾    دلت الآية على أن الله ما استجاب للذكر والفكر والتدبر والضراعة هكذا مجرده  أنما استجاب لها حين تحولت إلى عمل ، فالله لم يقل أني استجبت لكم حين بدأتم تفكرون بعقولكم أو حين ذكرتموني بألسنـتكم أو لمجرد مدِّكم أيديكم بالضراعة إلى الله ، إنما قال أني لا اضيع عمل عامل منكم ، فقد نصت الآية على الأعمال ، لكي لا يتصور أحد أن الضراعة وحدها عمل وأن الفكر وحده عمل وأن الذكر باللسان وحده عمل يرضي الله سبحانه فيقول للعبد : كفاك ما قدمت وقد استجبت لك . إنما نصت الآية على أعمال مشهودة محسّة ، أعمال تغير الواقع الذي يعيشه الناس ، إنه الواقع الأفضل الذي أخرجت هذه الأمة من أجله ، كما ذكر في الآية شروطاً لا بد منها لتكفير السيئات ودخول الجنة فقال تعالى : ﴿ فالذين هاجروا واخرجوا من ديارهم وأُذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرنّ عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ﴾ .آل عمرن 195 . إذن فالله لا يستجيب لمن لا يعمل ؟ هذا هو المستفاد من الآيات ومن أحاديث رسول الله بأنه لا بد من عمل ، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الإيمان ليس بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدَّقه العمل ، إلا أننا نجد من يقول يكفي ما في القلب .  هذا الانحراف عن خط الإسلام الأصيل ، سرى في جسم الأمة وروحها وفكرها حتى صار الناس الآن إذا قيل لهم لا بد من عمل يقولون يكفينا أننا مصدقون مؤمنون ، وهذا ما أقعد الأمة عن العمل وهم يقولون : انصرنا يا رب وانزل غضبك على الأعداء ، ويتجاهلون أن ما كلفهم الله به ليعطيهم النصر ويعطيهم التمكين هو منحة من الله سبحانه وتعالى يمنحها لمن يستقيم على طريقه فقال تعالى : ﴿ وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم ، وليمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم  وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا ، يعيدونني لا يشركون بي شيئاً ﴾. النور 55

في مقابل هذا الشرط الذي ذكره الله ، تكفل بكرمه ورحمته بالاستخلاف والتمكين والتأمين وهو أقصى ما تصبوا اليه نفوس البشر في الأرض   ولكن ذلك ليس كلمة تقال أو مجرد وجدان في القلب .

إننا نرى المسلمين واقعون في قبضة أعدائهم ، يستغلونهم ويشردونهم ويقتلونهم ويخرجونهم من ديارهم وأموالهم ويعتدون على حرماتهم وأعراضهم ، فلماذا يفعل بهم ذلك ؟ لأنهم خرجوا عن الطريق الذي رسمه الله للنصر والتمكين ، ولأنهم يقولون يكفينا الإيمان القلبي والإقرار اللساني ، وليس العمل داخلاً في مسمى الإيمان عندهم . تصوروا يا أخوتي جماعة من الناس يتفكرون ويتدبرون ويتضرعون ، ولكنهم لا يحولون ذلك إلى عمل مشهود فهل يكفي هذا لإخراج الأعداء من الأرض الإسلامية التي احتلوها ؟  وهل يكفي هذا لتغيير الواقع الأليم الذي يعيشه المسلمون ؟ طبعاً لا يكفي لأن الدين جزء لا يتجزأ من تفكيرنا وماضينا وحاضرنا وعلومنا وكياننا ، بل هو الفطرة التي فطر الله الناس عليها   فلماذا نهجره ؟ وقد ثبتت لنا فائدته وفاعليته مدة أربعة عشر قرناً من الزمان ، ثمَّ نتخذ نظاماً آخر ثبت فشله ، فرَّق بين الناس وأفسد أخلاقهم   وأنزلهم من درجة الإنسانية الكاملة إلى درجة البهيمية المادية .  إن العقيدة الإسلامية ليست كغيرها من العقائد الدنيوية التي يبتدعها البشر ، لأنها عقيدة إلهية ، ونظامٌ سماويٌ ، أنزله رب الكائنات على عبادة   لكي يكون لهم هادياً ودليلاً ، وإن الرجوع إليه لا يقتصر على القيام بالأعمال الظاهرة المفروضة فقط ، بل هو هذه الأمور التي لا يتم إسلام المرء إلا بها  يضاف إليها الإخلاص في العمل وسمو الأخلاق وحسن المعاشرة وصفاء النية وصدق السيرة ونقاء السريرة ، والتحلي بالصبر والقناعة ونشر المبادئ ، والدعوة إلى قيام مجتمع الخلافة  ليسود العدل والتراحم والتوادد والصفاء والنقاء مجتمع لا يستبد فيه القويّ بالضعيف ، وهذا أمرٌ مقدور عليه إذا التزم بالمنهج وخلصت النيات وحسن العمل .  وإلا فإن مصيرنا الفناء المحتوم والدهر لا يرحم أحداً لا يرحم نفسه ، والله لا يكرم الناس لأجناسهم واسمائهم وأنسابهم ، بل يكرمهم لأعمالهم قال تعالى :﴿ ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ﴾ .الأنبياء 105 . فالذي يصلح للأرض هو الذي يرثها ، وأما الذين لا يصلحون للأرض فلا يرثونها ، والله يحابي أحداً ولا يجامل أحداً ولا يُخدع بالخطب ولا يغره الكلام بل يريد عملاً ليجزي به كما قال تعالى: ﴿ وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ﴾ .التوبة 105     

 

 

 

   

   

 

لابد لهذا الدين أن يسود

لقد جاء الإسلام وسيبقى ، ما صلحت هذه الأرض للحياة والبقاء ، ويوم ينتهي الإسلام من هذه الدنيا فلن تكون هناك دنيا ، وليعلم دعاة الهزيمة ، أن الله أبرُّ بدينه وعباده مما يظنون . وإن الأمة لا تخلو من دعاةٍ صدقوا ما عاهدوا الله عليه  يقاومون الضلال ، ولا يستوحشون من جو الفتنه  الذي يعيشون فيه ، ولا يزالون يقومون بواجبهم حتى تنقشع الغمة ، ويخرج الإسلام من محنته  وما ذلك على الله بكثير ، أن يستأنف المسيرة ، يضمُ إلى أرضه أرضا ، والى رجاله رجالا  

ذلك ما وقع خلال أعصر مضت ، وما سيقع خلال أعصر ستجيء ، وهذا ما ينطقُ به حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ( بدأ الإسلام غريبا ...إلى أن قال : طوبى للغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس من سنتي ) . إذن ليست الغربة ، موقفاً سلبياً عاجزاً ، إنها جهادٌ قائم دائم ، حتى تتغير الظروف الرديئة

ويلقى الدين حظوظاً أفضل ، وليس الغرباء هم التافهون ، من مسلمي زماننا   بل هم الرجال الذين يرفضون الهزائم ، ويتوكلون على الله في العمل على تلاشيها  وليس رجال التهارش على الحكم والتقاتل على الأمارة ، ومحاولة الاستيلاء على السلطة بأي ثمن ، وما استتبعه ذلك من إهدار للحقوق والحدود ، وعدوان على الأموال والأعراض . يُؤيدُ ما نقول ما نراه من التنازلات الرخيصة مع الأعداء  والضرائب التي أثقلت كاهل الناس ، والبطالة والكساد الذي نلمسه في هذه الأيام ، وشيوع الخيانات بين الناس ، وتقدم من تقدم بالمعاذير المفتعلة ، مما يوجب على المؤمن الصادق المخلص لدينه وعقيدته  الترفع والتنزه عما يجري  وعدم المشاركة في معارك الجاه والمال والمطامع والوجاهات ، وليستمسك بعروة الإيمان ، متجاوزاً تلك الصغائر  التي يهلك فيها أصحابها  وهذا ما أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : (ستكون فتنٌ ، القاعد فيها خيرٌ من القائم ، والقائم فيها خيرٌ من الماشي  والماشي فيها خيرٌ من الساعي ، من تشرَّف لها تستشرفه ، فمن وجد فيها ملجأً أو معاذاً فليعذ به) ، ولكن ذلك لا يعني ترك ألأمه دون ناصح أمين  ورائد مخلص لأن العزلة لا تصلح للأمة كلها ، وإلا كان ذلك حكماً عليها بالفناء . إن الإسلام الذي ساد قروناً من الزمان وتعثر حينا  لا بد وأن يسير على الدرب المحدد له ، وهو ما حدده القرآن الكريم بقوله تعالى : ﴿ هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ﴾ التوبة 33 . وما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الله زوى لي الأرض مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها ) .  وما روي عن الإمام أحمد عن تميم الداري قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :  (ليبلغَنَّ هذا الأمرُ ما بلغ الليل والنهار ، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر ، إلا أدخله هذا الدين   يُعِزُ عَزيزاً ويُذِلُ ذليلا ، عزاً يُعِزُ الله به الإسلام  وذِلاً يُذِلُ اللهُ به الكفر ) .

إن المستقبل سيكون للإسلام ، ولهذه العقيدة إن شاء الله ، وإن العودة إلى راية لا إله إلا الله ، تقود الأمة إلى طريق الخلاص ، وترسم لها طريق السلام الشامل  المبرأ من البغي والفساد والعدوان  إن الإسلام قوةٌ ، تُجاهد قوى الشر والفساد   والعدوان في الأرض ، حتى تمحوها وتُعيدُ للإسلام عزّه ومجده ، إنه حربٌ على الاستبداد وعبودية البشر ، وعلى الطغيان والظلم ، حربٌ تحمل معها المساواة والعدالة تحققها في عالم الواقع ، في التشريع والتنفيذ ، وإلا فستظل البشرية تُعاني من الظلم والطغيان والانحراف ، وهو من وضع الحضارة الكافرة ، الضالة عن الله  إلى أن يتسلم الإسلام الزمام ، فيقود البشرية الحائرة ، إلى عدل الإسلام  والنظام والسلام ، ويومئذٍ يفرح المؤمنون بنصر الله ، ألا بنصر الله تطمئنُ القلوب    .                                                       

 

 

كيد النفس وضلالها

لقد كرَّم الله النفس الإنسانية ، وفضلها وأعزّها بتشريعاته ونظامه ومنهجه   حيث ضمن لها حياةً إنسانية كريمة   وحياةً أخرويةً عامرةً بحسن الثواب ، إن التزمت التشريعات ودعت إلى العمل بها   فهي موطن التفاعل مع ما يرِدُها من خيرٍ أو شر ، وحلالٍ وحرام  وحقٍ وباطل  وهي الإناء الذي يتسع لكل شيء   يتسع للهدى كما يتسع للضلال وإن لم تُلْجَم بلجام التقوى والدين ، وتُتابع بالترهيب والترغيب ، تقتل صاحبها  هناك أنواع من النفس الإنسانية التي تعامل معها الإسلام وورد تنويعها في القرآن وهي النفس المطمئنة : المحمودة في أقوالها وأفعالها ، وهي أعلى النفوس درجة وأولاها بجزيل الثواب قال تعالى : ﴿ يا أيتها النفس المطمئنة إرجعي إلى ربك راضية مرضية ﴾ الفجر . والنفس المطمئنة : هي الساكنة تحت الأمر ، الطائعة لله ورسوله ، التي باعدت بين نفسها وبين ما لا يحل من الشهوات ، وهي نفس محمودة عند الله وعند الناس . والنفس اللوامة : التي تلوم صاحبها عندما يقع في ذنب ، فتحمله على هجر المعصية والإسراع إلى الطاعة ، وهي التي أقسم بها لمكانتها عنده قال تعالى : ﴿ ولا أقسم بالنفس اللوامة ﴾ القيامة . والمعنى أن الله يقسم ويؤكد القسم بالنفس التي تلوم صاحبها على الذنب والتقصير ، وهي نفسٌ محمودة عند الله وعند الناس .

ثم النفس الأمّارة : وهي مذمومة مستحقة لعقاب الله على ما تقترف من المعاصي ، وهي أدنى النفوس وأبعد النفوس عن طاعة الله وقد ذكرها الله في قوله تعالى : ﴿ وما أبريء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي ﴾ يوسف . إنها تزين لصاحبها الشر والمعاصي والشبهات , وتميل بطبعها إلى الشهوات   وهي نفسٌ مذمومة وإن كانت نفس عدد كبيرٍ من الناس قال صلى الله عليه وسلم في وصفها :( أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك ) . وفي حديثٍ آخر ( من أعز نفسه فقد أذل دينه ، ومن أذل نفسه فقد أعز دينه ) . وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من شرور النفس في خطبة الحاجة فيقول : ( ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ) أخرجه أبو داود . إن الإسلام ينظر إلى كل نفسٍ بشرية على حدة ، ولا يحمّل نفساً خطأ نفسٍ أخرى ، ولا يعاقب الآباء بما فعل الأبناء  لأنه يتعامل معها بعدالة إلهيةٍ مطلقة  وقد حذّر الله من المعاصي كبائر وصغائر ، وأعلن للطائعين والعاصين ، أنه سيجازي كلاً بما عمل قال تعـالى: ﴿ كل نفسٍ بما كسبت رهينة ﴾ . وهناك علاجان لمرض استيلاء النفس على القلب هما محاسبتها ومخالفتها وبعكس ذلك فإن إهمال محاسبتها وموافقتها وإتباع هواها يؤدي إلى هلاك القلب أخرج الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله) روى عن الحسن قوله : " المؤمن قوّام على نفسه لله ، وإنما يخف الحساب يوم القيامة على قومٍ حاسبوا أنفسهم في الدنيا ، وشق على قومٍ أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة .  وقال  : " إن العبد لا يزال بخير ما كان له واعظٌ من نفسه وكانت المحاسبة من همته" . بأن يحاسب نفسه على الفرائض أولاً ، فإن تذكر فيها نقصاً تداركه إما بقضاء أو إصلاح أو يحاسبها على المناهي ثانياً فإن عرف أنه ارتكب منها شيئا تداركه بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية ، ثم يحاسب نفسه على الغفلة ثالثا إن غفل عما خلق له تداركه بالذكر والإقبال على الله أو يحاسبها بما تكلم به أو مشت إليه رجلاه أو بطشت يداه ، أو سمعته أذناه . وإذا كان العبد مسئولاً ومحاسباً على كل شيء ، حتى على سمعه وبصره وقلبه كما قال تعالى : ﴿ إن السمع والبصر والفؤاد كلُّ أولئك كان عنه مسؤولا ﴾ الإسراء 36 . فقد دلت الآيات على وجوب محاسبة النفس قال تعالى : ﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفسٌ ما قدمت لغدٍ ﴾الحشر 18 . لينظر أحدكم ما قدم ليوم القيامة من الأعمال : أمن الصالحات التي تنجيه أم من السيئات التي ترديه ، قد يقول المؤمن عن شيءٍ يعجبه مما حرَّم الله ، والله إني أشتهيك ، فإذا ما أقدم على فعله تذكر أن هذا حرام وتذكر الحساب ، فيقول ما لي ولهذا والله لا أعود إلى هذا أبدا ، بهذا يكون المؤمن أسير في الدنيا ، مأخوذٌ عليه في سمعه وفي بصره وفي لسانه وفي جوارحه يراقبها ولا يهملها ، وإذا ما أهملها وقعت في الخيانة فيشتد الحساب يوم القيامة على من أهمل متابعة نفسه قال تعالى : ﴿ فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون ﴾  وقال : ﴿ ليسأل الصادقين عن صدقهم ﴾ فإذا سئل الصادقون عن صدقهم وحوسبوا على صدقهم ، فما الظن بالكاذبين ؟ قال قتادة : " كلمتان يُسأل عنهما الأولون والآخرون ماذا كنتم تعبدون وماذا أجبتم المرسلين ، فهم يُسألون عن المعبود وعن العبادة " . ومن فوائد محاسبة النفس ان يعرف الإنسان حق الله عليه ، ومن لا يعرف حق الله عليه فإن عبادته لا تكاد تجدي ، وهي قليلة المنفعة ، قال الإمام أخمد عن وهب قال مكتوبٌ في حكمة داوود : " حقٌ على العاقل أن لا يغفل عن أربع ساعات ، ساعةٌ يناجي فيها ربه   وساعةٌ يحاسب فيها نفسه ، وساعةٌ يخلو فيها مع إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه ويصدُقونه عن نفسه ، وساعةٌ يخلي فيها بين نفسه وبين لذاتها فيما يحل ويجمل "  وقال : " بلغني أن نبي الله موسى عليه السلام مرّ برجلٍ يدعو ويتضرّع فقال : يا رب ! ارحمه فإني قد رحمته فأوحى الله إليه : لودعاني حتى تنقطع قواه ما استجبت له ، حتى ينظر في حقي عليه" فمن حق الله أن يطاع فلا يُعصى ، وأن يُذكر فلا ينسى ، وأن يُشْكر فلا يكفر .

 فمحاسبة النفس هي : نظر العبد في حق الله عليه أولاً ونظره هل قام به كما أمر الله ثانياً ، وهذه المحاسبة تضعف الأعمال السيئة وتوقفها ، وتحض الإنسان على الأعمال الصالحة وتدعوه إلى النظر في حق الله عليه ، وينبغي للإنسان إذا حاسب نفسه فرآها قد ارتكبت معصية أن يتوب إلى الله توبة نصوحا ، فبادر يا أخي بإصلاح نفسك قدر الاستطاعة ، فإن العمر قصير  والسفر طويل والعقبة كؤود ، والحمل ثقيل ، وقد خف الحساب يوم القيامة على قومٍ حاسبوا أنفسهم في الدنيا ، وشق على قومٍ أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة ، فلنحاسب أنفسنا قبل أن نحاسب ولنـزنها قبل أن نوزن ، ولنتهيأ للعرض الأكبر فاليوم عملٌ ولا حساب ، ويوم القيامة حسابٌ ولا عمل ، فملاحقة النفس والحذر من وساوسها هو الذي يحقق مناعتها وعافيتها وبهذا يتحقق معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا أراد الله بعبدٍ خيراً جعل له واعظاً من قلبه ) مسند الفردوس . وقوله صلى الله عليه وسلم : ( من كان له من قلبه واعظ  كان عليه من الله حافظ )  .

 

التـقوى

التقوى أساس الطريق ، عليها سلك السائرون ، وبها وصل الواصلون ، وصى الله بها المتقدمين والمتأخرين  ، وبها قرّب المقربين ، ولها خمس درجات : " أن يتقي العبد الكفر ، وذلك بمقام الإسلام ، وأن يتقي المعاصي والمحرمات ، وذلك مقام التوبة ، وأن يتقي الشبهات ، وهو مقام الورع ، وإن يتقي المباحات ،  وهو مقام الزهد " إنها هدف عام بعث الله من أجلها التشريعات والأوامر والوصايا وإذا وجدت في قلب بشر لم يحتج بعدها إلى رقيب أو حسيب ، لأنها حاجز له من كل شر ودافعة لكل خير وهي مطلب الله من المسلمين فإذا ما كانوا أتقياء كانوا أقوياء ، ولا يختل الإسلام إلا أذا اختلت التقوى عند المسلمين ، فما هي التقوى و من هم المتقين ؟ .  لقد أمر الله سبحانه وتعالى بالتقوى في كثير من الآيات  أمرنا بها كوظيفة للإيمان ، يتحرك بها الإنسان، ليتحول إلى قوة بانية محرِّكة قال تعالى : ﴿ قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ﴾ الزمر 10. فما هي التقوى ؟ أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافه ويحذره وقاية ، تقية من سخط الله وغضبه و عقابه ، فيمتثل أمر الله و يجتنب نواهيه ، فلا يجده ربه حيث نهاه ولا يفقده حيث أمره  . كما عرَّفها العلماء فقالوا : هي أن يعمل الرجل بطاعة الله على نورٍ من الله يرجوا ثواب الله و أن يترك معصية الله على نور من الله ويخاف عقاب الله 

إنها قاعدة الإصلاح ينبثق عنها كل خير ، وهي منطلق إلى كل فضيلة وبر إنها والإيمان بالله قرينان لا ينفكان قال تعالى :  ﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و آمنوا برسوله ﴾ . فمن هو التقي ؟ إنه الذي يقي نفسه من العذاب والمعاصي بالعمل الصالح ، وهي عند المؤمن حاجزاً تحتجز عنه الضرر ، وحاجباً يحجب عنه الخطر فيحرص على ما ينفعه ويستعين بالله ويتقيه حق تقاته لأن من اتقى الله خافه  ومن خاف الله عرفه ، ومن عرف الله امتثل أوامره واجتنب نواهيه ، ومن لم يخف من الله خاف من كل شيء . أما المتقين : فهم الذين جعلوا التقوى زاداً روحياً يحرك دوافعهم إلى قيم الحب ومثل الخير قال تعالى : ﴿ وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ﴾ البقرة 197. و هي عندهم كذلك : زاداً يغذي الروح و لباساً يستر الجسد , قال الشاعر :

إذا المرء لم يلبس ثياباً من التقى      تجرد عرياناً ولو كان كاسـيا ً

وخير لبـاس المرء طاعة ربـه        ولا خير فيمن كان الله عاصياً

وهم الذين يعظمون شعائر الله ويدفعون عنها قال تعالى : ﴿ ومن يعظم شعائر الله فإنها تقوى القلوب ﴾  وقال لقمان لابنه : " أي الخصال خير ؟ قال : الدين   قال فإن كانت اثنتين ؟ قال : الدين والمال ، قال فإن كانت ثلاثاً ، قال : الدين والمال والحياة ، قال فإن كانت أربعة ؟ زاد حسن الخلق ، قال فإن كانت خمساً ؟ زاد السخاء ، قال : فإن كانت ستاً ؟ قال يا بني إذا اجتمعت فيه الخمس خصال ، فهو تقي ونقي ، ولله ولي ، ومن الشيطان بريء " .

وللمتقين الذين ينتفعون بالقرآن أربع صفات : فهم الذين يؤمنون ويصدّقون بالغبيات من العبث والحساب والجنة والنار ولا يقفون عند الماديات والمحسوسات التي يدركها العقل إدراكاً قريباً وإنما يدركون أيضاً ما وراء المادة من عوالم أخرى كالروح والجن والملائكة وعلى رأسها وجود الله ووحدانيته ، والذين يؤدون الصلاة على الوجه الأكمل بشروطها وأركانها وآدابها وخشوعها  ومن ينفقون في وجوه البر والإحسان من الأموال كالزكاة و الصدقة و سائر النفقات الواجبة شرعاً . وهم الذين يصدقون بجمع ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء والمرسلين ويصدقون تصديقاً جازماً بالآخرة وما تضمنه من بعث الأجساد والأرواح معاً من القبور وحساب وجزاء وصراط وجنةٍ ونار .  ومن بركات الله تعالى و سنة نبيه ؟ وسيرة سلف الأمة الصالح ، وهذا يؤهلهم  للتلقي عن رب العالمين  ، لأن من عمل بما علم ، أورثه الله علم ما لم يعلم قال تعالى :  ﴿ واتقوا الله و يعلمكم الله  ﴾ البقرة 282. وإذا عمل التقي بما علم ، فإن بركة التكريم الإلهي تتجلى له ، قال تعالى : ﴿ إن أكرمكم عند الله أتقاكم ﴾ الحجرات13 .كما يمن الله على عباده الأتقياء بتيسير أمورهم قال تعالى : ﴿ ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا  ﴾ الطلاق 4 .وإذا تجنبوا الحرام و حرصوا على الرزق الحلال فإنه الله سبحانه يضمن لهم أرزاقهم قال تعالى : ﴿ ومن يتق الله يجعل له مخرجا و يرزقه من حيث لا يحتسب ﴾ الطلاق 2 .  ومن أبرك بركات التقوى أن تشتمل المتقين دائرة الرحمة الإلهية قال تعالى  :

﴿  ورحمتي وسعت كل شيء فأكتبها للذين يتقون ﴾ الأعراف156. وأخبر القرآن أن الذين اتقوا ربهم في الدنيا بإتباع أوامره واجتناب نواهيه هم بما أعطاهم الله  : ﴿ في جناتٍ ونعيم ﴾ يتنعمون في الجنات ما طاب من أصناف الملاذ في المآكل والمشارب والملبس والمساكن والمراكب و الفرش والأزواج من الحور العين وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الحور العين يغنين : نحن الخّيرات الحسان خُلقنا لأزواجٍ كرام ) . وأخبر الله من لطفه و كرمه بأخلاق الذرية بالآباء في المنزلة وإن لم يبلغوا عملهم لتقر عين الآباء بالأبناء قـال تعالى : ﴿ والذين آمنوا واتبعهم ذريتهم بإيمان ﴾ الطور 52 . وروى الطبري عن ابن عباس أن رسول الله قال : ( إذا دخل رجل الجنة سال عن أبويه وزوجته وولده فيقال : إنهم لم يبلغوا درجتك فيقول يا رب ؟ قد عملت لي و لهم فيؤمر بإلحاقهم به ) . هذا فضله تعالى على الأبناء   أما فضله على الآباء ببركة دعاء الأبناء فقد أخرج أحمد عن أبي هرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة فيقول : يا رب أنى لي هذه ؟ فيقول : باستغفار ولدك لك ) . 

      

 

 

 

 

فلسفة العلم في الإسلام

إن الإسلام يؤمن بالعلم طريقاً للتقدم ، وقد أعلن على الأمية حرباً شعواء ، منذ اللحظة الأولى لبعثة محمد صلى الله عليه وسلم فكانت أول آية نزلت عليه   :    ﴿ اقرأ باسم ربك الذي خلق ، خلق الإنسان من علق ، اقرأ وربك الأكرم  الذي علم بالقلم ﴾ بهذه الآية أصبح العلم شعار الإسلام ، له فاعلية في جميع الميادين ، بحيث لو استبعدناه من الإسلام لم يبق له شيء ، فكل عبادات الإسلام مرتبطة بالعلم ، وجاءت الآيات القرآنية تربط بين العبادة المخلصة وبين العلم فقال تعالى : ﴿ أمَّن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحْذَرُ الآخرة ويرجو رحمة ربه ، قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ﴾ الزمر 9 . فالقنوت الخاشع لله يتوقف على العلم ، ومن ثم لا تستوي عبادة الجهال وعبادة العلماء لما ورد عنه صلى الله عليه وسلم ( فضل العلم خيرٌ من فضل العبادة ) البزار ، ولقوله صلى الله عليه وسلم : ( أفضل العبادة الفقه ) الطبراني   وقال صلى الله عليه وسلم في فضل العالم على العابد : ( فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم رجلا ) الترمذي . ومن العلماء من يحمل المؤهل العلمي , لكنه ينسلخ من مبادئه ، ومن تقوى الله وخشيته ، لا يطبق الواجب من الدين ومنهجه ، وهذا هو العلم الضار قال تعالى : ﴿ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ ﴾ البقرة 102.  هذا الصنف من العلماء هم الذين قال فيهم سفيان الثوري : " إن فجار القراء اتخذوا القرآن إلى الدنيا سلما قالوا : ندخل على الأمراء نفرج عن المكروب ، ونتكلم في محبوس  ولم يكن ذلك هدفهم ، إنما كانوا يقتنصون الدنيا " ، فعلى العالم أن يحسن الظن بالشريعة ، لأن العلم هو الشريعة  وأن يحسن ظنه في عمله للعلم ، وأن يحسن ظنه بالعلم والعمل جميعا، وأن يقبل على ذلك .

ولقد أحسن ابن القيم عندما قال :

والجهلُ داء قاتلٌ وشفـاؤه     أمران في التركيب متفقـانِ

نص من القرآن أو من سنة   وطبيب ذاك العالم الربانـي

والعلم أقسام ثلاثة ما لهـا      من رابع والحق ذو تبيانِ

علم بأوصاف الإلـه وفعله      وكذلك الأسماء للدّيانِ

والأمر والنهي الذي هو دينـه    وجزاؤه يوم المعاد الثاني

والكلُّ في القرآن والسنن التي جاءت عن المبعوث بالفرقان

والله ما قال امرؤ متحذلق      بسواهـما إلا من الهـذيـان

وهذا حق ، فالعلم به كمال الروح ، وكمال الاعتقاد  وكمال العمل ، وكمال انشراح الصدر ، وكمال رؤية الأشياء ، وقد ذكر أهل العلم أنَّ من أسباب ضلال الضالين من هذه الأمة ، أنهم ضلوا لأنهم لم يكونوا على علم صحيح   لأن العلم الصحيح سبب من أسباب وقاية الفتن ، ووقاية أسباب الضلال .

كثيرون بينهم وبين الكتاب جفاء وهجر ، ومع أنهم أمة  (اقرأ) ، أو أن القراءة أصبحت حسَّ الكثيرين ممن اشتطّت أفكارهم عندما فسدت قراءاتهم ، لا يدري ما يقرأ فمرة عن الرياضة ، ومرة عن الفن ، ومرة عن السفاهة   وأحسنهم حالاً من يقرأ عناوين الصحف . وكيف يعقل من يقرأ خمس صحف يومية ، ولا يقرأ كتاب رب البرية ؟! وكيف يرشُد حاوي الأدبيات السخيفة ، وهو مُعرض عن الأحاديث النبوية الشريفة ؟! أو من هو مغرَم بالقصص الفنية ، وقد غفل عن السيرة النبوية ، أو من هو هاوٍ للمغامرات ، وناس ما لأهل الإسلام من فدائيات وبطولات! قد ثقلت عليهم المعرفة  وخف عليهم القيل والقال ، ولو سألت أكثرهم ماذا قرأت اليوم ؟ وكم صفحة طالعت ؟ لوجدت الجواب صفر ، غالبهم بطين سمين ، ثخين بدين   لأنه مجتهد في تناول كل ما وقعت عليه العين ، ووصلت إليه اليدين ،  إنهم بحاجة إلى دورات تدريبية على القراءة  لأنهم وزّعوا أوقاتهم على  السمر مع الشاشات   ومشاهدة المسلسلات ، أو متابعة آخر الموضوعات ، وما علموا أن الإنسان بلا قراءة قزم صغير ، وأن الأمة بلا كتاب قطيع هائم كبير .

والمطالع لسِيَر العظماء العباقرة ، يجد الصفة اللازمة لجميعهم القراءة والمطالعة  وهيامهم بالمعرفة وعشقهم للعلم ، حتى مات الجاحظ تحت كتبه، وتوفي مسلم صاحب الصحيح وهو يطالع الكتب ، وكان أبو الوفاء ابن عقيل يقرأ وهو يمشي  وقال المتنبي: وخير جليس في الزمان كتاب ، وقال صاحب كتاب فن الخطابة : العظمة هي قراءة الكتب بفهم ، وقال الروائي الروسي تيولوستي : قراءة الكتب تداوي جراحات الزمن ، أما آن لنا أن نقبل على القراءة ، بدل أن نقضى العمر ونقتل الزمان بالهذيان ، وأماني الشيطان ، وأخبار فلان وعلاّن ، أما آن لأصحاب الذهن الجامد ، والضمير الراقد أن يستيقظوا ويقتدوا بأصحاب الهمم الشماء ، التي جعلت أحمد بن حنبل يطوف الدنيا ليجمع أربعين ألف حديث في المسند ، وابن حجر يؤلّف فتح  الباري ثلاثين مجلداً ، وابن عقيل الحنبلي يؤلف كتاب الفنون سبعمائة مجلد  وابن خلدون يسجّل اسمه في عواصم الدنيا، وابن رشد يجمع المعارف الإنسانية كانوا يعطون القراءة أكثر أوقاتهم متجلّدين ، كعطاء أهل الدنيا بدنياهم ومشاغلهم ، فلا غرابة إذا قلنا أن عالمًا من المسلمين قرأ (المدونة) في الفقه المالكي ألف مرة ، والمحدث أبو بكر الأبهري : قرأ (الموطأ) خمسًا وأربعين مرة  والحافظ الحسن السمرقندي قرأ صحيح مسلم نيفا وثلاثين مرة ، والحافظ برهان الدين الحلبي ذكر أنه قرأ صحيح البخاري أكثر من ستين مرة ، وقرأ صحيح مسلم نحو عشرين مرة . وأبو الفرج ابن الجوزي ذكر في صيد الخاطر أنه ربما طالع  أكثر من عشرين ألف مجلد . أولئك قوم شيد الله فخرهم  ، فما فوقه فخر ولو عظم الفخر ولقد أحسن من قال :

ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم  على الهدى لمن استهدى أدلاء

وقدر كل امرئ ما كان يحسنه   والجاهلون لأهل العلم أعداء

ففز بعلم تعش حيا به أبدا     الناس موتى وأهل العلم أحياء

 وقال الحسن : تعلموا العلم ، فإن تعلمه خشية ، وطلبه عبادة ، ومدارسته تسبيح ، والبحث عنه جهاد، وتعليمه من لا يعلمه صدقة ، وبذله لأهله قربة  وهو الأنيس في الوحدة ، والصاحب في الخلوة ، والدليل على الدين   والصبر على الضراء والسراء ، والقريب عند الغرباء ، ومنار سبيل الجنة ، يرفع الله به أقواما في الخير ، فيجعلهم سادة هداة يقتدى بهم ، أدلة في الخير ، تقتفى آثارهم  وترمق أفعالهم ، وترغب الملائكة في خلتهم ، وبأجنحتها تمسحهم ، لأن العلم حياة القلوب ، ونور الأبصار ، به يبلغ الإنسان منازل الأبرار ، وبه يطاع الله عز وجل    وبه يعبد ، وبه يوحد ، وبه يمجد ، وبه تواصل الأرحام  يلهمه السعداء ويحرمه الأشقياء " .  كتب رجل إلى ابن عمر يطلب منه أمراً عجيباً ، أتدرون ماذا قال : قال أكتب إلي بالعلم كله ، فبماذا رد عليه ابن عمر ؟ دله على مفاتيح الخير التي ينجو بها ، فكتب إليه : إن العلم كثير ، ولكن إن استطعت أن تلقى الله : خفيف الظهر من دماء الناس ، خميص البطن من أموالهم ، كافَّ اللسان عن أعراضهم ، لازماً لأمر جماعتهم ، فافعل " وتعتبر الدعوة في كتاب الله للقراءة ، دعوة كما قيل  إلى العلم ، ودعوة إلى المعرفة ، ودعوة إلى البحث والنظر ودعوة إلى الحق واليقين ، ومعنى ذلك فإن الإسلام منذ اللحظة الأولى ، حض على العلم وأشاد بالمعرفة ، والقرآن الكريم حافل بالآيات التي تدعوا إلى البحث والنظر  واكتشاف نواميس الكون  ، وكنوز الأرض، يقول الله تعالى : ﴿ قل انظروا ماذا في السموات والأرض  ﴾ والعلم المشاد به لا يقتصر على العلوم الشرعية بل يشمل كل العلوم التي تحتاجها الأمة ، وقد اتفق الفقهاء على أن كل العلوم التي تفيد الأمة ، طلبها فرض كفاية بما في ذلك العلوم الشرعية ، وقصر فضل العلم على العلوم الشرعية دون سواها ، سبب أدى ويؤدي إلى تأخر الأمة عن ركب الحضارة والتقدم ، ولا يمكن للمسلمين أن يصيروا خير أمة أخرجت للناس ، كما قال بعض العلماء إلا إذا تفوقوا على سائر الأمم ، وأن يكونوا مثالا يحتذي في معاملاتهم وفي سلوكياتهم ، وما يتمسكون به ويدعون إليه ، من قيم رفيعة وأخلاق سامية ، إلى جانب تفوقهم في امتلاك أسباب القوة ، بمختلف أنواعها وأشكالها ، القوة الاقتصادية والسياسة والفكرية والعسكرية والعلمية ، وهذا يعني أن يطورا وباستمرار معارفهم وعلومهم في شتى المجالات ، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ) فيه إشارة إلى القوة بكل جوانبها وأشكالها ، قوة في البدن والروح ، قوة في العقل والعلم والإرادة .  كما ينبغي أن يعرفوا أن أهم عامل يساعد عل التحصيل العلمي الجيد والنافع ، تقوى الله ، قال تعالى : ﴿ واتقوا الله ويعلمكم الله ﴾ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم ) . وقد قيل : لو كان العلم بلا تقى شرفا لكن أشرف المخلوقات إبليس ، ورحم الله الإمام عليا حين قال : " العلم خير من المال ، العلم يحرسك وأنت تحرس المال  والعلم حاكم والمال محكوم ، والمال تنقصه النفقة والعلم يزكوا بالإنفاق " . إن الأمة الإسلامية ، لا يمكن لها أن تنهض إلا بالعلم ولا يمكن لها أن تتبوأ مكان الصدارة إلا بالعلم  ولا يمكن لها أن تقضي على التخلف والأمراض والفقر إلا بالعلم ، ولا يمكن لها أن تقود غيرها إلا بالعلم ، ولا يمكن لها أن تنهي تفرقها المذموم إلا بالعلم  فالعلم هو الأساس لوحدتها ، وهو الأساس لفلاحها  أفرادا وجماعات ، والعلم مأمور به قبل العمل ، لأنه أساس العمل قال تعالى : ﴿  فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات والله يعلم متقلبكم ومثواكم ﴾ . إن الترابط بين العقيدة والعلم والعمل في بناء الحياة ، أمرٌ لا بد منه  لبناء الدولة العصرية ، لأنه لا علم إلا بعمل ، ولا عمل إلا بعلم  ولا إيمان بغير ذلك ، وقد استخدم الإسلام العلم في كل مجالاته التطبيقية ، التي تناولت الحياة كلها  وخطط به للسلم والحرب ، والسياسة والاقتصاد والمال  وفي كل المجالات  ولم يحدث في يوم من الأيام أن صار العلم نظريا فحسب ، بل إن القرآن لينعى على أقوام يقولون ما لا يفعلون فقال سبحانه : ﴿ يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ﴾ الصف 2 . يفهم من الآية أنها جعلت العلم من غير عمل ، نكبة وضعفا ، ثم عقبت على ذلك بذكر نموذج تتكامل فيه المعاني الثلاث : العقيدة والعلم والعمل ، وهو الجهاد وقتال العدو ، فليس بالأقوال والمعرفة يكون الجهاد   وإنما يكون بعقيدة دافعة ، يخطط لها العلم ، ويترجمها التلاحم على خط النار ، في مواجة العدو كالبنيان المرصوص  وكأنما الآية تريد أن تقول لنا : لا يكون الجهاد بالكلمات والنظريات بل بالدماء والتضحيات  وبدافع من العقيدة : ﴿ إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص ﴾ الصف .

 

 

 

 

 

                      

 

 

 

عاقبة الإعراض عن ذكر الله

قال تعالى : ﴿ فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ، ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشةً ضنكا  ونحشرهُ يوم القيامة أعمى ﴾ طه 134 .

الناس فريقان ، فريق اهتدى ، وفريق غوى فهوى ، فمن تبع هدى الله ، فهو في أمان من الضلال والشقاء ، بإتباع هدى الله . والشقاء ثمرة الضلال ، وما يضل الإنسان عن هدى الله ، إلا ويتخبط في القلق والحيرة .  ومن أعرض عن ذكره  فإن له معيشة ضنكا  ضنك الحيرة والقلق والشك  ضنك الحرص والحذر ، كما اقتضت مشيئة الله ، أنه حين يغفل الإنسان عن ذكر الله ، يجد الشيطان طريقة إليه  ويصبح له قرين سوء ، يوسوس ويزين له السوء  وإن وظيفة قرناء السوء من الشياطين ، أن يصدوا قرناءهم عن سبيل الله  فيما يحسبون أنهم مهتدون .  ألم يتوعد الشيطان الناس بنشر سمومه ، فقال تعالى : ﴿ لأقعدنَّ لهم صراطك المستقيم ﴾الأعراف 16 وقال لخالق السماوات والأرض: ﴿ لئن أخَّرْتَنِ إلى يوم القيامة لأحتَنِكَنَّ ذريته إلا قليلا}الإسراء 62 . أي لأستولينَّ عليهم بالإغواء والإضلال ، فيجيبه الخالق: ﴿ إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ﴾ الحجر42. كما جاء في الحديث : أن إبليس قال لرب العزة لأغوينهم ، ما دامت أرواحُهم في أبدانهم ، فقال رب العزة : ( وعزتي وجلالي لأغفرنَّ لهم ما داموا يستغفرونني ) . ويوم تنحرف الإنسانية عن طريق الله ، فإن الشياطين تزين لهم ما يفعلون ، ويصيرون هم لها متبعين وتقوم بينهم ولاية ، قال تعالى : ﴿ إنهُ يراكم هو وقبيلهُ من حيث لا ترونهم ، إنا جعلنا الشياطين أولياء ، للذين لا يؤمنون ﴾ الأعراف 27 . أي يُزَينُ الشيطان لهم سوء عملهم ، فيروه حسنا فيصدوا عن سبيل الله قال تعالى : ﴿ وزين لهم الشيطان أعمالهم  فصدهم عن السبيل ، فهم لا يهتدون ﴾ النمل 24 .  ثم يقول الله مبيناً الطريقة التي اتبعوها ، والسبيل التي سلكوها فيقول :{ إن الذين ارتدّوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى ، الشيطان سوَّل لهم وأمْلى لهم ﴾ محمد 25 . ثم كشف القرآن النقاب ، عن الذين يتخذهم الشيطان أولياء  فيسلكون معه طريق الإغواء ، قال تعالى : ﴿ هل أُنبِئُكُم على من تنَزَّلُ الشياطين ، تنَزَّلُ على كل أفّاكٍ أثيم ﴾ الشعراء 221 . إن طلاب الدنيا الساعون لها ، المكذبون بآيات الله ، المعرضون عن ذكره ، دائماً في تعب في الليل والنهار ، والصحة والمرض ، والغنى والفقر  إن أُعطوا في الدنيا طلبوا المزيد ، وإن لم يُعْطوا فيها ، حزنوا وابتأسوا ، وغزا الغَمُّ والهمُّ والنصب والوصبُ نفوسهم . ولو كان لأحدهم واديان من مال لابتغى ثالثاً ، لأن جوف الإنسان لا يملؤه إلا التراب ، ومن هنا جاءت النصيحة الغالية التي يوجهها الله في الحديث القدسي : (ابن آدم عندك ما يكفيك وأنت تطلب ما يطغيك ، لا بقليل تقنع  ولا من كثيرٍ تشبع ، إذا كنت معافى في بدنك  آمناً في سربك  عندك قوت يومك ، فعلى الدنيا العفاء ) قولٌ كريم ، وربٌ كريم .

النفس تجزع أن تكون فقيرةً         والفقر خيرٌ من غنى يطغيها

وغنى النفوس هو الكفاف فإن أبت   فجميع ما في الأرض يكفيها

إن من أعرض عن ذكر ربه ، وهديه تكون حياته ضنكا ، ويعيش في ضنك   من يحب خمساً وينسى خمساً ، يحب المخلوق وينسى الخالق  يحب المال وينسى الحساب ، يحب القصور وينسى القبور ، يحب الذنوب وينسى التوبة ، يحب الدنيا وينسى الآخرة . ويعيش في ضنك الذي  لا يعرف من الإسلام إلا اسمه ولا من المصحف إلا رسمه . وهمه بطنه ، وقبلته نساؤهُ ، إذا رأى غيره حسده  وإذا توارى عنه اغتابه .

لقد حذَّرَ الرسول صلى الله عليه وسلم من أمورٍ ، قال في إحداها : ( ولم تظهر الفاحشة في قوم حتى يعلنوا بها ، إلا فشت فيهم الأوجاع التي لم تكن في أسلافهم ، وقال في ثانيها: ولم يمنعوا زكاة أموالهم ، إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا  ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أُخذوا بالسنين وشدَّة المؤونة وجور السلطان). وقال النبي عليه السلام فيما يرويه عن ربه : ( أنا الله لا اله إلا أنا مالك الملك  وملك الملوك قلوب الملوك في يدي ، وإن العباد إذا أطاعوني ، حوّلت قلوب ملوكهم عليهم بالرأفة والرحمة  وإن العباد إذا عصوني حولت قلوبهم عليهم بالسخط والنقمة ، فساموهم سوء العذاب ، فلا تشغلوا أنفسكم بالدعاء على ملوككم ، ولكن اشغلوا أنفسكم بذكري  والتقرب إليَّ أكفكم ملوككم ) .

 ومن النتائج المترتبة على الإعراض عن ذكـر الله  مصير المعرض يوم القيامة   كيف يحشر بين الناس ، وماذا يقول وبأي شيءٍ يُرَدُ عليه .

أما النتيجة الأولى فهي قول الله جل وعلا : ﴿ نُقَيضْ له شيطاناً فهو له قرين ﴾ الزخرف 36 .وأما الثانية : ﴿ ونحشره يوم القيامة أعمى ﴾ طه 124 .

وماذا بعد ذلك قال تعالى : ﴿ ومن يُعرض عن ذكر ربه يسْلُكه عذاباً صعَدا ﴾ الجن 17 . أي مشقة لا راحة معها .

وهناك فريق المستقيمين والمعرضين عن ذكر الله : أما المستقيمين : ﴿ تتنـزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا ، وابشروا بالجنة التي كنتم توعدون}فصلت 30 . وأما المعرضين فيقول قائلهم : ﴿ رب أَرْجِعون لعلّى أعمل صالحاً فيما تركت ﴾ المؤمنون 100 .   فيقال له : ﴿كلا إنها كلمةٌ هو قائلها ، ومن ورائهم برزخٌ إلى يوم يبعثون ﴾ المؤمنون 100  .وإذا نفخ في الصور يقول فريقٌ : ﴿ يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا ﴾ يس 52 . أما حال الفريق الثاني: ﴿ وجوهٌ يومئذٍ ناضرة إلى ربها ناظره﴾ القيامة 22 . إن لهذا الضنك ، والعبث الطاغي على شؤون المسلمين في كل أوطانهم ، ولهذا الهوان المضروب عليهم ، سبب واحد لا ثاني له ، هو اتخاذهم القرآن مهجورا ، وإهمالهم لذكر الله في كل أحوالهم  وهجرهم للدّين أمراً وزجراً ووعظاً وذكرا.

إن المسلمين اليوم ، لا ينتفعون بصلاةٍ ولا صوم ولا زكاة ولا حج ، ولا بأي منسك أو عبادة أو عمل مما افترضه الله علينا ، لأن فريقاً منا لا يؤديه إطلاقاً  والفريق الثاني يؤديه رسمياً لا موضوعاً ولا شكلاً ولا حقيقة ، وقليل جداً هم الصادقون .  إن الإسلام دين النوايا والموضوعات والحقائق  وليس دين الأشكال ، إنه ليس دين النفاق والمنافقين الذين يُخادعون الله وهو خادعهم   وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى ، يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا . إن المسلمين لا يذكرون الله بقلوبهم وعقولهم ، وفي أعمالهم ومتاجرهم وأسواقهم ومكاتبهم ومدارسهم ، ولا في سلمهم وحربهم إلا قليلا . ويوم يذكر المسلمون الله كثيرا ، ويلتزمون الصدق والأمانة والوفاء ، في كل ما يقولون ويعملون ، فسيكون لهم من الله عز وجل سلطان ، ونور في أبصارهم وأسماعهم وأيديهم وأقدامهم  وهو المعنى الذي جاء في الحديث القدسي : (ما  تقرَّبَ  عبدي  بأحب مما افترضته عليه ، وما يزال عبدي يتقرب إلَّى بالنوافل حتى أحبه   فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به   ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي عليها، ولئن سألني لأعطينه ولئن استغاثتي لأغيثنه) . ويؤكد القرآن الكريم   حقيقة عواقب الإيمان والتقوى ، والذكر الدائم لله عز وجل ، ببركات من السموات والأرض قال تعالى : ﴿ ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ﴾ الأعراف 96  .

ولو أقمنا القرآن ، عقيدة وشريعة وخلقاً وسلوكا  وذكرنا الله حق ذكره ، لانتصرنا على أعدائنا . ولو أن المسلمين حكَّموا القرآن  وذكروا الله  وتذكروا أمره الجازم  بألا يتخذوا أعداءهم وأعداء دينهم أولياء ، لما تفرَّق شملهم ولا تصدع كيانهم   ولا اختلفت كلمتهم ، ولا نزع الله مهابتهم من صدور أعدائهم ، ولا كانوا كغثاء السيل . وقضية فلسطين مثل حيٌّ على هزيمة المسلمين في معاركهم مع أعداء دينهم ، ومغتصبي أوطانهم وآكلي ثرواتهم ، ولو ذكروا الله بإخلاص   وآمنوا واتقوا لكان النصر حليفهم : ﴿ إن تنصروا الله ينصركم ﴾ حمد 7 . وحين نسي المسلمون ربهم ، أنساهم أنفسهم  وعطلهم عقلياً وجسدياً ، فلم يعد عندهم تفكير سليم ، ولا عمل صالح ، ولا شجاعة عند لقاء العدو، ولا بركة في طلب العلم ، ولم تعد لهم المعرفة الصحيحة لعدوهم وصديقهم ، فاتخذوا الأعداء أولياء ، وهجروا الأقرباء والأصدقاء بل أعلنوا على أهليهم وذويهم وإخوانهم الحرب ، يضربُ بعضهم رقاب بعض ، بينما عدوهم الذي اغتصب أرضهم وديارهم وأموالهم ، ينظر إليهم شامتاً متمنياً لهم مزيداً من الفرقة ، والخلاف والتخريب وسفك الدماء ، وعندما نسوا الله نسيهم ، فلم يذكرهم برحمة ولا لطف ، ولا توفيق إلى الخير ولا هداية لأسباب النصر ، فهم في غناهم فقراء  وفي جماعتهم ضعفاء ، وهم على علمهم جهله ، وعلى كثرتهم غثاء .

وحتى تكون للمسلمين مكانتهم المرموقة في العالم  عليهم أن يحسنوا الأعداد  ويصدقوا النية والعزم لصد الكفر وأهله ، وبالنية الصادقة والتوكل على الله  وإعداد العدة ينتصر الحق وأهله ﴿ ولينصرن الله من ينصره ﴾ الحج 40 .                                  

 

ظاهرة التسول

التسول عملية تختلف وتتنوع باختلاف البيئة وتنوعها ففي حين يلجأ متسول الشوارع إلى طرق زجاج السيارة أو بيع ما لا يباع في الشوارع الرئيسية ، فإننا نرى آخرين يقومون بابتكار أساليب مؤثرة ، كأن يحمل ولداً و تقريراً طبياً يّدعي أنه بحاجة إلى علاج أو لا يوجد في بيته ما يأكله ولذلك يجمع المال .

كثيراً ما نرى هؤلاء يقفون يسألون الناس داخل المساجد ناسين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمن نشد ضالته في المسجد لا ردها الله إليك مما يدل على أن المساجد لا تصلح لهذا .

و ما نراه من تسوّل الأطفال واستغلالهم أمرٌ يثير الشفقة و النساء التي تجوب الشوارع وتستوقف المارة قائلة من فضلك كلمة و غير ذلك من الأساليب . لقد ورد النهي عن الشحاذة وسؤال الناس في الحديث الذي رواه البخاري عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله تعالى وليس في وجهه مزعة لحم ) وجاء في الحديث الذي رواه الترمذي باستناد صحيح : ( ثلاثة أقسم عليهم : ما نقص مال من صدقة ولا ظُلم عبدٌ مظلمة صبر عليها إلا زاده الله عزّا ولا فتح عبدٌ باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر ) فيه تحذير من هوان النفس وتعريض الإنسان لذل السؤال للناس كي يمنحوه من عطائهم ، ويتمثل هذا بحرمان الإنسان من الشيء الذي أساء التصرف بغية الوصول إليه لأن هذا الإنسان اتخذ سؤال الناس ليصل إلى الغنى ، لذا فإن سنة الله تقضي بمعاقبته بأن يجعل الله الفقر بين عينيه ، وكلما فتح باباً من أبواب المسألة فتح الله عليه باباً من أبواب الفقر ، فتظل مشاعر الفقر وآلامه تلاحقه ولو كان بين يديه من المال ما يكفيه وهو ما نلاحظه من المتسولين ، فقد يجمع احدهم بالمسألة ملاً كثيراً وهو مع ذلك مصابٌ بداء الفقر النفسي ، ومعظمهم لا ينتفع بما يجمع من مال ، ويظل يكنـزه ويبخل به على نفسه حتى يوافيه الأجل وهو في ثياب الفقر وطعام الفقر ومأوى الفقر يعاني من داء طلب الغنى والخلاص من الفقر . أما حكم المسألة شرعاً فإنه ينبغي للمؤمن أن لا يسأل الناس من غير حاجة تضطره إليه ، بل يستعفف عن السؤال ما استطاع ، لأنه ذل في الدنيا وفقر معجل وحساب طويل يوم القيامة ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً لأصحابه : ( ألا تبايعون ؟ فقالوا : قد بايعناك يا رسول الله ، قال تبايعون على أن لا تسألوا الناس شيئاً ) فكان بعد ذلك يقع المِخْصرة – السوط – من أحدهم فينـزل لها ولا يقول لأحد ناولنيها . ونظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجال يسألون فقال : ( هؤلاء شرار من خلق الله ، الناس مقبلون على الله وهم مقبلون على الناس ) . وسأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال أسألك بوجه الله  فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بضربه خمسة أسواط ثم قال : ( سل بوجهك اللئيم ولا تسأل بوجه الله الكريم ) . وروى ابن حبان في صحيحة عن عمر بين الخطاب قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سأل الناس ليُثرى – يكثر ماله – فإنما رضْفٌ من النار ملهبةٌ فمن شاء فليقل ومن شاء فليكثر ) . والحديث الذي رواه الطبراني عن حبشي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( من سأل من غير فقر فكأنما يأكل الجمر ) . وبالرغم من ذلك كله جاء النعي عن زجر السائل قال تعالى : ﴿ وأما السائل فلا تنهر ﴾ أي لا تزجره في وجهه ولا تعبس في وجهه ولا تغلظ له القول بل رده رداً جميلاً وأخرج البيهقي في مجمع الزوائد والبزار في كشف الأستار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يمنعن أحدكم السائل ، وإن رأى في يديه قُلبين – سوارين – من ذهب ) . يروي التاريخ أن أحمد بن طولون كان كثير الصدقة وكان الموكل بصدقته سليم الخادم الذي قال له يوماً أيها الأمير إني أطوف القبائل وأدق الأبواب لصدقاتك وإن اليد تمد إلي وربما كان فيها الخاتم الذهب والسوار أفأُعطي أم أرد ؟ فاطرق طويلاً ثم قال : كل يدٍ مدت إليك فلا تردها . كما جاءت الأحاديث بالحض على إعطاء السائلين الذين يضعون أنفسهم موضع السؤال روى أبو داود و أحمد في مسنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( أعط السائل ولو على فرسه ) لأنك لا تعرف لماذا يسأل ، وبعض الناس يبرزون الشح فيقولون : إن كثيراً من السائلين هم قومٌ محترفون للسؤال . نقول لهم ما دام قد سأل فأعطه ولا تتردد ولن تخسر شيئاً من عطائه ولأن تخطيء في العطاء خيرٌ من أن تصيب في المنع . إن المؤمن عزيزٌ غير ذليل قال تعالى : ﴿ ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ﴾ . وسؤال الناس مذلة وضعة ، فإن أعطي السائل فالمنة عليه ثقيلة ، و الجميل أسرٌ له واستعباد ، وإن المنع خزيٌ وخجل وتأففُ من المسئول وإن كان السائل قادراً على الكسب فهو كافرٌ بنعمة الله إذا ترك الكسب عن طريق الكدح في سبيل الرزق ولو من اقل المهن وأصغرهن لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يحضنا على العمل ويبغضنا في السؤال روى البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة حطب فيبيعها فيكُفَّ الله بها وجهه خيرٌ له من أن يسال الناس أعطوهن او منعوه ) .

 

 

شرط خيرية هذه الأمة

إن خيرية هذه ألأمه واستمراريتها ، منوطٌ بقيامها بالحق ، والدعوةِ إليه ، وحراسته والدفاع عنه .  وهنا نتساءل ، أما آن لنا أن نفتش عن الطريق  الذي يَخْرُجُ بأمتنا من الدوامة التي تدور فيها بغير نتيجة ؟  أما آن لنا أن نفكر ، بما وصلنا إليه من مرارة وخيبة ، من نتائج تجاربنا الفاشلة لكل النظم الوضعية ؟ أما آن لنا أن نبدأ ببناء حياتنا على أساس عقيدتنا الإسلامية ؟ نحن نتساءل ونتمنى أن نعود إلى الإسلام ، الذي أعاد الأمور إلى نصابها ، عندما أعلن المساواة بين الحاكم والمحكوم ، والغني والفقي ،ر واعتبر الوصول إلى الخلافة ، تكليفاً وأمانةً وإجازةً  وليست إمارةً وتشريفاً وتعالياً وتسلطنا ، وأنها مسئولية  وأن الخليفة مُلتزِمٌ بشرع الله وُملْزَمٌ به  وان بيعته لا تنعقد إلا بهذا الالتزام    وطاعته لا تستمر إلا بالمحافظة على هذا الالتزام ، وأن الأمة مسؤولة عن مراقبة هذا الالتزام ، وأن بيعته تنحل  والطاعة له تتوقف ، في كل أمر بمعصية .

 وقد يتعدى ذلك التقويم ، الذي يتأتى من حسبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، التي أصبحت مطلباً واستدعاءً من الحاكم نفسه ، وفي الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود و النسائي والترمذي ( إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه ، أوشك أن يعمهم الله بعقابٍ منه ) . إن الإسلام لم يكتف بإباحة عملية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وإنما أوجبها حتى يكون التزام المسلم بالفكرة ، والالتقاء عليها  وليس الالتزام بالأشخاص والجماعات ، وحتى نُرَسِّخَ قاعدة معرفة الأشخاص ، ويصبح معيار المسلم ، اعرف الحق تعرف أهله ، والذي يعتبر الأساس الشرعي ،لحسبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والذي هو مسؤولية الجميع ، وغيابه يهدد بهلاك الأمة ، لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أو يمكن أن نقول المناصحة أو التقويم أو المراجعة أو المعارضة ، التي ترتبط بالإيمان بالقيم الشرعية ابتدءاً وانتهاءاً 

إنّ المعارضة السياسية في الإسلام ، لها مفهوماً خاصاً بها ، على خلاف واقعها في الأنظمة السياسية وبخاصة الديمقراطية والأنظمة الديكتاتورية منها ، فالأصل أن تدور المعارضة والموافقة مع الحق ، تنحاز إليه وتدافع عنه ، سواء كان مطروحاً من الحكومةِ أو من غيرها ، والمسلم إلى جانب الحق دائما ،ً ينضم إليه وينصر صاحبه  وينكر على صاحب الباطل ، ولو كان من أقرب المقربين إليه .

إن من يعمل لتحكيم منهج الله ، يعلم هذه الحقيقة ، وإن الكثيرين لا يمتلكون القدرة والصبر  على تحقيق هذا المطلب ، الذي يتطلب الصبر والمصابرة ، وإن المشاكل التي تعاني منها أُمة الإسلام ، تكمن في خضوع فئةٍ من السلمين لقواعد اللعبة الديمقراطية ، بالمفهوم السياسي الغربي ، ومسايرتها في القبول والرفض  والموافقة والمعارضة ، وعجزهم عن بلورة المفهوم الإسلامي  بأبعاده المطلوبة في حسبةِ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .  لقد اعتبر الدخول في الإسلام اختباراً ابتداءاً ، وليس إجباراً ، وجعل الحاكم بشرا ،ً يجري عليه الخطأ والصواب    وجعل مناصحته ومراجعته ، وأمره ونهيه دينا ،ً وجعل طاعته واستمراره  مرهوناً بالتزامه بالشرع ، الذي اختير لحراسته والقيام به ، وجعل عزله عند العدول عن إقامة الشرع ، واجباً شرعياً على الأمة ، وجعل العلاقة بين الحاكم والحكومة عقداً إسلامياً ،ً له مقوماته وأركانه ، وشروط استمراره .

 مع هذا كله يقول المتعصبون ، بأن الإسلام عقبه في وجه الديمقراطية   متجاهلين أن معيار الحكم على الأشياء ، والتعرف عليها والحكم بقبولها هو الشرع الإلهي لا القوانين الوضعية .

 لذلك نرى أن الحضارة الغربية المنسلخة ، عن مرجعية الدين الصحيح وضوابطه تدفع ضريبة هذا الانسلاخ من أمنها النفسي ، وسعادتها الأسرية ، وعلاقاتها الاجتماعية ، وتتفشى فيها الأمراض الجنسية والاجتماعية التي لم تكن في أسلافها ، حيث أصبح المنكر معروفاً ، والمعروف منكراً ، وتغلبت المتع واللذائذ الفانية على السعادة الباقية .

 إن القوامة على الحق . مرتبطة بالأمة بكل مفهومها وعمومها بنص القرآن ، ولم ترتبط بالدولة ولا بالحكومة ، لذا فإن رأي كثير من المفسرين لقوله تعالى : ﴿ولتكن منكم أُمه يدعون إلى الخير ﴾ آل عمران 104 .  إن كلمة من في منكم بيانية تعم جميع الأمة ، ولا تقتصر على فئات وشرائح منها  لتكون حراسة الحق ورقابته عامه ، وتكون عقوبة القعود عنها جماعية ، تنال حتى الصالحين من الأُمة ، إذا حاولوا النجاة بأنفسهم فقعدوا عن القيام بالمسئولية  لذلك قال تعالى : ﴿ واتقوا فتنةً لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة}الأنفال 25 .  فلا بد من ردع الخارجين عن الدين ، وردهم والوقوف في وجههم ، حتى لا يشيع الفساد والمنكر  وهنا نتذكر قولة أم المؤمنين زينب لرسول الله ( ص ) : ( أنهلك وفينا الصالحون قال: نعم إذا كثر الخبث) . وعندما أراد الله أن يخسف بقوم ، قيل : يا رب فيهم فلان العابد  قال : به فأبدأ .

 إن الأمة مهددةٌ بالهلاك ، لانعزال الصالحين عنها  وانسحابهم من المجتمع ، وقعود الكثيرين عن القيام بمهمة الدعوة إلى الخير ، وقد تكون المشكلة بتوفر مناخ  الفتنة ، والهزيمة النفسية ، وتربية حواس الذل في الأمة ، والتطبيع على الهزيمة والمنكر  وتأليفه للنفوس ، وفهم القائمين على أمر هذه الأمة النصوصَ الداعية إلى القوامة على الحق  والتضحية في سبيله ، والجهاد من أجله ، وتأويلها بما يكرِّس الهزيمة ويوطن الفساد ، ويُمكِّن له في الأرض ، مما يؤدي إلى تتابع الأزمات ، وخراب البلاد وهلاك العباد ، بسبب البعد عن منهج الله تطبيقاً ، وتَقَرُّب العامة منه تعبدا ، وهو ما حذَّر منه القرآن الكريم ، عندما قص علينا خِزْيَ الأُمم السابقة ، وتواطئها على المنكرات ، وإيمانها بالبعض ، حتى لا تنتقل العدوى للمسلمين .فقال تعالى : ﴿ أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض  فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزيٌ في الحياة الدنيا ﴾ البقرة .  إن إيمان كل مسلم بالجهاد ، كوسيلة لاسترداد الأرض ، ورفع راية العزة والكرامة فرض عين ، في الوقت الذي يُهمَّشُ فيه مفهوم الجهاد ، وذلك من أخطر مراحل الخزي في الوقت الذي أصبح القائم على الحق ، غريباً ومستغرباً ، بل يوصف بالتشدد والتطرف والأصولية ، مما يؤثر على حركة الدعوة إضافةً إلى دعوات فصل الدين عن الحياة  والمجالات اليومية ، والتضليل الثقافي وتكريس مناخ الهزيمة  وإيجاد التبريرات للقبول بها  والدعوى لإخضاع القيم  والأحكام الشرعية للواقع وتسويغه بها ، بدل أن يُقَوَّم الواقع ويسدد بها  قال تعالى: ﴿ إنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور ﴾ الحج 46 .

                                                  

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

سعة رحمة الله

لقد غمرنا الله برحمته ، وعاملنا بلطفه ورأفته ، فسبقت رحمته غضبه ، لينقذ المؤمنين من العصيان فكتب على نفسه الرحمة قال تعالى : ( ورحمتي وسعت كل شيء ) من تاب إليه نجا ، ومن توكل عليه كفاه هما وغما فكم غفر ذنبا ، وكم جبر قلبا  وكم قبل متندما فمن أضاع أيامه في الغفلة ووقع في المعصية ، واقبل على الله بنيه خالصة ونفس طائعة ، فان النصوص تطمئنه بقبول التوبة والغفران فقد قال الله لنبيه صاحب الشفاعة :( فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة )  وقد خاطب الله عباده المسرفين على أنفسهم بالمخالفة وبما اكتسبوا من الذنوب والمعاصي وظنوا أنهم لا يغفر لهم وقَنِطوا من رحمة الله فقال تعالى : ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا انه هو الغفور الرحيم ) قال الشوكاني : " هذه الآية أرجى إيه في كتاب الله ، لاشتمالها على أعظم بشارة ، فانه أولا أضاف العباد إلى نفسه ، لقصد تشريفهم و مزيد تبشيرهم ، ثم وصفهم بالإسراف في المعاصي والاستكثار من الذنوب ، ثم عقب ذلك بالنهي عن القنوط من الرحمة لهم . روى أن رجلا كان يجتهد في العبادة فيشدد على نفسه ويقَنِّطْ  الناس من رحمة الله ، فلما مات رؤي في المنام وهو بين يدي الله وقد قال : يا رب ما لي عندك ؟ قال النار  قال : يا رب وأين عبادتي واجتهادي ؟ فقال له انك كنت تُقَنِّطْ الناس من رحمتي في الدنيا ، وأنا اليوم أقنِّطُك من رحمتي وقد انشدوا :

لا تقنطن فان الله منان      وعنده للورى عفو وغفران

إن كان عندك إهمال        فعند ربك أفضال وإحسان

فلو أراد الله إن يقنط من المسامحة بين يديه، لما أحال في مغفرة الذنوب عليه فقد قال الله : ﴿ ومن يغفر الذنوب إلا الله ﴾ ثم قال لما رأى عفوه وسعيا : ﴿ إن الله يغفر الذنوب جميعا  فلو أراد الله عقوبة المؤمن  وتخليده في جهنم ، لما ألهمه معرفته وتوحيده وقد قال : ﴿ لا يصلاها إلا الأشقى ، الذي كذب وتولى﴾   وانشدوا :

يا من أساء فيما مضى ثم اعترف  كن محسنا فيما بقي تعطى الشرف

وابشر بقـول اللـه في تنـزيله          إن ينـتهوا يغـفر لهم ما قـد سلف

قال قتاده : ذُكر لنا إن أناسا أصابوا ذنوبا عظاما في الجاهلية ، فلما جاء الإسلام أشفقوا وخافوا أن لا يتاب عليهم ، فدعاهم الله هذه الآية : ﴿ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ﴾ . وروى ابن ماجة عن أبي هريرة أن رسول الله  صلى الله عليه وسلم قال : ( لو أخطأتم حتى تبلغ خطاياكم السماء ثم تبتم لتاب الله عليكم  ) وروى مسلم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( يقول الله تبارك وتعالى : ياعبادي أنكم تخطئون بالليل والنهار وانأ اغفر الذنوب ولا أبالي  فاستغفروني اغفر لكم ) . فالذنوب متلاشية عند حلمه وعفوه ، إذ لو بلغت ذنوب العبد ما عسى أن تبلغ ثم استقال منها بالاستغفار غفرت له لان طلب الإقالة من كريم ، والكريم محل لإقالة العثرات وغفر الزلات ، لكن الاستغفار الذي يتسبب بالمغفرة هو ما قارنه عدم إصرار فقد جاء في الخبر : ( المستغفر من الذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه ) وقيل الاستغفار باللسان توبة الكذابين روى مسلم عن ابي هريرة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( والذي نفسي بيده لولم تذنبوا وتستغفروا لذهب الله بكم و لجاء بقوم يذنبون  فيستغفرون فيغفر لهم ) . وروى البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حديث يصف فيه القيامة و الصراط أن الله تعالى يقول للملائكة : ( من وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه من النار فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نر فيها أحدا ممن أمرتنا ، فيقول الله تعالى : ( رحمتي وسعت كل شيء ) فكان أبو سعيد يقول إن لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرؤا إن شئتم : ﴿ إن الله لا يظلم مثقال ذرة وان تك حسنه يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما ﴾ فيقول الله تبارك وتعالى شفعت الملائكة وشفعت الأنبياء فلم يبق إلا ارحم الراحمين فيقبض قبضة فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط إلا التوحيد قد عادوا فحما ، فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة يقال له نهر الحياة ، فيخرجون منه كما تخرج الحبة من حَمِيل السيل- ما جاء به السيل من طين أو غثاء - فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتيم ، فيعرفهم أهل الجنة فيقولون : هؤلاء عتقاء الله أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه ، ولا خير قدموه ، فيقال لهم ادخلوا الجنة فما رأيتم فهو لكم ، فيقولون ربنا قد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من العالمين ، فيقول الله تبارك وتعالى : ولكم عندي أفضل من هذا ، فيقولون : وأي شيء أفضل من هذا ؟ فيقول أُحِلُّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم ابدا ) وما أحسن ما نشدوا : 

رضاك خير من الدنيا وما فيها   يا منية القلب قاصيها ودانيها

وما ذكرتك الا هِمْتُ من طرب        كان ذكرك ألحان أغانيـها

فنظرة منك يا سؤلي ويا أملي     أشهى إلي من الدنيا وما فيها

وليس للنـفس  آمال تؤمّلها      سوى رضاك فذا أقصى أمانيها

فال أعرابي :" يا رسول الله من يلي حساب الخلق ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : الله تبارك وتعالى ، قال الأعرابي هو بنفسه ،فقال صلى الله عليه وسلم : نعم

فتبسم الأعرابي فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : مم ضحكت يا أعرابي ؟ فقال له إن الكريم إذا قدر عفا وإذا حاسب سامح فقال رسول الله  صلى الله عليه وسلم : ( صدق الأعرابي ألا لا كريم أكرم من الله وهو أكرم الأكرمين )  وسمع الأعرابي ابن عباس يقرا قوله تعالى : ﴿ وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها ﴾ فقال : " والله ما أنقذكم منها وهو يريد أن يوقعهم فيها ، فقال ابن عباس "خذوها من غير فقيه " . وروى البخاري و مسلم عن عمر بن الخطاب انه قال : قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم سبي فإذا امرأة من السبي تسعى وقد وجدت صبيا فأخذته وألصقته ببطنها وأرضعته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار ؟ قلنا لا والله فقال : الله ارحم بعباده من هذه المرأة بولدها ) . إذا كان الله سبحانه ارحم بالعبد من أمه ، فكيف لا يُقبل العبد على طاعته ويقلع عن معصيته ويقدم بين يديه ما يعود بالنفع عليه قال تعالى : ﴿ وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله ﴾ . قيل إن الله تعالى ألطف وأرحم ما يكون بعبده إذا نزل في لحده و جفاه من كان يرغب في قربه ووده فإذا وضع الميت على المغتسل ، وجرد من ثيابه ينادي وا سوأتاه وافضيحتاه  ولا يسمع نداءه غير مولاه فيجيبه الله : عبدي أنا سترتك في الدنيا ، وأنا أسترك في الآخرة ، وإذا أخرج الميت وحمل على النعش ، فانه يصيح واغربتاه، فيقول الله سبحانه يا عبدي إن كنت اليوم غريبا فاني لا زلت منك قريبا ، فلا تخف فاني مقيل عثرتك وراحم غربتك ومؤنس وحدتك فإذا وضعوه في لحده ثم تركوه وانصرفوا ، فانه يصيح وا وحدتاه فيناديه ربه الكريم : عبدي علي تستوحش وأنا أنيسك ، وتشتكي الوحدة وأنا جليسك ، عبدي ألست بربك ؟ فيقول بلى يا رب فيقول الله يا عبدي كيف تركت ما أمرتك به واتبعت ما نهيتك عنه ، أما علمت أن مرجعك إلي وأعمالك معروضة بين يدي أنسيت عهدي أم أنكرت و عيدي ووعدي ، فقد تخلى عنك الآن الصاحب والصديق و تجردت عن المال  الوثيق ، فلا المال نفعك في مآلك ولا الصديق خلصك من قبيح أفعالك ، فما حجتك وما معذرتك ؟ فيقول : يا رب احتوى فلبي على حب الدنيا وحب المال فحملاني على الذنوب والأثقال وها أنا صرت ضيفا في جوارك ، فلا تعذبني بنارك ، وان لم ترحمني فمن يرحمني غيرك فيقول  الله تعالى : عبدي مضوا عنك وتركوك ، ولو أقاموا عندك ما نفعوك ، وإلى بابي وجهوك ، وعلى كرمي خلفوك ، عبدي طب نفسا وقر عينا فأنت الليلة ضيفي والكريم لا يخيب ضيفه يا ملائكتي أحسنوا ضيافته ، وكونوا عليه  أشفق من أهله و قرابته .

تعصي وتجهر بالعصيان إعلانا    واستر الذنب إنعـاما وإحسانا

ولا أجازي مسيئا بالفعال ولا    اجزي الذي تاه عصيانا وعدوانا

من أتى  تائبا بالذل منكسرا       نعطيه من فضلنا عفوا وغفرانا

روى مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال فيما يرويه عن ربه : ( يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وانا اغفر الذنوب ولا أبالي فاستغفروني اغفر لكم ) . سال سائل أيما أفضل التسبيح والتهليل والتكبير أو الاستغفار ؟ فقيل له يا هذا الثوب الوسخ أحوج إلى الصابون منه إلى البخور ولا بد من قرن التوبة بالاستغفار ، لأنه إذا استغفر بلسانه وهو مصر عليه فاستغفاره ذنب يحتاج للاستغفار و يسمى توبة الكذابين . وروى عن انس قال : سمعت رسول الله فيما يرويه عن ربه : ( يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي ، يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا أتيتك بقرابها مغفرة ) وأخيرا نقول ما هو الاستغفار الذي يمنع العذاب ؟ بالرجوع إلى قوله تعالى : ( وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ) نفهم بان الله لا يعذب مستغفرا أما من أصر على الذنب وطلب من الله مغفرته ، فان هذا ليس باستغفار مطلق ، ولهذا لا يمنع العذاب ، لان الاستغفار يتضمن التوبة والتوبة تتضمن الاستغفار وقد جاء الأمر بهما مرتبا بقوله تعالى : ( استغفروا ربكم ثم توبوا إليه ) بمعنى الرجوع إلى الطريق الحق بعد مفارقة الباطل أي أن تطلبوا المغفرة من الذنوب والمعاصي ، وأن تتوبوا منها إلى الله عز و جل بالندم على ما مضى ، والعزم على عدم العودة إلى الذنوب في المستقبل .

 

سبيل الخلاص

يمرُّ المسلمون بمرحلة عصيبة من مراحل تاريخهم  المعاصر ، وتكاد تغلب في هذه المرحلة عوامل اليأس ومشاعر الإحباط ، ومردُّ هذا الشعور يرجع إلى الضربات المتلاحقة التي توجه بخبث ومكر من أعداء الإسلام ، إلى المسلمين الصادقين والدعاة المخلصين ، من أجل إطفاء نور الإسلام  ووقف حركته وتمويت يقظته ، وقد استعانوا على ذلك ببعض حكام  المسلمين ، الذين  استجابوا لأوامر أعداء الدين ، بضرب الدعوة والدعاة لأنهم يخافون من انتصار الإسلام ، الذي يحرمهم من شهواتهم  ويجرِّدهم من مكاسبهم المحرمة .

كما أن القوى المعادية للإسلام ، تمارس حرباً نفسية ، ليتسرب اليأس إلى نفوس المسلمين ، كما تتهم وتشوه كل ما هو إسلامي ، وتتهم الدعاة بالتطرف والعنف والإرهاب والأصولية ، مما يوجب علينا أن نقاوم هذه الحملات ، بنشر الأمل بانتصار الإسلام وإحياء الرجاء في مستقبله  فقد وعد الله عباده المؤمنين بنصر الإسلام ، قال تعالى  ﴿ يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يُتمَّ نورَهُ ولو كره الكافرون ﴾ التوبة 32 .  وقال تعالى : ﴿ وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخفلفنهم في الأرض ﴾ النور 55 .

يقول ابن كثير : هذا  وعد من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بأنه سيجعل أمته خلفاء في الأرض ، أي أئمة الناس والولاة عليهم ، وبهم تصلح البلاد ، روى مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:( إنَّ الله زوى لي الأرض مشارقها ومغاربها وسيبلغ  ملك امتي ما زوى لي منها) ، ولكن وعد الله مشروط بالإيمان وعمل الصالحات  وعبادة الله وحده وعدم الإشراك به لقوله تعالى  : ﴿ يعبدونني لا يشركون بي شيئا ﴾ كما جاء وعد الله المؤمنين  بالنصر والنجاة والدفاع في قوله تعالى :﴿  وكان حقاً علينا نصر المؤمنين ﴾ الروم 47 . وقوله : ﴿ إن الله يدافع عن الذين آمنوا﴾ الحج 38. وكل شيء عنده بمقدار وبأجل مسمى قال تعالى : ﴿ حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنَّهم قد  كُذِبوا جاءهم نصرنا ﴾ يوسف 110 .

إن الأمة الإسلامية هي المسؤولة عن حمل الرسالة الى العالم أجمع ، والاتصال به اتصال رعاية ومسؤولية ، فهي خير أمة أُخرجت للناس ، حيث وصل الإسلام عن طريقها إلى معظم مناطق العالم ، لكنها تعرضت إلى انتكاسة أقعدتها عن متابعة مسؤوليتها عن العالم ، فأصبحت مسلوبة الإرادة وضعيفة ، حيث هزمت أمام النظام الرأسمالي هزيمة فكرية أعقبتها الهزيمة السياسية التي انتهت بزوال الخلافة الإسلامية .

إن الإسلام لا ولن يهزم لأنه الحق من عند الله  فقد تكفل الله بأنه يدَّخِرُ لهذا الدين جيلاً من المؤمنين الأقوياء ، يقاومون الردَّة ويقيمون الدين في أنفسهم   قال تعالى: ﴿ يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه ﴾ المائدة 54 . وإذا تولّى الناس عن نصرة دين الله وإقامة شريعته فإن الله يقول : ﴿ وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثمَّ لا يكونوا أمثالكم ﴾ محمد 38 . وإذا هُرِم المسلمون ورضخوا للظلم السياسي والاقتصادي  وأصبحوا يعانون من الشقاء والاستعباد والإذلال ، إلا أن الامل قائم في أن تأخذ الأمة على عاتقها مهمة إنقاذ العالم ، بعد العمل على إنقاذ نفسها ، لأنها وجدت من أجل هدى البشرية ، وقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن الخير سيستمر في هذه الأمة ، وأنها لا تخلوا من قائم لله بالحجة ومن ناصرٍ للحق ، مستمسك به حتى تقوم الساعة  فقال صلى الله عليه وسلم: ( لا تزال طائفة من امتي قائمةً بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم ، حتى يأتي امر الله ، وهم ظاهرون على الناس) رواه أحمد والشيخان .

إن هذه الطائفة باقية حتى يأتي امر الله ، وإن اصابها ما اصابها ، لأنها قويةٌ بعقيدتها المتمثلة في الفكرة الكلية عن الكون والإنسان والحياة  والاهتمام بالعقيدة السياسية التي تبحث شؤون الدنيا ، معتمدة على القاعدة الفكرية التي تبنى عليها الأفكار ، وتنبثق عنها الأنظمة ، والعمل على إيجاد القيادة الفكرية القادرة على إنقاذ العالم  مهما كانت قوة الدول المسيطرة عليه .

إن الأمة الإسلامية لم تغلب في تاريخها الطويل بوصفها أمة إسلامية ، حيث فتحت أكثر بلاد العالم القديم ، مما يدل على أن الأمة الإسلامية قادرة على  إنقاذ العالم من هذه القوى التي تتحكم فيه وتتسلط عليه وتعمل على إذلاله   وقد  يتسائل الكثيرون : إن الأمة الإسلامية خاضعة لدول الكفر التي وصلت إلى أعلى درجات الاستعداد والقوة ، فكيف يكون في مقدورها أن تصارع هذه القوى التي تمتلك أسلحة الدمار والخراب  ؟ إن أعدائنا عملوا على إشغال الأمة بنفسها لصرفها عن حمل رسالتها إلى العالم ، وتثبيت سيطرتهم على بلاد الإسلام ، لأنهم يدركون قوة الإسلام ، النابع من عقيدة التوحيد التي كان لها القدرة الهائلة في إيجاد القوة الروحية التي استهانت بالحياة في سبيل العقيدة ، والتي تشهد لها وقائع التاريخ وأحداث الماضي ، مما يدعو للتفائل لمستقبل هذا الدين ، رغم العقبات والعوائق التي ترجع الى الأعداء في الخارج والخصوم في الداخل  وما يدعو للعجب أن يكون اكثر الخصوم ممن يحملون اسم الإسلام والذين لا يريدون لشريعة الإسلام أن تحكم .

نذكر من الوقائع ما يتعلق بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وكيف كان النصر في بدر رغم قلة المسلمين وفي الخندق حيث اشتدَّ الكرب ، كما كان النصر حليف المسلمين على الفرس والروم ، ثم التصدي للزحف الصليبي ، والذي تكلل بالنصر في معركة حطين وغيرها من المعارك ، والتصدي للتتار الذين أنزلوا بالمسلمين أشدَّ الهزائم ، ورغم ذلك تحققت المعجزة وهزم التتار شرَّ هزيمة في معركة عين جالوت ، مما يدل على قوة المسلمين أمام الأحداث لتمسكهم بعقيدتهم .    

 ولا عجب أن يكون للمسلمين في هذا العصر إذا ما تمسكوا بعقيدتهم ، ما كان لهم في ذلك العصر  ولكن الدين لا ينتصر وحده ، إنما ينتصر باهله  والحق لا يعلو وحده ، إنما يعلو وفق سنن الله بدعاته ورجاله الذين يجمعون بين العلم والعمل والإخلاص .

إن الأمل بانتصار الإسلام ، يجب أن يمنح الأمة وقوداً متجدداً لمزيدٍ من العطاء والعمل ، ولا تطمع أن يمدها الله بنصره ، على ما بها من سيئ الخصال والفعال ، بل لا بد ان تغِّير ما بأنفسها حتى يغيِّر الله ما بها ، ولا تطمع أن تنتصر على عدوها ، وهي على حالها من التمزق والتعادي والعجز والضياع لأن الله لا ينصر الكسالى على العاملين والمفكرين في هموم امتهم .

كما يستحيل أن تنصر أمة ، أعظم ما يشغلها لعب الكرة ، وأهم ما يملأ صحفها واذاعتها المسموعة والمرئية هو الغناء المبتذل والرقص والتمثيل غير الهادف  وأشهر نجوم المجتمع فيها ، ليسوا العلماء ولا الأدباء ولا المفكرين ، بل هم المطربون والمطربات ، والراقصون والراقصات ، والممثلون والممثلات ، الأحياء منهم والأموات . ومن هنا فإن الأمة مسؤولة عن نشر الهدى  بين الناس ، وأن يدرك كل مسلم أن الأمة الإسلامية أقوى من كل القوى ، بفكرتها الكلية عن الكون والإنسان والحياة ، التي لا يملكها أحد غيرها  وهي تعطي الصورة الحقيقية عن العالم ، وعن الناس والدول والمجتمعات ، وتعطي الطريقة الصحيحة للتغلب على دول الكفر بإذن الله   كما أن الأمة الإسلامية تملك من القوى المادية ما لا يملكه سواها فإذا ما أحسن استغلالها ، كانت  عاملاً من عوامل النصر ، شريطة أن تتحرك الأمة  إن الأمة الإسلامية وهي تؤمن إيماناً جازماً بوجود الله وأن محمد نبي الله ورسوله إلى الناس كافة  تدرك واجبها نحو نفسها ، ومهمتها تجاه بني الإنسان ، وتفهم معنى السياسة والحرب ، وتعرف كيف  تصارع قوى الكفر .

إنه فرض عليها أن تقاتل عدوها ، وتسلك السياسة إلى جانب الحرب والدهاء  والحيلة إلى جانب الإعداد والقوة وهي تقرأ قوله تعالى : ﴿ فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك ﴾ . إنها في حالة الدفاع يجب أن تقاتل عدوها مهما بلغت قواه من القوة ، ومهما بلغت هي من الضعف حتى تدفعه عن نفسها أو تفني عن بكرة أبيها .

وفي حالة تكتل الدول ضدها وكيف تتقي شرَّها  تعمل بالتوجيه الإلهي في قوله تعالى:﴿ وإما تخافنَّ من قومٍ خيانةً فانْبِذْ اليهم على سواء ﴾ .

فلا تكون أسيرة المعاهدات والاتفاقات ، فإذا أحست بالشرِّ أو الضرر نبذتها . 

 إن حاجة العالم الى الإسلام أصبحت ملحة ، وقد آن الأوان لأن تتحرك الأمة الإسلامية لإنقاذ العالم  والمسلمون قادرون على الخلاص مما هم فيه من ذلٍّ وشقاء ، والأعداء يدركون هذه الحقيقة  لذا يشيعون بين المسلمين أجواء الخوف والرعب قال تعالى: ﴿ فلا تخافوهم وخافونِ إن كنتم مؤمنين ﴾ .         

     

 

 

 

 

 

ذم كل سني أو شيعي دعوة إلى التفرقة

ليس كل شيعي متطرف كما أنه ليس كل سني معتدل . إن القران الكريم يدعونا إلى التآخي لا إلى البغضاء وإلى الاجتماع لا إلى الفرقة تلمس ذلك في قوله تعالى :"واعتصموا بحبل الله ولا تفرقوا " وبهذا يكون التحابب والإخاء والنصر كما يكون القهر والخذلان بالتفرقة والبغضاء وهذا ما أشار إليه الله سبحانه بقوله :"ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم "لقد عمد بعض النفوس المريضة واعلاء هذا الدين إلى التفرقة العمياء بين المسلم السني والمسلم الشيعي الذين لم يكن الاختلاف بينهم يوما اختلاف على الكتاب والسنة بل كان اختلاف على فهم الكتاب والسنة ولا اجانب إذا قلت بأن المسلمين هم شيعة النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته وهم حقيقة على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإني أنكر أشد الإنكار أن يفهم المسلم أن كلمة السنة وكلمة الشيعة تعنيان التفرقة والطائفية البغيضة فما الشيعة والسنة إلا ممن تعنيهم الله بقوله تعالى :"إنني من المسلمين ". وعلى هذا فأن القول الطائفة الشيعية أو الطائفة السنية قول خاطئ لأننا لسنا بطائفتين بل نحن أمة إسلامية واحدة كما وصفنا الله تعالى بقوله :"إن هذه أمتكم أمة واحدة وأناركم فاتقون " وقد ظهر الخلاف بين السنة والشيعة حول الوصية والبيعة : فالشيعة يقالون إن الخلافة وصية من عند الله ، ويجب أن تكون لمعصوم ، ولا يجوز أن تكون لأي شخص من المسلمين ، والسنة يقولون أن الخلافة لا تكون إلا لمن تمت له البيعة من المسلمين لأن السلطان للأمة تختار من تشاء لرعاية شؤونها .

وإذا كان القول أن الوصية لاثنى عشر اماما ، أولهم علي وأخرهم محمد المهدي بن الحسن العسكري والذين ماتوا جميعا . ويبقى قضية ظهور الإمام الذي يخرج أخر الزمان من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم يملأ الدنيا عدلا بعد أن تكون قد ملئت جورا ،في هذا يتفق المسلمين سنة وشيعة في انتظار ظهوره أخر الزمان فلا داعي للاختلاف ، لأن الجميع متفقون على موالاته والسير معه .

وأما موضوع الاختلاف على الخلافة هل هي وصية أم بيعة ،فهو في الواقع يرجع إلى خلاف في السياسة في الماضي ، وقد ورثنا هذا الخلاف، إذا أن الشيعة يفسقون من لا يفضل عليا على باقي الصحابة ،والسنة يحكمون بالضلال على من يقدم عليا على أبي بكر وعمر . وأما الاختلاف في الفروع الفقهية فلا بأس به والفرق ليس كبير في الاختلاف بين المذهب الجعفري والمذهب الحنفي ، كما هو حاصل بين المذهب الشافعي والحنفي ،والجدير بالذكر أن الإمام أبو حنيفة والإمام مالك درسا عند الإمام جعفر الصادق . والاختلاف بين المذاهب جلها لا تتفق مع بعضها في كثير من الموضوعات ، لاختلافها في الحكم ، وفي طريقة الاستنباط وفي أنواع الأدلة ،مما أوجد حالة سياسية وفقهية أدت إلى الاختلاف الذي له أثره في التاريخ  ، ولم يكن أبداً اختلاف على الشريعة ،وإنما كان اختلاف في فهم لشريعة .

إن وحدة المسلمين واجتماعهم من أجل هدف واحد في هذا الظرف العصيب الذي نعيشه ونتألم من هذا الواقع المرير ،وقد روي أن الإمام الباخر عليه السلام كان يتألم لمثل هذا الواقع , وكان يقول :"إياكم والخصومة في الدين فإنها تحدث الشك وتورث النفاق "،وقد اعتبر العلماء الإمام جعفر الصادق أعلم أهل عصره لأنه كان أعلم الناس بوجود الاختلاف ،وقد روي عن أبي حنيفة أنه قال :"أعلم الناس هو أعلمهم باختلاف العلماء ،قال أبو حنيفة : سألت الإمام جعفر الصادق عن أربعين مسألة فقال : الحجاز يقولون كذا والعراقيين يقولون كذا ونحن نرى كذا ،فأعجب به أبو حنيفة أيما إعجاب .

إن المسلم المخلص لربه وإسلامه شيعي كان أم سني ، يجب أن يعرف لأهل البيت مقامتهم ويعرف مقام أولئك الصحابة الكرام . ولا يجوز سبهم والتطاول عليهم ،قال الإمام محمد الباقر سلام الله عليه لجابر أحد الصحابة : يا جابر بلغني أن قوماً من العراق يزعمون أنهم يحبوننا ويتناولون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما ويزعمون أني أمرتهم بذلك ، فأبلغهم أني إلى الله بريء منهم  .

 

ذكرى الهجرة

من المناسب ونحن نعيش ذكرى الهجرة النبوية ، أن نُوضِّحَ معنى الهجرة ، وهي انتقال الرسول عليه السلام وأصحابه من مكة بلد الشرك والوثنية ، الى المدينة التي احتضنت الحق والنور ، فراراً بالعقيدة وتمكيناً للدعوة وبناء الدولة الحديثة ،.وهذا النوع من الهجرة انتهى بعد فتح مكه  لحديث مجاشع بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا هجرة بعد الفتح ) .

وهناك هجرة لم يغلق بابها ، ولن يغلق الى يوم الدين ، لأن بواعثها باقية مادام في الدنيا عسف وظلم يَضْطرُّ الإنسان الى الانتقال  لينجو بعقيدته وإيمانه . والمهاجر في كلا النوعين من الهجرة يترك أرضاً تُضطهد فيها عقيدته وتستباحُ كرامته ، الى بلدٍ آخر  يتمكن فيه من عبادة ربه ، والتعبير عن عقيدته تعبيراً حراً لا خوف ولا ضرار .  وهذا النوع من الهجرة ، موجود في كل زمان ومكان ، فحيثما جارت السلطة الحاكمة ، وفسقت عن أمر ربها ، وتتبعت المؤمنين لتفتنهم في دينهم ، وتصرفهم عن عبادة ربهم ، وتحول بينهم وبين التعبير عن عقيدتهم ، وأداء شعائرهم ، وتعطل احكام الله ، وتجترئ على حدود الله ، مع عدم القدرةِ على وضع حدٍ لهذا الظلم ، عندها تصبح الهجرة واجبة .

ومن هنا يمكن أن نعتبر أن وطن المؤمن عقيدته ، فهي الوطن والسكن والحمى والأهل ، وليس وطنه بلداً خاصاً محدوداً بحواجز أو محصوراً في بقعةٍ من الأرض .

إن وطن المؤمن حيث تُعزُّ عقيدته ، فإذا لم تكن العقيدة عزيزةً ، فلا قيمة لوطنٍ ولاسكنٍ ولا أهلٍ ولا جوار ، بل لا قيمة للحياة كلها . وعندما نتتبع أحداث التاريخ ، نرى أن هجراتٍ كثيرة قد حدثت على امتداد الزمن  كلها كانت في سبيل العقيدة ، سواء الذين أذلهم الاستعمار ، وضيق عليهم في أمر دينهم  واضطهادهم بالمصادرة والمطاردة والنفي  وفي بعض الأحيان ذبحهم كما تذبح الشياه . وسواء الذين هامو على وجوههم فراراً بعقيدتهم فساحوا في أرض الله ، وشُردوا تحت كل نجم ، ومن بقي منهم في بلاده ساموه سؤ العذاب . وقبلهم ضحايا الصليبية الحاقدة قديماً ، وضحايا مجازر الزنْجِ والتتر والوثنية عندما تمكنوا من بغداد . وحديثاً حوادث القتل والابادة ، عند انفصال باكستان عن الهند ، وإبادة الملايين من المسلمين في الصين الشيوعية ، وما صنعته الصليبية يوم احتلت بلاد الشام ، ووصلت الى مَعَرّةِ الْنُعمان ، وأعلنت الأمان للمسلمين فصدَّقوا وأمَّنوا ، ثم استدارت عليهم تقَتِّل وتُذَبِّحُ ، حتى أبادت  الالوف ، وعمليات الإبادة التي قام بها الصهاينة منذ أن احتلوا فلسطين ، وما يجري هنا وهناك الكثير الكثير...هذا الواقع التاريخي الذي عاشه المسلمون ، ويعيشونه حتى يومهم هذا من القتل الجماعي والإبادة من القوى الكافرة ، واضطهادهم للعقيدة في الدرجة الاولى ، وهو ما كان يدفع المسلمين في اغلب الاحيان الى الهجرة لتسلم عقيدتهم . إن الهجرة ضربٌ من الجهاد الشاق في سبيل الله ، ضد مطامع النفس وشهواتها  وليعلم المهاجر بانه مجاهد في سبيل الله بهجرته ، له أجر المجاهدين وله شرف التضحية من أجل العقيدة ، فالجهاد والهجرة تحركهما في النفس البشرية حوافز واحدة ، وكل منهما درع تحتمي به العقيدة من أعدائها  ، فكلٌ من المجاهد والمهاجر ، يعرِّض نفسه للمخاطرة  وكل منهما يحتسب أجره عند الله ، وكلٌ من الجهاد والهجرة ، لا بد أن يكون في سبيل الله ، لتكون كلمة الذين كفروا السفلى  قال تعالى في حق المجاهدبن : ﴿ يجاهدون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون﴾  وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :  (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله )   وفي حق الهجرة قال : ﴿ ومن يهاجر في سبيل الله ﴾ .  وقال صلى الله عليه وسلم: ( من كانت هجرته الى الله ورسوله فهجرته الى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأه ينكحها فهجرته الى ما هاجر اليه ) .  

إنها الهجرة في سبيل الله وكفى ، ما دام في الدنيا ظلم وظالمون ، وهذه هجرة مفتوحة كلما وُجدت أسبابها ، وقد عبر النبي صلى الله عليه وسلم عنها أبلغ تعبير فقال : ( لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ) .

وهناك هجرة قلما يلتفت اليها أحد ، انها هجرة النفوس الى الخير ، والقلوب الى الطهر ، والضمائر الى الحق والواجب ، وإذا كانت الهجرة المألوفة ، رحله ماديه على أرض الوجود ، فإن هذا  النوع من الهجرة نقلة معنوية في عالم النقس  تهدف الى خَلْقِ جوٍّ نظيفٍ ، يعيش فيه المؤمن مع فضائله ومع ربه وإيمانه   بعيداً عن الشرور والآثام  وعن كل ما نهى عنه الله ، انها انتقال من السيء الى الحسن ، ومن الشر الى الخير ، ومن الفساد الى الصلاح ، ومن الرجس الى الطهر  ولعلّ سرَّ شقاء المسلمين ، يرجع الى أنهم غيَّروا ما بأنفسهم فغَّير الله ما بهم ، ولن يرجعوا الى مجدهم إلا يوم يرتفعون بنفوسهم عن الدنايا والشهوات  ولن نأخذ مكاننا في قيادة أمتنا وقيادة العالم ، إلا يوم نصعد بأنفسنا ونهاجر بقلوبنا وضمائرنا الى مستوى حَمَلَةِ الرسالة الاوائل ، ايماناً وصدقا ، وعلما ووعيا  وجهاداً وبذلا . فلا يجوز أن يصبح القرآن كتاباً يُدَرّسُ وكفى ، بل يجب أن يتحول الى مبادئ تُغْرَسْ ، لأن النفوس الطيبة الكريمة ، هي التي تنقل المعاني القرآنية من قلب المصحف الى قلب الحياة ، وتبلغ بالتطبيق السلوكي ذروته  فيصبح القرآن بها حياةً  تُمارَسْ ، وواقعاً تعيشه الأفراد والجماعات ، ولهذا الهدف نزل القرآن . إن التضارب بين القول والعمل ، يجب أن يزول من حياتنا ، وهو ما يرفضه الاسلام ويعلن الحرب عليه قال تعالى : ﴿ أتأمرون الناس بالبرِّ وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب ﴾ البقرة . وقال تعالى على لسان شعيب : ﴿ إن أريد إلا الاصلاح ما استطعت ﴾ . مما يدل على أن النفاذ الى الاصلاح والمنطلق لحمل الرسالة ، إنما يكون بإخلاص الداعية لمبادئه ، وذلك بائتماره بما يأمره به وانتهائه عما ينهى عنه . وإن منطق التغيير الذي ينتهجه الاسلام ، يأبى بقاء المسلمين على هذا الوضع من البعد عن الله والإغراق في الآثام والشهوات ، لذا يجب أن نبدأ التحول من أنفسنا ، ثم ننطلق منها الى غيرنا استجابة الى قوله تعالى : ﴿ ذلك بأنَّ الله لم يكُ مُغيِّراً نعمةً انعمها على قومٍ حتى يغيِّروا ما بأنفسهم ﴾ .

إن الهجرة المعنوية في حياة المسلمين ، تجعلهم دائماً سادة انفسهم وسادة الحياة  ولو أنهم عاشوا حياةً مهاجرةً الى ربهم ، لما استعبدتهم الشهوات ، ولما استذلتهم النظم ، ولما تفشت فيهم الانحرافات ، ولما تمكن منهم العالمُ الكافرُ يعدُهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا .

إن الهجرة التي نعيش ذكراها ، لم تتم بضغط من أية جهة ، كما أن المسلمين لم يذهبوا الى يثرب ليحتلوها بالقوة ، وانما مهدوا لتلك الهجرة بفتح القلوب قبل استيطان البلاد ، فقد تم التفاهم الحرُّ في مؤتمر هادئ ، ودار حوار مقنع بين الرسول وبين قيادات أهل المدينة في بيعه العقبة الكبرى ، فلم يُفرض فيه قبول أفواج المهاجرين من مكة ، بل هم الذين كانوا يتعجلون استقبال إخوانهم ويتنافسون في استضافتهم ، ويشاطرونهم الدور والأرض والمال ، ولم يوزع عليهم الرسول المال ، ولم يعدهم بالوعود الخادعة ، ولا منّاهم بشيء ، بل على العكس ألزمهم من التكاليف الشاقة ما تنوء من حمله الجبال  فقد أخذ عليهم مسؤولية الحرب دفاعاً عن الحق والعقيدة ، هذه العقيدة التي جعلت أهل يثرب يفتحون قلوبهم للمهاجرين قبل أن يفتحوا بلادهم . وعندما حدثت الهجرة ، وتم استيطان الصحابة وهاجر اليهم الرسول ، لم يتخذوا من المدينة منطلقاً للبغي ، ولا من النصر سبيلاً الى قهر الشعوب ، وانما كوَّنوا الدولة في مدينتهم الفاضلة ، بإيمانهم وقرآنهم وجهودهم ، فلم ينتدبوا خبيراً أجنبياً  ولا استعانوا بجيرانهم ... بل برزت منهم الكفايات التي أكملت كل فراغ وسدت كل عوز ، وكانت مدينتهم منارة  تُضيء للناس أجمعين .

لقد كانت الهجرة من أجل المبدأ والعقيدة  ومن أجل عالم أفضل كان الجهاد ، وقد عبر المهاجرون بالهجرة عن عظمة المبادئ وسمو الأيمان ، وإذا كانت الهجره بالنسبة لهم شديدة قاسية ومحفوفة بالأخطار ، لكنها في سبيل المبدأ تهون ، ومن أجل الحق تتحمل . لقد كانت الهجرة بذلاً وتضحيةً وعطاءً  وكانت صبراً وصدقاً واحتمالاً وأملا ، ولم تكن جزعاً ولا استسلاماً ، بل كانت تعببراً عن أعنف المقاومة ، ورفضاً لمعاني الذل والاستسلام ، كما أن الهجرة تمنحنا الصبر والأمل في نصر الله ، حيث سبقها جهاد مرير ، وكانت في النهاية تعبيراً عن  انتصار الإرادة المؤمنة ، التي لم تقْعِدْها الشهوات عن الانطلاق لبناء عالم أفضل ، لذا ينبغي ألا نستطيل الوقت أو نَضيق بالظروف ، أو نَرْهب الباطل المسلح الذي يحتلُ بلادنا ولا نيأس ، والا يتسرب الوهن الى قلوبنا ، ما دمنا مع مبادئنا وحقنا ، وأن نستفيد من دروس الهجرة التي نجدد بها انفسنا ونحدد مسارنا ، ونعقد عليها قلوبنا وضمائرنا  وبذلك ينصرنا الله : ﴿ ولينصرنَّ الُلهُ من يَنْصُرَه إن الله لقوىٌ عزيز﴾ . 

 

 

خصائص التربية في الإسلام

تميزت التربية الإسلامية بخصائص مستمدة من منهج الله  الذي يجعل المسلم يستمد التوجيهات التي تشمل جميع جوانب الحياة من منهج الله ، فتحقق له الحياة الواقعية   من خلال التنشئة الصالحة ، ليكون مسلماً عابداً عاملاً مؤتمراً بأوامر الله ، ومنتهياً بنواهيه تأسياً بقوله تعالى : ﴿ وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون ﴾ الذاريات 56 . ليربط بين معنى العبودية ، والتصرفات الحياتية ، كالأكل والشرب ، وأن يؤدي الصلاة كاملة ، وان يتبع سنة محمد صلى الله عليه وسلم  ، وأن يتعرف على حياة النبي وترسيخ حبه في نفوس الأطفال ليقلدوه ويقتدوا به ، ولا بد للطفل من قدوة في أسرته ووالديه لكي يتشرب منذ طفولته المبادئ الإسلامية   لأن الولد الذي يرى والده يكذب لا يمكن أن يتعلم الصدق ، والذي يرى أمه مستهترة لا يمكن أن يتعلّم الفضيلة ، والذي يقسو عليه أبوه لا يمكن أن يتعلّم الرحمة   لأن الأسرة هي الأساس الذي يبذر في نفس الطفل أول بذرة ، لذا يجب على الآباء والمربين انتهاج الطريق الصحيح لتربية أطفالهم   وقد اهتم الرسول صلى الله عليه وسلم  بتربية الأولاد تربية إسلامية صحيحة والأنبياء من قبله كانوا يوصون أولادهم بتقوى الله وتوحيده قال تعالى : ﴿ ووصى بها إبراهيمُ بنيه ويعقوبُ يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وانتم مسلمون  ﴾ البقرة 132 . وقد كان جانب العقيدة من أهم الجوانب التي اعتنى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم  وذلك واضح في تلقينه ابن عباس مبادئ العقيدة الصحيحة عندما قال له : ( يا غلام احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، إذا سألت فاسأل الله   وإذا استعنت فاستعن بالله ..الحديث ) الترمذي . قال ابن رجب " هذا الحديث يتضمن وصايا عظيمة وقواعد كلية من أهم أمور الدين ، حتى قال بعض العلماء: تدبرت هذا الحديث فأدهشني وكدت أطيش لما فيه من الفوائد الجمة التي فيها : اهتمام النبي بتوجيه أمته وتنشئتها على العقيدة السليمة والأخلاق الفاضلة " .  والسنة النبوية مليئة وحافلة بالأحاديث التي تشير إلى موعظة الأبناء والناشئة ، والتي كان لها الأثر الأكبر في تنشئتهم التنشئة الإسلامية الحقة ، وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم  الوالدين والمربين ، بتعليم أبنائهم أركان الصلاة وواجباتها ومفسداتها ، وحدد سن السابعة بداية لمرحلة التعليم   وقد أمر بمعاقبة من قصر في صلاته أو تهاون أو تكاسل في أدائها في سن العاشرة فقال صلى الله عليه وسلم  : ( مُروا أبنائكم بالصلاة وهم أبناء سبع ، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر  وفرقوا بينهم في المضاجع ) أبو داود . ويجب التأكيد على أن العقاب يجب أن يتلو الذنب مباشرة ، وألا يكون من الخفة بحيث لا يجدي أو الشدة بحيث يشعر بالظلم أو يجرح الكبرياء ، وان تربية الطفل لا يصلح لها إلا ضبط الأعصاب مع التحمل المستمر لحركات الطفل وتصرفاته غير المتزنة ، وهذا ما يراه الوالدان من أشق أنواع التحمل في شؤون الأسرة ، ولكنه من أهم الضرورات لإصلاح تربية الطفل ، واشعر الطفل وأنت تضربه أنك لا تزال تحبه ، وقلل ما استطعت من استعمال الضرب ، ولأن يهابك ويحبك خيرٌ من أن يخافك ويكرهك . وتعد القصة من وسائل التربية الحديثة ، لأن لها أهمية كبيرة في قوة التأثير إذا ما قورنت بالكلام العادي  كقصص الأنبياء ، وأبطال الإسلام ، وقد أكدت السنة مبدأ الترويح ، لأنه يقوم بدورٍ تربوي مؤثر في تنمية شخصية الأبناء ، ما يكسب الطفل السلوك المقبول اجتماعياً ، وأن يعرف السلوك غير المقبول ، فيتعلم متى يلعب ومع من يلعب ، وقد حرص الإسلام على تدريب الأبناء وتعليمهم العادات الإسلامية ، والأخلاق النبيلة ، وأن يتمثلوها في حياتهم ، لأن تكوين العادة في الصغر  أيسر بكثير من تكوينها في الكبر .

ومن القواعد التي وضعها الإسلام في تربية الطفل اجتماعياً تعويده على سنة السلام ، وعبادة المريض ، وحضور مجالس الكبار ، والتدريب على البيع والشراء ، وأدب الطعام والشراب ، والاستئذان ، وتعويده على الصدق  والتحذير من عادة الكذب ، والتعويد على حفظ الأسرار ، والأمانة وسلامة الصدر وترك الأحقاد ، كما ينبغي إشعار الطفل بأنه محبوب ، وأنه محل عناية وعطف ، وقد أوجب الإسلام العدل بين الأبناء ، ونهى عن تفضيل بعضهم على بعض ، وكان صلى الله عليه وسلم  يستنكر أشد الإنكار عدم العدل فيقول : ( اعدلوا بين أولادكم كررها ثلاثا ) مسلم . وهناك حقوق ينبغي أن نرشد الطفل إليها ، من أهمها حق الأبوين إذ يجب على المربي أن ينشئ ولده على ذلك البر   ويلقنه إياه ، وإذا تربى الطفل على هذا الحق ، كان من السهل عليه أن يتربى على احترام الجار والكبير واحترام المعلم ، بل واحترام الناس جميعا لأن فضيلة بر الوالدين هي منبع الفضائل .

وينبغي تعويد الإبن على النظافة ، فقد دعا إليها الإسلام  لأن الطفل الذي يريد الصلاة لا بد أن يتوضأ ، ولا بد أن تكون ثيابه نظيفة طاهرة ، وعلى المربي أن يعود الطفل النطق بالأذكار والأدعية المهمة ، وغرس محبة الله في نفسه وتعظيمه وخشيته ، وتعويده على الكلمات الطيبة ، وتنمية الطموح لدى الطفل ، كأن يغرس في نفسه بأن يكون عالماً أو طبيباً . وعلى المربي تربية الطفل على صفات الرجولة ، التي تبدأ من الصغر فلا يقول الإنسان : أنا صغير أو يربي أطفاله على التواكل ، فيقول كلما أسند إليه أمر : صغير صغير فينشأ وعمره أربعين وهو لا يزال صغيراً.. فهذا لا يصح   لأن التربية الصحيحة أن يشعره بالمسئولية من العاشرة  فهذا محمد بن القاسم قد قاد الجيش الإسلامي يوم دخل الهند وعمره خمس عشرة سنة!  وهذا أسامة بن زيد الذي قاد الجيش لسبع عشرة سنة  وأرسل  صلى الله عليه وسلم  معاذاً إلى اليمن وعمره ما يقارب السابعة عشرة سنة ، وقد قال الصحابة لـعمر وكان يدخل عليه ابن عباس وعُمُره ثلاث عشرة سنة فقالوا : كيف تدخل هذا الطفل ؟ وقد كان عمر في مجلس الشورى الذي لا يدخله إلا من بلغ سن الأربعين فما فوق، من أهل بدر  وأهل بيعة الرضوان، وشيوخ الصحابة ، وأسياد الأمة ولا يدخله غيرهم لا من الأعراب ولا من الأطفال إلا ابن عباس ففد  أستثنى وسمح له بالدخول ، قال ابن عباس : " فجمع عمر الناس وقال للصحابة : ما معنى قوله تعالى : ﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ  ﴾ النصر:1 ، وهو يلتفت إلى ابن عباس ، يريد أن يريهم ذكاءه ، فقال الصحابة : لا ندري فالله يقول للرسول صلى الله عليه وسلم  : إذا جاء النصر والفتح فاستغفر وتب، فسألهم جميعاً فقالوا: لا نعرف إلا هذا ، قال : وأنت يا ابن عباس ؟ فقال معنى الآية: قد اقتربت وفاتك يا رسول الله ، فما دام أن العرب قد أسلمت ودخلت في دين الله فترقب الوفاة أو كما قال ، فقال عمر : والله ما أعلم منها إلا كما تعلم ، ولذلك أدخلوه معهم في مجلس الشورى.

ولما جاء وفد العراق يبايع عمر بن عبد العزيز بالخلافة وكان فيهم شاب صغير جالس، فقام الشاب يتحدث فقال : مرت بنا ثلاث سنوات أما سنة فأذابت الشحم وأما سنة فأكلت اللحم، وأما سنة فدقت العظم ، وعندك مال الله فأخرج ما لله من خزائن الله على عباد الله فقال عمر بن عبد العزيز : يا بني.. اجلس ففي الناس من هو أولى منك بالحديث ، فقال الشاب: يا أمير المؤمنين! لو كان الأمر بالسن لكان في الناس من هو أولى بالخلافة منك أنت:

تعلم فليس المـرء يولد عالمـاً    وليس أخو علم كمن هو جاهل

إن كبير القـوم لا علم عنده      صغير إذا التفت عليه المحافل

فيا ليت المربين يحرصون على تربية أبنائهم التربية الإسلامية الحقة في ضوء الكتاب والسنة ، لأنها النهج العملي والتطبيقي الفعلي لتربية الأطفال ، ومن خلال قوله صلى الله عليه وسلم  : ( كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته ) .

 

 

 

الخوارق ليست دليل الصلاح

قال تعالى : ﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد ﴾ الحشر18. واحذروا أن تكونوا ممن قال الله فيهم : ﴿ استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أُوْلَئكَ حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون ﴾ المجادلة 19 . إن من نواقض الإسلام السحر ، وإن ظاهرة السحر والشعوذة تزداد نفوذا في بلاد المسلمين  لضعف الإيمان في نفوسهم ، إذ الإيمان الدعامة الكبرى ، والوقاية العظمى من كل فتنة وشر ومكروه : ﴿ ومن يؤمن بالله يهد قلبه ﴾ التغابن11. وفى الحديث : ( إن الإيمان ليَخلََق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم ) فحين يضعف الرجاء بالله، ويقل الخوف منه ويهتز جانب التوكل على الله ، والرضاء لما قدر ، واليقين بما قسم يتسامح بعض الناس بالذهاب للسحرة والمشعوذين فيزيدهم ذلك وهنا على وهنهم ، وتستلب أموالهم وعقولهم . وذلك يرجع لجهلهم بأحكام الشريعة ، وما جاء فيها من زواجر عن الذهاب إلى هؤلاء السحرة والعرافين، وما ورد في ذلك من ضرر على المعتقد والدين قال صلى الله عليه وسلم : ( من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة ) الحديث . أما إن سألهم وصدقهم فالخطب أكبر ، والخطر أعظم ، فقد روى الحاكم بسند صحيح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه فيما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ) وعند البزار بسند صحيح عن ابن مسعود موقوفا قال : ( من أتى كاهنا أو ساحرا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ) ولا يتعامل مع السحرة والمشعوذين إلا من جهل حالهم فتراهم فيذهبون ليستطبون عندهم ، وهم في الحقيقة لا يملكون من أنواع العلاج إلا ما يضر ولا ينفع ، تخرصات وأوهام وتمتمات وطلاسهم وكتابات تباع بغالي الأثمان ، وهي لا تساوي فلسا عند أولي الألباب   بل ولو ذهبت ترقب أحوال هؤلاء المشعوذين الدينية والخلقية لرأيت العجب العجاب ، ولأيقنت أنهم أحوج الناس إلى العلاج ، وإن نصّبوا أنفسهم على هيئة الشيوخ وحذاق الأطباء  والمصيبة في ظن أولئك المرضى أن شفاءهم يتم على أيدي السحرة والمشعوذين  فراحوا يطرقون أبوابهم ويدفعون أموالهم وينتظرون الشفاء على أيديهم ، فكانوا كالمستجير من الرمضاء بالنار ، لأن هؤلاء المشعوذين ، غالباً ما يكونون ممن يعانون من ظروف اليأس والفقر والبطالة   وممن يدّعون الكرامات الزائفة ، والهمم الباطنية التي لا تخلو من الدس الشيطاني فيتخذون شياطين الجن أولياء من دون الله ويدعون أنهم أولياء وأصحاب كرامات وأصحاب طرق ينسبونها للصوفية  ويتخذون الجن أولياء من دون الله ، ويعرف هؤلاء بسلوكهم الذي يعتمد ضرب السيف وضرب الشيش والغيبوبة التي يتبعها التشنج    وقراءة العزائم ، التي ما انزل الله بها من سلطان وكذلك الأقسام ، والممارسات التي تتنافى مع الشريعة نصا وروحا وما هي إلا طرائق شيطانية وشعوذة ، ولا علاقة لها بالكرامات  والمشعوذ أو الساحر لة تعاون مباشر مع شياطين الجن والطواغيت منهم ، وهم جميعا داخل دائرة شيطانية ، يتبرأ الساحر فيها من الله وملائكته وكتبه ورسله  ويعلن ولاءه الكامل لإبليس اللعين الذي له مئة اسم من الأسماء التي تدخل في العزائم التي يقرأها الساحر   وله أسرار توزيع الخدمة وهي الطلاسم ، وعددها مئة  وهي همزة الوصل لكل من دخل هذه الدائرة الشيطانية . ويقوم عُبّاد إبليس بذبح القرابين له ولمساعديه ، وهي عبارة عن ذبح لا يسمى عليه ، ويكون على نية شيطانية ويدهنون أجسامهم بدم هذه القرابين . وفروض عبادتهم تعظيم أسماء إبليس وتعظيم طلاسمه وتعظيم عرشه الفاني . كما أن أذية عباد الله ، والتلذذ بمعصية الله وتدنيس القرآن عندهم عبادة ، كما أنهم يعظمون الأسماء الشيطانية والطلاسم ، ويعرفونها من خلال الكتب والمكائد ويعملون بها ، ومنهم المنجم الذي يتوقع الغيب   والعراف الذي يضرب الرمل ويقرأ الكف ويقرأ الفنجان   ومنهم صاحب ألعاب السيم والمشي على الجمر وكلهم يدعي بأن ما يمارسونه علم ، نعم إنه علم ولكنه علم شيطاني ، وتلك أحوال شيطانية باطلة ، وأكثر أحوالهم من باب الحيل والبهتان ، ومن أراد أن يدخل النار فليدخل أولاً إلى الحمام ، وليغسل جسده بالماء الحار غسلاً جيدا ، ويدلكه بالخلّ والأُشنان  لأنهم يطلون جسومهم بأدوية يصنعونها من دهن الضفادع ، وباطن قشر النارنج  وحجر الطلق ،  ثم يدخل بعد ذلك على النار إن كان صادقاً ، ولو فرض أن أحدا من أهل البدع دخل النار بعد أن يغتسل ، فإن ذلك لا يدل على صلاحه ولا على كرامته ، ولا يدل على صحة ما يدّعونه من مخالفة الشرع ، فقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الدجال الأكبر يقول للسماء أمطري فتمطر ، وللأرض أنبتي فتنبت  وللخربة أخرجي كنوزك فتُخرج كنوزها تتبعه ، ويقتل رجلاً ثم يمشي بين شِقَّيه ، ثم يقول له : قم  فيقوم ، ومع هذا فهو دجال كذّاب ملعون لعنه الله .

 قال يزيد البسطامي : لو رأيتم الرجل يطير في الهواء  ويمشي على الماء فلا تغتروا به ، حتى تنظروا كيف وقوفه عند الأوامر والنواهي .      

وقد كثر في زماننا هذا من يقومون بأعمال مشكوك فيها منها الضرب بالشيش، وأكل الزجاج، والضرب بالخنجر ويدعون بأنهم أولياء لله ، ويعتبرون هذه الأعمال كرامات  وهي في الحقيقة من أعمال الشعوذة والسحر والتلبيس على الناس المحرمة شرعا ، والتي يجب إنكارها والقضاء عليها، وليست تلك الظواهر الغريبة من الكرامات التي يظهرها الله تعالى على يد أوليائه المؤمنين تكريما لهم ولا علامة على صلاح من ظهرت على يده؛ لأن أولياء الله هم أهل الإيمان والتقوى المعروفون بطاعة الله ورسوله كما قال تعالى : ﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ﴾ . وهنا سؤال هل مجرد خرق العادة يدل على ولاية من وقع الخارق على يديه ؟ يقول الحافظ ابن حجر : إن الذي استقر عند العامة من خرق العادة يدل على أن من وقع له ذلك من أولياء الله تعالى, وهو غلط ممن يقوله  فان الخارق قد يظهر على يد المبطل من ساحر وكاهن وراهب, فيحتاج من يستدل بذلك على ولاية أولياء الله تعالى إلى فارق, وأولى ما ذكروه أن يختبر حال من وقع ذلك على يديه ، فان كان متمسكا بالأوامر الشرعية والنواهي كان ذلك علامة ولايته ومن لا فلا . فتح الباري: 7 442   كما أكثر ابن تيمية القول وهو يذكر أحوال أقوام قد تطير بهم الشياطين, وتنقلهم من مكان إلى آخر, وقد تتجسد في هيئات بعض المشائخ أمام مريديهم وتلاميذهم مع بعد المسافات بينهم, إلى غير هذا من صور خوارق العادات, وأرجع ذلك كله إلى أن الشياطين هي التي تقوم بهذه الأعمال, لا يبعد أن يكون من أسباب وقوع خوارق العادات على أيدي المبطلين والمدعين, الاستعانة بالجن وقد سمعت من أكثر من واحد من أصحاب التجارب مع بعض "الشيوخ" حول حقيقة ما يسمى بالكرامات, كالطعن بالسيوف والخناجر, والضرب بالشيش وأكل الزجاج, أو مكاشفة الحجب حتى تتراءى لهم الكعبة, أو يروا الملائكة, أن كل ذلك يقع بفعل الاتصال بالجن وهم الذين يقومون بهذه الأفعال على الحقيقة ، نحن لا ننكر أن هناك عجائب خارقة تقع للناس. بيد أنها تقع للمؤمن والكافر، والبر والفاجر. فلو أن رجلاً سار على الماء دون أن تبتل قدماه ما دل ذلك على صلاحه، لأن مناط الصلاح بما شرع الله من عمل وإيمان ، وإن كرامات الأولياء ليست كخوارق السحرة والكهنة والعرافين، وإذا كان بين كرامات الأولياء وخوارق السحرة والكهنة والعرافين فرق  فمن باب أولى الفرق بين معجزة النبي وخوارق السحرة  ولهذا فإن الخوارق التي يدعيها الكهان والعرافون والرمالون لا بد أن يصاحبها الكفر؛ لأنها خضوع لشياطين الجن، ومعلوم أن الجن لهم من الاقتدار على الأشياء ما ليس لبني آدم  فيتحركون حركة هي في نظر الجن حركة معتادة ، وتكون في نظر الإنس حركة خارقة قال تعالى: ﴿ قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ ﴾  النمل 39 . 

 

 

 

السبب في فساد الأوضاع

قال تعالى: ﴿ وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ، ويعفو عن كثير  وما أنتم بمعجزين في الأرض ، وما لكم من دون الله من وليِّ ولا نصير ﴾ الشورى35 . هذه الآية تدل بصراحة لا تقبل التأويل ، على أن الظلم والفقر من صنع الناس لا من صنع الله  ومن فساد الأنظمة والأوضاع ، لا من حكم الله وشريعته   وحتى القحط وحبس الغيث سببه البغي والفساد لقوله تعالى: ﴿ ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ﴾ الشورى 30 . إن ظهور الفساد وانتشار الفقر والمرض والجهل هو من حكم الأرض لا من حكم السماء ومن أيدي الناس الذين أماتوا الحق وأحيوا الباطل ، ولو أن الأمة التزمت الحق وعملت به لعاشت في سعادة وهناء  . إن الانحراف عن منهج الله يؤدي إلى فساد الأوضاع وشقاء البلاد والعباد ، وإن التركيز على صلاح الفرد والأسرة أولاً ، لا يعتبر الطريق الصحيح لصلاح المجتمع بكامله ، لأن مجرد صلاح فرد من الأفراد لن يجدي مادام بين قوم فاسدين ، بل قد يجر صلاح الفرد البلاء والشقاء عليه نفسه بدليل قوله تعالى: ﴿ واتقوا فتنةً لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ﴾ الأنفال 252 . فهذا دليل على أن الآثار السيئة لمجتمع سيئ ، تعم جميع أفراد المجتمع الصالح والطالح ، ولا شك في إن المجتمع الكسول الخانع الخاضع للعسف والجور  لا بد أن يعيش أفراده في الذل والهوان ، لذا دلت الآيات القرآنية على أن الإيمان الموجب للرزق هو الإيمان بالله مع  العمل بجميع أحكامه ومبادئه ، لا الاقتصار على إقامة الصلاة أو الذكر وترديد التعاويذ ، نعم هذه من الأعمال الصالحة التي يثيب الله عليها ، لكن العمل الصالح لا بد له من القاعدة الأصيلة ليرتكز عليها وهي الإيمان لقوله تعالى: ﴿ من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن ﴾ النحل 97 . فبغير هذه القاعدة لا يقوم بناء ، وبغير هذه الرابطة لا يجتمع شتات ، إنما هو هباء كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف ، والعقيدة هي المحور الذي تُشدُّ إليه الخيوط جميعاً ، لأنها هي التي تجعل للعمل الصالح باعثاً وغاية ، فتجعل الخير أصيلاً ثابتاً يستند إلى أصل كبير لا عارضاً مزعزعاً يميل مع الشهوات والأهواء حيث تميل   فالذين يتصورون الإيمان بالله وتقواه مسألة تعبدية بحتة لا صلة لها بواقع الناس في الأرض ، لا يعرفون الإيمان ولا يعرفون الحياة ، لأن المنهج الإيماني للحياة لا يجعل الدين بديلاً عن الدنيا  ولا يجعل سعادة الآخرة بديلاً عن سعادة الدنيا  ولا يجعل طريق الآخرة غير طريق الدنيا ، صحيح أن النظم والأوضاع هذه الأيام لبعدها عن الله وعن منهجه في الحياة ، تباعد بين طريق الدنيا وطريق الآخرة وتحتم على الذين يريدون البروز في المجتمع والكسب من المنافع الدنيوية أن يتخلوا عن طريق الآخرة وأن يضحوا بالتوجيهات الدينية ، كما تحتم على الذين يريدون النجاة في الآخرة ، أن يتجنبوا تيار هذه الحياة وأوضاعها القذرة   والوسائل التي يصل بها الناس في مثل هذه الأوضاع إلى البروز في المجتمع ، لأنها لا يمكن أن تكون موافقة للدين ولا مرضية لله ، لأن الأصل أن يكون الإيمان والتقوى والعمل الصالح هي أسباب عمران هذه الأرض ، وأنها هي وسائل الحصول على رضوان الله وثوابه ، ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا حين تقوم الحياة على منهج الله ، الذي يجعل العمل عبادة ، ويجعل الخلافة في الأرض وفق شريعة الله فريضة ، والخلافة عمل وإنتاج ووفرة ونماء ، وعدل في التوزيع يفيض به الرزق على الجميع من فوقهم و من تحت أرجلهم لقوله تعالى : ﴿ ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أُنزل إليهم من ربهم ، لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ﴾ المائدة66 . وقال تعالى : ﴿ ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون ﴾ الأعراف 96. قد يقول قائل : إننا مسلمون فلماذا لا نجد السعة في الرزق ؟ ولماذا يحل بنا الجدب والمحق ؟ بينما نرى أمماً لا يؤمنون ولا يتقون مفتوحاً عليهم في الرزق والقوة والنفوذ ، فأين هي السنة التي لا تتخلف ؟ إن الذين يقولون ذلك لا يخلصون عبوديتهم لله  ولا يحققون في واقعهم شهادة أن لا إله إلا الله  إنهم يسلمون رقابهم لعبيد منهم يتألهون عليهم ويشرعون لهم  والمؤمن لا يدع عبداً من العبيد يتأله عليه ويصرف حياته بشرعه وأمره ، ويوم كان أسلافنا مؤمنين حقا ، دانت لهم الدنيا وتحقق لهم وعد الله ، والمؤمن لا يكتفي بالوعظ والإرشاد لأن الإسلام نظام عملي وتنظيف الروح لا يتم بالوعظ ولإرشاد إذا كان المجتمع فاسداً والنظام منحلاً والاقتصاد جائراً والسياسة غير نظيفة   وحتى نصل إلى الهدف المنشود ، لا بد من إقامة نظام اقتصادي عادل ونظام اجتماعي متوازن ونظام سياسي راشد على أساس الإسلام  ولا يجوز أن ننخدع بما وصلت إليه الأمم التي لا تؤمن ولا تتقي ولا تطبق منهج الله في حياتها    ولكن لديها ما لديها من وفرة الخيرات وضخامة الإنتاج والتقدم التقني .

إن الإيمان والتقوى والعبادة والصلة بالله وإقامة شريعته في الحياة ، كل أولئك ثمرته للإنسان وللحياة الإنسانية . فالله سبحانه وتعالى غني عن العالمين ، وإذا شدد المنهج الإسلامي على هذه الأسس ، ورد كل عمل وكل نشاط لا يقوم عليها ، فليس هذا لأن الله سبحانه يناله شيء من إيمان العباد وتقواهم وعبادتهم له ، ولكن لأنه _سبحانه _ يعلم أن لا صلاح لهم ولا فلاح إلا بهذا المنهاج ... لذا علينا أن ندرك أن كل ذلك لحسابنا ومن أجل صلاح البشرية جميعا .

ففي الحديث القدسي : عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما روي عن ربه تبارك وتعالى أنه قال : (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي ، وجعلته بينكم محرماً  فلا تظالموا .. يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته  فاستهدوني أهدكم .. يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته ، فاستطعموني أطعمكم .. يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته  فاستكسوني أكسكم .. يا عبادي ، إنكم تخطئون بالليل والنهار   وأنا أغفر الذنوب جميعاً  فاستغفروني أغفر لكم ..يا عبادي  لن تبلغوا ضري فتضروني ، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني .. يا عبادي ، لو أن أولكم وآخركم   وأنسكم وجنكم كانوا على اتقى قلب رجل واحد منكم ، ما زاد ذلك في ملكي شيئاً ... يا عبادي  لو أن أولكم وآخركم ، وإنسكم وجنكم   كانوا على أفجر قلب رجل واحد ، ما نقص ذلك من ملكي شيئاً .. يا عبادي لو أن  أولكم وآخركم  وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني  فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي   إلا كما ينقص المخيطُ إذا أُدخل البحر .. يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم . ثم أوفيكم إياها . فمن وجد خيراً فليحمد الله  ومن وجد غير لك فلا يلومن إلا نفسه ) . رواه مسلم          

          

                

 

 

العالم الإسلامي منطقة ذات حضارة

 

إن منطقة العالم الإسلامي منطقة ذات حضارة وذات علم ، وذات ثقافة وذات تاريخ ، وهي غنية بالآثار وجليل الأعمال وعظيم المنجزات الحضارية ، والحضارة تعني في أصل اللغة : إقامة مجموعة من الناس في الحضر أي في مواطن العمران مدناً أم قرى ، لكن معناها توسع عند المؤرخين والباحثين ،حتى صار شاملاً لجميع أنواع التقدم والرقي  الإنسانيين وكل ما يخدم ذلك ، والإسلام هو الدين القادر على قيادة الإنسانية وإسعادها وعلى السير بها إلى آفاق جديدة ، وله من تاريخه الحضاري وماضيه الخالد في قيادة العالم ومن مبادئه وقيمه ومثله براهين قوية على أنه القائد المنتظر للعالم . إن تاريخ الإسلام الحضاري ، قد بهر العلماء والباحثين والمفكرين الغرب رغم تعصبهم الديني ومحاولتهم تزييف الحقائق ، إلا أنهم ما فتئوا يمجدون حضارة المسلمين ، وينوِّهون بها إلى حد يثير الإعجاب ، ويدعو للفخر ويبعث على الكبرياء . فقد وقفوا مبهورين أما حضارة العرب في الأندلس ، ممثلة في قصر الحمراء ،حتى قيل للإسبان إنهم يملكون بهذا القصر إحدى عجائب الدنيا ، التي تجلب إليهم المسلمين من كل مكان  يقول غوستاف لوبون في كتابه حضارة العرب : " الحق إن أتباع محمد ظلوا أشد من عرفتهم أوروبا من الأعداء إرهابا عدة قرون ، وعندما كانوا لا يُرعدوننا بأسلحتهم كانوا يذلوننا بأفضلية حضارتهم العربية الساحقة ، ونحن لم نتحرر من نفوذهم إلا بالأمس "  . 

 

لقد أنشأ العرب بسرعة حضارة جديدة لهم   فأبدعوا من فورهم حضارة أفضل من جميع الحضارات التي كانت قبلها ، وإذا قرأنا ما كتبه الغربيون عن تاج محل ، الأثر الإسلامي العظيم في الهند ، راعنا وصفهم له ، يقول باحث أوروبي : " إن كل ما يمكن أن يجود به الفن من الكمال   صبه في تاج محل الساحر الذي بناه شاهجهان ليكون ضريحاً لزوجته ويعد من عجائب الدنيا "  وهو من المباني الإسلامية النادرة ، التي أفلتت من أيدي التخريب الإنجليزي المنظمة ، الذين هدموا أثراً رائعاً من آثار الحضارة الإسلامية في الهند وهو قصر المغول ، ويسمى قلعة شاهجهان المسلم الذي بناه،  وكان من أجمل القصور الإسلامية في بلاد الهند وفارس ، فهدموا جميع أجزائه تحت مرأى ومسمع من العالم ، الذي أقام الدنيا وأقعدها هذه الأيام لهدم الآثار البوذية في أفغانستان ، لماذا حرام علينا حلال لهم . إن هذه القصور وتلك المساجد في طول بلاد العالم الإسلامي ، والتي ما زالت تتحدى وتثير في النفس ذكريات الماضي لتاريخ الإسلام المجيد ، الذي خلد ذكر أولئك الرجال الذين كانوا يجاهدون في الله حق جهاده ، ويهدرون كل شيء في سبيل مرضاته ، يخوضون معارك الفتوح  كسعد وخالد وموسى وطارق وقتيبة  وآخرين يذيبون حشاشات القلوب دفاعاً عن العلم ورسالته ، كما لك وأبي حنفية والبخاري والطبري والغزالي ، وألوفاً مؤلفة من سدنه التفسير والحديث والفقه ، وعلوم الدنيا من هندسة ورياضة وطب ، وجموعاً لا حصر لها من البناة والمعلمين والحرفيين ، ناهيك عن الخلفاء والرجالات العاملين الذين هانت عليهم الدنيا فأهانوها لرضوان ربهم ، لم يشغلهم عن ذلك مال ولا ولد .

 

لقد كان تأثير العرب وحضارتهم في الغرب عظيماً جليلاً ، حتى ليقول غوستاف لوبون : " إن أوروبا مدينة للعرب بحضارتها ، وقد ظلت كتب العرب المترجمة إلى اللغات الأوروبية ولا سيما الكتب العلمية ، مصدراً وحيداً تقريباً للتدريس في جامعات أوروبا خمسة أو ستة قرون" ، ونتيجة للفتوحات الإسلامية في كل مكان ، أصبح العالم بمثابة مدينة إسلامية واحدة لهم لغة واحدة وفنون واحدة   ولم يتفق لأمة ما اتفق للعرب من الفنون ، على الرغم من مقاومة الصليبية والتتار والاستعمار . ويرجع كل ذلك لفضل الدين الإسلامي ، الذي وضع أصولاً خالدة لإصلاح جميع مجالات الحياة ونواحي النشاط الإنساني ، وساوى بين الأجناس والعناصر والألوان ودعا إلى اخوة بشريه عامة ، لا تفاضل فيها لأحد على أحد إلا بالتقوى والعمل الصالح ، وإلى العدالة والشورى ، والإخاء والرحمة والمحبة بين الناس ، وذلك بفعل الرسالة العظيمة ، شريعة السماء شريعة البقاء  شريعة الله الخالدة ورسالته إلى الناس كافة . إن امتنا بما لديها من عقيدة ، ومن مقومات وإمكانات ، تستطيع أن تستعيد مجدها وترفع الظلم عن نفسها . وما يدّبر لأمة الإسلام يثير العجب ، لأن الأعداء والمتآمرين معهم من المسلمين ، أوهموا الأمة أنها لن تحرز نصراً على الأعداء ، وألقوا في روعها أنها لا تصلح للحرب   فانطلق المهزومون في قلوبهم ، يبشرون بالاستسلام ويدعون الأمة أن تقبل من عدوها ما يمنّ به عليها ، من بقية حياة ومن ذليل عيش . أمةٌ طغى عليها الغرور ، وتملكتها الغفلة واستحكمت فيها الأنانية والأثرة ، وراح كل واحد يعمل على تأمين مصالحه الذاتية وملذاته الخاصة ، جاملوا الظالم في ظلمه ، ونافقوا الباغي في بغيه ، وزينوا للفاسد أعماله ، ولم يجد المعوج من يقوم اعوجاجه ويردعه عن خطأه ، ناسين أنه ليس من مبادئ الدين ، أن يسكت المسلم على الشرك والمنكر وفعل السوء واستحسان الرذيلة قال تعالى : ﴿ كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ﴾ . كما تناسوا أننا كنا أعز أمة يوم جعلنا الدين نبراساً ومنارا ، وكان حالنا حال عزٍّ وفخار وقوةٍّ ومنعة .

 

أما اليوم فسيظل المسلمون يتخبطون لا معين يساعدهم على الخروج من المحنة التي يعيشون إلا بالرجوع إلى القرآن ، روى الترمذي عن علي عن أبي طالب رضي الله عنه قال : " سمعت رسول الله يقول  : ( ستكون فتنٌ كقطع الليل المظلم " قلت  وما المخرج منها يا رسول الله ؟ قال : " كتاب الله ، فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم ، هو الفصل ليس بالهزل   من تركه من جبار قصمه ، ومن ابتغى الهدي في غيره أضله الله ، وهو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم ، وهو الصراط المستقيم   هو الذي لا تنقضي عجائبه ، وهو الذي لم تنته الجن إذ سمعته أن قالوا : إنا سمعنا قرآناً عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ، من قال به صدق   ومن حكم به عدل ، ومن عمل به أُجر  ومن دعا له هدى إلى صراط مستقيم ) .

 

 

 

  

العمل الخيري في الإسلام

 فعل الخير : هو كلُ عملٍ نافع ٍ للأمة في أمر دينِها ودنياها ، مما يُرضي اللهَ عزَّ وجلَّ ، وكل إنسان أوصَلَ ذلك أو سعى إليه , أو عمِلَ للانتفاع بهِ , فهو مِن الصالحين جاء في الحديثِ القدسي :( إنَّ مِن عبادي مَن جعلتُه مِفتاحاً للخير ويسَّرتُ الخيرَ على يديه , وإنَّ مِن عبادي مَن جعلتُه مِفتاحاً للشر ويسَّرتُ الشرَ على يديه   فطوبى لمَن جعلتُه مفتاحاً للخير مِغلاقاً للشر , وويلٌ لمَن جعلتُه مِفتاحاً للشر مِغلاقاً للخير ) وروى مسلم عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من دل على خير فله مثل أجر فاعله ) وهذا تشجيع عظيم على التعاون على فعل الخير  وروى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة .. الحديث ) وهنا يأتي دور مساعدة المؤمن لأخيه المؤمن بالنظر في سبب الكربة ، فإن كانت من جهة فقره وحاجته ، ساعده حتى يسد حاجته ، سواء أكان من ماله ، أو من مساعيه الحسنة ، وإن كانت كربته بسبب مصيبة حلت به واساه وعزاه ، وإن كانت بسبب حاجته على زواج سعى في تزويجه ، أو بسبب حاجته إلى عمل   سعى لتهيئة العمل الملائم له ، أو بسبب حاجته إلى تداوٍ من علة ، سعى له فيما يريد .. وهكذا ، فجزاؤه عند الله بأن ينفس عنه كربة من كرب يوم القيامة ، ولو جمعت كل كرب الدنيا ، لا تعادل بعض كرب يوم القيامة  ونعم الثواب ثواب من ينفس الكرب عن إخوانه المؤمنين في هذه الحياة الدنيا . وعمل الخير له أهميته في الإسلام ، فقد اعتنت الشريعة به عناية بالغة ، لإغاثة الملهوف ومساعدة المحتاج ، دون مقابل مادي ، ابتغاء مرضاة الله ورجاء الثواب عند الله وهو من المقاصد الشرعية ، التي تنحصر في المحافظة على الدين والنفس والنسل والعقل والمال ، والمحافظة على العرض ، وقد جاء في القرآن والسنة النبوية  ما يأَمْرٌ به أو يرغب فيه ، وفي بعضها نهيٌ عن ضده أو تحذيرٌ منه وجاء في بعضها مدح لفاعلي الخير ، وذم لمن لا يفعل فعلهم ، وفيها ما يثني على فعل الخير في ذاته ، أو الدعوة إليه والتنافس فيه قال تعالى: ﴿ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ الحج 77 . وفي قول الخير قال تعالى:  ﴿ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ﴾ البقرة  83 ، وفي الحديث: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت ) . وفي  المسارعة إلى الخير قال تعالى: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ آل عمران 133 ، كما حرص الإسلام على دفع المؤمنين إلى التسابق إلى عمل الخير فقال تعالى: ﴿ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا ﴾ المائدة48، وإلى أن يقوم فريق من الناس بالدعوة إلى الخير لقوله تعالى: ﴿ وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ ﴾ آل عمران 104 . وقد حرض المؤمنين على عقد النية لعمل الخيرات ، حتى ولو لم تتيسر الظروف لفعله ، فإنهم يثابون على نية فعل الخير ، لحديث أبي كبشة الأنماري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إنما الدنيا لأربعة نفر : عبد رزقه الله مالا وعلما، فهو يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقا، فهذا بأفضل المنازل، وعبد رزقه الله علما ولم يرزقه مالا، فهو صادق النية، يقول : لو أن لي مالا لعملت بعمل فلان، فهو بنيته، فأجرهما سواء، وعبد رزقه الله مالا، ولم يرزقه علما، يخبط في ماله بغير علم  ولا يتقي فيه ربه ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله فيه حقا، فهذا بأخبث المنازل ، وعبد لم يرزقه الله مالا ولا علما، فهو يقول: لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان فهو بنيته ، فوزرهما سواء ) احمد .

 وقد رفع الإسلام من شأن عمل الخير ، ولو كان صغيرا لقوله تعالى: ﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ  ﴾ الزلزلة  7  .  وقال صلى الله عليه وسلم : ( سبق درهم مئة ألف درهم قالوا : وكيف؟ قال: كان لرجل درهمان ، تصدق بأحدهما   وانطلق رجل إلى عرض ماله فأخذ منه مئة ألف درهم فتصدق بها ) وفي هذا صيانة لكرامة من يفعل المعروف القليل ، من احتقار الناس لفعله ، ومن هذا القبيل قول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( اتقوا النار ولو بشق تمرة ) البخاري ومسلم . كما يدعو الإسلام إلى التعاون على فعل الخير وتقديم العون للمحتاجين قال تعالى: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى  ﴾ المائدة 2 . وجاء في الحديث : ( والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ) . وجاء في النصوص ما يدل على أن ثواب عمل الخير ، كالمجاهد في سبيل الله   إذا  تحرى الحق ، وابتغى وجه الله بعمله لما روي عن رافع بن خديج قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( العامل على الصدقة بالحق  كالغازي في سبيل الله حتى يرجع  )   وما ورد عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدة ، كان لها أجرها بما أنفقت ولزوجها بما اكتسب ، وللخادم مثل ذلك ، لا ينقص بعضهم من أجر بعض شيئا ) .

وجاء في القصص والحكم والأمثال والأشعار ما فيه استحثاث الناس على فعل الخير ، وعدم تعجل نتائجه  فإنها آتية ولا ريب ، فإن لم تأت عاجلا فلسوف تأتي آجلا لا محالة ولقد أحسن القائل :

من يفعل الخير لا يعدم جوازيه   لا يذهب العرف بين الله والناس

 وفي قصة رمزية تبين عاقبة عمل الخير ، خرج رجلٌ يتصيد ، فخرجت له حية ، فقامت على ذنبها ثم قالت له : أجرني أجارك الله ، قال : ممن أنت ؟ قالت : من أهل شهادة أن لا إله إلا الله ، قال : وممن أجيرك ؟ قالت : من الذي خلفك ، إن قدر عليَّ قطعني إربا إربا ، قال : وأين أخبئك ؟ ، قالت في بطنك ، ففتح فاه فدخلت في بطنه   فإذا رجلٌ قد أقبل ومعه حديدة ، فقال يا عبد الله   أرأيت أين ذهبت الحية التي كانت هنا ؟ فقال له : ما رأيت شيئا ، قال الرجل : ما أعجب ما تقول لقد كانت هنا ، وانصرف ، فقالت الحية له : هل ذهب ، حتى إذا غاب الرجل عن نظره ، قال لها قد مضى ، فاخرجي الآن   وكم كان خوف الرجل عندما سمعها تقول : لن اخرج واختر لنفسك أحد أمرين : إما أن أثقب فؤادك فأقتلك  أو أفتت كبدك ، قال لها نادماً : ما كافأت من صنع إليك معروفا ، قالت وكيف تصنع معروفا مع من لا تعرف المعروف ؟ أما علمت بعداوتي لأبيك آدم من قبل ؟ ومضى الرجل وهو يفكر في حاله ومصيره ، وكيف بتخلص من هذه الحية التي لم تحفظ المعروف ، فإذا هو برجل لم ير أحسن منه وجها ولا أطيب رائحة ولا أنظف ثوبا ، فنظر في وجه الرجل وقال له : ما لي أراك مهموما ؟ فحدثه بما كان من شانه مع الحية ، فأعطاه أوراقا من شجرة قريبة وقال له : كل هذه الأوراق ، فأكلها فتقيأ الحية قطعا ، ونجا من شرها ، فقال له الرجل : من أنت يرحمك الله ، فقد نجاني الله بك ونفعني بعلاجك ؟ قال: أنا المعروف ، بعثني الله إليك لأنقدك ممن لا يعرف لصاحب المعروف حقه . 

ففاعل الخير لن يذهب سعيه سدى ، قصر الزمن أو طال كان مزارعٌ إسكتلنديٌ فقيرٌ يعمل في حقل، فسمعَ صوتَ استغاثةٍ مِن مُستنقعٍ قريب فذهب إليه فوجد صبياً غارقاً حتى مُنتصفِ جسمِهِ ، وبلا تردد.. أنقذَ الصبيّ ، وفي صباحِ اليومِ التالي، توقّفت عربةٌ أنيقةٌ عند كوخ المزارع   ونزلَ مِنها رجلٌ أنيق، قدّم نفسهُ للمُزارع على إنه والدُ الصبيّ الذي كان على وشكِ الغرق وقال له:  أرغبُ بِمُكافأتكَ على إنقاذِ ولدي ، ولكن المُزارع رفض العرض   رأى الرجل ولداً أمام الكوخ ، وسأله : أهذا ابنك؟ أجاب المزارع : نعم هو ابني ، فعرض الرجل عليه قائلاً : دعني أُوفّر لابنك نفسَ الفُرص التعليمية التي أُوفّرها لابني   قبل المزارع هذا العرض   وقد كبُر الولد ودرسَ في أحسنِ المدارسِ، وتخرّج مِن مدرسةِ (مشفى سانت ماري) وأصبح مشهوراً في كلّ بقاعِ العالم ، أتدرون من هو ؟ إنه العالِم (ألكسندر فيلينغ) مكتشف البنسلين ، وبعد سنواتٍ ، أُصيب الرجل الذي كان على وشك الغرق في المستنقع وهو صغير بمرضِ (ذات الرئة)   فأنقذ حياته البنسلين ، الذي اكتشفه ابن المزارع .

فالتعاون على الخير ، مظهر من مظاهر وحدة الجماعة  فقد يستطيع الفرد المساهمة في بعض عمل الخير ، ولا يستطيع القيام بكل العمل ، في حين يستطيع الفرد القيام بما يعجز عنه صاحبه ، ومساهمة كل منهما بما يستطيع  يحقق مبدأ التكافل ، ولذلك جعل الإسلام ثواب من ساهم في فعل الخير ، كثوابه فيما لو فعل الخير كله ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من دل على خير فله مثل أجر فاعله ) مسلم .

 

 

 

 

 

 

 

العمل وعيد العمال في الإسلام

للناس أعياد ومناسبات يحتفلون فيها ، فأعياد أهل الكتاب والأمم الكافرة ترتبط بأمور دنيوية ، أو مناسبات دينية ، خاصة بهم ، وكعيد النيروز الخاص بالمجوس  أو أعياد هي من شعائر الله ، التي ينبغي إحياؤها ، كعيدي الفطر والأضحى الخاص بالمسلمين ، ولا يحل للمسلمين أن يتشبهوا بالكفار والمشركين في شيء مما يختص بأعيادهم .  ويأتي أصل الاحتفال بعيد العمال ، من كندا حيث النـزاعات العمالية ، وحركة التسع ساعات في هاميلتون ، ثم في تورونتو كندا ، وقد قامت المسيرات لدعم هذه الحركة ، واستلهاماً من أحداث هذه الاحتفالات التي شهدها زعيم العمال الأميريكى ، الذي قام بتنظيم أول عيد للعمال في نيويورك   يحتفل به في الخامس من سبتمبر من كل عام ، ومن الجدير بالذكر أن أمريكا قتلت أبناءها حين تعارضت مصالح عمالها ، مع مصالح أغنيائها ، وبسبب قتلها للخيرين من أبنائها ، كان عيد العمال .

إن العمل في الإسلام عنصر أساسي ، في بناء الدولة العصرية ، إذا كان هذا العمل يستجيب لكل مطالب الحياة ، ويستند إلى تخطيط علمي ، والويل للقول إن لم يترجمه عمل ، لأنه يصبح ثرثرة تشقى بها الأمة ، لذلك قل كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وكثر عمله ، وتعلم منه أصحابه أن يقللوا حجم الكلام  ويكثروا حجم العمل ، صعد عثمان بن عفان المنبر يوماً ، فلم يجد كلاماً يقوله   وطالت حيرته ، وأخيراً فتح الله عليه بهذه الكلمات : " أيها الناس سيجعل الله بعد عسر يسرا ، وبعد ضيق فرجا ، وأنتم إلى إمام أفعال ، أحوج منكم على إمام أقوال ، ثم نزل " فتهللت أسارير الصحابة ، وظهرت الغبطة على وجوههم   لأنهم سمعوا أبلغ خطبة في أوجز لفظ وأحلاه ، وظهر الخليفة من خلال هذه الكلمات ، بأنه رجل أفعال وليس رجل أقوال .

إن للعمل في مجتمع الإسلام قيمة عليا ، ومكانة الإنسان فيه ، تبرز من خلال عمله ، نجد ذلك واضحاً في قوله تعالى : ﴿ ولكل درجات مما عملوا ﴾ فالآية تبرز قيمة العامل ، ومن خلال آيات العمل الواردة في القرآن ، نجد أنها تتناول نوع العمل ، وكرامة العامل وحق العمل واجر العمل وهدف العمل ووقته وإتقانه ولذلك اعتبر الإسلام العمل عبادة لله كالصلاة ، وما دام العمل عبادة ، فإن العامل يحرسه ضميره المؤمن ، بأن عليه رقيباً من داخله يذكره دائماً بربه ، وهو ما يبرزه قوله تعالى : ﴿ وفل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ﴾ فالآية تأمر بالعمل المطلق ، الذي ينظم شئون الدين والدنيا  ويكون شعار المجتمع المسلم ﴿ وقل اعملوا ﴾ تكليف وعبادة  وأمر رباني ، وفيه إشارة إلى كرامة العامل وتقديسه ، ولم يكتف الإسلام بطلب العمل والحض عليه ، وإنما تجاوز ذلك إلى المطالبة بإتقان العمل وإخلاص النية فيه ، وقد فاخر النبي صلى الله عليه وسلم كل عمل مخلص وفاخر باليد العاملة قائلاً : ( تلك يد يحبها الله ورسوله ) . وجاء في الآيات ما يشير إلى أن المنهج الإسلامي منهج عقيدة  وعمل يصدق العقيدة ، منهج لا تكفي فيه النوايا  إنما هي تحسب مع العمل  فتحدد قيمة العمل   وكحافز على إتقان العمل قال تعالى : ﴿ ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه  ﴾ يونس 61 .

وأما إخلاص النية في العمل ، فقد بينه الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله ( إنما الأعمال بالنيات ) الأعمال لا مجرد النيات ، فقيمة الفرد في الإسلام ، هي بما يقدمه لأمته من عمل ، وبما يحرزه في نفسه من صلاح وتقوى ، وبذلك يكون تفاضل الناس أمام الله ، وليست قيمة الفرد بما يملك من مال أو يحرز من جاه أو سلطان . ولا قيمة للفرد في الإسلام ، إذا تكلم ولم يفعل ، لأن سرّ قوة الكلمة كامن في قوة الإيمان ، بمدلول الكلمات ، لتحويل الكلمة المكتوبة إلى حركة حية ، والمعنى المفهوم إلى واقع ملموس ، فلا يقعد القادر على العمل ، طمعاً في أن يؤدي واجبه بالكلام ، وقديماً قال الشاعر :

السيف أصدق إنباء من الكتب   في حدّه الحد بين الجِدِّ واللعب

ففي كثيرٍ من الأحيان ، يصبح من العبث أن نتكلم ونتكلم ثم لا نفعل شيئا  لأن الكلمة لا يمكن أن تفعل شيئا ، إلا إذا تحولت إلى فعل ، والفعل لا بد له من عقيدة   لأن قوة الكلمة ، إنما تنبع من أنها ترجمان العقيدة ، وقد عاب الله على من يقولون ولا يفعلون قال تعالى : ﴿ يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ، كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ﴾ الصف . 

ولما للعمل من أهمية ، فإن الإسلام يحرص على إقامة المجتمع القوي ، الذي يأكل مما يزرع ، و الذي تتحقق فيه الكفاية في الإنتاج ، من أجل توفير الحاجات الأساسية لأفراده ، وتحقيق خلافتهم في أرض الله ، كما جاء في الحديث ( إن الله يحب العبد المؤمن المحترف ) فاليد الخشنة العاملة ، يد يحبها الله ورسوله ، ولا يمكن للأمة أن تكون خير أمة أخرجت للناس ، إلا عن طريق العمل والإعداد وبذل الجهد والسعي في الأرض قال سبحانه وتعالى : ﴿ هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور ﴾ ومن هنا كان للعمل في الإسلام قيمته وأهميته ، وفي هذا يقول صلى الله   : ( ما أكل أحد طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده ، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده ) .  وقد أنزل الدين الإسلامي العاملين منـزلة تقترب من منـزلة الأنبياء والصديقين والشهداء ، يقول عليه الصلاة والسلام : ( التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء ) .

والذين يقرؤون سير الأنبياء والرسل الكرام ، يزدادون إيماناً بقيمة العمل ، وإدراكاً لمـنـزلة العاملين ، ذلك أن الأنبياء والرسل ، كلهم كانوا يعملون ، فقد كان لكل نبي حرفة يعمل فيها ويعيش منها ، ليكون قدوة لقومه  فقد كان إدريس خياطا  وكان داود عليه السلام حدادا ً  وكان نوح عليه السلام نجاراً ، وكان موسى عليه السلام راعياً للغنم وكذلك كان محمد صلى الله عليه وسلم .

ولقد اقتدى الصحابة برسولهم الكريم ، فلم يركنوا إلى الكسل أو يقعدوا عن طلب الرزق، بل كانوا جميعاً يعملون ، فقد كان الصحابي الأول أبو بكر رضي الله عنه تاجر قماش، وكان الزبير بن العوام خياطاً وكان عمرو بن العاص جزاراً ، والعمل شرف مهما كان متواضعاً  فقد روي أن أحد الأمراء مر على عامل نظافة ، وهو يكنس الشوارع وينشد قائلاً :

وأكرم نفسي إنني إن أهنتها    وحقك لم تكرم على أحد بعدي

فقال الأمير للعامل: وأي إكرام هذا الذي أكرمت به نفسك ، وأنت تعمل كناساً ، فقال : إن عملي هذا أفضل من أن أقف على أبواب اللئام أمثالك يعطونني أو يمنعوني ، وقد أكرم الإسلام العمال ، وجعل لهم حقوقاً كثيرة ، وجاءت الأحاديث الشريفة موضحة ذلك فقال صلى الله عليه وسلم : ( من استأجر أجيراً فليعطه أجره ) وقال : ( أعط الأجير أجره قبل أن يجف عرقه ) .

 وحث الإسلام على العمل حتى عند قيام الساعة وفي أحرج الأوقات ( إذا قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها ) .

إن أهم شيء تقوم عليه هذه الحياة ، هو العمل فكل ميسر لما خلق له   والعمل في ذاته حركة ، والحركة دليل الحياة ، والسكون دليل الموت ، فلا يمكن أن تستقيم حياة بغير عمل ، ولا يمكن إن تنتظم حياتنا بغير عمل  ولذلك اعتبر العمل محور الإسلام وجوهره ، على أن يكون في حدوده الشرعية ، التي لا تمس حقوق الآخرين   ولا تضر بمصالحهم ، فكان من قواعد الإسلام قوله صلى الله عليه وسلم : ( لا ضرر ولا ضرار ) وقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) .

وقد وضع الإسلام للعمل قواعد عامة ، وقواعد خاصة في كثيرٍ من أنواع التصرفات ، تدور كلها حول وقاية المجتمع من الخصومات ، التي تبدد شمله  وتكدر صفوه ، كما عنى بتنظيم العمل وتوزيعه ، حتى لا يشغل عمل الدنيا عن عمل الآخرة ، وعما يجب عليه من حقوق كما بين أن المغالاة فيه ، وعدم تحري طرق الكسب الحلال لا تجلب رزقا ، ولا تضاعف كسبا قال صلى الله عليه وسلم : ( إني لا أعلم شيئاً يقربكم من الجنة ويبعدكم من النار إلا أمرتكم به ، وإني لا أعلم شيئاً يبعدكم من الجنة ويقربكم من النار إلا نهيتكم عنه ، وإن الروح الأمين نفث في روعي أن نفساً لن تموت حتى تستوفي رزقها ، وإن أبطأ عنها ، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ، ولا يحملنكم استبطاء شيء من الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله تعالى  فإن الله لا ينال ما عنده بمعصيته ) .   

 

 

 

 

الغاية من الصناعات والمخترعات

أما الغاية فعلى ما أرى هي التغلب على العقبات والصعوبات في سير الحياة التي سببها الجهل والضعف ، والانتفاع بقوى الطبيعة المودعة في هذا الكون وخيراتها وخزائنها المبثوثة فيها ، واستخدامها لمقاصد صحيحة من غير علو في الأرض ولا فساد . كان الإنسان يسافر في الزمن القديم ماشياً ، ثم أُلهم أن يسخر لذلك الحيوان  فاتخذ العجلات واتخذ الجياد العتاق ، ثم لم يزل يتدرج في السرعة والاختراع حتى وصل من المركبة إلى القطار ، ومنه إلى السيارة ، ومنها إلى الطيارة ، وكذلك من السفينة الشراعية إلى البواخر ، فلا بأس ، بل يا حبذا إذا كان ذلك كله تابعاً لمقاصد صحيحة يسافر الإنسان بها من مكان إلى مكان ، لغرض صحيح جدي مثمر ، ويحمل عليها أثقاله إلى بلد لم يكن بالغه إلا بشق النفس ؛ ويوفر الوقت والقوة ، وينتفع بها في الخير . وقس على ذلك سائر القوى الطبيعية والمخترعات الحديثة ، التي ينتفع بها الإنسان انتفاعاً مشروعاً ويستخدمها لمقاصد رشيدة نافعة

إن موقف الإسلام في ذلك بيِّن واضح ، فقد أخبر أن الإنسان خليفة الله في الأرض قد سخر الله العالم لأغراضه الصحيحة بتصرف منه وغير تصرف فقال : ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ﴾ ، وقال : ﴿ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ﴾ إبراهيم  وقال : ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ﴾ الإسراء ، ليلاحظ القارئ الإطلاق في قوله : ﴿ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ﴾ ، وقوله :﴿ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ﴾ وقال : ﴿ وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ النحل . قد منَّ الله في هذه الآية على الإنسان بتمكينه لبلوغ غايته من غير شق النفس ، واستدل به على رأفته به ، ورحمته له  وقال : ﴿ وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُون لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ  وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ ﴾ الزخرف . وما أجدر الإنسان أن يقول إذا استوى على سيارة أو طيارة :﴿ سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ﴾ ، فهو أبعد من أن يكون مقرناً لقطع من صفيح وحديد لا حياة فيها ولا حركة ، يسخرها له تجري بأمره رخاء حيث أصاب ، ولا ينس أنه راجع إلى الله ومحاسب على ما أوتي من قوة وسعة ، فإن أساء استعمال هذه القدرة والتمكين عوقب على ذلك . وكذلك لا ينس أنه عبد خاضع لله منقاد لحكمه لا يملك موتاً ولا حياة ولا نشوراً ، ولا يطغ ، فإن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى .

وقال : {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ }( الحديد )  . فالحديد فيه منافع للناس ومن أكبر منافعه أنه يستخدم لنصر الله ورسله ، ولذلك قدم عليه ذكر إرسال الرسل  وإنزال الكتب ، فالمسلم ينتفع بكل ما خلق الله وأودع في الكون من قوة في سبيل الجهاد في سبيل الله ، وفي نشر دينه ، وإظهاره على الدين كله وإعلاء كلمته  وفيما أباح الله له ورغبة فيه من تجارة مشروعة وكسب حلال ، وسفر بر    ومنافع مباحة . إنما طائركم معكم :  إن المصنوعات الجمادية لا ذنب عليها ، فإنها خاضعة لإرادة الإنسان وعقليته وأخلاقه ، فهي في ذات نفسها ليست خيراً ولا شراً  ولكن الإنسان هو الذي يجعلها باستعماله لها خيراً أو شراً ، وكثيراً ما تكون خيراً في نفسها ، فيحولها الإنسان شراً بسوء استعماله وخبث سريرته ، وفساد تربيته  فليس الشأن في هذه الآلات والمخترعات ، إنما الشأن فيمن يستغلها وفي الغرض الذي يستعملها له . وحقيق أن يقال – لمن أصبح يتطير في أوربا من هذه الآلات ، ومن الطيارات التي تقذف القنابل ، وتدمر المنازل ، وتنسف القرى والمدن ، والغواصات التي تغرق بواخر الركاب المسالمين والتجار الآمنين ، واللاسلكية التي تذيع الكذب والزور ، وتنشر الخلاعة والمجون ويشكو منها ، ويوجه إليها الملام : ﴿ قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ ﴾ فإن العلوم الطبيعية تسخر للإنسان القوة المادية ، وليس من شأنها أن تعلمه أيضاً كيف يستعملها ، وفيم يضعها ، كالكبريت يعطيك ناراً  ولك أن تحرق بها بيتاً على سكانه ، أو تطبخ طعاماً أو تستدفئ بالنار ، والذي يعلم كيف يستعمل الإنسان القوة وفيما يضعها هو الدين ، فالدين يرشد الإنسان كيف ينتفع بقوته انتفاعاً حقيقياً ، وكيف يشكر نعمة الله ، ويحظر على الإنسان أن يكون بقوته التي خوله الله إياها معيناً على الظلم والجريمة والإثم والعدوان ، كما قال موسى عليه السلام : ﴿ قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ ﴾ القصص ، : وقال سليمان : ﴿ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ﴾ . التخليط بين الوسائط والغايات : أما الأوربيون فقد حرموا أنفسهم الدين ، فلم يبق لهم رادع من خلق أو وازع من دين ، أو مرشد من علم إلهي ، يرشدهم إلى الجادة ، ونسوا غاية خلقهم ومبدأهم ومصيرهم وقالوا : ﴿ إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ﴾ فاعتقدوا بطبيعة هذه العقيدة أن ليس للإنسان وراء اللذة والراحة والانتفاع المادي والعلو في الأرض وبسط السيطرة عليها – كمملكة لا سيد لها ولا وارث – والتغلب على أهلها والاستئثار بخبراتها وخزائنها ، مقصد ولا غاية ، فاستعملوا هذه القوة والعلم في حصول اللذات والتغلب على الناس وقهر المنافسين  وتنافسوا في اختراع الآلات التي ينالون بها وطرهم ، ويعجزون بها غيرهم ، ولم يزل بهم ذلك حتى اختلطت عليهم الوسائط بالغايات ، فاعتقدوا الوسائط غايات ، وافتتنوا بالمخترعات والمكتشفات كغاية في نفسها لا لغيرها ، وعكفوا عليها وتشاغلوا بها كتشاغل الصبيان باللعب والدُّمى ، واعتقدوا أن الراحة هي الحضارة ثم تقدموا وصاروا يعتقدون أن السرعة هي الحضارة .

يقول الأستاذ جود : " يقول دزرائيلي Disraeli إن المجتمع في عصره يعتقد أن الحضارة هي الراحة  أما نحن فنعتقد أن الحضارة عبارة عن السرعة ، فالسرعة هي إله الشباب العصري ، وإنه يضحي على نُصبه بالهدوء والراحة والسلام والعطف على الآخرين من غير رحمة " . ﴿ ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ﴾ : وقد أصبحت هذه المخترعات والمكتشفات الجديدة – مما كانت تعود على النوع الإنساني بخير كبير لو كان مستعملها يعرف الخير ويَقْدِر أن يتجه إليه – أصبحت وضررها أكبر من نفعها ، وكان كما قال القرآن عن السحر : ﴿ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ ﴾ . اسمع شاهداً من أهلها ينتقد هذه المخترعات ويبوح بالحقيقة وهو - جود - السابق الذكر : " وقد استطعنا أن نسافر بسرعة زائدة من مكان إلى مكان ، ولكن الأمكنة التي نسافر إليها قلما نصلح للسفر ، وقد زويت الأرض للرحالين وتدانت الأمم ووطئ بعضها عتبة بعض ، ولكن كان نتيجة ذلك أن توترت العلاقات بينها وأصبحت أسوأ مما كانت ، أما المرافق التي استطعنا بها أن نتعارف بجيراننا فقد عادت فحشرت العالم في الحرب ، اخترعنا آلة الإذاعة وتحدثنا بها إلى الشعوب المجاورة والأمم الشقيقة ، ولكن كان عاقبتها أن كل شعب يستنفد موارد الهواء لإيذاء الشعب المجاور ومعاكسته ، إذ يجتهد أن يقنعه بفضل نظامه السياسي على نظامه  . " انظر إلى الطيارة التي تحلق في السماء يخيل إليك أن صانعيها كانوا في علمهم ولباقتهم وصناعتهم فوق البشر ، والذي طاروا عليها أولاً لاشك أنهم كانوا في علو همتهم وعزمهم وجرأتهم أبطالاً مغاوير ، ولكن انظر الآن إلى المقاصد التي استعملت لها الطيارة وتستعمل لها في المستقبل ، إنما هي قذف القنابل وتمزيق جثث الإنسان وخنق الأحياء وإحراق الأجساد وإلقاء الغارات السامة ، وتقطيع المستضعفين الذي لا عاصم لهم من هذا الشر إرْباً إرباً ، وهذه إما مقاصد الحمقى أو الشياطين  . " وما عسى أن يقول المؤرخ غداً كيف كنا نستعمل معدن الذهب ؟ سيذكر أنا توصلنا إلى أن نخبر عن الذهب باللاسلكي ، وسيستعرض الصور التي تمثل اللياقة والمهارة التي كان أصحاب المصارف يزنون بها الذهب ويعدونه ، وكيف تحدينا قانون الجاذبية في نقله من عاصمة إلى عاصمة ، وسيسجل أن أشباه الوحوش الذين كانوا ماهرين وجرآء في فتوحهم الصناعية كانوا عاجزين عن التعاون الدولي الذي كان يقتضيه ضبط الذهب والتقسيم الصحيح ، وكانوا لا يعنون إلا بأن يدفنوا المعادن بالسرعة الممكنة ، وكانوا يستخرجون الذهب والمعادن من بطون الأرض في جنوب إفريقية ، ويدفنونها في مصارف لندن ونيويورك وباريس .

ويتناول هذه البحث – التفاوت بين العلم والصناعة وبين الأخلاق الإنسانية  وإخفاق الحضارة الحديثة في أداء رسالتها – مفكر آخر يجمع بين العلم بالفلسفة والعلوم الطبيعية في تحليل أدق وأسلوب أعمق وهو الدكتور  Alexis Carrel  في كتابه – الإنسان ، ذلك المجهول  Man the Unknown : " يظهر أن الحضارة العصرية لا تستطيع أن تنتج رجالاً يملكون الابتكار والذكاء والجرأة . وفي كل قطر تقريباً يرى الإنسان في الطبقة التي تباشر إدارة الأمور وتملك زمام البلاد انحطاطاً في الاستعداد الفكري والخلقي . إننا نلاحظ أن الحضارة العصرية لم تحقق الآمال الكبيرة التي عقدتها بها الإنسانية وإنما أخفقت في تنشئة الرجال الذين يملكون الذكاء والإقدام الذي يسير بالحضارة على الشارع الخطر الذي تتعثر عليه ، إن الأفراد والإنسانية لم تتقدم بتلك السرعة التي تقدمت بها المؤسسات التي نبعث من عقولها ، إنها هي نقائص القادة السياسيين الفكرية والخلقية وجهلهم الذي يعرض أمم العصر للخطر " .

" إن الوسط الذي أنشأه العلوم الطبيعية وعلم الصناعات للإنسان لا يناسب الإنسان لأنه مرتحل لم يقم على تصميم وتفكير سابق ، ولم يراع فيه الانسجام مع شخصية الإنسان ، إن هذا الوسط الذي هو وليد ذكائنا واختراعاتنا لا يطابق قاماتنا ولا أشكالنا ، نحن غير مسرورين ، نحن في انحطاط الأخلاق وفي العقول  أن الأمم التي ازدهرت فيها الحضارة الصناعية وبلغت أوجها هي أضعف مما كانت ، وهي تسير سيراً حثيثاً إلى الهمجية ولكنها لا تدرك ذلك ، إنه لا حارس لها من المحيط الثائر الذي أقامته العلوم الطبيعية حول هذه الأمم . الحق يقال إن حضارتنا – كالحضارات التي تقدمتها – قد فرضت شروطاً للبقاء ستجعل – لأسباب لا تزال مجهولة – الحياة محالاً ، إن علمنا بالحياة وكيف يجب أن يعيش الإنسان متأخر جداً عن علمنا بالماديات ، وهذا التأخر هو الذي جنى علينا " .

 " لا يجنى نفع من الزيادة في عدد المخترعات الآلية ، لا فائدة في أن نعلق أهمية كبرى على اكتشافات علوم الطبيعية والفلكيات وعلم الكيمياء ، أي خير في الزيادة في الراحة والشرف ، والجمال والمنظر وكماليات حضارتنا ، إذا منع ضعفنا من الانتفاع بذلك وتوجيهه إلى صالحنا . إنه لا خير في أحكام طريق للحياة يقصى فيه العنصر الخلقي وتبعد منه أشرف عناصر الأمم العظيمة ، إن الأليق بنا أن نعنى بأنفسنا أكثر من أن نعنى بصناعة بواخر أسرع وسيارات أربح، وراديوات أرخص، وتلسكوبات لفحص هيكل سديم على بعد سحيق "

 " ما هو مدى التقدم الحقيقي الذي نحققه حينما تنقلنا إحدى الطائرات إلى أوربا أو إلى الصين في ساعات قلائل ؟ هل من الضروري أن نزيد الإنتاج بلا توقف حتى يستطيع الإنسان أن يستهلك كميات أكثر فأكثر من أشياء لا جدوى منها ؟ أليس هناك أي ظل من الشك في أن علوم الميكانيكا والطبيعة والكيمياء عاجزة عن إعطائنا الذكاء والنظام الأخلاقي والصحة والتوازن العصبي والأمن والسلام ".

أوربا في الانتحار : والحاصل أن الغربيين لما فقدوا الرغبة في الخير والصلاح  وضيعوا الأصول والمبادئ الصحيحة ، وزاغت قلوبهم وانحرفت ، وفسدت أذواقهم لم تزدهم العلوم والمخترعات إلا ضرراً ، كما أن الأغذية الصالحة تستحيل في جسم الممعود والموبوء مرضاً وفساداً ، بل لم تزدهم هذه الآلات والمخترعات إلا قوة وسرعة في الإهلاك ، واستعانة على الانتحار ؛ وقد أحسن المستر ايدن Eden رئيس وزراء بريطانيا السابق وصف ذلك في بعض خطبه سنة 1938 م : " إن أهل الأرض كادوا يرجعون في أخريات هذا القرن إلى عهد الهمجية والوحشية ، ويعيشون عيشة سكان الكهوف والمغارات ، ومن الغريب المضحك أن البلاد والدول تنفق ملايين من الجنيهات على وقاية نفسها من آلة فتاكة تخافها ، ولكنها لا تنفق على ضبطها ، وإني أتعجب في بعض الأحيان وأقوال : كيف لو زار العالم الجديد زائر من كوكب آخر وهبط إلينا فما عسى أن يشاهده ؟ سيجدنا نعد العدة لإهلاك بعضنا ، ونتبادل الأنباء عنها ويخبر بعضنا كيف نستعمل هذه الآلات الجهنمية  .

القنبلة الذرية وفظائعها : لعل المستر إيدن لما أفضى بهذا الحديث لم يدر بخلده أن العالم المتمدن وعلى رأسه أميركا رسول السلام وزعيم الحضارة والعالم الجديد سيتوصل أثناء الحرب إلى استعمال آلة تبز جميع الآلات والمخترعات في التدمير والتقتيل ، وتفوق ذكاء الإنسان وخياله في الهول والفظاعة ، قد كانت هذه الآلة هي القنبلة الذرية التي جربتها أمريكا مرة في صحراء نيوميكسيكو ، وثانية على رؤوس البشر في مدينة هيروشيما ، وبعدها في نجازاكي المدينتين اليابانيتين . وقد أذاع رئيس بلدة (هيروشيما) في 20 أغسطس آب 1949 م أن الذين هلكوا في اليوم السادس من أغسطس آب 1945 م من اليابانيين يتراوح عددهم بين مائتي ألف وعشرة آلاف ومائتي ألف وأربعين ألفاً ( ب- ت ) .   يقول المستر استورت (Stuart Gilder) في مقالة نشرتها صحيفة الهند الإنجليزية السيارة (Statesman) في عددها الصادر في 16 سبتمبر 1945 . يقول البروفسور Plesh  : " لا يؤمن على الناس الذين كانوا يبعدون عن المنطقة التي انفجرت فيها القنبلة الذرية بمائة ميل أن يكونوا قد تأثروا بها ، فينبغي أن يفحص عنهم فحصاً طبياً ، ولا يستغرب أن يصبح الناس يوم ويقرأوا في الجرائد أن علامات الإصابة بطاعون القنبلة الذرية قد ظهرت في الذين يسكنون على آلاف أميال من اليابان " .  يقول البروفسور ( م . ي . أولى فنيت ) معلم جامعة برمنجهام وعضو الهيئة الصناعية في إعداد القنبلة الذرية : " من الأمور الخرافية أن يعتقد إنسان أن بريطانيا أو دولة أخرى تستطيع أن تحافظ على سر القنبلة الذرية . إن المبادئ التي قامت عليها صناعة القنبلة الذرية مكشوفة لكل دولة ، إن بريطانيا وأميركا استفادتا بتجاريب السابقين وبلغتا إلى نهاية صناعة القنبلة الذرية ، ولكنها لا تدوم سراً حربياً إلا لأجل معدود ، لأن كل بلاد صناعية تستطيع أن تعد القنبلة الذرية في مدة خمس سنوات وإذا أفرغت جهودها ووجهت قواها إلى صناعتها فيمكن أن تبلغ إلى نهايتها في سنتين" . ويقول البروفسور المذكور : " وأنا على يقين أنه سيظهر في مدة قصيرة على مسرح العالم قنابل تفوق القنابل الأولى بعشرة آلاف طن في قوة الانفجار  وستليها قنابل قوتها مليون طن ، ولا ينفع في التوقي منها دفاع أو احتياط ، وإن ست قنابل فقط من هذا القبيل تكفي في تدمير إنجلترا على بكرة أبيها ، وإن العلماء الروسيين ينجحون في إعداد القنابل في مدة قصيرة جداً " .

وقد اخترعت أمريكا قنبلة أخرى تفوق القنبلة الذرية في القوة والفظاعة ، وهي (Hydrogen Bomb) وقد جرى اختبارها للمرة الثانية في المحيط الهادئ يوم 26 من مارس سنة 1954 . وقد ذكر المستر شارلس – ي – ولسن (Charles E. Wilson) سكرتير وزارة الدفاع أن النتائج كانت هائلة لا تكاد تصدق .

وقد ذكر المستر لويس استراس (Lewis Strauss) رئيس لجنة القوة الذرية في أمريكا أن قنبلة هيدروجينية واحدة تستطيع أن تبيد مساحة مدينة نيويورك الواسعة . وقال العالم الطبعي الشهير ونائب رئيس مجلس الأمن اللواء صاحب سنج : إن أربع قنابل هيدروجينية وزن كل واحدة منها مائة طن تستطيع أن تقتل كل نسمة على وجه الأرض ، وقد شاع أخيراً أن روسيا اكتشفت القنبلة النيتروجينية (Nitrogen bomb) التي هي أدهى وأمر من القنبلة الهيدروجينية . والذي خبث لا يخرج إلا نكدا : وقد تضعضع أساس المدنية الأوربية ، كما ذكرنا بتفصيل ، ولم يزل بناؤه متزعزعاً  ولم تزده الأيام ولم يزده الارتفاع إلا زيغاً واختلالاً، وفسدت بذرتها ، فلم تصلح شجرتها ولم تطلب ثمرتها : ﴿ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً ﴾ . وقد شرح ذلك في إيجاز الأستاذ السيد أبو الأعلى المودودي في أحد فصول كتابه - تنقيحات - بالأوردية قال : ظهرت الحضارة الغربية في أمة لم يكن عندها معين صاف ولا نبع عذب للحكمة الإلهية ، لقد كان فيها قادة الدين ولكن لم يكونوا أصحاب حكمة ولا علم ولا شريعة إلهية ، ولم يكن عندهم إلا شبح ديني لو حاول أن يسير بالنوع الإنساني على صراط مستقيم في طرق الفكر والعمل لما استطاع ، ولم يكن له إلا أن يكون حجر عثرة وسداً في سبيل ارتقاء العلم ، والحكمة ، وهكذا كان   وكان عاقبة ذلك أن الذين كانوا يريدون الرقي ، نبذوا الدين بالعراء ، واختاروا طريقاً لم يكن دليلهم فيها إلا المشاهدة والاختبار والقياس والاستقراء ، ووثقوا بهذه الدلائل التي هي في حاجة بنفسها إلى الهداية والنور ، وجاهدوا واجتهدوا باحتذائها في طرق الفكر والنظر، والتحقيق والاكتشاف ، والبناء والتنظيم   ولكن ضلت خطوتهم الأولى في كل جهة وفي كل مجال ، وانصرفت فتوحهم في ميادين العلم والتحقيق ، ومحاولاتهم في سبيل الفكر والنظر إلى غاية لم تكن صحيحة  إنهم بدأوا وساروا من نقطة الإلحاد والمادية ، نظروا في الكون على أنه ليس له إله  نظروا في الآفاق والأنفس ، على أنه لا حقيقة فيها إلا المشاهد والمحسوس   وليس وراء هذا الستار الظاهر شيء ، إنهم أدركوا نواميس الفطرة بالاختبار والقياس ولكنهم لم يتوصلوا إلى فاطرها ، إنهم وجدوا الموجودات مسخرة واستخدموها لأغراضهم ، ولكنهم جهلوا أنهم ليسوا سادتها ومدبريها ، بل هم خلفاء سيدها الحق ، فلم يروا أنفسهم مسئولين عنها ، ولم يروا على أنفسهم عهدة وتبعة ، فاختل أساس مدنيتهم وتهذيبهم ، وانصرفوا عن عبادة الله إلى عبادة النفس ، واتخذوا إلههم هواهم ، وفتنتهم عبادة هذا الإله ، وسارت بهم هذه العبادة في كل ميدان من ميادين الفكر والعمل ، على طريق زائغة خلابة رائعة  ولكن مصيرها إلى الهلاك .

هذا هو الذي مسخ العلوم الطبيعية ، فصارت آلة لهلاك الإنسان ، وصاغ الأخلاق في قالب الشهوات والرياء ، والخلاعة والإباحة ، وسلط على المعيشة شيطان الأثرة والشح ، والفتك ببني النوع ، ودس في عروق الاجتماع وشرايينه سموم عبادة النفس والأنانية ، والإخلاد إلى الراحة والتنعيم ، ولطخ السياسة بالجنسية والوطنية وفروق اللون والنسل وعبادة إله القوة ، فجعلها لعنة كبرى للإنسانية . والحاصل أن البذرة الخبيثة التي ألقيت في تربة أوربا في نهضتها الثانية ، لم تأت عليها قرون حتى نبتت منها دوحة خبيثة ، ثمارها حلوة ولكنها سامة ، أزهارها جميلة ولكنها شائكة ، فروعها مخضرة ولكنها تنفث غازاً ساماً لا يرى ، ولكنه يسمم دم النوع البشري . إن أهل الغرب الذين غرسوا هذه الشجرة الخبيثة قد مقتوها ، وأصبحوا يتذمرون منها ، لأنها خلقت في كل ناحية من نواحي حياتهم مشاكل وعقداً لا يسعون لحلها ، إلا وظهرت مشاكل جديدة ، ولا يفصلون فرعاً من فروعها إلا وتطلع فروع كثيرة ذات شوك ؛ فهم في معالجة أدوائهم وإصلاح شئونهم كمعالج الداء بالداء وناقش الشوكة بالشوكة ، إنهم حاربوا الرأسمالية فنجمت الشيوعية ، إنهم حاولوا أن يستأصلوا الديمقراطية فنبت الدكتاتورية ، أرادوا أن يحلوا مشاكل الاجتماع فنبتت حركة تذكير النساء (Feminism) وحركة منع الولادة    أرادوا أن يشترعوا قوانين لاستئصال المفاسد الخلقية ، فاشرأبت حركة العصيان والجناية ، فلا ينتهي شر إلا إلى شر ، ولا فساد إلا إلى فساد أكبر منه ، ولا تزال هذه الشجرة تـثمر لهم شروراً ومصائب ، حتى صارت الحياة الغربية جسداً مقروحاً ، يشكو من كل جزء أوجاعاً وآلاماً ، وأعيا الداء الأطباء ، واتسع الخرق على الراقع ؛ والأمم الغربية تتململ ألماً ، قلوبهم مضطربة وأرواحها متعطشة إلى ماء الحياة ، ولكنها لا تعلم أين معين الحياة ، إن الأكثرية من رجالها لا تزال تتوهم أن منبع المصائب في فروع هذه الشجرة ، فهم يفصلونها ويستأصلونها من الشجرة ويضيعون أوقاتهم وجودهم في قطعها ، إنهم لا يعلمون أن منبع الفساد في أصل الشجرة ، ومن السفاهة أن يترقب الإنسان ، أن ينبت فرع صالح من أصل فاسد  وفيهم جماعة قليلة من العقلاء ، أدركوا أن أصل حضارتهم فاسد ، ولكنهم لما نشأوا قروناً في ظل هذه الشجرة – وبأثمارها نبت لحمهم ونشز عظمهم – كلت أذهانهم عن أن يعتقدوا أصلاً آخر غير هذا الأصل ، يستطيع أن يخرج فروعاً وأوراقاً صالحة سليمة ، وكلا الفريقين في النتيجة سواء ؛ إنهم يتطلبون شيئاً يعالج سقمهم ، ويريحهم من كربهم ، ولكنهم لا يعلمونه ولا مكانه  .

 

 

 

المساجد والأتباع والإتِباع

قال تعالى : ﴿ وان المساجد لله فلا تدعو مع الله أحداً  ﴾ الجن 18 . إن تبعية المساجد ليست لأية جهة كائنه من كانت ، وليس لأحد احتكار حق التصرف فيها ، لأنها لله وحده حيث يكون التوحيد الخالص ، وحيث توارى كلُّ ظلٍّ لكل أحد ، ولكل قيمه ولكل اعتبار .

وهنا سؤال : أليس احتقار البعض لغيرهم إنما يجئ من التصرفات التي تتنافى مع الدين ؟ أليس الاسترسال مع الأحقاد ، ومسايرة ذوي النيات السيئة   والتصرفات المستهجنة ، باسم الدين والسنة ، كفيلةٌ بالقضاء على السماحة واليسر  والتيسير التي تحض عليها مبادئ الدين ؟ أليس الابتعاد عن الحب والمودة  والتآلف والتآخي بين جميع أفراد المسلمين ،كائنةً من كانت الجهات التي ينتمي إليها المسلم ؟  أليس ذلك كفيل بأن يقود الأُمة إلى وضع تستهلك فيه نفسها  في صراع داخلي مشئوم  إنما يفتح الطريق واسعاً أمام منازع الإلحاد والرذيلة  والكفر بالله واليوم الأخر ، لتعمل على تفريق هذه الأُمة ، التي يجب أن تجتمع على منهج الله ، لا أن تبتعد عنه ، وأن توقظ مشاعر التعاون والتعاطف ، لا مشاعر القطيعة والخصام ، وأن يتفق الكل على نشر التوحيد ، وتعريف الأُمم الجاهلة برب العالمين . وأين يمكن أن نصنف بعض المسلمين ، من روح الإسلام في سماحتها ، المطهّرة من دنس الحقد والتي جعلت نبي الإسلام ، عليه السلام يقول: ( أُمرت أن أصل من قطعني ، وأن أُعطي من حرمني وأَن أعفو عمن ظلمني ) . وذلك ليُدرب الناس على فعلِ الخير ، ونشدان رضا الله سبحانه إيثاراً لما عنده من مثوبة  وإحرازاً لرضاه ، دون النظر إلى الناس ، سواء اتفقوا مع هؤلاء في الرأي أو السلوك أو الطريقة أم لم يتفقوا .

إن كل تصرفٍ يخضع للهوى ، غيرُ جدير بالثقة  بل غير جدير لأن يُسْتمعَ إليه أصلا ، لأن الأصل أن يلتقي المسلمون على المنهج ، والطريق الذي رسمته الشريعة ، لأن الله وليُ المؤمنين وهم حزبهُ  ينتمون إليه ، ويستظلون برايته ، ولا يتولون أحداً غيره ، أُسرةً واحدة متحابة لا متدابرةً ، ولا متقاطعة .

هذه هي أخلاق الإسلام ، أما الذين يستكبرون بالهباء ، فترى الواحد منهم فقيراً في معرفته ، ومع ذلك يعامل الآخرين بالكبر والبطر ، مع أن حقيقة أقدارهم في المستوى الهابط ، والمكانة النازلة فلو أدركوا ما في كفايتهم من نقص لاستكملوه  ولكن الحجاب المسدل على بصائرهم ، خَيل لهم أنهم عباقرة ، فعاشوا ينكبون الناس بقصورهم وغرورهم .

 إننا نعيش في عالم مشحون بأصحاب المواهب المعجبة ، والخبرات الجيدة ، والثروات الأدبية 22والمادية الهائلة ، فإذا سرنا بهذه الحفنة من الأدعياء الفارغين  فماذا يكون تقديرنا وماذا يكون مصيرنا ؟ إن الشخص التافه ، يفلسف الأوضاع حوله ، بما يشبع كبره وصدق وهمه ، فبدلاً من أن يستيقظ على الحقائق اللاذعة ، ينظر إليها من جانب يرضيه ويطغيه . إنها أخلاق الهزيمة والضياع    وأصحابها هم عِلَلُنا المقعدة ، أمام المعنيين بالعمل الحق ، الحمالين لأعبائه الثقال .

إن قلبي يقطر دماً ، عندما أرى رؤوس دول الكفر  على جانب عظيم من لطف المعاشرة ،  وسهولة الطبع ، والتفاني من أجل مصالح أممهم ، على حين أرى المتسولين على موائدهم  ، متعجرفين متعاظمين ، كأنهم والمثل القائل “ أتوا بالذيب من ذيله “  كان سلفنا الصالح يتميزون بعظم الكفاءة  ونكران الذات ، استمدوا ذلك من إيمانهم بالإسلام حالهم كما قال تعالى : ﴿ وما لأحدٍ عنده من نعمةٍ تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ﴾ الليل 20 . أما الخلف فقد جاء على الضد من ذلك  مكشوف العجز ، يجري وراء الشهرة  هابط عن المستوى العادي ، حتى أن البعض قد قطع نسبه بالإسلام  . خلفٌ لم يتعلم من الهزائم المتلاحقة ، بل جعل العلم بالدين وظيفة الهمل ، فكان العقاب من الله 2أن سقطت الأمة الإسلامية على الصعيد العالمي  والذي انعكس بدوره على دينها .

إن الهوان جريمة ،ٌ وقضاء الحياة في ضعف واستكانة ، ومهادنة أرباب الكفر وسدنة  الضلال كفيل بالسقوط في الدار الآخرة يوم الحساب ، لذا أشار القرآن الكريم إلى مصير  الذين يعيشون في الحياة الدنيا سقط متاع ، فقال تعالى  :

﴿ إن الذين توفاهم الملائكةُ ظالمي أنفسهم قالوا : فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض ، قالوا : ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا ﴾ النساء 97 .

والهجرة المفروضة هنا ، هي التحول من مكان يهدد فيه الإيمان وتضيع معالمه ، إلى مكان يأمن فيه المرء على دينه ، ولكن  دار الإسلام استقرت مما يوجب على المسلمين البقاء حيث هم  ليدافعوا عن بلادهم ، ولا يسلموا أو يسالموا في أرض التوحيد ، لعدو الله وعدوهم .

فالآية إذن تحرِّم قبول الدنية ، وتوجب الجهاد مهما كانت النتائج ، لأن الأصل في المسلم أن لا يقبل الحياة على أية صورةٍ وبأي ثمن ، فإما أن تكون كما أراد الله ، وإما رفضها وعند الله خيرٌ منها ، هذه هي عزةُ الإسلام الذي يستنهض الهمم ، ويحث على الجهاد وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قتل دون مظلمته فهو شهيد ) ، فيه استثارةٌ  للذود عن الدماء والأموال والأعراض .

 إن الالتزام ببعض تعاليم الدين وقيوده ، والتحلل من البعض الآخر ، ليس تجديداً ولا ابتكارا ، بل هو خضوع للغرائز الدنيا ، التي أذلت ألوف الخلعاء والخبثاء من عشرات القرون .

 إن من مفاتيح الاستبداد الشائن في إهانة الكفايات ، وترجيح الصغار وتكبيرهم تبعاً للمبدأ القائل “أهل الولاء أولى من أهل الكفاية “ فمن هم أهل الثقة هذه الأيام  ؟ إنهم أصحاب القدرة على الملق والكذب ، اللاهثون تحت أقدام السادة تلبيةً لإشارةٍ أو التقاطاً لغنيمة  .

2  إن المسلمين اليوم لا يقدرون تعاليم دينهم حق قدرها ، بل إن كثيراً منهم يشكل مصدر قلق ومتاعب للإسلام وأهله .

وقد يقول قائل إن الناس بخير انظر إلى المساجد تغص بالمصلين ، ومحبتهم لرسولهم فوق التهم . وإني إزاء هذا القول ، سوف اغمض عيني عن ألوف من المسلمين ، ضلل الاستعمار الثقافي سعيهم وشوه بصائرهم وأذواقهم ، مع أنهم في مواقع مسئولة في قيادة الأمة الإسلامية .

 وإذا كان هذا هو الواقع ، فما قيمة حب الله ورسوله عند هؤلاء ، إنه حب غايته تنحصر في صلوات تفلت من الشفتين ، مصحوبة بعواطف حارة أو بارد  وقلما تتحول إلى عمل مقبول  وجهاد يرضي الله ورسوله ،مما يجعلنا نقول بان ترجمة حب رسول الله بهذا الأسلوب في وقت يُنهب فيه تراثه ، أمر مرفوض إن لم يكن ضرباً من النفاق . وقد يكون حب الرسول عند بعض المسلمين  مختصاً بالتمسك بالنوافل ، وهروباً تاماً من بعض الفرائض ، أو حناناً لا ندى معه ولا عطاء كهذا الذي قال له الشاعر :

لا ألفينك بعد الموت تندبني      وفي حياتي ما قدمت لي زادا

فأي حب هذا ؟ وسلوكهم يخالف الجوهر، ويتفق مع القشور ، فالرسول صلى الله عليه وسلم اشغل الأمة التي ظهر في ربوعها ، فانطلقت لأول مرة من بدء الخليقة ، تحمل للناس الخير والعدل ، فاستطاعت أن تؤدب الجبابرة ، الذين عاثوا في الأرض فساداً  وظنوا أن كبريائهم لن يخدشها أحد ، حتى جاء الرجال الذين رباهم محمد صلى الله عليه وسلم فأعزوا المستضعفين .

 كم نحن بحاجةٍ في هذه الأيام إلى أمثالهم  ليحموا الحق الذليل ، وينقذوا التوحيد المهان ، ويقرّوا الأُخوةَ  التي جاء بها الإسلام ،  إنها السقطةُ الرهيبة للمسلمين هذه الأيام ،لأنهم ذاهلون عن المكانةِ التي منحهم محمد  صلى الله عليه وسلم إياها ، هابطون عن المستوى الذي شدّهم إليه ، إن حب محمدٍ صلى الله عليه وسلم والمحافظة على سننه يوم يكون ، يخلع على الكسالى والواهنون ، حبٌ لا وزن له ولا أثر  ويوم يقتصر على أحفالٍ ومظاهر ، فهو حبٌ لا وزن له ولا أثر ، ويوم يكون ادعاءً تستترُ به الشهوات الكامنة والطباع الغلاظ ، فهو حبٌ لا وزن له ولا أثر لأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسم للبشر طريق التسامي الحقيقي ، ورسم للجماعاتِ طريق التلاقي على الحقائق والفضائل ، فكان دينه عقل يأبى الخرافة  وقلب يعلو على الأهواء  .  

 

 

 

 

حق الجار

قال تعلى: ﴿ واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحسانا، وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب ، وابن السبيل وما ملكت أيمانكم ﴾ النساء 36. ما أكثر حِكَمِ الإسلام وآدابه ، وما أجمل نصائحه ووصاياه ، فتارة يعتني بالأُمة ونظامها ، وتارة بالأسرة وتكوينها  وتارة يأمر الفرد بأداء واجبه نحو المجتمع .

ولو أن الإسلام نافذ الكلمة ، مطبق الأحكام  سائد النظم ، قوى السلطان  مهيمن على المشاعر والقلوب ، لكان للدنيا شأن غير هذا الشأن ، وللناس حال غير هذا الحال ، انظر إليه وهو يوصينا بالجار ، ويأمرنا بالمحافظة على نفسه وكرامته ، وماله وعرضه ، نبدأه بالسلام   ونعوده في المرض  ونعزيه في المصيبة  ونقوم معه في العزاء ، ونهنئه في الفرح  ونصفح عن زلاته   ولا نتطلع إلى عوراته  ولا نغفل عن ملاحظة داره عند غيبته  ونغض البصر عن حرمته ونرشده إلى ما يجهله في أمر دينه ودنياه .

لذلك كان من أهم ما أوصى به الدين رعاية الجار ، والقيام بحقه ، وإحسان معاملته ، والبعد عن كل ما يسيئه في نفسه ، أو أهله أو ولده أو داره أو طريقه أو عمله . وفي حديث عمرو بن شعيب أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( من أغلق بابه دون جاره ، مخافة على أهله وماله ، فليس ذلك بمؤمن ، وليس بمؤمن من لم يأمن جاره بوائقه . أتدري ما حق الجار ؟ إذا استعانك أعنته ، وإذا استقرضك أقرضته ، وإذا افتقر عدت عليه  وإذا مرض عدته ، وإذا أصابه خيرٌ هنأته ، وإذا أصابته مصيبةٌ عزيته    وإذا مات اتبعت جنازته  ولا تستطل عليه بالبنيان ، فتحجب عنه الريح إلا بإذنه ، ولا تؤذه بقتار ريح قدرك إلا أن تغرف له منها ، وإذا اشتريت فاكهةً فاهد له  فإن لم تفعل فأدخلها سرِّاً ، ولا يدخل بها ولدك ليغيظ بها ولده ) رواه الخرائطي  . قال رجل يا رسول الله كيف لي أن أعلم ، إذا أحسنت أو أسأت ؟ قال: ( إذا سمعت جيرانك يقولون قد أحسنت فقد أحسنت ، وإذا سمعتهم يقولون قد أسأت فقد أسأت ) رواه الطبراني بسند حسن . ومتى كان الجار ناصحاً لجاره مخلصاً له ، فإنه يملك لبه ويستولي على عواطفه ومشاعره ، ويصبح مخلصاً له . وانشدوا في التوصية بالجوار :

وارع الجوار لأهله متبرعا    بقضاء ما طلبوا من الحاجات

وها هو ذا رسول الله   صلى الله عليه وسلم  يوصي به على هذا النحو المؤكد ، وبهذا الأسلوب القويّ ، فينبئنا أن الوصية به من السماء لا من الأرض ، وتصل إلى الحد الذي يظن معه الرسول صلى الله عليه وسلم ، أن الله سيجعل له حقاً في ميراث جاره ، فقال صلى الله عليه وسلم   : (مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه ) .  ثم يقرر الرسول صلى الله عليه وسلم أن المؤذي لجيرانه غير مؤمن ويكرر هذا النفي ، في حديثه ثلاث مرات  ويقسم عليه في كل مرَّة . 

وحق للإسلام أن يمنح الجار هذه العناية ، وأن يوليه هذه المنزلة ، وأن يعطيه كل ما يليق به من حقوق وواجبات ، لأنه أخ في الدين ، والمعاون في السراء والضراء  وستر العورات والحرمات  ولذلك أوصى الحكماء باختيار الجار الصالح فقالوا : عليك بالجار قبل الدار ، وبالرفيق قبل الطريق .

وقد اهتم السلف الصالح بحسن الجوار ، حتى أن الواحد منهم كان يهتم بمالح جاره كاهتمامه بمالحة ، وكان يقوم بها خير قيام ، ويؤديها في أمانة واخلاص ونبل ووفاء  حتى لو وقعت من الجار المخالفة أو الإساءة .

كان لأبي حنيفة جار يغني بالليل بصوت مزعج  وهي مهمة الراديو والتلفاز هذه الأيام ، عندما يرفع صوتها الجيران ، وكان ذلك يزعج أبا حنيفة ويضايقه ، وفي يوم من الأيام قبض شرطة الوالي على هذا الجار لإقلاقه الناس ومضايقتهم  واقتادوه إلى السجن ، فافتقده أبو حنيفة عند ما لم يسمعونه ، فسأل عنه فأخبروه خبره  فذهب أبو حنيفة إلى الأمير وقال له : إن لي جاراً أخذه رجال شرطتك وحبسوه ، وما علمت منه إلا خير ، فقال له الأمير : إنا سنطلق سراح كل من اعتقل البارحة من أجله  فلما خرج الرجل  قال لأبي حنيفة : جهدت لإنقاذي وطالما أزعجتك بغنائي فقال له أبو حنيفة : أرجو أن أكون بذلك قد أديت معك حق الجار . وثبت أن جار السوء أرغم الإمام الشافعي ، على أن يبيع داره بأرخص الأثمان ، حتى أن كثيراً من الناس لاموه على بيعه داره بهذا الثمن الرخيص فقال في ذلك :

يلومونني إن بعت بالرخص منزلي   ولم يعلموا هناك جاراً ينغص                                                                                  فقلت لهـم كـفوا الملامة إنـما        بجيرانهم تغلوا الديار وترخص

وفي القرى مازال الإنسان يلمس المحافظة على حق الجار ، أو بعض هذا الحق  أما في المدن فقد أغفل هذا الحق في كثير من الأحياء ، حتى أن الجار لا يعرف اسم جاره ، ولا يؤدي له حقه وتلك واحدة من الشرور ، التي طغت على الناس باسم المدنية والحضارة ، لقد اتبع المسلمون أهوائهم وأطاعوا شيطانهم ، وتركوا دينهم  وأهملوا كتاب ربهم ونسوه ، وتخلفوا عن رسالته في الأرض ، واصبحوا لا يقيمون وزناً لقرابة ولا رحم ، ولا يتذوقون طعما للإنسانية والمروءة   ولا يفقهون معنى الدين والحياء ، ولا يقدِّرون الاخوّة والجوار ، فكثيراً ما يجتمع الجيران في ديارهم يتنادمون ويتسامرون ويلعبون ، وأحياناً يغنون بصوت مرتفع   ثم يعدلون عن الغناء إلى تبادل النكات .

 ولو وقف الأمر إلى هذا الحد لهانت ، المصيبة ولكنها تكون أعظم وأفدح  عندما يعقبون كل نكتة بضحكة عالية ، تسر نفوسهم وتخرق آذان جيرانهم  وتقض مضجعهم فلا سليمهم ينام ولا مريضهم يستريح ، ولا طالبهم يعرف للمطالعة طريق ، مما يؤدي في كثير من الأحيان إلى المشاجرات والمشاحنات  وتسري بين الجيران عدوى الحقد والحسد ، فيحصل التنافر والشقاق بين الجيران لأسباب تافهة ، ناسين أن الجوار يقتضي حقاً وراء ما تقتضيه أخوّة الإسلام .

قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن فلانة تصوم النهار وتقوم الليل وتؤذي جيرانها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( هي في النار). وفي وصية لقمان لابنه ، وهو يعظه ويوجهه لأسمى الأخلاق وأنبل الصفات ، في قوله تعالى : ﴿وأقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير﴾ لقمان . في الوقت الذي أمر الله سبحانه بغض الصوت وخفضه   استنكر رفع الصوت وجعله من أخلاق البهائم المنكرة المستقبحة ، وهذا منتهى البشاعة وغاية الزجر  والنهي لمن يرفعون أصواتهم حتى تستقبح وتستنكر أصوات الحمير . وليعلم كل مسلم أن حق الجوار ، ليس كف الأذى ، وإنما احتمال الأذى وإسداء الخير والمعروف ولكن ويا للأسف ، فمن الناس من فقد دينه ومروءته  فتراه يتجسس على جاره  ويبحث عن أخباره ، وينقب عن أسراره وخفاياه ، يغازل بناته ويغري زوجته ، ويضرب أولادُه أولادَ جاره ناسياً آداب الدين  وواجب المروءة وحرمة الجوار .

أخرج الشيخان عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلملى الله عليه وسلم قال (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليسكت ). واحمد والشيخان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن قالوا من يا رسول الله قال : الذي لا يأمن جاره بوائقه) . أي شروره وفي الأثر " أربعٌ من السعادة المرأة الصالحة والمسكن الواسع والجار الصلى الله عليه وسلمالح والمركب الهنيء . وأربع من الشقاء الجار السوء والمرأة السوء و المركب السوء والمسكن الضِّيق " ،  فعلي المسلمين أن يراعوا حقوق جيرانهم ويحسنوا إليهم ، ويحفظوا حرماتهم ، لأنه حرمة الجار من أعظم الحرم ، وواجبه اقدس الواجبات  وقد قال صلى الله عليه وسلم : (والذي نفسي بيده لا يبلغ حق الجار إلا من رحم الله) . واعلم يا أخي المسلم أن لك جيراناً كثيرين غير جارك  الملاصق لك في السكن ، لهم عليك حقوق ، زميلك في وظيفتك جار  والعامل إلى جانب العامل جار ، والتلميذ إلى جانب التلميذ جار ، هؤلاء وأمثالهم لهم ما للجار من الحقوق والواجبات .      

          

 

الهجرة دروس وعبر

اعتبر المسلمون الهجرة بداية تاريخهم في هذه الحياة ، ولم يكن هذا التصرف إلا فقهاً منهم في دينهم ، وقد كانت الهجرة انتقال نفسي  وانتقال روحي وانتقال فكري  كانت ثورة على الظلم والفساد  وانطلاقاً من الحياة الضيقة المضطهدة ، إلى عالم أفضل تزدهر فيه كلمة الحق   وتعلو مشيئة الله .

عبرت الهجرة عن بطولة الإيمان ، التي اكتملت في نفس النبي صلى الله عليه وسلم والذين معه الذين ضحوا بالأهل والمال والولد والأسرة في سبيل العقيدة ، فحققوا قوانين النصر في أنفسهم وفي تنظيمهم ، فأمدهم الله بالقوة ، وأنزل عليهم السكينة ، وأيدهم بجنود لم يروها ، هؤلاء المؤمنون هم الذين أعطوا الهجرة بأعمالهم الخالدة روح الخلود ، فعلّموا الأجيال كيف ترجح المبادئ بكل ما توزن به من مآرب أو متاعب ، وكيف تتخطى كل ما يعوقها من صعاب  ولو أدرك المسلمون من التأريخ الهجري هذا المعنى السامي ما اضطربت أحوالهم ، فلا هم الذين حرصوا على الحياة لدينهم ، ولا هم الذين ماتوا دون أن ينال أعداؤهم منهم  . تعلمنا من الهجرة أن الباطل مهما حشد من قوة ، ومَلَك من سلاح فهو مندحر في النهاية ، لأن الله يأبى أن ينصر الباطل ، ويذل أولياءَه الذين تسلحوا بسلاح الإيمان  وهذا يمنحنا درساً ينبغي أن نستوعبه في نضالنا المعاصر  وهو أن نصبر ونعرف أن النصر مقترنٌ بالصبر ، وألا نرهب الباطل أو نيأس من النصر ، لأن حقنا واضح  وسلاح الإيمان أقوى سلاح ، بهذا نكون قد عرفنا طريقنا   ومن عرف طريقه وصل إلى هدفه من أجل هذا يجب علينا ألا نساوم أو نفرط أو نستسلم لأعدائنا ، وأن نلتزم المنهج الذي التزمه رسول الله صلى الله عليه وسلم لننتصر ، كما انتصر بإيمانه وصموده ، وأن نعلم علم اليقين ، أن حقنا المقدس لا ينال إلا بالجهاد. 

لقد كانت هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، هجرة قلوب وأرواح ، قبل أن تكون هجرة جسومٍ وأشباح ، وبذلك صارت درساً معلماً ورائدا ً لأرباب الشجاعة والصدق  والوفاء والحق ، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها 

في هذه الذكرى ينبغي أن نوثق الربط بين الهجرة والعقيدة   الهجرة التي لولاها لما كان للإسلام وجود عالمي  ينسف بالحق المنتصر إرادة الجبابرة الظالمين ، ويضع حداً لمأساة القهر والظلم والتخلف ، التي تردت فيها البشرية ، ويهيئ للمستضعفين في أرض الله ، حياة كريمة تنقلهم من عبادة العبادة العباد إلى عبادة الله . إن من الدروس المستفادة من ذكرى الهجرة ، أن الحق لا بد أن ينتصر مهما طال عليه الأمد ، ومهما قل مساندوه   وأن الباطل لا بد مندحر  مهما تبجح وعلا في القوة وكثر مشايعوه ، وأن النصر مع الصبر ، فما تعجل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا كف عن الدعوة إلى ربه ، ولا تسرب اليأس إلى فلبه ، في وقت قل فيه المعين وعز النصير .

كما نتعلم من ذكرى الهجرة أن الإعداد المادي والروحي عنصر أساسي لتحقيق النصر ، فقد رتب رسول الله صلى الله عليه وسلم رحلة الهجرة ، ورسم سبيلها  وخطط بالمعرفة الذكية والعقل المستنير وسائلها وغاياتها ، ووضع الخبرات البشرية في وضعها المناسب ، وجعل الخطة سرّية ، كما اعتمد على عنصر المفاجأة ، فلم يترك ثغرة للعدو ينفذ من خلالها ، حتى إذا أتم الإعداد   اتجه إلى ربه يطلب الإمداد ، فالتقى الإمداد بالإعداد ، على أمر قد قُدر  فجاء نصر الله والفتح ، إنه درس من دروس الهجرة ، يُساق إلى المتواكلين الذين ينتظرون من الله ، أن يُقدِّم لهم كل شيء   وهم لم يقدموا شيئا . 

لقد كانت الهجرة تعبيراً صادقاً ، عن طبيعة الإيمان في النفوس ، وعندما ترتقي النفوس وتسمو بالطهر والإيمان  تتحقق لها الهجرة المعنوية التي تهيب بالمسلمين أن يعيشوا حياةً إسلامية ، تتحقق فيها فضائل الإسلام وآدابه  وتطبق فيها شريعة الله . وعندما ترتفع النفس المؤمنة فوق الشهوات والآثام  وتتحول بالإيمان إلى طاقة بناءة ، فإنها بذلك تحقق معنى الهجرة النفسية . هجرة الانتقال الصاعد من السيئ إلى الحسن ، ومن الشر إلى الخير ، ومن الفساد إلى الصلاح  ومن الرجس إلى الطهر ، ومن حياة الظلام والخطيئة ، إلى حياة النور والإيمان ، بحيث تظل هذه النفس المؤمنة ، ثائرة على الهبوط والإسفاف ، جانحة إلى رفض الواقع المهين  . إن لكل عضو من أعضاء المؤمن هجرة ، فاليد مثلاً تهاجر من البطش والإيذاء إلى المعاونة والمصافحة ، واللسان يتحول من الثرثرة الفارغة  وتمزيق الأعراض ، إلى القول السديد ، والحديث المفيد ، والعين تنتقل في رحلة معنوية من الترصد لمناظر الفتنة والسوء ، إلى رؤية الحق والخير والجمال ، والتطلع في أسرار الكون والحياة ، لتصل إلى المعرفة الحقة ، والقلب يهجر الحقد والحسد والأثرة ، إلى حسنات الحب والخير والمودة والإيثار ، والعقل يدَع التفكير السيئ ، إلى بناء عالم مؤمن كريم . وإلى هذه الهجرة التي تعبر بحق عن روح الإيمان وتدعم وجوده ، وتحيله إلى سلوك طاهر ، وحياة نظيفة يشير النبي صلى الله عليه وسلم بقوله ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده   والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه )  هجرةٌ من الذنوب والسيئات والشهوات والشبهات ومجالس المنكرات .  إن الوفاء لذكرى الهجرة ، يقتضينا أن نعمل على إيقاف الانهيار في أنفسنا لنتحول إلى مسلمين حقيقيين ، فنكون أداة للتغيير كما أراد لنا رب العزة : ﴿ كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ﴾ . ولن يتغير وضعنا ولن يحدث التغير في حياتنا ، ولن نأخذ مكاننا في قيادة امتنا ، وقيادة العالم ، إلا يوم نصعد بأنفسنا ونهاجر بقلوبنا وضمائرنا ، إلى مستوى حملة الرسالة الأوائل ، إيماناً وصدقاً وعلماً ووعيا وجهاداً وبذلاً   إن هذه الذكرى تدعونا لأن نجسد الإيمان في حياتنا ، فما يجوز أن يصبح القرآن نظرية تدّرس ، بل يجب أن يتحول إلى مبادئ تُغرس  فالنفوس الطيبة تنقل المعاني القرآنية من قلب المصحف إلى قلب الحياة  ليصبح القرآن بها حياةً تمارس ، وواقعاً يعيشه الأفراد والجماعات . ويا ليت المسلمين في هذه الذكرى يعرفون قيمة التضحية في سبيل الحق ، أو ليتهم يعرفون معنى الجهاد في سبيل الواجب ، إذاً لكان للإسلام شأن غير هذا الشأن   وحال غير هذا الحال ، بل ليت المسلمين يهجرون أهوائهم وشهواتهم ، ولذائذهم ورغباتهم ، كما هجر السابقون أموالهم وأوطانهم لله ، مؤمنون بأن جنسيةَ المسلمِ ووطنِه هي عقيدتُه ، وأن المسلمُ تبعًا لهذا المبدأ ، لا يَهِنُ ولا يستكين ولا يقبل الذلَّ ، ولا يقبلُ  الضعفَ : ﴿ وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ .

 

 

برامج المجون أفسدت النساء

السوبر ستار ، وستار أكاديمي ، وعلى الهوى سوى ، الذي تعرضه الفضائيات يلتقي فيه شباب وشابات لاختيار مغنٍ ، وعلى الهوى لاختيار عريس ، وغير ذلك من برامج وسائل اللهو التي تكثر وتكثر من قبل ما تعرضه الفضائيات   ويمكن أن تظهر برامج جديدة من برامج الفجور والعصيان ، وما فيها من غرام وحب ولقاء وفوضى ، والتي أصبحت بمثابة شياطين تسكن في بيوت المسلمين ، وأبنائنا الضحية حيث فسدوا بذلك بدل أن يصلحوا ، وهنا سؤال ؟ من المسئول ؟ هل هم الذين يعرضون هذه البرامج ؟ أم الذين يملكون المال وينفقونه على هذه المحطات   إن كثيراً من هذه البرامج تظهر فيها النساء  مع الرجال في أوضاع شبه عارية ، بدعوى الحرّية ولا يهمها ما يترتب على ذلك من انحلال ، لأن الذي يهمها هو استخلاص اكبر قدرٍ من الربح عن طريق هذه البرامج ، التي تعتمد حكاية التهذيب الجنسي بالاختلاط البريء ، الذي منعه الإسلام ، لأنه لن يظل بريئاً ما دام شبابنا لا يستطيعون تصوّر الفرق بين الصداقة البريئة والصداقة الجنسية ، ولعلّهم بذلك أكثر واقعية من المتفلسفين الذين يتشدقون بكلمات البراءة والتهذيب ، وأي تهذيبٍ ذلك الذي نطالب الفتى بإدراكه ، حين تتاح له الفرصة للتعرّف بفتاةٍ أو الخروج معها ولقائها كما يشاء ، إنه لا يدرك حينئذٍ إلا عمل الغريزة ، ولا يسمع إلا إلحاحها   فإما أن يصل على نتيجة ، وإما أن يقع صريع الحرمان بعد الإغراء والإثارة ، إننا نجد صدى ذلك في أزياء طالبات الجامعات وأمثالهن التي نرى في الشوارع ، إنها ليست أزياء سترٍ ولا علمٍ ولا براءة ، بل هي أزياء أنوثةٍ وفتنةٍ وإغراء ، مثلهن ممثلات السينما وما يعرضه التلفاز في مثل البرامج التي ذكرنا ، فأي براءة وأي تهذيب ، إذا علمنا أن دعوى البراءة والصداقة بين الجنسين باطلة يملؤها الخداع والزيف ، إننا نستطيع أن نقول بأن ما نزل بنا وينـزل من البلاء ، ما هو إلا بسبب السكوت على هذه المنكرات ، وما قلِّة البركة وارتفاع الأسعار إلا بسبب هذه المعاصي  .

أليس الأجدر والأولى أن يربى الشباب على العقيدة والفضيلة والعفة ، بدل هذه البرامج المسمومة والمأجورة التي تحرص على تعليم الفتيات الرقص والغناء ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا   ولماذا لا تكون لنا الأسوة بأسماء بنت يزيد التي جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت : يا رسول الله أنا وافدة النساء إليك ، إن نساء المسلمين يقلن لك إن الرجال يذهبون للقتال في سبيل الله ، فإذا قتلوا دخلوا الجنة ، وإذا انتصروا رجعوا بالأجر والثواب ، فماذا لنا من الأجر عند الله ؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أخبري من وراءك من النساء أن طاعتكن لأزواجكن واعترافكن بحقوقهم يعدل الجهاد في سبيل الله ) .

هذه البرامج يقوم عليها ناسٌ اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ، تهدف إلى تربية الأبناء والبنات على المجون والانحلال ، أليس ما نراه يعتبر حملة ضد الخلق والفضيلة ، فلماذا لا نأتمر بتوجيهات رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أمر المرأة أن تلتزم بأربع مسوغات لدخول الجنة عندما قال : ( إذا صلت المرأة خمسها وصامت شهرها وأطاعت زوجها وحفظت فرجها قيل لها يوم القيامة ادخلي الجنة من أي أبوابها الثمانية شئت ) .

هذا هو الذي يريده الإسلام للمرأة أن تتعلم كيف تربي أولادها ، وكيف تقوم على رعاية زوجها ، قرأت عن نساء المسلمين كيف كان حالهن ؟ كانت الواحدة في الصباح تودع زوجها وهو خارج إلى عمله فتقول له : يا فلان اتق الله ولا تأكل حراماً ، إننا نستطيع أن نصبر على جوع الدنيا ولكن لا نستطيع  أن نصبر على عذاب النار يوم القيامة ، وإذا أخذ زوجها مضجعه لينام ، توضأت وغسلت وجهها ودخلت عليه في فراشه ، وسألته سؤال أدب واحترام قائلة : ألك حاجة إلي ؟ فإن كان له حاجة قضاها ، وإن لم يكن إليها حاجة قالت له : أتأذن إلي أن أقوم الليلة فاصلي بين يدي رب العالمين ، إنهن يضربن المثل الأعلى للمرأة الصالحة ،  إلا إن منافقي المرأة الذين جاءوا بأفكار تريد لها أن تزاحم الرجال بصدر مكشوف وسيقان عارية   هؤلاء المخمورين الذين لا يعرفون استقرار البيوت ، تناسوا أن من أركان صلاح المجتمع   صلاح حال المرأة ، ولا صلاح لحال المرأة إلا إذا رجعت إلى مملكتها تقوم على تربية أولادها حتى تكون ممن قال الله فيهن  :

﴿ فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله  ﴾ النساء 34 . 

وليس صلاحها في السهر أمام التلفاز على برامج الهزل وضياع الأخلاق ، والسخرية بالقيم والمبادئ  أليس ما يعرض يساهم في تدمير البيوت ؟ فو الله لو عرف شبابنا دينهم ونبيهم وقرآنهم وسنة حبيبهم ما كان هذا حالنا ، ولو وجهنا الشباب إلى العمل على تطبيق منهج الله لأصلح الله حالنا ، ولكن للأسف فإننا نرى البيوت ساهرةً على هذه التفاهات التي تعرض والتي تحرص على تقليد ما جاء به الغرب من سموم الثقافات ، التي لم تترك مجالاً من مجالات التصور بلا فساد ، فأفسدت الشباب حتى نسوا المنهج الذي جاء به سيد الخلق صلى الله عليه وسلم ، فالفطرة الإنسانية لا ترضى للعلاقات بين الجنسين أن تكون فوضى بلا ضابط ، كما أن الإباحة المطلقة لا تستقيم مع المنطق البشري ، ولا تتلاءم مع أهداف الحياة   وكلما هبطت نظرة المجتمع إلى الحياة ، وانحرفت أمامه قيم الوجود ، تدنى وشملته الفوضى والاضطراب . فكان لا بد لدعاة الفوضى الجنسية أن يحصنوا أنفسهم بالتشريع الذي يكفل صيانة مصالحهم عن طريق تلهية الناس ، بحفلات الرقص والإباحية والتحلل ، فلا حرج إلبس كما ترغب   وتعرّ كما ترغب ، صغ علاقاتك الجنسية على هواك ، مما مكن لدعاة الفوضى الجنسية من النفوذ ما استطاعوا به الهيمنة على بعض البرامج التلفزيونية ، التي تعمل على تهيئة بعض الأذهان  إلى الاستجابة لما يدعون إليه ، فكان لهم ما سهّل الحرام وباعد بين الشباب وطريق العفاف ، وفتح المجال الواسع للخداع الذي أحدثته الحضارة الحديثة ، التي ألجأت المرأة إلى العمل وحرمتها من نعيم البيت ومملكته الظليلة  وأخرجتها تعرض أنوثتها وتبرز جسدها ، لتتفتح لها الأبواب وتنفرج السبل  فأصبحت بعض أعمال المرأة مصايد للشرف والعفاف . إننا بحاجة ماسة إلى العودة إلى أحكام الإسلام الذي يريد للإعلام أن يكون توعية لا تسلية ، بذلك يصلح الله حالنا ونكون خير قدوه لخير أمة ، ولكننا ابتلينا بقوم حملوا أخلاقاً مسمومة ، في الوقت الذي تعاني فيه الأمة ما تعاني ، ولن يصلح حال الأمة إلا إذا اصطلحت مع الله . اللهم يسّر للأمة من يمنع هذا السقوط والإفساد اللهم آمين .

 

 

 

الغاية من الصناعات والمخترعات

أما الغاية فعلى ما أرى هي التغلب على العقبات والصعوبات في سير الحياة التي سببها الجهل والضعف ، والانتفاع بقوى الطبيعة المودعة في هذا الكون وخيراتها وخزائنها المبثوثة فيها ، واستخدامها لمقاصد صحيحة من غير علو في الأرض ولا فساد . كان الإنسان يسافر في الزمن القديم ماشياً ، ثم أُلهم أن يسخر لذلك الحيوان  فاتخذ العجلات واتخذ الجياد العتاق ، ثم لم يزل يتدرج في السرعة والاختراع حتى وصل من المركبة إلى القطار ، ومنه إلى السيارة ، ومنها إلى الطيارة ، وكذلك من السفينة الشراعية إلى البواخر ، فلا بأس ، بل يا حبذا إذا كان ذلك كله تابعاً لمقاصد صحيحة يسافر الإنسان بها من مكان إلى مكان ، لغرض صحيح جدي مثمر ، ويحمل عليها أثقاله إلى بلد لم يكن بالغه إلا بشق النفس ؛ ويوفر الوقت والقوة ، وينتفع بها في الخير . وقس على ذلك سائر القوى الطبيعية والمخترعات الحديثة ، التي ينتفع بها الإنسان انتفاعاً مشروعاً ويستخدمها لمقاصد رشيدة نافعة

إن موقف الإسلام في ذلك بيِّن واضح ، فقد أخبر أن الإنسان خليفة الله في الأرض قد سخر الله العالم لأغراضه الصحيحة بتصرف منه وغير تصرف فقال : ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ﴾ ، وقال : ﴿ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ﴾ إبراهيم  وقال : ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ﴾ الإسراء ، ليلاحظ القارئ الإطلاق في قوله : ﴿ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ﴾ ، وقوله :﴿ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ﴾ وقال : ﴿ وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ النحل . قد منَّ الله في هذه الآية على الإنسان بتمكينه لبلوغ غايته من غير شق النفس ، واستدل به على رأفته به ، ورحمته له  وقال : ﴿ وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُون لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ  وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ ﴾ الزخرف . وما أجدر الإنسان أن يقول إذا استوى على سيارة أو طيارة :﴿ سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ﴾ ، فهو أبعد من أن يكون مقرناً لقطع من صفيح وحديد لا حياة فيها ولا حركة ، يسخرها له تجري بأمره رخاء حيث أصاب ، ولا ينس أنه راجع إلى الله ومحاسب على ما أوتي من قوة وسعة ، فإن أساء استعمال هذه القدرة والتمكين عوقب على ذلك . وكذلك لا ينس أنه عبد خاضع لله منقاد لحكمه لا يملك موتاً ولا حياة ولا نشوراً ، ولا يطغ ، فإن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى .

وقال : {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ }( الحديد )  . فالحديد فيه منافع للناس ومن أكبر منافعه أنه يستخدم لنصر الله ورسله ، ولذلك قدم عليه ذكر إرسال الرسل  وإنزال الكتب ، فالمسلم ينتفع بكل ما خلق الله وأودع في الكون من قوة في سبيل الجهاد في سبيل الله ، وفي نشر دينه ، وإظهاره على الدين كله وإعلاء كلمته  وفيما أباح الله له ورغبة فيه من تجارة مشروعة وكسب حلال ، وسفر بر    ومنافع مباحة . إنما طائركم معكم :  إن المصنوعات الجمادية لا ذنب عليها ، فإنها خاضعة لإرادة الإنسان وعقليته وأخلاقه ، فهي في ذات نفسها ليست خيراً ولا شراً  ولكن الإنسان هو الذي يجعلها باستعماله لها خيراً أو شراً ، وكثيراً ما تكون خيراً في نفسها ، فيحولها الإنسان شراً بسوء استعماله وخبث سريرته ، وفساد تربيته  فليس الشأن في هذه الآلات والمخترعات ، إنما الشأن فيمن يستغلها وفي الغرض الذي يستعملها له . وحقيق أن يقال – لمن أصبح يتطير في أوربا من هذه الآلات ، ومن الطيارات التي تقذف القنابل ، وتدمر المنازل ، وتنسف القرى والمدن ، والغواصات التي تغرق بواخر الركاب المسالمين والتجار الآمنين ، واللاسلكية التي تذيع الكذب والزور ، وتنشر الخلاعة والمجون ويشكو منها ، ويوجه إليها الملام : ﴿ قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ ﴾ فإن العلوم الطبيعية تسخر للإنسان القوة المادية ، وليس من شأنها أن تعلمه أيضاً كيف يستعملها ، وفيم يضعها ، كالكبريت يعطيك ناراً  ولك أن تحرق بها بيتاً على سكانه ، أو تطبخ طعاماً أو تستدفئ بالنار ، والذي يعلم كيف يستعمل الإنسان القوة وفيما يضعها هو الدين ، فالدين يرشد الإنسان كيف ينتفع بقوته انتفاعاً حقيقياً ، وكيف يشكر نعمة الله ، ويحظر على الإنسان أن يكون بقوته التي خوله الله إياها معيناً على الظلم والجريمة والإثم والعدوان ، كما قال موسى عليه السلام : ﴿ قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ ﴾ القصص ، : وقال سليمان : ﴿ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ﴾ . التخليط بين الوسائط والغايات : أما الأوربيون فقد حرموا أنفسهم الدين ، فلم يبق لهم رادع من خلق أو وازع من دين ، أو مرشد من علم إلهي ، يرشدهم إلى الجادة ، ونسوا غاية خلقهم ومبدأهم ومصيرهم وقالوا : ﴿ إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ﴾ فاعتقدوا بطبيعة هذه العقيدة أن ليس للإنسان وراء اللذة والراحة والانتفاع المادي والعلو في الأرض وبسط السيطرة عليها – كمملكة لا سيد لها ولا وارث – والتغلب على أهلها والاستئثار بخبراتها وخزائنها ، مقصد ولا غاية ، فاستعملوا هذه القوة والعلم في حصول اللذات والتغلب على الناس وقهر المنافسين  وتنافسوا في اختراع الآلات التي ينالون بها وطرهم ، ويعجزون بها غيرهم ، ولم يزل بهم ذلك حتى اختلطت عليهم الوسائط بالغايات ، فاعتقدوا الوسائط غايات ، وافتتنوا بالمخترعات والمكتشفات كغاية في نفسها لا لغيرها ، وعكفوا عليها وتشاغلوا بها كتشاغل الصبيان باللعب والدُّمى ، واعتقدوا أن الراحة هي الحضارة ثم تقدموا وصاروا يعتقدون أن السرعة هي الحضارة .

يقول الأستاذ جود : " يقول دزرائيلي Disraeli إن المجتمع في عصره يعتقد أن الحضارة هي الراحة  أما نحن فنعتقد أن الحضارة عبارة عن السرعة ، فالسرعة هي إله الشباب العصري ، وإنه يضحي على نُصبه بالهدوء والراحة والسلام والعطف على الآخرين من غير رحمة " . ﴿ ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ﴾ : وقد أصبحت هذه المخترعات والمكتشفات الجديدة – مما كانت تعود على النوع الإنساني بخير كبير لو كان مستعملها يعرف الخير ويَقْدِر أن يتجه إليه – أصبحت وضررها أكبر من نفعها ، وكان كما قال القرآن عن السحر : ﴿ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ ﴾ . اسمع شاهداً من أهلها ينتقد هذه المخترعات ويبوح بالحقيقة وهو - جود - السابق الذكر : " وقد استطعنا أن نسافر بسرعة زائدة من مكان إلى مكان ، ولكن الأمكنة التي نسافر إليها قلما نصلح للسفر ، وقد زويت الأرض للرحالين وتدانت الأمم ووطئ بعضها عتبة بعض ، ولكن كان نتيجة ذلك أن توترت العلاقات بينها وأصبحت أسوأ مما كانت ، أما المرافق التي استطعنا بها أن نتعارف بجيراننا فقد عادت فحشرت العالم في الحرب ، اخترعنا آلة الإذاعة وتحدثنا بها إلى الشعوب المجاورة والأمم الشقيقة ، ولكن كان عاقبتها أن كل شعب يستنفد موارد الهواء لإيذاء الشعب المجاور ومعاكسته ، إذ يجتهد أن يقنعه بفضل نظامه السياسي على نظامه  . " انظر إلى الطيارة التي تحلق في السماء يخيل إليك أن صانعيها كانوا في علمهم ولباقتهم وصناعتهم فوق البشر ، والذي طاروا عليها أولاً لاشك أنهم كانوا في علو همتهم وعزمهم وجرأتهم أبطالاً مغاوير ، ولكن انظر الآن إلى المقاصد التي استعملت لها الطيارة وتستعمل لها في المستقبل ، إنما هي قذف القنابل وتمزيق جثث الإنسان وخنق الأحياء وإحراق الأجساد وإلقاء الغارات السامة ، وتقطيع المستضعفين الذي لا عاصم لهم من هذا الشر إرْباً إرباً ، وهذه إما مقاصد الحمقى أو الشياطين  . " وما عسى أن يقول المؤرخ غداً كيف كنا نستعمل معدن الذهب ؟ سيذكر أنا توصلنا إلى أن نخبر عن الذهب باللاسلكي ، وسيستعرض الصور التي تمثل اللياقة والمهارة التي كان أصحاب المصارف يزنون بها الذهب ويعدونه ، وكيف تحدينا قانون الجاذبية في نقله من عاصمة إلى عاصمة ، وسيسجل أن أشباه الوحوش الذين كانوا ماهرين وجرآء في فتوحهم الصناعية كانوا عاجزين عن التعاون الدولي الذي كان يقتضيه ضبط الذهب والتقسيم الصحيح ، وكانوا لا يعنون إلا بأن يدفنوا المعادن بالسرعة الممكنة ، وكانوا يستخرجون الذهب والمعادن من بطون الأرض في جنوب إفريقية ، ويدفنونها في مصارف لندن ونيويورك وباريس .

ويتناول هذه البحث – التفاوت بين العلم والصناعة وبين الأخلاق الإنسانية  وإخفاق الحضارة الحديثة في أداء رسالتها – مفكر آخر يجمع بين العلم بالفلسفة والعلوم الطبيعية في تحليل أدق وأسلوب أعمق وهو الدكتور  Alexis Carrel  في كتابه – الإنسان ، ذلك المجهول  Man the Unknown : " يظهر أن الحضارة العصرية لا تستطيع أن تنتج رجالاً يملكون الابتكار والذكاء والجرأة . وفي كل قطر تقريباً يرى الإنسان في الطبقة التي تباشر إدارة الأمور وتملك زمام البلاد انحطاطاً في الاستعداد الفكري والخلقي . إننا نلاحظ أن الحضارة العصرية لم تحقق الآمال الكبيرة التي عقدتها بها الإنسانية وإنما أخفقت في تنشئة الرجال الذين يملكون الذكاء والإقدام الذي يسير بالحضارة على الشارع الخطر الذي تتعثر عليه ، إن الأفراد والإنسانية لم تتقدم بتلك السرعة التي تقدمت بها المؤسسات التي نبعث من عقولها ، إنها هي نقائص القادة السياسيين الفكرية والخلقية وجهلهم الذي يعرض أمم العصر للخطر " .

" إن الوسط الذي أنشأه العلوم الطبيعية وعلم الصناعات للإنسان لا يناسب الإنسان لأنه مرتحل لم يقم على تصميم وتفكير سابق ، ولم يراع فيه الانسجام مع شخصية الإنسان ، إن هذا الوسط الذي هو وليد ذكائنا واختراعاتنا لا يطابق قاماتنا ولا أشكالنا ، نحن غير مسرورين ، نحن في انحطاط الأخلاق وفي العقول  أن الأمم التي ازدهرت فيها الحضارة الصناعية وبلغت أوجها هي أضعف مما كانت ، وهي تسير سيراً حثيثاً إلى الهمجية ولكنها لا تدرك ذلك ، إنه لا حارس لها من المحيط الثائر الذي أقامته العلوم الطبيعية حول هذه الأمم . الحق يقال إن حضارتنا – كالحضارات التي تقدمتها – قد فرضت شروطاً للبقاء ستجعل – لأسباب لا تزال مجهولة – الحياة محالاً ، إن علمنا بالحياة وكيف يجب أن يعيش الإنسان متأخر جداً عن علمنا بالماديات ، وهذا التأخر هو الذي جنى علينا " .

 " لا يجنى نفع من الزيادة في عدد المخترعات الآلية ، لا فائدة في أن نعلق أهمية كبرى على اكتشافات علوم الطبيعية والفلكيات وعلم الكيمياء ، أي خير في الزيادة في الراحة والشرف ، والجمال والمنظر وكماليات حضارتنا ، إذا منع ضعفنا من الانتفاع بذلك وتوجيهه إلى صالحنا . إنه لا خير في أحكام طريق للحياة يقصى فيه العنصر الخلقي وتبعد منه أشرف عناصر الأمم العظيمة ، إن الأليق بنا أن نعنى بأنفسنا أكثر من أن نعنى بصناعة بواخر أسرع وسيارات أربح، وراديوات أرخص، وتلسكوبات لفحص هيكل سديم على بعد سحيق "

 " ما هو مدى التقدم الحقيقي الذي نحققه حينما تنقلنا إحدى الطائرات إلى أوربا أو إلى الصين في ساعات قلائل ؟ هل من الضروري أن نزيد الإنتاج بلا توقف حتى يستطيع الإنسان أن يستهلك كميات أكثر فأكثر من أشياء لا جدوى منها ؟ أليس هناك أي ظل من الشك في أن علوم الميكانيكا والطبيعة والكيمياء عاجزة عن إعطائنا الذكاء والنظام الأخلاقي والصحة والتوازن العصبي والأمن والسلام ".

أوربا في الانتحار : والحاصل أن الغربيين لما فقدوا الرغبة في الخير والصلاح  وضيعوا الأصول والمبادئ الصحيحة ، وزاغت قلوبهم وانحرفت ، وفسدت أذواقهم لم تزدهم العلوم والمخترعات إلا ضرراً ، كما أن الأغذية الصالحة تستحيل في جسم الممعود والموبوء مرضاً وفساداً ، بل لم تزدهم هذه الآلات والمخترعات إلا قوة وسرعة في الإهلاك ، واستعانة على الانتحار ؛ وقد أحسن المستر ايدن Eden رئيس وزراء بريطانيا السابق وصف ذلك في بعض خطبه سنة 1938 م : " إن أهل الأرض كادوا يرجعون في أخريات هذا القرن إلى عهد الهمجية والوحشية ، ويعيشون عيشة سكان الكهوف والمغارات ، ومن الغريب المضحك أن البلاد والدول تنفق ملايين من الجنيهات على وقاية نفسها من آلة فتاكة تخافها ، ولكنها لا تنفق على ضبطها ، وإني أتعجب في بعض الأحيان وأقوال : كيف لو زار العالم الجديد زائر من كوكب آخر وهبط إلينا فما عسى أن يشاهده ؟ سيجدنا نعد العدة لإهلاك بعضنا ، ونتبادل الأنباء عنها ويخبر بعضنا كيف نستعمل هذه الآلات الجهنمية  .

القنبلة الذرية وفظائعها : لعل المستر إيدن لما أفضى بهذا الحديث لم يدر بخلده أن العالم المتمدن وعلى رأسه أميركا رسول السلام وزعيم الحضارة والعالم الجديد سيتوصل أثناء الحرب إلى استعمال آلة تبز جميع الآلات والمخترعات في التدمير والتقتيل ، وتفوق ذكاء الإنسان وخياله في الهول والفظاعة ، قد كانت هذه الآلة هي القنبلة الذرية التي جربتها أمريكا مرة في صحراء نيوميكسيكو ، وثانية على رؤوس البشر في مدينة هيروشيما ، وبعدها في نجازاكي المدينتين اليابانيتين . وقد أذاع رئيس بلدة (هيروشيما) في 20 أغسطس آب 1949 م أن الذين هلكوا في اليوم السادس من أغسطس آب 1945 م من اليابانيين يتراوح عددهم بين مائتي ألف وعشرة آلاف ومائتي ألف وأربعين ألفاً ( ب- ت ) .   يقول المستر استورت (Stuart Gilder) في مقالة نشرتها صحيفة الهند الإنجليزية السيارة (Statesman) في عددها الصادر في 16 سبتمبر 1945 . يقول البروفسور Plesh  : " لا يؤمن على الناس الذين كانوا يبعدون عن المنطقة التي انفجرت فيها القنبلة الذرية بمائة ميل أن يكونوا قد تأثروا بها ، فينبغي أن يفحص عنهم فحصاً طبياً ، ولا يستغرب أن يصبح الناس يوم ويقرأوا في الجرائد أن علامات الإصابة بطاعون القنبلة الذرية قد ظهرت في الذين يسكنون على آلاف أميال من اليابان " .  يقول البروفسور ( م . ي . أولى فنيت ) معلم جامعة برمنجهام وعضو الهيئة الصناعية في إعداد القنبلة الذرية : " من الأمور الخرافية أن يعتقد إنسان أن بريطانيا أو دولة أخرى تستطيع أن تحافظ على سر القنبلة الذرية . إن المبادئ التي قامت عليها صناعة القنبلة الذرية مكشوفة لكل دولة ، إن بريطانيا وأميركا استفادتا بتجاريب السابقين وبلغتا إلى نهاية صناعة القنبلة الذرية ، ولكنها لا تدوم سراً حربياً إلا لأجل معدود ، لأن كل بلاد صناعية تستطيع أن تعد القنبلة الذرية في مدة خمس سنوات وإذا أفرغت جهودها ووجهت قواها إلى صناعتها فيمكن أن تبلغ إلى نهايتها في سنتين" . ويقول البروفسور المذكور : " وأنا على يقين أنه سيظهر في مدة قصيرة على مسرح العالم قنابل تفوق القنابل الأولى بعشرة آلاف طن في قوة الانفجار  وستليها قنابل قوتها مليون طن ، ولا ينفع في التوقي منها دفاع أو احتياط ، وإن ست قنابل فقط من هذا القبيل تكفي في تدمير إنجلترا على بكرة أبيها ، وإن العلماء الروسيين ينجحون في إعداد القنابل في مدة قصيرة جداً " .

وقد اخترعت أمريكا قنبلة أخرى تفوق القنبلة الذرية في القوة والفظاعة ، وهي (Hydrogen Bomb) وقد جرى اختبارها للمرة الثانية في المحيط الهادئ يوم 26 من مارس سنة 1954 . وقد ذكر المستر شارلس – ي – ولسن (Charles E. Wilson) سكرتير وزارة الدفاع أن النتائج كانت هائلة لا تكاد تصدق .

وقد ذكر المستر لويس استراس (Lewis Strauss) رئيس لجنة القوة الذرية في أمريكا أن قنبلة هيدروجينية واحدة تستطيع أن تبيد مساحة مدينة نيويورك الواسعة . وقال العالم الطبعي الشهير ونائب رئيس مجلس الأمن اللواء صاحب سنج : إن أربع قنابل هيدروجينية وزن كل واحدة منها مائة طن تستطيع أن تقتل كل نسمة على وجه الأرض ، وقد شاع أخيراً أن روسيا اكتشفت القنبلة النيتروجينية (Nitrogen bomb) التي هي أدهى وأمر من القنبلة الهيدروجينية . والذي خبث لا يخرج إلا نكدا : وقد تضعضع أساس المدنية الأوربية ، كما ذكرنا بتفصيل ، ولم يزل بناؤه متزعزعاً  ولم تزده الأيام ولم يزده الارتفاع إلا زيغاً واختلالاً، وفسدت بذرتها ، فلم تصلح شجرتها ولم تطلب ثمرتها : ﴿ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً ﴾ . وقد شرح ذلك في إيجاز الأستاذ السيد أبو الأعلى المودودي في أحد فصول كتابه - تنقيحات - بالأوردية قال : ظهرت الحضارة الغربية في أمة لم يكن عندها معين صاف ولا نبع عذب للحكمة الإلهية ، لقد كان فيها قادة الدين ولكن لم يكونوا أصحاب حكمة ولا علم ولا شريعة إلهية ، ولم يكن عندهم إلا شبح ديني لو حاول أن يسير بالنوع الإنساني على صراط مستقيم في طرق الفكر والعمل لما استطاع ، ولم يكن له إلا أن يكون حجر عثرة وسداً في سبيل ارتقاء العلم ، والحكمة ، وهكذا كان   وكان عاقبة ذلك أن الذين كانوا يريدون الرقي ، نبذوا الدين بالعراء ، واختاروا طريقاً لم يكن دليلهم فيها إلا المشاهدة والاختبار والقياس والاستقراء ، ووثقوا بهذه الدلائل التي هي في حاجة بنفسها إلى الهداية والنور ، وجاهدوا واجتهدوا باحتذائها في طرق الفكر والنظر، والتحقيق والاكتشاف ، والبناء والتنظيم   ولكن ضلت خطوتهم الأولى في كل جهة وفي كل مجال ، وانصرفت فتوحهم في ميادين العلم والتحقيق ، ومحاولاتهم في سبيل الفكر والنظر إلى غاية لم تكن صحيحة  إنهم بدأوا وساروا من نقطة الإلحاد والمادية ، نظروا في الكون على أنه ليس له إله  نظروا في الآفاق والأنفس ، على أنه لا حقيقة فيها إلا المشاهد والمحسوس   وليس وراء هذا الستار الظاهر شيء ، إنهم أدركوا نواميس الفطرة بالاختبار والقياس ولكنهم لم يتوصلوا إلى فاطرها ، إنهم وجدوا الموجودات مسخرة واستخدموها لأغراضهم ، ولكنهم جهلوا أنهم ليسوا سادتها ومدبريها ، بل هم خلفاء سيدها الحق ، فلم يروا أنفسهم مسئولين عنها ، ولم يروا على أنفسهم عهدة وتبعة ، فاختل أساس مدنيتهم وتهذيبهم ، وانصرفوا عن عبادة الله إلى عبادة النفس ، واتخذوا إلههم هواهم ، وفتنتهم عبادة هذا الإله ، وسارت بهم هذه العبادة في كل ميدان من ميادين الفكر والعمل ، على طريق زائغة خلابة رائعة  ولكن مصيرها إلى الهلاك .

هذا هو الذي مسخ العلوم الطبيعية ، فصارت آلة لهلاك الإنسان ، وصاغ الأخلاق في قالب الشهوات والرياء ، والخلاعة والإباحة ، وسلط على المعيشة شيطان الأثرة والشح ، والفتك ببني النوع ، ودس في عروق الاجتماع وشرايينه سموم عبادة النفس والأنانية ، والإخلاد إلى الراحة والتنعيم ، ولطخ السياسة بالجنسية والوطنية وفروق اللون والنسل وعبادة إله القوة ، فجعلها لعنة كبرى للإنسانية . والحاصل أن البذرة الخبيثة التي ألقيت في تربة أوربا في نهضتها الثانية ، لم تأت عليها قرون حتى نبتت منها دوحة خبيثة ، ثمارها حلوة ولكنها سامة ، أزهارها جميلة ولكنها شائكة ، فروعها مخضرة ولكنها تنفث غازاً ساماً لا يرى ، ولكنه يسمم دم النوع البشري . إن أهل الغرب الذين غرسوا هذه الشجرة الخبيثة قد مقتوها ، وأصبحوا يتذمرون منها ، لأنها خلقت في كل ناحية من نواحي حياتهم مشاكل وعقداً لا يسعون لحلها ، إلا وظهرت مشاكل جديدة ، ولا يفصلون فرعاً من فروعها إلا وتطلع فروع كثيرة ذات شوك ؛ فهم في معالجة أدوائهم وإصلاح شئونهم كمعالج الداء بالداء وناقش الشوكة بالشوكة ، إنهم حاربوا الرأسمالية فنجمت الشيوعية ، إنهم حاولوا أن يستأصلوا الديمقراطية فنبت الدكتاتورية ، أرادوا أن يحلوا مشاكل الاجتماع فنبتت حركة تذكير النساء (Feminism) وحركة منع الولادة    أرادوا أن يشترعوا قوانين لاستئصال المفاسد الخلقية ، فاشرأبت حركة العصيان والجناية ، فلا ينتهي شر إلا إلى شر ، ولا فساد إلا إلى فساد أكبر منه ، ولا تزال هذه الشجرة تـثمر لهم شروراً ومصائب ، حتى صارت الحياة الغربية جسداً مقروحاً ، يشكو من كل جزء أوجاعاً وآلاماً ، وأعيا الداء الأطباء ، واتسع الخرق على الراقع ؛ والأمم الغربية تتململ ألماً ، قلوبهم مضطربة وأرواحها متعطشة إلى ماء الحياة ، ولكنها لا تعلم أين معين الحياة ، إن الأكثرية من رجالها لا تزال تتوهم أن منبع المصائب في فروع هذه الشجرة ، فهم يفصلونها ويستأصلونها من الشجرة ويضيعون أوقاتهم وجودهم في قطعها ، إنهم لا يعلمون أن منبع الفساد في أصل الشجرة ، ومن السفاهة أن يترقب الإنسان ، أن ينبت فرع صالح من أصل فاسد  وفيهم جماعة قليلة من العقلاء ، أدركوا أن أصل حضارتهم فاسد ، ولكنهم لما نشأوا قروناً في ظل هذه الشجرة – وبأثمارها نبت لحمهم ونشز عظمهم – كلت أذهانهم عن أن يعتقدوا أصلاً آخر غير هذا الأصل ، يستطيع أن يخرج فروعاً وأوراقاً صالحة سليمة ، وكلا الفريقين في النتيجة سواء ؛ إنهم يتطلبون شيئاً يعالج سقمهم ، ويريحهم من كربهم ، ولكنهم لا يعلمونه ولا مكانه  .

 

 

 

حكم جميع أنواع الوسواس

كيد الوسواس في أمر الطهارة والصلاة

 لقد خرجوا بذلك عن اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخيل إلى أحدهم أن ما جاءت به السنة لا يكفي حتى يضم إليه غيره ، فجمع لهم بين هذا الظن الفاسد والتعب الحاضر ، وبطلان الأجر أو تنقيصه ، ولا ريب أن الشيطان هو الداعي إلى الوسواس ، فأهله قد أطاعوا الشيطان ولبوا دعوته ، واتبعوا أمره ورغبوا عن اتباع سنة رسول الله وطريقته ، حتى إن أحدهم ليرى أنه إذا توضأ وضوء رسول الله أو اغتسل كاغتساله ، لم يطهر ولم يرتفع حدثه ، ولولا العذر بالجهل لكان هذا مشاقة للرسول صلى الله عليه وسلم فقد كان رسول الله يتوضأ بالمدع وهو قريب من ثلث رطل بالدمشقي ويغتسل بالصاع وهو نحو رطل وثلث .

والموسوس يرى أن ذلك القدر لا يكفيه لغسل يديه وصح عنه عليه السلام أنه توضأ مرة مرة ولم يزد على ثلاث بل أخبر أن من زاد عليها فقد أساء وتعدى وظلم

فالموسوس مسيء متعد ظالم بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم

فكيف يتقرب إلى الله بما هو مسىء به متعد فيه لحدوده !

 

ذم الوسواس

 إن الله سبحانه جعل الشيطان عدوا للإنسان يقعد له الصراط المستقيم ويأتيه من كل جهة وسبيل كما أخبر الله تعالى عنه أنه قال : ] لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين [ الأعراف 17 وحذرنا الله عز وجل من متابعته وأمرنا بمعاداته ومخالفته فقال سبحانه : ] إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا [ فاطر  .6 وقال : ] يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة[ الأعراف 27 . وأخبرنا بما صنع بأبوينا تحذيرا لنا من طاعته وقطعا للعذر في متابعته وأمرنا الله سبحانه وتعالى بإتباع صراطه المستقيم ونهانا عن إتباع السبل فقال سبحانه : ] وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله [ الأنعام 153 .

وسبيل الله وصراطه المستقيم هو الذي كان عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وصحابته بدليل قوله عز وجل : ] يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم[ يس  .3 وقال : ] وإنك لعلى هدى مستقيم [  الشورى 67 . وقال : ] إنك لتهدي إلى صراط مستقيم [ فمن اتبع رسول الله في قوله وفعله فهو على صراط الله المستقيم وهو ممن يحبه الله ويغفر له ذنوبه ، ومن خالفه في قوله أو فعله فهو مبتدع متبع لسبيل الشيطان غير داخل فيمن وعد الله بالجنة والمغفرة والإحسان .

الوسوسة طاعة للشيطان

إن طائفة الموسوسين قد تحقق منهم طاعة الشيطان حتى اتصفوا بوسوسته وقبلوا قوله وأطاعوه ورغبوا عن اتباع رسول الله وصحابته حتى إن أحدهم ليرى أنه إذا توضأ وضوء رسول الله أو صلى كصلاته فوضوؤه باطل وصلاته غير صحيحة ويرى أنه إذا فعل مثل فعل رسول الله في مواكلة الصبيان وأكل طعام عامة المسلمين أنه قد صار نجسا يجب عليه تسبيع يده وفمه كما لو ولغ فيهما أو بال عليهما هر ثم إنه بلغ من استيلاء إبليس عليهم أنهم أجابوه إلى ما يشبه الجنون ويقارب مذهب السوفسطائية الذين ينكرون حقائق الموجودات والأمور المحسوسات وعلم الإنسان بحال نفسه من الأمور الضروريات اليقينيات وهؤلاء يغسل أحدهم عضوه غسلا يشاهده ببصره ويكبر ويقرأ بلسانه بحيث تسمعه أذناه ويعلمه بقلبه بل يعلمه غيره منه ويتيقنه ، ثم يشك هل فعل ذلك أم لا وكذلك يشككه الشيطان في نيته وقصده التي يعملها من نفسه يقينا بل يعلمها غيره منه بقرائن أحواله ومع هذا يقبل قول إبليس في أنه ما نوى الصلاة ولا أرادها مكابرة منه لعيانه وجحدا ليقين نفسه حتى تراه متلددا متحيرا كأنه يعالج شيئا يجتذبه أو يجد شيئا في باطنه يستخرجه كل ذلك مبالغة في طاعة إبليس وقبول وسوسته ومن انتهت طاعته لإبليس إلى هذا الحد فقد بلغ النهاية في طاعته ثم إنه يقبل قوله في تعذيب نفسه ويطيعه في الإضرار بجسده تارة بالغوص في الماء البارد وتارة بكثرة استعماله وإطالة العرك وربما فتح عينيه في الماء البارد وغسل داخلهما حتى يضر ببصره وربما أفضى إلى كشف عورته للناس وربما صار إلى حال يسخر منه الصبيان ويستهزيء به من يراه ، قلت ذكر أبو الفرج بن الجوزي عن أبي الوفاء بن عقيل أن رجلا قال له أنغمس في الماء مرارا كثيرة وأشك هل صح لي الغسل أم لا فما ترى في ذلك فقال له الشيخ اذهب فقد سقطت عنك الصلاة قال وكيف قال لأن النبي قال رفع القلم عن ثلاثة المجنون حتى يفيق والنائم حتى يستيقظ والصبي حتى يبلغ ومن ينغمس في الماء مرارا ويشك هل أصابه الماء أم لا فهو مجنون

قال وربما شغله بوسواسه حتى تفوته الجماعة وربما فاته الوقت ويشغله بوسوسته في النية حتى تفوته التكبيرة الأولى وربما فوت عليه ركعة أو أكثر ومنهم من يحلف أنه لا يزيد على هذا ثم يكذب ، قلت وحكى لي من أثق به عن موسوس عظيم رأيته أنا يكرر عقد النية مرارا عديدة فيشق على المأمومين مشقة كبيرة فعرض له أن حلف بالطلاق أنه لا يزيد على تلك المرة فلم يدعه إبليس حتى زاد ففرق بينه وبين امرأته فأصابه لذلك غم شديد وأقاما متفرقين، وقد بلغ الشيطان منهم أن عذبهم في الدنيا قبل الآخرة ، وأخرجهم عن اتباع الرسول وأدخلهم في جملة أهل التنطع والغلو وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، فمن أراد التخلص من هذه البلية فليستشعر أن الحق في إتباع رسول الله في قوله وفعله وليعزم على سلوك طريقته عزيمة من لا يشك أنه على الصراط المستقيم وأن ما خالفه من تسويل إبليس ووسوسته ويوقن أنه عدو له لا يدعوه إلى خير إنما يدعوا حزبه ليكونوا من أصحاب السعير وليترك التعريج على كل ما خالف طريقة رسول الله كائنا ما كان فإنه لا يشك أن رسول الله كان على الصراط المستقيم ومن شك في هذا فليس بمسلم ومن علمه فإلى أين العدول عن سنته وأي شيء يبتغي العبد غير طريقته ، ويقول لنفسه ألست تعلمين أن طريقة رسول الله هي الصراط المستقيم فإذا قالت له بلى قال لها فهل كان يفعل هذا فستقول لا فقل لها فماذا بعد الحق إلا الضلال وهل بعد طريق الجنة إلا طريق النار وهل بعد سبيل الله وسبيل رسوله إلا سبيل الشيطان فإن اتبعت سبيله كنت قرينه وستقولين يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين .

ولينظر أحوال السلف في متابعتهم لرسول الله فليقتد بهم وليختر طريقهم فقد روينا عن بعضهم أنه قال لقد تقدمني قوم لو لم يجاوزوا بالوضوء الظفر ما تجاوزته ، قلت هو إبراهيم النخعي ، وقال زين العابدين يوما لابنه يا بني اتخذ لي ثوبا ألبسه عند قضاء الحاجة فإني رأيت الذباب يسقط على الشيء ثم يقع على الثوب ثم انتبه فقال ما كان للنبي وأصحابه إلا ثوب واحد فتركه ، وكان عمر رضي الله تعالى عنه يهم بالأمر ويعزم عليه فإذا قيل له لم يفعله رسول الله انتهى حتى إنه قال لقد هممت أن أنهى عن لبس هذه الثياب فإنه قد بلغني أنها تصبغ ببول العجائز فقال له أبي مالك أن تنهى فإن رسول الله قد لبسها ولبست في زمانه ولو علم الله أن لبسها حرام لبينه لرسوله فقال عمر صدقت ، ثم ليعلم أن الصحابة ما كان فيهم موسوس ، ولو كانت الوسوسة فضيلة لما ادخرها الله عن رسوله وصحابته وهم خير الخلق وأفضلهم ، ولو أدرك رسول الله الموسوسين لمقتهم ولو أدركهم عمر رضي الله تعالى عنه لضربهم وأدبهم ولو أدركهم الصحابة لبدعوهم وها أنا أذكر ما جاء في خلاف مذهبهم على ما يسره الله تعالى مفصلا

الوسوسة في النية في الطهارة والصلاة

النية هي القصد والعزم على فعل الشيء ومحلها القلب لا تعلق لها باللسان أصلا ولذلك لم ينقل عن النبي ولا عن أصحابه في النية لفظ بحال ولا سمعنا عنهم ذكر ذلك

وهذه العبارات التي أحدثت عند افتتاح الطهارة والصلاة قد جعلها الشيطان معتركا لأهل الوسواس يحسبهم عندها ويعذبهم فيها ويوقعهم في طلب تصحيحها !فترى أحدهم يكررها ويجهد نفسه في التلفظ بها وليست من الصلاة في شيء وإنما النية قصد فعل الشيء فكل عازم على فعل فهو ناويه لا يتصور انفكاك ذلك عن النية فإنه حقيقتها فلا يمكن عدمها في حال وجودها ومن قعد ليتوضأ فقد نوى الوضوء ومن قام ليصلي فقد نوى الصلاة ولا يكاد العاقل يفعل شيئا من العبادات ولا غيرها بغير نية ، فالنية أمر لازم لأفعال الإنسان المقصودة لا يحتاج إلى تعب ولا تحصيل ولو أراد إخلاء أفعاله الإختيارية عن نية لعجز عن ذلك ولو كلفه الله عز وجل الصلاة والوضوء بغير نية لكلفه ما لا يطيق ولا يدخل تحت وسعه وما كان هكذا فما وجه التعب في تحصيله وإن شك في حصول نيته فهو نوع جنون فإن علم الإنسان بحال نفسه أمر يقيني فكيف يشك فيه عاقل من نفسه ، ومن قام ليصلي صلاة الظهر خلف الإمام فكيف يشك في ذلك ولو دعاه داع إلى شغل في تلك الحال لقال إني مشتغل أريد صلاة الظهر ولو قال له قائل في وقت خروجه إلى الصلاة أين تمضي لقال أريد صلاة الظهر مع الإمام فكيف يشك عاقل في هذا من نفسه وهو يعلمه يقينا بل أعجب من هذا كله أن غيره يعلم بنيته بقرائن الأحوال فإنه إذا رأى إنسانا جالسا في الصف في وقت الصلاة عند اجتماع الناس علم أنه ينتظر الصلاة وإذا رآه قد قام عند إقامتها ونهوض الناس إليها علم أنه إنما قام ليصلي فإن تقدم بين يدي المأمومين علم أنه يريد إمامتهم فإن رآه في الصف علم أنه يريد الإئتمام ، قال فإذا كان غيره يعلم نيته الباطنة بما ظهر من قرائن الأحوال فكيف يجهلها من نفسه مع اطلاعه هو على باطنه فقبوله من الشيطان أنه ما نوى تصديق له في جحد العيان وإنكار الحقائق المعلومة يقينا ومخالفة للشرع ورغبة عن السنة وعن طريق الصحابة ، ثم إن النية الحاصلة لا يمكن تحصيلها والموجودة لا يمكن إيجادها لأن من شرط إيجاد الشيء كونه معدوما فإن إيجاد الموجود محال وإذا كان كذلك فما يحصل له بوقوفه شيء ولو وقف ألف عام  ، قال ومن العجب أنه يتوسوس حال قيامه حتى يركع الإمام فإذا خشي فوات الركوع كبر سريعا وأدركه فمن لم يحصل النية في الوقوف الطويل حال فراغ باله كيف يحصلها في الوقت الضيق مع شغل باله بفوات الركعة ثم ما يطلبه إما أن يكون سهلا أو عسيرا فإن كان سهلا فكيف يعسره وإن كان عسيرا فكيف تيسر عند ركوع الإمام سواء وكيف خفى ذلك على النبي وصحابته من أولهم إلى آخرهم والتابعين ومن بعدهم ، وكيف لم ينتبه له سوى من استحوذ عليه الشيطان أفيظن بجهله أن الشيطان ناصح له!! أما علم أنه لا يدعو إلى هدى ولا يهدي إلى خير!! وكيف يقول في صلاة رسول الله وسائر المسلمين الذين لم يفعلوا فعل هذا الموسوس أهي ناقصة عنده مفضولة؟ أم هي التامة الفاضلة ؟ فما دعاه إلى مخالفتهم والرغبة عن طريقهم ، فإن قال هذا مرض بليت به ، قلنا نعم سببه قبولك من الشيطان!! ولم يعذر الله تعالى أحدا بذلك ، ألا ترى أن آدم وحواء لما وسوس لهما الشيطان فقبلا منه أخرجا من الجنة ونودي عليهما بما سمعت وهما أقرب إلى العذر لأنهما لم يتقدم قبلهما من يعتبران به، وأنت قد سمعت وحذرك الله تعالى من فتنته وبين لك عداوته وأوضح لك الطريق فمالك عذر ولا حجة في ترك السنة والقبول من الشيطان ، قلت قال شيخنا ومن هؤلاء من يأتي بعشر بدع لم يفعل رسول الله ولا أحد من أصحابه واحدة منها فيقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم نويت أصلي صلاة الظهر فريضة الوقت أداء لله تعالى إماما أو مأموما أربع ركعات مستقبل القبلة ثم يزعج أعضاءه ويحني جبهته ويقيم عروق عنقه ويصرخ بالتكبير كأنه يكبر على العدو ، ولو مكث أحدهم عمر نوح عليه السلام يفتش هل فعل رسول الله أو أحد من أصحابه شيئا من ذلك لما ظفر به إلا أن يجاهر بالكذب البحت ، فلو كان في هذا خير لسبقونا ولدلونا عليه فإن كان هذا هدى فقد ضلوا عنه وإن كان الذي كانوا عليه هو الهدى والحق فماذا بعد الحق إلا الضلال ، قال ومن أصناف الوسواس ما يفسد الصلاة مثل تكرير بعض الكلمة كقوله في التحيات ات ات التحي التحي وفي السلام أس أس وقوله في التكبير أكككبر ونحو ذلك ، فهذا الظاهر بطلان الصلاة به وربما كان إماما فأفسد صلاة المأمومين وصارت الصلاة التي هي أكبر الطاعات أعظم إبعاد له عن الله من الكبائر ، وما لم تبطل به الصلاة من ذلك فمكروه وعدول عن السنة ورغبة عن طريقة رسول الله وهديه وما كان عليه أصحابه ، وربما رفع صوته بذلك فآذى سامعيه وأغرى الناس بذمه والوقيعة فيه !فجمع على نفسه طاعة إبليس ومخالفة السنة وارتكاب شر الأمور ومحدثاتها وتعذيب نفسه وإضاعة الوقت والإشتغال بما ينقص أجره وفوات ما هو أنفع له وتعريض نفسه لطعن الناس فيه وتغرير الجاهل بالإقتداء به ، فإنه يقول لولا أن ذلك فضل لما اختاره لنفسه وأساء الظن بما جاءت به السنة وأنه لا يكفي وحده وانفعال النفس وضعفها للشيطان حتى يشتد طمعه فيه وتعريضه نفسه للتشديد عليه بالقدر عقوبة له وإقامته على الجهل ورضاه بالخبل في العقل كما قال أبو حامد الغزالي وغيره ، الوسوسة سببها إما جهل بالشرع وإما خبل في العقل!! وكلاهما من أعظم النقائص والعيوب!!!

 وقد روى مسلم من حديث عثمان بن أبي العاص قال قلت يا رسول الله إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي يلبسها علي فقال رسول اللهضلى الله عليه وسلم : ( ذاك شيطان يقال له خنـزب فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه واتفل عن يسارك ثلاثا ) ففعلت ذلك فأذهبه الله تعالى عني

النهي عن الإسراف في ماء الوضوء والغسل

 روى أحمد في مسنده من حديث عبدالله بن عمرو أن رسول الله مر بسعد وهو يتوضأ فقال لا تسرف فقال يا رسول الله أو في الماء إسراف قال نعم وإن كنت على نهر جار

وفي جامع الترمذي من حديث أبي بن كعب أن النبي قال إن للوضوء شيطانا يقال له الولهان فاتقوا وسواس الماء  ، وفي المسند والسنن من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال جاء أعرابي إلى رسول الله يسأله عن الوضوء فأراه ثلاثا ثلاثا وقال هذا الوضوء فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدى وظلم وفي كتاب الشافي لأبي بكر عبد العزيز من حديث أم سعد قالت قال رسول الله يجزىء من الوضوء مد والغسل صاع وسيأتي قوم يستقلون ذلك فأولئك خلاف أهل سنتي والآخذ بسنتي في حظيرة القدس متنزه أهل الجنة وفي سنن الأثرم من حديث سالم بن أبي الجعد عن جابر بن عبدالله قال يجزىء من الوضوء المد ومن الغسل من الجنابة الصاع فقال رجل ما يكفيني فغضب جابر حتى تربد وجهه ثم قال قد كفى من هو خير منك وأكثر شعرا وقد رواه الإمام أحمد في مسنده مرفوعا ولفظه عن جابر قال قال رسول الله يجزىء من الغسل الصاع ومن الوضوء المد وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها كانت تغتسل هي والنبي من إناء واحد يسع ثلاثة أمداد أو قريبا من ذلك وفي سنن النسائي عن عبيد بن عمير أن عائشة رضي الله عنها قالت لقد رأيتني أغتسل أنا ورسول الله من هذا فإذا تور موضوع مثل الصاع أو دونه نشرع فيه جميعا فأفيض بيدي على رأسي ثلاث مرات وما أنقض لي شعرا

وفي سنن أبي داود والنسائي عن عباد بن تميم عن أم عمارة بنت كعب أن النبي توضأ فأتي بماء في إناء قدر ثلثي المد ، وقال عبدالرحمن بن عطاء سمعت سعيد بن المسيب يقول إن لي ركوة أو قدحا ما يسع إلا نصف المد أو نحوه أبول ثم أتوضأ منه وأفضل منه فضلا قال عبدالرحمن فذكرت ذلك لسليمان بن يسار فقال وأنا يكفيني مثل ذلك قال عبدالرحمن فذكرت ذلك لأبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر فقال وهكذا سمعنا من أصحاب رسول الله .

وقال إبراهيم النخعي : كانوا أشد استيفاء للماء منكم وكانوا يرون أن ربع المد يجزىء من الوضوء ، وهذا مبالغة عظيمة فإن ربع المد لا يبلغ أوقية ونصفا بالدمشقي وفي الصحيحين عن أنس قال كان رسول اللهيتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمدادا وفي صحيح مسلم عن سفينة قال كان رسول اللهيغسله الصاع من الجنابة ويوضئه المد

وتوضأ القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق بقدر نصف المد أو أزيد بقليل وقال إبراهيم النخعي إني لأتوضأ من كوز الحب مرتين  ، وقال محمد بن عجلان الفقه في دين الله إسباغ الوضوء وقلة إهراق الماء ، وقال الإمام أحمد كان يقال من قلة فقه الرجل ولعه بالماء

وقال الميموني كنت أتوضأ بماء كثير فقال لي أحمد يا أبا الحسن أترضى أن تكون كذا فتركته

وقال عبدالله بن أحمد قلت لأبي إني لأكثر الوضوء فنهاني عن ذلك وقال يا بني يقال إن للوضوء شيطانا يقال له الولهان قال لي ذلك غير مرة ينهاني عن كثرة صب الماء

وقال لي أقلل من هذا الماء يا بني ، وقال إسحاق بن منصور قلت لأحمد نزيد على ثلاث في الوضوء فقال لا والله إلا رجل مبتلى ، وقال أسود بن سالم الرجل الصالح شيخ الإمام أحمد كنت مبتلى بالوضوء فنزلت دجلة أتوضأ فسمعت هاتفا يقول يا أسود يحيى عن سعيد الوضوء ثلاث ما كان أكثر لم يرفع فالتفت فلم أر أحدا ، وقد روى أبو داود في سننه من حديث عبدالله بن مغفل قال سمعت رسول اللهضلى الله عليه وسلم يقول : سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء ، فإذا قرنت هذا الحديث بقوله تعالى : ] إن الله لا يحب المعتدين [  

وعلمت أن الله يحب عبادته أنتج لك من هذا أن وضوء الموسوس ليس بعبادة يقبلها الله تعالى وإن أسقطت الفرض عنه فلا تفتح أبواب الجنة الثمانية لوضوئه يدخل من أيها شاء ، ومن مفاسد الوسواس أنه يشغل ذمته بالزائد على حاجته إذا كان الماء مملوكا لغيره كماء الحمام فيخرج منه وهو مرتهن الذمة بما زاد على حاجته ويتطاول عليه الدين حتى يرتهن من ذلك بشيء كثير  

الوسواس في انتقاض الطهارة لا يلتفت إليه

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا فأشكل عليه أخرج منه شيء أم لا فلا يخرج من المسجد حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا وفي الصحيحين عن عبدالله بن زيد قال شكي إلى رسول الله الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة قال لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا وفي المسند وسنن أبي داود عن أبي سعيد الخدري أن رسول اللهقال إن الشيطان يأتي أحدكم وهو في الصلاة فيأخذ بشعرة من دبره فيمدها فيرى أنه قد أحدث فلا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا ولفظ أبي داود إذا أتى الشيطان أحدكم فقال له إنك قد أحدثت فليقل له كذبت إلا ما وجد ريحا بأنفه أو سمع صوتا بأذنه فأمر عليه الصلاة والسلام بتكذيب الشيطان فيما يحتمل صدقه فيه فكيف إذا كان كذبه معلوما متيقنا كقوله للموسوس لم تفعل كذا وقد فعله

ويستحب للإنسان أن ينضح فرجه وسراويله بالماء إذا بال ليدفع عن نفسه الوسوسة فمتى وجد بللا قال هذا من الماء الذي نضحته لما روى أبو داود بإسناده عن سفيان بن الحكم الثقفي أو الحكم بن سفيان قال كان النبي إذا بال توضأ وينتضح وفي رواية رأيت رسول الله بال ثم نضح فرجه وكان ابن عمر ينضح فرجه حتى يبل سراويله وشكا إلى الإمام أحمد بعض أصحابه أنه يجد البلل بعد الوضوء فأمره أن ينضح فرجه إذا بال قال ولا تجعل ذلك من همتك واله عنه وسئل الحسن أو غيره عن مثل هذا فقال اله عنه فأعاد عليه المسألة فقال أتستدره لا أب لك أله عنه

داء الوسوسة هل له دواء ؟

إن له دواء نافع وهو الإعراض عنها جملة كافية ، وإن كان في النفس من التردد ما كان - فإنه متى لم يلتفت لذلك لم يثبت بل يذهب بعد زمن قليل كما جرب ذلك الموفقون , وأما من أصغى إليها وعمل بقضيتها فإنها لا تزال تزداد به حتى تُخرجه إلى حيز المجانين بل وأقبح منهم , كما شاهدناه في كثيرين ممن ابتلوا بها وأصغوا إليها وإلى شيطانها الذي جاء التنبيه عليه منه صلى الله عليه وسلم بقوله : " اتقوا وسواس الماء الذي يقال له الولهان أي : لما فيه من شدة اللهو والمبالغة فيه كما بينت ذلك وما يتعلق به في شرح مشكاة الأنوار , وجاء في الصحيحين ما يؤيد ما ذكرته وهو أن من ابتلي بالوسوسة فليستعذ بالله ولينته . فتأمل هذا الدواء النافع الذي علّمه من لا ينطق عن الهوى لأمته . واعلم أن من حُرمه فقد حُرم الخير كله ; لأن الوسوسة من الشيطان اتفاقا , واللعين لا غاية لمراده إلا إيقاع المؤمن في وهدة الضلال والحيرة ونكد العيش وظلمة النفس وضجرها إلى أن يُخرجه من الإسلام . وهو لا يشعر ( أن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا ) فاطر / 6 . وجاء في طريق آخر فيمن ابتلي بالوسوسة فليقل : آمنت بالله وبرسله . ولا شك أن من استحضر طرائق رسل الله سيما نبينا صلى الله عليه وسلم وجد طريقته وشريعته سهلة واضحة بيضاء بينة سهلة لا حرج فيها ] وما جعل عليكم في الدين من حرج [ الحج / 78 , ومن تأمل ذلك وآمن به حق إيمانه ذهب عنه داء الوسوسة والإصغاء إلى شيطانها . وعن عائشة رضي الله عنها : " من بلي بهذا الوسواس فليقل : آمنا بالله وبرسله ثلاثا , فإن ذلك يذهبه عنه " .

وذكر العز بن عبد السلام وغيره نحو ما قدمته فقالوا : دواء الوسوسة أن  يعتقد أن ذلك خاطر شيطاني , وأن إبليس هو الذي أورده عليه وأنه يقاتله , فيكون له ثواب المجاهد ; لأنه يحارب عدو الله , فإذا استشعر ذلك فر عنه , وأنه مما ابتلي به نوع الإنسان من أول الزمان وسلطه الله عليه محنة له ; ليحق الله الحق ويبطل الباطل ولو كره الكافرون .

وفي مسلم بحديث رقم 2203 من طريق عثمان بن أبي العاص أنه قال: إن الشيطان حال بيني وبين صلاتي وقراءتي فقال : ذلك شيطان يقال له خنزب , فتعوذ بالله منه واتفل عن يسارك ثلاثا , ففعلت فأذهبه الله عني .

وبه تعلم صحة ما قدمته أن الوسوسة لا تُسلط إلا على من استحكم عليه الجهل والخبل وصار لا تمييز له , وأما من كان على حقيقة العلم والعقل فإنه لا يخرج عن الاتباع ولا يميل إلى الابتداع . وأقبح المبتدعين الموسوسون . ونقل النووي - رحمه الله - عن بعض العلماء أنه يستحب لمن بلي بالوسوسة في الوضوء , أو الصلاة أن يقول : لا إله إلا الله فإن الشيطان إذا سمع الذكر خنس ; أي : تأخر وبعد , ولا إله إلا الله - رأس الذكر وأنفع علاج في دفع الوسوسة الإقبال على ذكر الله تعالى والإكثار منه ... ) انتهى كلام ابن حجر الهيتمي رحمه الله .

حالات تعاني من الوسوسة وتطلب الخلاص من ذلك

 أنا فتاة أعاني من وسوسة شديدة جدا عند البدء بالوضوء، وفي أثنائه، حيث الوساوس تكون غالباً في النية وعند البسملة، وعند التكبير للصلاة ؛ حيث لا أستطيع التكبير فأفكر في النية وفي الآيات حتى أضطر لقطعها وإعادتها وهكذا، مع وجود وساوس وتهيئات دائمة وشديدة في خروج قطرات البول وخروج الريح وخاصة عند الصلاة، أفيدوني جزيتم خيرا. علما بأني أحاول تجاهل خروج البول والريح فأصلي بشك: هل صلاتي صحيحة؟ هل لي أن آخذ حكم السلس لهما؟

العلاج :  ما دام الأمر على ما وصفت فلا تلتفتي إلى هذه الوساوس وأعرضي عنها، ولو ظننت أن وضوءك قد انتقض أو أنه قد خرج منك شيء، ووضوءك وصلاتك صحيحة ولو مع هذا الشك. وعليك أن تجاهدي نفسك في علاج هذا الوسواس بـ بالاستعاذة من الشيطان، والمداومة على الأذكار، وقطع الاسترسال مع حبائل الشيطان ومكائده وخواطره وهواجسه وكثرة الدعاء واللجوء إلى الله تعالى، واستصحاب القاعدة الفقهية العظيمة: "اليقين لا يزال بالشك"، فما ثبت بيقين لا يرتفع إلا بيقين؛ دليل ذلك ما صحَّ عن عبد الله بن زيد بن مسلم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "إذا وجد أحدكم في بطنه شيئاً فأشكل عليه أخَرجَ منه شيء أم لا؟ فلا يخرج من المسجد حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً"، فمن كان متيقناً أنه توضأ، ثم شك هل أحدث أم لا؟ لم يلتفت إلى هذا الشك، وبنى على ما هو متيقن منه، لو استصحبت هذه القاعدة وعملتِ بها لتخلصتِ من وساوسكِ.

 

 الحالة الثانية : أنا الفتاة التي أرسلت لك بالأمس عن الوسواس.. جزاك الله خيرا على الرد.. ولكن مازلت أواجه صعوبة أثناء التكبير للصلاة، فأحس بأني لابد أن أركز في التكبير وأفكر فيه وإذا لم أفكر وكبرت بسرعة فإني أعتقد أن تكبيرتي بطلت ؛ لأني لم أخلص النية، ولم أقصد هذه التكبيرة، بل التي بعدها التي لابد أن أشعر بأنها هي، لذلك أقطعها وهكذا. وأيضا عند الوضوء يعود نفس التفكير ولكن عند البسملة، وهل إذا تجاهلت وسميت مرة وأكملت وضوئي وصلاتي يصح ذلك؟

 العلاج : عليك أن تتجاهلي هذه الوساوس والخواطر، ووضوؤك وصلاتك صحيحة بلا إشكال

كيفية علاج الوسواس في الوضوء

 الفتوى : الحمد لله ، أولاً: عليك أن تستعيذي بالله من الشيطان الرجيم، وأن تستعيني بالله سبحانه، واطلبي منه أن يعافيك من مرضك، واقرئي آية الكرسي عندما ترقدين في فراشك للنوم، وقولي: (باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم) ثلاث مرات صباحاً، وثلاث مرات مساء، وارقي نفسك بقراءة سورة الإخلاص والمعوذتين ثلاث مرات، وتنفثين بكفيك عقب كل مرة، وتمسحين بهما ما استطعت من بدنك عند النوم، بادئة برأسك ووجهك وصدرك، وادعي الله أن يذهب ما بك من بأس، فقولي: (أذهب الباس رب الناس، واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما)، وكرري ذلك ثلاثاً، وادعي أيضاً بدعاء الكرب، فقولي: (لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش الكريم)، وإذا فرغت من الوضوء أو الغسل من حيض أو جنابة فاعتمدي أنك قد طهرت ودعي عنك الوسواس، ولا تكرري فإنه من الشيطان، وبذلك ينقطع عنك بإذن الله.

  اقطع الشك باليقين ولا تستسلم للوسواس

  الفتوى : الوساوس التي تعتري العبد مردها إلى كيد الشيطان بالمؤمنين ، فقد قال صلى الله عليه وسلم : "الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة " رواه أحمد وأبو داوود. والوسوسة من الشيطان فعلى العبد أن يبعدها عن نفسه بالذكر والاستغفار ، لأن الشيطان يخنس عند الذكر ويبتعد عن العبد عند الاستعاذة . والمقياس الذي تسير عليه ولا تلقي بَالاً لغير ذلك هو رؤيتك للمني على بدنك أو ثوبك لقوله صلى الله عليه وسلم " عندما شكا إليه رجل أنه يجد في صلاته شيئاً أيقطع الصلاة " قال: " لا حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً " متفق عليه . فما دمت لم تر شيئاً فلا شيء عليك ولا يجوز لك الانسياق خلف الوساوس والأوهام،، والله أعلم .

على الموسوس أن يطرح ما خيل إليه ويبني على ما تيقنه

 السؤال: السلام عليكم ما علاج الوسواس في الصلاة مثل تخيل خروج مايشبه الريح؟

الفتوى: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:

الوسواس في الصلاة أو في غيرها من العبادات هو محاولة من الشيطان أن يفسد على المسلم عبادته، أو يخيل إليه أنها فاسدة ليحرمه من لذة العبادة، وليبث في قلبه إحباطاً لعله بذلك يترك العبادة كلياً .

ودواء الوسواس هو تجاهله تماماً والإعراض عنه وعدم إصلاح ما وسوس الشيطان للإنسان أنه مفسد لصلاته أو عبادته. ومن ذلك المسألة التي ذكرتها، فلا تلتفت إلى ما يتخيل لك من خروج الريح امتثالاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين أنه شكا إليه رجل أنه يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "لا تنصرف حتى تسمع صوتاً أو تجد ريحاً"

الوسواس القهري : ماهيته - علاجه

 السؤال: ماهو الوسواس القهري؟ وما علاجه؟ أقصد وسوسة الماء والنجاسة والوسوسة عند الصلاة وإعادة الصلاة والوضوء وتكرار الآيات في الصلاة؟

الفتوى : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:‏

فإن الوسواس القهري مرض يعتري الشخص ، يأتي له بصورة أفعال وأفكار تتسلط على ‏المريض وتضطره لتكرارها ، وإذا لم يكرر الفعل أو يتسلسل مع الفكرة يشعر المريض بتوتر ‏‏، ولا يزول هذا التوتر إلا إذا كرر الفعل ، وتسلسل مع الفكرة . وبعد أن يتطاوع الوسواس يعاوده ‏الدافع للفعل ثانية . ولا يزول المرض بهذا بل يتمكن منه .‏

‏ فهو إذاً المبالغة الخارجة عن الاعتدال ، فقد يفعل الأمر - مكرراً له - حتى يفوت المقصد منه   مثل أن ‏يعيد الوضوء مراراً حتى تفوته الصلاة ،أو يكرر آية، أو نحو ذلك حتى يسبقه الإمام بركن أو أكثر ، ‏وقد يتمكن منه الوسواس فيترك العمل بالكلية ، وهذا هو المقصد الأساس من تلك الوسوسة .‏

‏ الشيطان له الدور الأكبر في الوسوسة، فعن ابن عباس رضي عنهما أن رسول الله صلى الله عليه ‏وسلم " قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن أحدنا يجد في نفسه- ‏يعرِّضُ بالشيء - لأن يكون حممة أحب من أن يتكلم به فقال : الله أكبر الله أكبر الله أكبر ، الحمد ‏لله الذي رد كيده إلى الوسوسة " رواه أحمد وأبو داود.

وقد يكون لعوامل أُخَر دور في إصابة المرء ‏بالوسوسة كعامل نفسي أو تربو ي أو شيء حدث أو موقف كان له أثر قوي في نفسه من أمر ‏ما. ( وفي مثل هذه الحالة يعرض الشخص المريض على طبيب نفسي (مسلم).‏

ولتغلب العبد على الوسواس الذي يصيبه في عبادته و أفكاره عليه أن يصدق في الالتجاء إلى الله ‏تعالى : ويلهج بالدعاء والذكر ليكشف عنه الضر ويدفع عنه البلاء ، وليطمن قلبه .‏

‏ قال تعالى : ] أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلاً ما ‏تذكرون [ النمل . وقال تعالى : ] الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب [ الرعد  .

ومما ‏يندفع به الوسواس الاستغفار، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه ‏وسلم :( إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة ، فأما لمة الشطيان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق ، ‏وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق ، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله، ومن ‏وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم ثم قرأ ] الشيطان يعدكم الفقر ويأمر كم بالفحشاء[) ‏رواه الترمذي .

وعن عثمان بن أبي العاص قال: يا رسول الله : إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي ‏وقراءتي يلبسها علي ‏ فقال رسول الله ضلى الله عليه وسلم : ( ذاك شيطان يقال له خنـزب ، فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه، ‏واتفل عن يسارك ثلاثاً. قال : ففعلت ذلك فأذهبه الله عني  ) رواه مسلم .‏

وغرض الشيطان من تلك الوسوسة - كما بينها حديث عثمان - أن يلبس على العبد صلاته ‏ويفسدها عليه، وأن يحول بينه وبين ربه، فيندفع هذا الكيد بالاستغفار والاستعاذة .‏

‏ قال ابن القيم : " ولما كان الشيطان على نوعين : نوع يرى عياناً وهو شيطان الإنس، ونوع لا يرى ‏وهو شيطان الجن، أمر سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يكتفي من شر شيطان الإنس ‏بالإعراض عنه والعفو والدفع بالتي هي أحسن، ومن شيطان الجن بالاستعاذة بالله منه " أ.هـ

قال تعالى‎ : ] وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم [ الأعراف 200  قال ابن ‏كثير في تفسيره : فأما شيطان الجن فإنه لا حيلة فيه إذا وسوس إلا الاستعاذة بخالقه الذي سلطه ‏عليك، فإذا استعذت بالله والتجأت إليه كفه عنك ورد كيده ) اهـ

‏ ومن الأمور النافعة- كذلك في علاج الوسوسة استحضار القلب والانتباه عند الفعل وتدبر ما ‏هو فيه من فعل أو قول ، فإنه إذا وثق من فعله وانتبه إلى قوله وعلم أن ما قام به هو المطلوب منه ‏كان ذلك داعياً إلى عدم مجاراة الوسواس ، وإن عرض له فلا يسترسل معه لأنه على يقين من أمره ‏ومن ذلك في الوضوء مثلاً: أن يتوضأ من إناء فيه قدر ما يكفي للوضوء بلا زيادة، ويجاهد نفسه أن ‏يكتفي به، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ بأقل منه . وفي باب التطهر من النجاسة ‏‏يحاول رش المحل الذي يعرض له فيه الوسواس بالماء، ويقنع نفسه أن ما يجده من بلل هو من أثر ‏الماء لا من البول. وفي الصلاة يجتهد في متابعة الإمام ، حتى ولو خيل إليه أنه لم يأت بالذكر المطلوب ‏‏، وإذ قرأ الإمام ينصت له، ويقرأ معه الفاتحة إن كان ممن يرى وجوب قراءتها على المأموم في الصلاة ‏الجهرية‎…‎‏. وهكذا يحاول اتخاذ حلول عملية، يدرب نفسه عليها شيئاً فشيئاً. والله أعلم .

 

ما يفعله الإنسان لعلاج الوسوسة في الصلاة

  السؤال : ما هو أفضل ما يقرأ أو يدعو به الإنسان للاستعاذة بالله من وسوسة الشيطان والتخلص من الأفكار التي يشوش بها على المؤمن وخاصة خلال الصلاة؟

الفتوى : الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:

فإن أفضل ما يطرد الوسوسة والشواغل في الصلاة : الإحسان في الوضوء وإتمامه على الوجه المأمور به  وأن يأتي بالنوافل ويشتغل بقراءة القرآن والذكر قبل صلاة الفريضة.

 وأن يجتهد العبد قدر استطاعته في أن يكون ذهنه وفكره حاضراً وأن يطمئن في صلاته وأن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم قبل قراءة الفاتحة في الركعة الأولى: قائلاً : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين … الخ  وأن يدعو الله بقلب خاشع أن يدفع عنه وسوسة الشيطان وإذا ما حصلت له وسوسة في صلاته فإنه يستعيذ بالله ثم ينفث على يساره في موضع رجله اليسرى ثلاثاً فإنه يذهب ما به إن شاء الله .  

المصاب بالوسوسة في الطهارة

 السؤال:  إنني أعاني من كثرة الغسل عند الوضوء حيث أحتاج أكثر من ساعتين في قضاء الحاجة والوضوء وهذا هدر للوقت والعقل والجهد ، حتى إنني راجعت طبيبا نفسيا لأجل المشكلة ، إنني إذا ما جلست مكان إنسان آخر لا بد أن أمسح كل ملابسي حتى أشعر بأنني أصبحت طاهرا وجاهزا للصلاة ، إنني أعاني من هذه المشكلة كثيرا أرجو الإجابة أو اسم كتاب أو أن دعاء أدعو به لأتخلص من هذه الهواجس القاتلة .

الجواب:  هذا نوع من الأمراض النفسية يعرف بالوسواس القهري ، وهي أفكار تتسلط على الإنسان في أي جانب ، وتلازمه مع أنه معترف بخطئها ، وعدم صوابها ، وعلاج ذلك يكون بأمور : أولا : أحسن الظن بالله تعالى ، وأكثر من الدعاء والتضرع إلى الله بأن يشفيك ويعافيك من هذا الوسواس .

ثانيا : عود نفسك على تحقير هذه الوساوس ، وعدم الالتفات لها ، وضع كمية مناسبة من الماء في إناء دون التوضؤ من الصنبور مباشرة ، وألزم نفسك بالوضوء من هذا الإناء فقط ، وقل لنفسك : ليس هناك ماء ، سوى الذي في هذا الإناء ، واكتف بما فيه ، ولا تعد غسل العضو أكثر من ثلاث مرات ، حتى لو قال لك الشيطان إن وضوءك غير صحيح ، فهذه مجرد وساوس من الشيطان لا حقيقة لها .

ثالثا : كذلك الأمر بالنسبة لمسألة مسح الملابس من مكان إنسان آخر ، فلا بد أن تحقر هذه الوساوس ، وأن تلزم نفسك بعدم المسح ، وتدربها على ذلك مهما كانت الوساوس .

رابعا : عليك أن تعلم أن القاعدة الفقهية أن اليقين لا يزول بالشك ، فإذا تيقنت شيئا ، فلا تلتفت بعد ذلك للشكوك ، وإذا فعلت فعلا فلا تلتفت إلى أي شك يأتي بعد هذا الفعل ، فإذا غسلت يدك ، فلا تلفت بعد غسله ولو بلحظات إلى شك يقول لك إنك لم تغسل يدك  

والشك لا يلتفت إليه إذا كان بعد الفراغ من العبادة ، وكذلك إذا كان الإنسان كثير الشكوك فإنه لا يلتفت إليها .

  امرأة مصابة بالوسواس في الطهارة

السؤال:  امرأة ابتلاها الله بوسواس في الطهارة والشعور بعد الوضوء بمدافعة الخبث فكيف علاجها والخلاص من هذا الوسواس ؟.

الجواب:  دواء الوسواس هذا بكثرة التعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، ولا سيما قراءة المعوذتين ، فإنه ما استعاذ مستعيذ بمثلها : ( قل أعوذ برب الفلق ) وهذا يتضمن الاستعاذة من شر الشيطان لأنه من مخلوقات الله ، وفي سورة الناس : ( قل أعوذ برب الناس ) .

فدواء ذلك بكثرة التعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، اللجوء إلى الله تبارك وتعالى ، والعزيمة الصادقة ، بحيث لا يلتفت الإنسان لما يرد على قلبه من الوساوس .

مثلاً توضأت مرة واحدة أو مرتين أو ثلاثاً فلا تلتفت إلى وسوسة الشيطان ، حتى لو شعر الإنسان في نفسه أنه لم يتوضأ مثلاً ، أو أنه أهمل شيئاً من أعضائه ، أو أنه لم ينو فلا يلتفت لهذا الشيء ، وكذلك لو أنه في صلاته شعر أو وقع في نفسه أنه لم يكبر للإحرام لا يلتفت لذلك ، يمضي في صلاته يكملها .

 ولو أوقع الشيطان في قلبه التشكيك في الله أو ما أشبه ذلك لا يهمه ، لأنه ما تألم من هذا الشك إلا لإيمان في قلبه ، فغير المؤمن لا يهمه شكَّ أو لم يشك ، لكن الذي يتألم من هذه الشكوك والوساوس مؤمن ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة : ( ذلك صريح الإيمان ) أخرجه مسلم رقم 132 ، يعني : أن ما يلقي الشيطان في قلوبكم من مثل هذه الأمور صريح الإيمان أي خالصة ... جعله خالص الإيمان ، لأن هذا الذي ورد على قلبه الشك لا يطمئن لهذا الشك ولا يلتفت إليه ويتألم منه ولا يريده ، والشيطان لا يأتي إلا القلوب العامرة حتى يدمرها ، فالقلوب الدامرة لا يأتيها ، لأنها دامرة , قيل لابن عباس أو ابن مسعود : إن اليهود يقولون نحن لا نوسوس في صلاتنا . قال نعم : وما يفعل الشيطان بقلب خراب !!فوصيتي لها أن تعرض عن هذا كله ، وهي سوف تتألم أول الأمر ، سوف ترى أنها صلت بغير طهارة أو صلت بغير تكبيرة الإحرام ، أو ما أشبه ذلك ولكنها سوف تستريح بعد ذلك ، ويزول عنها ذلك الشك والوسواس بإذن الله .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

   

التـقوى

التقوى أساس الطريق عليها سلك السائرون وبها و صل الواصلون ، وصى الله بها المتقدمين والمتأخرين و بها قرّب المقربين ، ولها خمس درجات : " أن يتقي العبد الكفر ، وذلك بمقام الإسلام ، وأن يتقي المعاصي و المحرمات ، وذلك مقام التوبة ، وأن يتقي الشبهات وهو مقام الورع ، وإن يتقي المباحات ،  وهو مقام الزهد " إنها هدف عام بعث الله من أجلها التشريعات والأوامر و الوصايا وإذا وجدت في قلب بشر لم يحتج بعدها إلى رقيب أو حسيب ، لأنها حاجز له من كل شر ودافعة لكل خير وهي مطلب الله من المسلمين فإذا ما كانوا أتقياء كانوا أقوياء ، ولا يختل الإسلام إلا أذا اختلت التقوى عند المسلمين ، فما هي التقوى و من هم المتقين ؟ .

لقد أمر الله سبحانه وتعالى بالتقوى في كثير من الآيات ، أمرنا بها كوظيفة للإيمان يتحرك بها الإنسان ليتحول إلى قوة بانية محرِّكة قال تعالى : ] قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب [ الزمر 10. فما هي التقوى ؟ أن يجعل العبد بينه و بين ما يخافه و يحذره وقاية ، تقية من سخط الله و غضبه و عقابه ، فيمتثل أمر الله و يجتنب نواهيه ، فلا يجده ربه حيث نهاه ، و لا يفقده حيث أمره  . كما عرَّفها العلماء فقالوا : هي أن يعمل الرجل بطاعة الله على نورٍ من الله يرجوا ثواب الله و أن يترك معصية الله على نور من الله ويخاف عقاب الله  

إنها قاعدة الإصلاح ينبثق عنها كل خير ، وهي منطلق إلى كل فضيلة وبر إنها والإيمان بالله قرينان لا ينفكان قال تعالى : ] يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و آمنوا برسوله [ . فمن هو التقي ؟ إنه الذي يقي نفسه من العذاب والمعاصي بالعمل الصالح ، وهي عند المؤمن حاجزاً تحتجز عنه الضرر ، وحاجباً يحجب عنه الخطر فيحرص على ما ينفعه ويستعين بالله ويتقيه حق تقاته لأن من اتقى الله خافه ، ومن خاف الله عرفه ، ومن عرف الله امتثل أوامره واجتنب نواهيه ، ومن لم يخف من الله خاف من كل شيء . أما المتقين : فهم الذين جعلوا التقوى زاداً روحياً يحرك دوافعهم إلى قيم الحب ومثل الخير قال تعالى : ] و تزودوا فإن خير الزاد التقوى [   البقرة 197. و هي عندهم كذلك : زاداً يغذي الروح و لباساً يستر الجسد , قال الشاعر :

إذا المرء لم يلبس ثياباً من التقى      تجرد عرياناً ولو كان كاسـيا ً

وخير لبـاس المرء طاعة ربـه     و لا خير فيمن كان الله عاصياً

وهم الذين يعظمون شعائر الله ويدفعون عنها قال تعالى : ] ومن يعظم شعائر الله فإنها تقوى القلوب [   وقال لقمان لابنه : " أي الخصال خير ؟ قال : الدين   قال فغن كانت اثنتين ؟ قال : الدين و المال ، قال فإن كانت ثلاثاً ، قال : الدين و المال و الحياة ، قال فإن كانت أربعة ؟ زاد حسن الخلق ، قال فإن كانت خمساً ؟ زاد السخاء ، قال : فإن كانت ستاً ؟ قال يا بني إذا اجتمعت فيه الخمس خصال فهو تقي و نقي والله ولي من الشيطان بري " .

و للمتقين الذين ينتفعون بالقرآن أربع صفات : فهم الذين يؤمنون ويصدّقون بالغبيات من العبث و الحساب و الجنة و النار و لا يقفون عند الماديات و المحسوسات التي يدركها العقل إدراكاً قريباً وإنما يدركون أيضاً ما وراء المادة من عوالم أخرى كالروح والجن و الملائكة و على رأسها وجود الله ووحدانيته ، والذين يؤدون الصلاة على الوجه الأكمل بشروطها وأركانها وآدابها و خشوعها  ومن ينفقون في وجوه البر والإحسان من الأموال كالزكاة و الصدقة و سائر النفقات الواجبة شرعاً . وهم الذين يصدقون بجمع ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء و المرسلين و يصدقون تصديقاً جازماً بالآخرة وما تضمنه من بعث الأجساد والأرواح معاً من القبور وحساب وجزاء و جزاء وصراط وجنةٍ ونار .

ومن بركات الله تعالى و سنة نبيه ؟ وسيرة سلف الأمة الصالح ، وهذا ما يؤهله للتلقي عن رب العالمين   لأن من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم قال تعالى : ] واتقوا الله و يعلمكم الله [ البقرة 282.

وإذا عمل التقي بما علم ، فإن بركة التكريم الإلهي تتجلى له ، قال تعالى : ] إن أكرمكم عند الله أتقاكم [ الحجرات13 .كما يمن الله على عباده الأتقياء بتيسير أمورهم قال تعالى : ] ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا [ الطلاق 4 .وإذا تجنبوا الحرام و حرصوا على الرزق الحلال فإنه الله سبحانه يضمن لهم أرزاقهم قال تعالى : ] ومن يتق الله يجعل له مخرجا و يرزقه من حيث لا يحتسب [ الطلاق 2 .

ومن أبرك بركات التقوى أن تشتمل المتقين دائرة الرحمة الإلهية قال تعالى : ] ورحمتي وسعت كل شيء فأكتبها للذين يتقون [ الأعراف156. وأخبر القرآن أن الذين اتقوا ربهم في الدنيا بإتباع أوامره واجتناب نواهيه هم بما أعطاهم الله ] في جناتٍ ونعيم [ يتنعمون في الجنات ما طاب من أصناف الملاذ في المآكل والمشارب والملبس والمساكن والمراكب و الفرش والأزواج من الحور العين وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الحور العين يغنين : نحن الخّيرات الحسان خُلقنا لأزواجٍ كرام [ . وأخبر الله من لطفه و كرمه بأخلاق الذرية بالآباء في المنزلة وإن لم يبلغوا عملهم لتقر عين الآباء بالأبناء قـال تعالى : ] والذين آمنوا واتبعهم ذريتهم بإيمان [ الطور 52 . وروى الطبري عن ابن عباس أن رسول الله قال : ( إذا دخل رجل الجنة سال عن أبويه وزوجته وولده فيقال : إنهم لم يبلغوا درجتك فيقول يا رب ؟ قد عملت لي و لهم فيؤمر بإلحاقهم به ) . هذا فضله تعالى على الأبناء   أما فضله على الآباء ببركة دعاء الأبناء فقد أخرج أحمد عن أبي هرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة فيقول : يا رب أنى لي هذه ؟ فيقول : باستغفار ولدك لك ) . 

      

 

 

ماذا على المسلمين إذا هزموا أمام العدو

إن المسؤولية أولاً تقع على عاتق ولاة الأمر لأنهم المسؤولون عن رعاية أمور المسلمين والقيام بمصالحهم ، ومن تلك الرعاية رفع المظالم عن المظلومين منهم ، ونصرتهم والدفاع عنهم ضد الظالمين ، وما دام هناك ظلمٌ واعتداء على المسلمين وديار الإسلام ، فإن الإسلام كفاح لا يهدأ وجهاد لا ينقطع  ، واستشهاد في سبيل الحق والعدل والمساواة فهو يبدأ في ضمير الفرد وينتهي في محيط الجماعة ، وهذا هو سرّ خلوده ، فقد انتصر المسلمون انتصار عقيدة ، غرست في نفوسهم حب الضبط والنظام ، وحببت إليهم الاستشهاد في سبيل الحق ، وجعلتهم يرون هذا الاستشهاد نصراً دونه كل نصر ، كما بعثت فيهم الاعتزاز بالنفس ، والشعورَ بأن عليهم رسالة واجبة الأداء للعالم .   

لقد تقبل العرب الإسلام بما فيه من تكاليف البذل والجهاد والتضحية والفداء ، لذلك سادوا العالم ودوخوا الدنيا ، فلما اصبحوا يتقبلون الإسلام بدون تكاليفه  ، خسروا كل شيء ، واصبحوا أذلاء مستعبدين حتى في ديارهم .

فما أحرانا أن نتفهم الإسلام ، ونتفهم حياة النبي صلى الله عليه وسلم التي هي التطبيق العملي للإسلام كما تَفهَّم ذلك الصحابة الذين ملأت العقيدة قلوبهم في مبدأ سيرهم ، وصحبتهم وحالفتهم في كل الأحوال التي عاشوها هازمين ومهزومين ، وجعلتهم يثقون بوعد الله لهم في فتح الأرض والسيطرة عليها بالحق والعدل ، كانوا إذا هزموا أمام العدو لأي سبب من الأسباب ، يلجأون إلى الله عز وجل  ليهبَ لهم الصبَر على ما نزل بهم ، ويسألوه أن يوفقهم ليُبدِّلوا ضَعْفَهم قوة وهزيمتهم نصرا  ويسدِّد خطواتهم وهم يبحثون عن الأسباب التي أدت بهم إلى الهزيمة ، من أجل العمل على تفاديها أو اجتنابها ، ثم معاودة التصدي للعدو من قريب  لغسل عار الهزيمة في نفوس المسلمين ، سواء كانوا من المقاتلين أو من غير المقاتلين . ولنا في ما قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم  في أعقاب غزوة أحد أسوة حسنة  فبعد أن هزم المسلمون اثر مخالفة أكثر الرماة لأوامر النبي صلى الله عليه وسلم ، وانصرف المشركون منصورين ورجع المسلمون مهزومين ، قرر النبي صلى الله عليه وسلم أن يُنْسي المشركين طعم انتصارهم قبل أن يصلوا إلى بلادهم ، وأن يجددَ في نفوس المسلمين ثقتهم بنصر الله ، ويعيد إليهم قيمتهم بأنفسهم ، من حيث أنهم أصحاب رسالة وحمله دعوة ، يتخذون الجهاد في سبيل الله طريقةً لإعلاء كلمته ، وتحطيمِ كلِّ عقبةٍ تقفُ في طريقها  كما يعيد إليهم هيبتهم بين من يُحيط بهم من قوى الكفر فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة يوم أُحد ، مرهباً للعدوِّ ولِيَبْلُغَهم أنه خرج في طلبهم لِيَظُنّوا به قُوَّة ، وأن الذي أصابهم لم يوهِنْهم عن عدوِّهم ، وكان المشركون قد عزموا على العودة إلى المدينة للقضاء على المسلمين ، ولكن خروج المسلمين لمطاردتهم جعلهم يُغيِّروا رأيهم .

إن على المسلمين إذا ما نزلت بهم هزيمةٌ أن يُضمِّدوا جراحهم ، ويتحاملوا على أنفسهم ويظهروا الجلادة للعدو ما أمكنهم ، وأن يعودوا إلى صفوفهم فيلمّوا شعثها ، وإلى قوتهم فُيعيدوا بناءها ، وإلى أسباب الهزيمة في فيجتنبوها  وليُوطِّنوا أنفسهم على الثأر للحق واسترداد هيبة المسلمين في أقرب فرصة تسنح لهم . وليقاوموا أيَّ شعور يُراودهم بالاستسلام إلى روح الهزيمة  وليثقوا أنهم هم الأعْلون بإذن الله . مصداقاً  لقوله  تعالى : }  ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين { . آل عمران139 .قد يهلل العدو ابتهاجاً للقضاء على الإسلام والمسلمين ، ناسين أن القلب المؤمن يظل مطمئناً إلى أن الإسلام خالد لا يموت ، وكل مصيبة تلم به مهما تكن عظيمة لا بد أن تحمل إليه انتصاراً  فهذه أمريكا التي تنظر إلى مقاومة الشعب الفلسطيني للاعتداء الإسرائيلي على أنه إرهاب  يجب العمل على وقفه ومعاقبة الذين يمارسونه  هي نظرة ليس لها مصدر إلا الحقد الأسود الذي يعمي عن الحقائق ، ويتيح للهوى أن يتكلم ويصدر حكمه كما يشاء ، وإلا فكيف يوصف بالإرهاب من حمل حجراً ، ومن يضحي بنفسه في وجه من أعلن عليه الحرب ، وقرر الفتك به وصمم على القضاء عليه ومحوه من الوجود .

وصادر كل ما وصلت إليه يده من أمواله وممتلكاته  إنه لمنطق غريب ممن يهدرون كرامتهم ويستبيحون دمائهم ثم يسمونهم بالإرهابيين وهنا يحضرني ما قاله الجندي الإنكليزي مرة لزميل له يصف الأفريقيين المعتدى عليهم قال : إن هؤلاء الإفريقيين وحوش والله ، وعندما سُئل عن السبب قال : تصور أن أحدهم عضني وأنا أقتله. هذا منطق غريب في عالم جعله الله لنا ميدان اختبار قال تعالى : } وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا {.الفرقان 20 . فلا بد أن نُختَبَرَ بهؤلاء ويُخْتَبَرون بنا ، فالله يمكن أن يرسل صواعق تحرقهم أو زلازل تخسف بهم وتدمر عليهم قال تعالى :}ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم{. فالله يمكن أن يتدخل وكل شيء طوع أمره  ولكنه يختبرنا أنؤمن ونجاهد ونبذل ونؤدي ما علينا ، أم نجبن وننكص على أعقابنا ، ونستكثر تكاليف الجهاد ونولي الأدبار .

وقد ورد في تكملة الآية } ولكن ليبلو بعضكم ببعض { وختمت الآية بقوله تعالى :
 } والذين قُتلوا في سبيل الله فلن يُضل
أعمالهم { . أما الذين ولو الأدبار وقبلوا الدنية والظلم  فإلى جهنم وبئس المصير قال تعالى : }إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا{.النساء 97. .

فما يعتَدِ مُعْتَدٍ وما ينجو جبار وما يتفرعن متفرعن إلا إذا أمن العقوبة ، ولو علم أنه إذا لطم لُطم ، لما امتدت يده بظلم لأحد ، ومن هنا فإن نصر الله يتمثل في الدفاع عن بلدي وبيتي ودمي وعرضي حتى استحق نصره ومغفرته قال تعالى : }إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم {.

 ويكفي أن تستقر هذه الحقيقة في أي قلبٍ  ليقف بها أمام الدنيا كلها عزيزاً لا يتزعزع ، ما دام على طريق العزة التي تطلب عنده ، وإلا فلا عزة ولا قوة عند الآخرين ، وما يستعزُّ المؤمن بغير الله ، وما يطلب العزة والنصرة والقوة عند أعداء الله مؤمن ، وما أحوج الذين يدَّعون الإسلام ، ويتسمون بأسماء المسلمين ، ما أحوجهم وهم يستعينون بأعدى أعداء الله في الأرض ، أن يتدبروا كتاب الله ، إن كانت بهم رغبة في أن يكونوا مسلمين ، وإلا فإن الله غني عن العالمين . لقد وعد الله بأن لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا ، وعداً قاطعاً ولن يخلف الله وعده إذا استقرت في نفوس المؤمنين حقيقة الإيمان وتمثلت في حياتهم منهجا للحياة ونظاماً للحكم ، وتجرداً لله في كل حركة وعبادة قال تعالى : } ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا { . النساء 141 . وهذه حقيقة وهي أن الهزيمة لا تلحق بالمؤمنين ولم تلحق بهم في تاريخهم الطويل ، إلا وهناك ثغرة في حقيقة الإيمان ، الذي يدعو إلى أخذ العدة و إعداد القوة في كل لحظة وفي كل حين بنية الجهاد في سبيل الله ، ففي معركة أحد كانت الثغرة في ترك طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي الطمع في الغنيمة ، وفي حنين كانت الثغرة في الاعتزاز بالكثرة والإعجاب بها ، ولو ذهبنا نتتبع كل مرَّة تخلَّف فيها النصر عن المسلمين في تاريخهم  لوجدنا شيئاً من هذا نعرفه أو لا نعرفه  وليس بيننا وبين النصر في أي زمان وفي أي مكان إلا أن نستكمل حقيقة الإيمان ، ونستكمل مقتضيات هذه الحقيقة في حياتنا وواقعنا ، ومن حقيقة الإيمان أن نأخذ العدة ونستكمل القوة   وأن لا نركن إلى أعداء الله إن تفوق الكفر في معركة ، ليس معناه أن الله تاركه ، أو أنه من القوة بحيث لا يُغْلَبْ أو يبقى مسيطراً على الحق وأهله ، وإن بقاء الحق ضعيفاً فترةً من الزمن ، ليس معنى ذلك أن الله مجافيه أو ناسيه ، كلا ! إنما هي حكمة الله وتدبيره ، يملي الباطل ويرتكب أبشع الآثام  ويحمل أثقل الأوزار ، حتى ينال أشد العقاب باستحقاق قال تعالى : } ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله
شيئا { آل عمران 176 . فالذين يحاربون الله وعباده أضعف من أن يضروا الله شيئا ، وبالتالي لن يضروا دعوته  ولن يضروا حملة هذه الدعوة ، مهما سارعوا بالكفر ، ومهما أصابوا أولياء الله بالأذى .

وهنا سؤال : لاذا يتركهم الله ؟ لأن الله يدبِّرُ لهم ما هو أنكى وأخزى قال تعالى : } يريد الله ألا يجعل لهم حظاً في الآخرة { . يريد لهم أن يستنفذوا رصيدهم كله ، وأن يحملوا وزرهم كله  وأن يستحقوا عذابهم كله ، وأن يمضوا مسارعين في الكفر إلى نهاية الطريق } ولهم عذابٌ أليم {  وذلك أشد إيلاماً مما يملكون إيقاعه بالمؤمنين من آلام ، وإذا كان المتوعد هو الله ! فأين المفر ؟ وكيف النجاة ؟ } ولله ملك السموات والأرض والله على كل شيء قدير { . آل عمران 189 .     

       

 

 

بالإسلام نصحوا

نصحوا بالإسلام ، فحياتنا حياته ومجدنا مجده ، نقود العالم برسالة الإسلام التي اصطفانا الله بها ، ووضع بين أيدينا علمها  ولكن المسلمين اليوم لم يقوموا بأعباء هذه القيادة ، فقدموا للعالم الإسلامي المشاكل فوق ما لدى كل قطر من مشاكل ، قدموا خلافاتهم وحروبهم الدموية ، وبعد تأخير الإسلام رفع أغلبهم شعار العلمانية ، أو قَبِلَ الإسلام بلا موضوع ، أو شريعةً بلا أحكام ، فأطبقت عليهم ظلمات الجاهلية الجديدة ، والغيوم تمطرهم مطر السوء فهل من عودة إلى الله .     

إن المتتبع لتاريخ الأمة الإسلامية ، ليعجب أشد العجب لهذا الواقع ، والتبدل الذي حدث ، وهذا التغير الذي طرأ ، فبعد أن كانت أمة أمجاد أمست أمة إخلاد، وبعد أن كانت القائدة أصبحت المقودة, وبعد أن كانت رمز العزة والغلبة ، انقلب بها الحال ، فإذا هي لقمة سائغة في فم كل آكل ، وصفها الشاعر في قوله :

ضاعت معالم عزة وتحطمت  فينا الكرامة واستبيح الدار

وتبدلت أخلاقنا وطباعنا     وتساوت الحسنات الأوزار

إن الأمة تمر بفترة من أحلك فترات تاريخها، لأنها انحدرت من القوة إلى الضعف، ومن القيادة والريادة إلى التبعية والهوان ، حتى عظم البلاء ، وتكلم الرويبضة، وأمسى من لا رأي له هو صاحب الرأي ، نفوس ذليلة فقدت طعم العزة، وأفئدة غافلة لاهية نسيت ربها ، واستخفَّت بوعده ووعيده في الدنيا والأخرة    حتى أصبحنا نعاني من بطش اليهود الحاقدين ، وتآمر المستسلمين والمتخاذلين ، دماء تُراق ، وديار تُهدم ، وأرواح تُزهق وصدق الله إذ يقول : ﴿ وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير﴾ فما أصاب المسلمين من الأعداء الذين نالوا من المسلمين ما نالوا ، من قتل وأسر وتشريد     فشتت جمعهم وفرق كلمتهم ، هذا التفرق الذي حذّر الله منه فقال : ﴿ واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ﴾ وحذَّر منه  النَّبي عليه السلام بقوله : ( ما من ثلاثة في قرية ولا بادية لا يقيمون صلاة الجماعة إلا استحوذ عليهم الشيطان، فعليكم بالجماعة فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية ) رواه أبو داود والنسائي عن أبي الدرداء ، أي المتخلِّفة عن القطيع، المنفردة وحدها؛ لأن نجاتها وسلامتها ببقائها مع جماعتها من الأغنام، وكذلك يقال لهذه الأمّة التي تداعى عليها الخصوم والأعداء كتداعي الأكلة إلى قصعتها ، فالاجتماع قوَّةٌ والتَّفرُّق ضعفٌ وتشتُّت وهوان .

تأبى الرِّماح إذا اجتمعن تكسُّراً   وإذا افترقن تكسَّرت آحادا

كان الأعداء يرهبون المسلمين ويخشون مخالفتهم، لما يعلمون من انقياد العامة لهم، واعتقاد الأمة إمامتهم. إلا أنه بمرور الأيام خلف من بعدهم خلف اتخذوا العلم مهنة للعيش، وجعلوا الدين مصيدة للدنيا، فسوغوا للفاسقين من الأمراء أشنع موبقاتهم وأباحوا لهم – باسم الدين – خرق حدود الدين. هذا والناس مخدوعين بعظمة عمائمهم ، وعلو مناصبهم، يظنون فتياهم صحيحة، وآرائهم موافقة للشريعة والفساد بذلك يعظم، ومصالح الأمة تذهب، والإسلام يتقهقر والعدو يعلو ويتنمر، وإثم كل هذا في رقاب العلماء.

إن أكبر رزية حلت في البلاد الإسلامية هو إقصاء الشريعة الإسلامية، أو التهاون في تطبيقها، أو الاحتيال لتمييع أحكامها عمدا أو تحت مبررات شخصية كثيرة، سواء أكانت صادقة أم كاذبة. أو بسبب ضغط الواقع المنحرف على بعض المسلمين حتى أصبح منهم من يسهل عليه إعطاء رأي ليؤمن مصلحة دنيوية ثم يلصق دعواه بالإسلام ، فركنوا إلى الظَّلَمَة وزينوا لهم ظلمهم فاستفحل شرهم وعمّ الطغيان، فظهر جيل من الجلادين قساة القلوب ، فاقدي المشاعر ، يصبون العذاب والإيذاء فوق المسلمين ، من بني جلدتهم ويقهرونهم ويذلونهم، يصاحب ذلك إهانة الكلمة ومصادرة الحريات وانتهاك أبسط حقوق التعبير والعيش التي كفلتها الشريعة الإسلامية ، لذا أحدّر المسلمين من مؤامرات أعداء الدين، ومن حالفهم من المسلمين . فهل يصحوا المسلمون ؟ .  

الضربة المصرية

هذا جميل من أجل الثأر للدماء المصرية والقصاص من القتلة والمجرمين  وهذا يدل على أن العرب لديهم أسلحةً يدفعون بها الأذى ويصدون العدوان ، لكن الذي يحز في النفس ، أن هذه الأسلحة لها وظيفة لم يعرف العالم لها شبيهاً في الخسّة ، إنهم بها يقتلون شعوبهم ، بدل أن يوجهوها ضد من احتل الأرض والمقدسات ، كما لا تساهم هذه الأسلحة على الاستقرار في بلاد المسلمين ، ففي كل بلد مسلم إلا ما عصم الله ، تجد فتناً مائجة ، وأناس نسوا الله فأنساهم أنفسهم ، ووسط هذا الشتات السياسي والعسكري ، يرسّخ اليهود أقدامهم في الأرض التي احتلوها وهم آمنون مطمئنون ، وعندما تتحرّك ضمائر أناس لهم غيرة على الكرامة الإنسانية ويصيحون بضرورة وقف المأساة التي تدور رحاها ، تعترض دول مجلس الأمن الصائحين ، وتخرس ألسنتهم ، وتشدّ أزر المعتدي في عدوانه .

لا نلومهم ، إنما اللوم على المسلمين كافة والعرب خاصة ، لأن حرب الحزازات أزهقت روح الأخوّة ، كما حرمهم استدبار الإسلام تأييد الله وكأنهم لم يسمعوا قول الله تعالى : ﴿ إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ﴾ محمد 7 .       

الأمراض التي تعاني منها الأمة

إن الأمة الإسلامية تعاني داخليًّا من ويلات التفرقة، والمنازعة على السلطة والجاه والمزايدات السياسية والتعصبات المذهبية ، والتيارات المتحاربة، وخارجيًّا من   الاعتداء الأجنبي، والمكر العدواني ، ودسائس العدو الذي كبلها وأذهب قوتها وأضعف شوكتها، وهمش دورها، بل سلب خيراتها واسترق شعوبها وأفسد مجتمعاتها.

كما تعاني الأمة من الضعف والتخلف ، حتى صارت في مؤخرة الركب بعد ان كانت  تقوده ، وأصبحت مفتوحة الأرض ومستباحة العرض ، تطاول عليها السفهاء ، وتجرا عليها الضعفاء ،  ومن يلقي نظرة على العالم الإسلامي لا يستطيع أن ينكر بأنهم مرضى ، في أقوالهم ومجتمعاتهم ، في النواحي السياسية والعلمية والاجتماعية ، وإذا جاز أن نصف أمراض المسلمين ، فإنهم يعانون من كل نقص ، فعيونهم لا تبصر المرئيات ، وآذانهم لا تسمع الصيحات ، وأنوفهم لا تشم أخبث الرائحات ، إنهم مرضى العقيدة فبدل أن يبحثوا في عقيدتهم عما يصلح حالهم ، يميلون إلى عقائد زائفة  ومرضى في تفكيرهم ، لأنهم يفكرون بعقول غيرهم ، ومرضى في أسماعهم ، يسمعون الخير والشر فلا يميزون بينهما ، ومرضى في أبصارهم لأنهم ينظرون من خلال عيون غيرهم ، ولا يهتدون إلى النور ، ومرضى في أفهامهم لأنهم لا يفهمون الأمور على حقيقتها ، ومرضى بعاداتهم في أفراحهم وأتراحهم ولباسهم ، أمراض تحولت إلى داء مزمن لم يتغـير رغم كل الهزائم والانتكاسات ،  وإذا لم نتعالج من هذه من الأدواء    فإن مصيرنا الفناء المحتوم ، والدهر لا يرحم أحداً لا يرحم نفسه والله لا يكرم الناس لأسمائهم وأجناسهم ، بل يكرمهم لأعمالهم ، وقد قال تعالى : ﴿ ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الرض يرثها عبادي الصالحون ﴾ الأنبياء 105 . فالذي يصلح للأرض هو الذي يرثها ، والذين لا يصلحون لا يرثونها ، وكل الخلق عيال الله ، والله لا يحابي أحدا ولا يجامل أحدا ، ولا يخدع بالخطب ، ولا يغره الكلام ، بل يريد عملاً ليجزي به ﴿ وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون ﴾ التوبة 105 .    

 

 

 

أمة الإسلام لا تموت

إن كل الأمم تعيش مرّة وتموت ، وتندثر وتختفي ، إلا أمة الإسلام قد تنقاد لغيرها فترة من الفترات ، وقد تتبع غيرها ، لكنها لا تموت أبداً

فقد تعرضت الأمة الإسلامية في تاريخها الطويل إلى العديد من المصاعب والقواصم، ولكنها في كل مرة كانت تخرج أقوى مما كانت وقل أن تجد أمة من الأمم واجهت ما واجهته هذه الأمة من النكبات، وبقيت صامدة، جمعوا لها في الأحزاب فانقلبوا صاغرين وجمعوا لها في الحروب الصليبية فاندحروا مقهورين.. وجمعوا لها  التتار فخابوا خاسرين ، أمةٌ لن تموت تحت حراب البغي والعدوان  قد تهدم البيوت، وتدك المدن، وتحطم الممتلكات، وربما يموت الآلاف من أبنائها وشيوخها ونسائها وأطفالها وجنودها، غير أن هذا كله لن يصيب منها مقتلاً، ولن يُسكت لها صوتاً ، أو يجعل منها أثراً بعد عين ، فسرعان ما تجمع أشتاتها وتلملم أنفاسها، وتمسح أحزانها وتداوي جراحها، وتكتم آهاتها كي تنطلق من جديد ، أمة لن يقوى على الإطاحة بها الطاغوت ، بعد أن ثبت عجز أسلافه الذين سبقوه، من صليبيين وحاقدين على مدار التاريخ، فإذا استطاع  الطاغوت أن يشتري  بدولاراته النفوس الضعيفة، أو يسلب عقول التافهين أو يقهر ذوي العزائم الخائرة من أبنائها الساقطين ، أو يصطف خلفه الجبناء الذين احتقروا نفوسهم، وهانت عليهم أعراضهم، وذرات تراب أوطانهم ، فنسوا  أن كل الجرائم والمكائد والمؤامرات والتزوير والتشويه والخيانات والعمالات والنفاق والكذب - كل هذا - يدخل تحت كلمة  ويمكرون في قوله تعالى : ﴿ ويمكر الله والله خير الماكرين ﴾ فالله عز وجل يقابل مكرهم بمكره ﴿ وما قدروا الله حق قدره، والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه، سبحانه وتعالى عما يشركون ﴾ فهذه الأزمات والشدائد والضعف الذي يصيب الأمة لن يميتها أبدًا, فقد حدثنا التاريخ أن الصبر والثبات والحكمة والأناة ، وصلت بهذه الأمة الضعيفة إلى القوة, بل إلى السيادة والريادة.

 فلا يأس فليس اليأس من أخلاق المسلمين, وحقائق اليوم أحلام الأمس, وأحلام اليوم حقائق الغد, وإن القرآن الكريم يحرِّم اليأس والقنوط ويعتبر ذلك كفرًا مرة ، وضلالاً مرة أخرى, ﴿ وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ  إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾ يوسف 87 َ

إنه من العجب أن تقنط أمة تملك من المقدرات والكنوز ما لا يملكه غيرها ، من العجب أن تقنط أمة قال ربها في كتابه : ﴿ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ ﴾ الحجر: 56. لكنها حقيقة مشاهدة وواقع لا ينكر ، هذا الواقع في غياب الأمل ، وضياع الحلم    وانحطاط الهدف ، كارثة حلت على المسلمين ، ومصيبة قد لا يرجى منها نجاة ، واليأس تعاظم في النفوس الواهنة ، والأحداث أكبرتها النفوس الضعيفة ، فخضعت خضوعاً مذلاً ، وركعت ركوعاً مخزياً وخيانات أدت إلى ضياع البلاد والعباد ، وأدت إلى غياب القدرة وفقد الثقة في القيادات التي إن لم تتبع لهذا ، كانت تبعاً لذاك    

ولا زالت عناصر السلامة قوية عظيمة في نفوس الأمة, برغم ما نرى من مظاهر الضعف والفرقة, لكنها أزمات تنتهي وتزول بأمر الله قريبا.

﴿ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا* إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴾ الشرح 5, 6.

 يقول ابن تيمية رحمه الله: "أعظم الكرامة لزوم الاستقامة، وتحابوا فيما بينكم, واحرصوا على رابطتكم, فهي سر قوتكم وفلاحكم، واعتزوا بانتسابكم لأمة حبيبكم محمد صلى الله عليه وسلم وثقوا في وعد الله ونصره" ﴿ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ  يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴾ الروم: 4.

 

 

 الشيخ حسن السباتين

 

الله خلق الأشياء من أجلنا

يا عبادي خلقت الاشياء كلها من اجلكم الارض تقلكم والسماء تظلكم والجهات تـكْتَنِفُكُم والحيوانات تخدمكم والنباتات تنفعكم وخلقتكم من اجلي فكيف تميلون الى غيري وتنسون احساني وبري ، فالواجب على الإنسان شكر هذه النعم ، وألا يشتغل بها عن خدمة خالقها ، جاء في الحديث القدسي : ( يا ابن آدم ، خلقت الأشياء من أجلك ، وخلقتك من أجلي ، فلا تشتغل بما خُلق لأجلك عما خُلقت لأجله ) أما الأشياء كلها عبيدكم وانتم عبيده ، قيل : ( انت مع الاكوان ما لم تشهد المكون فاذا شهدت المكون كانت الاكوان معك ) وفي بعض الكتب المنزلة يقول الله تعالى : ( يا عبدي انما منحتك صفاتي لتعرفني بها فاذا ادعيتها لنفسك سلبتك الولاية ولم اسلبك صفاتي يا عبدي : انت صفتي وانا صفتك فارجع الي ارجع اليك يا عبدي : فيك للعلوم باب مفتاحه انا وفيك للجهل باب مفتاحه انت فاقصد اي البابين شئت ، يا عبدي : قربي منك بقدر بعدك عن نفسك ، وبعدي عنك بقدر قربك من نفسك ، فقد عرفتك الطريق فاترك نفسك تصل إلي في خطرة واحدة ، يا عبدي : كل ما جمعك علي فهو مني ، وكل ما فرقك عني فهو منك ، فجاهد نفسك تصل إلي ، وإني لغنيٌ عن العالمين ، يا عبدي : إن منحتني نفسك رددتها إليك راضية مرضية ، وإن تركتها عندك فهي أعظم بلية ، فهي أعدى الأعادي إليك ، فجاهدها تعُد بالفوائد إليك )

النهي عن التحدّث بكل ما تسمع

نهى الإسلام المسلم عن التكلم بكل ما يسمع   قال تعالى : ﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ﴾  36  سورة الإسراء ، وقال صلى الله عليه وسلم : ( كفى بالمرء إثماً أن يحدِّث بكل ما يسمع ) وفي رواية : ( كفى بالمرء كذباً ) أي إذا تكلمت بكلام لست متأكداً من صحته ، أو أنت متأكد من صحته ، لكنه يوقع الضرر ، ويوقع الفرقة ، ويوقع العداوة والبغضاء بين الناس ، فهذا الكلام على صدقه ، وعلى واقعيته مصنف مع الكذب ، وقال صلى الله عليه وسلم : ( إن الرجل ليتكلّم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما كان يظنُّ أن تبلغ ما بلغت  يكتب الله بها رضوانه إلى يوم يلقاه ، وإن الرجل يتكلم بالكلمة من سخط الله ، ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت ، يكتب الله له بها سُخْطه إلى يوم يلقاه ) صحيح أخرجه مالك والترمذي وصححه الألباني . وقد يتكلم المرءُ فيما هو مباح لا ضرر عليه فيه ولا على مسلمٍ أصلًا، إلا أنه تكلم بما هو مُستغنٍ عنه ولا حاجةَ به إليه، فهو بهذا مضيعٌ به زمانه، وهو محاسبٌ على عملِ لسانهِ، ومستبدلٌ الذي هو أدنى بالذي هو خير؛ لأنه لو صرف زمان الكلام إلى الفكر؛ ربما كان ينفتح له من نفحات رحمات الله عند الفكر ما يعظم جدواه  ولو هلل الله سبحانه وذكره وسبحه لكان خيرًا له فكم من كلمةٍ يبنى بها قصرًا في الجنة، واللسان شبكةٌ يقدر أن يقتنصَ بها الحور، فإهماله ذلك وتضييعه خسرانٌ مبين، ومن قَدَرَ على أن يأخذَ كنزًا من الكنوز فأخذ مكانه مدرًا أو حجارةً لا ينتفعُ بها كان خاسرًا خسرانًا مبينًا. صلاح الأمة في علو الهمة للدكتور العفاني . عن مجاهد قال: " سمعت ابن عباس -رضي الله عنهما- يقول: خمس لهن أحسن من الدُّهْم الموقوفة - الخيل ما بين الأشقر والأسود - : لا تتكلم فيما لا يعنيك؛ فإنه فَضْل ، ولا آمن عليك الوِزر، ولا تتكلم فيما يعنيك؛ حتى تجد له موضعًا، فإنه رُبَّ مُتكلمٍ في أمر يعنيه ، قد وضعه في غير موضعه فيعنت، ولا تُمار حليمًا ولا سفيهًا، فإنَّ الحليم يَقليك -أي يبغضك- وإنَّ السفيهَ يؤذيك، واذكر أخاك إذا تغيَّبَ عنك بما تحب أن يذكرُك به، وأعفه مما تحب أن يُعفيّك منه، واعمل عَمَلَ رجل يرى أنه يجازى بالإحسان وانه مأخوذ بالإجرام " ، وما أحسن كلام الإمام ابن حجر العسقلاني حين قال : "إنَّ الذي يتصدَّى لضبط الوقائع من الأقوال والأفعال والرجال: يلزمه التحري في النقل فلا يجزم إلاَّ بما يتحقَّقه، ولا يكتفي بالقول الشائع ولا سيَّما إن ترتب على ذلك مفسدة من الطعن في حق أحد من أهل العلم والصلاح" وقد نقل الإمام ابن تيمية رحمة الله عليه مقولة جميلة فقال: "وقيل: إنما يفسد الناس نصف متكلم ، ونصف فقيه ، ونصف نحوي ونصف طبيب ، هذا يفسد الأديان ، وهذا يفسد البلدان ، وهذا يفسد اللسان وهذا يفسد الأبدان " وقال علي ابن أبي طالب رضي الله عنه : " ليس كل ما يُعْرَف يُقال، وليس كل ما يُقال حَضَرَ أهلُه  وليس كل ما حَضَرَ أهلُهُ حان وقته، وليس كل ما حان وقته صَحَّ قوله " عن أم حبيبة قالت  : قال رسول لله صلى الله عليه وسلم : ( كل كلام ابن آدم عليه لا له ، إلا أمرٌ بمعروف ، أو نهيٌ عن منكر ، أو ذكر الله ) صححه الألباني في صحيح الترمذي وابن ماجة .   

الشقي من جعل الدنيا أكبر همه

 قال تعالى : ﴿ وما الحياة الدنيا الا لعب ولهو ﴾ الانعام ،  وقال : ﴿ انما الحياة الدنيا لعب ولهو ﴾ محمد ، وقال : ﴿ اعلموا انما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة ﴾الحديد ، فما الدنيا وزينتها ومباهجها وقصورها ومناصبها ومن شغلوا فيها باللعبٌ واللهو والتفاخر ، هذا لا يساوي شيئاً ، عن قضية الإيمان والعمل الصالح .

خرج علي بن المأمون، ابن الخليفة العباسي المأمون، إلى شرفة من شرفات القصر ذات يوم، ينظر إلى سوق بغداد ، والناس في السوق، هذا يذهب، وهذا يأتي، هذا يبيع، وهذا يشتري ، لفت نظر الأمير رجل من الناس، يعمل حمّالاً بالأجرة، وكان يظهر عليه الصلاح والنسك، حباله على كتفيه، والحمل على ظهره، ينقل الحمولة من دكان إلى دكان، ومن مكان إلى مكان ، فأخذ الأمير يتابع حركاته في السوق فكان هذا الحمَّال إذا انتصف الضحى، ترك السوق، وخرج إلى ضفاف دجلة فتوضأ وصلى ركعتين، ورفع يديه إلى الحي القيوم ، أخذ الأمير ينظر إلى هذا الرجل، فكان إذا صلى الضحى، عاد إلى عمله، فعمل حتى قبيل الظهر، ثم اشترى خبزة جافة بدرهم، فيأخذها إلى نهر دجلة، فيأتي إلى النهر، فيبلّ كسرة الخبز بالماء ويأكلها، ثم يشرب من الماء، ويحمد الله - عزَّ وجلَّ - ثم يتوضأ لصلاة الظهر فإذا صلى، جلس فدعا الله - عزَّ وجلَّ - وابتهل وبكى، وناجى الحي القيوم، ثم ينام ساعة، وبعد النوم ينزل إلى السوق، فيعمل ويجتهد، ثم يشتري خبزاً ويذهب إلى بيته ، وفي اليوم الثاني يعود إلى نفس العمل وهكذا في اليوم الثالث والرابع   فتعجب الأمير من ذاك الرجل وأصرّ على أن يعرف قصته، فأرسل جنديّاً من جنوده إليه؛ ليستدعيه إلى القصر فذهب الجندي، واستدعى الحمَّال، فقال الحمَّال: ما لي وملوك بني العباس، ليس بيني وبين الخلفاء صلة، ليست لي قضية ولا مشكلة، ولا مهمة، إن أشكل عليّ شيء رفعته إلى الحي القيوم، إن جعت أشبعني الله، وإن ظمئت سقاني الله، ما عندي دار، ولا عقار، ولا أرض، فقال الجندي: أَمْرُ الأمير، لابد أن تحضر اليوم في قصر أمير المؤمنين. فظن المسكين أن الأمير سوف يحاسبه أو يحاكمه، فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل!! وهذه الكلمة سلاح الفقراء والمساكين، سلاح المظلومين والمضطهدين، بها تتكسر رؤوس الطغاة وتتحطم عروش الجبابرة، وتسحق قلاع الظالمين.

 دخل الفقير على ابن المأمون الأمير، فسلم عليه.

قال الأمير: أما تعرفني.

قال الحمَّال: ما أتيتك، وما رأيتك حتى أعرفك!!

قال الأمير: أنا ابن الخليفة.

قال الحمَّال: يقولون ذلك!!

قال الأمير: ماذا تعمل؟

قال الحمَّال: أعمل مع عباد الله، في بلاد الله!!

قال الأمير: قد رأيتك أياماً، ورأيت ما أنت فيه من مشقة وعناء، وإني أريد أن أخفف عنك ، قال الحمَّال: وكيف ذلك؟

قال الأمير: ائتِ بأهلك، واسكن معي القصر، آكلاً، شارباً، مستريحاً، لا همّ، لا غمّ، لا حزن ، قال الحمَّال: يا ابن الخليفة، لا همّ على من لم يذنب، ولا غمّ على من لم يعصِ   ولا حَزَن على من لم يسئ!! أما من أمسى في غضب الله، وأصبح في معصية الله فهو في الغم والهم والحزن.

فقال له الأمير: وهل عندك أهل؟

قال الحمَّال: أمي عجوز، وأختي عمياء، آتي بإفطارهما قبل الغروب، فهما تصومان كل يوم، فنفطر جميعاً ثم ننام بعد العشاء.

قال الأمير: فمتى تستيقظ؟ قال الحمَّال: إذا نزل الحي القيوم إلى سماء الدنيا، في الثلث الأخير من الليل!! قال الأمير: وهل عليك دين؟

قال الحمَّال: ذنوب سلفت بيني وبين الحيّ القيوم.

قال الأمير: ألا تريد أن تسكن معي القصر؟

قال الحمَّال: لا والله ، قال الأمير: ولم؟

قال الحمَّال: أخاف أن يقسو قلبي، وأن يضيع ديني.

قال الأمير: أتفضِّل أن تكون حمالاً جائعاً عارياً، ولا تكون معي في القصر؟!

قال الحمَّال: إي والله!! ثم تركه الحمَّال وانصرف، فأخذ الأمير يتأمل، وينظر إليه وهو مشدوه، فقد أعطاه درساً عمليّاً في الإيمان والتوكل على الله، أملى عليه دروساً في التوحيد والعبودية، ألقى عليه كلمات نفذت إلى قلبه، فأخذ يتابعه بطرفه، حتى اختفى عنه . وفي ذات ليلة، استفاق الأمير من غفلته، وأفاق من غيبوبته وصحا من نومه، وعلم أنه كان في سبات عميق، ونوم طويل، وأن الوقت قد حان للتوبة والتشمير. فاستيقظ الأمير وسط الليل، وقال لخدامه: إني ذاهب إلى مكان بعيد، فإذا أتى بعد ثلاثة أيام، فأخبروا والدي أني ذهبت، فسوف ألتقي أنا وإياه يوم العرض الأكبر. خرج الأمير في ظلام الليل، خلع ثيابه الفاخرة، ولبس لباس الفقير، ذهب واختفى ولم يعلم أحد أين ذهب.

يقول أهل التاريخ: ركب إلى واسط، وغيّر هيئته، وصار مسكيناً من المساكين، وعمل أجيراً مع تاجرٍ من تجار الآجر، يعمل في صنع الطوب والطين والبناء.

أصبح ابن الخليفة صوَّاماً، قواماً، ذاكراً لله - تبارك وتعالى - له أوراد في الصباح والمساء، يحفظ القرآن، يصوم في شدة الهجير، يقوم الليل، يتَّصل بالحي القيوم، ليس عنده من المال إلا ما يكفيه يوماً واحداً. ذهب همه وغمه وكربه وحزنه، ذهب عنه العجب والكبر والخيلاء والغرور.

﴿ أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ الأنعام: 122

ثم جاءت سكرة الموت بالحق، أتته الوفاة على هذه الحال، فأخبر التاجر أنه ابن الخليفة المأمون، وأوصاه إذا مات، أن يغسله، ويكفنه، ويدفنه، ثم أعطاه خاتمه ليسلمه إلى المأمون بعد وفاته.

ومات الأمير، فغسله الرجل، وكفنه، وصلى عليه، ودفنه، ثم ذهب بالخاتم إلى المأمون، فلما رأى المأمون الخاتم شهق وبكى حتى ارتفع صوته، ثم سأل التاجر عنه: وماذا كان يفعل؟ فأخبره التاجر أنه كان عابداً، ناسكاً، أواباً، ذاكراً لله تعالى، ثم أخبره بموته، فضجّ الخليفة والوزراء، وارتفعت أصواتهم بالبكاء والنحيب، وأيقنوا أن الأمير قد عرف طريق السعادة، وطريق النجاة يوم القيامة.

لكنهم ما مشوا معه في الطريق، وما أنابوا إلى الله كما أناب؛ ﴿ فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء ﴾ الأنعام: 125.  هذه قصة من قصص التائبين ذكرها أهل التأريخ في كتبهم، وأثبتوها، وحفظوها، ونقلت إلينا، لنعتبر بها، ولنتعظ بغيرنا.

﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى ﴾ يوسف: 111، فهل من متدبر، وهل من عاقل يعلم أن السعادة في التذلل لله، في السجود لله، في تلاوة كتاب الله، في ذكر الله، في الالتجاء إلى الله، فوالله ليست السعادة في الدور، ولا في القصور، ولا في الأموال، ولا في الحدائق، وإنما السعادة الحقيقية في طاعة الله الواحد الأحد ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فُيصبغ في النار صَبغةً ، ثم يقال: يا ابن آدم هل رأيت خيراً قطُّ؟ هل مرّ بك نعيمٌ قطُّ؟ فيقول: لا والله يا رب!! ويؤتى بأشدّ الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة، فُيصبَغ صَبغةً في الجنة، فيقال له: يا ابن آدم، هل رأيت بؤساً قطُّ؟ هل مرَّ بك شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب! ما مرّ بي بؤسٌ قطُّ، ولا رأيتُ شدة قطُّ) . فكم من نعيم للمساكين عند الله، وكم من سعادة للعارفين بالله، وكم من شقاوة لمن جعل الدنيا همّه، وقدَّم المعاصي والشهوات على طاعة ربه، فسوف يبكي ويندم، ولات حين مندم؛ ﴿ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ﴾ الأنعام: 94 .

 

حرب التطور والموضة

يتعرض شباب المسلمين ذكوراً وإناثا إلى حرب ، ليست ميدانية، بل هي حرب من أشد الحروب الفكرية والعقائدية؛ بهدف إخراج الشاب المسلم عن قيمه ومبادئه وأخلاقه ، تحت اسم التطور والموضة؛ مما جعل الشباب يهتمون بالمظهر لا بالمخبر، وبالموضات لا بالحياء والإيمانيات؛ مما ينذر بخطر كبير على الإيمان والأخلاق والعقيدة والعفة والحياء والفضيلة ، فقد ظهرت موضات غريبة ، وبدأت تزيد وتنتشر بشكل عجيب مثل قصات الشعر العجيبة ، كمن يحلق بعض رأسه ويترك بعضه ، أو يحلق بعض رأسه من أسفل ويجعل الباقي على شكل دائرة ، إضافة إلى القزع والخنافس، وحدث ولا حرج عن القصات الأكثر غرابة التي يشملها النهي والحرمة، وقد جاءت الأحاديث النبوية محذرة ومبينة حرمة ذلك، فقد أخرج الشيخان عن نافع عن عمر رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله عن القزع، فقيل لنافع رضي الله عنه: وما القزع؟ قال: يحلق بعض رأس الصبي ويترك بعضه. وفي سنن أبي داود أن الحجاج بن حسان قال: دخلنا على أنس بن مالك رضي الله عنه فحدثني أختي المغيرة فقالت: وأنت يومئذ غلام ولك قرنان أو قصتان، فمسح رأسك وبرك عليك وقال: احلقوا هذين أو قصوهما فإن هذا زي اليهود.

فما يُشَاهدُ من فعل الشباب لهو من القزع الذي نُهي المسلم عن فعله، وقد أجمع كثير من أهل العلم على حرمته لقوله صلى الله عليه وسلم : (احلقوه كله أو اتركوه كله). وذكر الإمام ابن حجر رحمه الله في كتابه فتح الباري أن أبا داود روى أن رسول الله قال: (القزع من زي اليهود) ، وجاء في شرح الإقناع : يدخل في القزع حلق مواضع من جوانب الرأس ، أو أن يحلق وسطه ويترك جوانبه كما تفعله عامة النصارى ، أو حلق جوانبه وترك وسطه ، كما يفعله كثير من السفهاء أو أن يحلق مقدمه ويترك مؤخره ، وسئل أحمد عن حلق القفا فقال : ( هو من فعل المجوس ومن تشبه بقوم فهو منهم ) ، وبهذا يعلم أنه لا يجوز ترك بعض شعر الرأس أطول من بعض .

وجاء النهي عن ذلك لما فيه من التشبه بالشيطان، وقيل: هو زي أهل الشر والدعارة ، وما دام الأمر كذلك فإن الواجب على شبابنا أن يتخلق بأخلاق أهل الإسلام، وأن لا يقلدوا الأجانب بمظاهرهم وقصاتهم التي لا تتفق مع تعاليم الإسلام ، ومن الظواهر كذلك التي انتشرت وظهرت عند بعض الشباب وتأثروا بها ، لبس أنواع من الملابس الغربية التي لم يعهدها المسلمون من قبل ، وقد جاء النهيٌ عن تقليدهم ، وذم من اتبعهم وسلك مسلكهم ، وأكد الشرع هذا النهي وذلك بوصف من يتشبه بالكفار بأنه منهم . عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من تشبّه بقوم فهو منهم ) رواه أبو داود وصححه الشيخ الألباني في " إرواء الغليل " وجاء النهي عن أي شيء يجعل الشعوب الإسلامية تسرع إلى تقليد أحدث الأزياء وابدع الرقصات ، وتجيد قواعد الاتيكيت والاجتماعات العامة ، وتنشء الأبنية والمتنزهات ، على نسق يشبه النسق الغربي أو يدانيه ، وتفشل في نقل روح الإبداع الصناعي والنشاط التجاري ، وعجائب الفن الحربي والدهاء السياسي والنظام الاقتصادي ، ورفض ما ساق الله الينا من خير ، وما احتكمنا إلى ديننا فيما ينبغي أن نأخذ أو ندع ، وأساس ظاهرة التشبه التي تأججت نارها ولم تهدأ بعد ، تعود في الأساس إلى قلة الوعي الفكري والديني الذي سرى في عامة الأمة ، ونمط هذه الظاهرة تقليد المغلوب للغالب ، وهو كما وصفه المؤرخ ابن خلدون بأن المغلوب مولع بتقليد الغالب ، فنرى أن الكثير من الناس وبخاصة فئة الشباب في هذا الزمان قد استحوذت أنماط الحياة الغربية عليها ، وما فتئت تحاكيها وتتأثر بها في المأكل والمشرب والملبس والمظهر والعادات ، ناهيك عن التطبيقات الحياتية والسياسية والاجتماعية الأخرى ، وهذا تصديق للحديث الشريف: ﴿ لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه ﴾ . والمقلِّد للكفار يشعر بعقدة النقص ، ويتحلى بالانهزامية والتردي ، لذا يسارع إلى سد نقصه بتقليد من يعظمه ، ولو وقف هؤلاء على عظمة تشريعات الإسلام ، وعرفوا فساد تلك الحضارة التي يركضون خلفها لعلموا أنهم على خطأ ، وأنهم تركوا ما هو كمال وحق إلى ما هو نقص وفساد . حتى كاد تقليد أبنائنا للغرب أن يصبح ظاهرة مرضية، فاتبعوا الغرب في ملابسهم، وقصات شعورهم، وحركاتهم وطريقة تصرفاتهم في الأكل والشرب والمشي، فاتجهوا إلى الوجبات السريعة، ومشروبات الطاقة ولم يعد يعجبهم طعام البيت، أو أفكار الأهل، واتخذوا من الموسيقى الغربية والرقص الغربي ملاذاً لهم وهروباً من الواقع، فنجد الشاب يمشي دون هوادة، والسماعات في أذنيه .

إن ما نراه من المحاكاة للغرب في اللباس والمجون ، لهو من الغزو الفكري والأخلاقي ، الذي لا يمت إلى أخلاق المسلمين ، ولقد قلد كثير من نساء المسلمين نساء الغرب في اللباس، فكان دليلهن مجلات الأزياء التي صممت في تلك البلاد الكافرة، حتى رأينا أنماطا كثيرة من ثياب النساء المليئة بالمخالفات الشرعية ، حتى نسيت المرأة جوهرها وقيمتها ولم تتذكر سوى شكلها . إذ لا يجوز لها أن تلبس الملابس الضيقة التي تحدِّد العورة ، أو الملابس الشفافة الرقيقة التي تشف عن العورة ولا تسترها ، أو الملابس القصيرة التي لا تغطي الصدر أو الذراعين أو الرقبة أو الرأس أو الوجه والله أعلم .

 

أمة الإسلام لا تموت

إن كل الأمم تعيش مرّة وتموت ، وتندثر وتختفي ، إلا أمة الإسلام قد تنقاد لغيرها فترة من الفترات ، وقد تتبع غيرها ، لكنها لا تموت أبداً فقد تعرضت الأمة الإسلامية في تاريخها الطويل إلى العديد من المصاعب والقواصم، ولكنها في كل مرة كانت تخرج أقوى مما كانت وقل أن تجد أمة من الأمم واجهت ما واجهته هذه الأمة من النكبات، وبقيت صامدة، جمعوا لها في الأحزاب فانقلبوا صاغرين وجمعوا لها في الحروب الصليبية فاندحروا مقهورين.. وجمعوا لها  التتار فخابوا خاسرين ، أمةٌ لن تموت تحت حراب البغي والعدوان  قد تهدم البيوت، وتدك المدن، وتحطم الممتلكات، وربما يموت الآلاف من أبنائها وشيوخها ونسائها وأطفالها وجنودها، غير أن هذا كله لن يصيب منها مقتلاً، ولن يُسكت لها صوتاً ، أو يجعل منها أثراً بعد عين ، فسرعان ما تجمع أشتاتها وتلملم أنفاسها، وتمسح أحزانها وتداوي جراحها، وتكتم آهاتها كي تنطلق من جديد ، أمة لن يقوى على الإطاحة بها الطاغوت ، بعد أن ثبت عجز أسلافه الذين سبقوه، من صليبيين وحاقدين على مدار التاريخ، فإذا استطاع  الطاغوت أن يشتري  بدولاراته النفوس الضعيفة، أو يسلب عقول التافهين أو يقهر ذوي العزائم الخائرة من أبنائها الساقطين ، أو يصطف خلفه الجبناء الذين احتقروا نفوسهم، وهانت عليهم أعراضهم، وذرات تراب أوطانهم ، فنسوا  أن كل الجرائم والمكائد والمؤامرات والتزوير والتشويه والخيانات والعمالات والنفاق والكذب - كل هذا - يدخل تحت كلمة  ويمكرون في قوله تعالى : ﴿ ويمكر الله والله خير الماكرين ﴾ فالله عز وجل يقابل مكرهم بمكره ﴿ وما قدروا الله حق قدره، والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه، سبحانه وتعالى عما يشركون ﴾ فهذه الأزمات والشدائد والضعف الذي يصيب الأمة لن يميتها أبدًا, فقد حدثنا التاريخ أن الصبر والثبات والحكمة والأناة ، وصلت بهذه الأمة الضعيفة إلى القوة, بل إلى السيادة والريادة.

 فلا يأس فليس اليأس من أخلاق المسلمين, وحقائق اليوم أحلام الأمس, وأحلام اليوم حقائق الغد, وإن القرآن الكريم يحرِّم اليأس والقنوط ويعتبر ذلك كفرًا مرة ، وضلالاً مرة أخرى, ﴿ وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ  إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾ يوسف 87 َ

إنه من العجب أن تقنط أمة تملك من المقدرات والكنوز ما لا يملكه غيرها ، من العجب أن تقنط أمة قال ربها في كتابه : ﴿ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ ﴾ الحجر: 56. لكنها حقيقة مشاهدة وواقع لا ينكر ، هذا الواقع في غياب الأمل ، وضياع الحلم    وانحطاط الهدف ، كارثة حلت على المسلمين ، ومصيبة قد لا يرجى منها نجاة ، واليأس تعاظم في النفوس الواهنة ، والأحداث أكبرتها النفوس الضعيفة ، فخضعت خضوعاً مذلاً ، وركعت ركوعاً مخزياً وخيانات أدت إلى ضياع البلاد والعباد ، وأدت إلى غياب القدرة وفقد الثقة في القيادات التي إن لم تتبع لهذا ، كانت تبعاً لذاك    

ولا زالت عناصر السلامة قوية عظيمة في نفوس الأمة, برغم ما نرى من مظاهر الضعف والفرقة, لكنها أزمات تنتهي وتزول بأمر الله قريبا.

﴿ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا* إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ﴾ الشرح 5, 6.  يقول ابن تيمية رحمه الله: "أعظم الكرامة لزوم الاستقامة، وتحابوا فيما بينكم, واحرصوا على رابطتكم, فهي سر قوتكم وفلاحكم، واعتزوا بانتسابكم لأمة حبيبكم محمد صلى الله عليه وسلم وثقوا في وعد الله ونصره" ﴿ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ  يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴾ الروم: 4.

 

 

شرُّ بقاع الأرض

قال صلى الله عليه وسلم : ﴿ أحب البلاد إلى الله مساجدها وأبغض البلاد إلى الله أسواقها ﴾ أخرجه مسلم ، لأن الأسواق محل الغش والغفلة ، والطمع والفتنة ، والأيمان الكاذبة ، والأغراض الفانية ، لذا حذَّر منها المصطفى صلى الله عليه وسلم ؛ كيف هي اليوم وقد زاد شَرُّها  وعمَّ بلاؤها ، ونالت نصيبا وافراً من الفساد والإفساد ، فإذا تأملت ما يدور في الأسواق علِمتَ سبب بغض الله تعالى لها ، من كثرة ما يحدث فيها من سهوٍ ولهوٍ وغفلة ، ولغو وتدليس وتلبيس ، وكذب وزور ، وتَهتُّك وسفور  وفواحش وفجور ، فالغفلة فيها مُتَحَكِّمة ، والزلة متمكِّنة ، هي ميدانٌ نَصَبَ الشيطان فيها رايته ، وهو بساطه المحبب ومجلسه المقرَّب ؛ لكثرة طائعيه فيه ، وقِلَّة مخالفيه روي عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تَكُونَنَّ إن استطعت أولَ مَن يَدخُلِ السوق ، ولا آخر مَن يخرجُ منها فإنها معركةُ الشيطان وقد نصب رايته ) . فمن هو خصم الشيطان في هذه المعركة ؟! ومن هم جنوده وأعوانه ؟ إن خصمه الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، الحافظون لعورات المسلمين  والمحاربون لأهل الفسق والفواحش ، ودعاة الرذيلة ، وأمَّا جنوده وأعوانه ، فتياتٌ بلا حاجة ولا هدف ، عِطرٌ فائح ، ومفاتنٌ وفضائح ، لابسات للبنطال المجسم لمفاتنهن  لا يسلمن من الذئاب البشرية ، بل الكلاب الشيطانية التي تحوم في الأسواق لتنهش سترهن وعفافهن ، بمخالبها المهلكة وأنيابها المردية ، ومما يحز في النفس ذاك الذي يمشي مع زوجته أو أخته ، وقد كشفت عن بعض جسدها ، في ملبوساتٍ مخزية   وقد خَبَت غيرته ، وتَدنَّت رُجُولتهُ ، وفقد قِوامته وقد صدق فيه القائل :

وذو الدناءة لو مَزَّقتَ جِلدتهُ   بشفرةِ الضَّيمِ لم يَحسِس لها ألماً

وهنا سؤال : ما هو المطلوب ؟ في الأسواق ينبغي غضُّ البصر عن النظر إلى ما حرَّم الله ؛ فإنَّ النظرة الخائنة تؤثر في القلبِ وتحرقهُ كما تحرق النار الهشيم ، في كل وادٍ يهيم  بسبب النظرة  الآثمة ، من طرفٍ خفي ، كَسَهمٍ خاطفٍ جَلَبَ للقلب العطَبُ وللنَّفسِ التعب ، وإن حاول غَضَّ بَصَره من بعد إطلاقه ؛ عاد إليه قَلبه وقد أحرقه العِشقُ الحرام ، والهوى والغرام ، لذا على من دخل السوق أن يراقب نَظَرَه ، لأن الله يراقبه وينظرُ إليه ، ولا يَخفى عليه شيء  ﴿ قل للمؤمنين يغضُّوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبيرٌ بما يصنعون* وقل للمؤمنات يَغضُّضنَ من أبصارهنَّ ويحفظنَ فروجهُنّ ﴾ النور30. جاء عن جَرير بن عبد الله رضي الله عنه قال : قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نَظَرِ الفُجاءة ، فأمرني أن أصرف بصري . وعن بُريدةَ رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يا علي لا تُتبِعِ النظرةَ النظرة ، فإن لك الأولى ، وليست لك الثانية )  .

وليعلم سُرَّاق الأعراض ، ومن يتحرش بالبنات والنساء ، ويتعرَّضَ لهنَّ بالأذى والوقيعة  أنَّ انتهاك الأعراض من أعظم الغي الذي يُعجِّلُ الله عُقوُبته في الدنيا مع ما يَدَّخِرُهُ لصاحبه من العذاب والعقاب يوم الحساب .   

إن الأسواقَ موطن الغفلة ومكان الزَّلة ، فلا تكاد تجدُ لله ذاكراً بين جموع الغافلين  فمَن وصل قلبه بربه وتذكَّرَ مولاه ، ولم يغفل عن ذكره وشكره في مكانٍ اشتدَّت به الغفلة ثوابه عند الله عظيم ، لأن الناس مهتمُّون بِدُنياهم ، وهو مهتم بدينه ، والخلق مشغولون بأنفسهم وهو مشتغلٌ بربه ، والعباد يذكرون ما يشتهون ، وهو ذاكرٌ شاكرٌ لرب العالمين ، قال مالك بلغني أن رسول الله كان يقول ذاكر الله في الغافلين كالمقاتل خلف الفارين, وذاكر الله في الغافلين كغصن أخضر في شجر يابس" وفي رواية " مثل الشجرة الخضراء في وسط الشجر, وذاكر الله في الغافلين مثل مصباح في بيت مظلم وذاكر الله في الغافلين يريه الله مقعده في الجنة وهو حي , وذاكر الله في الغافلين يغفر له بعدد كل فصيح وأعجم ، والفصيح بنو آدم والأعجم البهائم.) اخرجة الطبراني في المعجم الكبير.

 

 

  نصيحة لعلماء السلاطين  

أيها العلماء ! كفى تدليساً وتبريراً لأعمال المتحكمين ، فلا تكونوا جنوداً لفراعنة العصر ، فقد نهى الله الركون إليهم في قوله تعالى : ﴿ ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله أولياء ثم لا تنصرون ﴾ فلأمثال هؤلاء حذرنا صلى الله عليه وسلم من: ( أمراء يكونون من بعدي فمن غشي أبوابهم فصدقهم في كذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه ولا يرد علي الحوض، ومن غشي أبوابهم أو لم يغش فلم يصدقهم في كذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه وسيرد علي الحوض ) قال الألباني حسن صحيح ، وقال صلى الله عليه وسلم:( صنفان من أمتي لن تنالهما شفاعتي، إمام ظلوم غشوم، وكل غال مارق) (السلسلة الصحيحة). وقوله صلى الله عليه وسلم : ( من أعان ظالماً ليدحض بباطله حقاً فقد برئت منه ذمة الله ورسوله ) الجامع الصغير بسند صحيح .   

أما علمتم أن القرآن اهتم بالحديث عن النفاق والمنافقين اهتماماً بالغاً ، حتى قال بن القيم –رحمه الله- " كاد القرآن أن يكون كله في شأنهم ، وذلك لكثرتهم ، وعموم الابتلاء بهم ، وشدة فتنتهم ، وبليتهم على الاسلام وأهله " ، كما اهتم القرآن بذكر أوصاف المنافقين والتحذير منهم ،  لخطورتهم  وضخامة الدور الذى يقومون به في التأثير على الأمة . فعلماء السوء لا يخلو منهم زمان ولا مكان ، قال ابن القيم -رحمه الله-  معللاً ذكرهم في القرءان " واعلم أنه كلما انقرض منهم طوائف خلفهم أمثالهم ، فذكر سبحانه أوصافهم لأوليائه ليكونوا منهم على حذر " ولما كان أهل النفاق أرباب خداع ومكر .. تراهم  يظهرون للناس في هيئة حسنة .. يتعممون بعمائم العلم والورع ويلبسون لباس التعبد والتقى .. ويتكلمون بمعسول الكلام وفصيح الخطاب كما قال سبحانه : ﴿ وان يقولوا تسمع لقولهم ﴾ وهم في الحقيقة من أخبث الناس قلوبا وأضعفهم جنانا ، ولذك خاف صلى الله عليه وسلم على أمته من المنافق ذو الفصاحة والبيان فقال : ( إن أخوف ما اخاف عليكم بعدى : منافقٌ عليم اللسان ) ، قال المناوي في التفسير : أي : كثير علم اللسان ، جاهل القلب والعمل ، اتخذ العلم حرفة يتأكل بها وأبهة يتعزز بها ، يدعو الناس الى الله ويفر منه .

جرت سنة الله تعالى في المنافقين أن يهتك سترهم ويكشف عما تكن صدورهم قال سبحانه متوعداً ﴿ أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم ﴾ قال ابن كثير رحمه الله : " أي : أيعتقد المنافقون أن الله لا يكشف أمرهم لعباده ، بل سيوضح أمرهم ويجليه حتى يفهمهم ذو البصائر " ، وقال الطبري في تفسيره لقوله تعالى : ﴿ ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول ﴾ فلتعرفنهم بعلامات النفاق الظاهرة منهم في فحوى كلامهم وظاهر أفعالهم "

 ومن صفات علماء السلطان وشيوخ الضلالة أنهم يتمتعون ببلادة منقطعة النظير  ففي الوقت الذى يكون فيه الصراع بين الحق والباطل على أشده تجدهم يرتاحون بالجلوس في بيوتهم ، لا يؤنبهم الضمير ، ولا يحز في نفوسهم التخلف عن نصرة الحق  ولا تحركهم الدماء التي تسيل ليلا ونهارا ، فهم طلاب سلامة ، حسبهم من التدين ما لا يثير المشاكل ، وما لا يزعج حكامهم وأولياء نعمتهم ، وصدق فيهم قول الله ﴿ رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون ﴾ .

 ومن أقبح صفات علماء السوء هي قدرتهم على لي أعناق الأحكام الشرعية واصدار الفتاوى بما يتناسب مع المواقف السياسية للحكام ، وحشر أدلة القرآن والسنة التي ليس لها أي علاقة بما يتحدثون عنه . فلا تكاد تجد عالما يتزلف للحكام والسلاطين عنده ورع أو أدنى حرج من قبول الهدايا والرشاوى ، بل ويستعملون نفوذهم ومناصبهم في الحصول على المال الحرام بأي سبيل.. يأتون المناصب فقراء ويتركونها وقد امتلكوا الملايين والقصور وكونوا ثروة توجب المساءلة .

 فلماذا لا يدافعون عن العلماء المسجونين ظلما بدلاً من الدفاع عن الظلمة ، ولماذا يبرروا ظلم الحاكم وإن أخذ المال وضرب الظهر ، إن الاستدلال بالأحاديث النبوية بالصبر على جور الأئمة حتى وإن أخذ المال وضرب الظهر لا تعني الصبر على جور الأئمة ، والقول بهذا إعانة لهم على الظلم والفسق والفجور ،  وقد روى ابن حزم أن الصبر على أخذ المال وضرب الظهر ، إن كان الأخذ على حق ، أما أخذ المال بغير حق ، فإن الله لا يأمر بالصبر على جور ، لأن الله نهى عن الإثم والعدوان وعدم منع أخذ المال مع القدرة عليه ، معاونة للظالم على ظلمه والله ينهى عنه ، روى مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: ( لكل غادر لواء يوم القيامة يرفع له بقدر غدره، ألا ولا غادر أعظم من أمير عامة ) ، فالإمام الجائر الغادر يتلون تلون الحرباء حتى يلبس على الناس دينهم، فيتوارى خلف الكلام المعسول والمصطلحات المنمقة البراقة والثياب الفاخرة والجمع الكثير، واللسان الحاني على الشعب قال تعالى في سورة الصافات ﴿ احشروا الذين ظلموا وأزواجهم ﴾ أي أمثالهم .

 

 أسباب بقاء الأمم وهلاكها 

أرشد الله عباده إلى توحيده، واتباع أمره؛ فإن أطاعوه كانت لهم السعادة في الدنيا والآخرة، وإن خالفوه وعصوا أمره سلط الله عليهم بأسه ، فلا لوم عندها إلا على الإنسان نفسه، قال الله تعالى: ﴿ بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ . وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ﴾ القيامة:14.

إن من سنن الله الكونية على مدار التاريخ أن مكّن لكل الأمم في أرضه فجعلها مشتركة في توافر أسباب البقاء والاستمرار، وجعل لذلك مقومات ومبادئ، فكان من الأمم من عمل بشيء من هذه المقومات وأغفل مقومات أخرى، فتفاوتت فترات استمرار الأمم وفق ذلك. ومن رحمة الله بالأمة المحمدية أن جعلها آخر الأمم لتستفيد من تجارب الأمم السابقة، وتتعرف على أسباب هلاكها وانهيارها؛ لتتجنب هذه الأسباب ولتكون بذلك بعيدة عما يؤدي بها إلى غضب الله وسخطه. وتتمثل الأسباب المؤدية إلى النجاة من سخط الله في طاعته تعالى، واتباع سنة نبيه، واجتناب المعاصي التي تؤدي إلى تقويض المجتمعات من ربا وزنا وغيرها. ومن أهم أسباب بقاء الأمم عدم الركون إلى الظلمة: ﴿ وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ ﴾ هود:113. الركون يعني الميل والسكون والمودة والرحمة  وكذلك المجاملة وإعانة الظالم على ظلمه ، وأن تزين للناس فعل الظالم . إن آفة الدنيا الركون للظالمين ، لأن الركون إليهم يشجعهم على التمادي في الظلم ، وأدني مراتب الركون إلى الظالم ألا تمنعه من ظلم غيره ، وأعلى المراتب أن تزين له ظلمه ، وتزين للناس هذا الظلم ، وحين تركن إلى الظالم تكون معادياً لمنهج الله ، فيتخلى الله عنك ولا ينصرك ، لأنه لا ولي ولا ناصر إلا الله ، وها نحن نرى أن الأمة ركنت إلى الظلمة منها ومن عدوها ، وإننا لتعجب عندما نرى ونسمع أن الأمة تركض وراء قتلتها، فالحاكم والمعارض ينتظر ما تقول أمريكا، وما يقول الاتحاد الأوروبي: ﴿ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ ﴾ الحشر:19. وإذا نزلت بالأمة مصيبة فأنزلوها بالعباد ، لذا أوشك الله تبارك وتعالى أن يمدهم بالعذاب ولا يرتفع عنهم، وإذا أنزلوها بالله تبارك وتعالى أوشك الله سبحانه أن يرفعها؛ لأن الأمور بيده تبارك وتعالى، فالنجاة ألا نركن إلى الكفرة وإلى الظلمة، وإلى الأعداء، الذين استحلوا أرضنا وديارنا ، لأنهم لن يحبونا ولن يرضوا عنا إلا إذا تخلينا عن ديننا ﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ﴾ البقرة  120 . فالحذر أن ترى الظلم وتسكت ، ففي البخاري عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ( مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا أرادوا أن يستقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ من فوقنا؛ فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا ). وفي هذا دليل على أن السكوت وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أسباب هلاك الأمم ، قال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى: "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين، ولو طوى بساطه وأهمل علمه وعمله لتعطلت النبوة، واضمحلت الديانة، وعمّت الفترة، وفشت الضلالة، وشاعت الجهالة، واستشرى الفساد، واتسع الخرق، وخربت البلاد، وهلك العباد ولم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد". يوم ينادي بعضهم بعضًا بالنجاة  والمراد في هذه الحياة الدنيا، قال: "وقد كان الذي خفنا أن يكون؛ فـ ﴿ إِنَّا لِلهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾ ".

 

   

  رأس السنة الميلادية في نفوس المسلمين

لعل ما يعمد له الساعون في خراب هذه الأمة ومحو قداسة شرائعها الدينية  وإعاقة مسيرة حضارتها، هو تزيين أجواء احتفالات رأس السنة الميلادية في نفوس المسلمين، الغارقين في شعور اليأس والقنوط والعجز وكذا الفقر والحاجة، فمجتمعات برمتها مضطهدة وثورات مجهضة وآمال محطمة، فيتسلل لهم الشيطان من خلال هذه الاحتفالات ، فيميلون ميلة واحدة للهو المحرّم ، لعلهم يهربون من واقعهم المرير، وليت الأمر يتوقف عند اللهو، بل هو التمجيد لطريقة الغرب في الاحتفال ، واعتباره رقيًا حضاريًا ، وتميزًا يحسدون عليه ، رغم كل الشذوذ الذي يحمله ومشاهد التخلف ، وانحطاط السلوك ، الذي تعكسه ممارسات المحتفلين به، ويتساءل المرء من يدير هذه القنوات الإعلامية التي تضخ هذا الفساد ضخًا في مجتمعاتنا الإسلامية، ومن يموّلها ويوجه سياساتها الإعلامية! ومن يدفع بإدارات الترفيه لتتوسع في جلب كل شاذ وساقط وسفيه ، لشغل المسلمين برقصه على منصة، ساعات ممتدة تهدر بلا فائدة ، أليس تيار التغريب المسموم الذي يتربص بنهضة الأمة والذي يحاول أن يضرب أسس نهوضها ، بشغل شبابها عن دينه بإغراقه في مستنقع الشهوات ، ويا ليتنا نهتم بأعيادنا كما نهتم بأعياد نهاية السنة الميلادية ، وكيف يمكن أن يمثل الإسلام من لا يعظم شعائر الله، ومن لا يغار على حرماته .

إننا نشاهد مزامير الشيطان ، وقد غزت أجواء المسلمين بحجة الفن والطرب! وكأننا في وقت دعة وترف، في حين تباد أمم كاملة من أمة الإسلام في تركستان ومينيمار وإفريقيا الوسطى على مرأى ومسمع البشر! وكأن فلسطين لا تئن تحت مطرقة الاحتلال الصهيوني ، وسندان العمالة والتطبيع! فبأي يوم رأس سنة يحتفلون؟ هل يحتفلون على تلك الدماء المسلمة التي سكبت ، أو على حجم الدمار الذي نال من مدن المسلمين ، أم على أعداد الأسرى الذين يعانون خلف زنازين الظلم! أم على عدد الأطفال الذين قضوا من الجوع؟ أم على محاربة الفضيلة والدين! وليت الذي سارع للاحتفال بهذا اليوم! أن يجعله يوم محاسبة شاملة، لما أنجزه من خير أو وقع فيه من شر طيلة أيام السنة، ولينظر كم اقترب وكم ابتعد من خط النجاة ، فإن اطمأن لإنجازاته فلا يفسدها بخاتمة الحرام، كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا. وإن وجد التقصير فلابد من الاستدراك لا الانبساط والاحتفال! ومع أن الله أبدلنا عن السنة الميلادية سنة هجرية مليئة بالعبر ومواقف الفخر والاقتداء، لا زال المسلمون يتبعون الغرب حتى في نظام تواريخه!.

 

 الحفلة الغنائية في منطقة المدينة  

قد يكفر الإنسان وقد يلحد وقد يكون فاسقاً ، لكنه لم يفكر في تحدي الله عز وجل ، ومن العلمانيين واللادينيين لا يفكرون في تحدي الله عز وجل ، اما أن يتحدى الإنسان الله عز وجل أو يجعل نفسه نداً لله عز وجل ، ويبحث عن الممنوعات الي نهى الله عنها ، ويقترفها مباشرةً ، فهذا نوع من أنواع التحدي والحرب على الله ، ثم كيف تقام هذه الحفلات في مدائن صالح التي لم يسمح رسول الله عليه السلام بالمشي فيها ، فكيف بإقامة حفل الرقص والغناء ، وقد كان نهي رسول الله شديداً ، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم نهي المسلم عن الدخول إلى مواطن العذاب والمرور بها؛ إلا أن يكون المار باكياً خاشعاً. روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم لا يصيبكم ما أصابهم ) . وكان هذا النهي منه صلى الله عليه وسلم لما مر مع أصحابه بالحجر ديار ثمود ، في حال توجههم إلى تبوك. وثبت أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بإلقاء العجين ، وإهراق الماء الذي استقوه من تلك الأرض؛ إلا ما استقوه من بئر الناقة ، والحفل الذي أقيم هو استفزاز للمسلمين ، والمستغرب أن علماء تلك البلاد صمتوا بذريعة أنهم يقرون المنكر لدفع ما هو أكبر ، فأين هي غيرتهم على منطقة الحرم ، حين يُسْتَقْدَم المطربون إلى مدينة رسول الله ًصلى الله عليه وسلم الذي قال كما في الصحيحين من حديث علي بن ابي طالب : ( المدينة حرمٌ بين عير إلى ثور _ جبلين من جبال المدينة – من أحدث فيها حدثاً أو آوى فيها مُحْدِثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ) وأي حدث أعظم من اقامة هه الحفلات التي تغني فيها المغنيات والمغنين ، والراقصين والراقصات الذين لا يدين بعضهم بالإسلام ، وهذا مخالف لنص القرآن قال تعالى : ﴿ إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام ﴾ وقد كفرهم الله بقوله ﴿ لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم ﴾ المائدة ، وقال : ﴿ لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة ﴾ والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : ( أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ) وفي هذه الحفلات إيذاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله يقول : ﴿ إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة ﴾ الأحزاب 

إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ رَبَّهُمْ بِمَعْصِيَتِهِمْ إِيَّاهُ , وَرُكُوبهمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ .

رتابة النعمة تفقد الإحساس بقيمتها

الرتابة : دوامُ الشيء وثباته على وتيرة واحدة لا يَتغيَّر ولا يتبدَّل ، ولعل الكلمة مأخوذة من( رتب ) إذا ثبت ودام ، وقد أَكَّدَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم  على اغتنامِ النعم حينَ وجودها، ونَبَّهَ إلى إدراكِ قيمتها، والاستفادةِ منها، واستثمارِها وتوظيفِها في مواقعها والاهتمامِ بأن لا تفوت فيَتَحَسَّر صاحبُها عليها، ويتمنّى أن يُعْطَاها مرة أخرى ، فقال صلى الله عليه وسلم : ( اغْتَنِمْ خمساً قَبْلَ خمسٍ: شبَابَك قبلَ هَرَمِك؛ وصحتَك قبلَ سَقَمِك؛ وغِنَاك قَبْلَ فَقْرِك؛ وفَراغَك قَبْلَ شُغْلِك؛ وحياتك قبلَ موتِك ) مستدرك حاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما . وقال : صحيح على شرط الشيخين .

إن في الإنسان أجهزة وحواس وجوارح دون أن يشعر بها ، فإذا أصاب أحد هذه الأجهزة عطب ، أحس بنعمة الله فيها ، مما يدل على أن الرتاية تدعوا إلى الغفلة لذلك قالوا : " إن أقرب الناس من الله تعالى هم الموافون "  الذين يذكِّرهم المرض بنعمة الله عليهم ، وحين لا تنفع العلاجات يلجأون إلى الله ، يقولون يا رب يا رب ، كلمة التوجع آه كلمة فطرية ، مختزل كلمة الله ، كأنه حين يقولها ويتأوه بها يفزع على ربه وخالقه ، لأنه هو الذي وهبه النعمة ، ويقدر على أن يمنحه الشفاء، وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم  إلى معرفة قيمة النعم من خلال تنبيهه إلى اغتنام النعم التي لا توهب لأحد في حياته إلاّ مرة واحدة، ولا توهب له مرة ثانية مهما تمنّى وبَذَلَ كلَّ ما لديه من غال ورخيص. وهي النعم التي ينخدع بشأنها كثير من الناس ، وهو يظن أنه سيبقى على حاله التي هو عليها من الصحة والمعافاة ، والقوة والقدرة على العمل والتحرك؛ فيقصِّر في كثير من الحقوق، ويدفع عملَ اليوم للغد، ولا يقوم بالواجبات الحاضرة في مواعيدها ، ظنّاً منه أن بوسعه أن يُؤَدِّيها فيما يأتي من الأوقات، فإذا به يُعْجِزه مرض مُفَاجِئ عن أدائها؛ وكذلك كلّ غَنِيّ – إلاّ من رحم ربُّك – يعتقد أن غناه لن يفارقه، و وُجِدَ هو ليظلّ غنيًّا، ولن يُبْتَلَىٰ بالفقر؛ لأنّه نصيبُ غيره في المجتمع  وإذا قدَرُ الله يحلّ به ، ويُسْلَب ما كان يتنعم به من الرخاء ورفاهية الحال، فيُضْطَرُّ أن يؤمن بأن المال غادٍ ورائح؛ ولكن هذا الإيمان لا ينفعه الآن؛ لأن وقته فات، وكان الواجب عليه أن يؤمن بهذه الحقيقة يوم كان يتمتع بالغنى ، فيؤدي ما عليه من الحقوق والواجبات نحو ربّه الذي تَفَضَّلَ عليه ، ونحو عباده الذين أَفْقَرَهم الله لحكمة يعلمها    وهناك من يعتقد أنه وُلِدَ ليبقى متمتعاً به، حتى تُداهِمَه الأشغالُ بأنواعها، وتجعله لا يجد فسحةً لتحقيق كثير من المسؤوليات والوظائف الواجب عليه تحقيقُها فضلاً عن كثير من الأماني العزيزة والأحلام اللذيذة التي يريد أن ينالَها فإذا الأشغالُ تحول دونه ودون نيلها؛ أمّا الحياة فإنه مغبون فيها مُعْظَمُ الناس؛ حيثُ إنّهم يظلّون يَحْسَبُون أنّهم لن يموتوا بتلك السهولة والسرعة اللتين يموت بهما غيرهم، وإنّ الموت نصيبُ غيرهم فقط، أمّا هم فالفرصةُ لديهم مديدة، والعمر عندهم طويل لن ينقضي إلاّ بعد ما يكونون قد حقّقوا جميعَ أَمَانِيهم في الحياة؛ فإذا الموتُ يُفَاجِئهم، وتفوتُهم كلُّ مشاريعهم التي خَطَّطُوها   قال الحسن البصري رحمه الله ( : «ما رأيتُ حقًّا أَشْبَهَ بباطل من الموت».

إن الحياة فرصةٌ لا فرصةَ أغلى منها لمن يستغلّها لصناعة الدنيا والآخرة، وهي أرخصُ ما يكون لمن يعيشها لا هدفَ له من ورائها إلاّ التّلذّذ بملذّاتها ، وقد جَعَلَ الله الدنيا جذّابةً خلاّبةً يُغْرَم بها كلُّ من لا نصيبَ له في الآخرة: ﴿ فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ ﴾ البقرة/200 ، وإنّما جعلها الله مُزْدَانةً تَجْذِب الناسَ إليها لِيَبْلُوَهُمْ من ينصرف إليها عن الآخرة ومن يَرْغَب عنها في الآخرة: ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنَ عَمَلاً ﴾ الكهف/7 .

فالحياةُ نعمةٌ كبرى لمن اغتنمها لإسعاده وإسعاد آخرته، وهي ليست بشيء لمن لا يدرك قيمتها؛ ولكنه سيدركها لدى الموت عندما يرى أنه قد أضاعها دونما رصيد من العمل الصالح ، فيلتمس من ربّه أن يَرْجِعَه إلى الدينا ليَعْمُرَها بالصالحات من الأعمال قال تعالى : ﴿ حَتّٰىٓ إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّيٓ أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ ﴾ المؤمنون/99 ، ولكنه لا يُجَابُ إلى أُمْنِيَّتِه : ﴿كَلاَّ إنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ المؤمن 100 ، والإنسان لا يدرك قيمة النعمة حين يتمتع بها ، ولكنه يدرك قيمتها عندما تفوته ، وصَدَقَ الله العظيم : ﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوَها إنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ﴾ إبراهيم 34 . وقوله : ﴿ وإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ النحل 18 . وقوله : ﴿ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ﴾ ، ولكن رتابة النعمة الإنسان قد تذهله عن المنعم فلا يتذكره الا حين  الحاجه اليه ، لذا ينبهنا الله تبارك وتعالى أن تنسينا النعمة عن المنعم  لأنه اذا سلبت النعمة منه فلن يجد غيره يلجأ اليه ، ويقول :يارب يارب.

فالعبد سيكون شاهدا على نفسه ، فلمن يتوجه اذا اصابه فقر؟ ولمن يتوجه اذا اصابه مرض ؟ إنه لن يتوجه الا الى الله يقول يا رب يقول الله سبحانه : ﴿ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ﴾ فترة الضر التي تمر بالعبد هي التي تلفته الى الله ،والحاجة هي التي تلجئه الى المصدر الحقيقي للإمداد ،فاذا كانت النعمة قد تذهله وتنسيه ، فالضر يذكره بربه الذى يملك وحده كشف الضر عنه.

ولذلك فالناس اصحاب اليقين في الله تعالى ساعة ان يصيبهم ضر يقول : ذكرتني بك يا رب ، يأخذها على انها النعمة ، كأنها نجده تنقذه مما هو فيه من غفله ..يا رب انت ذكرتني بك ، انا كنت ناسيا  كنت في غفله.

وساعة ان يعود ويشعر بالتقصير يرفع الله عنه البلاء ، ولذلك يرفع القضاء عن العبد إن رضي به وعلم أن فيه خيرا له. ولذلك فالرسول صلى الله عليه وسلم ينبهنا لهذه الأحداث التي تصيبنا ، أن لا تستقبلها بالجزع والفزع ، ولكن نستقبلها بالإيمان والرضا وليعلم العبد ان الله يغار عليه ، وهو بهذه الأحداث يلفته إليه قهرا عنه ، لكى يعود إليه ويلتجأ اليه ، ولكى يقول يا رب . يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رب العزة في الحديث القدسي : ( إن من عبادي من أحب دعاءهم فأنا أبتليهم ليقولوا: يا رب ) ويقول تعالى : ﴿ َلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا ﴾ 43 الانعام  أي : انه سبحانه يريد منا اذا نزل بنا بلاء وبأس ان نتضرع اليه سبحانه ، لان الضراعة الى الله لفتة وتذكير به  والنبي صلى الله عليه وسلم يرشدنا الى هذه الحقيقة ، فالمصاب الحقيقي ليس من نزل به ضر او اصابه بلاء ..لا..بل المصاب الحقيقي من حُرِم الثواب.

اذن : إذا أنعم الله على العبد ، فليحذر ان تنسيه النعمة وتذهله عن المنعم ،اما صاحب البلاء والضر فسوف يرده هذا البلاء ويذكره هذا الضر بالله تعالى ، ولن يجد غيره يلجأ اليه ، فقوله تعالى : ﴿ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ﴾ أي تضرعون بصراخ وصوت عال ، ويا ليت الناس حين ينتابهم مثل ذلك يعتبرون به ويتعظون ،ويقولوا في لحظه من اللحظات سوف تلجئنا الأحداث الى ربنا ..بل بالعكس حينما يكشف عنهم الضر سوف يعودون الى ما كانوا عليه .

 

 بناء النفوس أهم من بناء الجيوش

إن بناء النفوس والضمائر يسبق بناء المصانع والجيوش ، وهذا البناء لا يتم إلا وفق تعاليم الإسلام ، تنشئة تصوغ الأجيال الجديدة ، وتقاليد تحكم العلاقات السائدة ، ورعاية ظاهرة وباطنة للعبادات المفروضة ، ومقاطعة لما يعترض الدين من مسالك  فالنفس بطبيعتها طموحة إلى الشهوات واللَّذَّات كسولة عن الطاعات وفعل الخيرات، لكن في قَمْعِها عن رغبتها عزُّها، وفي تمكينها مما تشتهي ذلها وهوانها؛ فمن وُفِّق لقمْعِها نال المُنَى، ونفسَه بنى، ومن أرخى لها العنان ألْقَتْ به إلى سُبُل الهلاك، ونفسَه هدم وما بنى؛ ومن هجر اللذات نال المِنى ، ومن أكبَّ على اللذات ندم على ما مضى .

لقد وصلت الأمة إلى ضعف في عقيدتها، وضعف في قوتها وضعف في اقتصادها وضعف في قراراتها، وضعف في تسيير شئون نفسها، فسادٌ في الإعلام ، فبدلا من أن يكون هادفا يدعو إلى القيم والأخلاق الكريمة ، صار الإعلام ينشر الرذيلة ويحارب الإسلام أساس القيم والأخلاق الكريمة. كما أن هناك مجموعة من الاعلاميين المنافقين يسبحون باسم الحاكم ليلا ونهارا ، حتى صار الإعلام معولا من معاول الهدم . وفساد في الأمراء قال تعالى : {

وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا } وفساد العلماء ، قال صلى الله عليه وسلم :( إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من صدور الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم واحد اتخذ الناس رؤساء جهالا فأفتوا بغير علم فضلوا واضلوا ) .

روي عن المفكر والدكتور المغربي المهدي المنجرة قوله : " عندما أراد الصينيون القدامى أن يعيشوا في أمان، بنوا سور الصين العظيم واعتقدوا بأنه لا يوجد من يستطيع تسلقه لشدة علوه، ولكن !  خلال المائة سنة الأولى بعد بناء السور تعرضت الصين للغزو ثلاث مرات ! وفي كل مرة لم تكن جحافل العدو البرية في حاجة إلى اختراق السور أو تسلقه  فكانوا  ببساطة يرشون الحارس ويدخلون من الباب ، لأن الصينين انشغلوا ببناء السور ونسوا أن بناء البشر أهم من بناء الحجر ، وأن بناء الإنسان يأتي قبل بناء كل شيء " وهذا ما نحتاجه اليوم ، يقول أحد المستشرقين : " إذا أردت أن تهدم حضارة فهنالك ثلاث وسائل توصلك لذلك هي : هدم الأسرة ، وهدم التعليم ، واسقاط القدوة ، فلكي تهدم الأسرة عليك بتغييب دور الأم ، اجعلها تخجل بوصفها ربة منزل  ولكي تهدم التعليم عليك بالمعلم ، لا تجعل له أهمية في المجتمع  قلل من مكانته حتى يحتقره طلابه ، ولكي تسقط القدوات عليك بالعلماء والمفكرين ورجال الدين ، اطعن فيهم .. قلل من شأنهم  شكك فيهم حتى لا يسمع ولا يقتدي بهم أحد ، فإذا اختفت الأم الواعية ... واختفى المعلم المخلص ... وسقطت القدوة  فمن يربي النشء على القيم ؟

ونحن اليوم للأسف لا نستطيع أن نبني أسرة ، فهنالك بيوت فيها أسر وهنال أسر لا تجد البيوت ، وفي الوقت نفسه هناك قصور تسكنها أسر مهدومة ، وحتى القصور فيها قصور ..! لأن القضية ليست قضية مال ولا ماديات ولا مستوى تعليمي ولا اجتماعي القضية قضية قيم ، قضية يناء النفوس قبل كل شيء .

 

مشكلة الأمة

مشكلة الأمة تكمن في عدم العودة إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونبذَ كلِّ الأفكار والثقافات الغربية الدخيلة، وهجرَ النظرات الزائفة - كفيلٌ بنهضة الأُمَّة وعودتها لقيادة البشرية جمعاء، فما كانت هذه الأمة في يوم من الأيام مقلدةً أو تابعة، ولا منحرفة في أفكارها وأحكامها، بل سادت بكتاب ربِّها وسنة نبيِّها وفق منهجٍ نقيٍّ خالٍ من الشبهات والشهوات . علماً بأنَّ حال الأمة لا يصلُح إلا بما صلح به أولها ؛ كما قال الإمام مالك رحمه الله: (لا يُصلِح آخرَ هذه الأمَّة، إلا ما أصلَح أولَها) . فما أدقَّه من قول! وما أجلَّه من فَهم حوته تلك الحروف القليلة! فقد اختصر وأفاد، وفَهَّم وأجاد في تحديد داءِ الأمَّة ودوائها. فلا دواء للأمَّة ولا شفاء مهما تداعى الأطباء، واجتمع العقلاء، واجتهد العلماء، إلا بالرجوع إلى الكتاب والسنة بفَهم سلف الأمة؛ ﴿ ذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾ ق: 37،   

إنَّ الناظر لحال الأمة الإسلاميةِ اليوم يرى القضايا والمشاكل التي تعاني منها؛ قد أدَّىت لقصور دَورها، وتحجيم سلطانها، وزوال هيبتها، وتسلُّط الأعداء عليها ، مما أدى إلى أساءة الظنَّ بوعد الله عز وجل، والتغافَلَ عن عقد الأمَّة المتين، وصلاحِها القويم، المتمثِّل في كتاب الله وسنة نبيِّه صلى الله عليه وسلم، فإذا أطاع الإنسان منهج الله في حركته في الفعل والترك ، تنتظم حياته ويريح ويستريح ، في الواقع نرى التعب من الأشياء التي تأتي من الناس للناس ، اما التي من الله مباشرة فليس فيها تعب أبدا ، لأن كل شيء موصول بالله مريح ، وبالنظر إلى مشكلة الحياة اليوم ، نجدها تتعلق بالأمن وبالكفاية ، فماذا قال الله لآدم عندما أسكنه الجنة ؟ قال : { إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى } إنها ضرورات الحياة  ألا تجوع فهذا هو الطعام ، وألا تعرى فهذا هو الملبس ، ولا تظمأ فهذا هو الشراب ، ولا تضحى فهذا هو الملبس  هل ضن الله علينا بضرورات الحياة الأساسية ؟ بالطبع لا ، هناك من فرض مستوى لحياته ، ويريد من دخله أن يكفي لهذا المستوى من الحياة فيعجز ، وبعد ذلك يلجأ إلى الرشوة أو السرقة وإلا عاش متبرماً أو نكدا ، ومن هنا جاءت المناعب ، وعم الفساد عندما ابتعد الناس عن الله ولم يعجبهم قدر الله ، لأن الذي يريد رفع مستواه المعيشي عليه أن يرفع حركته وكفاءته ومجهوده ، بذلك يرتفع دخله ومستوى معيشته ، وبعكس ذلك ينتشر الفساد في الأرض ، ومن يسعى للطموح عليه أن يعلم أن الطموح ليس في المستوى إنما الطموح في الحركة التي تعود بدخل يحقق المستوى المطلوب . فإذا وجدت هذه القناعة في جميع قطاعات الحياة فسوف نجد الراحة والاطمئنان ولن نمد العين إلى ما عند الغير ، لقناعتنا أن هذا قدر الله ، قال صلى الله عليه وسلم -: ( وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ ) . ارضْ بأهلِك، بدخْلِك بمرْكبِك، بأبنائِك، بوظيفتِك، تصبحْ من أغنى الناس، تجدْ السعادة والطمأنينة؛ روى الشيخان من حديث أبي هريرة أن النبي -عليه الصلاة السلام- قال: ( لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ، وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ ) .

 حدود المسؤولية والحرية

إن بعض الذين لم يجاوز الإيمان حناجرهم يتوهم أن حدود الحرية والمسئولية إنما تنحصر في تدبير شؤون نفسه  وشؤون أسرته وما يقتضيه هذا التدبير، من توفير المأكل والملبس والمسكن والدواء والتعليم والمتع قدر المستطاع  وما عليه بعد ذلك أن يشقى جاره أو يُحْتل وطنه ، أو تُسْتَذل أمته ، هذا فهم خاطئ لحدود المسؤولية ، فمن بات شبعان وجاره جائع مسؤول ، ومن استيقظ آمناً وأخوه خائف مسؤول ومن انطوى على نفسه يعبد ربه ودين الله تُنْتهك محارمه مسؤول ، فكلكم راع ومسؤول عن رعيته .

لقد ابتليت الأمة بمن رَضوا بالدون من الحياة فأخلدوا إلى الأرض ، وقعدوا عن الجهاد ، وآثروا الراحة والدَعة فصدق فيهم قول الله : { ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال ‘ذا فريقٌ منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجلٍ قريب } ، إن مفهوم المسؤولية ظاهرٌ واضح ، فهو يتمثل في القيام بحق الله والسعي لخير العباد ، فما هي المسؤولية التي يجب أن تتحملها الأمة لمواجهة من اغتصب الأرض ونهب الأموال ، وقتل النساء والأطفال ، وما هي المسؤولية تجاه من تنكر للمقدسات فاستباح حرمتها وانتهك قداستها ، أهي مسالمته والرضى بالأمر الواقع { إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور } .

إن المنحرفين في سلوكهم لا ولن يتوقفوا عن توظيف الشريعة واستخدامها لتسويغ تصرفاتهم وإيجاد المشروعيات لأعمالهم وقراراتهم أمام الأمة ، بتقديم الفتاوى التي أصبحت جاهزة وتحت الطلب ، لكن الحقيقة التي لا بد من إيصالها أن مثل هذه الفتاوى هي ساقطة ولا تقنع أصحابها .

كثيرٌ من الناس حسِبَ الحرية في اللَّهَث وراء الدنيا بزينتِها وزُخرُفها ، بل ذهبَ بعضُهم إلى أبعدَ من ذلكم؛ ليصيرَ مفهوم الحرية عنده: إن لم تكن ذِئبًا أكلَتْك الذئاب، وإن لم تَجهَل يُجهَل عليك، فالحريةَ عندهم: أن تقول ما تشاء، وتفعل ما تشاء، وتكتبَ ما تشاء، وتتكلَّم فيمن تشاء، دون زمامٍ ولا خِطام، حتى ولو كان في أمور الدين والعقيدة وحقِّ الله وحقِّ رسوله - صلى الله عليه وسلم -.

ولكن الحريةَ الحقَّة دينٌ يتبَعُهُ عملٌ ويصحَبُه حملُ النفس على المكارِه، وتحمُّلِ المشاقِّ، وتوطينُها لمُلاقاة البلاء بالصبر، وحفظ الحُدود، والتسليم للشريعة والتمسُّك بها؛ فالحرُّ من آثَر الباقي على الفاني، والحريةُ رضًا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم - رسولاً، وقناعةٌ بالمقسوم، وثقةٌ بالخالق، واستمدادُ العَون منه، ومن ذاقَ طعمَ الإيمان ذاقَ طعمَ الحرية.

وليست الحُرية في الركض خلف الشهوات والانغِماس في الملذات، فيصير الإنسان عبدًا لها ومقيدًا بها، لا يرجع منها سالمًا، بل يعودُ محطمًا، حائر الفكْر مُنكسر الفؤاد، إنَّ الحرية الحقيقية هي الخضوع لله - عز وجل - واتِّباع أوامره واجتناب نواهيه؛ فالإسلام هو مصدر الحرية ومنبعها، حرية لا استعباد فيها، وكرامة لا ذل معها، فالعبودية لله وحده تحرِّر الإنسان من كل عبودية نسبية لغيره كائنًا من كان.
ومنهج الله جاء ليقول لنا افعل كذا ولا تفعل كذا ، ولذلك يظن الكثير من ان ذلك تقييد لحركة حياة المؤمن   ظن هؤلاء أن الله تعالى حين يقول لا تفعل قد ضيّق عليهم فيما يريدون فعله ، وحين يقول افعل معناه يكون قد ضيق عليهم في شيءٍ لا يريدون فعله ، فمثلاً حين يطلب منا الزكاة التي في ظاهرها نقص المال ، وإن كانت في حقيقتها بركةٌ ونماء كما جاء في الحديث الذي رواه مسلم وأحمد والترمذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما نقصت صدقة من مال ، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزا ، وما تواضع أحد لله إلا رفعه ) فالله إذا قيد حركة الإنسان في الحياة ، فلا يظن أن هذا تضييق عليه ، بل هذا لفائدته لأن الله لم يأمره وحده ، ولكن الأمر للناس جميعا ، فحين يقول الله لاتسرق ، فقد قالها للناس جميعا ، ولذلك يكون الإنسان هو الرابح ، لأنه ما قيد الإنسان وهو فرد من أن يسرق من غيره ، بل قيد ملايين الناس من أن يسرقوا منه ، إذن الله لم يضيّق على الإنسان لكنه حمى ماله من كل الناس ، قيده وهو فرد من أن يسرق من مال غيره ، وقيد الملايين أن يسرقوا من ماله .

 
 

 

 

 

 

الطاعة العمياء

 لقد وضع الإسلام قواعد للنظام المطابق لأحكام الشريعة ، وجعل القيام عليه من معالم التقوى ، لأنه لا يستقر حكم ولن تصان دولة إلا إذا سادتها الطاعة والنظام ، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من أطاعني فقد اطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ) وقال الله عز وجل : { أطيعوا الله -أي اتبعوا كتابه – وأطيعوا الرسول -أي خذوا بسنته – وأولي الأمر منكم } – أي فيما كللفوكم به من أمور تخدم الكتاب والسنة .

إن للسمع والطاعة قوانين سنها الإسلام ، لم يقصد بها إلا حفظ المصلحة العليا للجماعة ، وعندما شرع الإسلام قوانين السمع والطاعة ، لم يفترض في الاطراف التي تمثله إلا قيادة راشدة تنطق بالحكمة ، وتصدع بالحق ، وتأمر بالخير ثم جنود يلبون النداء ، ويمنعون العوائق ، وينفذون الخطط ، بذلك تنتظم دورة القانون في الأمة ، كما تنتظم دورة الدم في البدن ، فتستقيم الحياة ، وتستقر الأوضاع .

أما الطاعة العمياء لا لشيء إلا لأن الحاكم أمر ، وأمره واجب الإنفاذ ، فذلك منكر كبير ، وجهالة فاحشة لا يقرها شرع ولا عقل ، روى الإمام أحمد في مسنده قال : ( بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سريه واستعمل عليهم رجلاً من الأنصار فلما خرجوا وجد عليهم الرجل في شيء فقال لهم أليس قد أمركم رسول الله أن تطيعوني ؟ فاجمعوا إلي حطبا ثم دعا بنار فأضرمها فيه ثم قال : عزمت عليكم لتدخلنها ، فقال لهم شاب منهم : إنما فررتم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النار ، لا تعجلوا حتى تلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن أمركم أن تدخلوها فادخلوها ، فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه فقال لهم : لو دخلتموها ما خرجتم منها أبدا ) هذا الترهيب الغليظ ، يستاصل جذور الطاعة العمياء في نفوس الأتباع جميعا ، وتجعلهم يفكرون فيما يصدر اليهم من أوامر ، فلا يكونون عبيداً إلا لله ، ولا جثياً إلا للحق ، فما استكبر من استكبر من الفراعنة والجبابرة إلا لأنهم وجدوا من يسارع إلى إجابة أهوائهم وإطاعة نزواتهم ، فعتوا في الأرض وعلوا علواً كبيرا ، ولو أنهم عندما أصدروا أوامر تنكرها الحكمة ، وجدوا من يرد عليهم ويحاسبهم ، لما أمروا بباطل .

إن فساد الأديان الأولى جاء من طراوة الاتباع في أيدي رؤسائهم ، وتحولهم من مبدأ السمع والطاعة إلى أذناب مسيّرة لا فكر لها ولا راي ، روي أنه لما نزل قوله تعالى : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله } قال عدي بن حاتم معترضاً إنهم لم يعبدونهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بلى إنهم حرّموا عليهم الحلال  وأحلوا اليهم الحرام فاتبعوهم ، فتلك عبادتهم إياهم ، فقد غدت الاستجابة العمياء شركا ، كما استغلت الثقة لتغيير أحكام الله وإضلال عباد الله عن الصراط المستقيم .

إن الفراعنة والاباطرة تالهوا ، لأنهم وجدوا ناسا تخدمهم بلا وعي ، كما تاله الأحبار والرهبان ، عندما وجدوا رعايا تمنحهم الثقة المطلقة ، وتلغي وجودها الأدبي أمام ما يصدرون من أحكام ، إن الشعوب التافهه في كل زمان ومكان ، هي التي تصنع المستبدين ، وتغريهم بالجبروت والاستكبار ، وإذلال الشعوب .   

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

  المصائب بين المنح والمحن

اقتضت حكمة الله -تعالى- أن لا يخلق شرًّا محضًا، بل أودع الله فيما يظنه العبد شرًّا خيرًا كثيرًا، والمؤمن العارف بربه يستطيع أن يغيِّر النقم إلى نعم، ويستبدل المحن بالمنح؛ لذا كان العارفون يفرحون بالبلاء كما يفرح الواحد منا بالرخاء؛ وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ابتلاء الأنبياء والصالحين بالمرض والفقر، وغيرهما، ثم قال: (وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ لَيَفْرَحُ بِالْبَلَاءِ، كَمَا يَفْرَحُ أَحَدُكُمْ بِالرَّخَاءِ) رواه ابن ماجه، وصححه الألباني. وقال وهب بن منبه -رحمه الله-: "إن مَن قبلكم كان إذا أصاب أحدهم بلاء عدّه رخاءً، وإذا أصابه رخاء عدّه بلاء". وقال بعض علماء السلف: "يا ابن آدم نعمة الله عليك فيما تكره أعظم من نعمته عليك فيما تحب". وصدق الله سبحانه : (فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) النساء:19.

وليعلم العبد أن الله لا يبتَلي من ابتلى إلا ليُكَفِّر عنه، أو يرفع في قدره ودرجته، والمؤمن كل أمره خير فهو في نعمة وعافية في جميع أحواله قال صلى الله عليه وسلم: ( عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذلك إلا للمؤمن إن أصابته شراء شكر فكان خيراً له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له ) رواه مسلم . فلا يظن المؤمن أن الحزن أو   المصيبة تدوم، فكما أن السرور لا يدوم فكذا الحزن لا يدوم. وسيجعل الله بعد عسر يسرا ، وبعد البلاء عافية ، وبعد الشدة رخاء وبعد المحنة منحة ، وبعد الحزن فرحا وسرورا قال الشاعر :

    ولرب نازلة يضيق بها الفتى ذرعا     وعند الله منها المخرج

  ضاقت فلما استحكمت حلقاتها    فرجت وكنت أظنها لا تفرج

والمصائب تُظهِر الصديقَ مِن العدوِّ، وتُعرِّف الإنسانَ محبِّيه مِن مبغِضيه؛ فيَظهَرون وقت الشدَّة، أما المحبُّ فيقف بجانبك منصفًا   وأما المبغِض فيقف وراءك شامتًا، والشماتة ليست مِن خُلق المسلمِ وفي الأثر: "لا تُظْهر الشماتة لأخيك، فيرحمه اللهُ ويبتليك"، وقد قال الشاعر:

جَزى اللهُ الشدائدَ كلَّ خيرٍ   عرَفتُ بها عدوِّى مِن صدِيقي

والشدائد تعرِّف الإنسانَ قدْرَ النعمة التي هو فيها فيَشكُر اللهَ عليها ويحافظ عليها قال الشاعر:

إذا كنتَ في نعمةٍ فارعَها   فإنَّ الذنوبَ تُزيل النعمْ

صُنها بطاعة ربِّ العبادِ    فَرَبُّ العبادِ سريعُ النقمْ

أنها تكفِّر الذنوبَ، وتُقرِّب مِن رب العباد، وفي الحديث: (لا يزال البلاءُ بالمؤمن حتى يمشي على الأرض ولا خطيئة له). والمسلم الموقن بدينه الراضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا، يقبل ما قدره الله تعالى من الكوارث لحكم أرادها ، والكارثة  النازلة العظيمة التي تنزل بالأقوام ، كنقص الأموال والأنفس والثمرات وجريان السيول العظيمة، ووقوع الحروب المهلكة ، وتغلب العدو، ونحو ذلك، قال الله تعالى: { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ } البقرة/155-156".قال القرطبي في بيان أسباب ما يقدره الله على العباد من المصائب أو الكوارث: "إما عقوبة ونقمة عند ظهور المعاصي، وإما ابتلاء واختبارا كما قال تعالى: { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ } وإما تمحيصا للذنوب كما قال تعالى: { وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا } ولله أن يفعل ما يشاء   ويسلط من يشاء على من يشاء إذا شاء ، والمسلم في ذلك كله يتقلب بين نظرين: الإيمان بالقدر، والعمل بالشرع.

وإيمان العبد بالقدر يجعله يوقن أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، فيستقر قلبه ويهدأ خاطره، كما قال تعالى: { ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه } والمحنة والبلية والكارثة تظل كما هي إذا لم ينتفع بها المسلم ويجعلها وسيلة للتغيير، كما أنها تتحول إلى منحة وعطية ربانية إذا حملت المسلم على النظر فيما حوله وفي نفسه ، وسارع بالتغيير على وفق البلاء النازل فيعود أفضل مما كان في  أول أمره، فما تحدثه الكارثة أو المصيبة للعبد-إذا وفقه الله تعالى للانتفاع بها-من الذل والخضوع والإنابة والحذر والخوف من الله، والبكاء من خشية الله، والإقرار بفضل الله العظيم ، يجعلها في حقه رحمة ومنحة، فلله تعالى فيما يقدره من النوازل الشديدة والكوارث العظيمة حكما كثيرة، والسعيد من فقه ذلك ، وانتفع بالحكمة المرادة من الكارثة بخصوصه، كما أن الكوارث تكشف عن أمور كثيرة ليس من السهل الكشف عنها إلا في ظروف العسرة والشدة ، ولو ذهبنا نتصفح الأدلة الشرعية وأعملنا الفكر أمكننا أن نتبين كثيرا مما يمكن أن تكشف عنه الكوارث والشدائد  فشدة البلاء قد تكون دليلا على صلابة الدين ومتانته  قال تعالى: { أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين } وقال : { ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب } وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلبا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة ) فالكوارث التي تحل بعباد الله على ما فيها من ألم وشدة وفراق الأحباب وهلاك الأموال، تستبطن منح العفو والمغفرة والقرب من الله تعالى ، وفيها بيان شؤم الذنوب والمعاصي على أهلها ، فالكوارث تبين جانب العقوبات التي ينزلها الله تعالى بالعصاة ، الذين عتو عن أمر ربهم واتبعوا خطوات الشيطان، فكانت عقابا دنيويا قبل العقاب الأخروي، وذلك حتى يحذر الناس من معصية ربهم وطاعة الشيطان أملا في التوبة حتى يقدموا على ربهم مغفورا لهم، وفي ذلك منحة أيضا لمن عقل واتعظ بما حدث ، فإن نزول البلاء بالعباد قد يحملهم على مراجعة أنفسهم ، ومعرفة أوجه التقصير ، أو تجاوز الحدود فيحدث لهم ذلك توبة وأوبة ، قال الله تعالى في بيان الحكمة من العذاب الدنيوي: { ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون} وقال: { فلولا إذ جاءهم باسنا تضرعوا } فكان الأحرى بهم إذ نزلت بهم الكوارث والشدائد أن يتضرعوا ويرجعوا إلى ربهم ويستغفروه ويتوبوا إليه.

 إن الكوارث والابتلاءات التي تحل بالمسلمين لها حكم متعددة   وتكشف عن أمور كثيرة، والمطلوب منا أن لا تمر هذه الكوارث علينا من غير أن نوظفها أعظم التوظيف في الاستفادة من جميع جوانبها، فيحدث ذلك لدينا عظة وتذكرا وخوفا من الله ورغبة في المسارعة في عمل الخيرات، وإن من أكبر الأخطاء التي يقع فيها كثير من الناس هو النظر إلى أن تلك  الكوارث لا علاقة لها من قريب أو بعيد بعلاقة العباد برب العباد، كما أن من الأخطاء الظن أن الأخذ بالأسباب وعدمه سيان ، وأن المقدر واقع لا محالة مع أن الأسباب جزء من القدر .   

  

 

 

 

 

 

 

                             

واجب الفقراء على الأغنياء

يُذكِّر القرآن الكريم الأغنياء ، بحقيقة لا ينبغي أن ينساها أو يتناساها ، كل من ابتلي بنعمة المال والسعة، فالمال مال الله، وهو عطاء الله للأغنياء، وهم مأمورون بالعطاء منه للفقراء، يقول تعالى: (وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) النور: من الآية33 ، ويقول أيضًا: (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) الحديد: من الآية 7 .

فكيف يستطيب الأغنياء التلذذ بالنعم، وفي مجتمعاتهم آلاف الجوعى- إن لم نقل الملايين- يبيتون على الطوى، وفيهم المريض الذي لا يجد ثمن الدواء ، والعاري الذي لا يجد ما يستر بدنه، يفترش الأرض ويلتحف السماء في العراء ، بلا مأوى ولا مسكن، ألا يذكر الأغناء ، أهل المسغبه من إخوانهم ؟ أما فقهوا أخاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول : ( من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ) البخاري ، وقوله صلى الله عليه وسلم : ( يقول العبد مالي مالي ، وإنما له من ماله ثلاث : ما أكل فأفتى ، أو لبس فأبلى ، أو أعطى فأفنى ، وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس ) مسلم ، وقوله صلى الله عليه وسلم : ( السخي قريب من الله ، والبخيل بعيد من الله بعيد من الناس ، بعيد من الجنة قريب من النار ، ولجاهل سخي أحب من الله تعالى من عابد بخيل ) الترمذي ، أما علموا مواصفات المؤمنين الأتقياء المحسنين ، وما أعد الله لهم من الثواب والاجر في الآخرة قال تعالى : { وفي أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم } الذاريات 19 ، أما علموا أن الله يحب عياله من الخلق   بقدر محبتهم ومنفعتهم لبعضهم بعضا ، قال عليه السلام : ( الخلق كلهم عيال الله وأحبهم إليه أنفعه لعياله ) أما علموا أن فقد التكافل الإسلامي في المجتمع خروج من الإيمان ، إلى درجة أن المسؤولين عنه ، تبرأ منهم ذمة الله قال عليه السلام : ( والله لا يؤمن من بات شبعان وجاره جائع وهو يدري ) وقوله : ( أيما أهل عرصةٍ أصبح فيهم امرؤ ٌ جائع فقد برئت منهم ذمة الله ) الحاكم ، إن هذه اللهجة الشديدة المنذرة بالخروج من الإيمان ، لم تستعمل بحق مرتكبي الكبائر ، كما استعملت هنا ، مما يدل على عظم مسؤولية المجتمع كله ، إذا وجد فيه فقراء معدومون ، لا ينهض أحد بامرهم ، وهذه الظاهرة في المجتمع ، تعتبر أعظم من جرائم الزنى وشرب الخمر ، التي هي من الكبائر  وسكوت المسلمين على ظلم أغنيائهم ، مع يسارهم وترفهم ، من الكبائر العظمى ،

هناك أناس يوجهون جهودهم المالية ، في مؤسساتهم المسلمة ، إلى بلاد الغرب ، لدعم جهات ليست بحاجة إلى الدعم ، أليس الأولى ، أن يوجهوا جهودهم للدفاع عن كرامة المسلمين المحرومين ، وحمايتهم من الغزو الأجنبي في عقر دارهم ، ونركيز الدعوة والخدمات الاجتماعية ، على الملايين من المسلمين المرضى والجياع ، عوضاً عن صرف المال الكثير على الاجتماعات ، والزيارات في الخارج ، أما آن الاوان لتحديد الأولويات في العمل الإسلامي ، ووضع المال والجهد فيا يفيد ؟ إذا علم أن العمل الاجتماعي ، بمفهومه الواسع الشامل هو عباده     يجب أن نبادر إليه ، حباً بالأجر والثواب ، وحباً برفع الظلم والفاقة ، عن أبناء الأمة المحرومين ، وتحسين حالهم  قال تعالى : { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسولُه والمؤمنون ]

 

 

ما أصابنا فمن أنفسنا

حين نرى حال الأمة اليوم ، لا نشعر بالرضى ابدا ، لأننا نراها في حال من الضعف والهوان ، وقد تكالبت عليها أمم الأرض قاطبة ، حتى باتت نهباً لكل طامع ، حال سببه من عند أنفسنا ، والله عز وجل يقول : { ما أصابكم من مصيبةٍ فبا كسبت أيديكم } الشورى 30 ، نعم إن هذا الحال من أنفسنا نحن ، من غفلتنا عن منهج الله ، وعن سننه في الخلق ، وإن واقعنا ليشهد بهذه الحقيقة بلا جدال ، وكيف فرطنا ببعض السنن التي جعلها الله طريقاً للنجاح والسيادة ، ففرط الله بنا ، فقد جعل الله سنة للنصر لا تتخلف إلى يوم يوم القيامه فقال : { يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم } محمد 2 . مما يعني أننا لم ننصر الله حق نصره .

لقد جعل الله سنة لإرهاب العدو ، وقذف الرعب في قلبه فقال تعالى : { وأعدوا لهم ما استعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم } الانفال 50 ، فماذا يقدم لنا واقعنا الحالي ؟ إنه يقدم لنا صورة مهزوزه هزيلة غير هذه الصورة ، التي أمرنا الله أن نكون عليها ، نرى بلادنا تعيش اليوم تحت رحمة الدول المستكبرة الكافرة ، بعد أن كنا سادة الأرض ، وقد نزع الله رهبتنا من قلوب أعدئنا  فلا يقيمون لنا وزنا ، ولا يلتفتون إلى رأينا حتى في القرارات المتعلقة بمصيرنا نحن .

جعل الله عز وجل للبركة والغنى وسعة الرزق سنة كريمة ، قال تعالى : { ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض } الأعراق 96 ، وها هي بلادنا تعاني من الفقر والجوع ، والجهل والمرض ، على الرغم مما تحتويه بلادنا من الثروات الهائلة ، مما يدل على أننا نعيش أزمة إيمان وتقوى .

إن الخروج مما نعاني لا يمكن أن يتم دون أن نغير ما بأنفسنا كما قال تعالى : { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } الرعد 11 ، وان تغيير ما بأنفسنا ، لا يتم إلا أن نواحه مشكلاتنا مواجهة صادقة لا مواربة فيها ، لنعرف مواطن الاتحراف فنقومها ، ونكشف مواطن الخلل فنصلحها ، ونحدد نقاط الضعف فنقويها .

نعم إذا أرَدْنا كَشفَ الغُمَّةِ عن هذا الأمة ، وإذا أرَدْنا أن يَكشِفَ اللهُ تعالى عنها هذا الكَربَ العَظيمَ فَعَلَينا جَميعاً تَرْكُ الظُّلمِ، ووعَلَينا أن لا نَسلُكَ سَبيلَ الظَّلَمَةِ الفُجَّارِ،  وإن من أعظم طرق دفع المصائب إذا وقعت سواء كانت صغيرة أم كبيرة هو اللجوء إلى الله تعالى بالدعاء لرفع البلاء، والتوبة النصوح، ومداومة الاستغفار، وقد أوضح ابن القيم رحمه الله ما ورد عن الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قوله: " ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رُفع بلاء إلا بتوبة " .

 

 

 

التوجيهات الإسلامية

لقد أرسى الدين الإسلامي الأخلاق الفاضلة، والقيم، والمبادئ، والمثل السامية التي تضمن تماسك المجتمع، وتعايش أفراده مع بعضهم بعضاً أياً كان توجههم، ومعتقداتهم، كثير من المجتمعات الإسلامية اليوم تعيش منذ زمن حالة ضعف الالتزام بالأخلاق، والقيم، والمبادئ، والمثل الإسلامية السامية، مثل: إفشاء السلام، والعدل، والإحسان، والصدق، والأمانة، وحسن الأخلاق، والتواضع، والتراحم، وحسن الظن بالآخرين، والمحافظة على أعراضهم، ومحبة المسلم لأخيه ما يحبه لنفسه.

وجاءت التوجيهات الإسلامية في الكتاب والسنة ، تنظم علاقة الإنسان الخارجية ، باتجاه الجار والقربى فالمجتمع المسلم ، فالامة الإسلامية ، فالامم المجاورة ، فالأنسانية جمعاء ، وما تركت التعاليم الإسلامية صغيرة ولا كبيرة لم تخطط لها ، ففي علاقة الجوار، جاء التأكيد في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على احترام حق الجار، الذي يكاد يبلغ حد القدسية ، وعدم احترامها يعتبر تجاوزاً لحرمات الله ، ، وكم يشعر المرء بالمرارة والقلق ، والغيظ والكراهية والحقد ، والرغبة في الانتقام ، إذا ابتلي الإنسان بجار لا يرعى حق الجوار ، وأن يتذكر في المقابل السعادة والفرح ، والمحبة والألفة والتعاون والتزاور عندما يمنحه الله جاراً طيباً ، يرعى الله في جاره   عندها سيعرف لماذا في كتاب الله وأحاديث رسول الله كل التعليمات والأوامر والتوجيهات التي بلغت حداً كاد معه الجار أن يرث جاره ، قال عليه السلام : ( ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه ) متفق عليه ، وفي آداب الطريق الذي يكاد اليوم ينقلب إلى ساحة للقذارة ، وانعدام الذوق ، وتجاوز حقوق الآخرين  وفي مراعاة أداب الطريق يصير درباً آمناً  نظيفا ، يجتازه المسلم وهو مطمئن أن لا يرى إلا الجميل ، وإن إماطة الأذى عن طريق الناس وإفشاء السلام والكلمة الطيبة والإحسان إلى الآخرين والرحمة بالضعيف ، ذالك يرسم صورة مشرقة للعالم الذي يريد الإسلام أن يقيمه ، هناك آداب ضيعها الكثيرون ، وحلت محلها الكراهية والحقد والتقاتل والغضب والكلمات الحادة ، التي تخرج بين لحظة واخرى كالسكاكين الجارحة ، فتنزف لها النفوس الحساسة والضمائر المرهفة ، فجاء الإسلام لكي يمنح المجتمعات البشرية صيغاً من العمل ، وأنماطاً  من العلاقات  وطرائق من النشاط ، ما عرفتها البشرية الجاهلية ولا ذاقت طعمها في يوم من الايام .

لا معبود ولا خضوع لغير الله

لقد حرر الدين الإسلامي المؤمن به ، من العبادة والخضوع لأحد غير الله ، وما لأحد عليه سلطان غير الله ، وما من أحد يميته أو يحييه غير الله ، وما من أحد يملك الضر أو النفع إلا الله ، وما من أحد يرزقه من شيء في الأرض ولافي السماء إلا الله ، وإذا تحرر العبد من شعور العبادة والخضوع لعبد من عباد الله ، لم يتاثر بشعور الخوف على الحياة ، أو الخوف على الرزق أو المكانة ، لأن هذا الشعور يدعو إلى قبول الذل ، والتنازل عن الكرامة ،وكثير من الحقوق ، لذالك اهتم الإسلام بتحقيق العزة والكرامة للناس ، وأن يبث في نفوسهم الاعتزاز بالحق ، والمحافظة على العدل ، لهذا يعنى الإسلام عناية خاصة بأن يقاوم الشعور بالخوف على الحياة ، وعلى الرزق وعلى المكانة ، فالحياة والأجل بيد الله ، والنفع والضر بيد الله دون سواه قال تعالى : { قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله } يونس 31 ، ويقرر القرآن أن خوف الفقر إنما هو من إيحاء الشيطان ، ليضعف النفس ، ويصدها عن الثقة بالله ،وعن الثقة بالخير قال تعالى : { الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرةً منه وفضلا والله واسع عليم } البقره 268 . ولا يخفى أن الأمر بيد الله، وأنه لا أحد من الخلق يملك للناس نفعا أو ضرا، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، قال الله سبحانه: { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } يونس:107 ، وفي معجم الطبراني في وصية النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس -رضي الله عنهما-: ( واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، واعلم أن الخلائق لو اجتمعوا على أن يعطوك شيئا لم يرد الله أن يعطيك، لم يقدروا عليه، أو يصرفوا عنك شيئا، أراد أن يصيبك به، لم يقدروا على ذلك ) .

محمد أعظم من كل خلْق الله

جاء في نصوص كثيرة من الكتاب والسنة ، بيان عظم قـدر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، ورفعة مكانته عند ربه تعالى من خلال الفضائل الجليلـة ، والخصائص الكريمة ، التي خصه الله بها ، مما يدل على أنه أفضل الخلق وأكرمهم على الله ، وأعظمهم جاها عنده سبحانه ، قال الله سبحانه : { وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا } النساء/113 ، وأجنـاس الفضل التي فضله الله بها يصعب استقصاؤها ؛ فمن ذلك : أن الله عز وجل اتخذه خليلا ، وجعله خاتم رسله ، وأنزل عليه أفضل كتبه ، وجعل رسالته عامة للثقلين إلى يوم القيامة ، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وأجرى على يديه من الآيات ما فاق به جميع الأنبياء قبله ، وهو سيد ولد آدم ، وأول من ينشق عنه القبر ، وأول شافع ، وأول مشفع ، وبيده لواء الحمد يوم القيامة ، وأول من يجوز الصراط، وأول من يقرع باب الجنة ، وأول مـن يدخلها . . . إلى غير ذلك مـن الخصائص والكرامات الواردة في الكتاب والسنة ، مما جعل العلماء يتفقون على أن النبي صلى الله عليه وسلم هو أعظم الخلق جاها عند الله تعالى ، وهذا يدل على أن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم هو أفضل الأنبياء ، بل وأفضل الخلق ، وأعظمهم منزلة عند الله تعالى ،  قال الشافعي رحمه الله : "ما أعطى الله نبياً شيئاً إلا أعطى محمداً صلى الله عليه وسلم ما هو أكثر منه ؛ فقيل له : أعطى الله عيسى إحياء الموتى؛ فقال : حنين الجذع أبلغ ، لأن حياة الخشبة أبلغ من إحياء الميت ! ولو قيل: كان لموسى فلق البحر عارضناه بفلق القمر! وذلك أعجب، لأنه آية سماوية ، وإن سئلنا عن انفجار الماء من الحجر؛ عارضناه بانفجار الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم لأن خروج الماء من الحجر معتاد ، أما خروجه من اللحم والدم فأعجب! وإن سئلنا عن تسخير الريح لسليمان؛ عارضناه بالمعراج ". وهو أفضل من جبريل عليه السلام. قال ابن عباس: ما خلق الله خلقاً ولا برأه أحب إليه من محمد صلى الله عليه سلم ، وأعظم من جبريل ، بدليل لما ركب النبي عليه السلام البراق في رحلة الاسراء والمعراج عند سدرة المنتهي ، توقف سيدنا جبريل ولم يتقدم خطوة أخرى ، وطلب منه النبي صلي الله عليه وسلم ، أن يتقدم  ولكنه قال له : يا محمد هذا مقامي ، ولكل مقام معلوم، أنت لو تقدمت لاخترقت، وأنا لو تقدمت لاحترقت. وتقدم النبي الكريم واخترق ووصل إلى حضرة رب العزة سبحانه وتعالى ، وسمع النداء من العلي الأعلى  تقدم يا محمد ! فأنت على بساط انس الله رب العالمين وقد أحسن القائل :

بأقدامه في حضرة القدس قد سعى === رسول له فوق المناصب منصب

بـأعلى السماء أمسى يـكلـم ربــه   ====  وجبريل نـاءٍ والحبيب مقـرَّب

تدانى فأدنـاه للـعرش ربُــه     ===   وقـال تقـدم يـا وحـيد محـبتي

تلذذ بنا واسمع لذيذ خطابنا ===   وعينيك نزه  في عجائب قدرتي

ترى العرش والكرسي والحجب قد بدت === لديك وأنواري عليك تجلت 

تقرب ولا تجزع وأقبل ولا تخف ===وسل تعطى عبدي أنت سيد صفوتي

تعاليت قـــدرا عندنــا ومكانة ======= وذكـرك مرفوعا فـلا تنسى نعمتي

وأعظم من الكليم موسى بنص القرآن ، موسى عليه السلام طلب أن يرى ربه ، لكن محمداً عليه السلام طلبه ربه وفرق بين الطالب والمطلوب ، موسى عليه السلام قال رب اشرح لي صدري ، لكن محمداً قال تعالى : { ألم نشرح لك صدرك } لم ينتظر حتى يطلب ، فقد شرح صدره قبل الطلب ، ولما قال موسى : { ربي أرني أنظر اليك } قال الله : { لن تراني } سيدنا النبي قال الله عنه : { ما زاغ البصر وما طغى } وأنشدوا :

ولو قارنت لفظت لن تراني === بما زاغ البصر وأنت معنا

فموسى خــر مغشياًعلـيه ===== وأحمد لم يكن ليزيغ ذهنا

والخليل محمد أعظم من الخليل إبراهيم ، بدليل الحديث : عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ وَلَكِنْ أَخِي وَصَاحِبِي )  والدليل من القرآن الخليل ابراهيم يصل إلى خليله بالواسطه { وكذلك نري ابراهيم ملكوت السموات والأرض ) والخليل محمد يصل لخليله بلا واسطه { فكان قاب قوسين او ادنى } الخليل ابراهيم تكون مغفرة ذنوبه في حد الطمع { والذي أطمع أن يغفر لي } إنما الخليل محمد مغفرة ذنوبه في حد اليقين { ليغفر الله لك ما تقدم من ذنبك } الخليل ابراهيم قال : { حسبنا الله ونعم الوكيل } في المحنة ، إنما الخليل محمد قال له : { يا أيها النبي حسبك الله } ابراهيم الخليل قال : { ولا تخزني يوم يبعثون } الخليل محمد قال له : { يوم لا يخز الله النبي والذين آموا معه } الخليل ابراهيم قال : { واجعل لسان صدق في الاخرين } الخليل محمد ربنا قال له : { ورفعنا لك ذكرك } نزل جبريل وقال يا محمد! أتدري بما رفع الله ذكرك ، قال الله أعلم ، قال له : السلام يقرئك السلام ، ويقل لك قد رفعت ذكرك ، لأني جعلت اسمي يذكر إلا ويذكر معه اسمك ، وقال لا إله إلا الله محمد رسول الله ولم يقل لاإله إلا الله آدم نبي الله ، ولم يقل لا إله إلا نوح صفي الله ، ولم يقل لا إله إلا الله إبراهيم خليل الله ، ولا إله إلا الله موسى كليم الله ، ولا لا إله إلا الله عيسى روح الله ، وإنما قال لا إله إلا الله محمد رسول الله .  قال حسان بن ثابت :

أغَـــرُّ عَلَـيــْهِ لِلـنُّبُوـَّة خَــاتَـمٌ  ===== مِـنَ اللَّهِ مَشْهُـودٌ يَـلُـوحُ ويُشْـهَــدُ

وضمَّ الإلهُ اسمَ النبيّ إلى اسمهِ  ==== إذا قَالَ في الخَمْسِ المُؤذِّنُة أشْهَدُ

وشـقّ لــهُ مـنِ اسمـهِ ليـجلـهُ ====  فـذو العرشِ محمودٌ وهـذا مـحمدُ

نَبيٌّ أتَانَا بَـعـْدَ يَـأسٍ وَفَتْرَة  ==== منَ الرسلِ والأوثانِ في الأرضِ تعبدُ

فَأمْسَى سِرَاجاً مُسْتَنيراً وَهَادِياً ====  يَلُـوحُ كـما لاحَ الصّـقِيلُ المُـهَنَّدُ

وأنذرنا نـاراً، وبشرَ جنة ....................وعلمنا الإسـلامَ ، فاللهَ نحمدُ

 

اموات القلوب والإحساس

قال تعالى : { إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصمّ الدعاء إذا ولو مدبرين }    

ليس هناك ما هو أبشع من ميت القلب، يستوي في ذلك الصغير والكبير، الجاهل والمثقف، بل يستوي في ذلك الإنسان والحيوان وأي دين وأي خير فيمن يرى محارم الله تنتهك ، وحدوده تضاع ، ودينه يترك ، ومنهج الله يرغب عنه، وهو بارد القلب ساكن اللسان، شيطان أخرس! كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق ، وهل بلية الدين والأمة إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورياستهم ، فلا مبالاة بما جرى على الدين والأمة  وهم مع سقوطهم من عين الله ، ومقت الله لهم ، قد بلوا في الدنيا بأعظم بلية وهم لا يشعرون، وهو موت القلوب ، لأن من مات قلبه يشقى أبد الآباد، قال بعضُ السلفِ: يا عجبًا للناس يبكون على مَنْ مات جسده، ولا يبكون على مَنْ مات قلبه ، والمصيبة الكبرى عدم تأثر القائمين على أمر هذه الأمة بما يحل بالمسلمين ، وهذا دليل على موت الإحساس عندهم ، لأنهم وصلوا إلى حالة جمود قلوبهم ، وموت الإحساس عندهم ، ومن هذا حاله ، كيف له أن يتحرك شعوره وهو يشاهد ما يجري حوله ، ومع صممهم عن سماع صرخات المظلومين ، التي تعاني منها الشعوب ، ونداءات الثكالى وا إسلاماه ، تعطل عندهم السمع ، فهم كالموتى  وليت الأمر يقف عند هذا الحد ، بل يولون مدبرين بعيداً عن الأحداث  . لك الله أيتها الشعوب المسلمه ، التي تعاني من ظلم الظالمين ، قبح الله الذين يقفون موقف المتفرج من معاناتكم ، وسيكتب التاريخ عن أسوأ ما مرّ من التخاذل والتآمر ما تشمئز منه النفوس ، وتقشعّر له الأبدان ، سيكتب التاريخ عن الاغتيالات والمجازر التي ترتكب ، وجيوش المسلمين مكبلة مقيدة رابضة في ثكناتها ، والأسلحة مكدسة في مخازنها ، لا الجندي يثور ، ولا السلاح ينطلق ، لا تعنيهم الصرخات المنبعثة من هنا وهناك ولسان حالها :

نصحوا على قصف المدافع      والمجازر بالمئات

وننام والخوف الرهيب         يلفنا بالطائرات

امٌّ هناك وطفلة وأبٌ تمزقه     الشظايا بالمحرمات

تبكي وقصف الطائرات        يسوقها نحو الممات

حتى متى ؟ وإلى متى ؟ تهدم دورنا وتخرّب ديارنا

حتى متى تقطّع للعدا اشلاؤنا ؟ حتى متى يشرّد أهلنا وأطفالنا ؟

حتى تقاد  عفيفة بالأمس  كانت لا تقاد

إنا نصيح ولا مجيب

إنا نئن ولا طبيب

فأين أين المسلمون ؟ أين أهل العلم منهم والصالحون ؟ لقد لاذوا باسوار السكوت

 

 

 

 

لا بد من تولي الظالم على الظالمين

 قال تعالى : { وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون} 

 أمرنا الله في أكثر من آية أن ننظر ونتدبر في سننه ، التي لا تتبدل ولا تتحول، كي نعتبر بها ونسير في ضوئها ، ونفسر بها ما يحل بنا من مصائب وأحداث، ويهدينا الله بها إلى سبيل الخروج منها والسلامة من عواقبها ومآلاتها. قال الله عز وجل: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْـمُكَذِّبِينَ}آل عمران: 137، وقال سبحانه: {فَهَلْ يَنظُرُونَ إلَّا سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا}فاطر: 43. وإن من سنن الله عز وجل التي لا تتبدل ، ولا يستثنى منها أحد من خلقه   قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِـمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}  الأنعام: 129، يقول القرطبي:«هذا تهديد للظالم إن لم يمتنع عن ظلمه سلط الله عليه ظالماً آخر، ويدخل في الآية جميع من يظلم نفسه، أو يظلم الرعية، أو التاجر يظلم الناس في تجارته، أو السارق وغيرهم»تفسير القرطبي ج 7 ص 76 . قال ابن عباس: إذا رضي الله عن قوم ولى أمرهم خيارهم ، وإذا سخط الله على قوم ولى أمرهم شرارهم، وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( من أعان ظالماً سلطه الله عليه ). قال ابن عباس: تفسيرها «هو أن الله إذا أراد بقوم شراً ولى أمرهم شرارهم»، يدل عليه قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ}الشورى 3 . ج 13ص 15. ويقول الرازي :«الآية تدل على أن الرعية متى كانوا ظالمين، فالله تعالى يسلط عليهم ظالماً مثلهم ، فإن أرادوا أن يتخلصوا من ذلك الأمير الظالم ، فليتركوا الظلم»، ويقول الشيخ السعدي : " من سنتنا أن نولي كل ظالم ظالماً مثله ، يؤزه إلى الشر ويحثه عليه ، ويزهده في الخير وينفره منه، وذلك من عقوبات الله العظيمة الشنيع أثرها، البليغ خطرها. والذنب ذنب الظالم ، فهو الذي أدخل الضرر على نفسه  وعلى نفسه جنى، ومن ذلك أن العباد إذا كثر ظلمهم وفسادهم  ومنْعِهم الحقوق الواجبة ، ولى عليهم ظلمة يسومونهم سوء العذاب  ويأخذون منهم بالظلم والجَور ، أضعاف ما منعوا من حقوق الله  وحقوق عباده على وجه غير مأجورين فيه ولا محتسبين. كما أن العباد إذا صلحوا واستقاموا أصلح الله رعاتهم ، وجعلهم أئمة عدل وإنصاف لا ولاة ظلم واعتساف" تفسير السعدي ص 273 . نخلص من أقوال المفسرين في شرحهم لمعنى الآية الكريمة أن من سنن الله عز وجل الماضية في عباده ، والتي لا تتبدل ولا تتحول ، أن الأمة إذا فشى فيها الظلم والمعاصي بين أفرادها ، ولاسيما المعاصي الظاهرة ، وقل الإنكار لها ، فإن الله عز وجل يسلط عليهم ظالماً أقوى منهم  يظلمهم ، ويضيق عليهم في عيشهم وأرزاقهم ، ويمنع عنهم حقهم  ويضرب عليهم الضرائب ، التي تسبب لهم المشقة والعناء ، والعنت في حياتهم. ويشهد لهذا قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ }الشورى: 30، وقوله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}الروم: 41، ولا يعني هذا تبرئة الظالم المتسلط على الناس ، من حاكم أو وال أو رئيس ومدير، أو تبريراً لظلمه؛ فإنه ظالم آثم بمنعه الناس حقوقهم ، وبفرضه عليهم ما لم يفرضه الله عز وجل عليهم. ولكن المراد ، تفسير ما يحدث ، وبيان سنة الله عز وجل في أن الظالمين لأنفسهم بالمعاصي وللناس ، بمنعهم حقوقهم إذا أصروا على ذلك ، فإن الله عز وجل يسلط عليهم من هو أظلم منهم    جزاء معاصيهم وظلمهم ، لعلهم يتوبون ويرجعون: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}العنكبوت: 40، بل إن الله عز وجل وفي ضوء هذه السنة ، يسلط على الحاكم المستبد الذي يظلم رعيته ، وينشر فيهم الفساد ، ظالماً أظلم منه وأقوى ، يستبيح البلاد ويدمر اقتصادها ، ويذل ولاتها، وهكذا تعمل هذه السنة الإلهية في تسليط الظالمين بعضهم على بعض ، وصدق الله العظيم: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِـمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}الأنعام:129.

 

أشرس أعداء الإسلام

قال تعالى :{ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا }المائذة 82 . فهؤلاء الطائفتان على الإطلاق أعظم الناس معاداة للإسلام والمسلمين، وأكثرهم سعيا في إيصال الضرر إليهم وذلك لشدة بغضهم لهم ، بغياً وحسداً وعنادا وكفرا. وهاهم يربون أبناء المسلمين على عداوة دينهم ، والتنصل منه شيئاً فشيئاً عن طريق التهم الإعلامية المسيطرة على العالم ، وللأسف نجحوا في صناعة شريحة من الأمة الإسلامية تعادي الإسلام ، وتشوه تعاليمه أكثر من اليهود أنفسهم ، لأن من اشرس أعداء الإسلام مسلم جاهل ، يتعصب لجهله ، ويشوه بأفعاله صورة الإسلام  ويجعل الناس يظنوا أن هذا هو الإسلامِ قال تعالى : ﴿ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ ﴾ المنافقون4، ومما زاد من خطورتهم ، ظهور الأئمة المضلين ، والعلماء المنحرفين عن الحق وأمراء الجَور ، الذين يعطلون أركان الإسلام ، عَنْ زِيَادِ بْنِ جَرِيرٍ قَالَ: أَتَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، فقَالَ لِي: (هَلْ تَدْرِي مَا يَهْدِمُ الْإِسْلَامَ؟ يَهْدِمُهُ زَلَّةُ عَالِمٍ، أَوْ جِدَالُ مُنَافِقٍ بِالْقُرْآنِ، وَحُكْمُ الْمُضِلِّينَ ) أخرجه أبو نعيم في الحلية والخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه وإسناده صحيح . وما أكثرَ هؤلاءِ اليوم! أحسنوا زخرفة الألفاظ وأساءوا العمل، وتسلَّقوا منابر شتى، وأعملوا معول الهدم في دين الأمة ، وساعدوا قوى الشر بشتى الوسائل والإمكانات لتضليل المسلمين عن دينهم ، وعقيدتهم وأخلاقهم وقِيَمِهم، فغزوا بلاد المسلمين بكل أنواع الغزو ، الغزوٌ المسلَّح ،والغزو الفكريٌّ   لزلزلة عقول المسلمين ، والعبث بأفكارهم ، ولإزاحة الإيمان والعقيدة السليمة من قلوبهم، فانحرفَ كثيرٌ من المسلمين عن جادة الحقِّ والصواب، وجاء الغزو الأخلاقي في محاولات شنيعة من أعداء الدِّين ، لمحو الأخلاق الإسلامية والآداب الشرعية من قلوب الشباب والناشئة خاصَّة، بجعلهم مَرتَعًا للشهوات البهيمية  يعيشون من أجل الشهوات المحرَّمة ، والفساد الأخلاقي بكلِّ أنواعه ،كالزِّنا واللواط وشرب الخمور والمخدرات؛ مِن غير مُراعةٍ لدينٍ أو خلق ؛ وقد مكروا بالمسلمين في هذا المجال مكرًا شنيعاً من خلال ما يبثُّونه مِن أفلامٍ هابطة ، وصُورٍ ماجنة ، وأغانٍ خليعة آثمة ، تحرِّك في النفوس الشهوات والنزوات، والغزوٌ العاطفي  فقد أظهروا للمسلمين أنهم أهلُ حقٍّ وعدل ، وأخلاق وإنسانية وحبٍّ للخير ، وأنهم أرحم من وُلاة أمورهم، ما يريدون إلا ليرفعوا عنهم الظلم والطغيان، وينهضوا ببلاد المسلمين إلى مصافِّ التقدم والعمران، فخدعوا كثيرا من الشعوب بتلك العبارات والشعارات البرَّاقة ، فاتخذوهم أولياء وفتحوا لهم قلوبهم، وظنُّوا أنهم المنقذ مما هم فيه من البلاء ، والمصائب والمظالم، فنجحت مخططاتُهم أيَّما نجاح، حيث أصبحت أكثرُ بلاد المسلمين مَرتَعًا خَصْبًا لكلِّ كفر وفكر هدَّام، وخُلق ذميم ، فانتشر الجهل والشرك، والبدع والمعاصي ، وسوءُ الأخلاق ، متجاهلين تحذير الله تعالى في كتابه مِن الكفار وكيدِهم، والمنافقين وشرورِهم، والمنهجَ الذي ينبغي أن يكون عليه المسلم ، ففي الصحيحين عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ : ( لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ ، قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ: اليَهُودَ، وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: فَمَنْ)

 كما حذر الإسلام ، من أناس عميت أبصارهم،  فظنوا الإسلام سيفاً يقطع الأيدي والرقاب، وسوطاً يجلد الظهور أو ظنوه ركونا إلى الجهل والتخلف، وقعوداً عن العلم والعمل، أو حسبوا الإسلام طريقاً إلى الفرقة والشتات، وسبيلاً إلى الخراب وسفك الدماء.

ومما ساعد على وجود هذا الصنف الجاهل ، وجود بعض النماذج الإسلامية الجاهلة، والحاقدة التي ضربت للإسلام أبشع الأمثلة وصورته بأقبح الصور، ولما كان هذا الصنف الجاهل يجهل حقيقة الإسلام وتاريخه ، فإنه ظن أن الإسلام هو هذا الذي يراه من هذه النماذج الحاقدة والجاهلة ، ومن هذا الصنف ، المنافقون والحاقدون الذين يحاربون الإسلام كراهية وبغضاً، مع إيمانهم بأنه دين الحق ، وسبيل العز والنصر، ولكنهم كما قال الله في أسلافهم:{صم بكم عمي فهم لا يرجعون}البقرة:18.

 

 

 

 

 

 لا خلاص لنا بغير الفكر الإسلامي

الفكر الإسلامي ربانيّ في غاياته ومناهجه، إذ الوحي مصدره، فقال تعالى : { وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} . هذا الفكر يمتاز   بوضوح المحتوى والأهداف والوسائل، وهو يسير في طريق موازٍ للفطرة التي فطر الله الناس عليها، وينسجمٌ مع المهمّة التي انتدب الله الإنسان لتحقيقها، وهي عمارة الأرض بالحقّ والعدل، قال الله تعالى: { وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } ، كما يتناول كلّ شؤون الحياة الدنيا، ويستوعب كلّ القضايا الروحية ومسائل الآخرة، ويوجّه خطابه الفكري إلى كلّ الشعوب، أفراداً وجماعات، ولا يقف عند زمنٍ دون آخرٍ، ولا يتقوقع في مكانٍ دون سواه. لأن المجتمع الذي يقوم على الإسلام، والذي يحكمه شرع الله ، وتسوده أفكار الإسلام يدرك أن لديه رسالة في الحياة هي إعلاء كلمة الله. وإن سلوكه في الحياة، الذي يبرز في أنظمته  وفي أعماله الجماعية، لا بدّ أن يكون مبنياً على أساس الإسلام.

وأما المجتمع الذي يجمعه إشباع الحاجات والغرائز، فإنه لا يرقى أن يكوِّن أمّة. لأن هذا المجتمع يكوّن مفاهيمه عن الأشياء بناء على المصلحة والمنفعة. وبذلك يصل إلى الانحطاط في كل شيء، وتتكالب عليه سائر الأمم .

قديماً كانت الأمة الإسلامية تحكمها قوانين الإسلام، وكانت تسيّرها حياتها ومواقفها بحسب ما أنزل الله تعالى. ولذلك اعتبرت الأمة رسالتها في الحياة نشر الإسلام وإعلاء كلمة الله، وذلك بإزالة الحواجز المادية التي تحول دون ذلك ، لذلك أمر الله تعالى أمة الإسلام بالجهاد لتطبيق شرع الله في الأرض قال تعالى : { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كلُّه لله }، وهبّت الأمة لا يشغلها شاغل عن محاربة أعداء الله ، حتى تعلي كلمة الحق ، عندها خاض عقبة بن نافع الأطلسي بفرسه، وقال: “والله لو علمت أن وراء هذا البحر أناساً لا يعبدونك لعبرت البحر حتى أقاتلهم”. وعندها بلغ المسلمون الصين وفرنسا في مئة سنة. وعندها علت مكانتهم بين الأمم ، فكانوا أعظم دولة في العالم.

وأما اليوم فقد انحطت أمتنا الإسلامية، وانخفض معها سلوكنا، وانحطت عقولنا، حتى صرنا نرى، الحق باطلاً والباطل هو حقا ، وخضعنا لأفكار الكفر، حتى هدمنا دولة الإسلام حاملة رايتنا، ومنارة عزِّنا ، وسر حياتنا ومنبع كرامتنا،. ولا زلنا نخضع لحكم الغرب حتى بعقولنا، ننشد الحياة في الغرب، فمن قائل بالوطنية وآخر بالعلمانية، وآخر يترك الإسلام وأمته ويتبنّى الشيوعية ، حتى بلغ بنا الانحطاط إلى درجة أصبحنا نتمنى أن نكون في حمى دول الغرب، الذي يتحكّم في بلادنا  يسلب خيراتنا، ويذيقنا ألوان الهوان والذلّ  وصرنا ندور معه حيث دار بعد أن اقتطع من بلادنا أعزها، لألد أعدائنا اليهود شذّاذ الآفاق. ثم تجدنا عند الضيق نسعى إلى دول الشرق والغرب ، مستنجّدْين بهم ، طالبين منهم أن يحلّوا لنا مشاكلنا التي صنعوها بأيديهم ، مكراً بنا وإذلالاً لعزتنا ، متناسين أمر الله بقتالهم : { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كلّه لله} الذي يوم استجاب له المسلمون قديماً ، رأو احتلال الكفار لبلادنا ، عاراً يلطخ جبيننا ، ويلزم الموت دونه. فاستجابوا لأمر الله تعالى، وهبوا للذود عن أحكام الإسلام ، وراية الإسلام  وبلاد الإسلام، ورأو كل ما عدا ذلك من العيش الرغيد ، رخيصاً دون الإبقاء على دولة الإسلام ورايته. وبذلك ردوا الصليبيين على أعقابهم إذ جاءوا غازين، وتصدوا للمغول ودخلوا في دين الله وانقلبوا من كفار إلى مجاهدين في سبيل الله  أما اليوم، أصبحنا نرى أن الاستعمار يقربنا من الغرب، واصبحنا نرى في الغرب قبلة أنظارنا ومدار تفكيرنا ومحل احترامنا وتقديرنا، حتى صرنا نتمنى أن تأتي قوى الغرب لحمايتنا وحل مشاكلنا، مع علمنا بأن الغرب هو الذي صنع لنا هذه المشاكل  ليتمكن من العودة إلى بلادنا حينما يرى فينا بشائر نهضة أو معالم صحوة، ومع إيمانهم بقوله تعالى: { ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسّكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تُنصرون}  هود:113 .

إن الفكر هو الذي يُنهضنا. وإذا استطاع الغرب أن يغلبنا في وقت فإنما كان لانحطاط تفكيرنا وجهلنا، وعدم فهمنا لأفكار الإسلام ، فاستطاع أن يضللنا ويغزونا بفكره ومن ثم بقواته ، ولن نتحرر من الاستعمار إلا بعودتنا إلى منهج الإسلام وأفكار الإسلام ، الذي تكمن فيه عزتنا ، ويكمن فيه تحررنا من ربقة الاستعمار، قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم، واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون } .

 

 كيف عالج الإسلام مرض الخوف والحزن

كل الأمراض النفسية سببها الخوف أو الحزن ، لذا على الإنسان أن لا يحزن على ماض لأن الماضي قد انتهى والمستقبل لم يأت موعده ، فلا تحمل هم الغد ولا تحزن على الماضي ، وقد عرّفه الإمام الغزالي بقوله : " الخوف عبارة عن تألم القلب واحتراقه بسبب توقع المكروه في الإستقبال" ، ويقول في كلام نفيس آخر: "إن في القلب شعث لا يلمه إلا الإقبال على الله، وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس بالله، وفيه حزن لا يذيبه إلا السرور بمعرفته سبحانه، وفيه قلق لا يسكنه إلا الفرار إليه، وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضا بأمره، ونهيه، وقضائه، وقدره، وفيه فقر وفاقة لا يسدها ولا يغنيها إلا محبته، والإنابة إليه، والأنس به" مدارج السالكين: 3/ 156. ومن يخاف من المرض ، عليه أن يأخذ بأسباب الوقاية والعلاج، ثم يتدبر قوله تعالى على لسان خليله إبراهيم: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ . وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} [الشعراء:80-81]. ويردد ثلاث مرات صباحاً ومساء ( باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ) فهي أيضاً من أسباب العافية من كل سوء، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من قالها ثلاثاً لا تضره أي مصيبة وأي ضرر  

فهذه الأذكار من القرآن ومما جاءت به السنة كلها من أسباب الحفظ والسلامة والأمن فينبغي للمؤمن أن يأتي بها ، وما تيسر منها ، وهو على طمأنينة وثقة بربه وأنه سبحانه وتعالى القائم على كل شيء ومصرف كل شيء وبيده التصرف والعطاء والمنع والضر والنفع، وهو القائم على كل شيء ، وهو المالك لكل شيء سبحانه وتعالى، وهو القادر على كل شيء جل وعلا. وما أحسن قول صفيّ الدين الحلّيّ :

كُن عن هُمومِك معرِضَا   وكِلِ الأمورَ إلى القَضَا

وانعم بطول سلامةٍ          تسليك عما مضى

وأبشِرْ بخيرٍ عاجلٍ         تنسى به ما قد مضى

فلَرُبّ أمرٍ مُسخِطٍ         لك في عواقِبِه رِضا

ولربّما اتّسع المَضيــ        ـقُ وربّما ضاق الفَضَا

الله يفعل ما يشا            فلا تكن متعرِّضا

الله عوّدك الجميلَ       فقِسْ على ما قد مضى

 وعلى المسلم أن يعتني بحفظ آيات السكينة الست وإتقانها وتكرارها فيضع يده على صدره او على صدر أهله او أولاده ويقرأ هذه الآيات ويكررها ، فالاستشفاء بها هو من جملة الاستشفاء بالقران الكريم الذي جعله الله شفاء للناس كما قال عز وجل : { وننزل من القران ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين } ، وهذه آيات الشفاء :  

الاية الأولى: { وقال لهم نبيهم إن اية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم} .البقرة ٢٤٨ الاية الثانية: { ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين } . التوبة ٢٦

 الاية الثالثة: { إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها }. التوبة ٤٠.

 الاية الرابعة : { هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم } . الفتح ٤

 الاية الخامسة: { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا } . الفتح ١٨

 الاية السادسة: { إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين } . الفتح ٢٦.

أما الحزن : فلم يأمر الله به ولا رسوله، بل قد نَهَى عنه في مواضع، وإن تعلق أمر الدين به، كقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ آل عمران: 139

وقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ﴾ النحل: 127، وذلك لأنه لا يجلب منفعة، ولا يدفع مضرة، ولا فائدة فيه، وما لا فائدة فيه لا يأمر الله به، نعم لا يأثم صاحبه إذا لم يقترن بحزنه محرم، كما يحزن على المصائب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إِنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ، وَلَا بِحُزْنِ الْقَلْبِ، وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا – وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ – أَوْ يَرْحَمُ ) . وقد أرشدنا رسول الله صلى الله عليه و سلم ، الى دعاء هو علاج للحزن والهم والغم الذي يتعرض له المسلم ، فاذا دعى به العبد فإن الله تعالى يبدله سروراً وسعادة بدل حزنه وهمه وغمه .قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( مَا أَصَابَ أَحَدًا قَطُّ هَمٌّ وَلَا حَزَنٌ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ، وَابْنُ عَبْدِكَ، ابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجِلَاءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ هَمِّي، إِلَّا أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّهُ وَحُزْنَهُ، وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَحًا )، قَالَ: فقيل: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَا نَتَعلمُهَا؟ قَالَ: «بَلْىَ، يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهَا أَنْ يَتَعَلَّمَهَا   .

 

دروس وخطب

نقدم بين يديكم مجموعة من الدروس والخطب والمواعظ 

واسال الله ان يتقبل منا جميعا