الدعوة والدعاة
إن الإسلام لا يكتفي من المسلم أن يكون صالحاً في نفسه ، بل عليه أن يبذل جهده في إصلاح غيره وبما أن الناس خطَّائين بطبيعتهم ، وكانت أهوائهم تغلب على أحوالهم ، فإن نقلهم إلى الصواب وتثبتهم عليه يحتاج إلى جهد متصل ودعوة مستمرة ، كما يحتاج إلى إصرار ، لهذا كانت فريضة الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتواصي بالحق والتواصي بالصبر ، فكان كل مسلم في نظر الإسلام مكلف بالدعوة إلى دينه ، ولذلك جاء الأمر بالدعوة في مواطن كثيرة من القرآن الكريم قال تعالى : ﴿ أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ﴾ النحل 125 . وقال تعالى : ﴿ فلذلك فادع واستقم كما أمرت ﴾ الشورى 15 . وكل من اتبع رسول الله يعتبر داعية قال تعالى: ﴿ قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني ﴾ يوسف108 .
ولا يحب الإسلام من المسلم أن يعمل وحده فالمؤمن كما أفاد حديث رسول الله للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضاً ، والمرء قليل بنفسه كثيرٌ بإخوانه ، والتعاون على البر والتقوى فريضةٌ دينية والعمل الجماعي للدعوة الإسلامية واجب شرعي ، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ومن أكبر الأخطار التي تواجه الدعوة منعها باعتبارها عقيدة ونظام حياة ، والوقوف في وجه الداعية والعاملين لتحكيم شريعة الإسلام وإقامة دولته ، وتوحيد أمته وتحرير أوطانه ، ونصره قضاياه وتجميع الناس عليه . إن كل إنسان يلمس الضغط على الدعوة والدعاة والتضييق على العمل الإسلامي بينما يرى أصحاب المذاهب الوضعية ، يتمتعون بالحرية والمساندة بلا مضايقة ، مما يدعو للتساؤل : لماذا يطلق العنان في أرض الإسلام لدعاة العلمانية وغيرها من المذاهب والأنظمة بحيث تنشأ لها أحزاب ومنظمات وتنطق باسمها صحف ومجلات ؟ في الوقت الذي يفرض الحظر على الإسلام وهو صاحب الدار وتوضع الكمائم على أفواه دعاته والمعبرون عن عقائد الأمة وقيمها
أحرام على بلابلة الدوح حـلال للطير من كل جنس
كل دار أحق بالأهل إلا في خبيث من المذاهب رجس
إن الدعوة إلى الإسلام عقيدة ونظام حياة ، أصبح بضاعةً محظورة وسلعة مصادرة في أقطار الإسلام والمسموح به هو الإسلام المستأنس ، إسلام الدراويش ومحترفي التجارة بالدين ، إسلام الموالد والمناسبات الذي يسير في ركاب الأنظمة، ويدعو لها بطول البقاء ، إسلام الجمود في التفكير .
هذا هو المسموح به والمشمول بالرعاية والتأييد يباركونه ويظهرون التكريم لرجاله والتعظيم لدعاته ليقوموا بدور التخدير للشعوب المقهورة وإماتة روح الجهاد لدى الشباب ومقاومة الظلم والظالمين . أما إسلام القرآن والسنة إسلام الحق والعدل إسلام العزة والكرامة والبذل والجهاد فهو مرفوض من قبل الأنظمة التي تحكم العالم الإسلامي . والأمل بالله ألا يدوم هذا الحال من التضييق على الإسلام ، لأن الإسلام لا بد وأن يجد له أهلاً وأنصاراً ولا تزال طائفة من هذه الأمة قائمين على الحق لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم لأن الدعوة إلى الإسلام كالماء القوي الدافق ، لا بد وأن تجد لها مجرى ولو بين الصخور .
وهل يسع مسلماً يؤمن بالله ويتوجه بتوجيه رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل : ( من لم يهتم لأمر المسلمين فليس منهم ) . أن يرى مآسي أمته وإخوانه في العقيدة معرَّضين للإبادة بالتقتيل والتنكيل ثم يصبح قرير العين غير مهتمٍ بأخوة الإيمان ، ورابطة الإسلام ؟ إن الأنباء تحمل كل يوم إلى المسلم ما يجري لإخوانه في فلسطين ، ما يزلزل قلبه زلزالاً شديداً وما يعصر قلبه ويكوي كبده بالأسى والحسرة كي النار أو ما هو أشد إيلاماً ، والأهم من ذلك انه لا يجد من حكومات بلاد الإسلام تجاوباً مع هذه القضية العادلة ، وقد يجد الإعراض عنها والتعتيم عليها أو تغليب الولاءات والارتباطات المختلفة على الولاء لله ولرسوله ولدينه ولأمته وقضاياها ، يرى المسلم هذا في ديار الإسلام ويرى التشريع الذي يجب أن يُعبِّر عن عقائد الأمة وقيمها في صورة قوانين وتشريعات تبارك المنكر وتؤيد الفساد ، لأنها من وضع الناس وليست من كتاب الله وسنة رسوله وقد عُطلت بموجبها حدود الله ، وأُسقطت فرائضه وفي مقدمتها الجهاد ، والقائمون على أمر الأمة بموجب هذه القوانين يسيرون في واد ، وتعاليم الإسلام ومنهجه في واد آخر ، كما نرى الذين يوالون من عادى الله ويعادون من والى الله ، ولا يذكرون الإسلام إلا في الأعياد والمناسبات تمويهاً على شعوبهم وضحكاً على لحاهم .
إننا نعيش في وقت نرى الإسلام بشموله وتكامله وتوازنه غائب عن الساحة غريب في أوطانه منكور بين أهله ، معزولٌ عن الحكم والتشريع وعن توجيه الحياة العامة والخاصة ، مما أدى إلى شيوع السرقة والنهب ، فترى اللصوص الكبار يتمتعون بما لذ وطاب بينما يتعرض غيرهم للعذاب .
وقـد كرَّست جهود الأعـداء من الخارج وعملاؤهم في الداخل ، على أن يكون الإسلام عقيدة دون شريعة وعبادة دون معاملة وديناً دون دولة وقرآناً دون سلطان . ولنا أن نتسائل ، ما ذنب الإسلام حتى يحكم عليه بالعزل عن قيادة الأمة والطرد من موقع التشريع والتوجيه ، ما ذنبه حتى يحبس في خبايا الضمائر وإن سُمح له أن يخرج فبين جدران المساجد والزوايا وحتى في هذه الأماكن بشرط أن يبقى قصير اللسان خفيض الصوت حافظاً للمثل القائل : من سعادة جدك ، وقوفك عند حدِّك . مسجد موجه ليس له حرية الدعوة ولا الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر مما ولد عند فئة غير فليلة من المسلمين الشعور بالإثم والإنكار لهذا الوضع القائم ، وفقد الإحساس بالرضى عنه والاطمئنان إليه ، لأنه وضع يفتقد الشرّعية في نظر الإسلام ، وضعٌ لا يستطيع أن يغيِّره بيده و لا حتى بلسانه ، فلم يبقى إلا الإنكار القلبي وهو أضعف الإيمان ، حتى إن المسلم الحق يغلي من داخله كما يغلي القدر فوق النار ، ويتحرق فؤاده على ما يرى حسرةً وغما ، وهو لا يستطيع أن يفعل شيئاً . إن الواقع السيئ لا يتغيَّر بالأماني الطيبة ، ولا بالمداهنة ولا المسايرة لهذا النظام أو ذاك ، لأن لله سنناً في تغيير المجتمعات والأقوام لا تحابي أحدا . وما أصدق قول القائل :
ولا تكن عبد المنى فالمنى رؤوسٌ أموال المفاليس
فلا بد لأصحاب الدعوات أن يتحملوا تكاليفها وأن يصبروا على الإيذاء من أجلها ، ولا يحاولوا التخلص من واجب الدعوة توهماً بأن ما ورد في الآية القرآنية : ﴿ عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ﴾ المائدة 105 يعفيهم من تكاليف الدعوة إلى الله ، وقد تسرب هذا الوهم إلى البعض في زمن أبو بكر فخطب في الناس وقال : " يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية وتضعونها في غير موضعها ، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه يوشك أن يعمهم الله بعقاب ) . وقد يحتجوا بانتشار الباطل في الأرض بحيث لم تعد الدعوة تجدي شيئا ، علماً بأن واجب المسلم هو القيام بواجب الدعوة إلى الله سوء استجاب الناس أو لم يستجيبوا ولا بد أن يثابر الدعاة ويكرروا الدعوة ، ولا يجوز أن ييأسوا من صلاح النفوس واستجابة القلوب مهما واجهوا من إنكار وجحود ، وليعلم كل داعية أن الدعوة هي الأصل لا شخص الداعية ، وخير للداعية أن يصبر فلا يضيق صدره بما يقول المتقولون . وإن في قصة ذي النوى لدرساً لأصحاب الدعوات ينبغي أن يتأملوه . ذي النوى أي صاحب الحوت وهو يونس عليه السلام فقد التقمه الحوت ثم نبذه ، قصة ذلك أنه أرسل إلى قرية فدعا أهلها إلى الله فاستعصوا عليه ، فضاق بهم صدرا وغادرهم مغاضبا ولم يصبر على معاناة الدعوة معهم ، ظاناً أن الله لن يضيق عليه الأرض ، فهي فسيحة والقرى كثيرة والأقوام متعددون ، وما دام هؤلاء يستعصون على الدعوة ، فسيوجهه الله إلى قوم آخرين . وقاده غضبه الجامح وضيقه الخانق إلى شاطئ البحر فوجد سفينة فركب فيها حتى إذا كانت في اللجة ثقلت ، فقال ربانها : إنه لا بد من إلقاء أحد ركابها ، لينجو سائر من فيها من الغرق فساهموا فجاء السهم على يونس فالقوه في البحر ، فالتقمه الحوت فلما كان في الظلمات ظلمة جوف الحوت وظلمة البحر وظلمة الليل نادى "أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين". فاستجاب الله دعاءه ونجاه .
وسياق القصة يدل على أن الداعية أداة في يد القدر ، والله أرعى لدعوته واحفظ ، فليؤد الداعية واجبه في كل ظرف ، وفي كل جو والبقية على الله والهدى هدى الله . كما في القصة دلالة على أن رحمة الله لذي النوى ، واستجابة دعائه المنيب في الظلمات بشرى للمؤمنين وكذلك ننجي المؤمنين .
إن من أقسى الضربات التي أصابت الدين وعوَّقت مسيره ، خضوع طوائف منه لسيطرة المستبدين بل مساومة هذه الطوائف لإجابة أهوائهم وطاعة نزواتهم ، والميل بتعاليم الدين نفسها وفق ما يطلبه أولئك المستبدون ، الذين استطاعوا أن يسيروا بالدين في ركابهم ، وأن يسخروا رجاله في مآربهم والويل للدين إذا استغل في خدمة أشخاص أو سياسات ، يروى أن رجلاً رأى الشرطة يسوقون لصاً إلى الحاكم فسأل : ما هذا ؟ قالوا : سارق يجب قطع يده ، فقال : سبحان الله سارق السّر يُسعى به إلى سارق العلانية .
إنها مصيبة والأدهى منها وأمر ، أن نرى الذين يجعلون من الدين تُكأة أو واجهة للغصب الحرام وقطع ما أمر الله به أن يوصل ، وكم يحتقر الناس الضمير الديني ، عندما يرون اليهود في فلسطين أداة قذرة في يد الاستعمار ، يجتاح بها كيان شعب مستضعف ، ويحرمه من كل كرامة مادية أو أدبية يمكن أن تتوفر للإنسان . وقديماً عندما استولى الصليبيون على بيت المقدس واعملوا السيف في أهله وصف جودفري في خطاب بعثه إلى البابا قائلاً : إن خيولنا تخوض إلى ركبتها في بحر من دماء الشرقيين ". ولما وصلت هذه الأخبار السيئة إلى دمشق ، هاج الناس فيها وماجوا ، وذهبوا إلى الخليفة في بغداد ومعهم قاض المدينة وحضروا في الديوان ، وقطعوا شعورهم واستغاثوا وبكوا ، فماذا حدث ؟ لا شيء ، يقول التاريخ : فوقع التقاعس لأمر يريده الله تعالى . تخاذل وانقسام وتفريط وخيانات لأمانات الله ورسوله ، وذهول عن حماية الدين والشرف والأهل ، وفوضى ضربت في كل ناحية وجعلت واجب الدفاع المقدس بعيد الوقوع ، أين العرب والمسلمون يومئذٍ وماذا فعلوا ؟.. في وسط هذه الغيوم الكثيفة انشقت الغيوب عن رجل جمع الشتات ، ونفخ روح القوة في الكيان المتداعي ولمَّ فلول المسلمين تحت راية الإسلام ، ذلك هو البطل صلاح الدين ، وهو كما نعلم ويعلم الناس كردي مسلم ، لا ينتسب إلى عدنان ولا إلى قحطان ، وهاهو التاريخ يعيد نفسه وأصبحنا بحاجة إلى رجل كصلاح الدين ، ليعز الإيمان و يدافع عن الإسلام ، ومهما نسى المسلمون من مبادئ دينهم ، وتخلوا عن مزايا ملتهم ، فإنهم لن ينسوا أن المؤمنين قوة ، ولن يشكوا في أن الاعتصام بحبل الله يوم تتهيأ لهم القيادة الحكيمة الحازمة ، التي تمض بهم إلى طريق النجاة ، ويومئذٍ يفرح المؤمنون ينصر الله .