الدعــــــــــوة

الدعــــــــــوة

 

عظمة الدعوة إلى الله

 

قال تعالى :﴿ ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المؤمنين ﴾ فصلت 33 . الدعوة إلى الله أحسن كلمة تقال في الأرض ، وتصعد في مقدمة الكلم الطيب إلى السماء ، ومع أن العمل الصالح الذي يصدق الكلمة والنهوض بواجب الدعوة أمرٌ شاق ، إلا أمره عظيم ، لأن مقام الدعوة إلى الله من أشرف مقامات التعبد ، وهي ليست تطّوعاً ، بل هي تكليف وواجب لا مفر من أدائه والله من ورائه قال تعالى : ﴿ والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ﴾ التوبة 71 . فالدعوة إلى الخير وأعلاها الدعوة إلى لله  واجبةٌ على كل مسلم   ومن يترك الدعوة إلى الله متعمداً  فإنه لا يكون من إتباع الرسول صلى الله عليه وسلم كما لا يعتبر رجلاً من الرجال الذين يحملون دعوة الله بحق  قيل لأحد فحول الرجال : " لنا حويجة فقال : اطلبوا لها رُجِيْلاً " فالرجيل تشبع نفسه بعمل اليسير ، أما الرجل فهو من كانت همته عالية ، قد رصد نفسه لضخام الأعمال ،  ويأنف من صغارها  والدعوة إلى الله ، هي شأن الرجال حقاً  ، أما أهل السكوت والخُرْس فليس فيهم إلا رويجل .  إن الدعوة إلى الله ونصرة رسوله صلى الله عليه وسلم بيعة مع الله وعهدٌ معه   وإن للدعاة في عهودهم صفة الوفاء ، فهل نوفي لله بعهده وبيعته   كما كان سلفنا الصالح قال أبو سعيد الواسطي : " دخلت على أحمد بن حنبل الحبس قبل الضرب  فقلت له في بعض كلامي يا أبا عبد الله : عليك عيال ولك صبيان وأنت معذور كأني أسهل عليه الإجابة ، فقال لي : إن كان هذا عقلك يا أبا سعيد ، فقد استرحت " وما أكثر ما يقال مثل هذا للدعاة هذه الأيام ، وما أكثر من يحدث نفسه بمثل هذا ، فيجبن ولا يشارك الدعاة سيرهم ، وإنما هو حديث من استراح كما يقول ابن حنبل  فمن لم يكن مع أحمد ، وقعد لعذر أو شبه عذر ، فإنه على الأقل يحتقر نفسه ، لعدم التزامها مع الدعاة العاملين ، كما قيل للزاهد بشر بن الحارث يوم تعذيب أحمد بن حنبل " قد ضُرِب أحمد بن حنبل إلى الساعة سبعة عشر سوطا ، فمد بشر رجله وجعل ينظر إلى ساقيه ويقول : " ما أقبح هذا الساق فلا يكون القيد فيه نصرةً لهذا الرجل " .

 

إن الناظر إلى الجهود المبذولة في الدعوة إلى الله ، يجد أنها أقل من المطلوب ، وأن الكثير من الدعاة لم يعرفوا طريق العمل ، أو عرفوا ومنعهم الخوف من تحمل التضحيات ، فانعزلوا في المساجد والبيوت يبكون الإسلام وأهله . 

 

عن عامر الشعبي "  أن رجالاً خرجوا من الكوفة ، ونزلوا قريباً يتعبدون ، فبلغ ذلك عبد الله بن مسعود فأتاهم ، ففرحوا بمجيئه إليهم ، فقال لهم ما حملكم على ما صنعتم ؟ قالوا أحببنا أن نخرج من غمار الناس نتعبد ، فقال عبد الله : لو أن الناس فعلوا مثل ما فعلتم ، فمن كان يقاتل العدو ؟ وما أنا ببارح حتى ترجعوا "

 

نعم من يقاتل العدو إذا اعتزل العابدون ؟ ومن يرد كيد الأعداء إذا بقي المصلون في مساجدهم ، لا يضمون جهودهم إلى جهود دعاة الإسلام ؟ ، ويقول ابن الجوزي : " الزهاد في مقام الخفافيش ، قد دفنوا أنفسهم بالعزلة عن نفع الناس  وهي حالة حسنة إذا لم تمنع من خير ، من إتباع جماعة وإتباع جنازة وعيادة مريض ، إلا أنها حالة الجبناء ، أما الشجعان فهم يتعلمون ويعلمون " .

 

إن العالمين من كل جيل لا يجيزون لأحد أن يعتزل ويقعد عن الدعوة إلى الله ولو أكثر العبادة ولقد أحسن القائل :

 

حسبوا بأن الدين عزلة راهب    واستمرءوا الأوراد والأذكارا

 

عجباً أراهم يـؤمنون ببعضه     وأرى القلـوب ببعضه كفارا

 

والدين كان ولا يزال فرائضاً    ونـوافـلاً للـه واستغفـارا

 

إن الإسلام اليوم أحوج ما يكون إلى جماعة من الدعاة ، الذين يدركون واجبهم   فيدعون الخلق إلى معرفة الحق ، يحملون المنهج ويؤمنون به إيماناً كاملا ، فلا عاطفة تحرفهم ولا واقع يزيغهم ، غايتهم السامية العمل بطاعة الله ، رجاء رحمة الله  على نورٍ من الله ، إنها التقوى بعينها .

 

أما من يريدون هذا الدين أن يكون مجرد عقيدة نظرية ، بلا عبادة ولا عمل أو عبادة بلا أخلاق ، أو عقيدة وعبادة وأخلاقاً   ولا يريد تشريعا ولا نظاماً للحياة أومن يفصل بين الإسلام والحكم ، وينادي به ديناً بلا دولة ، وعقيدة بلا شريعة وقرآناً بلا سلطان ، هذه الدعاوى غير مقبولة ، لأن الإسلام في عقائده وعباداته وأخلاقه وتشريعاته ، وحدة مترابطة ، لا يقبل التجزئة ، ولا يجوز أخذ بعضها وإهمال بعضها ، لأن الذي شرعها واحد ، وهو الله الذي أمر بطاعته فيها   وحذر من تركها أو ترك بعضها ، وإن فتح باب التفريط في جزء  من دين الله  لا يؤدي إلا إلى ضياع هذا الدين كله ، في الوقت الذي تستحكم  المؤمرات يوماً بعد يوم لاغتيال الإسلام أو الإجهاز عليه ، وفريقُ من الدعاة يشتغلون ببعض جوانب الإسلام ، ثم يتساهلون في الجانب الذي يتعلق بالواجبات وعظائم الأمور فمن يقوم بالدعوة إلى العبادات والالتزام بالسنن ، وهو مما ندب الإسلام إليه لأنها جزء من الإسلام ، وجزء من الخير الذي أوجب الله على المسلمين الدعوة إليه حيث قال تعالى : ﴿ ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون المنكر ﴾ هناك فرق بين أعمال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وبين أعمال إزالة المنكر ، فأعمال ألأمر بالمعروف والنهي عن المنكر   مقتصرة على القول فقط ، أما إزالة المنكر فإنه يتعدى ذلك إلى استعمال اليد أخذاً من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ﴿ من رأى منكم منكرا ًفليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ،  فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ﴾ رواه مسلم . على أن لا يؤدي استعمال اليد إلى منكر أشد كالفتنة والقتل وإشهار السلاح .  والشريعة الإسلامية حاكمة على جميع أفعال المكلَّفين، فلا يخلو فعل ولا واقعة من الوقائع إلا وللشريعة فيها حكم من الأحكام الشرعية الخمسة (الوجوب ، أو الاستحباب ، أو الحرمة ، أو الكراهية ، أو الإجازة ) . كما قرَّر ذلك الأصوليون والفقهاء . ولكن الدعوة إلى العبادات والالتزام بالسنن ليس كل الإسلام  لذا فإن الدعوة يجب أن تكون بالإسلام بمجموعه ، من عقائد وعبادات ، وأخلاق ومعاملات ، وأنظمة حكم واقتصاد   واجتماع وسياسة خارجية ، وغيرها من الأحكام الشرعية . وإن الاقتصار على الدعوة إلى العبادات والسنن لا علاقة لها بالقضية المصيرية للمسلمين ، ولا يمكن أن تحقق الغاية التي يجب أن يعمل المسلمون لتحقيقها ، وإن الانصراف إلى هذه الأعمال وأمثالها  يصرف الجماعة القائمة بها عن العمل الواجب الذي أوجب الله على المسلمين القيام به ، لتطبيق أحكام الإسلام في الحياة والدولة والمجتمع .

 

إن الوعظ والإرشاد أعمال جليلة ، إلا أنها ليست الطريق لحل القضية المصيرية للمسلمين ، فحل القضية المصيرية ، والوصول إلى الهدف الذي يجب أن يسعى إليه المسلمون ، والغاية التي يجب عليهم أن يعملوا لتحقيقها ، وهي العمل بأحكام الإسلام وحمله إلى العالم ، والعمل على تغيير المشاعر غير الإسلامية  لتصبح مشاعر إسلامية ترضى لما يرضي الله ورسوله ، وتغضب لما يغضب الله ورسوله لقـوله تعـالى: ﴿ وأن احكم بينهم بما انزل الله ولا تتبع أهواءهم  واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله اليك ﴾ والتحذير هنا من دسائس غير المسلمين واتباع أهوائهم ، التي تحاول دائماً أن تفتن المسلم عما أنزل الله إليه من كتاب  وما يشرع له من أحكام ، إن لم يكن عن الكل ، فعن بعض ما أنزل الله ، وربما رضوا بذلك كخطوة أولى تتبعها خطوات ، على أن فتح باب التفريط في جزء من دين الله ، لا يؤدي إلا إلى ضياع الدين كله ، ومن هنا أنكر الله على بني إسرائيل تجزئتهم لدينهم بهذا الأسلوب الباـلغ الشدّة قـال تعـالى : ﴿ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ البقرة 85 . ولما أحب بعض اليهود أن يدخلوا في الإسلام بشرط أن يحتفظوا ببعض الشرائع اليهودية ، مثل تحريم يوم السبت ، أَبَى الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم إلا أن يدخلوا في شرائع الإسلام كافة وفي ذلك نزل قول الله تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ﴾ البقرة 208. وخاطب الله رسوله صلى الله عليه وسلم  فقال: ﴿ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ﴾ المائدة 49 . فهنا يحذر الله رسوله من غير المسلمين: أن يصرفوه عن بعض أحكام الإسلام وهو خطاب لكل مَن يقوم بالدعوة وأمر الأمة من بعده .

 

والحقيقة أن تعاليم الإسلام وأحكامه في العقيدة والشريعة والأخلاق والعبادات والمعاملات ، لا تؤتي أكلها إلا إذا أخذت متكاملة ، فإن بعضها لازم لبعض وهي أشبه (بوصفة طبية) كاملة مكوَّنة من غذاء متكامل ، ودواء متنوع   وحِمْية وامتناع عن بعض الأشياء، وممارسة لبعض التمرينات ... فلكي تحقق هذه الوصفة هدفها ، لا بد من تنفيذها جميعا ، وإنَّ تَرْك جزء منها قد يؤثر في النتيجة كلها . فالإسلام هو رسالة الحياة كلها ، ورسالة الإنسان كله ، كما أنه رسالة العالم كله ، ومن يقرأ كتب الشريعة الإسلامية ، أعني كتب الفقه الإسلامي  في مختلف مذاهبه ، يجدها تشتمل على شؤون الحياة كلها  من فقه الطهارة ، إلى فقه الأسرة ، إلى فقه المجتمع ، إلى فقه الدولة  وهذا في غاية الوضوح لكل طالب مبتدئ ، ناهيك بالعالم المتمكِّن ، وقد رأينا المُصلحين الإسلاميين في العصر الحديث يتبَنَّوْن شمول الإسلام للعقيدة والشريعة ، والدعوة والدولة  والدِّين والسياسة ، ولم يكتفوا بتقرير ذلك نظريًا ، بل خاضوا غمار السياسة عمليًا  وواجهوا مخاطرها ومتاعبها ، وعانوا محنها وشدائدها ، ومنهم من قدم رأسه لمقصلة السياف أو ظهره للسياط والجلاد ، حسبه لله تعالى ، وقياماً بالواجب الذي فرضه الله على العلماء حَمَلَة الشرع ، في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . جاء في الإحياء لحجة الإسلام الغزالي : " العلماء ثلاثة : إما مهلك نفسه وغيره ، وهم المصرحون بطلب الدنيا المقبلون عليها ، وإما مسعدٌ نفسه وغيره ، وهم الداعون الخلق إلى الله ظاهراً وباطنا ، وإما مهلك نفسه مسعدٌ غيره  وهو الذي يدعو إلى الآخرة ، وقد رفض الدنيا في ظاهره   وقصده في الباطن قبول الخلق وإقامة الجاه " فلينظر الدعاة من أي الأقسام هم ، وبقدر تمسكهم بالإسلام ، وتطبيقهم له وحملهم لدعوته ورعايتهم لأحكامه وخدمتهم لأتباعه  يكون الصلاح ويكون العدل  وبعكسه يظهر الفساد ويسود الظلم قال تعالى : ﴿  ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في ألآخرة من الخاسرين ﴾ آل عمران 85 . 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

بالدعوة إلى الله يكون نجاحنا وفلاحنا
الدعوة إلى الله : هي الدعوة إلى الإيمان به  وبما جاءت به رسله بتصديقهم فيما أخبروا به وطاعتهم فيما أمروا ، أوهي دعوة الناس إلى الإسلام بالقول والعمل ، والدعوة إلى اللَّـه مطلوبة؛ لأنها تعليم وتربية، وعليها عماد السعادة في الدنيا والآخرة، أمر اللَّـه بها نبيه  فقال تعالى : }دع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن { علمنا الله تعالى في القرآن أن طريقة رسله في نشر الدين إنما هي الدعوة إليه، وأنها الطريقة المثلى لنشر الإسلام ، وأن من شروط الدعوة وآدابها لمن يوفقه الله تعالى من فضلاء المسلمين وعلمائهم   وأهل الغيرة والحمية منهم، لإقامة هذا الركن الأعظم، والتصدي لإرشاد الذين يتشدقون بكلمة لإسلام ، ولا يعلمون مسماها  ويتمسكون بلفظها ولا يفقهون حقيقة معناها، وأن من يتصدر الدعوة لكل ما جاء به الدين ، لابد أن تكون عنده الكفاءة ، لأن الداعي الجاهل قد يفتري على اللَّـه الكذب، فيضل ويضل، والنهي عن ذلك موجود في نصوص كثيرة، ويكفي منها حديث:  ( إن اللَّـه لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالمًا اتخذ الناس رءوسًا جهّالاً فأفتوهم بغير علم فضلوا وأضلوا ) رواه الترمذي وحسنه . ولأن الداعي لا بد أن يتعرض لمواقف متعددة ، فلابد أن يكون مسلحًا فيها بكل الأسلحة التي ينجح بها في دعوته كالدعاة الذين يوفَدون لنشر الثقافة الإسلامية بين الأقليات، أو لنشر الدين بين من لا يؤمنون به. ومن هنا كان وجوب الدقة في اختيار من تسند إليهم هذه المهمة، على أساس التمكن العلمي، والدراية الفنية بأسلوب الدعوة المتمثل في الحكمة والموعظة الحسنة ، فهناك من الدعاة من لم يعط الدعوة حقها من الرعاية ، فطاشت سهامهم وخسرت أيامهم وزادوا شمل الأمة تفريقا، على أن منهم من دعا إلى حق ، ولكن بغير حكمة  ولا مراعاة لما تقتضيه سياسة الأمة، وأمرَ بمعروف ، ولكن على غير المنهج المعروف   ونهى عن منكر ، ولكن على غير الوجه المألوف ، وقد علمتنا الآية الكريمة  أن للدعوة طريقتين: الحكمة والموعظة الحسنة. فأما الحكمة فهي لخطاب العقل بالبرهان ، وأما الموعظة الحسنة فهي للتأثير في النفس بمخاطبة الوجدان، ولا يحتاج إلى الطريقتين إلا من يدعو إلى حق موافق لمصلحة الناس الحقيقية  ويراعي في أصل الدعوة شروطاً أحدها : العلم بلغة من يراد دعوتهم ومجادلتهم، ولهذا ترى دعاة النصرانية يتعلمون جميع اللغات وينقلون إليها كتبهم الدينية، مع أن بعض الدعاة المسلمين يرون في تعلم اللغات إعراضا عن الدين ، الذي لا وظيفة لهم إلا القيام بحفظه ونصرته، ونشره وتعميم دعوته ، فكان على الداعية أن براعي أن الجمود على رأى من الآراء غير القطعية ، يجعل الإسلام منعزلاً وسط هذا العصر المملوء بالتيارات والآراء الفكرية المناهضة للإسلام ، وإذا عرف الداعية أن الأصول الثابتة للدين والتي يقام عليها بناء الإسلام قائمة ، وأن الاعتماد عليها هو الأساس وأن الفروع ما هي إلا مكملات يمكن أن تتغير فيها وجهات النظر بقصد زيادة الدين كمالاً فوق كمال، أوعلى الأصح إظهار ما فيه من كمال أصيل يحتاج إلى إبرازه بصورة تتناسب مع أسلوب العصر ، إذا عرف هذا فهو جدير بحمل الدعوة إلى الله .
 إننا نرى فئات وفرقٌ، تمارس تساهلاً دعوياً عجيباً، وهزالاً إصلاحياً فريداً، وتماوتاً في الخير لا يمتّ للحزم بصلة؛ حيث يأخذ نمطية الدعة والسهولة، والراحة والليونة، والضعف والنعومة ، وقد صدع شامخاً باللين والتيسير وتسوّد متعاظماً بالبسمة والتبشير، وانبرى جاهداً بالتسلية والتحبيب، بسرد القصص والأحاديث الضعيفة أو الموضوعة تدعيماً لأحاديثه ، فجعل الوسائل غايات، والمقدمات خاتمات، والتوطئات مقاصد ساميات. فلم يفرّق بين مدخل ومقصد، وأصل وفرع، فخلط الفروع بالأصول، والوسائل بالمقاصد،  فهانت الأصول، واختلطت المفاهيم، وأضحت الدعوة (مزاداً) يؤمه غيرُ فقيه، ويقصده غير متقن ويقوده غير متمكن ، ممن يسلكون مع المدعوين لطيف الوسائل وخفيفها، وسهلها ولينها ، ولا شك أن مثل هذا المسلك إجحاف بالدعوة، وإقصاء في فهم حقيقتها واتجاهاتها وأهدافها، وجناية على قطوفها وثمراتها وبركاتها ، لأن تجريد الدعوة من العلم خطأ محض، وفكرة شاذة ، بل إنهم ينظرون للعلــم الشـرعي (نظرة تآمرية) فمثلاً يعتقدون كأن العلم محصورٌ في شروط الصلاة، وشروط النكاح والبيع، وأغفلوا جوانب واسعة في العلم مع أن أسلوب الدعوة إلى الإسلام، يتمثل في التركيزعلى العقيدة وقضايا الإيمان الكلية، فمن الدعاة من يتمتّع بالإيمـان والثّقة واليقين، فحمل الأمانـــة وأدِّى الرسالة، وجاهد في الله حقّ جهاده حتّى أتاه اليقين ، ومنهم  ضعيف الإيمان  يملأه الخوف والتردّد، لا يؤدي الواجب الدعوي كما هو مطلوب ويقول لنفسه: لا أستطيع ، ربّما أفشل ، حاله كحال من قال فيه الشاعر:

كالعير في البيداء يقتلهـا الظّمأ         والماء فوق ظهورها محمول

 إنهاّ لجريمة قتل أن ننتمي لهذا الدّين ثمّ لا نحسن فهمه،  ولا نحسن عرضه ولا نحسن الدّفاع عنـه  فمشكلات النّاس ناتجة عن فهم ساذج وعن خلل في العقيـدة ، وما من محنة أو بلية تنزل بساحتنا إلاّ بسبب خطإ في التصوّر والاعتقـاد، وما من مشكلة تصيب الإنسان إلاّ بسبب معصية ارتكبهـا، وما من معصية ارتكبهـا الإنسان إلاّ بسوء تصوّره ، ولو قرأ القرآن الكريم قراءة وتلاوة صحيحة لاكتسب تصوّرا صحيحا. فالحرام والمعاصي والشّبهات مدمّرة، من يقترب منها يحترق، لأنّه إذا صحّت العقيدة صحّ الدين ، وما أكثر التصوّرات الخاطئة عن الدّين وعن الحياة بصفة عامّة. فمثلاً كان تصوٍّر الصّحابة لمفهوم الإفلاس أو المفلس عندما قال لهم رسول الله r : ( أتدرون من المفلس؟ قالوا:المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، قال: المفلس فيكم من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا وضرب هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا  فيأخذ هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإذا فنيت أخذ من سيّئاتهم ثمّ رُمِيَ به في النّأر )إذن تصورهم لمفهـوم الإفلاس كان خاطئا ، ونحن اليوم الكثير منّا لا يملك تصـوّرًا صحيحا عن الصّلاة والصّيـام والحجّ  وعن الإنفاق وعن الدعوة إلى الله ، لذا ينبغي أن ننتبه ونتعلّم جيّدا فقد ثبت في الحديث الشريف : ( من يرِد الله به خيرا يُفقِّهْه في الدّين ) إذن نجاحنا وفلاحنا أن نملك تصوّرا صحيحا للدّيـن، ولمفاهيم وقوانين الحيـاة وما أكثرها! أنظر للمسلميـن اليوم كيف يفهمون الدّين فهما سطحيا ساذجا. التصوٍّر والاعتقاد الصّحيح معناه مستحيل أن تعصيه وتربـح  وبالمقابل مستحيل أن تطيعه وتخسر ، ولكن للأسف الشّديد الكثير ممّن يملكون تصوّرا خاطئا عن حقيقة دينهـم ، تصوّروه شعائر تعبّديـة فقط ، الدّين عندهم شعـارات، ففصلوا الدّين عن السّلوك، فهموه عبادات فقط وما فهموه ورعاً وخشيةً وأمانةً ، وما فهموه ليس مجرد استماع لكلام الدين والإيمان ، لأن مجرد السماع وحده لا يكفي في إقامة الحجة، إذا احتاج السامع إلى المزيد من الإِيضاح والمناقشة والتفكير ، ولذلك فإننا نفهم من سماع كلام الله  المعنى الذي يحقق للسامع كل عناصر القناعة الفكرية، بحيث لا يبقى لديه شيءٌ يريد أن يسأل عنه أو يستوضحه، فإذا لم يذعن بعد ذلك، كان متمرّداً أو جاحداً بلا أساس، لأنَّ القضية ـ في الدعوة ـ ليست مجرد كلمات تُقال أو تُسمع بطريقة تقليديّة جامدة، بل هي قضية عقيدة يُراد لها أن تتركز وتتعمّق في فكر الإنسان وروحه وضميره ، ولهذا كان من مهمّة الدعاة إلى الله   أن يعملوا على رفع مستواهم الفكري وتوجيههم إلى السُّبُل التي تقودهم إلى آفاق المعرفة الواسعة المنفتحة على وحي الله وشريعته.

إن من الدعاة من لم يفرقوا بين الدعوة للإسلام بشكل عام وبين الدعوة إلى تطبيق الإسلام ، في مجتمع بحاجة إلى التغيير ، والتغيير لا يكون بتناول جزء بسيط من الإسلام والحث عليه   وترك الكل من الإسلام ، فمن لا يدعو إلى الإسلام كاملا ويتحدث عن الصلاة وفضائلها وعن الصيام والطاعات وقيام الليل وفضل صلاة الجماعة وسنة السواك ، ويعرضون عن آيات القران التي تدعو إلى تطبيق شرع الله كاملا،  ويتجنبون أن يأمروا ويأتمروا بطريقة الرسول في الدعوة إلى الله ، ويبتعدون كل البعد عن السياسة وكان الدين لا علاقة له بها  ، قيل للحسن البصري: إن فلاناً لا يعظ , ويقول: أخاف أن أقول ما لا أفعل فقال الحسن: وأينا يفعل ما يقول؟ ودّ الشيطان لو ظفر بهذا, فلم يُؤمر بمعروف ولم يُنه عن منكر. ولقد أحسن القائل :

لئن لم يعظ العاصين من هو مذنبُ   فمن يعظ العاصين بعد محمدُ

فالعمل المجدي هو حمل الدعوة كما حملها رسول الله r وتركيز مفاهيم الإسلام ، وترسيخ العقيدة في قلوب المسلمين ، وحمل كل الإسلام   لأن الإسلام ليس عبادات فقط بل هو عقيدة وشريعة ومنهج حياة ، والرسول r لم يدع إلى العبادات وحدها ، وان كان في الدعوة إليها خيرا عظيما ، فما عُذِّب أصحاب رسول الله r على الدعوة إلى العبادات ،  إنما عذب بلال وعمار وغيرهم من الصحابة الكرام على    الدعوة إلى العقيدة الإسلامية التي امنوا بها ، ولم يكن هم الرسول r يتركز على حث الناس على الصلاة والصيام ، بل كان صراعا فكريا مع الكفر و كان كفاحا سياسيا مع الأنظمة وكان دعوة للكفار إلى الإسلام } قل هذه سبيلىَ أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعنىَ { 108 يوسف .

 

 

 

 

حكم التزام الداعي ببعض الدين

أنعم الله علينا بالإسلام، وجعله لنا شريعة ومنهاجاً وأمرنا بالتزام أحكامه في كل مجالات الحياة ، فليس الإسلام فقط عبادات يتعبد بها الناس لربهم ، بل هو سلوك ومعاملات ، وعقيدة يجب علينا الإيمان بها   إنه كل متكامل لا يقبل التجزئة ، وقصره على جانب دون جانب تحكُّم بلا دليل ، لأن الشريعة تؤخذ كلها دون تبعيض وانتقاء ، بالاختيار والتشهي   فمن أداها على وجهها المشروع ، نال رضا الله  فالصلاة كفيلة بتزكية النفس ، والزكاة كفيلة بسلامة المجتمع ، وبث روح التعاطف بين أفراده   والأمر بالمعروف كفيلٌ باستحياء معنى الحق واستدامة هيبته ، والحكم بما أنزل الله كفيلٌ بحسم الشر، وإشاعة الأمان ، والثقة حول الدماء والأموال والأعراض ، والمشي في مناكب الأرض ابتغاء رزق الله كفيل بتوفير الغنى ، ومن فرّط في فريضة من فرائض الإسلام انثلم إيمانه ، لأن الله لا يقبل من مسلم إلا أن يؤدي الفرائض كلها تأدية تامة ، فلو أدى بعضها ورفض البعض الآخر ،لم يقبل منه الذي فعل ، وحق عليه قول الله تعالى : ] أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزيٌ في الحياة الدنيا ويوم القيامة يرد إلى أشد العذاب [ البقرة . هناك من الدعاة من لم يعط الدعوة حقها من الرعاية ، فطاشت سهامهم وخسرت أيامهم ، وزادوا شمل الأمة تفريقا، على أن منهم من دعا إلى حق ، ولكن بغير حكمة  ولا مراعاة لما تقتضيه سياسة الأمة ، وأمرَ بمعروف  ولكن على غير المنهج المعروف ، ونهى عن منكر  ولكن على غير الوجه المألوف ، وقد علمتنا الآية الكريمة ] أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة [ أن للدعوة طريقتين : الحكمة والموعظة الحسنة ، فأما الحكمة : فهي لخطاب العقل بالبرهان  وأما الموعظة الحسنة : فهي للتأثير في النفس بمخاطبة الوجدان ، ولا يحتاج إلى الطريقتين إلا من يدعو إلى حق ، موافق لمصلحة الناس الحقيقية ، وهي العمل على نصرة الدين ونشره ، وتعميم دعوته ، وأن يراعي الداعية أن الجمود على رأى من الآراء غير القطعية ، يجعل الإسلام منعزلاً وسط هذا العصر المملوء بالتيارات والآراء الفكرية المناهضة للإسلام  وإذا عرف الداعية أن الأصول الثابتة للدين والتي يقام عليها بناء الإسلام قائمة ، وأن الاعتماد عليها هو الأساس ، وأن الفروع ما هي إلا مكملات يمكن أن تتغير فيها وجهات النظر ، بقصد زيادة الدين كمالاً فوق كمال، أو على الأصح إظهار ما فيه من كمال أصيل ، يحتاج إلى إبرازه ، بصورة تتناسب مع أسلوب العصر ، إذا عرف هذا ، فهو جدير بحمل الدعوة إلى الله .

 إننا نرى فئات وفرقٌ، تمارس تساهلاً دعوياً عجيباً ، وهزالاً إصلاحياً فريداً ، وتماوتاً في الخير لا يمتّ للحزم بصلة ؛ حيث يأخذ نمطية الدعة والسهولة والراحة والليونة ، والضعف والنعومة   وقد صدع شامخاً باللين والتيسير ، وتسوّد متعاظماً بالبسمة والتبشير، وانبرى جاهداً بالتسلية والتحبيب بسرد القصص والأحاديث الضعيفة أو الموضوعة  تدعيماً لأحاديثه ، فيجعل الوسائل غايات   والمقدمات خاتمات، والتوطئات مقاصد ساميات. فلم يفرّق بين مدخل ومقصد، وأصل وفرع، فخلط الفروع بالأصول، والوسائل بالمقاصد، فهانت الأصول واختلطت المفاهيم، وأضحت الدعوة مزاداً يؤمه غيرُ فقيه، ويقصده غير متقن ، ويقوده غير متمكن ، ممن يسلكون مع المدعوين لطيف الوسائل وخفيفها ، وسهلها ولينها ، ولا شك أن مثل هذا المسلك ، إجحاف بالدعوة، وإقصاء في فهم حقيقتها واتجاهاتها وأهدافها، وجناية على قطوفها وثمراتها وبركاتها ، لأن تجريد الدعوة من العلم خطأ محض، وفكرة شاذة ، بل إنهم ينظرون للعلــم الشـرعي ، نظرة تآمرية ، فمثلاً يعتقدون كأن الدين محصورٌ في شروط الصلاة، وشروط النكاح والبيع، وأغفلوا جوانب واسعة في العلم ، مع أن أسلوب الدعوة إلى الإسلام ، يتمثل في التركيز على العقيدة وقضايا الإيمان الكلية فمن الدعاة من يتمتّع بالإيمـان والثّقة واليقين ، فحمل الأمانـــة وأدِّى الرسالة ، وجاهد في الله حقّ جهاده حتّى أتاه اليقين ، ومنهم  ضعيف الإيمان  يملأه الخوف والتردّد، لا يؤدي الواجب الدعوي كما هو مطلوب ويقول لنفسه : لا أستطيع ، ربّما أفشل  حاله كحال من قال فيه الشاعر:                     كالعير في البيداء يقتلهـا الظّمأ    والماء فوق ظهورها محمول

 إنهاّ لجريمة قتل ، أن ننتمي لهذا الدّين ، ثمّ لا نحسن فهمه، ولا نحسن عرضه ، ولا نحسن الدّفاع عنـه  وإن كثيرا من مشكلات النّاس ، ناتجة عن فهم ساذج ، وعن خلل في العقيـدة ، وما من محنة أو بلية تنزل بساحتنا إلاّ بسبب خطأ في التصوّر والاعتقـاد، وما من مشكلة تصيب الإنسان إلاّ بسبب معصية ارتكبهـا، وما من معصية ارتكبهـا الإنسان إلاّ لسوء تصوّره وقلة تفقهه ، ولو قرأ القرآن الكريم ، وعمل بما أمر ، لاكتسب تصوّرا صحيحا ، فالحرام والمعاصي والشّبهات مدمّرة ، من يقترب منها يحترق ، لأنّه إذا صحّت العقيدة صحّ الدين ، وما أكثر التصوّرات الخاطئة عن الدّين وعن الحياة بصفة عامّة ، فمثلاً كان تصوٍّر الصّحابة لمفهوم الإفلاس أو المفلس عندما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أتدرون من المفلس؟ قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع ، قال : المفلس فيكم من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ، ويأتي وقد شتم هذا وضرب هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا ، فيأخذ هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإذا فنيت أخذ من سيّئاتهم ثمّ رُمِيَ به في النّار ) إذن تصورهم لمفهـوم الإفلاس كان خاطئا ، ونحن اليوم الكثير منّا لا يملك تصـوّرًا صحيحا عن الصّلاة والصّيـام والحجّ ، وعن الإنفاق وعن الدعوة إلى الله ، لذا ينبغي أن ننتبه ونتعلّم جيّدا ، فقد ثبت في الحديث : ( من يرِد الله به خيرا يُفقِّهْه في الدّين ) إذن من الخير لنا أن نملك تصوّرا صحيحا للدّيـن ، ولمفاهيم وقوانين الحيـاة وما أكثرها! وإن كثيراً من المسلميـن اليوم ، يفهمون الدّين فهما سطحيا ساذجا ، فتصوّرا الدين تصوراً خاطئا بعيداً عن حقيقته ، تصوّروه شعائر تعبّديـة فقط ، ففصلوا الدّين عن السّلوك ، فهموه عبادات فقط ، وما فهموه ورعاً وخشيةً وأمانةً ، وما فهموه ليس مجرد استماع لكلام الدين والإيمان ، لأن مجرد السماع وحده ، لا يكفي في إقامة الحجة ، إذا احتاج السامع إلى المزيد من الإِيضاح والمناقشة والتفكير ، ولذلك فإننا نفهم من سماع كلام الله ، المعنى الذي يحقق للسامع كل عناصر القناعة الفكرية ، بحيث لا يبقى لديه شيءٌ يريد أن يسأل عنه أو يستوضحه ، فإذا لم يذعن بعد ذلك ، كان جاحداً بلا أساس ، لأنَّ القضية في الدعوة ، ليست مجرد كلمات تُقال أو تُسمع بطريقة تقليديّة جامدة ، بل هي قضية عقيدة ، يُراد لها أن تتركز وتتعمّق في فكر الإنسان وروحه وضميره ، ولهذا فإن من مهمّة الدعاة إلى الله  أن يعملوا على رفع مستواهم الفكري ، وتوجيههم إلى السُّبُل التي تقودهم إلى آفاق المعرفة الواسعة  المنفتحة على وحي الله وشريعته.

إن من الدعاة من لم يفرقوا بين الدعوة للإسلام بشكل عام ، وبين الدعوة إلى تطبيق الإسلام ، في مجتمع بحاجة إلى التغيير ، والتغيير لا يكون بتناول جزء بسيط من الإسلام والحث عليه ، وترك الكل من الإسلام ، فمن لا يدعو إلى الإسلام كاملا فيتحدث عن الصلاة وفضائلها ، وعن الصيام والطاعات ، وقيام الليل وفضل صلاة الجماعة وسنة السواك ، ويعرض عن آيات القران التي تدعو إلى تطبيق شرع الله كاملا ،  ويتجنب أن يأمر ويأتمر بطريقة الرسول صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله ، ويبتعد كل البعد عن السياسة ، وكأن الدين لا علاقة له بها   قيل للحسن البصري : إن فلاناً لا يعظ ويقول : أخاف أن أقول ما لا أفعل ، فقال الحسن : وأينا يفعل ما يقول؟ ودّ الشيطان لو ظفر بهذا, فلم يُؤمر بمعروف ولم يُنه عن منكر. ولقد أحسن القائل :

لئن لم يعظ العاصين من هو مذنبُ   فمن يعظ العاصين بعد محمد

فالعمل المجدي هو حمل الدعوة كما حملها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركيز مفاهيم الإسلام ، وترسيخ العقيدة في قلوب المسلمين ، وحمل كل الإسلام ، لأن الإسلام ليس عبادات فقط ، بل هو عقيدة وشريعة ومنهج حياة  والرسول صلى الله عليه وسلم لم يدع إلى العبادات وحدها ، وان كان في الدعوة إليها خيرا عظيما ، فما عُذِّب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على الدعوة إلى العبادات ، إنما عذب بلال وعمار وغيرهم من الصحابة الكرام ، على الدعوة إلى العقيدة الإسلامية التي امنوا بها ، ولم يكن هم الرسول صلى الله عليه وسلم يتركز على حث الناس على الصلاة والصيام ، بل كان صراعا فكريا مع الكفر ، وكان كفاحا سياسيا مع الأنظمة   وكان دعوة للكفار إلى الإسلام } قل هذه سبيلىَ أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعنىَ { 108 يوسف .

 

 

 

ترك الأمر بالمعروف سبب مصائبنا

إن لقيام الأمة بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فوائد عظيمة ، وإن لتركها عواقب وخيمة ، وأضرار جسيمة   مما يُجَرِّئُ أهل الباطل على نشر باطلهم ويشجع أهل الفجور على التمادي في فجورهم ، بسبب السكوت عن قول كلمة الحق ، لأن الساكت عن الحق شيطان أخرس،لأنه بسكوته يعين على نشر المنكرات والمعاصي ، بل ويشارك في وزرهم  إن كان قادراً على التغيير ، ولم يقم بذلك وما ظهرت الذنوب والمعاصي في الأمة ، إلا بسبب سكوت أهل الحق ، وتخليهم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فازداد أهل الشر والفساد في الأرض، وقل الصالحون ، وأهل الخير ، وتمادى المنحرفون  لغياب من يردعهم، ومن يصدهم عن شرهم وفسادهم،لأن ولاة الأمر يحكمون بغير ما أنزل الله ، فاستبدوا ، فحل الدمار والخراب ، أُثر عن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "توشك القرى أن تخرب وهي عامرة ، قيل وكيف تخرب وهي عامرة قال : إذا علا فجارُها أبرارَها ، وساد القبيلةَ منافقوها"، وقال الإمام السعدي :" إن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، يجرئ العصاة والفسقة ،على الإكثار من المعاصي  إذا لم يُرْدَعوا عنها، فيزداد الشر، وتعظم المصيبة الدينية والدنيوية، وتكون لهم الشوكة والظهور، ثم بعد ذلك يضعف أهل الخير عن مقاومة أهل الشر، حتى لا يقدرون على ما كانوا يقدرون عليه أوَّلا " وبإهمال هذه الفريضة ، ينتفي عن الأمة وصف الخيرية ، قال الإمام القرطبي إن قول الله تعالى: ﴿ كنتم خير أمة أخرجت للناس تَأْمُرُونَ ِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾ مدحٌ لهذه الأمة ، ما أقاموا ذلك ، واتصفوا به ، فإذا تركوا التغيير ، وتواطأوا على المنكر زال عنهم اسم المدح ، ولحقهم اسم الذم وكان ذلك سببا لهلاكهم"، وأي خير يبقى للأمة ، إن تركت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والذي به يظهر الحق ، ويزهق الباطل، وما أحسن ما قاله ابن القيم في كتابه إعلام الموقعين عن حال هؤلاء قال : "وأي دين وأي خير ، فيمن يرى محارم الله تنتهك، وحدوده تضاع، ودينه يترك، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغب عنها، وهو بارد القلب، ساكت اللسان شيطان أخرس ،  كما أن المتكلم بالباطل  شيطان ناطق ، وهل بلية الدين إلا من هؤلاء ، الذين إذا سلمت لهم مآكلهم  ورياساتهم ، فلا مبالاة بما جرى على الدين وخيارهم المتحزن المتلمظ ، ولو نوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه ، في جاهه أو ماله ، بذل وتبذل ، وجد واجتهد  واستعمل مراتب الإنكار الثلاثة ، بحسب وسعه ، وهؤلاء مع سقوطهم من عين الله  ومقت الله لهم ، قد بلوا في الدنيا ، بأعظم بلية تكون ، وهم لا يشعرون ، وهو موت القلوب ، فإن القلب كلما كانت حياته أتم  كان غضبه لله ورسوله أقوى ، وانتصاره للدين أكمل"، وكما نرى فإن من أعظم أسباب هزيمة الأمة أمام الأعداء، السكوت عن قول كلمة الحق ، خشية الناس الذين وصفهم الله ﴿يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً﴾النساء77 ،أو الاستسلام للهوى والشهوات، وفي كلا الحالين ، لا تستحق الأمة نصر الله ، روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم، فعرفت في وجهه أن قد حضره شيء، فتوضأ، وما كلم أحدا، ثم خرج فلصقت بالحجرة أسمع ما يقول، فقعد على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ( يا أيها الناس، إن الله تبارك وتعالى يقول لكم: مروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، قبل أن تدعوني، فلا أجيبكم، وتسألوني فلا أعطيكم، وتستنصروني فلا أنصركم ، فما زاد عليهن حتى نزل ) أخرجه ابن حبان في صحيحه  2/ 67، برقم: 289، والطبراني في المعجم الأوسط 14/ 432، برقم: 6854، وأحمد في المسند،51/ 251، برقم: 24094، قال الألباني: (حسن لغيره)، صحيح الترغيب والترهيب، 2/ 288، حديث رقم: 2325، ومن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مخافة المخلوقين  نزعت منه الهيبة أمام الأعداء، وهذا ما نراه ونلمسه في واقعنا اليوم ، من تسلط الأعداء على الأمة ، وفقدان هيبتها أمامهم   ولذلك حذر الله سبحانه عباده المؤمنين  من القعود عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو التراخي عن الدعوة وإرشاد الناس إلى الخير ، لأن ذلك يؤدي إلى الوقوع في الفتنة ، التي تعمّ الصالح والطالح كما قال تعالى:﴿وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾  الأنفال 25. قال الإمام الشنقيطي: "والتحقيق في معناها ، أن المراد بتلك الفتنة التي تعم الظالم وغيره ، هي أن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه ، عمهم الله بالعذاب صالحهم وطالحهم " وقد يقال: كيف يعم العذاب الصالح والطالح والله تعالى يقول: ﴿وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾الأنعام 164، فكيف يؤاخذون بجريرة غيرهم؟ نقول: أن ظهور هذه المعاصي والمجاهرة بها ، كان بسبب سكوت الصالحين عن إنكارها ، مع كونهم قادرين على تغييرها، فيعتبر ذلك السكوت من علامات الرضا والإقرار بالمنكر، ولذلك كان ترك هذه الفريضة ، سبب لعنة الله لبني إسرائيل ، فقد روي عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل ، فيقول يا هذا اتق الله ودع ما تصنع ، فإنه لا يحل لك ، ثم يلقاه من الغد ، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده ، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ) ثم قال: ﴿لُعِنَ الّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه ﴾المائدة 78، ثم قال: (كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ، ولتأخذن على يدي الظالم ، ولتأطرنه على الحق أطرا- تقهرونه- ولتقصرنه على الحق قصرا ) زاد الطبراني: (أو ليضربن الله قلوب بعضكم على بعض ثم ليلعننكم كما لعنهم ) .

قال سيد قطب : "والجماعة التي تسمح لفريق منها بالظلم ، في صورة من صوره  ولا تقف في وجه الظالمين، ولا تأخذ الطريق على المفسدين، جماعة تستحق أن تؤخذ بجريرة الظالمين المفسدين.. والإسلام منهج تكافلي إيجابي ، لا يسمح أن يقعد القاعدون ، عن الظلم والفساد ، والمنكر يشيع وهم ساكتون، ثم هم بعد ذلك يرجون أن يخرجهم الله من الفتنة ، لأنهم هم في ذاتهم صالحون طيبون!"، وقد وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم الكثير من الأحاديث التي تبين أن العذاب يعم المجتمع برمته ، إذا ظهرت المعاصي بين فئة منهم مع سكوت الآخرين ، القادرين على تغييرها وتخليهم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وإن كان الآخرون صالحين ، عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إذا ظهرت المعاصي في أمتي ، عمهم الله بعذاب قلت: يا رسول الله، أما في الناس يومئذ ناس صالحون، قال: بلى، قلت: فكيف يصنع أولئك؟، قال: يصيبهم ما أصاب الناس، ثم يصيرون إلى مغفرة من الله ورضوان) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير قال الألباني:صحيح ،   

وفي رواية أخرى ( إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه ) أخرجه الترمذي وأبو داود    قال الألباني: صحيح .

وهذا يبين سنة من سنن الله تعالى في الأمم   لأن الأمة التي يقع فيها الظلم والفساد  فتجد من ينكر المنكر، هي أمة ناجية ، لا يأخذها الله بالعذاب والتدمير، أما الأمة التي يظلم فيها المستبدون ، ويفسد فيها المفسدون ، ولا يكون فيها من ينكر المنكر  ويجابه الفساد أمة مهددة بالدمار، والعقاب العام ، وهذا يدل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، يعتبر صمام أمان وسبب نجاة للجميع ، وأن تركه يؤدي إلى عواقب وخيمة ، وذلك بتسلط الأشرار على زمام الأمور ، فتعاني الأمة من السياسات الاقتصادية الخاطئة ، التي تقوم على الإفقار والتجويع، بأخذ القروض التي تنهك كاهلها  ولتسديدها يتم فرض الضرائب ، فتوقع العباد بالمشقة والجري ، وراء لقمة العيش التي لا تكاد تسد الرمق عند البعض ، كما يؤدي ترك هذه الفريضة ، إلى ظهور الإعلام الفاسد، الذي يدمر ولا يعمر ويهدم ولا يبني، ويفسد ولا يصلح ، ويفرق ولا يوفق، يزيف الحقائق ويقلب الوقائع  ويسعى لتحقيق الأهداف الخبيثة ، التي رسمها أعداء الأمة، فيكون العقاب الإلهي  بنزع البركات والخيرات ، وقد يكون بنزول الآفات السماوية، أو إذاقة البعض بأس البعض الآخر، أو الزلازل والبراكين، أو بالخسف والمسخ، وما يعلم جنود ربك إلا هو، نسأل الله أن يجنبنا سخطه وعقابه.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

  

  

 

 

 

 

أساس نجاح الداعية

إن للنجاح الحقيقي أساساً لا يتغيِّر ، فقد كان رسول الله  صلى الله عليه وسلم أعرف الخلق بهذه الحقيقة ، فاتجهت جهوده كلها إلى داخل الإنسان ، تصوغه وتضبطه وتطمئن إلى مساره ، لأنه يعرف أن هذا الإنسان سوف يفرض نفسه على بيئته يوما ، عندما تنزاح العوائق من أمامه ، فجعل هدفه الأول أن يصنع من أصحابه رجالا ، كانوا صوراً حية من الإيمان ، وأن يصوغ ضمائرهم ويبني بفكر الإسلام منهم أمة   وقد وعى الصحابة هذه المعاني ، وعاشوا الإسلام حياة واقعية ، فكان كل فرد منهم نموذجا مجسما للإسلام ، يراه الناس فيرون الإسلام ، ففتحوا البلاد  ودخل الناس في دين الله أفواجا.
 كانت فتوحهم برا ومرحمة    كانت سياستهم عدلا وإحسانا
لم يعرفوا الدين أورادا ومسبحة  بل أشبعوا الدين محرابا وميدانا
لم يحاول الاصطدام بالأسوار الخارجية قبل استكمال هذا الداخل المهم ، فقد قرأنا في سيرته أنه ترك الأصنام منصوبة حول الكعبة عشرين ستة لم يتعرض لها ، فهل كان ذلك ليبقي عليها ؟ بالطبع لا ، فقد كان يعلم أن لها أجلا ، وأنها عن قريب ستزول  ولكن من يقوم بمهمة إزالتها ؟ إنهم الرجال الذين تخرجوا من مدرسة محمد g واستناروا من الداخل وتربوا على التوحيد الحق ، فليتربصوا بهذه الأصنام يوما دون استعجال ، وليهتموا بداخلهم يتعهدونه  فما هو هذا التعهد الشاغل لهم ؟ إنه تعهد الوعي ليكون صحيحا ، والباطن ليكون نظيفا والخُلُق ليكون عظيما ، والإخاء ليكون وثيقا ، والهدف ليكون واضحاً ، لأن الأمم لا تبنى بالصور والمظاهر  وإنما تبنى بالحقائق ، فالمنافقين هم أحسن الناس إتقاناً للمراسم والشكليات ، وقلوبهم خواء ، بخلاف المؤمنين فإن نضج نفوسهم ، وزكاة سرائرهم ، هما سرّ عظمتهم وسرّ مآل الأمور إليهم .  

إن النبوة أخذت بيد العرب إلى طريق المجد   فجعلنهم نماذج يُقْتدى بها ، في ميادين العبادات والمعاملات ، فكانت قيادتهم خيراً وبركة ، وكانت فتوحاتهم العسكرية خارقة ، فقد قادت العقيدة العسكرية النبي g وصحبه إلى النصر ، وإلى توحيد الجزيرة العربية تحت لواء الإسلام ، خلال تسع سنين فقط من عمر الزمان ، وقادت الخلفاء الراشدين وقادة الفتح الإسلامي وجنوده من بعد ذلك إلى فتح العراق وبلاد الشام ومصر وليبيا وبلاد فارس وخراسان ، وتوحيد هذه البلاد الشاسعة ، تحت لواء الإسلام خلال أقل من عشرين سنة .

وعندما تخلى المسلمون عن عقيدتهم وطبقوا عقيدة العسكرية الغربية ، قادتهم هذه العقائد الدخيلة إلى الهزائم المنكرة ، وخسروا حتى بلادهم ، ووصلوا إلى درجة من الذل والهوان ، الذي أصبح واقعاً مريرا   يدفعنا للكلام عن الهزائم ، وكأنها أصبحت ضربة لازب على جيلنا ، فتجاهلنا الماضي ، وتجاهلنا تاريخ الحروب الصليبية ، وحتى تاريخ الاستعمار البغيض الذي غزا بلادنا ، وما زال يغزونا في عقر دارنا  ودخلنا في مرحلة القصعة ، وتداعت علينا الأمم   وما كان ذلك من قلة، ولكننا كما قال g غثاء كغثاء السيل ، كما عمل على إقصاء الشريعة في ديار الإسلام عن الحكم ، وإحلال القوانين الوضعية محل الشريعة الإسلامية ، وانقلب النظر إلى السيرة النبوية التي هي مجال للإقتداء والتأسي في السلم والحرب ، والنصر والهزيمة ، إلى ضرب من التغني والطرب والابتداع في المواسم والمناسبات .

وإذا تجاهلنا تاريخنا وما كان فيه من عزٍّ ومجد ، فهل يليق بنا أن نتجاهل الحاضر بما فيه من آلام وأحزان  فندفن رؤوسنا في الرمال كالنعام ، حتى لا نرى أو نحس بما يدبر للأمة المسلمة من دسائس ومؤامرات .

إن مأساة الإسلام في بلاد الإسلام وحدها ، كفيلة بأن تجعلنا ندرك حقيقة أعدائنا . والذي يحز في النفس أن الكثيرين يقف عند هذا الحد ، والذي يُجرِّءُ أصحاب الشرّ علينا ، فيفعلوا بنا الأفاعيل .

وحتى تكون الأمة في موقع الصدارة ، وتتولى قيادة العالم ، فإن ذلك لا يتأتى بين عشية و ضحاها ولا يتم بسهولة ، لأنة لا بد من توفير صفات معينة أشار إليها الله بقوله: ﴿ ولقد كتبنا في الزبور من يعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ﴾ الانبياء 105 .

فإذا التزم الصالحون منهج الله ، فسوف نحوز الدنيا و الآخرة ، لأن منهج الله هو الذي يأمرنا وينهانا و يخبرنا بالحلال و الحرام ، وعلينا التنفيذ وعلى الحكام وأولياء الأمر أن يراقبوا مسألة التنفيذ هذه ، بأن يولوا من يصلح للمهمة ، ويقوم بها على أكمل وجه وإلا فسد حال المجتمع ، لأن عناصر الصلاح في المجتمع ، علماء يخططون ، وحكام ينفذون ويعملون على تطبيق منهج الله في الأرض ، والوقوف أمام أي فساد ، والأخذ على يد صاحبه ، لأن الله يزع بالسلطان مالا يزع بالقرآن، فكان لا بد من قوة تصون صلاح المجتمع ، وتضرب على أيدي المفسدين ومن أهم عناصر التمسك بأصول ومبادئ هذا الدين الذي وفَّى ويفي بحاجات البشرية في كل عصر   فوسع بمبادئه وقواعده ، كل ما امتد إليه نفوذه في أنحاء المعمورة، وقد عالج كافة المشكلات على اختلاف البيئات، وما عجز في يوم من الأيام عن أن يقدم لكل سؤال جوابًا ، ولكل واقعة فتوى ، ولكل قضية حكمًا، ومدونات الفقه والفتاوى برهان للمتشككين، وكيف لا يكون ذلك وهذه الشريعة كما قال ابن القيم : "مبناها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، عدل كلها، رحمة كلها ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور ، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة" ، ولكن الأمة اليوم على نهج آخر  تقاليد لا تمت إلى الإسلام بصله ، حيث يعيش الكثيرون لأنفسهم ومآربهم ، والطريقة التي يدرسون بها الدين لا تعين على زكاة النفس وخيرها ، ناسين أن الإسلام أقام شعار في سبيل الله ، ليدفع الإنسان إلى ربه ، فالإنفاق والسعي في هذه الدنيا ، يجب أن يكون في سبيل الله ، ولكن هذا الشعار ، أصبح في عالم النسيان هذه الأيام ، فكانت نتيجة ذلك أن سيطرت المآرب الذاتية على أغلب مناحي الحياة  حتى إن اهتمام الناس يتوجه إلى الأمور الدنيوية   أكثر من اهتمامهم بأمور الآخرة ، علماً بأن المبدأ الإسلامي الأول في التربية ، هو ﴿ قد أفلح من زكاها ﴾ وذلك لا يتحقق بالوعود والأماني إنما يتحقق بتطبيق عملي في شؤون الحياة ، فالطيبة أو التقوى أو القدرة على تمييز الخبيث من الطيب ، أو إيثار الحسن على القبيح كانت من المشاعر التي برز بها سلفنا الأولون فأصبحت هذه الأيام ، سمرٌ وسهر على شتى البرامج التي تبث من الفضائيات ، يعقب ذلك نوم عن الصلوات واتباع للشهوات ، حتى أدى هذا الخلل في التركيب الإنساني إلى ضعف الاكتمال النفسي الذي يسد فراغه بعض  الشعائر ، وصور الطاعات و التمسك بالمندوبات والمستحبات في الدين وزيادة الاهتمام بها على حساب المفروضات  فهذا ابن القيم قد رفض من الغني البخيل أن يكثر من الذكر ويطيل الصيام ، لأن عبادته الأولى العطاء  كما رفض من الداعية الجبان ، أن يشتغل بالأوراد  ويعتكف بعيداً عن الناس ، لأن عبادته الأولى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والنصح لأولي الأمر ولا يخفى ما تحتاج إليه امتنا كي تنهض من عثرتها بتطبيق منهج الله ، والوفاء بحقوقه .

وإن الناظر إلى أحوال الأمة الإسلامية اليوم يلحظ تأخرها بعد تقدمها، وذلها بعد عزها، واحتلالها بعد سيطرتها؛ فقال القائل متحسراً على ذلك المجد الضائع 

كنا ملوكاً على الدنيا وكان لنا ملك عظيم وكنا سادة الأمم

كسرى وقيصر والخاقان دان لنا وأمرنا كان بين السيف والقلم

إننا نستطيع بإسلامنا أن نعيد المجد الذي ضيعناه  وتحقيق النصر الذي نتمناه ، لأن المسلمين لا تنقصهم الإمكانات ، ولا يشكون من قلة العدد  وهم يشكلون قوة لا يستهان بها ، لو اجتمعت كلمتهم واتحدت جهودهم ، وقويت صلتهم بدينهم   وتجردوا من أهوائهم ، وقضوا على أسباب الفرقة التي شتت شملهم ، وارتفعوا إلى مستوى واقعهم فهماً وتدبيراً وعملاً ، وأعدوا ما ا استطاعوا من القوة كما أمر الله ، واتخذوا منهج الله على أنه جهاد في سبيل الله ، وعقلوا قول الله ﴿ وجاهدوا في سبيله ﴾ على أنه دعوة لصنع أمة إيمانية متحضرة ، بذلك يكون النصر حليفنا ، وتاريخنا يشهد على ذلك ، فقد انتصرنا بالإسلام ، ولن ننتصر بغيره هذه الأيام لأن الإسلام يهدف ابتداءً ، إلى إزالة الأوضاع التي تقوم على أساس حاكميه البشر للبشر ، وعبودية الإنسان للإنسان ، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول في الحديث  الذي يرويه عمر ابن عمر: ( إن لله تعالى أقواماً يختصهم الله بالنعم لمنافع العباد ، ويقرها فيهم ما بذلوها ، فإذا منعوها نزعها منهم ، فحولها إلى غيرهم ) .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 


           

    

 

 

 

 

 

 

الدعوة والسلطة

لا بد من جماعة ،  ولا بد من سلطة في الأرض تدعو إلى الخير ، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر لأن مدلول النص القرآني ﴿ ولتكن منكم أمه يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ﴾ هذا النص يقرر ذلك ، وإذا أمكن أن يقوم بالدعوة غير ذي سلطان ، فإن الأمر والنهي لا يقوم بهما إلا ذو سلطان ، فتصور الإسلام إذن إنه لا بد من سلطة تأمر وتنهى ، سلطة تقوم على الدعوة إلى الخير والنهي عن الشر ، سلطة تتجمع وترتبط بحبل الله وحبل الأخوة في الله ، سلطة تقوم على هاتين الركيزتين مجتمعتين لتحقيق منهج الله في  الأرض ، وتحقيق هذا المنهج يقتضي دعوة إلى الخير يعرف منها الناس حقيقة هذا المنهج . ويقتضي سلطة  تأمر بالمعروف ، وتنهى عن المنكر فتطاع ، لأن الله يقول : ﴿ وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ﴾ فمنهج الله في الأرض ليس كما يتصور البعض مجرد وعظ وإرشاد وبيان . فهذا شطر ، أما الشطر الآخر فهو القيام بسلطة الأمر والنهي ، على تحقيق المعروف ونفي المنكر من الحياة ، وصيانة تقاليد الجماعة الخيرة من أن يعبث بها كل ذي هوى ، وكل ذي شهوة وكل ذي مصلحة ، وضمانة هذه التقاليد الصالحة من أن يقول فيها كل واحد برأيه وبتصوره  زاعماً أن هذا هو الخير والمعروف والصواب!

إننا نعيش في مجتمع تخضع فيه المؤسسات لقوانين  من وضعه ، وليس للأحكام الشرعية ، وقد يكون العمل منكراً في نظر الأحكام الشرعية. وقد تشمل هذه الأعمال بعض المسلمين ، ممّن لا يرضون بهذا المنكر ولا يستطيعون تغييره ، مع أن المطلوب شرعاً العمل لإزالته ، ولا يكون هذا إلاّ بتغيير القوانين التي تحكم  ولا يمكن أن يتحقّق ذلك ، إلاّ عن طريق العمل السياسي. وهذا يدخل في إطار إنكار المنكر باللسان والدعوة إلى الله .

 والدعوة إلى الله لا بد لها من سلطة تؤازرها وتنصرها وتحميها، لأن الدعوة لوحدها ، والعالِم لوحده ، وإن عظم في علمه وكثر طلابه ومؤلفاته لا يقيم دولة ، ومن هنا يتبين مدى حاجة الدعوة للسلطة ، وحاجة السلطة للدعوة، لأن السلطة إنما تقوى وتنتصر وتسود ويُمكن لها ، حينما تكون الدعوة على منهاج النبوة ، ولا بقاء للدعوة وانتشارها ونجاحها إلا بالسلطة. 

 ولبيان مفاهيم الإسلام الكلية, لابد من إدراك أن الشريعة نظام، لا يكفل سعادة الدارين إلا إذا أخذ جملة ، أما التبعيض فهو إيمان ببعض وكفر ببعض.

 وجزاؤه كما قال تعالى : ﴿ فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزيٌ في الدنيا ويوم القيامة يرد إلى أشد العذاب ﴾ وما ذاق طعم الإيمان من لم يرض بكل الإسلام دينا ، فقد صح في مسلم عن ابن عباس أن رسول الله  صلى الله عليه وسلم قال: ( ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًا وبالإسلام دينًا ) بمعنى الخضوع للدين في الحكم لقول الله تعالى: ﴿ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ﴾يوسف 40 . وجاء معبراً عن معنى الحكم والسياسة قوله تعالى: ﴿ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّه ﴾ يوسف 76 ، بهذا يتضح أن من جملة الرضا بالإسلام دينًا الركون بالخضوع والانقياد لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم  في الأمور كلها ، ومنها أمور السياسة وإدارة شؤون الناس ، فمن اتخذ الديمقراطية أو الاشتراكية أو أي نظام أو فكر غير الإسلام عقيدة يعتقدها ، ونظامًا يلتزمه ، وسلطة يخضع لمقرراتها وينطلق عن أمرها ونهيها ، فقد دان بدين غير دين الإسلام، ورضي عقيدة غير عقيدة الإسلام، والله تعالى يقول : ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾آل عمران 85 .  وكل دعوة مقتضاها التحرر من هذا الخضوع فهي دعوة طاغوتية استبدادية ، وإن كانت في ظاهرها دعوة للخروج من ربقة الاستبداد السياسي الفردي، إلاّ أن حاصلها وحقيقتها نقل الناس من استبداد إلى استبداد أوسع دائرة، ومن استعباد إلى استعباد آخر مقنن .   

ومن الرضا بالإسلام دينًا التحاكم إليه وتحكيمه في سائر شؤون الأمة ، ومن الرضا بالإسلام دينًا الرضا بمقرراته في العقيدة ، فلا يتعرض لها بتأويلات العقول القاصرة، ولا ترد بآراء الرجال ، ومن الرضا بالإسلام دينًا الغبطة به وبأحكامه والاعتزاز بها، أما الذين يستحون من دينهم، ويخجلون من إظهار شعائر الإسلام، ويجدون في أنفسهم حرجًا من الإعلان بها بين الكفار،   فليراجعوا أنفسهم ولينظروا محلهم من الرضا بالإسلام دينًا، وليعلموا أنهم على شفا خطر ، قد انتكست عقولهم وسفهت آراؤهم  فلا تشريعات الغرب ولا أديانهم التي يفخرون بها ، أهلٌ لأن تقارن بدين الإسلام . فالسلطان إلى جانب الدعوة ، من أقوى الأسباب التي بها تصلح أمور الأمة , فإذا صلح ذو السلطان صلحت أمور الناس, وإذا فسد فسدت بحسب فساده, لقوله  صلى الله عليه وسلم عن أنس : (السلطان ظل الله في الأرض يأوي إليه كل مظلوم من عباده) البزار وابن حبان‏  . والأصل في المجتمع الإسلامي السليم أنه يعرف المعروف ويرضاه ويأمر به . وينكر المنكر ويأباه وينهى عنه ، وقد اعتبره العلماء علامة بينة على مدى سلامة المجتمع ، أو فساده بالإجمال ، وما واقعنا اليوم ومجتمعاتنا تموج بالمنكرات والمحرمات والبدع والأهواء والإعراض عن شريعة الله إلا من رحم ربي، إلا أبعد ما يكون عما شرف الله به هذه الأمة في وصفه إياها ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ﴾ آل عمران 110 . فكم في مجتمعات اليوم من الأيامى والنساء صرخن في جنبات الأرض وا معتصماه ولا ناصر أو مجيب؟! ، وكم من الرجال يتآمر عليهم حكامهم ،  يصرخون واغوثاه, ولا مغيث؟!  وها نحن نشاهد مصارع أخوة لنا هدمت بيوتهم وشردت عائلاتهم ويتّم أطفالهم ورمّلت نسائهم ولا مناصر لهم   إن للسلطان إلى جانب الدعوة قوة ردع وزجر   فقد أُثر عن عثمان : " إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن " .

وفي الحديث: (مَن يَزعُ السلطانُ أَكثرُ ممن يَزعُ القرآنُ) فمن يكفُّه السلطانُ عن المعاصي أَكثر ممن يكفه القرآنُ بالأَمْرِ والنهيِ والإِنذار ، لأن النَّاسَ للسُّلطان أخْوَف.

فمنهج الله يريد من القائمين على الدين أن يقفوا في وجه الشر والفساد والطغيان والاعتداء   ولا يخافوا لومة لائم . سواء جاء هذا الشر من الحكام المتسلطين بالحكم؛ أو الأغنياء المتسلطين بالمال؛ أو الأشرار المتسلطين بالأذى؛ أو الجماهير المتسلطة بالهوى . فمنهج الله هو منهج الله  والخارجون عليه علو أم سفلوا سواء .

والإسلام يشدد في الوفاء بهذه الأمانة؛ فيجعل عقوبة الجماعة عامة ، بما يقع فيها من شر ، إذا هي سكتت عليه؛ ويجعل الأمانة في عنق كل فرد ، بعد أن يضعها في عنق الجماعة عامة .

 وإذا كان المجتمع لا يعترف - ابتداء - بسلطان الله؟ وإذا كان لا يتحاكم إلى شريعة الله؟ بل ماذا إذا كان يسخر ويهزأ ويستنكر وينكل بمن يدعوه إلى منهج الله؟ ألا يكون جهداً ضائعاً    وعبثاً هازلاً ، أن تقوم في مثل هذا المجتمع لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، في جزئيات وجانبيات من شئون الحياة ، تختلف عليها الموازين والقيم  وتتعارض فيها الآراء والأهواء؟!.

إنه لا بد من الاتفاق مبدئياً على حكم ، وعلى ميزان  وعلى سلطان ، وعلى جهة يرجع إليها المختلفون في الآراء والأهواء ، لا بد من الأمر بالمعروف الأكبر وهو الاعتراف بسلطان الله ومنهجه للحياة والنهي عن المنكر الأكبر وهو رفض ألوهية الله برفض شريعته للحياة ، وبعد إقامة الأساس يمكن أن يقام البنيان! وإن الإنسان أحياناً ليعجب لأناس طيبين  ينفقون جهدهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الفروع؛ بينما الأصل الذي تقوم عليه حياة المجتمع المسلم؛ ويقوم عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر  مقطوع! فما غناء أن ننهى الناس عن أكل الحرام مثلاً في مجتمع يقوم اقتصاده كله على الربا؛ فيستحيل ماله كله حراماً؛ ولا يملك فرد فيه أن يأكل من حلال ، لأن نظامه الاجتماعي والاقتصادي كله لا يقوم على شريعة الله . لأنه ابتداء يرفض ألوهية الله برفض شريعته للحياة؟! وما غناء أن ننهى الناس عن الفسق مثلاً ، في مجتمع قانونه لا يعتبر الزنا جريمة - إلا في حالة الإكراه - ولا يعاقب حتى في حالة الإكراه بشريعة الله . . لأنه ابتداء يرفض ألوهية الله برفض شريعته للحياة؟! وما غناء أن تنهى الناس عن السكر ، في مجتمع قانونه يبيح تداول وشرب الخمر  ولا يعاقب إلا على حالة السكر البين في الطريق العام  وحتى هذه لا يعاقب فيها بحد الله . لأنه لا يعترف ابتداء بحاكمية الله؟! وما غناء أن ننهى الناس عن سب الدين؛ في مجتمع لا يعترف بسلطان الله ويتخذ أرباباً من دونه؛ يضعون له شريعته وقانونه  ونظامه وأوضاعه ، وقيمه وموازينه . والساب والمسبوب كلاهما ليس في دين الله ، وما غناء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مثل هذه الأحوال؟ ما غناء النهي عن هذه الكبائر - فضلاً عن أن يكون النهي عن الصغائر، والكبيرة الكبرى لا نهي عنها كبيرة الكفر بالله؛ برفض منهجه للحياة؟! ﴿ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ﴾ المائدة .

 

 الدعوة في أوقات المحن والظلم

إن المسلمين يمرون بفتن عظيمة ، تنوعت أسبابها واختلفت موضوعاتها ، وتعددت مصادرها ، في العقول والأنفس ، وفي الأعراض والأموال   والأولاد والممتلكات ، وتتضمن في طياتها تحسين القبيح ، وتقبيح الحسن ، تعاظم خطرها ، وتطاير شررها ، مما صعّب الطريق أمام الدعاة   فأصبحت مفروشة بالدماء ، ومحفوفةً بالمخاطر والفتن والابتلاءات ، لأن الدعوة إلى منهج والإيمان ، ليس كلمةً تُقال باللسان فحسب   فهناك من يعلن كلمة الإيمان في وقت الدعة والراحة ، فإذا تعرَّض لفتنة أو محنة أو ابتلاء تزعزعت في قلبه العقيدة ، ولم يثبت الإيمان في قلبه ، وهؤلاء هم الذين عناهم الله في قوله تعالى : ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاس كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ ﴾ العنكبوت  10 . إنه نموذج متكرر في كل جيل وحين ، يَزنُ العقيدة والإيمان والالتزام ، بميزان الربح والخسارة ، فإن أصابه خير اطمأن به, وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ، جاء وصفهم في  قوله تعالى : ﴿ ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خيرٌ اطمأن به وإن أصابته فتنةٌ انقلب على وجهه ، خسر الدنيا والآخرة ﴾ الحج 11 . 

قد يتعرّض الداعي على طريق الدعوة للأذى من الباطل وأهله ، ثم لا يجد النصير الذي يسانده ويدفع عنه ، ولا يملك النصرة لنفسه ، ولا يجد القوة التي يواجه بها الطغيان ، وقد يتعرّض لفتن كثيرة  أدهى وأمر  كفتنة الأهل والأحباء الذين يخشى عليهم أن يصيبهم الأذى بسببه   وهو لا يملك عنهم دفعاً ، وقد تعصف الفتنة بالقلوب إذا وقع بأهله وأحبابه البلاء ، أمام عينيه وبين يديه وهو مشلول الحركة ، لا يستطيع أن يفعل شيئاً ! وهناك فتنة إقبال الدنيا على المبطلين ، الذين تهتف   وتصفق لهم الجماهير المخدوعة ، في الوقت الذي يرى المؤمن نفسه مهملاً منكراً غريباً لا يحس به أحد ، ولا يشعر بقيمة الحق الذي معه إلا القليلون من أمثاله ، الذين لا يقدرون على شيء   حتى ولا عن دفع الأذى عن أنفسهم ، وهناك فتنة من نوع آخر ، نراها بارزة في هذه الأيام ، ألا وهى أننا نرى دولاً وأمماً غارقة في الكفر والرذيلة والانحطاط الأخلاقي ، تهيمن على بلاد المسلمين ومقدراتهم  ، وأكبر الفتن ، فتنة النفس والشهوات ، والرغبة في المتاع والسلطان ، وفتنة الغربة في الدين  والاستيحاش في العقيدة حتى أضحى المسلم غريباً في بيئته ، بين أهله وإخوانه   وإذا طال الأمد ، وأبطأ نصر الله عز وجل   كانت الفتنة أشدَّ وأقسى ، وكان الابتلاء أصعبَ وأعنف ، ولم يثبت إلاَّ من عصمه الله عز وجل . إنها مهمة الدعاة ، طويلة بطول الطريق ، قاسية بقسوة المِحَن  وفتنتهم شديدة بشدة الابتلاءات . مما يدعو للتساؤل : ما هي الحكمة من تعرضهم لهذه المحن والفتن والابتلاءات ؟ ليس في الوجود أحد أغير على الحق وأهله من الله سبحانه وحاشا لله أن يعذب أولياءه من المؤمنين بالفتن ، وأن يؤذيهم بالابتلاءات ، ولكنه الإعداد الحقيقي لتحمل الأمانة ، فهي في حاجة إلى إعداد خاص لا يتم إلا بالمعاناة العملية للمشاق ، والاستعلاء على الشهوات ، والصبر على الآلام ، والثقة في نصر الله أو في ثوابه ، وعلى الرغم من طول الفتنة وشدة الابتلاء ، فلا يكفى أن يقول الناس: آمنا وهم لا يتركون ، حتى يتعرضوا للفتنة فيثبتوا عليها ﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ﴾ هذه الفتنة على الإيمان أصل ثابت وسنة جارية في ميزان الله سبحانه:﴿ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾ فالفتنة سنة جارية لامتحان القلوب ، وتمحيص الصفوف ، لأن الإيمان أمانة الله في الأرض ، لا يحملها إلا من هم لها أهل   وفيهم من له على حملها قدرة ، وفى قلوبهم تجردٌ لها وإخلاص ، لا يحملها إلا الذين يؤثرونها على الراحة ، لأنها أمانة الخلافة في الأرض ، وقيادة الناس إلى طريق الله ، وتحقيق كلمته في عالم الحياة   فجهاد أصحاب الدعوات الذين يتصدون للمجرمين ، مهما كلفهم من مشقة وكلفة ، هو الذي يميز الدعوات الحقة من الزائفة ، وهو الذي يمحص القائمين عليها ، ويطرد الزائفين عنها   فلا يبقى إلا العناصر القوية المؤمنة المتجردة ، التي لا تبتغى المغانم ، ولا تريد إلا الدعوة خالصة تبتغى بها وجه الله تعالى ، مؤثرين دعوتهم على الراحة والمتاع ، وأعراض الحياة الدنيا ، بل على الحياة نفسها ، حين تقتضيهم دعوتهم أن يستشهدوا في سبيلها ، وهؤلاء هم أصحاب الأهلية لحمل راية هذه الدعوة ، واثقون فيما عند الله تعالى ،  من إحدى الحسنيين ! إما النصر وإما الشهادة ، وهكذا فإن موكب الدعوة إلى الله يعترض طريقه المجرمون من كل قبيل ، يقاومونه فيصيب الأذى من يصيب من الدعاة ، وتسيل الدماء ، والموكب في طريقه لا ينحني ولا يحيد  والعاقبة مهما طال الزمن للمؤمنين ، إن تحلوا بالصبر الجميل ، هذا الزاد الذي يحرك مواكب الدعوة إلى الله ، الصبر الذي ورد ذكره في نحو تسعين موضعاً في القرآن الكريم ، وهو أكثر خُلق تكرر ذكره في كتاب الله عز وجل ، هذا الصبر ليس مجرد كلمة ترددها الألسنة مع ضيق الصدر   إنما هو الصبر المطمئن الذي لا يصاحبه الشك في صدق الوعد ، صبر الراضي بقدر الله ، صبر من إذا مسه الضر في فتنة من الفتن ، أو ابتلاء من الابتلاءات ، ثبت ولم يتزعزع، صبر الواثق برحمة الله وعونه ، وقدرته على كشف الضراء ، صبر من لا يفقد ثقته في نصر الله في الدنيا والآخرة   ولا يقنط من عون الله له في المحنة حين تشتد   صبر من يرجو نصر الله ، أولئك الذين لن يتركهم الله وحدهم ، ولن يضيع أعمالهم ، ولن ينسى جهادهم فيه فيهديهم ، وينظر إلى محاولتهم الوصول ، فيأخذ بأيديهم ، وينظر إلى صبرهم وإحسانهم فيجازيهم قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ 69 العنكبوت . وأما الذين يفتنون المؤمنين ويسومونهم سوء العذاب ، فلن يفلتوا من عذاب الله ، مهما انتفخ باطلهم وانتفش ، ومهما زاد ظلمهم وانتعش ، فكما أن الله تعالى جعل الابتلاء سنة جارية ، ليميز به الخبيث من الطيب ، فقد جعل أخذ الظالمين سنة لا تتبدَّل ولا تتخلف   فكل القوى بكل ما تملك من وسائل التقنية الحديثة ، ومن وسائل الإبادة والتدمير مثلها: ﴿  كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون ﴾العنكبوت 41 .   فأين الطواغيت والفراعنة والجبابرة والأكاسرة والقياصرة ؟! أين فرعون الذي قال لقومه:{ أنا ربكم الأعلى }، أين نمرود بن كنعان الذي قال لإبراهيم عليه السلام : {أنا أحيى وأميت }؟! أين قارون الذين قال في خيلاء وكبر واستعلاء: { إنا أوتيته على علم عندي }؟! وأين عاد وأين ثمود ؟ ﴿ فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ العنكبوت 40 أيها الظالمون والمجرمون ! من المحال أن يموت المظلومون ويبقى الظالمون ، فاعملوا ما شئتم فإنا عاملون ،وجورواً فإنَّا إلى الله مستجيرون وأظلموا فإنَّا إلى الله متظلمون: ﴿  وسيعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون ﴾  . ولله در القائل:

أين الظالمون وأين التابعون لهم     في الغي بل أين فرعون وهامان؟

أين من دوخوا الدنيا بسطوتهم    وذكرهم في الورى ظلم طغيان؟

أين الجبابرة الطاغون ويحهموا      أين من غرهم لهو وسلطان

هل أبقى الموت ذا عزٍّ لعزته أو     هل نجا منه بالأموال إنسان

لا والذي خلق الأكوان من عدم     الكل يفنى فلا إنس ولا جان

 فليتق الظالمون دعوة المظلومين فليس بينها وبين الله حجاب ، لأن الله تعالى يرفعها إليه فوق الغمام ويقول لها: "وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين"

فلا تظلمن إذا ما كنت مقتدراً فالظلم ترجع عقباه إلى الندم

تنام عيناك والمظلوم منتبـه يدعو عليك وعين الله لم تنم

فصبراً أيها المظلوم لا تهن    إن عين الله يقظى لا تنام

نم قرير العين واهنأ خاطراً   فعدل الله دائم بين الأنـام

وإن أمهل الله يوماً ظالمـاً   فإن أخذه شديد ذي انتقام

ونصر الله دائماً وحتماً في نهاية الطريق ، وهى سنة لابد منها في النهاية ، بموعود الله سبحانه ، ولكنها تجئ في موعدها المحدد من الله جلت حكمته ، ولا يعجل الله لعجلة أحد من خلقه ، ولا مبدل لكلماته سواء تعلقت هذه الكلمات بالنصر المحتوم أو بالأجل المرسوم . ﴿ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ﴾الصافات 172  وقال عز وجل : ﴿ حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ﴾يوسف 110 .

 

 

  عوائق الدعوة الإسلامية  

قال تعالى : ﴿ قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ ﴾   الأحزاب18 وعوائق الدعوة : هي الشواغل والصوارف والمثبطات التي تحول دون تحقيق الهدف الدعوي .

وحتى تتصدر الدعوة الإسلامية مراكز القيادة والتوجيه في العالم ، فإن نجاحها متوقف على استقامتها على المنهج الصحيح، وذلك يتحقق بالهداية إلى الصراط المستقيم، الذي شرع الله لنا أن ندعوه دائماً أن يهدينا إليه ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾الفاتحة6، وكان صلى الله عليه وسلم عندما يقوم من الليل يسأل ربه الهداية قائلاً: (اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم ) وجاء الأمر باتباع الصراط المستقيم وعدم الميل عنه قال تعالى :﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾  الأنعام 153، والاستقامة على الطريق أمر في غاية المشقة والصعوبة؛ لأن النفس الأمارة بالسوء، والدنيا المليئة بالمغريات، وشياطين الجن والإنس الذين ينفذون خطط أعداء الإسلام ، الذين يحاولون أن يَحِرفوا مسيرة الدعاة العاملين ، عن الدرب القويم ولذلك كانت أشق آية أنزلت على الرسول صلى الله عليه وسلم كما يقول ابن عباس هي: ﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ هود 112. وطرق الباطل التي تواجه الدعاة لا تعد ولا تحصى ، وقد خط الرسول صلى الله عليه وسلم في الرمل خطاً  وخط عن يمين ذلك الخط وشماله خطوطاً، ثم أشار إلى ذلك الخط المستقيم وقال: (هذا صراط الله مستقيماً)، وأشار إلى تلك الخطوط المنحرفة ذات اليمين وذات الشمال وقال: (هذه السبل على كل سبيل فيها شيطان يدعو إليه)، ووصف هذا بمثال آخر فقال: (ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً، وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور ملقاة، وداع يدعو من فوق الصراط يقول: أيها الناس! ادخلوا الصراط ولا تعوجوا، وداع يدعو من جوف الصراط ، كلما أراد أحدهم أن يفتح باباً من تلك الأبواب يقول: ويحك لا تفتحه؛ إنك إن تفتحه تلجه ، فالصراط الإسلام، والأبواب محارم الله، والداعي على رأس الصراط كتاب الله  والداعي من جوف الصراط ، واعظ الله في قلب كل مسلم ) ، فانحراف مسيرة الدعاة ، يكون إما من جهلٍ للصراط المستقيم وعدم العلم به ، وهذا هو الضلال، ومن هنا أُتي النصارى الذين سماهم الله بالضالين؛ إذ عبدوا الله على جهل، وإما أن يأتي من عدم الاستقامة عليه ، واتباعه مع العلم به، وهذا حال اليهود الذين يعرفون الحق ولا يتبعونه ، ولذلك سماهم الله بالمغضوب عليهم   وأما حال الذين أنعم الله عليهم ، بمعرفة الحق واتباعه،الذي فصلته الفاتحة :﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ ﴾الفاتحة6-7 . هي معرفةٌ واضحة المعالم ، ونعمة من نعم  الله التي ينبغي أن تسلكها المسيرة الدعوية ، وهي محصورة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله، وسنتي) ، وقد حفظهما الله  من التغيير والتبديل والضياع فقال تعالى : ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾الحجر9 والصراط المستقيم ، له أتباع ظاهرين على الحق ، أخبر عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله : (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم إلى أن يأتي أمر الله وهم كذلك) وتعاليمه محفوظة في الكتب وفي الصدور، وهو متمثل في رجال وجماعات مؤمنة في أنحاء متفرقة في العالم ، ظاهرة على الحق ، تجاهد أعداء الله ، وتصبر على الفتن والأذى في سبيل الله ، وسيهديهم الله سبل الخير ويثبتهم على الصراط المستقيم ، ويكون لهم ناصراً ومؤيدا قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ﴾ العنكبوت69.  هذه الجماعات لا تتنازل عن شيء من الإسلام   وتعتبر أي تنازل انحرافاً عن الصراط المستقيم وهو الإسلام، لأن الإسلام دين الله الذي أنزله ليحكم بين عباده، وليهيمن على حياة البشر في كل شأن من شئونهم: في الحكم، والتشريع، والتربية  والتعليم ، والإعلام، والاقتصاد، والعلاقات بين الأفراد  وبين المسلمين وغيرهم من الأمم .

أما من يريدون من دعاة الإسلام أن يقصروا جهودهم على أجزاء من الإسلام كالعبادات والأمور الأخلاقية، ويرفضون أن يمتد الإسلام ليهيمن هيمنة كاملة على الأفراد والمجتمعات ويرضون بصفقة تعطيهم الحق في دعوة الناس إلى شيء من دينهم، والسكوت عن أشياء كثيرة قد ينسوها مع مرور الزمن ، فتنحرف المسيرة الإسلامية ، ولذلك حذرنا الله سبحانه من هذا المنهج، وسمى الذين لا يريدون هيمنة الإسلام على الحياة بالظالمين؛ لأنهم ظلموا أنفسهم وظلموا الناس معهم ، عندما عارضوا منهج الله تعالى  وجلبوا للناس الدمار والخراب الذي يحل بالظالمين، ولذلك حذر الله دعاة الإسلام من الركون إلى الظالمين فقال تعالى : ﴿ وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ ﴾ هود 113 . في تفسير هذه الآية قال صاحب الظلال :" لا تستندوا ولا تطمئنوا إلى الذين ظلموا ، من الجبارين والطغاة الظالمين ، أصحاب القوة في الأرض، الذين يقهرون العباد بقوتهم، ويعبّدونهم لغير الله من العبيد، لا تركنوا إليهم؛ فإن ركونكم إليهم   يعني إقرارهم على هذا المنكر الأكبر ، الذي يزاولونه، ومشاركتهم في إثم ذلك المنكر الكبير ".  هناك رجال من الدعاة ، لا يتنازلون عن شيء من دعوتهم، لا بالترغيب ولا بالترهيب ، تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي عرضت عليه قريش المال والنساء والملك؛ كي يخفف من دعوته، ويتخلى عن شيء من مبادئه ، وهددته بالقتل والإخراج من الأرض ، رجالٌ لا يقبلون الحلول الوسط من أصحاب السلطان ، اقتداءً بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما ، عرضت عليه قريش ، أن يعبد آلهتهم يوماً ، ويعبدوا إلهه يوماً، رجالٌ يرفضون من الذين كفروا بالله ورسوله ، طلب أي تعديل على منهج الدعاة وأسلوبهم ، لأنهم آمنوا بقوله تعالى :﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾ الكهف 28.  كما لا يقبلون التسليم في جزء من منهج الدعاة ولو كان يسيراً، كما هو حال بعض الجماعات الدعوية ، لأن أصحاب السلطان يستدرجون أصحاب الدعوات، فإذا سلموا في الجزء فقدوا هيبتهم وحصانتهم، لذلك لا يتنازل الدعاة عن أي جزء من الدين ، آملين أن يمتن الله عليهم ويثبتهم ،كما امتن الله على رسوله صلى الله عليه وسلم أن ثبته على ما أوحى إليه ، وعصمه من فتنة المشركين له، ووقاه من الركون إليهم ولو قليلاً، ورحمه من عاقبة هذا الركون، وهي العذاب في الدنيا والآخرة مضاعفاً، وفقدان المعين والنصير قال تعالى : ﴿ وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا * وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا﴾  الإسراء 73-75 .لقد وقع في هذه الفتنة رجال كانوا يتصدرون العمل الإسلامي، أغرى بعضهم ، الترغيبُ والمغنم  وبعضهم أخافه الترهيب ، فأصبحوا طبولاً جوفاء تسبح بحمد الظالمين ، ومنهم من يبدو من فلتات لسانهم ، الركون إلى الذين ظلموا، في حديثهم اللين مع الظالمين ، ومن الدعاة ، من يعملون جاهدين ، ما كان لله وحده ، وابتغي به وجهه ، ولم يخالطه طلب ظهور أو شهرة ، وينهضون بواجب الدعوة الضخم ، ويدعمون الحق الذي شرّفهم الله به ، ولا يحزنون على شيء فاتهم من حظوظ الدنيا ، لأنهم آمنوا للعمل لإحقاق الحق   وأن لا تنحرف المسيرة ، مع من يدعو إلى الشكل قبل الموضوع ، وإلى النافلة قبل الفريضة قال تعالى : ﴿ فمن آمن وأصلح فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون ﴾ الأنعام 48 ، اللهم كن لهم ناصراً ومعينا .  

 

 

 

 

العلماء والدعاة بين الأمس واليوم

جاء في كتاب الكامل للمبرّد في اللغة والأدب، ما نصه "إنما يتفاضل الناس بصحة الفكر ، وحسن العزاء ، والرغبة في الآخرة"، على أن إنصاف العلماء مطمح الباحثين ، والتعلق بفقههم سمة طلاب العلم، أما ما يكتسيه العالم من إجلال وهيبة ، أو نقيض ذلك ، فمرده إلى القيام بوظيفته أو تخاذله عنها، وقد ترك الشرفاء من العلماء بصماتهم في عصور الإسلام المشرقة ، وتوقفت عند مناقبهم كتب التراجم ، والسير والتاريخ، حتى أصطلح على ما جادوا به ، ونذروا أنفسهم له بأدب المحنة، وأبرز ما لهؤلاء العلماء من أمجاد    عبر عنها صدقهم وثباتهم على الحق ، وإن تعرضوا في سبيل ذلك للتضييق والإهانة ، فدخلوا التاريخ من الباب الواسع.

عندما نتحدث عن الأمس واليوم، فإننا نتحدث عما جنت واكتسبت أنفسنا وجوارحنا، ولنا أن نسأل: ماذا ينفعنا الحديث عن الماضي؟ ينفعنا بأن نتأسى، فإذا ابتلينا في زمننا، تأملنا سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم ، وتاريخ أسلافنا ، لنعلم أن فيها عظة وعبرة ودواء وعلاجاً، يقولون الزمان به فساد ، وما دروا أنهم فسدوا وما فسد الزمان ، ونعيب زماننا ولكن العيب فينا ، وما لزماننا عيب سوانا ، وقد نهجو الزمان بغير جـرم ، ولو نطق الزمان بنا هجانا ، في الماضي سيطرت أخلاق الإسلام على معظم نواحي الحياة ، وتعامل الناس بعضهم مع بعض ، حكاماً ومحكومين ، على أسس إسلامية وكان الخلفاء يقومون بأركان الإسلام، ويجاهدون في سبيل الله، ويستمعون لنصائح الأئمة ، وفتحت في زمنهم البلاد ، وازدهر العلم ، وكثر العلماء وكان للعلماء هيبتهم وتأثيرهم ، وتقدمت الحضارة والمدنية والعمران ، بدون تعارض بينها وبين الدين  فقامت الأمة بما أوجب الله عليها من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، تنفيذاً لأمر الله سبحانه : ﴿ ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون ﴾ آل عمران 104. وجاءت النصوص النبوية تأمرنا بمراقبة الحاكم ، ورده إلى الصواب كلما أخطأ، وتقويمه كلما أعوج ، حينما قال عليه السلام : (لتأمرنّ بالمعروف، ولتنهونّ عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطرًا  ولتقصرنه على الحق قصرًا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم ببعض) رواه أبوداود والترمذي،  فما هلكت أمة يتواصى أبناؤها بالحق، ويتناهون عن الباطل، ولكن هلكت أمم  ودول ، لأنهم كما قال الله تعالى : ﴿ كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه  لبئس ما كانوا يفعلون ﴾ المائدة 52. والناس جميعاً في خسر كما قال تعالى : ﴿ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر﴾ العصر 3  لم يدَعْ ديننا الرعية تقاسي من الظلم، وتكابد المذلة والحرمان، دون أن تفصح عن دخيلة نفسها، بل شجعها أن تجهر برأيها ، دون غلو أو مبالغة، روي أن معاوية بن سفيان حبس العطاء عن الناس ذات مرة ، فقام إليه أبو مسلم الخولاني فقال له : " يا معاوية إنه ليس من كدك ولا كد أبيك ولا كد أمك، فغضب معاوية ، ونزل عن المنبر وقال: مكانكم، ثم غاب عنهم ساعة ، ثم خرج عليهم وقد اغتسل فقال: إن أبا مسلم كلمني كلاماً أغضبني ، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( الغضب من الشيطان، والشيطان خُلِق من نار وإنما تطفأ النار بالماء فإذا غضب أحدكم فليغتسل)   وإني دخلت فاغتسلت  وصدق أبو مسلم ، إنه ليس من كدي ولا من كد أبي ولا من كد أمي ، فهلموا إلى عطائكم ". لقد كانت الرقابة في عهد الخلافة الراشدة ، حقًا مكفولاً للجميع ، وليس كما هو الحال الآن  فمجالسنا النيابية ، التي اُنتخبت من قبل الشعوب  كما نراها ، دائمة الوفاق مع السلطة التنفيذية التي لا يعتريها يأس، أو يخامرها قنوط، في تمرير ما تريده من سياسات ، وقد كان العلماء ، يصححون العقائد الفاسدة ، والأفكار الخاطئة ، ويصدعون بكلمة الحق ، لا يخشون في الله لومة لائم في الصراحة والقوة والفكر ، وتحدي كل ما يخالف الشرع، والتصدي للباطل ديدنهم، فإن كان هذا على المسلم واجباً ، فإنه على لعلماء أوجب  ولذلك كانوا يتحدون كل حاكم انحرف ، فلا يستطيع أن ينتزع منهم فتيا ، أو رأياً لصالح حكمه، ويوم فُقدوا ، عم الجهل، روى البخاري عَنْ عُرْوَةَ قَالَ حَجَّ عَلَيْنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم يَقُولُ: ( إِنَّ اللَّهَ لا يَنْزِعُ الْعِلْمَ بَعْدَ أَنْ أَعْطَاكُمُوهُ انْتِزَاعًا  وَلَكِنْ يَنْتَزِعُهُ مِنْهُمْ مَعَ قَبْضِ الْعُلَمَاءِ بِعِلْمِهِمْ  فَيَبْقَى نَاسٌ جُهَّالٌ يُسْتَفْتَوْنَ فَيُفْتُونَ بِرَأْيِهِمْ فَيُضِلُّونَ وَيَضِلُّونَ ) . إن صلاح أمر الناس ، منوط بالأمراء ثم بالعلماء ، كما أخبر عليه السلام فقال: ( صنفان من الناس إذا صلحا صلح الناس، وإذا فسدا فسد الناس: العلماء والأمراء ). وهذا عبد الله بن المبارك يقول:" يا علماء الديـن يا ملح البلد من يصلح الملح إذا الملح فسد؟ " لقد أخذ الله تعالى على العلماء ميثاقا ، أن يبينوا الحق لجميع الناس ، سواء أكانوا حكاما أم محكومين، ونهاهم عن كتمانه عنهم ، بأي حال من الأحوال ، مهما كانت الشدائد ، والمحن والابتلاءات ، فقال تعالى  : (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه) لم يبيعوا دينهم بعرض من الدنيا قليل ، فكانوا لله ولرسوله ، وللحكام والناس ناصحين، وكانوا كما قال الحسن : «لا يزال لله نصحاء في الأرض من عباده ، يعرضون أعمال العباد على كتاب الله، فإذا وافقوه حمدوا الله، وإذا خالفوه ، عرفوا بكتاب الله ، ضلالة من ضل وهدي من اهتدى، فأولئك خلفاء الله»الاعتصام  للشاطبي.

واليوم بكل أسف ، نجد من الدعاة ، ومن يحملون ألقاب العلماء ، من سار في ركاب الحكام ، يزينون باطلهم ، ويدافعون عنهم، فظهروا في محطات التلفزة والقنوات الفضائية ، وفتحت لهم الإذاعات والصحف والمجلات؛ فلم تعد لهم هيبة، وآخرون أطلوا من الإذاعات والصحف ، وأجهزة الإعلام المختلفة، يعلمون الناس أحكاماً شرعية ، لا علاقة لها بقضية المسلمين المصيرية، أتعبوا أنفسهم في تدريس الفقه ، الذي يتعلق بعلاقة الفرد بخالقه  وأهملوا دراسة الفقه ، الذي يتعلق بالعلاقات بين الناس ، والدولة والمجتمع، فغلبت عليهم دراسة أحكام الصلاة والصوم والحج والنكاح والطلاق والميراث، وأهملوا دراسة أحكام الجهاد ، والغنائم والخلافة ، والقضاء والخراج ، وما شابهها، وصاروا يدرسون الشرع ، مسائل روحية وأخلاقية ، وليس أحكاماً تعالج مشاكل الحياة، هذا الصنف من العلماء ، لا يشكل أي خطر على الحكام، فبسطوا لهم البساط، ولم تضايقهم سلطة ، ولم يطاردهم حاكم، بل يدعمونهم ويشجعونهم على أعمالهم هذه ، هؤلاء خطرهم على الأمة عظيم، لأنهم يدّرسون الإسلام أجزاء ، فيخدرون الأمة ، لأن الاقتصار على نوع واحد من الفقه ، تقزيم للشرع   إذ لا بد من دراسة شاملة للفقه الإسلامي باستعراض نماذج من الأحكام الشرعية ، المتعلقة بالعلاقات العامة، كالأحكام السياسية، ونماذج من الأحكام الشرعية ، المتعلقة بعلاقات الأفراد مع بعضهم البعض، ونماذج من الأحكام الشرعية المتعلقة بالعقوبات والبينات ، حتى تكتمل الصورة الفقهية الشاملة في الإسلام ، وغاب عنهم ، أن أخلاق العالِم تظهر في عمله،  وحمل الناس على الطريق السوي ، ولو قرأوا بجد ، عن تحدي التابعي الجليل سعيد بن جبير، واستقلال سعيد بن المسيب وبعده عن السلطان، لما وسعهم إلا الصمت والاستحياء ، ولو تذكّروا ، ما طال إمام أهل المدينة ، وأبا حنيفة النعمان، والشافعي والحسن البصري ، وما أوذي به الإمام أحمد ، الذي قال عنه شيخه محمد بن إدريس الشافعي : "خرجت من بغداد ، وما خلفت بها أتقى ولا أفقه من ابن حنبل"، فقد كان لهم الفضل في تنشئة المجتمع  ومحاصرة بؤر التوتر ، وتحصين الفرد والجماعة من الانزلاق في مهاوي الفتن، إنهم علماء الأمة الحقيقيون ، الذين يمكن وصفهم بـ ورثة الأنبياء  قال الفضيل بن عياض رحمه الله : "ربَّما دخل العالِم على السلطان ومعه دينه ، فيَخرج وما معه منه شيء! قالوا: كيف ذلك؟! قال: يَمدحه في وجهه ويُصدّقه في كذبِه". وقال ابن المبارك رحمه الله : "لا تأتهم فإن أتيتهم فاصْدُقهم ، وأنا أخاف ألا أصْدُقهم". وقال الخطّابي رحمه الله، في كتابه العُزلة : "ليتَ شِعري! من الذي يدخل إليهم اليوم ، فلا يُصدّقهم على كَذبهم؟! ومن الذي يتكلم بالعدل إذا شهد مجالسَهم؟! ومن الذي ينصح ، ومن   ينتصح منهم؟! إنه الأسلم والأحوط لدينك، أن تُقِلّ من مُخالطتهم وغشيان أبوابهم".  يرحم الله أولئك العلماء والدعاة ، الذين بَلغوا من الزهد والصلابة في الدين ، مبلغًا كبيرًا مُعظَّمًا..فابن المبارك على جلالة قدره ، كان يخشى على نفسه  منافقة الحاكم ومُداهنته ، والخطّابي على علوّ مكانته ، كان يرى فساد الأحوال في زمانه ، ويرى السلامة بعدم مخالطتهم! كلّ ذلك ، والخلافة الراشدة قائمة، والأئمة عُدولٌ في الجملة، والعلماء متوافرون، والدّين مَصون، والحُرمات محفوظة والإسلام عالٍ ، فكيف بنا اليوم؟!وقد تفرَّق المسلمون أيادي سبأ ، وملك أمرَهم طواغيت طغاة أفسدوا عليهم دينهم ودنياهم، وحاربوا الدين، وقتلوا أهلَه ، ووالَوا أعداء الله ورسوله ، وعادَوا أولياءَه وعبادَه   وحكموهم بغير ما أنزل الله ، وشرَّعوا لهم من الدين  ما لم يأذَن به الله ، ومع ذلك ، فسد خلقٌ كثير ممن ينتسب إلى العلم والدّين، ونافقوا وداهنوا ، وآثروا سلامة دنياهم على جراح دينهم ، وضياع أخراهم ومكّنوا للقتلة الفجرَة، وناصروا الطغاةَ الظلمَة، وفرحوا بالمتاع القليل  ولَيتَ الطواغيت اضطروهم لذلك، وإنما فعلوا مُتطوّعين  مُتنفّلين طامعين، مُتزلّفين .

وأخبراً : نقل ابن العماد الحنبلي ، في كتابه شذرات الذهب في أخبار من ذهب ، عن الشافعي:

علي ثياب لو تباع جميعها بفلس لكان الفلس منهن أكثرا

وفيهن نفس لو تقاس بمثلها نفوس الورى كانت أعز وأكبرا  

فأين ثياب الشافعي ، من عمائم اليوم ، وأين نفسه الأبية ، من الأعمال الممقوتة لعشاق الشهرة ، وضريبة التطبيع والهوان ، فإنَّا لله ولا حول ولا قوة إلا بالله ، له الحمد أولًا وآخرًا، ولن تخلوَ الأرض من قائمٍ له بحُجَّة: ﴿ وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ﴾ محمد 38 

 

 

 

 

 

 الدعاة يألمون

 يقول فيها تبارك وتعالى: { ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون }. إن حمل هذا الدين والقيام بأمانة تبليغه للبشرية أجمع، لأولئك الذين تسمّوا به وقصروا في الالتزام به والوفاء بحقه، أو أولئك الذين لمّا يدخلوا في هذا الدين بعد، إن حمل هذا الدين والقيام بأعبائه أمر صعب شاق على النفوس، وإن القيام بهذا الجهد لا يمكن أبداً أن يكافئه أي جهد في دنيا الناس. ومن هنا كان هذا الدين يحتاج في حمله إلى نفوس أبيّة، إلى نفوس جادة، يحتاج الحاملون لهذا الدين والقائمون به إلى مزيد من رفع الهمة ، وإلى مزيد من الجدية حتى يكونوا مؤهلين للقيام بهذا الدين ولتحمّل أعباء نشره ومواجهة ما يواجههم في هذا الطريق، ولا شك أن هذا القرآن وهو يربي هذه الأمة ، يربيها على تقوى الله عز وجل وتوحيده وعبادته، ويربيها على الخلق والسلوك ، ويربيها على حمل أعباء هذا الدين والقيام بهذه الأمانة التي ائتمن الله عز وجل هذه الأمة عليها، لا شك أن هذا القرآن يخاطب القلوب البشرية ويخاطب الناس بكافة وسائل الخطاب وأساليبه، وليس أعظم أثراً لدى الناس من النماذج الحية التي تُعرض أمامهم؛ فالحديث النظري يحفز الكثير من الناس، لكن الصورة الحية التي يرونها بأعينهم ، أو يقرؤون عنها فتتخيلها أذهانهم وكأنهم يرونها رأي العين ، لاشك أن هذه الصورة تترك أعظم الأثر لدى الناس، إنك حين تسمع حديثاً عن رجل أصيب بحادث هشم عظامه، وأصاب جسمه بآلام مبرّحة، يترك ذلك أثراً عظيماً في نفسك ، لكنه لا يصل إلى درجة رؤيتك هذا الرجل أمامك وهو يتشحّط بدمائه ، وربما استطاع كاتب مبدع مُجيد أن يصور لك هذا المشهد وكأنك تراه بأم عينيك، فيترك أمام ناظريك صورة ربما لا تبتعد عن تلك الصورة التي رايتها شاخصة ببصرك، ولهذا يؤكد القرآن على هذه القضية فيعرض القدوات والنماذج الحية أمام هذه الأمة. يخبر الله تبارك وتعالى أن الابتلاء سنة لمن دخل في طريق الإيمان :{ أحسب الناس أن يُتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون } ، ثم يعرض القرآن أمام هؤلاء نموذجاً حيًّا من حياة السابقين الماضين، ليجعل هذه القضية شاخصة أمام أعينهم، وأن الابتلاء ليس أمراً خاصًّا بهم، قال تبارك وتعالى: { ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين } ، إذاً فالفتنة على طريق الإيمان ليست قضية خاصة بهؤلاء المخاطبين بهذا القرآن ، وليست قضية خاصة بهذه الأمة، إنما هي سنة ماضية.

وفي القرآن الكريم حديث عن سنة لا تتخلف في قيام هذه الدعوات وانتصارها ، يقول تبارك وتعالى : { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب } ، أتظنون أنكم تدخلون الجنة؟ أتظنون أن دعواكم تصدق بالإيمان والقيام بهذا الدين ولمّا يصيبكم ما أصاب من كان قبلكم ؟ لقد مستهم البأساء والضراء حتى يتساءل الرسول وهو أعلم الناس بوعد الله ، وحتى يتساءل المؤمنون معه { متى نصر الله }؟ وهو سؤال يحمل في طياته عظم ما كان يعانيه هؤلاء من البلاء والمضايقة. وفي آية أخرى يبين الله عز وجل طبيعة هذا الدين، وطبيعة هذا النصر والتمكين لهذه الأمة { حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كُذبوا جاءهم نصرنا فنجّي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين } ، إذاً فالنصر والتمكين للدين إنما يأتي حين يستيئس الرسل، وحين يظن أقوامهم المكذبون أن هؤلاء الرسل قد كُذبوا ما وُعدوا.

وفي غزوة أحد حين أصاب المؤمنين ما أصابهم، فعادوا من تلك الغزوة وما من بيت إلا وفيه قتيل أو جريح، وقد افتقدوا سبعين من خيارهم ومن صلحائهم وكانوا يظنون أنها ساعة وتأتي الدولة لهم.. يقول تبارك وتعالى مخبراً لهم أن هذه السنة سنة الماضين من قبل { وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين ، وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين } .  فسنة هذه الأمة هي سنة الأولين السابقين سيصيبهم ما أصابهم، وما تلبث هذه النماذج حيث تعرض على المؤمنين الصادقين الذين يتلون كتاب الله حق تلاوته ويتدبرون معانيه، ما تلبث هذه النماذج أن تعيد الأمل في تلك النفوس التي ربما أصابها ما أصابها من اليأس والقنوط ، ما تلبث هذه النماذج أن تعيد الحماس وأن ترفع الهمة لتلك النفوس التي ربما أصابها الضعف والفتور والقنوط. وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم نرى نماذج من ذلك ، جاء إليه أحد أصحابه وهو خباب - رضي الله عنه - يشتكي إليه ما أصابه من المشركين وقال له: ألا تدعو الله لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ فغضب صلى الله عليه وسلم لأنه قرأ في حديث خباب الاستعجال واستبطاء وعد الله عز وجل؛ فقعد صلى الله عليه وسلم وقال: ( لقد كان من كان قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيُشق باثنين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمّن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم قوم تستعجلون ) . إنها سنة الماضين من قبلكم، ويمضى خباب - رضي الله عنه - وقد سمع هذا التثبيت والتوجيه من النبي صلى الله عليه وسلم ، يمضي بنفس صادقة جادة وعزيمة أبيّة يستمد من هذه النماذج التي عرضها له صلى الله عليه وسلم روحاً تدفعه إلى مزيد من الصبر على الابتلاء والصبر على الأذى والمضايقة، وتدفعه إلى الشعور بالأمل والاستبشار وإلى أن يطرح اليأس عنه جانباً، وأن يعلم أنه إن يصيبه ما أصابه فقد أصاب السابقين قبله ما هو فوق ذلك بكثير.

ويحكي صلى الله عليه وسلم أيضاً نموذجاً آخر فعن عبد الله بن مسعود –رضي الله عنه- قال: كأني انظر رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء آذاه قومه وهو يقول : ( اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ) .

إن المبادئ ليست رخيصة، وإن إصلاح المجتمعات لا يمكن أن يتم بجهود مبعثرة ونفوس هينة كسولة، إنه يحتاج إلى أن يُدفع لذلك ثمن باهظ، يحتاج إلى أن يكون أشرفُ خلق الله عز وجل يتعرضون لمثل هذا الأمر حتى يمسح أحدهم الدم عن وجهه وهو يقول : ( اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)  

بل أخبر الله عز وجل عن بعض أنبيائه صلوات الله وسلامه عليهم أنهم كانوا يُقتلون بغير حق؛ فحكى القرآن كثيراً عن بني إسرائيل أنهم يقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس.

إن عرض هذه النماذج الحية لها أثر عظيم في نفوس المؤمنين الصادقين الجادين، والذين يرون أن هذه قدوات أمامهم، ولهذا قال الله تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم-وقد حكى سير طائفة من أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم-: { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسألكم عليه أجراً إن هو إلا ذكرى للعالمين }، وهي ليست دعوة خاصة للنبي صلى الله عليه وسلم ، بل هو خطاب له ولأصحابه وللأمة أجمع أن يقتدوا بهدي أولئك الأنبياء.

وفي القرآن نماذج من أخبار أتباع الأنبياء الذين ساروا على طريقهم، واحتملوا في سبيل هذا الدين المشاق والمكاره، كقصة أهل الكهف الذين اختاروا أن يعيشوا في كهف خشن بعيد عن الناس، وأصحاب الأخدود الذين اختاروا أن يقذفوا في نار الدنيا، وكان هذا أحب إليهم من أن يعودوا إلى الكفر بعد أن أنقذهم الله منه؛ فكانوا أهلاً لأن يذوقوا حلاوة الإيمان ولذة الإيمان كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يُكره أن يقذف في النار".

إن هذه النماذج وحدها كافية في دفع أصحاب الهمم الضعيفة وفي دفع الكسالى إلى أن يدفعوا عنهم الكسل والخمول، وأن يأخذوا بالجد والعزيمة في الدعوة لدين الله عز وجل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونشر الخير في دنيا الناس ، لكن القرآن يعرض أمام المسلمين نموذجاً آخر: ذلكم هو النموذج المنحرف، النموذج الضال، لقد كان المسلمون ربما يشعرون بنوع من اليأس والألم ويصيبهم الإحباط وهم يواجهون أعداء الله عز وجل، فيثير فيهم القرآن الكريم النظر إلى جانب آخر ربما كان له دور عظيم في إحياء نفوسهم، يقول تبارك وتعالى : { ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون } لا يصيبكم الوهن ولا الضعف وأنتم تبتغون القوم في الجهاد والدعوة ، وأن تبذلوا ما تبذلون، فإن كنتم تألمون وتدفعون الثمن فأولئك يألمون كما تألمون، إن كان يسقط منكم شهداء فأولئك يسقط منهم قتلى، إن كنتم تبذلون الوقت والجهد فأولئك يبذلون كما تبذلون.

ويقول تبارك وتعالى في آية أخرى : { إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء } .

إذن فالقضية ليست حكراً على المؤمنين، ولا على الذين يحملون الدعوة الصادقة، إنما هي سنة الله عز وجل في كل من يريد أن يحمل مبدأ يدافع عنه ويضحي في سبيله ، فهو ثمن لابد أن يدفعه كل من يريد أن ينشر مبدأً سواءً أكان حقّاً أم باطلاً، هو ثمن لابد أن يدفعه كل من يريد أن يدعو إلى عقيدة سواءً أكانت عقيدة صحيحة أم كانت عقيدة ضالة ، لاشك أن الذي يريد هذا المطلب النفيس الغالي لابد أن يدفع الثمن، ومن ثَمّ كان المؤمنون الصادقون الداعون إلى الله عز وجل وهم ينشرون دعوة الحق والتي لا حَقّ سواها، وهم ينشرون هذا المبدأ الصادق والذي تهون دونه سائر المبادئ كان هؤلاء بحاجة إلى عرض هذا النموذج، فلئن كان طريقكم شاقاً فطريق الآخرين كذلك، وأنتم تزيدون عليهم أنكم أصحاب هدف سام ونية  صادقة قال تعالى : { وترجون من الله ما لا يرجون } أنتم تشعرون أن كل ما تبذلونه ستلقون جزاءه عند الله عز وجل في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون ، أما هؤلاء فهم حطب جهنم.

فإلى نماذج مما يبذله أهل الدنيا سواءً أكانوا من حطب جهنم: أهل المذاهب الضالة الذين يدعون إلى سبيل الشيطان، أو من أولئك الذين يريدون تحصيل شهوات الدنيا وحطامها وثمنها العاجل، إنها نماذج من الذين يكدحون ويعملون في هذه الدنيا وهم لا يعملون لدين الله عز وجل، وإن اختلفت نواياهم وتباينت مواقفهم، ما بين داعٍ إلى سبيل الشيطان، وما بين رجل يبتغي الدنيا ويبتغي الشهوات.

إننا نسمع الكثير عن بذل المشقة والسفر وسائر ألوان المشاق في سبيل الدعوة إلى الله عز وجل، وربما تهتز نفوسنا شوقاً إلى مثل هذه الأعمال والجهود، ويتمنى كل واحد منا أن يبذل جهداً في الدعوة إلى دين الله عز وجل، ولو دعاه ذلك إلى تحمل المشقة وتحمل الصعاب وتحمل السفر، لكن حين تريد ذلك فلا تظن أنك وحدك تفعل ذلك، بل هاهم طلاب الدنيا وأرباب الدنيا يدفعون الثمن الباهظ لذلك  .

 

مهمة الواعظ ارضاء الله

   أخرج الترمذي في الزهد بإسنادٍ صحيح عن رجل من أهل المدينة قال : كتب معاوية رضي الله عنه إلى عائشة رضي الله عنها أن اكتبي لي كتابا توصيني فيه ولا تكثري علي ، فبعثت عائشة رضي الله عنها إلى معاوية : سلام الله عليك أما بعد فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤونة الناس-أي شر الناس وأذاهم- ومن التمس رضا الناس- أي طلب - بسخط الله وكله الله إلى الناس)  ذكر الحديث طريقين لا ثالث لهما . طريق من التمس رضا الله تعالى ولو سخط عليه الناس ، وهو طريق ينبع من توحيد العبد لربه عز وجل ، إذ ليس للإنسان أن يتوجه إلا لله فلا يخاف إلا إياه ، ولا يرجو سواه ، ولا ينطلق في حياته إلا طلبا لرضاه في كل حركاته وسكناته في كل معاشراته ومعاملاته   فينفذ ما أمر الله تعالى به ولا يلتفت في ذلك لمدح مادح أو ذم ذام ، ولا يضع في نفسه وهو يرضي الله عز وجل أدنى حساب لسخط أحد من الخلق أو رضاه مهما كلفه ذلك . وطريق من لم تخلص نفسه لله عز وجل ، وهو طريق ضعاف الإيمان ومن اهتزت عقيدتهم فهو يبحث عما يرضي الناس ويفعله ، وعما يعرضه لسخطهم فيتركه ، ولو كان ذلك على حساب دينه ، ولو كان في ذلك ما يسخط ربه عز وجل لأن المهم عنده ألا يخسر الناس وألا يكون في موضع نقمتهم وغضبهم . وهنا مكمن الداء لأن الإنسان لابد له أن يتعامل مع الناس ويعيش بينهم ولكنه يعيش بمنهج الإسلام موحدا لله عز وجل مطبقا لحدوده   فكثيرا من الناس حوله ينحرفون ويفجرون ويظلمون ويتعدون حدود الله تعالى ، وعليه أن ينكر ذلك وأن    يحارب تلك المنكرات والمخالفات حتى لو تعرَّض للضغوط وطلب منه أن يسكت أو يوافقهم على انحرافهم كما هو حال المسلم الذي  يعيش في المجتمعات المنحرفة وبين الضالين الظلمة والأسر الغافلة ، يسعى بينهم فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويجاهد لإقامة منهج الله في الحياة فيتعرض للمضايقة والمطاردة بجريمة الإنكار على ما اعتادوه من المنكرات ، ويواجه الاستهزاء والتهديد أو التعذيب أو السجن أو المحاربة في الرزق ، وهنا يقف المسلم ممتحنا أمام الطريقين اللذين لا ثالث لهما إما أن يرضي الله عز وجل ولا يبالي بسخط الناس وأذاهم ، فيسير مستقيما لا يميد ولا يحيد ، وإما أن يرضي الناس فيوافقهم على انحرافهم وضلالهم ويتميع معهم ليتجنب بطشهم أو سخطهم   فيسخط الله سبحانه والمسلم الحق عندما تظهر المنكرات ويعم الفساد والطغيان   يجب عليه الإنكار والتغيير وبيان الحق للناس لأنه لا يفكر إلا فيما يرضي الله عز وجل فيحارب الباطل ويفضح الظالم  وأقل درجات إنكار المنكر الإنكار بالقلب ، وليس وراء ذلك إيمان جاء في الحديث ( فمن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ) .

ومن الناس من يسير في ركاب الظالمين فيرضيهم طمعا بما عندهم أو خوفا من بطشهم ونقمتهم ، فلا يأمر ولا ينهى  يبيع دينه بعرضٍ من الدنيا ، وكم سمعنا من فتاوى لعلماء في وسائل الإعلام من صحف ومجلات وإذاعات عندما يسألون عن أمور قد تخفى على كثير من الناس كحكم فوائد البنوك وشهادات الاستثمار وتلك القوانين الوضعية التي يُكَبّلُ بها المسلمون أو تلك الموالاة الصريحة لليهود والنصارى  فتجدهم يداهنون ويدورون في فتواهم حول الحق ، بل قد تجد الفتوى الواحدة في المسألة الواحدة تتغير وتتبدل إذا طلب منه ذلك وكم شاهدنا وقرأنا لمن يكتب في تحريم الربا كله عاما ثم يكتب في حله كذلك عاما آخر  ورأينا من بارك الفجور وإشاعة الفاحشة بين الناس حتى لا يقال عنه متخلف أو متحجر ، وحتى لا يتهمه أرباب الصحف في مقالاتهم بأنه يعيش بعقلية القرون الوسطى . ومن الصور الخطيرة التي يقف الإنسان فيها ممتحنا إما أن يرضي الله عز وجل ، وإما أن يرضي الناس ما يحدث لبعض الدعاة عندما يتعرضون  للضغوط ، فيساوموا الدعاة للتنازل عن بعض الأمور أو السكوت عنها أو إيجاد خط مودة بينهم  مقابل السماح لهم ببعض الحرية . وكثيرا ما تضعف نفوس وتزل ألاقدام أمام تلك الضغوط والإغراءات ، أضف إلى ذلك ما يدب في قلوبهم من ملل بسبب طول العداء وكثرة الأذى ، فيميل البعض إلى المصالحة والمداهنة في أمور الدعوة   فيقدمون رضا الناس على رضا الله عز وجل  ويخطئون الطريق ، فالله عز وجل لا يرضى بالمداهنة في دينه ، ولا يرضى بأنصاف الحلول أو أن يتصافح الحق مع الباطل أبداً .

ولعل من الصور التي يقف فيها المرء ممتحنا إما أن يرضي الله عز وجل أو يرضي الناس ما يحدث للشباب عندما يُضْغَطْ عليهم بأمرٍ فيه معصية لله عز وجل أو عندما يطلب الأصدقاء من صديقهم ألا ينكر عليهم بعض المخالفات التي يرتكبونها وألا يزعجهم بنصائحه وإلا قاطعوه . إن تلك الصور وغيرها كثيرة لو تأملناها لوجدنا الناس أمامها ينقسمون إلى قسمين : قسم لا يفكر إلا في رضا الله عز وجل  وقسم تضعف نفسه أمام الضغوط . وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم  لنا عاقبة كل طريق ونهايته . أما الطريق الأول فقد قال صلى الله عليه وسلم : (من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه  الله مؤونة الناس) فبين أن الله تعالى تكفل وتعهد بحفظ من يطلب رضاه ويقدمه على رضا الناس كما قال تعالى في كتابه الكريم : ] أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فما له من هاد ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذي انتقام [   يعني أنه سبحانه وتعالى يكفي من عَبَدَه وتوكل عليه ويخوفونك بالذين من دونه يعني المشركين يخوفون الرسول صلى الله عليه وسلم ويتوعدونه بأصنامهم وآلهتهم التي يدعونها من دون الله جهلا منهم وضلالا  فالله يحفظ من لجأ إلى بابه لأنه العزيز الذي لا أعز منه ولا أشد منه انتقاما . قال ابن تيمية : " وكل من أرضى الله بسخط الناس كان قد اتقاه وكان من عباده الصالحين الذين يتولاهم الله " . وقال ابن القيم : " فمن هداه الله وألهمه رشده ووقاه شر نفسه امتنع عن الموافقة على فعل الحرام وصبر على عداوتهم – أي عداوة المنحرفين والظالمين من الناس – ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة كما كانت الرسل وأتباعهم كالمهاجرين والأنصار ومن ابتلي من العلماء وصالحي الولاة والتجار وغيرهم"   لقد كان علماء السلف الصالح يضربون الأمثلة الرائعة في الثبات أمام طغاة الناس   وكان نتيجة هذا الثبات أن أكرمهم الله عز وجل بالنصر أو بالشهادة استدعى عمرو بن هبيرة والي العراق الحسن البصري والإمام الشعبي ليسأل عما يبعثه إليه الخليفة من أوامر تحتوي على ظلم هل ينفذها أم لا فسُأل عمرو الشعبي في هذا الموقف أولا ، فقال كلاما يرضي الوالي ، والحسن البصري ساكت ، فلما انتهى الشعبي من كلامه التفت عمرو بن هبيرة إلى الحسن وقال : وما تقول أنت يا أبا سعيد ، فوعظه الحسن البصري موعظة قوية أمره فيها بالمعروف ونهاه فيها عن المنكر ، ولم يداهن أو يواري فقال فيما قال : يا ابن هبيرة خف الله في يزيد ، ولا تخف يزيد في الله واعلم أن الله عز وجل يمنعك من يزيد وأن يزيد لا يمنعك من الله ، يا ابن هبيرة إنه يوشك أن ينـزل بك ملك غليظ شديد لا يعصي الله ما أمره فيزيلك عن سريرك هذا  وينقلك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك حيث لا تجد هناك يزيد ، وإنما تجد عملك ، يا ابن هبيرة إنك إن تك مع الله تعالى وفي طاعته يكفك بائقة يزيد في الدنيا والآخرة ، وإن تك مع يزيد في معصيته فإن الله يكلك إلى يزيد ، واعلم يا ابن هبيرة أنه لا طاعة لمخلوق كائنا من كان في معصية الخالق عز وجل   فبكى ابن هبيرة حتى بللت دموعه لحيته  وأكرم الحسن البصري إكراما شديدا  ولم يلتفت إلى الشعبي فلما خرج الحسن والشعبي وذهبا للمسجد واجتمع الناس ليعرفوا خبرهما التفت الشعبي للناس بعد أن تعلم درسا هاما تعلم ألا يرضي أحدا دون الله تعالى بعد ذلك قال : يا أيها الناس من استطاع منكم أن يؤثر الله عز وجل على خلقه في كل مقام فليفعل  فوالذي نفسي بيده ما قال الحسن لابن هبيرة قولاً لا أجهله – يعني كنت أستطيع أن أقول مثل ما قال الحسن – ولكن أردت فيما قلت وجه ابن هبيرة ، وأراد الحسن فيما قال وجه الله " .

ولو تأملنا موقف الدعاة أمام الضغوط والتهديدات لوجدنا إمام الدعاة صلى الله عليه وسلم قد تعرض لضغوط ومساومات عديدة ليتنازل عن بعض أمور الدعوة كما قال سبحانه : ] ودوا لو تدهن فيدهنون [ أي ود الكفار لو تدخل معهم يا محمد في مجال المساومة على الدين ولكن الرسول  صلى الله عليه وسلم كان حاسما في موقفه حتى وهو في أحرج الأوقات وأشد الأزمات وهو محاصر بدعوته وأصحابه يعذبون ويتعرضون للأذى لم يحاول أن يرضي الكفار ولو بكلمة واحدة تسخط الله عز وجل ، وكانت النتيجة أن فتح الله عليه ونصره وأيده وأعزه وأعز المسلمين ، ولو مال الرسول صلى الله عليه وسلم  إلى الكفار قليلا أو أرضاهم وهذا مجرد افتراض فقد قال الله عز وجل : ] وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذاً لأتخذوك خليلاً ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً  إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا ً[ إن الله عز وجل يصون ويرضي من يقدّم رضاه على رضا الناس وليس شرطا أن لا يؤذى أو يعذب فقد يؤذى المسلم لحكمة يعلمها الله عز وجل كأن يكون تكفيرا لسيئاته أو رفعا لدرجته أو لينال الشهادة وما أعظمها منـزلة كما في الحديث الحسن: (سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه، فقتله) . أما عاقبة من يقدم رضا الناس على رضا الله عز وجل فهي الخيبة والخسران يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ومن التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس ) ومن وكله الله تعالى للناس وقع في المهالك وتخطفته الخلائق وأصابه الخذلان وتجرأ عليه كل إنسان بل أكثر من ذلك قد ينقلب الذي كان يسعى لإرضائه فيصير له عدو كما جاء في قول للسيدة عائشة رضي الله عنها : " من أرضى الناس بسخط الله عاد حامده من الناس له ذاما ". وكما ضرب الإمام ابن القيم في ذلك مثلا برجل متدين تقي حل بين قوم فجار ظلمة لا يتمكنون من فجورهم إلا بموافقته لهم أو سكوتهم عنه فإن وافقهم أو سكت عنهم سلم من شرهم في الابتداء ثم يتسلطون عليه بالإهانة والأذى وأضعاف ما كان يخاف لو أنكر عليهم وخالفهم ، وإن سلم منهم فلابد وأن يهان ويعاقب على يد غيرهم . وقال ابن تيمية : " والسعادة في معاملة الخلق أن تعاملهم لله فترجو الله فيهم ولا ترجوهم في الله ، وتخافه فيهم ولا تخافهم في الله " قال تعالى ] أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين [.

 

 

 

 

طبيعة الدعوة

إن طبيعة الدعوة الإسلامية ، توجب على المسلمين هذه الأيام ، أن يحملوا الدعوة كما حُملت من قبل ، اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم  وذلك يقتضي الصراحة بالحق ، والجرأة على الباطل ، والقوة بالإيمان ، ومجابهة الأفكار الفاسدة لبيان زيفها ، والعمل على أن تكون السيادة المطلقة لمبدأ الإسلام .

كما ينبغي على الداعية ، أن لا يتملق ولا يداهن ولا يجامل ولا ينافق من بيدهم الأمور ، وأن يتركز اهتمامه ، على العمل على تصحيح العقائد  وتقوية الصلة بالله ، وإسلام العباد لرب العباد  وإخراجهم من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ، وذلك بإخراجهم من سلطان العباد وحاكميتهم وشرائعهم ، وقيمهم وتقاليدهم ، إلى سلطان الله وحاكميته وشريعته وحده  في كل شان من شئون الحياة .

كما ينبغي على الداعية أن يعلم أن المد الإسلامي ، ليس في حاجة إلى مبررات أكثر من المبررات التي حملتها النصوص القرآنية . قال تعالى في سورة النساء : ﴿ فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة . وقال : ﴿ قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخرالتوبة 29 . فالمبررات في هذه النصوص ، ما هي إلا تقرير لألوهية الله في الأرض  وتحقيقٌ لمنهجه في حياة الناس ، ومطاردة مناهج الشياطين ، وتحطيم سلطان البشر الذي يتعبد الناس .

إن الناس عبيد الله وحده ، ولا يجوز لأحد أن يحكمهم بسلطان من عند نفسه ، وبشريعة من هواه ، والدين الإسلامي يقرر مبدأ لا إكراه في الدين  أي في اعتناق العقيدة بعد الخروج من سلطان العبيد ، والإقرار بمبدأ أن السلطان كله لله ، وإن الانطلاق بالمنهج الإلهي ، تقوم في وجهه عقبات مادية ، من سلطة الدولة ونظام المجتمع وأوضاع البيئة ، وهذه كلها التي ينطلق الإسلام ليحطمها بالقوة ، حتى يُفْسح له المجال ، ليخاطب ضمائر الناس وأفكارهم ، بعد أن يحرِّرها من الأغلال المادية ، ويترك لها بعد ذلك حرية الاختيار.

كما لا بد لهذا الدين أن يدافع المهاجمين له ، لأن مجرد وجوده في صورة إعلان عام ، لربوبية الله رب العالمين ، وتحرير الإنسان من العبودية لغير الله  والذي يتمثل في تجمعٍ تنظيميٍ حركي ، تحت قيادةٍ  غير قيادات الجاهلية  وميلاد مجتمع مستقل متميز ، لا يعترف لأحد من البشر بالحاكمية ، لأن الحاكمية فيه لله وحده .

فكان لا بد للإسلام أن يدافع عن وجوده ، ويعمل على إزالة العقبات من طريقه ، ليخاطب وجدان الأفراد وعقولهم ، دون حواجز وموانع مصطنعة . ومن حق الإسلام أن يتحرك ليحطم الحواجز والأنظمة ، والأوضاع التي تعمل على تجاهله ، ومن حقه أن يُخْرِج الناس من عباده العباد ، إلى عبادة الله وحده ، وليس لأحد من الناس أن يُنصِّب نفسه حاكماً على الناس  ومسيطراً عليهم يأمرهم وينهاهم ، دون التقيد بالأمر والنهي لإلهي ، لأن الإسلام نظام شامل ، يريد أن يقضي على سائر النظم الباطلة الجائرة  ويقطع دابرها ليستبدلها بنظم صالحة ، فيها خير الإنسانية ونجاتها من الشر والطغيان ، لأن الحق لا يعادي أحداً ، وإنما يعادي الفساد والجور والفحشاء .

إن مهمة حملة الدعوة ، ليست الوعظ والإرشاد في المساجد ، بالتدريس والخطابة ليس إلا ، إنما هم جماعة ، المطلوب منهم ، حمل لواء الحق في الأرض ، وإقامة نظام حكم يتفيأ ظلاله القاصي والداني ، والغني والفقير  لأن المسلمين يواجهون أعداءً ، لا يقعدهم عن الفتك بهم ، بلا شفقة ولا رحمة ، لا عهد معقود ، ولا ذمة مرعية .

والتاريخ يشهد على ذلك قديماً وحديثاً ، ابتداءً من عصر النبوة ومروراً بغزو التتار والصليبيين ، وانتهاءً بما يصنعه أعداء الإسلام في هذا العصر في البلاد التي يعيش فيها المسلمون .

إن المجتمع المسلم ، يتناول ما يقع فيه من أخطاء وانحرافات عن منهج الله وشرعه ، ويبحث لها عن الحلول التي توافق منهج الله وحكمه .

أما عندما لا يكون هناك مجتمع مسلم ، ولا حاكمية لله ، فإن الأمر بالمعروف يجب أن يسعى لتحقيق قيام المجتمع المسلم ، ويتجه النهي عن المنكر إلى حكم الطاغوت ، الذي يحكم بغير شريعة الله ، كما حصل عند نشأة المجتمع المسلم في المدينة ، عندما تم لهم قيام الدولة المسلمة الحاكمة بشريعة الله ، وإقامة المجتمع المحكوم بهذه الشريعة .

كانوا يأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر ، في الفروع المتعقلة بالطاعات والمعاصي . تلك هي طبيعة الأمة الإسلامية ، التي بايعها الله على الجنة  تقاتل لإعلاء كلمة الله ، أو الاستشهاد في سبيل ذلك ، وليست الحياة عند هذه الأمة لهواً ولعبا ، وليست أكلاً كما تأكل الأنعام ، وليست سلامة ذليلة وراحة بليدة ، إنما جهاد في سبيل الله ، وفي سبيل الخير ، وانتصارٌ    لإعلاء كلمة الله واستشهادٌ في سبيل ذلك ، ثم الجنة التي وعد المتقون  هذه هي الحياة التي يُدْعى إليها المؤمنون بالله ورسوله : ﴿ يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ﴾ .          

 

  عوائق الدعوة الإسلامية عن قيادة الأمم

قال تعالى : ﴿ قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ ﴾   الأحزاب18 وعوائق الدعوة : هي الشواغل والصوارف والمثبطات التي تحول دون تحقيق الهدف الدعوي .

وحتى تتصدر الدعوة الإسلامية مراكز القيادة والتوجيه في العالم ، فإن نجاحها متوقف على استقامتها على المنهج الصحيح، وذلك يتحقق بالهداية إلى الصراط المستقيم، الذي شرع الله لنا أن ندعوه دائماً أن يهدينا إليه ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾الفاتحة6، وكان صلى الله عليه وسلم عندما يقوم من الليل يسأل ربه الهداية قائلاً: (اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم ) وجاء الأمر باتباع الصراط المستقيم وعدم الميل عنه قال تعالى :﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾  الأنعام 153، والاستقامة على الطريق أمر في غاية المشقة والصعوبة؛ لأن النفس الأمارة بالسوء، والدنيا المليئة بالمغريات، وشياطين الجن والإنس الذين ينفذون خطط أعداء الإسلام ، الذين يحاولون أن يَحِْرفوا مسيرة الدعاة العاملين ، عن الدرب القويم ولذلك كانت أشق آية أنزلت على الرسول صلى الله عليه وسلم كما يقول ابن عباس هي: ﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ هود 112.  وطرق الباطل التي تواجه الدعاة لا تعد ولا تحصى ، وقد خط الرسول صلى الله عليه وسلم في الرمل خطاً  وخط عن يمين ذلك الخط وشماله خطوطاً، ثم أشار إلى ذلك الخط المستقيم وقال: (هذا صراط الله مستقيماً)، وأشار إلى تلك الخطوط المنحرفة ذات اليمين وذات الشمال وقال: (هذه السبل على كل سبيل فيها شيطان يدعو إليه)، ووصف هذا بمثال آخر فقال: (ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً، وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور ملقاة، وداع يدعو من فوق الصراط يقول: أيها الناس! ادخلوا الصراط ولا تعوجوا، وداع يدعو من جوف الصراط ، كلما أراد أحدهم أن يفتح باباً من تلك الأبواب يقول: ويحك لا تفتحه؛ إنك إن تفتحه تلجه ، فالصراط الإسلام، والأبواب محارم الله، والداعي على رأس الصراط كتاب الله  والداعي من جوف الصراط ، واعظ الله في قلب كل مسلم ) ، فانحراف مسيرة الدعاة ، يكون إما من جهلٍ للصراط المستقيم وعدم العلم به ، وهذا هو الضلال، ومن هنا أُتي النصارى الذين سماهم الله بالضالين؛ إذ عبدوا الله على جهل، وإما أن يأتي من عدم الاستقامة عليه ، واتباعه مع العلم به، وهذا حال اليهود الذين يعرفون الحق ولا يتبعونه ، ولذلك سماهم الله بالمغضوب عليهم   وأما حال الذين أنعم الله عليهم ، بمعرفة الحق واتباعه،الذي فصلته الفاتحة :﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ ﴾الفاتحة6-7 . هي معرفةٌ واضحة المعالم ، ونعمة من نعم  الله التي ينبغي أن تسلكها المسيرة الدعوية ، وهي محصورة في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله، وسنتي) ، وقد حفظهما الله  من التغيير والتبديل والضياع فقال تعالى : ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾الحجر9 والصراط المستقيم ، له أتباع ظاهرين على الحق ، أخبر عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله : (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم إلى أن يأتي أمر الله وهم كذلك) وتعاليمه محفوظة في الكتب وفي الصدور، وهو متمثل في رجال وجماعات مؤمنة في أنحاء متفرقة في العالم ، ظاهرة على الحق ، تجاهد أعداء الله ، وتصبر على الفتن والأذى في سبيل الله ، وسيهديهم الله سبل الخير ويثبتهم على الصراط المستقيم ، ويكون لهم ناصراً ومؤيدا قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ﴾ العنكبوت69. هذه الجماعات لا تتنازل عن شيء من الإسلام   وتعتبر أي تنازل انحرافاً عن الصراط المستقيم وهو الإسلام، لأن الإسلام دين الله الذي أنزله ليحكم بين عباده، وليهيمن على حياة البشر في كل شأن من شئونهم: في الحكم، والتشريع، والتربية  والتعليم ، والإعلام، والاقتصاد، والعلاقات بين الأفراد  وبين المسلمين وغيرهم من الأمم . أما من يريدون من دعاة الإسلام أن يقصروا جهودهم على أجزاء من الإسلام كالعبادات والأمور الأخلاقية، ويرفضون أن يمتد الإسلام ليهيمن هيمنة كاملة على الأفراد والمجتمعات ويرضون بصفقة تعطيهم الحق في دعوة الناس إلى شيء من دينهم، والسكوت عن أشياء كثيرة قد ينسوها مع مرور الزمن ، فتنحرف المسيرة الإسلامية ، ولذلك حذرنا الله سبحانه من هذا المنهج، وسمى الذين لا يريدون هيمنة الإسلام على الحياة بالظالمين؛ لأنهم ظلموا أنفسهم وظلموا الناس معهم ، عندما عارضوا منهج الله تعالى  وجلبوا للناس الدمار والخراب الذي يحل بالظالمين، ولذلك حذر الله دعاة الإسلام من الركون إلى الظالمين فقال تعالى : ﴿ وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ ﴾ هود 113 . في تفسير هذه الآية قال صاحب الظلال :" لا تستندوا ولا تطمئنوا إلى الذين ظلموا ، من الجبارين والطغاة الظالمين ، أصحاب القوة في الأرض، الذين يقهرون العباد بقوتهم، ويعبّدونهم لغير الله من العبيد، لا تركنوا إليهم؛ فإن ركونكم إليهم   يعني إقرارهم على هذا المنكر الأكبر ، الذي يزاولونه، ومشاركتهم في إثم ذلك المنكر الكبير ". هناك رجال من الدعاة ، لا يتنازلون عن شيء من دعوتهم، لا بالترغيب ولا بالترهيب ، تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي عرضت عليه قريش المال والنساء والملك؛ كي يخفف من دعوته، ويتخلى عن شيء من مبادئه ، وهددته بالقتل والإخراج من الأرض ، رجالٌ لا يقبلون الحلول الوسط من أصحاب السلطان ، اقتداءً بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما ، عرضت عليه قريش ، أن يعبد آلهتهم يوماً ، ويعبدوا إلهه يوماً، رجالٌ يرفضون من الذين كفروا بالله ورسوله ، طلب أي تعديل على منهج الدعاة وأسلوبهم ، لأنهم آمنوا بقوله تعالى :﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾ الكهف 28.  كما لا يقبلون التسليم في جزء من منهج الدعاة ولو كان يسيراً، كما هو حال بعض الجماعات الدعوية ، لأن أصحاب السلطان يستدرجون أصحاب الدعوات، فإذا سلموا في الجزء فقدوا هيبتهم وحصانتهم، لذلك لا يتنازل الدعاة عن أي جزء من الدين ، آملين أن يمتن الله عليهم ويثبتهم ،كما امتن الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ثبته على ما أوحى إليه ، وعصمه من فتنة المشركين له، ووقاه من الركون إليهم ولو قليلاً، ورحمه من عاقبة هذا الركون، وهي العذاب في الدنيا والآخرة مضاعفاً، وفقدان المعين والنصير قال تعالى : ﴿ وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا * وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا﴾  الإسراء 73-75 .لقد وقع في هذه الفتنة رجال كانوا يتصدرون العمل الإسلامي، أغرى بعضهم ، الترغيبُ والمغنم  وبعضهم أخافه الترهيب ، فأصبحوا طبولاً جوفاء تسبح بحمد الظالمين ، ومنهم من يبدو من فلتات لسانهم ، الركون إلى الذين ظلموا، في حديثهم اللين مع الظالمين ، ومن الدعاة ، من يعملون جاهدين ، ما كان لله وحده ، وابتغي به وجهه   ولم يخالطه طلب ظهور أو شهرة ، وينهضون بواجب الدعوة الضخم ، ويدعمون الحق الذي شرّفهم الله به ، ولا يحزنون على شيء فاتهم من حظوظ الدنيا ، لأنهم آمنوا للعمل لإحقاق الحق   وأن لا تنحرف المسيرة ، مع من يدعو إلى الشكل قبل الموضوع ، وإلى النافلة قبل الفريضة قال تعالى : ﴿ فمن آمن وأصلح فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون ﴾ الأنعام 48 ، اللهم كن لهم ناصراً ومعينا .  

 

 

 

 

 

أساس نجاح الداعية

إن للنجاح الحقيقي أساساً لا يتغيِّر ، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرف الخلق بهذه الحقيقة ، فاتجهت جهوده كلها إلى داخل الإنسان ، تصوغه وتضبطه وتطمئن إلى مساره ، لأنه يعرف أن هذا الإنسان سوف يفرض نفسه على بيئته يوما ، عندما تنزاح العوائق من أمامه ، فجعل هدفه الأول أن يصنع من أصحابه رجالا ، كانوا صوراً حية من الإيمان ، وأن يصوغ ضمائرهم ويبني بفكر الإسلام منهم أمة   وقد وعى الصحابة هذه المعاني ، وعاشوا الإسلام حياة واقعية ، فكان كل فرد منهم نموذجا مجسما للإسلام ، يراه الناس فيرون الإسلام ، ففتحوا البلاد  ودخل الناس في دين الله أفواجا.
 كانت فتوحهم برا ومرحمة    كانت سياستهم عدلا وإحسانا
لم يعرفوا الدين أورادا ومسبحة  بل أشبعوا الدين محرابا وميدانا

لم يحاول الاصطدام بالأسوار الخارجية قبل استكمال هذا الداخل المهم ، فقد قرأنا في سيرته أنه ترك الأصنام منصوبة حول الكعبة عشرين سنة لم يتعرض لها ، فهل كان ذلك ليبقي عليها ؟ بالطبع لا ، فقد كان يعلم أن لها أجلا ، وأنها عن قريب ستزول  ولكن من يقوم بمهمة إزالتها ؟ إنهم الرجال الذين تخرجوا من مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم واستناروا من الداخل وتربوا على التوحيد الحق ، فليتربصوا بهذه الأصنام يوما دون استعجال ، وليهتموا بداخلهم يتعهدونه  فما هو هذا التعهد الشاغل لهم ؟ إنه تعهد الوعي ليكون صحيحا ، والباطن ليكون نظيفا والخُلُق ليكون عظيما ، والإخاء ليكون وثيقا ، والهدف ليكون واضحاً ، لأن الأمم لا تبنى بالصور والمظاهر  وإنما تبنى بالحقائق ، فالمنافقين هم أحسن الناس إتقاناً للمراسم والشكليات ، وقلوبهم خواء ، بخلاف المؤمنين فإن نضج نفوسهم ، وزكاة سرائرهم ، هما سرّ عظمتهم وسرّ مآل الأمور إليهم .

إن النبوة أخذت بيد العرب إلى طريق المجد   فجعلنهم نماذج يُقْتدى بها ، في ميادين العبادات والمعاملات ، فكانت قيادتهم خيراً وبركة ، وكانت فتوحاتهم العسكرية خارقة ، فقد قادت العقيدة العسكرية النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه إلى النصر ، وإلى توحيد الجزيرة العربية تحت لواء الإسلام ، خلال تسع سنين فقط من عمر الزمان ، وقادت الخلفاء الراشدين وقادة الفتح الإسلامي وجنوده من بعد ذلك إلى فتح العراق وبلاد الشام ومصر وليبيا وبلاد فارس وخراسان ، وتوحيد هذه البلاد الشاسعة ، تحت لواء الإسلام خلال أقل من عشرين سنة .

وعندما تخلى المسلمون عن عقيدتهم وطبقوا عقيدة العسكرية الغربية ، قادتهم هذه العقائد الدخيلة إلى الهزائم المنكرة ، وخسروا حتى بلادهم ، ووصلوا إلى درجة من الذل والهوان ، الذي أصبح واقعاً مريرا   يدفعنا للكلام عن الهزائم ، وكأنها أصبحت ضربة لازب على جيلنا ، فتجاهلنا الماضي ، وتجاهلنا تاريخ الحروب الصليبية ، وحتى تاريخ الاستعمار البغيض الذي غزا بلادنا ، وما زال يغزونا في عقر دارنا  ودخلنا في مرحلة القصعة ، وتداعت علينا الأمم   وما كان ذلك من قلة، ولكننا كما قال صلى الله عليه وسلم غثاء كغثاء السيل ، كما عمل على إقصاء الشريعة في ديار الإسلام عن الحكم ، وإحلال القوانين الوضعية محل الشريعة الإسلامية ، وانقلب النظر إلى السيرة النبوية التي هي مجال للإقتداء والتأسي في السلم والحرب ، والنصر والهزيمة ، إلى ضرب من التغني والطرب والابتداع في المواسم والمناسبات .

وإذا تجاهلنا تاريخنا وما كان فيه من عزٍّ ومجد ، فهل يليق بنا أن نتجاهل الحاضر بما فيه من آلام وأحزان  فندفن رؤوسنا في الرمال كالنعام ، حتى لا نرى أو نحس بما يدبر للأمة المسلمة من دسائس ومؤامرات .

إن مأساة الإسلام في بلاد الإسلام وحدها ، كفيلة بأن تجعلنا ندرك حقيقة أعدائنا . والذي يحز في النفس أن الكثيرين يقف عند هذا الحد ، والذي يُجرِّءُ أصحاب الشرّ علينا ، فيفعلوا بنا الأفاعيل .

وحتى تكون الأمة في موقع الصدارة ، وتتولى قيادة العالم ، فإن ذلك لا يتأتى بين عشية و ضحاها ولا يتم بسهولة ، لأنة لا بد من توفير صفات معينة أشار إليها الله بقوله: ﴿ ولقد كتبنا في الزبور من يعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ﴾ الانبياء 105 .

فإذا التزم الصالحون منهج الله ، فسوف نحوز الدنيا و الآخرة ، لأن منهج الله هو الذي يأمرنا وينهانا و يخبرنا بالحلال و الحرام ، وعلينا التنفيذ وعلى الحكام وأولياء الأمر أن يراقبوا مسألة التنفيذ هذه ، بأن يولوا من يصلح للمهمة ، ويقوم بها على أكمل وجه وإلا فسد حال المجتمع ، لأن عناصر الصلاح في المجتمع ، علماء يخططون ، وحكام ينفذون ويعملون على تطبيق منهج الله في الأرض ، والوقوف أمام أي فساد ، والأخذ على يد صاحبه ، لأن الله يزع بالسلطان مالا يزع بالقرآن، فكان لا بد من قوة تصون صلاح المجتمع ، وتضرب على أيدي المفسدين ومن أهم عناصر التمسك بأصول ومبادئ هذا الدين الذي وفَّى ويفي بحاجات البشرية في كل عصر فوسع بمبادئه وقواعده ، كل ما امتد إليه نفوذه في أنحاء المعمورة، وقد عالج كافة المشكلات على اختلاف البيئات، وما عجز في يوم من الأيام عن أن يقدم لكل سؤال جوابًا ، ولكل واقعة فتوى ، ولكل قضية حكمًا، ومدونات الفقه والفتاوى برهان للمتشككين، وكيف لا يكون ذلك وهذه الشريعة كما قال ابن القيم : "مبناها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، عدل كلها، رحمة كلها ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور ، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة" ، ولكن الأمة اليوم على نهج آخر  تقاليد لا تمت إلى الإسلام بصله ، حيث يعيش الكثيرون لأنفسهم ومآربهم ، والطريقة التي يدرسون بها الدين لا تعين على زكاة النفس وخيرها ، ناسين أن الإسلام أقام شعار في سبيل الله ، ليدفع الإنسان إلى ربه ، فالإنفاق والسعي في هذه الدنيا ، يجب أن يكون في سبيل الله ، ولكن هذا الشعار ، أصبح في عالم النسيان هذه الأيام ، فكانت نتيجة ذلك أن سيطرت المآرب الذاتية على أغلب مناحي الحياة  حتى إن اهتمام الناس يتوجه إلى الأمور الدنيوية   أكثر من اهتمامهم بأمور الآخرة ، علماً بأن المبدأ الإسلامي الأول في التربية ، هو ﴿ قد أفلح من زكاها ﴾ وذلك لا يتحقق بالوعود والأماني إنما يتحقق بتطبيق عملي في شؤون الحياة ، فالطيبة أو التقوى أو القدرة على تمييز الخبيث من الطيب ، أو إيثار الحسن على القبيح كانت من المشاعر التي برز بها سلفنا الأولون فأصبحت هذه الأيام ، سمرٌ وسهر على شتى البرامج التي تبث من الفضائيات ، يعقب ذلك نوم عن الصلوات واتباع للشهوات ، حتى أدى هذا الخلل في التركيب الإنساني إلى ضعف الاكتمال النفسي الذي يسد فراغه بعض  الشعائر ، وصور الطاعات و التمسك بالمندوبات والمستحبات في الدين وزيادة الاهتمام بها على حساب المفروضات  فهذا ابن القيم قد رفض من الغني البخيل أن يكثر من الذكر ويطيل الصيام ، لأن عبادته الأولى العطاء  كما رفض من الداعية الجبان ، أن يشتغل بالأوراد  ويعتكف بعيداً عن الناس ، لأن عبادته الأولى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والنصح لأولي الأمر ولا يخفى ما تحتاج إليه امتنا كي تنهض من عثرتها بتطبيق منهج الله ، والوفاء بحقوقه .

وإن الناظر إلى أحوال الأمة الإسلامية اليوم يلحظ تأخرها بعد تقدمها، وذلها بعد عزها، واحتلالها بعد سيطرتها؛ فقال القائل متحسراً على ذلك المجد الضائع 

كنا ملوكاً على الدنيا وكان لنا ملك عظيم وكنا سادة الأمم

كسرى وقيصر والخاقان دان لنا وأمرنا كان بين السيف والقلم

إننا نستطيع بإسلامنا أن نعيد المجد الذي ضيعناه  وتحقيق النصر الذي نتمناه ، لأن المسلمين لا تنقصهم الإمكانات ، ولا يشكون من قلة العدد  وهم يشكلون قوة لا يستهان بها ، لو اجتمعت كلمتهم واتحدت جهودهم ، وقويت صلتهم بدينهم  وتجردوا من أهوائهم ، وقضوا على أسباب الفرقة التي شتت شملهم ، وارتفعوا إلى مستوى واقعهم فهماً وتدبيراً وعملاً ، وأعدوا ما ا استطاعوا من القوة كما أمر الله ، واتخذوا منهج الله على أنه جهاد في سبيل الله ، وعقلوا قول الله ﴿ وجاهدوا في سبيله ﴾ على أنه دعوة لصنع أمة إيمانية متحضرة ، بذلك يكون النصر حليفنا ، وتاريخنا يشهد على ذلك ، فقد انتصرنا بالإسلام ، ولن ننتصر بغيره هذه الأيام لأن الإسلام يهدف ابتداءً ، إلى إزالة الأوضاع التي تقوم على أساس حاكميه البشر للبشر ، وعبودية الإنسان للإنسان ، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول في الحديث  الذي يرويه عمر ابن عمر: ( إن لله تعالى أقواماً يختصهم الله بالنعم لمنافع العباد ، ويقرها فيهم ما بذلوها ، فإذا منعوها نزعها منهم ، فحولها إلى غيرهم ) .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 


           

    

 

 

 

 

 

طريق الدعوة في خضم الأحداث

إن المسلمين يمرون بفتن عظيمة ، تنوعت أسبابها واختلفت موضوعاتها ، وتعددت مصادرها ، في العقول والأنفس ، وفي الأعراض والأموال   والأولاد والممتلكات ، وتتضمن في طياتها تحسين القبيح ، وتقبيح الحسن ، تعاظم خطرها ، وتطاير شررها ، مما صعّب الطريق أمام الدعاة   فأصبحت مفروشة بالدماء ، ومحفوفةً بالمخاطر والفتن والابتلاءات ، لأن الدعوة إلى منهج والإيمان ، ليس كلمةً تُقال باللسان فحسب فهناك من يعلن كلمة الإيمان في وقت الدعة والراحة ، فإذا تعرَّض لفتنة أو محنة أو ابتلاء تزعزعت في قلبه العقيدة ، ولم يثبت الإيمان في قلبه ، وهؤلاء هم الذين عناهم الله في قوله تعالى : ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاس كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ ﴾ العنكبوت  10 . إنه نموذج متكرر في كل جيل وحين ، يَزنُ العقيدة والإيمان والالتزام ، بميزان الربح والخسارة ،  فإن أصابه خير اطمأن به, وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ، جاء وصفهم في  قوله تعالى : ﴿ ومن الناس من يعبد الله على حرف   فإن أصابه خيرٌ اطمأن به وإن أصابته فتنةٌ انقلب على وجهه ، خسر الدنيا والآخرة ﴾ الحج 11 . 

قد يتعرّض الداعي على طريق الدعوة للأذى من الباطل وأهله ، ثم لا يجد النصير الذي يسانده ويدفع عنه ، ولا يملك النصرة لنفسه ، ولا يجد القوة التي يواجه بها الطغيان ، وقد يتعرّض لفتن كثيرة  أدهى وأمر ، كفتنة الأهل والأحباء الذين يخشى عليهم أن يصيبهم الأذى بسببه ، وهو لا يملك عنهم دفعاً ، وقد تعصف الفتنة بالقلوب إذا وقع بأهله وأحبابه البلاء ، أمام عينيه وبين يديه وهو مشلول الحركة ، لا يستطيع أن يفعل شيئاً !  وهناك فتنة إقبال الدنيا على المبطلين ، الذين تهتف   وتصفق لهم الجماهير المخدوعة ، في الوقت الذي يرى المؤمن نفسه مهملاً منكراً غريباً لا يحس به أحد ، ولا يشعر بقيمة الحق الذي معه إلا القليلون من أمثاله ، الذين لا يقدرون على شيء   حتى ولا عن دفع الأذى عن أنفسهم ، وهناك فتنة من نوع آخر ، نراها بارزة في هذه الأيام ، ألا وهى أننا نرى دولاً وأمماً غارقة في الكفر والرذيلة والانحطاط الأخلاقي ، تهيمن على بلاد المسلمين ومقدراتهم  ، وأكبر الفتن ، فتنة النفس والشهوات ، والرغبة في المتاع والسلطان ، وفتنة الغربة في الدين ، والاستيحاش في العقيدة حتى أضحى المسلم غريباً في بيئته ، بين أهله وإخوانه   وإذا طال الأمد ، وأبطأ نصر الله عز وجل   كانت الفتنة أشدَّ وأقسى ، وكان الابتلاء أصعبَ وأعنف ، ولم يثبت إلاَّ من عصمه الله عز وجل .

إنها قصة الدعاة ، طويلة بطول الطريق ، قاسية بقسوة المِحَن ، وفتنتهم شديدة بشدة الابتلاءات ، مما يدعو للتساؤل : ما هي الحكمة من تعرضهم لهذه المحن والفتن والابتلاءات ؟ ليس في الوجود أحد أغير على الحق وأهله من الله سبحانه وحاشا لله أن يعذب أولياءه من المؤمنين بالفتن ، وأن يؤذيهم بالابتلاءات ، ولكنه الإعداد الحقيقي لتحمل الأمانة ، فهي في حاجة إلى إعداد خاص لا يتم إلا بالمعاناة العملية للمشاق ، والاستعلاء على الشهوات ، والصبر على الآلام ، والثقة في نصر الله أو في ثوابه ، وعلى الرغم من طول الفتنة وشدة الابتلاء ، فلا يكفى أن يقول الناس: آمنا وهم لا يتركون ، حتى يتعرضوا للفتنة فيثبتوا عليها ﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ﴾ هذه الفتنة على الإيمان أصل ثابت وسنة جارية في ميزان الله سبحانه:﴿ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾ فالفتنة سنة جارية لامتحان القلوب ، وتمحيص الصفوف ، لأن الإيمان أمانة الله في الأرض ، لا يحملها إلا من هم لها أهل   وفيهم من له على حملها قدرة ، وفى قلوبهم تجردٌ لها وإخلاص ، لا يحملها إلا الذين يؤثرونها على الراحة ، لأنها أمانة الخلافة في الأرض ، وقيادة الناس إلى طريق الله ، وتحقيق كلمته في عالم الحياة   فجهاد أصحاب الدعوات الذين يتصدون للمجرمين ، مهما كلفهم من مشقة وكلفة ، هو الذي يميز الدعوات الحقة من الزائفة ، وهو الذي يمحص القائمين عليها ، ويطرد الزائفين عنها   فلا يبقى إلا العناصر القوية المؤمنة المتجردة ، التي لا تبتغى المغانم ، ولا تريد إلا الدعوة خالصة تبتغى بها وجه الله تعالى ، مؤثرين دعوتهم على الراحة والمتاع ، وأعراض الحياة الدنيا ، بل على الحياة نفسها ، حين تقتضيهم دعوتهم أن يستشهدوا في سبيلها ، وهؤلاء هم أصحاب الأهلية لحمل راية هذه الدعوة ، واثقون فيما عند الله تعالى ،  من إحدى الحسنيين ! إما النصر وإما الشهادة ، وهكذا فإن موكب الدعوة إلى الله يعترض طريقه المجرمون من كل قبيل ، يقاومونه فيصيب الأذى من يصيب من الدعاة ، وتسيل الدماء ، والموكب في طريقه لا ينحني ولا يحيد  والعاقبة مهما طال الزمن للمؤمنين ، إن تحلوا بالصبر الجميل ، هذا الزاد الذي يحرك مواكب الدعوة إلى الله ، الصبر الذي ورد ذكره في نحو تسعين موضعاً في القرآن الكريم ، وهو أكثر خُلق تكرر ذكره في كتاب الله عز وجل ، هذا الصبر ليس مجرد كلمة ترددها الألسنة مع ضيق الصدر   إنما هو الصبر المطمئن الذي لا يصاحبه الشك في صدق الوعد ، صبر الراضي بقدر الله ، صبر من إذا مسه الضر في فتنة من الفتن ، أو ابتلاء من الابتلاءات ، ثبت ولم يتزعزع، صبر الواثق برحمة الله وعونه ، وقدرته على كشف الضراء ، صبر من لا يفقد ثقته في نصر الله في الدنيا والآخرة   ولا يقنط من عون الله له في المحنة حين تشتد   صبر من يرجو نصر الله ، أولئك الذين لن يتركهم الله وحدهم ، ولن يضيع أعمالهم ، ولن ينسى جهادهم فيه فيهديهم ، وينظر إلى محاولتهم الوصول ، فيأخذ بأيديهم ، وينظر إلى صبرهم وإحسانهم فيجازيهم قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ 69 العنكبوت . وأما الذين يفتنون المؤمنين ويسومونهم سوء العذاب ، فلن يفلتوا من عذاب الله ، مهما انتفخ باطلهم وانتفش ، ومهما زاد ظلمهم وانتعش ، فكما أن الله تعالى جعل الابتلاء سنة جارية ، ليميز به الخبيث من الطيب ، فقد جعل أخذ الظالمين سنة لا تتبدَّل ولا تتخلف ، فكل القوى بكل ما تملك من وسائل التقنية الحديثة ، ومن وسائل الإبادة والتدمير مثلها : ﴿ كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون ﴾العنكبوت 41 . فأين الطواغيت والفراعنة والجبابرة والأكاسرة والقياصرة ؟! أين فرعون الذي قال لقومه: أنا ربكم الأعلى ، أين نمرود بن كنعان الذي قال لإبراهيم عليه السلام :  ﴿ أنا أحيى وأميت ﴾ ؟! أين قارون الذين قال في خيلاء وكبر واستعلاء: ﴿ إنا أوتيته على علم عندي ﴾ ؟! وأين عاد وأين ثمود ؟ ﴿ فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ العنكبوت 40 .

 فيا أيها الظالمون والمجرمون ! من المحال أن يموت المظلومون ويبقى الظالمون ، فاعلموا ما شئتم فإنا عاملون ،وجورواً فإنَّا إلى الله مستجيرون وأظلموا فإنَّا إلى الله متظلمون : ﴿ وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ﴾ . ولله در القائل:

أين الظالمون وأين التابعون لهم في الغي بل أين فرعون وهامان؟

أين من دوخوا الدنيا بسطوتهم   وذكرهم في الورى ظلم طغيان؟

أين الجبابرة الطاغون ويحهموا    أين من غرهم لهو وسلطان

هل أبقى الموت ذا عزٍّ لعزته     أو هل نجا منه بالأموال إنسان

لا والذي خلق الأكوان من عدم الكل يفنى فلا إنس ولا جان

 فليتق الظالمون دعوة المظلومين فليس بينها وبين الله حجاب ، لأن الله تعالى يرفعها إليه فوق الغمام ويقول لها: "وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين"

فلا تظلمن إذا ما كنت مقتدراً    فالظلم ترجع عقباه إلى الندم

تنام عيناك والمظلوم منتبـه        يدعو عليك وعين الله لم تنم

فصبراً أيها المظلوم لا تهن        إن عين الله يقظى لا تنام

نم قرير العين واهنأ خاطراً فعدل الله دائم بين الأنـام ، وإن أمهل الله يوماً ظالمـاً فإن أخذه شديد ذي انتقام ، ونصر الله دائماً وحتماً في نهاية الطريق ، وهى سنة لابد منها في النهاية ، بموعود الله سبحانه ، ولكنها تجئ في موعدها المحدد من الله جلت حكمته ، ولا يعجل الله لعجلة أحد من خلقه ، ولا مبدل لكلماته سواء تعلقت هذه الكلمات بالنصر المحتوم أو بالأجل المرسوم . 

﴿ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ﴾الصافات 172  وقال عز وجل : ﴿ حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ﴾يوسف 110 .

 

 

 

الدعوة والدعاة

إن الإسلام لا يكتفي من المسلم أن يكون صالحاً في نفسه ، بل عليه أن  يبذل جهده في إصلاح غيره   وبما أن الناس خطَّائين بطبيعتهم ، وكانت أهوائهم تغلب على أحوالهم ، فإن نقلهم إلى الصواب وتثبتهم عليه يحتاج إلى جهد متصل ودعوة مستمرة ، كما يحتاج إلى إصرار ، لهذا كانت فريضة الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتواصي بالحق والتواصي بالصبر ، فكان كل مسلم في نظر الإسلام مكلف بالدعوة إلى دينه ، ولذلك  جاء الأمر بالدعوة في مواطن كثيرة من القرآن الكريم  قال تعالى : ﴿ أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة  ﴾ النحل 125 . وقال تعالى : ﴿ فلذلك فادع واستقم كما أمرت ﴾ الشورى 15 . وكل من اتبع رسول الله  يعتبر داعية قال تعالى: ﴿ قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني ﴾ يوسف108 .

ولا يحب الإسلام من المسلم أن يعمل وحده  فالمؤمن كما أفاد حديث رسول الله  للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضاً ، والمرء قليل بنفسه كثيرٌ بإخوانه ، والتعاون على البر والتقوى فريضةٌ دينية  والعمل الجماعي للدعوة الإسلامية واجب شرعي ، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ومن أكبر الأخطار التي تواجه الدعوة منعها باعتبارها عقيدة ونظام حياة ، والوقوف في وجه الداعية والعاملين لتحكيم شريعة الإسلام وإقامة دولته ، وتوحيد أمته وتحرير أوطانه ، ونصره قضاياه وتجميع الناس عليه .  إن كل إنسان يلمس الضغط على الدعوة والدعاة  والتضييق على العمل الإسلامي بينما يرى أصحاب المذاهب الوضعية ، يتمتعون بالحرية والمساندة بلا مضايقة ، مما يدعو للتساؤل : لماذا يطلق العنان في أرض الإسلام لدعاة العلمانية وغيرها من المذاهب والأنظمة بحيث تنشأ لها أحزاب ومنظمات وتنطق باسمها صحف ومجلات ؟ في الوقت الذي يفرض الحظر على الإسلام وهو صاحب الدار وتوضع الكمائم على أفواه دعاته والمعبرون عن عقائد الأمة وقيمها

أحرام على بلابلة الدوح     حـلال للطير من كل جنس

كل دار أحق بالأهل إلا   في خبيث من المذاهب رجس

إن الدعوة إلى الإسلام عقيدة ونظام حياة ، أصبح بضاعةً محظورة وسلعة مصادرة في أقطار الإسلام والمسموح به هو الإسلام المستأنس ، إسلام الدراويش ومحترفي التجارة بالدين ، إسلام الموالد والمناسبات الذي يسير في ركاب الأنظمة، ويدعو لها بطول البقاء ، إسلام الجمود في التفكير .

هذا هو المسموح به والمشمول بالرعاية والتأييد  يباركونه ويظهرون التكريم لرجاله والتعظيم لدعاته ليقوموا بدور التخدير للشعوب المقهورة  وإماتة روح الجهاد لدى الشباب ومقاومة الظلم والظالمين . أما إسلام القرآن والسنة إسلام الحق والعدل إسلام العزة والكرامة والبذل والجهاد فهو مرفوض من قبل الأنظمة التي تحكم العالم الإسلامي .  والأمل بالله ألا يدوم هذا الحال من التضييق على الإسلام ، لأن الإسلام لا بد وأن يجد له أهلاً وأنصاراً  ولا تزال طائفة من هذه الأمة قائمين على الحق لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم لأن الدعوة إلى الإسلام كالماء القوي الدافق ، لا بد وأن تجد لها مجرى ولو بين الصخور .

وهل يسع مسلماً يؤمن بالله ويتوجه بتوجيه رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل : ( من لم يهتم لأمر المسلمين فليس منهم  ) . أن يرى مآسي أمته وإخوانه في العقيدة معرَّضين للإبادة بالتقتيل والتنكيل ثم يصبح قرير العين غير مهتمٍ بأخوة الإيمان ، ورابطة الإسلام ؟ إن الأنباء تحمل كل يوم إلى المسلم ما يجري لإخوانه في فلسطين ، ما يزلزل قلبه زلزالاً شديداً وما يعصر قلبه ويكوي كبده بالأسى والحسرة كي النار أو ما هو أشد إيلاماً ، والأهم من ذلك انه لا يجد من حكومات بلاد الإسلام تجاوباً مع هذه القضية العادلة ، وقد يجد الإعراض عنها والتعتيم عليها أو تغليب الولاءات والارتباطات المختلفة على الولاء لله ولرسوله ولدينه ولأمته وقضاياها ، يرى المسلم هذا في ديار الإسلام ويرى التشريع الذي يجب أن يُعبِّر عن عقائد الأمة وقيمها في صورة قوانين وتشريعات تبارك المنكر وتؤيد الفساد ، لأنها من وضع الناس وليست من كتاب الله وسنة رسوله وقد عُطلت بموجبها حدود الله ، وأُسقطت فرائضه وفي مقدمتها الجهاد ، والقائمون على أمر الأمة بموجب هذه القوانين يسيرون في واد ، وتعاليم الإسلام ومنهجه في واد آخر ، كما نرى الذين يوالون من عادى الله ويعادون من والى الله ، ولا يذكرون الإسلام إلا في الأعياد والمناسبات تمويهاً على شعوبهم وضحكاً على لحاهم .

إننا نعيش في وقت نرى الإسلام بشموله وتكامله وتوازنه غائب عن الساحة غريب في أوطانه منكور بين أهله ، معزولٌ عن الحكم والتشريع وعن توجيه الحياة العامة والخاصة ، مما أدى إلى شيوع السرقة والنهب ، فترى اللصوص الكبار يتمتعون بما لذ وطاب بينما يتعرض غيرهم للعذاب .

وقـد كرَّست جهود الأعـداء من الخارج وعملاؤهم في الداخل ، على أن يكون الإسلام عقيدة دون شريعة وعبادة دون معاملة وديناً دون دولة وقرآناً دون سلطان . ولنا أن نتسائل ، ما ذنب الإسلام حتى يحكم عليه بالعزل عن قيادة الأمة والطرد من موقع التشريع والتوجيه ، ما ذنبه حتى يحبس في خبايا الضمائر وإن سُمح له أن يخرج فبين جدران المساجد والزوايا  وحتى في هذه الأماكن بشرط أن يبقى قصير اللسان خفيض الصوت حافظاً للمثل القائل : من سعادة جدك ، وقوفك عند حدِّك .  مسجد موجه ليس له حرية الدعوة ولا الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر مما ولد عند فئة غير فليلة من المسلمين الشعور بالإثم والإنكار لهذا الوضع القائم ، وفقد الإحساس بالرضى عنه والاطمئنان إليه ، لأنه وضع يفتقد الشرّعية في نظر الإسلام ، وضعٌ لا يستطيع أن يغيِّره بيده و لا حتى بلسانه ، فلم يبقى إلا الإنكار القلبي وهو أضعف الإيمان ، حتى إن المسلم الحق يغلي من داخله كما يغلي القدر فوق النار ، ويتحرق فؤاده على ما يرى حسرةً وغما ، وهو لا يستطيع أن يفعل شيئاً . إن الواقع السيئ لا يتغيَّر بالأماني الطيبة ، ولا بالمداهنة ولا المسايرة لهذا النظام أو ذاك ، لأن لله سنناً في تغيير المجتمعات والأقوام لا تحابي أحدا . وما أصدق قول القائل :

ولا تكن عبد المنى فالمنى     رؤوسٌ أموال المفاليس

فلا بد لأصحاب الدعوات أن يتحملوا تكاليفها  وأن يصبروا على الإيذاء من أجلها ، ولا يحاولوا التخلص من واجب الدعوة توهماً بأن ما ورد في الآية القرآنية : ﴿  عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ﴾ المائدة 105 يعفيهم من تكاليف الدعوة إلى الله ، وقد تسرب هذا الوهم إلى البعض في زمن أبو بكر فخطب في الناس وقال : " يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية وتضعونها في غير موضعها ، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه يوشك أن يعمهم الله بعقاب ) . وقد يحتجوا بانتشار الباطل في الأرض بحيث لم تعد الدعوة تجدي شيئا ، علماً بأن واجب المسلم هو القيام بواجب الدعوة إلى الله سوء استجاب الناس أو لم يستجيبوا  ولا بد أن يثابر الدعاة ويكرروا الدعوة ، ولا يجوز أن ييأسوا من صلاح النفوس واستجابة القلوب  مهما واجهوا من إنكار وجحود ، وليعلم كل داعية أن الدعوة هي الأصل لا شخص الداعية ، وخير للداعية أن يصبر فلا يضيق صدره بما يقول المتقولون . وإن في قصة ذي النوى لدرساً لأصحاب الدعوات ينبغي أن يتأملوه . ذي النوى أي صاحب الحوت وهو يونس عليه السلام فقد التقمه الحوت ثم نبذه ، قصة ذلك أنه أرسل إلى قرية فدعا أهلها إلى الله فاستعصوا عليه ، فضاق بهم صدرا وغادرهم مغاضبا ولم يصبر على معاناة الدعوة معهم ، ظاناً أن الله لن يضيق عليه الأرض ، فهي فسيحة والقرى كثيرة والأقوام متعددون ، وما دام هؤلاء يستعصون على الدعوة ، فسيوجهه الله إلى قوم آخرين . وقاده غضبه الجامح وضيقه الخانق إلى شاطئ البحر فوجد سفينة فركب فيها حتى إذا كانت في اللجة ثقلت ، فقال ربانها : إنه لا بد من إلقاء أحد ركابها ، لينجو سائر من فيها من الغرق  فساهموا فجاء السهم على يونس فالقوه في البحر ، فالتقمه الحوت فلما كان في الظلمات  ظلمة جوف الحوت وظلمة البحر وظلمة الليل نادى "أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين". فاستجاب الله دعاءه ونجاه .

وسياق القصة يدل على أن الداعية أداة في يد القدر ، والله أرعى لدعوته واحفظ ، فليؤد الداعية واجبه في كل ظرف ، وفي كل جو والبقية على الله والهدى هدى الله . كما في القصة دلالة على أن رحمة الله لذي النوى ، واستجابة دعائه المنيب في الظلمات بشرى للمؤمنين وكذلك ننجي المؤمنين .

إن من أقسى الضربات التي أصابت الدين وعوَّقت مسيره ، خضوع طوائف منه لسيطرة المستبدين   بل مساومة هذه الطوائف لإجابة أهوائهم وطاعة نزواتهم ، والميل بتعاليم الدين نفسها وفق ما يطلبه أولئك المستبدون ، الذين استطاعوا أن يسيروا بالدين في ركابهم ، وأن يسخروا رجاله في مآربهم والويل للدين إذا استغل في خدمة أشخاص أو سياسات ، يروى أن رجلاً رأى الشرطة يسوقون لصاً إلى الحاكم فسأل : ما هذا ؟ قالوا : سارق يجب قطع يده ، فقال : سبحان الله سارق السّر يُسعى به إلى سارق العلانية .

إنها مصيبة والأدهى منها وأمر ، أن نرى الذين يجعلون من الدين تُكأة أو واجهة للغصب الحرام وقطع ما أمر الله به أن يوصل ، وكم يحتقر الناس الضمير الديني ، عندما يرون اليهود في فلسطين أداة قذرة في يد الاستعمار ، يجتاح بها كيان شعب مستضعف ، ويحرمه من كل كرامة مادية أو أدبية يمكن أن تتوفر للإنسان . وقديماً عندما استولى الصليبيون على بيت المقدس واعملوا السيف في أهله وصف جودفري في خطاب بعثه إلى البابا قائلاً : إن خيولنا تخوض إلى ركبتها في بحر من دماء الشرقيين ".  ولما وصلت هذه الأخبار السيئة إلى دمشق ، هاج الناس فيها وماجوا ، وذهبوا إلى الخليفة في بغداد ومعهم قاض المدينة وحضروا في الديوان ، وقطعوا شعورهم واستغاثوا وبكوا ، فماذا حدث ؟ لا شيء ، يقول التاريخ : فوقع التقاعس لأمر يريده الله تعالى . تخاذل وانقسام وتفريط وخيانات لأمانات الله ورسوله ، وذهول عن حماية الدين والشرف والأهل ، وفوضى ضربت في كل ناحية وجعلت واجب الدفاع المقدس بعيد الوقوع ، أين العرب والمسلمون يومئذٍ وماذا فعلوا ؟.. في وسط هذه الغيوم الكثيفة انشقت الغيوب عن رجل جمع الشتات ، ونفخ روح القوة في الكيان المتداعي ولمَّ فلول المسلمين تحت راية الإسلام ، ذلك هو البطل صلاح الدين ، وهو كما نعلم ويعلم الناس كردي مسلم ، لا ينتسب إلى عدنان ولا إلى قحطان ، وهاهو التاريخ يعيد نفسه وأصبحنا بحاجة إلى رجل كصلاح الدين ، ليعز الإيمان و يدافع عن الإسلام ، ومهما نسى المسلمون من مبادئ دينهم ، وتخلوا عن مزايا ملتهم ، فإنهم لن ينسوا أن المؤمنين قوة ، ولن يشكوا في أن الاعتصام بحبل الله يوم تتهيأ لهم القيادة الحكيمة الحازمة ، التي تمض بهم إلى طريق النجاة ، ويومئذٍ يفرح المؤمنون ينصر الله .  

 

 

 

آداب الدعوة

 للدعوة إلى الله آداب لا بد أن يلتزم بها الداعية ؛ حتى يتقن فن التعامل مع المدعوين ، فيجتنب ما ينبغي اجتنابه ، ويأتي ما ينبغي الإتيان به .

 ومن هذه الآداب الإخلاص في الدعوة التي تعتبر فنٌ يجيده الدعاة الصادقون    الذين يحملوا هموم الدعوة ، ويجيدوا إيصالها للناس ؛ لأنهم ورثة محمد صلى الله عليه وسلم  وكان لزاماً عليهم أن يتقوا الله في الميثاق الذي حملوه ، لأنهم ورثة الأنبياء والرسل، وهم أهل الأمانة الملقاة على عواتقهم، إذا علم ذلك فإن أي خطأ يرتكبه داعية ؛ يؤثر في الأمة ، ويكون الدعاة هم المسئولون بالدرجة الأولى عما يرتكب من خطأ ، لذا ينبغي عليهم الإخلاص في دعوتهم ، وأن يقصدوا ربهم في عملهم ، وألا يتطلعوا إلى مكاسب دنيوية زائلة، وإلى حطامٍ فانٍ ، ولسان حالهم قول الله تعالى:]وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ[   الشعراء 127. وقول القائل :

خذوا كل دنياكم واتركوا     فؤادي حـراً طليقاً غريباً

فإنـي أعـظمكم ثـروة    وإن خلتموني وحيداً سليبا

  فلا يطلب الداعية منصباً ، ولا مكانةً ولا منـزلةً ولا شهرةً ، بل يريد بعمله وجه الله تعالى وإقامة منهجه وتقليص الفساد في الأرض ] إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ [ هود 88 . ويلتزم بطلب العلم النافع ، ليدعو الله على بصيرة لقوله تعالى: ] قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [ يوسف 108. بأن يكون ذا علم نافع ، فيلتزم صحة الدليل من الكتاب والسنة ، ليدعو إلى الله على بصيرة ، وألا يخاف ولا يرجو ولا يرهب إلا الله ، وأن يستفيد من ذي العلم والتجربة والعقل ، وألا ييأس من الناس ، ولا يستعجل عليهم فإن رسولنا عليه الصلاة والسلام مكث في مكة ثلاث عشرة سنة يدعو إلى لا إله إلا الله، فلم ييأس على كثرة الإيذاء والسب والشتم، وعلى كثرة ما تعرض له من الصعوبات ، ومع ذلك صبر وحاسب نفسه ، وحبس أعصابه -عليه الصلاة والسلام- ولم يغضب حتى يأتيه ملك الجبال، فيقول: أطبق عليهم الأخشبين؟ قال: لا، إني أسأل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً، فأخرج الله من أصلاب الكفرة القادة: خالد بن الوليد من صلب الوليد بن المغيرة ، ومن صلب أبي جهل عكرمة بن أبي جهل  ، وما أحسن ألاَّ ييأس الداعية! وأن يعلم أن العاصي قد يتحول بعد المعاصي إلى إمام أو عالمٍ.

ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها   كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه

تـريد مهـذباً لا عـيب فـيه    وهل عـود يفوح بلا دخان

 وألا يقنط الناس من رحمة الله تعالى ، فلا تقنط العاصي من توبته إلى الله ، بل حببه إلى الهداية، وقل: هناك ربٌ رحيم، يقول في محكم التنزيل:] وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [ آل عمران 135. وقال علي رضي الله عنه : "الحكيم من لم يقنط الناس من رحمة الله ، ولم يورطهم في معصية الله " .  وكما يطلب منه ألا يقنطهم ، يطلب منه ألا يهون عليهم المعاصي، بل يخوفهم من الله ، فيكون وسطاً بين الخوف والرجاء .

 وينبغي على الداعية ألا يهاجم أشخاصاً بأسمائهم ، فلا يلمزهم   أمام الناس ، بل يفعل كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم  ويقول : ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا، فيعرف صاحب الخطأ خطأه بدون تشهير ، ولا تصاب نفسه بإحباط، ولا يصاب بخيبة أمل،  

   ومما ينبغي على الداعية ألا يستدل بحديثٍ موضوع، إلا على سبيل البيان، فإنه يعلم أن السنة -والحمد لله- ممحصة ومنقاة، وأنها معروضة، وأن أهل العلم نقوها، ولذلك لما أُتي بالمصلوب الذي وضع أربعة آلاف حديث على أمة محمد صلى الله عليه وسلم كذباً وزوراً أُتي به إلى هارون الرشيد ليقتله، فسل هارون الرشيد السيف، قال: اقتلني أو لا تقتلني فو الله، لقد وضعت على أمة محمد أربعة آلاف حديث، قال هارون الرشيد : ما عليك يا عدو الله ينبري لها الجهابذة يزيفونها ويخرجونها كـابن المبارك وأبي إسحاق المروزي ، فما مر ثلاثة أيام إلا وقد نقاها عبد الله بن المبارك وأخرجها وبين أنها موضوعة، فلله الحمد على منته ، ومما ينبغي على الداعية ألا يقدح في الهيئات ولا في المؤسسات بذكر أسمائها، ولا الجمعيات، ولا الجماعات، لكن يبين منهج الحق، ويبين الباطل، فيعرف صاحب الحق أنه محق ، ويعرف صاحب الباطل أنه مبطل؛ لأنه إذا تعرض للشعوب جملة ، أو للقبائل بأسمائها، أو للجمعيات، أو للمؤسسات، أو للشركات أتى الآلاف من هؤلاء فنفروا منه، ولم يستجيبوا له، وتركوا دعوته، وفي الأدب المفرد مما يروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:  (إن من أفرى الفرى أن يهجو الشاعر القبيلة بأسرها ) وهذا خطأ، فإن من يقول: قبيلة كذا كلهم فسدة وفسقة، مخطئ لأنه لم يصدق في ذلك، والتعميم عرضة للخطأ ،  وعدم التكبر على الناس ، وألا يظهر الداعية بهالة المستعلي على جمهوره وأحبابه وإخوانه، وعلى المدعوين  ، وواجب الداعية أن يظهر دائماً بالتواضع وأن يلتمس العذر من إخوانه، وأن يبادلهم الشعور، وأن يطلب منهم المشورة والاقتراح،  فلا يعطي المسائل أكبر من حجمها، ولا يصغر المسائل الكبرى أو يهونها عند الناس. ومن الأمثلة على ذلك أن بعض الدعاة يعطي مسألة تربية اللحية أكبر من حجمها، حتى كأنها التوحيد الذي يدخل به الناس الجنة، ويخلد الناس بتركه في النار، مع العلم أنها من السنن الواجبات،   وكذلك إسبال الثياب، وكذلك الأكل باليد اليسرى، وغيرها من المسائل، لا يعطيها أكبر من حجمها، بل يفعل كما فعل عليه الصلاة والسلام، تكلم عن التوحيد في جل أحاديثه ومجالسه، وأعطى المسائل حجمها حتى لا يصاب الناس بإحباط، فإن التربية المعوجة أن تصف له المسألة السهلة فتكبرها عنده، وتصغر المسألة الكبرى  ،  ومنها أيضاً اللين في الخطاب، والشفقة في النصح، كما كان عليه الصلاة والسلام، كلامه ليِّن ووجهه بشوش، وتواضع عليه الصلاة والسلام للكبير والصغير، فتراه يقف مع العجوز ويقضي غرضها، ويأخذ الطفل ويحمله عليه الصلاة والسلام، ويذهب إلى المريض ويزوره، ويقف مع الفقير، ويتحمل جفاء الأعرابي، ويرحب بالضيف، ويوافق الإنسان، وكان إذا صافح شخصاً لا يخلع يده من يده حتى يكون ذلك هو المنتهي، وكان إذا وقف مع شخص لا يعطيه ظهره حتى ينتهي ذاك، وكان دائم البسمة في وجوه أصحابه -صلى الله عليه وسلم- لا يقابل أحداً بسوء.

 وأن يكون هيناً لينا : ] فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [  طه 44  فالقول اللين سحرٌ حلال ، قيل لأحد أهل العلم: ما هو السحر الحلال؟ قال: تبسمك في وجوه الرجال، فأدعو إخواني إلى لين الخطاب، وألا يظهروا للناس التزمت، ولا الغضب، ولا الفضاضة في الأقوال والأفعال، ولا يأخذوا الناس أخذ الجبابرة فإنهم حكماء معلمون، أتوا رحمةً للناس ] وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [  الأنبياء 107  وأن يثني على أهل الخير ، ويشكر من قدَّم صالحاً   

  ومنها: ألا ييأس من المدعوين بسبب بعض معاصيهم، فتعايش الشاب وتعايش العاصي، أو تعايش المنحرف وتعلم أنه في يومٍ من الأيام إن شاء الله سوف يكون في رصيد الدعوة، وسوف يكون من أولياء الله، ولا تيأس، وعليك أن تتدرج معه، وأن تأخذه رويداً، وألا تجابهه وألا تقاطعه، بل تحلم عليه .  

 

 

فظل الدعوة إلى الله

تبليغ الدعوة إلى الله وطاعته ، واجبٌ في الإسلام ، والإرشاد إلى الخير منهاج أهل الحق وأهل الإيمان   الذين يصلحون أنفسهم ثم يحاولون إصلاح غيرهم ، وإعداد النفس هذا معروفٌ من قوله تعالى : ﴿ إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا﴾ وبعد إعداد النفس هذا تأتي المرتبة التالية بدعوة الآخرين إلى الهدى والخير قال تعالى : ﴿ ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين ، لا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن  ﴾ فصلت 34 . لا أحد أحسن حالاً ممن اتخذ الإسلام ديناً ومنهجاً ومذهبا  ودعا إلى توحيد الله وعبادته وطاعته ، والآية ترسم منهج الداعية إلى الله بالصبر على الإساءة الموجهة إليه وعدم مقابلتها بالغضب والإيذاء بالمثل وأن يدفع بالتي هي أحسن ابتغاء مرضاة الله ، وحرصاً على روابط الأخوة الإيمانية بين المؤمنين ، وفيها ترغيب للدعاة إلى الله بالصبر على الأذى لأن كل من يأمر بالحق يؤذى ، فأمروا بمقابلة الإساءة بالإحسان والذنب بالعفو والغضب بالصبر والحلم قال تعالى: ﴿ ادفع بالتي هي أحسن ﴾  فمن أساء إليك ادفعه عنك بالإحسان إليه قال عمر بن الخطاب : " ما عاقبت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه " . وقال ابن عباس في تفسير الآية ، أمر الله المؤمنين بالصبر عند الغضب ، والحلم عند الجهل ، والعفو عند الإساءة ، فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله من الشيطان وخضع لهم عدوهم كأنه وليٌ حميم ، وقال : " ادفع بحلمك جهل من تجهّل عليك " وجاء في نهج البلاغة للإمام علـي  " احصد الشرّ من صدر غيرك بقلعه من صدرك " . وقال يحي بن معين : " ما رأيت على رجل خطأ إلا سترته وأحببت أن أزيّن أمره  وما استقبلت رجلاً في وجهه بأمرٍ يكرهه ، ولكن أبين له خطأه فيما بيني وبينه ، فإن قبل ذلك وإلا تركته " نفهم من هذا أن توجيه النصيحة أو تصحيح الأخطاء ينبغي أن يكون باللين والستر لا بالتشفي والتعيير والفضيحة . ومن الخير للإنسان أن يلقى ربه بإحسان الظن بإخوانه والتماس العذر لهم   وليس بالقيل والقال والأخذ بالظنة . والقاعدة تنص : " على أن  الكلام في الرجال لا يجوز إلا لتام المعرفة تام الورع " . ومن يطلب الحق يقبله من كل الناس ويغفر لهم ما سوى ذلك ، ولا يلتفت إلى التوافه التي تفسد على المرء دينه قال أبو عبيدة : " من شغل نفسه بغير المهم أضرّ بالمهم " . فمن يصبر على إساءة المسيء ولا يقابل سفاهته بالغضب ولا الإيذاء بالمثل  وينصحه برفق يكون سبباً في تحويل الأعداء إلى أصدقاء : ﴿ ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليٌ حميم ﴾ . ولا يدفع السيئة بالحسنة إلا من صبر على كظم الغيظ واحتمال المكروه ، ومع أن الصبر شاقٌ على النفوس ولكنه على الطاعات وعن الشهوات جامعٌ لخصال الخير كلها ، وهذه الوصية لا يتقبّلها إلا ذو نصيبٍ وافر من السعادة في الدنيا والآخرة وذو حظٍ عظيم في الثواب قال تعالى : ﴿ وما يلقّاها إلا الذين صبروا وما يلقّاها إلا ذو حظٍ عظيم  ﴾ .   

 

حاجتنا إلى صوت الحق

في زمن الظلمات وأيام الفتن ، يكون لصوت الحق قيمة ، ولصيحته في وجه الباطل أثر ، فكم من كلمة حق غيرت مجرى التاريخ ، وكم من موقف مشرِّفٍ أزال ركام الباطل ، فالجهر بكلمة الحق في زمن الفتنة لها وزنها ، ولها صداها ، ولها قوتها ، بل لا أبالغ إن قلت أن الأمة تنتظرها لتستقوي بها -بعد الله– وتكون بمثابة الزاد الذي يحركها ، والنور الذي ينير لها الطريق ، إن كلمة الحق التي تقال لله وبالله ومع الله ، يستعذب قائلها في سبيلها البلاء ، ومن أجلها يعاني أصناف الاستعداء ، فقد غيرت كلمات الحق مجرى التاريخ ، حين لم يغفل أصحابها عن مهمتهم ، ولم يعجزوا عنها ، ولم يؤثروا فتن الدنيا وملذاتها ، وإنما صاحوا في وجه الباطل ، ولم يخشوا في الله لومة لائم ، ما أحوجنا في هذه الأيام إلى من يجهر بكلمة الحق بصدق وإخلاص  ، إذ لو قام دعاة الإصلاح بواجبهم خير قيام لتغيرت أشياء كثيرة في واقعنا ، لكنهم قلة ومحاصرين .

لقد انقلبت الموازين وطمست الحقائق وأصبح الحلال حراما والحرام حلالا، والسنّة بدعة والبدعة سنّة، فاستشرى الفساد حتى أصبح حديث الناس، وأصبح لا يكاد يخلو مجلس من الحديث عن الفساد واستغلال المال العام، واستغلال السلطة والنفوذ ، وضياع مصالح الناس، وسوء تنفيذ المشاريع بل وحتى غيابها، وعدم حصول الناس على قضاء مصالحهم إلا بطرق غير مشروعة، حتى بات لدى الناس القناعة التامة، أنه لا بد من أن تدفع حتى تستطيع إنهاء معاملتك بيسر وسهولة، بل وحتى تستطيع أن تحصل على حقوقك المشروعة، وأصبح معروفا للجميع ، إذا دفعت فإن الحق يصبح باطلا، والباطل يصبح حقا، والنظامي يصبح غير نظامي والعكس صحيح ، وحتى يأخذ كل ذي حق حقه ، لا بد من تطوير الأنظمة وآلياتها ، بشكل يجعلها قادرة على مطاردة المفسدين ومعاقبتهم، وبالتالي الحد من الفساد ، إذ لا يمكن محاربة الفساد دون أن يحصل المواطن على حقوقه كاملة ، ولا يمكن محاربة الفساد إلا إذا عرف المواطن القوانين والأنظمة الرادعة للفساد وبكل أشكاله، ولا يمكن محاربة الفساد إلا إذا كان هناك احترام للنظام واحترام لحقوق الآخرين، ولا يمكن محاربة الفساد دون وجود أساليب واضحة ومعلنة بطرق الإبلاغ عن الفساد وتوافر حماية للمبلغين من السلطة القائمة، ولا يمكن محاربة الفساد إلا عندما يكون الجميع دون استثناء تحت طائلة القانون، ولا يمكن محاربة الفساد دون قيام الإعلام بدوره في كشف خبايا الفساد وفضح المفسدين، ولا يمكن محاربة الفساد دون الفصل بين السلطات في الدولة ، وتعزيز دور القضاء واستقلاليته ، ولا يمكن محاربة الفساد حين يزاود الفاسدون في الانتماء للوطن والخوف عليه وهم في الحقيقة السوس الذي ينخر نسيجه, همهم المنافع الشخصية والتلون بما يخدم مصالحهم، والظهور بدعوى الولاء والانتماء للوطن ، والذي أصبح للأسف مطية لأمثالهم ، حتى اتسعت قاعدتهم نتيجة إقصاء الخيرين، الذين لا يقبلون بالباطل ، ولا يهادنون في قول الحق ، ويتعارضون مع مصالح المتنفعين والمتنفذين ، لأنهم يهددون مصالحهم ، إننا بحاجة إلى العمل على صدهم وتحجيمهم من خلال كشف أوراقهم ، ودحض أفكارهم, والعمل على دعم الخيرين الصادقين في انتمائهم لدينهم وأمتهم, قال تعالى : ﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً، ودوا ما عنتم، قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر، قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون ﴾ آل عمران 118.

 

المخالفات لشرع الله

نرى المنكر يستعلن ، والفساد يستشري ، والباطل يتبجح ، والعلمانية تتحدث بملىء فيها ، والصليبية تخطط وتعمل بلا وجل ، وأجهزة الإعلام تشيع الفاحشة وتنشر السوء ، ونرى المتاجرة بالغرائز على أشدها ، من اغان خليعة ـ وصور فاجرة ، وأفلام داعرة ، وغير ذلك من الاغراء بالفسوق والعصيان  والتعويق عن الإسلام والإيمان .

ونرى التشريع الذي يبارك المنكر ويؤيد الفساد ، لأنه لم ينبع مما أنزل الله ، بل مما وضع الناس ، لذا لا عجب أن يحل ما حرم الله ، ويحرم ما احل الله ، ويسقط فرائض الله ، ويعطل حدود الله .  

ونرى الحكام الذين حمّلهم الله المسؤولية عن شعوبهم المسلمة ، ويسيرون في واد غير وادي الإسلام يوالون من عادى الله، ويعادون من والى الله، ويقربون إليهم من بعّد الله، ويبعّدون من قرب الله ويقدّمون من أخر الإسلام، ويؤخرون من قدمه، ولا يذكرون الإسلام إلا في الأعياد والمناسبات، تمويها على شعوبهم، وضحك على لحاهم!​ ومن ناحية أخرى، نرى الظلم الاجتماعي البين، والتفاوت الطبقي الفاحش، أفراد يلعبون بالملايين، وجماهير لا يجدون الملاليم، قصور تشاد وتنفق عليها عشرات الملايين، وربما لا تسكن في السنة إلا أيام معدودات، على حين يموت ملايين في العراء، لا يجدون ما يحميهم من حر الصيف ولا برد الشتاء ، أناس تمتلىء خزائنهم بالذهب ، وأرصدتهم في البنوك الأجنبية بأرقامها السرية، لا يعلم مقدارها إلا الله والحاسبون ، وسواد الناس ليس لهم خزائن إلا الجيوب التي كثير ما تشكو الإفلاس والخواء.. فهي قانعة بالقليل، ولكنه لا تجده، منشدة أبي العتاهية :

حسبك مما تبتغيه القوتُ        ما أكثر القوت لمن يموت

ومع هذا لا تجد ما تشتري به القوت لسد جوعة الأطفال الذين يصرخون ، كيف لا  والثروات الضخمة تجمع بل تنهب، والأموال العامة تسرق بل تغصب، والرشوة لها سوق بل أسواق ، والمحسوبية قائمة على قدم وساق، واللصوص الكبار يتمتعون بالحرية والتكريم، واللصوص الصغار وحدهم يتعرضون للعقاب الأليم! وداء الحسد والبغضاء بين الأفراد والفئات يفتك بالقلوب والعلاقات، فتك الأوبئة بالأجسام؛ ودعاة المبادئ الهدامة يستغلون هذا المناخ وتناقضاته الصارخة، ليؤججوا نار الصراع الطبقي، والحقد الاجتماعي، تهيئة لنشر مذاهبهم المستوردة، فيجدوا في هذا الجو الأذن التي تسمع، لا حب في المذهب المنشود، ولكن كرها للواقع المشهود ، وأساس هذا كله: أن الإسلام - بشموله وتكامله وتوازنه - غائب عن الساحة، غريب في أوطانه، منكور بين أهله، معزول عن الحكم والتشريع، وعن توجيه الحياة العامة، وشؤون الدولة في سياستها واقتصادها، وسائر علاقاتها بالداخل والخارج. . وفرض على الإسلام أن يتقوقع في العلاقة بين المرء وربه، ولا يتجاوزها إلى العلاقات الاجتماعية، أو الدستورية، أو الدولية.​

ومعنى هذا أنه فرض على الإسلام أن يكون عقيدة دون شريعة، وعبادة دون معاملة، وديناً دون دولة، وقرآنا دون سلطان.​

ما ذنب الإسلام حتى يحمل نتائج هذا التاريخ الأسود، ويحكم عليه بالعزل عن القيادة للأمة،والطرد من موقع التشريع والتوجيه والتأثير، وأن يحبس في خبايا الضمائر فإن خرج منها فليبق بين جدران المساجد والزوايا، على أن يظل في المسجد أيضا، قصير اللسان، خفيض الصوت، حافظا للمثل القائل: من سعادة جدك، وقوفك عند حدك، فهو مسجد موجه موضوع تحت مجهر المراقبة، ليس له حرية الدعوة، ولا الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر.​

إن المشكلة ترجع في جوهرها إلى فرض العلمانية على المجتمع الإسلامي، وهي اتجاه دخيل عليه، غريب عنه، مجاف لكل مواريثه وقيمه، فإن محصلة العلمانية هي فصل الدين عن الدولة، وإبعاده عن الحكم والتشريع، وهذا لم يعرفه الإسلام في تاريخه, إذ كانت الشريعة هي أساس الفتوى والقضاء في الأمة الإسلامية طول عصور تاريخها، وكان الإسلام مصدر العبادات والمعاملات والاداب والتقاليد بين الناس.​

 

 

 

 

 

  

دروس وخطب

نقدم بين يديكم مجموعة من الدروس والخطب والمواعظ 

واسال الله ان يتقبل منا جميعا