سؤال وجواب

سؤال وجواب

ما حكم صلاة الجالس والعاجز وصيام يوم السبت

ما حكم الصلاة خلف الإمام العاجز ،  وما حكم الجلوس في صلاة الفريضة والنافلة  ، يجوز للإمام أن يصلي بالناس وهو جالس على كرسي؟ أقصد انه يصلي على الصورة التالية: يكبر للإحرام وهو قائم ويستمر في قيامه  ثم يركع ، ثم يرفع من الركوع، ثم يكبر ويسجد (منحنيا) وهو جالس على الكرسي، ثم يعتدل قاعدا على الكرسي للجلسة ، ثم يسجد ، وبعد ذلك يكبر للركعة التالية . يجوز للإمام أن يصلي بالناس على هذه الصورة ، كما يجوز له كذلك أن يؤمَّ الناس وهو قاعد . وبه قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد . وقد احتجوا بحديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أمر في مرضه الذي توفي فيه أبا بكر أن يصلي بالناس فلما دخل في الصلاة وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من نفسه خفة ، فقام يهادي بين رجلين ورجلاه يخطان في الأرض ، فجاء فجلس يسار أبي بكر فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس جالساً وأبو بكر قائماً يقتدي أبو بكر بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر ) رواه البخاري .  وجه الدلالة من الحديث : أن أبا بكر ابتدأ بهم الصلاة قائماً ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم  فصلى بهم من حيث انتهى أبو بكر فصلى قاعداًَ ، والصحابة صلوا خلفه قياماً فدل على أنه يجوز للقائم أن يصل خلف القاعد لأن النبي صلى الله عليه وسلم , صلى جالساً والناس خلفه قيام ، وقال فريق من الفقهاء على أنه لا يؤم القاعد من يقدر على القيام إلا بشرطين : أحدهما: أن يكون إمام الحي، فإن صلوا قياماً خلف إمام الحي المرجو زوال علته ، صحت صلاتهم ، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر من صلى خلفه قائماً بالإعادة , ولأن القيام هو الأصل ، لأنه لا حاجة بالناس إلى تقديم عاجز عن القيام إذا لم يكن الإمام الراتب ، فلا يتحمل إسقاط ركن في الصلاة لغير الحاجة ، والنبي صلى الله عليه وسلم حيث فعل ذلك ، كان هو الإمام الراتب . الثاني: أن يكون مرضه يرجى زواله  لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرجى برؤه ، فإمام الحي، المرجو زوال علته يصح الاقتداء به ، وهو كل إمام مسجد راتب .

 وأما الجواب عن حديث : ( لا يؤمن احد بعدى جالساً )  فقد قال أئمة الحديث : هو مرسل ضعيف ، وقال الشافعي رحمه الله : قد علم الذي احتج بهذا انه ليس فيه حجة وانه لا يثبت لأنه مرسل ، ولأنه عن رجل يرغب الناس عن الرواية عنه والله أعلم .

‏(‏وأما المسألة الثانية‏)‏ وهي صلاة القائم خلف القاعد، فإن حاصل القول فيها أن العلماء اتفقوا على أنه ليس للصحيح أن يصلي فرضا قاعدا إذا كان منفردا أو إماما لقوله تعالى ‏: ﴿ ‏وقوموا لله قانتين‏ ﴾‏ واختلفوا إذا كان المأموم صحيحا فصلى خلف إمام مريض يصلي قاعدا على ثلاثة أقوال‏:‏ أحدها أن المأموم يصلي خلفه قاعدا، وممن قال بهذا القول أحمد وإسحق، والقول الثاني أنهم يصلون خلفه قياما‏.‏ قال أبو عمر بن عبد البر‏:‏ وعلى هذا جماعة فقهاء الأمصار الشافعي وأصحابه وأبو حنيفة وأصحابه وأهل الظاهر وأبو ثور وغيرهم، وزاد هؤلاء فقال يصلون وراءه قياما وإن كان لا يقوى على الركوع والسجود بل يؤمئ إيماء‏.‏ وروى ابن القاسم أنه لا تجوز إمامة القاعد وأنه إن صلوا خلفه قياما أو قعودا بطلت صلاتهم، وقد روي عن مالك أنهم يعيدون الصلاة في الوقت، وهذا إنما بني على الكراهة لا على المنع، والأول هو المشهور عنه‏.‏ وسبب الاختلاف تعارض الآثار في ذلك ومعارضة العمل للآثار‏:‏ أعني عمل أهل المدينة عند مالك، وذلك أن في ذلك حديثين متعارضين‏:‏ أحدهما حديث أنس، وهو قوله عليه الصلاة والسلام ‏"‏وإذا صلى قاعدا فصلوا قعودا‏"‏ وحديث عائشة في معناه، وهو ‏"‏أنه صلى صلى الله عليه وسلم وهو شاك جالسا وصلى وراءه قوم قياما فأشار إليهم أن اجلسوا فلما انصرف قال ‏"‏إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا‏"‏ والحديث الثاني حديث عائشة ‏"‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في مرضه الذي توفي منه، فأتى المسجد فوجد أبا بكر وهو قائم يصلي بالناس، فاستأخر أبو بكر فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كما أنت، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنب أبي بكر، فكان أبو بكر يصلي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الناس يصلون بصلاة أبي بكر‏"‏ فذهب الناس في هذين الحديثين مذهبين‏:‏ مذهب النسخ، ومذهب الترجيح‏.‏ فأما من ذهب مذهب النسخ فإنهم قالوا‏:‏ إن ظاهر حديث عائشة وهو ‏"‏أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يؤم الناس، وأن أبا بكر كان مسمعا‏"‏ لأنه لا يجوز أن يكون إمامان في صلاة واحدة، وإن الناس كانوا قياما، وإن النبي عليه الصلاة والسلام كان جالسا، فوجب أن يكون هذا من فعله عليه الصلاة والسلام، إذ كان آخر ما فعله ناسخا لقوله وفعله المتقدم‏.‏ وأما من ذهب مذهب الترجيح فإنهم رجحوا حديث أنس بأن قالوا إن هذا الحديث قد اضطربت الرواية عن عائشة فيه فيمن كان الإمام، هل رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أبو بكر‏؟‏‏.‏ وأما مالك فليس له مستند من السماع، لأن كلا الحديثين اتفقا على جواز إمامة القاعد، وإنما اختلفا في قيام المأموم أو قعوده، حتى إنه لقد قال أبو محمد بن حزم إنه ليس في حديث عائشة أن الناس صلوا لا قياما ولا قعودا، وليس يجب أن يترك المنصوص عليه لشيء لم ينص عليه‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ وقد ذكر أبو المصعب في مختصره عن مالك أنه قال‏:‏ لا يؤم الناس أحد قاعدا، فإن أمهم قاعدا فسدت صلاتهم وصلاته لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏لا يؤمن أحد بعدي قاعدا‏"‏ قال أبو عمر وهذا حديث لا يصح عند أهل العلم بالحديث، لأنه يرويه جابر الجعفي مرسلا، وليس بحجة فيما أسند فكيف فيما أرسل‏؟‏ وقد روى ابن القاسم عن مالك أنه كان يحتج بما رواه ربيعة بن أبي عبد الرحمن ‏"‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج وهو مريض، فكان أبو بكر هو الإمام، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بصلاة أبي بكر وقال‏:‏ ما مات نبي حتى يؤمه رجل من أمته‏"‏ وهذا ليس فيه حجة إلا أن يتوهم أنه ائتم بأبي بكر لأنه لا تجوز صلاة الإمام القاعد، وهذا ظن لا يجب أن يترك له النص مع ضعف هذا الحديث‏.‏

اتفق العلماء على أن القيام في صلاة الفريضة ركن من أركان الصلاة ولا تصح الصلاة إلا به لمن قدر عليه ، وأجمعت الأمة علي أن من عجز عن القيام في الفريضة صلاها قاعداً ولا إعادة عليه، ، وضابط العجز الذي يبح الصلاة من قعود أن يلحقه بالقيام مشقة تذهب خشوعه لأن الخشوع مقصود الصلاة ، فإذا قام المصلي قلق قلقاً عظيماً ولم يطمئن وتجده يتمنى أن يصل إلى آخر الفاتحة ليركع من شدة تحمله فهذا شق عليه القيام فيصلي قاعداً، أما صلاة النافلة فالأمر فيها على السعة ولكن من صلى قاعدا من غير عذر فله نصف أجر القاعد .

ما حكم الجلوس في صلاة الفريضة ؟

اتفق أهل العلم على أن القيام في صلاة الفريضة ركن من أركان الصلاة لا تصح الصلاة إلا به مع القدرة عليه، لقوله تعالى: ﴿ حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ﴾ سورة البقرة الآية 238. ولما ورد في الحديث عن عمران بن حصين -رضي الله عنه- قال:( كانت بي بواسير فسألت النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الصلاة فقال: ( صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنبك ) رواه البخاري . قال الإمام الشوكاني: " وحديث عمران يدل على أنه يجوز لمن حصل له عذر لا يستطيع معه القيام أن يصلي قاعداً ولمن حصل له عذر لا يستطيع معه القعود أن يصلي على جنبه " نيل الأوطار 3/225. وبناءً على ذلك فإن من صلى الفريضة جالساً وهو قادر على القيام فصلاته باطلة.  وقد اتفق أهل العلم على أن المريض الذي لا يستطيع القيام فإنه يصلي قاعداً ويركع ويسجد إذا قدر عليهما فإن لم يستطع الركوع والسجود فإنه يصلي مومياً ويجعل سجوده أخفض من ركوعه لأن المشقة تجلب التيسير ومن المعلوم أن رفع الحرج ودفع المشقة أصل قطعي من أصول الشريعة ودلت عليه أدلة كثيرة منها قوله تعالى: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ البقرة الآية 286. وقوله تعالى: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾ التغابن الآية 61.  وقول النبي صلى الله عليه وسلم :( إذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم ) رواه البخاري ومسلم ، وغير ذلك من النصوص.  ومما يدل على جواز صلاة الفريضة قاعداً عند العجز عن القيام قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عمران السابق ( صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنبك ) وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم:( ركب فرساً فصرع عنه فجحش- أي جرح - شقه الأيمن فصلى صلاة من الصلوات وهو قاعد … ) رواه البخاري ومسلم.  وعن عائشة رضي الله عنها ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمـت حتى كـان كثير من صـلاته وهو جالس ) رواه مسلم.

قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: " أجمع أهل العلم على أن من لا يطيق القيام له أن يصلي جالساً " المغني 2/106. وقال الإمام النووي: " أجمعت الأمة علي أن من عجز عن القيام في الفريضة صلاها قاعداً ولا إعادة عليه، قال أصحابنا ولا ينقص ثوابه عن ثوابه في حال القيام لأنه معذور وقد ثبت في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:( إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمل صحيحاً مقيماً ) المجموع 4/310.  ويجب أن يعلم أن من قدر على القيام وعجز عن الركوع أو السجود لم يسقط عنه القيام، بل يصلي قائماً ثم إذا استطاع الركوع فيجب عليه الركوع وإن لم يستطع جلس وأومأ بالركوع ثم يومئ بالسجود ويجعل سجوده أخفض من ركوعه.  قال الشيخ ابن قدامة المقدسي: " ومن قدر على القيام، وعجز عن الركوع أو السجود لم يسقط عنه القيام. ويصلي قائماً فيومئ بالركوع. ثم يجلس فيومئ بالسجود " وبهذا قال الشافعي ، ولنا قوله الله تعالى: ﴿ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ﴾ سورة البقرة الآية 238. وقول النبي صلى الله عليه وسلم:( صل قائماً) ؛ ولأن القيام ركن قدر عليه، فلزمه الإتيان به كالقراءة. والعجز عن غيره لا يقتضي سقوطه كما لو عجز عن القراءة " المغني 2/107.

ما هو المرض المبيح للصلاة قاعدا ؟

ويجب أن يعلم أن حدَّ المرض الذي يجيز للمريض أن يصلي قاعداً هو أن يخاف المريض مشقة شديدة أو زيادة المرض أو تباطؤ برئه.

قال الإمام النووي: " قال أصحابنا ولا يشترط في العجز أن لا يتأتى القيام ولا يكفى أدنى مشقة بل المعتبر المشقة الظاهرة فإذا خاف مشقةً شديدةً أو زيادة مرض أو نحو ذلك أو خاف راكب السفينة الغرق أو دوران الرأس صلى قاعداً ولا إعادة " المجموع 4/310.  وقال الإمام الشوكاني :" والمعتبر في عدم الاستطاعة عند الشافعية هو المشقة أو خوف زيادة المرض أو الهلاك لا مجرد التألم فإنه لا يبيح ذلك عند الجمهور" نيل الأوطار 3/225.  ويرى بعض أهل العلم أن ضابط ذلك يتعلق بالمشقة التي تذهب الخشوع:" قال إمام الحرمين …: الذي أراه في ضبط العجز أن يلحقه بالقيام مشقة تذهب خشوعه لأن الخشوع مقصود الصلاة " المجموع 4/310.وقال العلامة محمد بن صالح العثيمين:" الضابط للمشقة: ما زال به الخشوع، والخشوع هو حضور القلب والطمأنينة، فإذا كان إذا قام قلق قلقاً عظيماً ولم يطمئن وتجده يتمنى أن يصل إلى آخر الفاتحة ليركع من شدة تحمله فهذا شق عليه القيام فيصلي قاعداً " الشرح الممتع 4/461.  وروى عبد الرزاق بسنده عن عمر بن ميمون بن مهران عن أبيه قال: قيل له ما علامة ما يصلي المريض قاعداً؟ قال: إذا كان لا يستطيع أن يقوم لدنياه فليصل قاعداً .مصنف عبد الرزاق 2/473.

وعلى كل حال فإن المريض هو الذي يحدد قدرته على القيام أو القعود أو غير ذلك فإذا أطاق المريض الصلاة قاعداً صلى قاعداً فإن لم يستطع أن يصلي قاعداً صلى على قدر حاله بقدر ما يطيق على جنبه أو على ظهره ورجلاه مما يلي القبلة ووجهه مستقبل القبلة ويومئ إيماءً على قدر طاقته مستلقياً على قفاه وقدماه تجاه القبلة بحيث لو قام استقبل القبلة . انظر أحكام المريض ص 66.

ما حكم الجلوس في صلاة النافلة ؟

وكل ما سبق في صلاة الفريضة، وأما صلاة النافلة فالأفضل فيها أن يصليها المصلي قائماً ويجوز فيها الجلوس حتى بغير عذر ويدل على ذلك ما ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(من صلى قائماً فهو أفضل ومن صلى قاعداً فله نصف أجر القائم ) رواه البخاري. وعن عبد الله بن شقيق قال:( سألت عائشة رضي الله عنها عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن تطوعه؟ فقالت: كان يصلي في بيتي قبل الظهر أربعاً ثم يخرج فيصلي بالناس ثم يدخل فيصلي ركعتين وكان يصلي بالناس المغرب ثم يدخل فيصلي ركعتين ويصلي بالناس العشاء ويدخل بيتي فيصلي ركعتين وكان يصلي من الليل تسع ركعات فيهن الوتر وكان يصلي ليلاً طويلاً قائماً وليلاً طويلاً قاعداً وكان إذا قرأ وهو قائم ركع وسجد وهو قائم وإذا قرأ قاعداً ركع وسجد وهو قاعد وكان إذا طلع الفجر صلى ركعتين) رواه مسلم. وعن عمران بن حصين -رضي الله عنه- قال:( سألت النبي  صلى الله عليه وسلم عن صلاة الرجل وهو قاعد فقال:( من صلى قائماً فهو أفضل ومن صلى قاعداً فله نصف أجر القائم ومن صلى نائماً فله نصف أجر القاعد ) رواه البخاري. وقال: نائماً عندي مضطجعاً .

وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال:( حُدثت أن رسول الله  صلى الله عليه وسلم قال صلاة الرجل قاعداً نصف الصلاة قال فأتيته فوجدته يصلي جالساً فوضعت يدي على رأسه، فقال: مالك يا عبد الله بن عمرو؟ قلت: حدثت يا رسول الله أنك قلت صلاة الرجل قاعداً على نصف الصلاة وأنت تصلي قاعداً ؟ قال: أجل ولكني لست كأحد منكم ) رواه مسلم وغير ذلك من النصوص.  وخلاصة الأمر: أن القيام في صلاة الفريضة ركن من أركان الصلاة لا تصح الصلاة بدونه لمن كان قادراً عليه ومن عجز عن القيام صلى قاعداً أو على أي هيئة يستطيعها وترك القيام رخصة للعاجز حقيقةً والرخص لا تؤتى إلا عند وجود العذر المجيز لفعلها فقط. وأخيراً فإن بعض المصلين يتساهلون في هذه المسألة فيصلون قعوداً لغير عذر فهؤلاء صلاتهم باطلة.

هل يمكن الجمع بين القعود والوقوف في الصلاة لمن لا يستطيع أن يصلي واقفا في الصلاة كلها، وما هي الضوابط في هذا الأمر بالتفصيل؟ 

القيام ركن من أكان الصلاة المفروضة، ولا تصح الفريضة إلا به مع القدرة عليه، لقوله تعالى: ﴿ حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ ﴾ البقرة: 238 .  فإن كان بالمصلي عجز يمنعه من القيام كمرض أو جرح أو نحوهما فلا بأس أن يصلي قاعداً أو على هيئة تناسب حاله، لما روى البخاري في صحيحه عن عمران بن حصين قال: كانت بي بواسير، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة؟ فقال: ( صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب ).  فإن استطاع أن يقف في بعض الصلاة ويجلس في البقية لزمه ذلك، لأن القيام ركن لا يسقط إلا بالعجز عن الإتيان به، فمن عجز عن شيء من أركان الصلاة أو واجباتها سقط عنه، وعليه أن يأتي بما استطاع فعله منها، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها. هذا في الصلاة الفريضة.

وأما في النفل، فيجوز أن يصلي قاعداً مع قدرته على القيام، إلا أن ثواب القائم ضعف ثواب القاعد في النافلة إذا لم يكن به عذر، لحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: حدثت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( صلاة الرجل قاعداً نصف الصلاة ) . رواه مسلم وغيره. وفي المسند عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( صلاة الرجل قائماً أفضل من صلاته قاعداً، وصلاته قاعداً على النصف من صلاته قائماً، وصلاته نائماً على النصف من صلاته قاعداً ) .

ما حكم صوم يوم عرفه يوم الجمعة

وما حكم الصيام يوم السبت

يشرع صوم يوم عرفة إذا صادف يوم جمعة ولو بدون صوم يوم قبله؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من الحث على صومه وبيان فضله وعظيم ثوابه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوم عرفة يكفر سنتين: ماضية ومستقبلة، وصوم يوم عاشوراء يكفر سنة ماضية» رواه أحمد ومسلم وأبو داود. وهذا الحديث مخصص لعموم حديث: «لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا من يصوم يوماً قبله أو بعده»، رواه البخاري ومسلم. فيكون عموم النهي محمولاً على ما إذا أفرده المسلم بالصوم؛ لكونه يوم جمعة، أما من صامه لأمر آخر رغب فيه الشرع وحث عليه فليس بممنوع، بل مشروع ولو أفرده بالصوم، لكن إن صام يوماً قبله كان أولى لما فيه من الاحتياط بالعمل بالحديثين، ولزيادة الأجر.

إن القراءة المستوعبة لمرحلة إعداد جيل القدوة الأوائل من الصحابة، رضي الله عنهم، تُبين للناظر المتدبر كيف استطاعت بصيرة الرسول وحكمته إخراج رجال كانوا لهذا الدين قواداً وحماة ودعاة في نفس الآن لأنهم استوعبوا قوله تعالى :   ﴿ وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله  ذلك وصى به لعلكم تتقون ﴾ الأنعام 154 . كما تدبروا جيداً قوله تعالى :    ﴿ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً ﴾ الأحزاب 21 . وقوله جل جلاله كذلك : ﴿ قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم ﴾ آل عمران 31 . فربط بَيْن المحبة والاتباع والفوز باليوم الآخر ومرضاة الله؛ ولا مدخل إلى ذلك إلا عن طريق جعل الرسول القدوة والأسوة ، لأنه المبعوث من الله بخطاب هو في جملته منهاج السائرين إلى الله . فما انتصرت الأمة زمن تمكنها ، وما بلغ هذا الدين مشارق الأرض ومغاربها   إلا لتوفر هؤلاء الرجال الذين استوعبوا قوله جل جلاله : ﴿ كنتم خير أمة أخرجت للناس ﴾ آل عمران 110 . وقوله : ﴿ لتكونوا شهداء على الناس ﴾ البقرة 143. فقد توفرت في شخصيتهم العديد من عناصر القوة لعل من أهمها وأبرزها : الإخلاص لله في الدعوة إلى دينه .

ولا شك في أن الأخذ بالمنهاج النبوي الصحيح والراشد هو المنطلق ليكون الرسول الأسوة والقدوة ، والأمة تحاول النهوض من جديد . فقد بنى الرسول الكريم أمة الخيرية والشهادة من حطام الجاهلية؛ وكيف لنا أن لا نأخذ بمنهجه وفينا من سنته ولو الشيء اليسير .

وقد يتساءل البعض : ولكن، من منا سيأخذ بيد هذه الأمة ، وقد تعددت التيارات والمذاهب والحركات بتعدد الرموز والمواقف والفهوم ؟ 

إننا لا نحزن لتعدد التيارات والأحزاب والحركات والعاملين للاسلام، جماعة أو أفراداً، بقدر ما نرثي حالنا من جراء حالة التنافر والتباغض التي تطغى على الكثيرين منا، والتي لا  تستفيد منه سوى القوى المعادية التي تتربص بنا الدوائر، سواء من بني جلدتنا أو من اليهود والنصارى، من أولئك الذين وصانا الله جل جلاله بوصية تغاضينا عنها فَعُوقبنا بما نحن فيه اليوم : ﴿ ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم، ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير ﴾ البقرة  120 .

إن باستطاعتنا أن نستعيد وظيفة الخيرية والشهادة على الناس؛ لكن الأمر يحتاج إلى مقدمات أساسية سابقة، هي وحدها الكفيلة بجعلنا خير أمة أخرجت للناس، لعل من أهمها، في هذا المقام : إخلاص النية والعمل لله عز وجل؛ مصداقا لقوله تعالى : ﴿ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق، فاعبد الله مخلصا له الدين، ألا له الدين الخالص ﴾ الزمر   2- 3  .فإخلاص النية والقصد في الأعمال والأقوال كلها، بما فيها العمل للدعوة إلى الله جل جلاله ، هو المطلوب شرعا ؛ فما انتصر الحق على الباطل، وما انتشر الإسلام بالشكل الذي عليه اليوم، إلا بإخلاص جيل من المؤمنين الذين تربوا بداخل المدرسة القرآنية على المنهاج النبوي الراشد ، جيل القدوة والقيادة، جيل أمة التواصي بالحق والصبر، الجيل الصالح المصلح .

 

 

 

أحكام الأضحية وصيام عشر ذي الحجة

من رحمة الله بعباده أن جعل لعباده مواسم تتضاعف فيها الحسنات ، ولها صفة ليست لغيرها من الأوقات  ، يستدرك العبد بها ما فات ،  ويسارع إلى الخيرات  وأيام عشر ذي الحجة هي من أفضل الأيام التي خلقها الله على الإطلاق .

وإذا كان المسلم يعيش مباركًا في العمل وفي الزمن، فإن أعظم البركة في العمل الطاعةُ؛ فهي بركة على أهلها كما يقول تعالى: ﴿ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ﴾ الأنعام:160. والطاعة بركة في العمل؛ إذ الصلاة بعشر صلوات كما في الحديث القدسي: (أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي) فهي خمس في الفعل وخمسون في الأجر والثواب ، وأعظم الزمن بركة عشر ذي الحجة، التي نعيشها هذه الأيام ، إذ لها مكانة عظيمة عند الله تعالى ، تدل على محبته لها وتعظيمه لها، فهي عشر مباركات كثيرة الحسنات ، قليلة السيئات ، عالية الدرجات  متنوعة الطاعات ، من أدركها أدرك نعمة عظيمة ، لذلك يجب علينا استشعار هذه النعمة ، واغتنام هذه الفرصة ، بأن نخصها بمزيد من العناية ، ونجاهد أنفسنا بالطاعة ، وليعلم المسلم أنه من الفطنة والفقه أن يختار من الأعمال أحبها إلى الله تعالى فيتقرب بها والعمل في العشر محبوب أيا كان نوعه . فكيف إذا اجتمع مع كونه محبوباً للزمان ، وكونه محبوباً لذاته وأصله وذلك خير على خير .

إن أول أمر وأهمه فيها ترك السيئات ، وذلك بالتوبة والإقلاع عنها والله يحب التوابين ويحب المتطهرين ، والمحافظة على أداء الفرائض ففي الحديث ( وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه .. )

وقد شهد الرسول بأن هذه الأيام أفضل أيام الدنيا، فعن جابر رضي الله عنه عن النبي   قال :(فضل أيام الدنيا أيام العشر) يعني عشر ذي الحجة قيل: ولا مثلهن في سبيل الله؟ قال : ولا مثلهن في سبيل الله إلا رجل عفر وجهه بالتراب) رواه البزار وابن حبان وصححه الألباني . وقد حث على العمل الصالح فيها؛ بل إن الله تعالى أقسم بها، وإذا أقسم الله بشيء دل هذا على عظم مكانته وفضله، إذ العظيم لا يقسم إلا بالعظيم قال تعالى : ﴿ وَلَيَالٍ عَشْرٍ ﴾ الفجر2 . والليالي العشر هي عشر ذي الحجة، وهذا ما عليه جمهور المفسرين والخلف، وقال ابن كثير في تفسيره: وهو الصحيح ، وهذا وحده يكفيها شرقاً وفضلاً وهذا يستدعي من العبد أن يجتهد فيها، ويكثر من الأعمال الصالحة، وأن يحسن استقبالها واغتنامها بالبعد عن المعاصي والإقبال على الطاعات ، وهي الأيام المعلومات التي شرع فيها ذكره قال تعالى :﴿ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ ﴾ الحج:28 . وجمهور العلماء على أن الأيام المعلومات هي عشر ذي الحجة ، وفيها يوم عرفة وهو يوم الحج الأكبر، ويوم مغفرة الذنوب، ويوم العتق من النيران  ولو لم يكن في عشر ذي الحجة إلا يوم عرفة لكفاها ذلك فضلاً ، وفيها يوم النحر وهو أفضل أيام السنة كما قال بعض العلماء لقوله  (أعظم الأيام عند الله يوم النحر) رواه أبو داود والنسائي وصححه الألباني .                 

وفيها اجتماع أمهات العبادة قال الحافظ ابن حجر في الفتح:  "والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتى ذلك في غيره ".

أنها أفضل أيام الدنيا على الإطلاق، دقائقها وساعاتها وأيامها وأسبوعها، فهي أحب الأيام إلى الله تعالى، والعمل الصالح فيها أحب إلى الله تعالى، فهي موسم للربح، وهي طريق للنجاة  وهي ميدان السبق إلى الخيرات لقوله  : (ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله تعالى من هذه الأيام ، يعني أيام العشر، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء ) وهذا يدل على أن العمل في أيام العشر أفضل من الجهاد بالنفس، وأفضل من الجهاد بالمال ، وأفضل من الجهاد بهما والعودة بهما أو بأحدهما، لأنه لا يفضل العمل فيها إلا من خرج بنفسه وماله ولم يرجع لا بالنفس ولا بالمال، وقد روي عن أنس بن مالك أنه قال: (كان يقال في أيام العشر: بكل يوم ألف يوم ، ويوم عرفة بعشرة آلاف يوم) يعني في الفضل، وروي عن الأوزاعي قال:"بلغني أن العمل في يوم من أيام العشر كقدر غزوة في سبيل الله، يصام نهارها ويحرس ليلها، إلا أن يختص امرؤ بالشهادة.  وهذا دليل على أن الأعمال الصالحة في عشر ذي الحجة تضاعف من غير استثناء شيء منها .  وقد خص النبي صلى الله عليه وسلم  صيام يوم عرفة من بين أيام عشر ذي الحجة بمزيد من العناية، وبين فضل صيامه فقال: (صيام يوم عرفة احتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والتي بعده)  رواه مسلم . وعليه فيسن للمسلم أن يصوم تسع ذي الحجة، لأن النبي  حث على العمل الصالح فيها. وقد ذهب إلى استحباب صيام العشر الإمام النووي وقال: صيامها مستحب استحباباً شديداً . وكان رسول الله  يضحي بأضحيتين إحداهما عنه وعن أهل بيته والثانية عن أمته جميعا ، فجزاه الله عنا خيرا وجعلنا من اتباعه .  ويشترط أن تكون الأضحية من بهيمة الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم ضأنها ومعزها لقوله تعالى: ( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لّذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الاَنْعَـمِ ) وبهيمة الأنعام هي الإبل ، والبقر ، والغنم ، وأن تكون قد بلغت السن المحدود شرعاً بأن تكون جذعة من الضأن ، أو ثنية من غيره لقوله صلى الله عليه وسلم  : ( لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن تعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن ) . رواه مسلم   والمسنة : الثنية فما فوقها ، والجذعة ما دون ذلك . الثني من الإبل : ما تم له خمس سنين . والثني من البقر : ما تم له سنتان . والثني من الغنم ما تم له سنة . والجذع : ما تم له نصف سنة ، فلا تصح التضحية بما دون الثني من الإبل والبقر والمعز ، ولا بما دون الجذع من الضأن . وأن تكون خالية من العيوب المانعة من الإجزاء وهي  كالعور البين والمرض البين ، والعرج البين ، والجرح العميق المؤثر عليها في صحتها ونحوه . والهزال المزيل للمخ : لقول النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل ماذا يتقي من الضحايا فأشار بيده وقال : ( أربعاً : العرجاء البين ظلعها ، والعوراء البين عورها ، والمريضة البين مرضها ، والعجفاء التي لا تنقى ) . رواه مالك في الموطأ  ، فهذه العيوب الأربعة مانعة من إجزاء الأضحية ، ويلحق بها ما كان مثلها أو أشد كالعمياء والمبشومة ( التي أكلت فوق طاقتها حتى امتلأت ) والمتولدة إذا تعسرت ولادتها حتى يزول عنها الخطر . والمصابة بما يميتها من خنق وسقوط من علو ونحوه حتى يزول عنها الخطر . والزمنى وهي العاجزة عن المشي لعاهة

ومقطوعة إحدى اليدين أو الرجلين .  لأن الأضحية قربة إلى الله ، والله طيب لا يقبل إلا طيبا ، ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب .  وأجاز بعض العلماء مقطوعة الأذن والقرن وأجاز الإمام أحمد رحمه الله التضحية بالخصي .  وتصح تضحية الوكيل من مال موكله بإذنه . وإذا تعينت الأضحية لم يجز بيعها ولا هبتها إلا أن يبدلها بخير منها ، وأن يضحي بها في الوقت المحدود شرعاً ، وهو من بعد صلاة العيد يوم النحر إلى غروب الشمس من آخر يوم من أيام التشريق وهو اليوم الثالث عشر من ذي الحجة ، فتكون أيام الذبح أربعة : يوم العيد بعد الصلاة ، وثلاثة أيام بعده ، فمن ذبح قبل فراغ صلاة العيد   أو بعد غروب الشمس يوم الثالث عشر لم تصح أضحيته ؛ لما روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم  قال : (  من ذبح قبل الصلاة فإنما هو لحم قدمه لأهله وليس من النسك في شيء ). ويجوز الذبح في الوقت ليلاً ونهارا ً، والذبح في النهار أولى ، ويوم العيد بعد الخطبتين أفضل ، وكل يوم أفضل مما يليه ؛ لما فيه من المبادرة إلى فعل الخير .

 

 

 

حكم صلاة العيد في المسجد

وما قيمة في زكاة الفطر

ورد في الأحاديث الصحيحة  أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي العيدين في الصحراء في خارج البلد . وقد استمر العمل على ذلك في الصدر الأول ، ولم يكونوا يصلون العيد في المساجد ، إلا إذا كانت ضرورة من مطر ونحوه .

مما يدل على أن الخروج إلى الصحراء لصلاة العيد سنة  إن وسعهم المسجد الجامع ، وهو الصحيح عند الحنفية   فقد نقل ابن عابدين ما خلاصته : "السنة أن يخرج الإمام إلى الجبانة ويستخلف غيره ليصلى في المصر بالضعفاء بناء على أن صلاة العيدين في موضعين جائزة بالاتفاق، وإن لم يستخلف فله ذلك". وقد اختلف الفقهاء حول أفضلية المكان الذي تصلى فيه صلاة العيد ، فذهب بعضهم إلى أن صلاة العيد في الخلاء أو المصلى أفضل لفعله صلى الله عليه وسلم  وذهب البعض الآخر إلى أن المسجد أفضل بقاع الأرض لأن العبرة في تحقيق الحكمة من هذه الصلاة  اجتماع المسلمين رجالا ونساء وأطفالا لإظهار الفرحة ، ومتى تحققت هذه الحكمة في المسجد أو غيره تكون الأفضلية .

ويقول الإمام مالك إن فعلها في الجبانة أي في غير المسجد ، أفضل واستدل بما ثبت من مواظبته عليه الصلاة والسلام على الخروج إلى الصحراء ، فإن كان هناك عذر كمطر فالأفضل أن تصلى في المسجد ،  وذهب الإمام الشافعي إلى أن المسجد أفضل ، لأنه خير البقاع في الأرض ولكثرة الأحاديث الواردة في فضل التردد على المساجد والصلاة فيها ، وقال الشافعي في الأم : بَلَغَنا أن رسول الله  صلى الله عليه وسلم كان يخرج في العيدين إلى المصلى بالمدينة، وهكذا من بعده إلا من عذر مطر ونحوه ، وكذا عامة أهل البلدان إلا أهل مكة ، وقال : لو كان مسجد أهل البلدة يسعهم في الأعياد لم أر أن يخرجوا منه ، فإن لم يسعهم كرهت الصلاة فيه ولا إعادة ، وقال الحافظ : ومقتضى هذا أن العلة تدور على الضيق والسعة لا لذات الخروج إلى الصحراء ، لأن المطلوب حصول عموم الاجتماع ، فإذا حصل في المسجد مع أولويته كان أولى .

وبهذا يتبين أن حجة الأولين هي فعله صلى الله عليه وسلم وهو قدوة حسنة ، لكن يقال: إن الفعل واقعة حال لا تنفي غيرها  ولم يرد من الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بفعلها في غير المسجد عند الاختيار ، ولا نهي عن فعلها في المسجد ، ولعل اختيار الرسول فعلها في غير المسجد كان لأمرين، الأول ضيق المسجد لأنه دعا النساء أيضًا لشهود صلاة العيد ، كما ثبت في الصحيحين وغيرهما ، حتى الحُيَّض منهن   والحيَّض لا يدخلن المسجد ، والثاني إظهار شعيرة من شعائر الإسلام وإعلان الفرح بيوم العيد ، لما فيه من فضل الله على المسلمين، والاجتماع الواسع شعار كل الناس في أعيادهم ، والتوجيهات التي يُلقيها على الحاضرين تَعُم أكبر عدد من المسلمين الذي لم يكن ليوجد لو حضروا المسجد ، فإن كان هناك مسجد واحد كبير في محلة يسع كل الناس بما فيهم من لا يصلون العيد كانت صلات العيد فيه أفضل، وذلك لأفضيلة المسجد على غيره  ولحصول التجمع وفرصة التلاقي وتبادل التهاني بين الكل  أما صلاة العيد في الشارع أمام المسجد فلا تعتبر إحياءً للسنة، لأن السنة أن تكون الصلاة في الصحراء ، وهذه قضية لا ينبغي للمسلمين أن يختلفوا فيها لأنه أمر لهم فيه سعة ،  سيما وهو متعلق بالأفضلية لا بصحة الصلاة أو عدم صحتها  وينبغي ألا تكون من أسباب الخلاف والنـزاع ليتقبل اللّه العمل : ﴿ واعتصموا بحبل اللّه جميعا ولا تفرقوا  ﴾ آل عمران 103.

بقي موضوع جواز دفع القيمة في زكاة الفطر ، فإذا كان المقصود من زكاة الفطر إغناء الفقير لقوله صلى الله عليه وسلم : ( أغنوهم عن الطلب في هذا اليوم ) والإغناء كما يكون بالتمر والحب والشعير يكون بالمال ، بل ربما يكون المال أدفع للحاجة وأنفع لذلك المسكين ، فإن كان محتاجاً إلى طعام أو كساء أو دواء اشترى به ما يدفع حاجته ، والنص ورد بلفظ الإغناء والمال يحقق ذلك ، وإذا اقتصرنا على ما كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يجب أن نمنع قبول الرز أو الذرة أو العدس لأن النص ( كنا نخرج زكاة الفطر صاعاً من طعام أو صاعاً من شعير أو صاعاً من تمر أو صاعاً من إقط أو صاعاً من زبيب ) تم كيف يجيزون دفع البدل رزاً ولا يجيزون دفع المال ، فلا ينبغي التشدد فيما فيه سعة للمسلمين . 

 

 

 

 

من هو الفاسق ؟

 

قال الفقهاء بأنه: يتحقق بارتكاب كبيرة، أو إصرار على صغيرة أو صغائر ولم تغلب طاعاته معاصيه ، والفسق أعَمُّ من الكفر ، ويقع بالقليل من الذنوب وبالكثير ، ومن الفسق ما هو أكبر ومنه ما هو أصغر فالأكبر كما في قوله تعالى:﴿ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾النور:55 والفسق يخرج صاحبه من الإسلام، وينفي عنه مطلق الإيمان، ويخلده في النار، إذا مات ولم يتب منه، ولا تنفعه شفاعة الشافعين يوم القيامة، قال تعالى: ﴿ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ ﴾التوبة: 84 .

 

أما الفسق الأصغر : وهو المعصية التي لا تنفي عن صاحبها   مطلق الإيمان ولا تسلبه صفة الإسلام، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا﴾  الحجرات: 6 ، ولا يجوز للمسلم أن يقول لأخيه‏‏ يا فاسق أو يا كافر أو يا خبيث أو ما شابه ذلك من الألقاب السيئة لقوله تعالى:‏‏ ‏﴿ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ﴾ ‏الحجرات‏‏ : 11‏ . ‏‏

 

وأما الأصغر: ففي قوله تعالى: ﴿ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ﴾  البقرة:282 . وكما في حديث: سباب المسلم فسوق.

 

 

 

 

 

 

 

ما حكم الصلاة جلوساً على الكرسي

كثر في مساجدنا هذه الأيام المصلون على الكراسي لعذر ولغير عذر، في الفرائض والنوافل، فاضطرب الأمر على البعض وأصبح مما يحتاج إلى بيان.

وجود الكرسي لم يعهده المسلمون في مساجدهم قديمًا، أما وقد وجد فيقيد بالضرورة، وينبغي أن لا يكون في وسط الصف حتى لا يؤذي مَن خلفه مِن المصلين، وإن كان ولا بد فليكن في طرف الصف، أو في الصفوف الخلفية.

اتفق أهل العلم على أن القيام في صلاة الفريضة ركن من أركان الصلاة لا تصح الصلاة إلا به مع القدرة عليه، لقوله تعالى: ﴿ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ﴾ البقرة 238،ولما ورد في الحديث عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: كانت بي بواسير، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة، فقال: ( صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنبك )رواه البخاري . قال الإمام الشوكاني: "وحديث عمران يدل على أنه يجوز لمن حصل له عذر لا يستطيع معه القيام أن يصلي قاعداً ولمن حصل له عذر لا يستطيع معه القعود أن يصلي على جنبه" نيل الأوطار 3/225. وبناءً على ذلك فإن من صلى الفريضة جالساً وهو قادر على القيام فصلاته باطلة. وقد اتفق أهل العلم على أن المريض الذي لا يستطيع القيام فإنه يصلي قاعداً ويركع ويسجد إذا قدر عليهما، فإن لم يستطع الركوع والسجود فإنه يصلي مومياً ويجعل سجوده أخفض من ركوعه لأن المشقة تجلب التيسير، ومن المعلوم أن رفع الحرج ودفع المشقة أصل قطعي من أصول الشريعة ودلت عليه أدلة كثيرة منها قوله تعالى: ﴿ لا يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلا وُسْعَهَا ﴾ البقرة 286  وقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم )رواه البخاري ومسلم) قال ابن قدامة المقدسي: "أجمع أهل العلم على أن من لا يطيق القيام له أن يصلي جالساً" المغني 2/106. وقال الإمام النووي: "...أجمعت الأمة علي أن من عجز عن القيام في الفريضة صلاها قاعداً ولا إعادة عليه، قال أصحابنا ولا ينقص ثوابه عن ثوابه في حال القيام لأنه معذور وقد ثبت في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ﴿ إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمل صحيحاً مقيماً ﴾المجموع 4/310 . وقال : "ومن قدر على القيام، وعجز عن الركوع أو السجود لم يسقط عنه القيام. ويصلي قائماً فيومئ بالركوع. ثم يجلس فيومئ بالسجود"، وبهذا قال الشافعي ، ولنا قوله الله تعالى: ﴿ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ﴾ وقول النبي صلى الله عليه وسلم صل قائماً ، ولأن القيام ركن قدر عليه، فلزمه الإتيان به كالقراءة. والعجز عن غيره لا يقتضي سقوطه كما لو عجز عن القراءة" المغني 2/107. ويجب أن يعلم المريض أن حدَّ المرض الذي يجيز للمريض أن يصلي قاعداً هو أن يخاف المريض مشقة شديدة أو زيادة المرض أو تباطؤ برئه. قال الإمام النووي: "قال أصحابنا ولا يشترط في العجز أن لا يتأتى القيام ولا يكفى أدنى مشقة بل المعتبر المشقة الظاهرة فإذا خاف مشقةً شديدةً أو زيادة مرض أو نحو ذلك صلى قاعداً ولا إعادة" المجموع 4/310 ، وقال الإمام الشوكاني: "والمعتبر في عدم الاستطاعة عند الشافعية هو المشقة أو خوف زيادة المرض أو الهلاك لا مجرد التألم فإنه لا يبيح ذلك عند الجمهور" نيل الأوطار 3/225 . ويرى بعض أهل العلم أن ضابط ذلك يتعلق بالمشقة التي تذهب الخشوع: "قال إمام الحرمين: الذي أراه في ضبط العجز أن يلحقه بالقيام مشقة تذهب خشوعه لأن الخشوع مقصود الصلاة" المجموع 4/310 . وللمريض أن يصلي قاعداً ، إذا كان لا يستطيع أن يقوم لدنياه فليصل قاعداً . وبعض المصلين يتساهلون في هذه المسألة فيصلون قعوداً لغير عذر فهؤلاء صلاتهم باطلة.

أما صلاة النافلة فالأفضل فيها أن يصليها المصلي قائماً ويجوز فيها الجلوس حتى بغير عذر، ويدل على ذلك ما ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من صلى قائماً فهو أفضل ومن صلى قاعداً فله نصف أجر القائم ) رواه البخاري ، وهناك بعض الملحوظات والأخطاء يفعلها بعض من يصلي على كرسي منها: يجب على المصلي أن يأتي بتكبيرة الإحرام وهو واقف إن كان يقدر على ذلك ، وألا يحرك الكرسي الذي هو جالس عليه في حالة الإيماء للركوع أو السجود، وأن يفرق بين الركوع والسجود بطريقة الإيماء، بحيث يكون إيماء السجود أخفض من الركوع. وألا يسجد على شيء يوضع له، بل يكفيه الإيماء، لأنه إذا عدم السجود والركوع على أصلها فلا يقوم مقامها شيء   وأن يكون موضع الكرسي في جوانب الصفوف ، وألا يحجز مكانا دائما له يمنع الناس منه، إلا إذا كان المسجد فيه سعة.

 

 

 

 

 

العمل وعمل أي شيء في النوادي الليلية

لا شك أن هذا حرام وما يأتي منه من رزق فهو حرام، وذلك لأنه من الإعانة على الخمر والدعارة والفجور، وهذه الأشياء من الإثم والعدوان، والله تعالى يقول: ﴿ وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾ المائدة2. لذا يجب ترك هذا العمل فوراً وتذكروا قول الله تعالى:﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِب ﴾ الطلاق 2-3]. ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه ، كما أن العمل في الكنائس لا يجوز، لأنها أماكن يشرك فيها بالله ويعظم فيها الصليب.. وعمل المسلم فيها يعد من باب التعاون مع أصحابها على أعظم إثم وعدوان  ونص الفقهاء على المنع في كل ما يعود على أهل الباطل بالنفع والإعانة على باطلهم، ولا فرق بين صناعة الصلبان، وبين حراسة، أو تنظيف، أو بناء وتعمير الكنيسة!

لماذا يبتلي الله الخلق

 يبتلي الله العباد لتوطين النفس على المشقة والبلاء   ليثبتوا على الدين ، حيث ان الإيمان ليس كلمة تقال بل لابد من الابتلاء والامتحان  فمن صبر ولم يجزع   وشكر ورَضِي وسلّم فهو مؤمن حقيقي، وإلا فما هو من الإيمان بشيء ، وما أحسن ما أنشدوا :

عطيّته إذا أعطى ســرورا    وإن سلب الذي أعطــى أثابـا

فأي النعمتين أعـــدّ فضلاً      واحمــد عنـد عقابهـا إيابـا

أنعمته التي كانت ســروراً أم     إلى الأخرى التي جلبت ثوابا؟

وأي حكمة في خلق الكفر والعصيان والمضار   ؟ 

ليس لأحد أن يعترض لأنه لا راد لقضائه وحكمه يقضي الله كيف يشاء ، لأن الاعتراض من أخطر الأبواب التي ضل فيها الناس ، وما علينا إلا الإقرار بحكم الله ، وإرادته المطلقة  فرحمته غلبت غضبه وعفوه سبق عقوبته ،  التي هي شر من وجه وخير من وجه آخر، وإن كان في العقوبة ألم وضرر، فمثلاً قطع يد السارق ، هي خير للمجتمع   وألمه خير ، لأنه كفارة  وعبرة ، ولذلك قالوا : " بأن اليد لما كانت أمينه كانت ثمينة ، فلما خانت هانت "

وقد اقتضت سنة الله ، ترتيب الجزاء على العمل   واقتضت حكمه الله  أن جعل اللذات تثمر الآلام ، والآلام تثمر اللذات، ولكن الألم الذي تعقبه اللذة الدائمة   أولى بالإيثار والتحمل، من لذة يعقبها الألم الدائم ، ولعل  أهم الحكم من خلق الله  للآلام  والكفر والفسوق   أنها للتمحيص  والامتحان  لأن الإيمان وجزاؤه، لا يتحقق إلا بالامتحان والاختبار كما قال تعالى : ﴿ أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ﴾ فلا بد أن يمتحن الله خلقه ويفتنهم ليتبين الصادق من الكاذب والمؤمن من الكافر، وهنا نقول : ألم يكن الله يعلم حقيقتهم قبل أن يبتليهم ؟ نعم يعلم لله حقيقة عباده ، ولكن ليس الهدف من اختبارهم العلم بحقيقتهم ، إنما الهدف أن يُقِرّ العبد بما عُلِمَ عنه  وهذا هو الحق الذي خلق الله الخلق به ولأجله ، وهو أن يعبد وحده ، بما أمر به على ألسنة رسله ، فوعد بالثواب والعقاب ، ولم يخلق خلقه سدى ، لا يأمرهم ولا ينهاهم  ولا يثيبهم ولا يعاقبهم ، بل خلق الله الخلق للأمر والنهي  والثواب والعقاب، ولم يأمرهم إلا بما يعود نفعه ومصلحته عليهم ، في معاشهم ومعادهم ، فنهاهم عما تعود مضرته وفساده عليهم ، ولهذا فإن ثمرة الابتلاء والامتحان  مختصة بهم ،  فما أمرض إلا ليشفي  وما ابتلا إلا ليعافي ، وما أمات إلا ليحي، والآلام والمشاق ، فهي إما أن تكون إحسان ورحمة ، وإما عدل وحكمة ، وإما إصلاح وتهيئة لخير، وإما لدفع ألم أصعب ، وإذا كانت الآلام أسباباً للذات أعظم منها وأدوم ، كان العقل يقضي باحتمالها ، ولهذا قال العقلاء : " إن النعيم لا يدرك بالنعيم  وإن الراحة لا تنال بالراحة ، وأن من آثر اللذات فاتته "  

ولو لم يكن للباطل والكفر والشرك وجود ، لما كان هناك حاجة إلى الرسل والرسالات ؟ ولولا وجود الكفار، لما  شرع الجهاد  ولما نال أهله درجة الشهادة  ولما ظهر من يقدم محبة الله على نفسه وأهله وولده  ولولا وجود الكفار ، لما كان هناك حاجة  إلى صبر الرسل وأتباعهم وجهادهم  وتحملهم للمكاره والمشاق وأنواع العبودية المتعلقة بالدعوة وإظهارها وتلك العبودية تقتضي درجة لا تنال إلا بها ،  فلو لا الرق لمل حصلت عبودية العتق ولولا الظلم والإساءة والعدوان ، لما حصلت عبودية الصبر والمغفرة وكظم الغيظ ، ولو لا الفقر والحاجة لم حصلت عبودية الصدقة والإيثار والمواساة  ولو سوَّى الله بين خلقه جميعهم ، لتعطلت هذه العبوديات ، التي هي أحب شيء إلى الله ، ولأجلها خلق الجن والإنس ، ولأجلها شرع الشرائع ، وأنزل الكتب ، وأرسل الرسل وخلق الدنيا ، فلو لم يقدر الذنوب والمعاصي ، فلمن يفغر ، وعلى من يتوب  وعمن يعفو ، ويسقط حقه  ويظهر فضله ، وجوده  وحلمه ، وكرمه ، وهو واسع المغفرة ، فكيف يعطل هذه الصفة ، أم كيف يتحقق بدون من يغفر، ومن يُغْفر له  ومن يتوب ، ومن يتاب عنه ؟ ولو لم يكن في تقدير الذنوب  والمخالفات إلا هذه  لكفى بها حكمة وغاية  ومن سنن الله التمحيص بالفتن ، وذلك أن الله سبحانه بمقتضى حكمته   وأمره ونهيه ، وقضائه وقدره ، قد جعل بعض عباده فتنة لبعض ،  فجعل الله أوليائه فتنة لأعدائه ، وأعداءه فتنة لأوليائه ، والملوك فتنة للرعية ، والرعية فتنة لهم  والرجال فتنة للنساء ، وهن فتنة لهم ، والأغنياء فتنة للفقراء، والفقراء فتنة لهم    وكذلك ابتلاء عباده بالخير والشر في هذه الدنيا ، وكم له سبحانه في مثل هذا الابتلاء والامتحان من حكمة بالغة ، ونعمة سابغة  وحكم نافذ ، وأمر ونهي  وتصريف دال على ربوبيته وإلهيته ، وملكه وحمده    دال على كمال حكمته ومقتضى حمده التام . فلو لا  الابتلاء والامتحان لما ظهر فضل الصبر، والرضى والتوكل والجهاد والشجاعة  والحلم  والعفو  والصفح   هذه التي يحب الله أن يكرم بها أوليائه ، ويحب ظهورها عليهم ، ليثني بها عليهم  وينالوا باتصافهم بها غاية الكرامة واللذة ، وإن كانت مرة ، فلا أحلى من عواقبها ولذا كان أفضل العطاء على الإطلاق ، الإيمان وجزاءه  ، ولا يتحقق هذا إلا بالامتحان والاختبار ، وقد يكون للعبد منزلة عظيمة عند الله  لم يكن له من العمل ما يبلغه إياها ، فيبتليه الله بالمرض وبما يكره ، حتى يكون أهلاً لتلك المـنزلة قال عليه الصلاة والسلام : (  إن العبد إذا سبقت له من الله منـزلة لم يبلغها بعمله ، ابتلاه الله في جسده أو في ماله أو في ولده ثم صبّره على ذلك ، حتى يبلغه المنـزلة التي سبقت له من الله تعالى ) إنه لا ينجينا مما يصيبنا الآن من ابتلاءات ، إلا بالرجوع إلى الله ، فان عدنا الى الله  رفع عنّا البلاء. وإن لم نفعل   فان هذا البلاء سوف يزداد  ، قال تعالى : ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَى اُمَمٍ مِن قَبْلِكَ فَأخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَآءِ وَالضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ . فَلَوْلآ إِذْ جَآءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ . فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَآ اُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُبْلِسُونَ ،فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ا الانعام 42 

وخلاصة القول إن المؤمنين يصيبهم البلاء بنوعيَه  ابتلاء الشدة وابتلاء الرخاء تأديباً لهم لكي يعودوا إلى الاستقامة التي أمرهم الله بها. فهل اتعظنا من المحن التي نعاني ؟ حتى الآن لم نتعظ ولم نعتبر، وما نزال نياماً، ونعوذ بالله تعالى أن نكون ممن ذكرهم الله بقوله : ﴿ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا ﴾

 

 

هل الفتاوى تبريء الذمة

التصدر لمقام الإفتاء من أخطر الأعمال  ، وأنبلها في نفس الوقت   لأنها إخبار وتبليغ وتطبيق لأحكام الشريعة، فالمفتي هو الموقِّع عن رب العالمين ،كما وصفه ابن القيم بقوله:" وإذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا ينكر فضله، ولا يجهل قدره، وهو من أعلى المراتب السنيات، فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسماوات!"، وهو ولي الله كما قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: إن لم يكن الفقهاء أولياء الله في الآخرة، فما لله من ولي " ، أما خطره ، فيكمن في أن المفتي هو ملاذ العامة ، يلجئون إليه عند نزول النوازل؛ لاستجلاء  حكمها الشرعي، فتتعدى فتواه المستفتي ليتخذها العامة شريعة لهم، ما جعل الصحابة رضوان الله عليهم يعون خطورتها ويحجمون عنها  ويشددون في النكير على من استسهلها وسارع إليها منهم ، وإذا كان هذا موقف   الصحابة رضوان الله عليهم، فما بال أقوام من الأمة اليوم ، الذين خاضوا  في الفتوى  متساهلين   بحرمة الكذب على الله ورسوله ، فزلت أقلامهم ، وضلت  بسبب فتاويهم الخالية من الضوابط الشرعية أفهام الكثير من الناس فصاروا يعطون الفتاوى التي توافق الهوى وتوافق العصر ، ولو كانت هذه الفتاوى تتعارض ما هو معلوم من الدين بالضرورة ، وربما توهموا أنهم يحسنون صنعا ، ولكنهم مخطئون ، ولا تبرئ ذمتهم أمام الله  ولا ذمة المستفتي ، لأنه لا يجوز الأخذ بالفتوى ، إلا لمن يُطْمئن إلى تقواه  وإلى علمه ، فمثلاً هناك من أفتى باستثمار الأموال في البنوك الربوية ، في هذه الحالة لا تبرا ذمة المفتي ولا من عمل بفتواه ، لأنها مخالفة للشرع ، وهذا معلومٌ من الدين بالضرورة ، قد يقول قائل : هناك من العلماء من أفتى بجواز ذلك ، فلا يجوز العمل بفتواهم لأنهم ليسوا أعلم من الله الذي يقول : ﴿ وأحل الله البيع وحرّم الربا ﴾ ويقول : ﴿ يا أيها الين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين ﴾ فمن عرف ذلك لا يجوز له أن يتعامل بالربا ، مهما كانت ثقته بالمرجع الذي أفتاه ، ومن يفعل ذلك يكون قد تنصل من الكتاب والسنة ، وهذا ترك للدين والله سبحانه يقول : ﴿ اتبعوا ما أنزل اليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء ﴾ فإذا خالف المفتي الكتاب والسنة ، فلا يجوز لنا أن نتبعه ، بل علينا أن نحاسبه ، حتى لا نكون مثل اليهود والنصارى الذين قال الله فيهم : ﴿ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ﴾  هناك من العلماء من يجانب الصواب  فيصدر فتوى تخالف الشرع فيعتمدها العامة ، لمكانته  عندهم وهنا يكون خطرها أكبر، لأنها تصدر من عالم ذو مصداقية ، وفي ذلك يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه:" يهدم الإسلام زلة عالم وجدال المنافق بالكتاب ، وحكم الأئمة المضلين" . إن على المستفتي الذي يخاف الله ويريد أن تبرأ ذمته ، ألا يستمع إلى هذه الفتاوى ، التي لم تصدر عن أهل للفتوى ، وما أكثرهم في هذا الزمان، وهذا يدل على قلة العلم وقلة التقوى في قلوب كثير من الناس، لا من المستفتين ولا من المفتين ، الذين قلَّت تقواهم لله عز وجل، واجترؤوا على مخالفته  فحوَّروا النصوص، مضيعين العبادات ، ومغلِّبين العادات المخالفة للشرع ، بدعوى أن الدين يسر، وأنه صالح لكل الأزمان والأمكنة، فلم يتورعوا عن تبَّني الآراء الشاذة ، والأقوال الضعيفة التي وجدت من يأخذ بها من العامة الذين تقبلوها ، ودافعوا عنها   بدعوى أنها صادرة من العلماء الذين اجتهدوا في فهم الواقع المعاصر ، وحاجات المسلم فيه   كالربا والمجون والاختلاط وغير ذلك، وفي هذا النوع من اللامبالاة والتساهل في دين الله يقول الإمام النوَّوي:" يحرم التساهل في الفتوى ومن عرف به حرم استفتاؤه" لذا على المستفتي أن لا يسأل كل أحد ولا يأخذ بقول كل أحد ، ولا يأخذ بكل ما سمع، بل عليه أن يبرأ ذمته ، وألا يسأل إلا أهل العلم والتقوى، ولا يسأل كل من نصب نفسه للفتوى ، وجعل يفتي عن كل سؤال يرد إليه ، ويجاوب عليه في الحال ، في مسائل لو سُئل عنها الإمام أحمد أو الأئمة الكبار لتوقفوا فيها وتأملوا ، قال بعض السلف إن هذا العلم دين ، فانظروا عمن تأخذون دينكم، لا تأخذه من كل أحد ، ولا تأخذه إلا عن أهله الموثوقين، إذا كنت تريد براءة ذمتك، أما إذا كنت تريد أن تجعل هذا المفتي وقاية لك، فما يقيك يوم القيامة ، ولا ينفعك ، فبعض المستفتين يقول : ما دام أنه أفتى بها فلان  فهي بذمته يتحملها، نعم هو متحمل لأنه تسرع وأجاب بغير علم ، لكن المستفتي متحمل كذلك ، لأنه استفتى من هو غير أهل للفتوى ، فكان على السائل وعلى المجيب ، أن يتقي الله سبحانه وتعالى ، فإذا سألت  فاسأل أهل الخبرة وأهل التقوى وأهل العلم، لأن أمر الفتوى أمر مهم جداً ، لا يتصدّره إلا من عنده علم وعنده تقاً وورع.

وإذا كان ولا بد فيقول هذا اجتهادي ورأيي إن يكن صواباً فمن الله ، وإن يكن خطئاً فهو مني ومن الشيطان، ولا يبرأ نفسه  ويكن على حذر مما أفتى به، فإذا بذل ما وسعه ونصح لله ورسوله فإنه لا يؤاخذ على ما قد يحصل من الخطأ، قال صلى الله عليه وسلم: ( إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد وأخطأ فله أجر واحد ) .   

 

 

ما حكم صلاة الجمعة يوم العيد

هناك من يقول : بعدم صلاة الجمعة، فما الرأي الصحيح ؟  إذا وافق يومُ العيد يومَ جمعة لا تسقط صلاة الجمعة بصلاة العيد؛ لأن صلاة العيد سنة مؤكدة، بينما صلاة الجمعة فريضة محتّمة، والسنة لا تُسْقِط الفريضة ولا تُجْزئ عنها؛ وذلك لقول الله عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ الجمعة 9. وقد حدث في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن وافق يومُ العيد يومَ الجمعة، فكان هدي النبي صلى الله عليه وسلم فيه أنه صلى الصلاتين، وخطب الخطبتين ولم يترك الجمعة ولا العيد، وذلك أمر مشهور معروف في كتب السنة والحديث. وهو ما ذهب إليه جماهير فقهاء المسلمين من الحنفية والمالكية والشافعية ورواية عند الحنابلة. وإنما رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في ترك الجمعة ذلك اليوم لأهل العوالي الذين بعدت منازلهم عن المسجد النبوي ويشق عليهم الذهاب والإياب مرتين للصلاتين؛ فرخَّص لهم أن يصلوا الظهر في أحيائهم، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: (قَدْ اجْتَمَعَ فِي يَوْمِكُمْ هَذَا عِيدَانِ؛ فَمَنْ شَاءَ أَجْزَأَهُ مِنْ الْجُمُعَةِ، وَإِنَّا مُجَمِّعُونَ) رواه أبو داود . وقد حمل جمهور العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية هذا الحديث على أنه واردٌ في حق من أتى لصلاة العيد من خارج المدينة المنورة؛ ممن لا تجب عليهم الجمعة ابتداءً، كونهم قاطنين خارج المدن والعمران، فهؤلاء إن انتظروا حتى يصلوا الجمعة كان في ذلك مشقة عليهم، وكذلك لو رجعوا إلى أهلهم ثم جاؤوا لصلاة الجمعة؛ فرخص لهم حينئذ في ترك الجمع ، ولذلك كله فالاحتياط للدين يقضي بالمحافظة على الصلاتين في ذلك اليوم، وأما ما ذهب إليه  بعض فقهاء الحنابلة: أنَّ مَن صلى العيد لا يُطالَب بصلاة الجمعة مطلقاً، وإنما يصلي الظهر  فهو على خلاف الأحوط  والأبرأ للذمة .

وأما القول بسقوط صلاة الظهر؛ فهذا لم يقل به أي مذهب من مذاهب أهل السنة، وهو مخالف للنصوص الموجبة للصلوات الخمس في اليوم والليلة؛ فلا يجوز العمل به، ولا تقليده، ولا الإفتاء به ، ولا عبرة بما ورد في بعض الروايات من أحاديث تنسب إلى بعض الصحابة ظاهرها إسقاط الظهر إذا اجتمع العيدان؛ فهذه الآثار لا تثبت سنداً، وليس في متونها دلالة على هذا القول الغريب، ولو ثبتت فهي معارضة بالأدلة القطعية المصحوبة بإجماع المسلمين على وجوب الخمس صلوات في اليوم والليلة؛ فتُقدَّم عليه في نظر أهل العلم ، فلا فسحة للجدل والخلاف الذي يُفَرِّق صفوف المسلمين وهم يستقبلون أيام العيد السعيد، بل الواجب العمل بالمحكمات، وترك المتشابهات، والتسليم بما استقرت عليه مذاهب المسلمين المتبوعة.

 

 

 

 

 

 

ما حكم التخفيف في الصلاة

عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ( إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِلنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ فَإِنَّ فِيهِمْ الضَّعِيفَ وَالسَّقِيمَ وَذَا الْحَاجَةِ، وَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِنَفْسِهِ فَلْيُطَوِّلْ مَا شَاءَ ) رواه البخاري ومسلم. إن التخفيف المذكور في هذا الحديث ليس تخفيفا مبنيا أعلى أمزجة وأهواء الناس ، وإنما هو راجع إلى فعله عليه الصلاة والسلام ، عن أنس رضي الله عنه قال ( ما صليت وراء إمام قط أخف صلاة ولا أتم من النبي صلى الله عليه وسلم، أما التطويل الزائد عن السنة فهو حرام كما قال السلف لأنه عليه الصلاة والسلام ما كان يغضب إلا من أجل محرم ، لأن السنة في الصلاة هي التخفيف والإيجاز، لما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: جاء رجل فقال: يا رسول الله إني لأتأخر عن الصلاة في الفجر مما يطيل بنا فلان فيها فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأيته غضب في موضع كان أشد غضبا منه يومئذ ثم قال : ( يا أيها الناس إن منكم منفرين فمن أم الناس فليتجوز فإن خلفه الضعيف والكبير وذا الحاجة ) .وإن الأحاديث الواردة في التخفيف والإيجاز تفوق أحاديث التطويل صحة وكثرة وصراحة ، وأحاديث التطويل محمولة على أنها في أول الإسلام لما كان في المصلين قله, فلما كثروا واتسعت رقعة الإسلام شرع التخفيف وأمر به ، لأنه  أدعى إلى القبول ومحبة العبادة  لأن الصلاة المخففة يندر بها الوسواس؛ ومتى طالت استولى الوسواس فيها على المصلي فلا يفي ثواب إطالته بنقصان أجره.

أما من يصلي وحده فليفعل ما شاء شريطة ألا يضر بنفسه ، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن معاذ بن جبل رضي الله عنه كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم،  ثم يأتي قومه فيصلي بهم الصلاة، فقرأ بهم البقرة فتجوّز رجل فصلى صلاة خفيفة فبلغ ذلك معاذاً فقال: إنه منافق فبلغ ذلك الرجل فأتى النبي  صلى الله عليه وسلم ، فقال: يا رسول الله، إنا قوم نعمل بأيدينا ونسقي بنواضحنا - البعير الذي يستعمل في سقي الزروع- وإن معاذاً صلّى بنا البارحة فقرأ البقرة، فتجوّزت فزعم أني منافق، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ( يا معاذ أفتّان أنت؟ - قالها ثلاثاً -، اقرأ ( والشمس وضحاها ) و( سبّح اسم ربك الأعلى ونحوها) متفق عليه واللفظ للبخاري ، وفي رواية أخرى: ( فلولا صليت بسبح اسم ربك والشمس وضحاها والليل إذا يغشى، فإنه يصلي وراءك الكبير والضعيف وذو الحاجة) ، وفي رواية مسلم : ( فانحرف رجل فسلم ثم صلى وحده وانصرف ).  روي أن معاذ انطلق  في إحدى الليالي ، بعد أن فرغ رضي الله عنه من صلاته مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الآخر كعادته ليؤم المسلمين، وشرع في قراءة سورة البقرة، واستطرد في قراءتها، وفي القوم رجلٌ من عوام المسلمين الذين يكدّون طوال اليوم بالأعمال ، التي تتطلّب جهداً ووقتاً ، ولذلك استثقل الرجل طول الصلاة ورأى أنها ستؤخّره عن أعماله، فانفرد الرجل فأتمّ الصلاة لوحده ثم انصرف ، ولما علم معاذ بن جبل رضي الله عنه أن أحد المصلّين ترك الصلاة خلفه ، لم يتردّد معاذ رضي الله عنه في الحكم على الرجل بأنه من المنافقين  ُصدم الرجل بمقولة معاذ رضي الله عنه، وحاول أن يدفع التهمة عن نفسه، لكن دفاعه لم يجد له صدىً، وهنا: اشتدّ عليه الكرب وحلّ به الهمّ، فانطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يُخبره بما دار، ويعتذر مما صنع، محتجّاً بما يتطلّبه العمل في الزراعة من أوقات كثيرة لا يمكن معها الاسترسال في الصلاة والتطويل فيها، فلماذا إذن يُصْدِر عليه معاذ ذلك الحكم الجائر بالنفاق؟!  غضب النبي صلى الله عليه وسلم واستيائه من موقف معاذ وعاتبه أشدّ عتاب: ( يا معاذ أفتّان أنت؟ - قالها ثلاثاً -) ثم يوجّهه إلى قراءة السور القصار كالشمس والليل والأعلى ونحوها مما يتناسب مع كبار السنّ والضعفاء من المسلمين وأصحاب الحاجات، وكان الجواب العمليّ لمعاذ رضي الله عنه السمع والطاعة، وسرعة الرجوع إلى الحق والتزامه، تكلّم العلماء في هذا الحديث النبويّ من الناحية السلوكيّة والناحية الفقهيّة، أما الناحية السلوكيّة: فهو التأكيد على ضرورة أن يعلم الإمام أحوال المأمومين خلفه وأن يراعيها فالناس ليسوا على شاكلة واحدة، والظروف تتباين ، فكان على الإمام أن يوازن بين مقدار قراءته ، وبين طبيعة المصلّين خلفه ونشاطهم، وبإدراك هذه القضيّة نستطيع أن نفهم التفاوت المذكور في مقدار قراءات النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته الواردة في كتب السنة، فلربما قرأ في المغرب بالطور، ولربما قرأ فيها بالمعوذتين، وكم بين الطور وبين المعوذتين من تفاوت ، وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( يا معاذ أفتّان أنت؟ ) نهيٌ عن كل ما يُنفّر عن الدين ويصد عن سبيله أو يوقع الناس في الفتنة سواءٌ أكان بالقول أم بالفعل  ومن الناحية الفقهيّة ، فقد استدلّ العلماء به على جواز اختلاف نيّة المأموم والإمام كأن يُصلّي الإمام بنيّة النفل والمأموم بنيّة الفرض أو عكسه، كما استدلّوا به على أن المأموم إذا شقّت عليه متابعة الصلاة في الجماعة، بإجهادٍ أو غلبة نعاسٍ   فله أن يفارق الجماعة ويتمّ الصلاة لوحده.

 

 

 

 

 

}

 اختلف الفقهاء في الحكم : فمنهم من حكم بأنه ظهار  ومنهم من حكم بأنه طلاق . هنا الحكم على نية القائل : فإن نوى الطلاق أو الظهار أو اليمين   فالأمر على ما نواه . وإن لم ينو شيئا ، لزمه كفارة يمين ، وهذا مذهب الإمام الشافعي ، ويدل على ذلك : أن هذا اللفظ يصلح لأن يكون طلاقاً أو ظهاراً أو يميناً ، فكان المرجع في تحديد ذلك إلى نية القائل ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى ) . وعن ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ : ( إِذَا حَرَّمَ الرَّجُلُ عَلَيْهِ امْرَأَتَهُ فَهِيَ يَمِينٌ يُكَفِّرُهَا ) رواه البخاري  ومسلم  .

 وأما الفرق بين الطلاق والظهار واليمين : ففي اليمين ما نوى التحريم ، لكنه نوى الامتناع إما معلقا وإما منجزا   مثل أن يقول : إن فعلت كذا، فأنت عليّ حرام  هذا معلق . هنا ليس قصده أنه يحرم زوجته ، بل قصده أن تمتنع زوجته من ذلك  أو أنت علي حرام ، قصده أن يمتنع من زوجته ، فهذا يمين ؛ لقوله تعالى : ﴿ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ۖ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ ۚ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ ۖ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾قوله : ﴿ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ﴾ "ما" اسم موصول يفيد العموم  فهو شامل للزوجة وللأمة وللطعام والشراب واللباس ، فحكم هذا حكم اليمين . قال ابن عباس رضي الله عنهما : إذا قال لزوجته : أنت علي حرام فهي يمين يكفرها ، بدليل الآية .   

والحالة الثانية : أنه يريد به الطلاق ، فينوي بقوله أنت علي حرام ، يعني : يريد أن يفارقها بهذا اللفظ . فهذا طلاق ، لأنه صالح للفراق ، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام :(إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى )   الحالة الثالثة : أن يريد به الظهار ، ومعنى الظهار أن يريد أنها محرمة عليه  فهذا قال بعض أهل العلم : إنه لا يكون ظهارا لأنه لم يوجد فيه لفظ الظهار . وقال بعض العلماء : إنه يكون ظهارا ؛ لأن معنى قول المظاهر لزوجته : أنت علي كظهر أمي ، ليس معناه إلا أنت حرام ، لكنه شبهها بأعلى درجات التحريم وهو ظهر أمه ، لأنه أشد ما يكون حراما عليه  فهذا يكون ظهارا ، والظهار كما وصفه الله منكراً وزوراً ، فعليه التوبة منه، وألا يقرب زوجته حتى يفعل ما أمره الله به لقوله تعالى : ﴿ الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ﴾ ، فعليه عتق رقبة، يعني أن يحرر عبداً مملوكاً من الرق، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين لا يفطر بينهما إلا بعذر كسفر ومرض، فإذا لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً لقوله تعالى : ﴿ وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ ﴿ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ﴾ . وإذا لم تقصد إيقاع الطلاق. فإنه لا يقع به طلاق، وتلزمك كفارة يمين في أصح قولي العلماء ، وهي إطعام عشرة مساكين من أوسط ما يأكل هو وأهله، ومقداره خمسة عشر كيلو غراماً من الرز ، ويكفي أن يغديهم أو يعشيهم، أو كسوتهم ، لكل واحد ما يستره لصلاته فإن لم يستطع فيصوم ثلاثة أيام لقوله تعالى: ﴿ فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ﴾ المائدة 89 ، وإن كنت أردت به إيقاع الطلاق. وقعت به طلقة واحدة

   

ما حكم التداوي ، وهل فعل الأسباب ، ينافي التوكل؟

قال تعالى : ﴿ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ﴾ الشعراء ٨٠

 وعن جابر بن عبد الله  عن النبي عليه السلام أنه قال : ( لِكُلِّ داءٍ دَوَاءٌ , فإِذا أصَاب دواءٌ الدَّاء بَرَأ بإذن الله عز وجل ) أخرجه مسلم  

وقال ابن عباس رضي الله عنه: (هذه المرأةُ السَّوْداءُ، أتَتِ النبي َّ عليه السلام فقالتْ : إني أُصْرَعُ، وإني أتَكَشَّفُ، فادْعُ اللهَ لي، قال عليه السلام : (إن شِئتِ صبرتِ ولك الجنَّةُ، وإن شِئتِ دعَوتُ اللهَ أن يُعافيَكِ ) . فقالتْ : أصبِرُ، فقالتْ : إني أتَكَشَّفُ، فادْعُ اللهَ أنْ لا أتَكَشَّفَ، فدَعا لها ) البخاري و مسلم .

ذهب جماهير العلماء إلى أن التداوي مباح , ومنهم من قال يستحب والبعض قال إنه فرض، ومنهم من قال بترك التداوي، والبعض فصَّل في المسألة كشيخ الإسلام ، لكن الخلاصة في حكم التداوي : أنه مباح بغير محرم  للأحاديث التي ذكرت ، وتركه أفضل لمن حقق منزلة التوكل ، وله قدرة على تحمل آلام المرض, ومن لا قدرة له على تحمل الألم, يلجأ إلى التداوي مع كامل توكله وحسن اعتقاده ، ويُستحب التداوي لمن علم أن المرض يحول بينه وبين القيام بأمور الدين والدنيا

أو علم من حاله أن استمرار المرض ، قد يُفضي به إلى السخط والجزع ، فيُستحب له التداوي, حتى لا يترك مباحًا ويقع في المحذور  ويجب لمن علم أن هلاكه في ترك التداوي, لأن من مقاصد الشريعة حفظ النفس ، والتداوي بالأدوية الشرعية المباحة التي ليس فيها حرام، كالتداوي بقراءة القرآن والرقية الشرعية والتداوي بالكي  فالكي، لا بأس به عند الحاجة ، وقد رقى النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه، وقد رقاه جبريل عليه الصلاة والسلام، فالتداوي لا بأس به والنبي صلى الله عليه وسلم قال:(عباد الله تداووا ولا تداووا بحرام) الترمذي، فهو أمر مشروع ، ولا بأس به ، ولا ينافي التوكل. وتعاطي الأسباب لا ينافي التوكل بل هو من التوكل، وهكذا التداوي من التوكل، ولهذا أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى التداوي، وسئل عن الرقى والأدوية قال: (هي من قدر الله ) . وقال عمر رضي الله عنه لما أتى الشام وبلغه أن بالشام وباء الطاعون، انصرف الناس فرجع بهم وقال: (نفر من قدر الله إلى قدر الله). ثم أبلغه عبد الرحمن بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإذا سمعتم به في بلد فلا تقدموا عليه)  فسر بذلك؛ لأنه السنة.

والتداوي أمر مشروع على الصحيح وهو قول أكثر أهل العلم، ومن تركه فلا حرج عليه. وإذا ظن نفعه واشتدت الحاجة إليه تأكد؛ لأن تركه يضره، ويتعب نفسه، ويتعب أهله، ويتعب خدامه، فالتداوي فيه مصالح لنفسه ولأهله؛ ولأن التداوي يعين على أسباب الشفاء، ويعين على طاعة الله، وحتى يقوم بأمور تنفع الناس وتنفعه، فإذا تعطل بسبب المرض تعطلت أشياء كثيرة، وإن كان يثاب في حال المرض عما كان يعمله في حال الصحة كما في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له ما كان يعمل وهو صحيح مقيم ) البخاري . 

 

 

 

هل يجوز الإيجار المنتهي بالتملك

فإن مجلس هيئة كبار العلماء درس موضوع الإيجار المنتهي بالتمليك في دورته التاسعة والاربعين ، والخمسين ، والحادية والخمسين ، بناء على استفتاءات متعددة وردت إلى الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء ، واطلع على البحوث المعدة في الموضوع من قبل عدد من الباحثين .

وفي دورته الثانية والخمسين المنعقدة في الرياض ابتداء من تاريخ 29/10/1420 هـ . استأنف دراسة هذا الموضوع ، وبعد البحث والمناقشة رأى المجلس بالأكثرية أن هذا العقد غير جائز شرعا لما يأتي :

أولا : أنه جامع بين عقدين على عين واحدة غير مستقر على احدهما وهما مختلفان في الحكم متنافيان فيه . فالبيع يوجب انتقال العين بمنافعها إلى المشتري ، وحينئذ لا يصح عقد الإجارة على المبيع لأنه ملك للمشتري ، والإجارة توجب انتقال منافع العين فقط إلى المستأجر . والمبيع مضمون على المشتري بعينه ومنافعه ، فتلفه عليه عينا ومنفعة ، فلا يرجع بشيء منهما على البائع ، والعين المستأجرة من ضمان مؤجرها ، فتلفها عليه عينا ومنفعة ، إلا أن يحصل من المستأجر تعد أو تفريط .

ثانيا : أن الأجرة تقدر سنويا أو شهريا بمقدار مقسط يستوفى به قيمة المعقود عليه ، يعده البائع أجرة من أجل أن يتوثق بحقه حيث لا يمكن للمشتري بيعه .

مثال ذلك : إذا كانت قيمة العين التي وقع عليها العقد خمسين ألف ريال وأجرتها شهريا ألف ريال حسب المعتاد جعلت الأجرة ألفين ، وهي في الحقيقة قسط من الثمن حتى تبلغ القيمة المقدرة ، فإن أعسر بالقسط الأخير مثلا سحبت منه العين باعتبار أنها مؤجرة ولا يرد عليه ما أخذ منه بناء على أنه استوفى المنفعة . ولا يخفى ما في هذا من الظلم والإلجاء إلى الاستدانة لايفاء القسط الأخير .

ثالثا : أن هذا العقد وأمثاله أدى إلى تساهل الفقراء في الديون حتى أصبحت ذمم كثير منهم مشغولة منهكة ، وربما يؤدي إلى إفلاس بعض الدائنين لضباع حقوقهم في ذمم الفقراء .

ويرى المجلس أن يسلك المتعاقدان طريقا صحيحا وهو أن يبيع الشيء ويرهنه على ثمنه ويحتاط لنفسه بالاحتفاظ بوثيقة العقد واستمارة السيارة ونحو ذلك .

 

 

 

 

 هل كل غضب مذموم؟

وهل كل حلم ممدوح مطلقاً؟ فالأذى إذا ما نزل بنا فلا يدفع إلا بالغضب، والشر إذا نالنا لا يدفع إلا بالغضب، وحماية الدين والأعراض والشرف والكرامة لا تدفع إلا بالغضب للحق، فمن فقد قـوة الغضب فهو معدوم الرجولة  وإذا كان الغضب من أجل حماية الدين والأعراض ، ورداً للباطل، فقد امتدح الله غضب المؤمنين على الكفار فقال تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُم } سورة الفتح 29  وقال تعالى:{أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ }المائدة 54 .  وقال تعالى : { وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِين }التوبة 123 .

 

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى، أو سمع ما يكرهه الله غضب لذلك غضباً يرى أثره على وجهه وقال فيه قوله،  

ولما شُكي إليه الإمام الذي يطيل بالناس  في صلاة الفجر حتى يتأخر بعضهم عن الصلاة معه غضب واشتد غضبه، فقام ووعظ الناس ، وأمر بالتخفيف، فعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني لأتأخر عن الصلاة الصبح من أجل فلان مما يطيل بنا، قال فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم غضب في موعظة قط أشد مما غضب يومئذ، فقال: "يا أيها الناس، إن منكم منفرين، فأيكم أم الناس فليوجز، فإن من ورائه الكبير والضعيف وذا الحاجـة"(3).

 عبـاد الله: إن فقد قوة الغضب عندما تنتهك محارم لله جبن ضعف، يصير المرء به ذليلاً، حقيراً، لا يأنف من العار ولا يهمه، فلا يغضب لشرف ولا يغار لحرمه

وليس هو من الحلم في شيء، وإنما هو خور وذلة ودياثة، قال صلى الله عليه وسلم:" لن يدخل الجنة ديوث" قالوا: وما الديوث يا رسول الله؟ قال:" الذي لا يغار على أهله"(6).

 

وإذا لم يغضب الإنسان لعرضه ضاعت الأنساب، واختلطت الأولاد، بل كل أمة تموت الغيرة فيهم لا بد وأن تضيع العفة، والصيانة من نسائهم، وهذا هو الضعف والخور، والعجز والجبن، الذي استعاذ منه النبي صلى الله عليه وسلم وكيف لا يذم رجل لا يغضب لدينه إذا رأى المنكرات، وقد أمر بمحاربتها، وكيف يصلح المرء عيوب نفسه إذا لم يغضب عليها، ويشتد في ردها عن هواها(8).

أيها المؤمنون:

إن الغضب المحمود أن يكون لله ولدين الله فإذا اعتدي على الإسلام بالطعن والتشهير أو التشكيك فيه،كما يفعل المستشرقون والمستغربون والملحدون، ممن هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، الملبسون على الأغرار، والجهال فيجب أن نغضب انتصاراً لدين الله ودفاعاً عن شرعيته.

وما أكثر هؤلاء في أيامنا هذه، ممن يعتز بهم كثير من الناس  

فإذا أصاخ بسمعة ملؤوه من كذب وتلبيس ومن بهتان

 

ومن الغضب المحمود الغضب على من تعدى علي بلاد إسلامية، أو اعتدى على مسلم، أو مدح غير الدين الإسلامي، أو ذكر الله أو كتابه أو ملائكته أو رسله بسوء، أو سب صحابياً أو إماما مشهوراً بالتقوى والورع والاستقامة، أو طعن في أهل العلم، أو كذب على الله أو على رسله؛ أو أحل شيئاً من المحرمات أو حرم شيئاً مما أحله الله، أو استهان بكتاب الله أو سنة رسوله صلى الله وسلم أو كتب أهل العلم المحققين مثل الإمام أحمد والشافعي ومالك وأبي حنيفة والموفق والمجد وابن أبي عمر وشيخ الإٍسلام وابن القيم وابن كثير وابن رجب وابن مفلح ونحـوهـم من العلماء المشهورين بالاستقامة والبعد عن البدع.

ومن الغضب الممدوح الغضب على من مدح الكفرة والمنافقين وأئمة الضلال والحيارى؛ كابن عربي وابن رشد والفارابي وابن سيناء وابن كلاب والعفيف التلمساني، وابن سبعين، وابن الفارض، وابن الرواندي، والكوثري، والبوصيري، والمعري، ونحو هؤلاء من الملاحدة والزنادقة والمبتدعـة والفسقـة والظلمـة وأعوانهم.

ومن الغضب المحمود الغضب على من ابتدع في الدين بدعاً أو نشرها أو دعا إليها، أو مدح محليها، أو مدح الكفار، أو مدح الملاهي والمنكرات التي حطمت الأخلاق وقضت عليها وأتلفت الأموال، وقتلت الأوقات، وأورثت الخلق أفانين العداوات، وأحدثت التفرق في البيوت والقلوب...

إن الملاهي ألقت بيننـا إحنـاً        وأورثتنـا أفانـين العـداوات

وهل أصيب شباب اليوم وانحرفوا       إلا بتقليد أصحـاب الضلالات

من كان أهوج لا دين ولا أدب         ولا حيـاء ومعـدوم المـرؤات

يقلد الكفر في تطويل أظفره               أقبح به من سفيه عاث (9)

وعلى هذا النوع من الغضب المحمود يحمل قول الإمام الشافعي - رحمه الله - : من استغضب فلم يغضب فهو حمار(10).

أيها النـاس: أما الغضب المذموم شرعاً وعقلاً فهو الغضب الطائش الذي فيه حب الانتقام والإعجاب بالنفس، أو من أجل القبيلة والحزب وما أشبه ذلك.

فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال النبي صلى الله عليه وسلم : أوصني . قال :" لا تغضب" . فردد مراراً. قال : "لا تغضب"(11).

وعن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رجل: يا رسول الله أوصني: قال:" لا تغضب". قال الرجل: ففكرت حين قال النبي صلى الله وسلم ما قال، فإذا الغضب تجمع الشر كله(12).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب"(13).

وكان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إذا خطب قال في خطبته: أفلح من عصم من الهوى والغضب والطمع(14).

وقال عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه-: انظروا إلى حلم الرجل عند غضبه، وأمانته عند طمعـه، وما علمك بحلمه إذا لم يغضب، وما علمك بأمانته إذا لم يطمع(15).

وقال ابن القيم -رحمه الله-: دخل الناس النار من ثلاثة أبواب: باب شبهـة أورثت شكاً في دين الله، وباب شهوة أورثت تقديم الهوى على طاعته ومرضاته، وباب غضب أورثت العدوان على خلقه(16).

أيها المسلمون: فالغضب المذموم هو الذي يعمي صاحبه عن الحق، ويفقده بصره البصيرة، والفكر فتأخذه بالغرة بالإثم، ويعرض عن النصح إذا نصح، وربما زاد هيجاناً، وإذا روجع في قول ازداد سخطاً ومجاجاً. وقد يحدث منه ضرر على من حوله، وتجده متغيراً لونه، مرتعشة أعضاؤه، زائغاً بصره، وكالأعمى يسب الجماد والحيوان، ويبطش بكل ما يصادفه، حتى أنه يتلف الأثاث والرياش، وربما لا يشفي غله، وقد يحدث منه طلاق ولعن وسب وشتم، فهذا غضب مذموم قبيح مرذول ينتصر فيه إبليس على هذا الذي لا يملك نفسه عند الغضب كما قيل:

وما غضب الإنسان  إلا حماقة          إذا كان فيما ليس لله يغضب

ومثل هذا الغضب يهدم الجسم، ويتلف الصحة ويحرم صاحبه الراحـة والهناء، ويجعل نظرته إلى الحياة مظلمة سوداء، فالتفريط في الغضب ضعف، والإفراط تهـور وجنـون(17).

 

أيها المسلمون: كما أسلفنا أن الغضب طبيعة في الإنسان، ولكن من الناس من يغضب لله ومن أجل الله فيكون غضبه ممدوحاً، ومنهم من يغضب لنفسه وشيطانه وشهوته فيكون غضبه ممقوتاً مذموماً، ولكن  قد يقال: هل لذلك الغضب المذموم من علاج ودواء؟ ..

 فنقول : نعم ، يقول ابن رجب -رحمه الله -: عند شرحه لحديث : " لا تغضب" يحتمل أمرين: أحدهما : أن يكون مراده الأمر بالأسباب التي توجب حسن الخلق من الكرم والسخاء والحلم والحياء والتواضع والاحتمال  وكف الأذى، والصفح والعفو، وكظم الغيظ، والطلاقة والبشر، ونحو ذلك من الأخلاق الجميلة، فإن النفس إذا تخلقت بهذه الأخلاق، وصارت لها عادة أوجب لها ذلك دفع الغضب عند حصول أسبابه. والثاني: أن يكون المراد: لا تعمل بمقتضى الغضب إذا حصل لك، بل جاهد نفسك على ترك تنفيذه والعمل بما يأمر به، فإن الغضب إذا ملك ابن آدم كان كالأمر الناهي له، ولهذا المعنى قال الله تعالى: (وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ ) سورة الأعراف(154) فإذا لم يتمثل الإنسان ما يأمره به غضبه، وجاهد نفسه على ذلك، اندفع عنه شر الغضب، وربما سكن غضبه، وذهب عاجلاً، فكأنه حينئذ لم يغضب، وإلى هذا المعنى وقت الإشـارة في القرآن بقوله تعالى:(وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) سورة الشورى (37). وبقوله تعالى: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)سورة آل عمران) 134).

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر من غضب يتعاطى أسباب تدفع عنه الغضب وتسيكنه، ويمدح من ملك نفسه عند الغضب(18).

ويمكن وصف العلاج على سبيل الاختصار بالآتي:

1.   ذكر الله تعالى؛ فإن ذلك مما يدعوه إلى الخوف منه، وبالتالي طاعة الله، قال الله تعالى:(وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا )سورة الكهف42  قال عكرمـة: يعني إذا غضبت.

2.   أن يتفكر في الأخبار الواردة في فضل كظم الغيظ والعفو والحلم والاحتمال فيرغب في ثواب ذلك، فتمنعه شدة الحرص على ثواب هذه الفضائل عن  التشفي والانتقام، وينطفئ عنه غيظه؛ قال الله – تعالى-: (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ)سورة الشورى(37).   وقال تعالى : ( وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ )سورة آل عمران 133-134).  

وعن معاذ بن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من كتم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رؤوس الخلائق حتى يخيره من الحور العين، يزوجه منها ما شاء"(19). 

3- أن يتذكر أن الله أقوى وأقدر منه إن مضى في ظلم الناس، وهو أن يقول: قدرة الله علي   أعظم من قدرتي على هذا الإنسان ، فلو أمضيت فيه غضبي، لم آمن أن يمضي الله - عزوجل- غضبه علي يوم القيامة فأنا أحوج ما أكون إلى العفو؛ قال الله- تعالى-:( فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ )(20)سورة الشورى (40).

وقال عبد الله بن مسلم بن محارب لهارون الرشيد: يا أمير المؤمنين، أسألك بالذي أنت بين يديه أذل مني بين يديك، وبالذي هو أقدر على عقابك منك على عقابي لما عفوت عني، فعف عنه لما ذكره قدرة الله – تعالى- (21).

3.   أن يعلم أن غضبه إنما كان من شيء جرى على وفق مراد الله – تعالى- لا على وفق مراده هو فكيف يكون مراد نفسه أولى من مراد الله – تعالى-.

4.   أن يتحـول عن الحال التي كان عليها، فإن كان قائماً جلس وإن كان جالساً اضطجع، وعليه أن يتوضأ أو يستنشق؛ فعن أبي ذر – رضي الله عنه- قال إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لنا:" إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع"(22).

5.   أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم؛ فعن سليمان بن صرد قال : استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم ونحن عنده جلوس، وأحدهما يسب صاحبه مغضباً قد احمر وجهه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" فقالوا للرجل: ألا تسمع ما يقول النبي صلى الله عليه وسلم قال : إني لست بمجنـون (23).

6.         أن يتحلى بأخلاق من عرف بالحلم وكظم الغيظ والصفح والعفو عن الناس كالأنبياء، وعلى رأسهم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان لا ينتقم لنفسه صلى الله وسلم ولكن إذا انتهكت حرمات الله لم يقم لغضبه شيء (24)، ولم يضرب بيده خادماً ولا آمره إلا أن يجاهد في سبيل الله(25).

وخدمه أنس عشر سنين، فما قال له : " أف" قـط، ولا قال له لشيء فعله: لم فعلت كذا (26)، ولا لشيء لم يفعله "إلا فعلت كذا" ... وسئلت عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: كان خلقه القرآن(27)، تعني أنه تأدب بآدابه، وتخلق بأخلاقه، فما مدحه القرآن، كان فيه رضاه، وما ذمه القرآن، كان فيه سخطه، وجاء في رواية عنها قالت : كان خلقه القرآن يرضى لرضاه ويسخط لسخطه(28).

وليكن حاله كما حكي عن الأحنف بن قيس أنه قال : ما عاداني أحد قـط، إلا أخذت في أمره بإحدى ثلاث خصال : إن كان أعلى مني عرفت له قدره، وإن كان دوني رفعت قدري عنه، وإن كان نظيري تفضلت عليه...

سألزم نفسي الصفح عن كل مذنب            وإن كثرت منه إلي الجرائم

فما الناس إلا واحد من ثلاثة                      شريف و مشروف ومثل مقاوم

فأما الذي فوقي فأعرف قدره                    وأتبع فيه الحق والحق لازم

وأما الذي دوني فأحلم دائباً                    أصون به عرضي وإن لام لائم

وأما الذي مثلي فإن زل أو هفا                   تفضلت إن الفضل بالفخر حاكم(29).

 

2 - رواه البخاري  ومسلم.

3 - رواه مسلم.

4 - رواه البخاري ومسلم.

5 - رواه البخاري  ومسلم.

6 - رواه أحمد.          

7 - رواه مسلم.

 

11 - رواه البخاري .

12 - أحمد.

13 - رواه البخاري  ومسلم.

 19 - رواه أحمد.  وذكره الألباني في صحيح الجامع الصغير .

 22 - رواه أحمد  وأبو داود وذكره الألباني في صحيح أبي داود برقم(4000) والمشكاة  برقم(5114). 

23 - رواه البخاري  ومسلم.

24 - رواه البخاري  ومسلم.

25 - رواه مسلم.

26 - رواه البخاري ومسلم .

27 - رواه مسلم وأحد.

 

 

ما هو خطر الربا

لا شك أن هذا الموضوع جدير بالعناية، وقد تورط فيه كثير من الناس وإن كان هناك بحمد الله من هو يحذر الربا، ولكنه قد عم وطمَّ وقلَّ من يسلم منه، وقد جاء في الحديث الصحيح: (يأتي على الناس زمان يأكلون فيه الربا، قيل يا رسول الله: الناس كلهم. قال: من لم يأكله، ناله من غباره) أخرجه الإمام أحمد  فالأمر خطير بسبب كثرة البنوك وكثرة التساهل وضعف الإيمان، ولأن حب المال غريزة في النفوس  يجب على المؤمن أن يحوط هذه الغريزة بما جاء به الشرع حتى لا يقع فيما حرم الله، فقد قال جل وعلا:﴿ وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا ﴾الفجر20.  وقال سبحانه:﴿ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ﴾ العاديات8.  يعني المال، فلما كان المال محبوباً للنفوس، وبه تقضى الحاجات، وبه يستغني الإنسان عن الحاجة إلى الغير وفوائده كثيرة، لذا  على المسلم أن يحذر ما حرم الله عليه ، وأن لا يحمله حب المال على تعاطيه من غير طريقه الشرعي، وقد جاء الحديث الصحيح عن النبي عليه الصلاة والسلام: ( أنه لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه، وعن علمه فيم فعل، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه) أخرجه الترمذي ، وقد توعد آكل الربا بالنار، كما قال عز وجل: ﴿ وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ 6 ، يعني من عاد إلى الربا بعدما جاءته الموعظة، فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون، هذا وعيد عظيم لآكل الربا ، ومن استحل الربا ورآه حلالاً وأنكر تحريم الله له، فإنه يكون كافراً ويكون أتى بناقضٍ من نواقض الإسلام؛ لأنه استحل ما حرم الله من المحرمات المعلومة من الدين بالضرورة، فصار من الكافرين وانتقض إسلامه ، إذا كان ممن يعلم ذلك أو أقيمت عليه الحجة بذلك، لذا على المؤمن أن يتقي الله وأن يراقبه وأن يحذر الربا الذي حذر الله عباده منه، وآذنهم بالحرب إن هم فعلوه كما قال الله عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ البقرة  فيجب الحذر مما حذر الله منه، ولا ينبغي للعاقل أن يغتر بالناس، يقول: الناس فعلوا، قال تعالى:﴿ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾، وقال عز وجل:﴿ وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ ﴾ فليس فعل الناس قدوة في الباطل ، لأن الواجب اتباع الحق وإن قل أهله، ويجب التقيد بقيود الشريعة، فيما أحل الله من المكاسب وغيرها، ولعظم هذا الأمر قال تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ ﴾ فبدأ بالأكل من الطيبات قبل العمل، وهو الشكر، فالشكر هو العمل، لبيان عظم وخطر الأكل الحرام، فإن أكل الحرام يفضي إلى فساد القلب ومرضه، وقسوته أو إلى كفره ، فالواجب على البائع أن يبيع ما قد ملك، ولا يبيع ما لا يملك، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تبع ما ليس عندك)، ويقول: (لا يحل سلف وبيع، ولا بيع ما ليس عندك) فلا يبيعها وهي عند التاجر، أو يقبض الثمن، ولا يبيعها على من اشتراها منه، فيقع في العينة الذي جاء النهى عنه في الحديث الذي رواه  أبو داود  من حديث عبد الله بن عمرقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ، ورضيتم بالزرع ، وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعة حتى ترجعوا إلى دينكم ) وصححه ابن قطان والعلامة الألباني. والعينة: هي أن يبيع شياً بثمن مؤجل ثم يبيع المبيع من المشتري نفسه بثمن نقد أقل من ثمنه الأول .والغرض منه أن يجد ثمناً وهو حيلة في أكل أموال الناس بالباطل.

 

 

 

ما حكم لعب الأولاد في المساجد

بداية لا يجوز لأي أحد أن يتكلم في الحلال والحرام إلا أهل العلم العالمين بالكتاب والسنة وقد ورد التحذير الشديد فيمن يحلل ويحرم دون علم فقال تعالى: ﴿ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ ﴾ سورة النحل/116 .

إذا كان الأولاد لا يحدث منهم تشويش على المصلين فإنه لا يجوز إخراجهم من المساجد ، أما ما يحصل من بعض الآباء والأمهات الذين يأتون بأبنائهم الصغار غير المميزين ، والذين لا يدركون أهمية المسجد وحرمته ، فيتركونهم يلعبون ، فهؤلاء إلى الإثم أقرب منهم إلى الأجر ، لأنهم لم يخشعوا هم في صلاتهم ، ولم يتركوا المسلمين والمسلمات أن يخشعوا ويطمأنوا في صلاتهم ، بتركهم أطفالهم يعبثون ويلعبون ويركضون ويتعالى صياحهم في بيوت الله  ،  في هذه الحال لا يحل لأوليائهم إحضارهم ألى المساجد، فإن أحضروهم في هذه الحال أمروا بالخروج بهم ، ومن جاءوا لوحدهم ولم يُعرف أولياؤهم أُخرجوا من المسجد ، لأن الأصل تعظيم المساجد وتنزيهها عن كل ما لا يليق ، وما يحدث مناف لذلك ، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم  أمرنا بعدم التشويش على المصلي ولو بقراءة القرآن فكيف بالتشويش عليه باللعب . وأما الاستدلال بقصة لعب الحبشة في المسجد ، فالدليل صحيح والاستدلال غير صحيح لأنه إنما اذن لهم في اللعب تأليفا لقلوبهم على الإسلام ، فلم يكن لعباً مجرداً ، إنما  هو لتحقيق مقصود شرعي وهو التقوي والتمرن على أمر الجهاد  ولا يستدل به على جواز لعب الأولاد الذي يترتب عليه تشويش على المصلين .  وأما ما روى (  أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  كَانَ يُصَلِّي وَهْوَ حَامِلٌ أُمَامَةَ بِنْتَ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم   فَإِذَا سَجَدَ وَضَعَهَا ، وَإِذَا قَامَ حَمَلَهَا ) هذا الحديث يدل على جواز إدخال الصغار إلي المسجد  . وما روي عن بن بريدة عن أبيه قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم  على المنبر يخطب إذ أقبل الحسن والحسين عليهما السلام عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران فنـزل وحملهما فقال : صدق الله : ﴿ إنما أموالكم وأولادكم فتنة ﴾ رأيت هذين يمشيان ويعثران في قميصيهما فلم أصبر حتى نزلتُ فحملتهما . 

لنقف وقفة صريحة صادقة مع أنفسنا ، أأطفالنا اليوم هم أطفال الأمس من الصحابة والتابعين ؟ والاستدلال بركوب الحسن أو الحسين على ظهره عليه الصلاة والسلام لم يكن من فعله هو عليه الصلاة والسلام ولا فعله ابتداء وإنما وقع ذلك اتفاقاً .وما وقع اتفاقا من غير قصد فلا دليل فيه . وهل من وقع منه ذلك مرة أو مرتين كمن يتكرر منه ذلك في اليوم والليلة ؟  وهل يستدل بهذه الأحاديث على جواز كثرة اللعب والحركة ، مما يشوش على المصلّين الذي يذهب الخشوع ، وينقص الأجر، ثم إن الأطفال الذين دون سن التمييز لا يؤمن تلويثهم للمسجد، لعدم فهمهم بحرمة المكان، وصعوبة تأديبهم، والتحكم فيهم، فلذلك يتأكد على أوليائهم منعهم من دخول المساجد إلا بعد التأكد من فهمهم وتعلمهم احترام المسجد، وتربيتهم على النظافة والأدب، وحفظهم عن كثرة الحركة، وما يسبب ضررًا أو تشويشًا للمنظر الظاهر في بيوت الله التي أذن أن ترفع ، وقد روى ابن ماجه في سننه عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :  ( جنبوا مساجدكم صبيانكم، ومجانينكم .. الحديث ) وقد ضعفه علماء الحديث ، والحديث الضعيف يحتج به في فضائل الأعمال كما قال الفقهاء والله أعلم .

 

 

  ما حكم دفع الإكرامية والبقشيش  

 هذه المسألة من المسائل المهمة التي عمت بها البلوى في هذه الأزمنة ، حتى أصبح كثير من العمال لا يتورع عن سؤال ما يسمونه بالإكرامية ، ومنهم من يراها حقا واجبا له ، ومنهم من ينازع في قدرها إذا أعطيت له ، مع ما يصحب ذلك من التهاون في أداء العمل عند الشعور بفقدان الإكرامية أو ضعفها ، والنشاط في العمل عند من يبذل أكثر .

1.ومن تأمل ذلك وجد أن هناك مفاسد عدة تترتب على دفع هذه الإكراميات ، ويمكن تلخيصها فيما يلي :

2.أن العامل إذا كان يتقاضى أجرا من الجهة التي أرسلته ، فلا وجه لإعطاء الهدية له ، بل ظاهر السنة تحريمه ، فقد روى البخاري (7174) ومسلم (1832) عن أبي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ رضي الله عنه قَالَ : اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلا مِنْ بَنِي أَسْدٍ يُقَالُ لَهُ ابن اللُّتْبِيَّة عَلَى صَدَقَةٍ فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ : هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي ، فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ : ( مَا بَالُ الْعَامِلِ نَبْعَثُهُ فَيَأْتِي يَقُولُ : هَذَا لَكَ وَهَذَا لِي ، فَهَلا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَيَنْظُرُ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لا ؟ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا يَأْتِي بِشَيْءٍ إِلا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ أَوْ شَاةً تَيْعَرُ ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَتَيْ إِبْطَيْهِ أَلا هَلْ بَلَّغْتُ ثَلاثًا ) . والرغاء : صوت البعير ، والخُوار : صوت البقرة ، واليُعار : صوت الشاة .

3.فالفارق بين الهدية المحرمة ، والهدية الجائزة : أن ما كان لأجل عمل الإنسان ووظيفته ، فهو محرم ، وضابطه أن ينظر الإنسان في حاله ، لو لم يكن في هذا العمل ، هل كان سيُهدى إليه ؟ وهذا ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : ( فَهَلا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَيَنْظُرُ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لا ).

4.2- أن هذه الإكرامية تدعو العامل إلى محاباة الدافع ، حتى قد يعطيه ما ليس من حقه ، مما يعود بالضرر على صاحب العمل .

5.3- أنها تفسد قلب العامل على الآخرين الذين لا يدفعون له شيئاً ، فلا يحسن العمل لهم ، ويقصر في إكماله .

6.4- أنها تجرئ العامل على السؤال والطلب ، وتعوده على انتظار الإكرامية واستشراف نفسه لها ، فهي عادة سيئة ، ينبغي القضاء عليها ومحاربتها ، لأن الإسلام يدعو إلى عزة النفس وسموها وارتفاعها عن التطلع إلى ما في يد الآخرين ، بل يحرّم المسألة إلا عند الضرورة ، ولا يرضى أن تتحول هذه الشريحة الكبيرة من الأمة إلى متسولين ، ولو كان تسولا مغلفا باسم الإكرامية أو العمولة .

7.وهذه المفاسد تعارضها مصلحة الإحسان إلى العامل والتصدق عليه إذا كان فقيراً ، أو إجابة سؤاله كراهة رد السائل .

8.والقاعدة المقررة عند أهل العلم أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ، وعليه فلا يجوز دفع ما يسمى بالإكرامية ، إلا في صورة ضيقة تخلو من هذه المفاسد ، كأن يكون العامل قد فرغ من عمله ، ولا يُتوقع أن يقوم بعمل آخر للدافع ، فتنتفي شبهة الرشوة والمحاباة ، فيجوز إعطاء شيء له من باب الإكرام أو المساعدة ، على ما أفتى به بعض أهل العلم كما سيأتي ، والأولى عدم ذلك ؛ لأن مفسدة تعويده على الطلب والتطلع موجودة ، وكذلك مفسدة إفساد قلبه على من لا يدفع .

9.ومن كلام أهل العلم في هذه المسألة :

1-                  ما جاء في فتاوى اللجنة الدائمة (23/548) : ما حكم الشرع فيمن أُعطي له مال وهو في عمله بدون طلب منه أو احتيال لأخذ ذلك المال ، مثال ذلك : العمدة أو شيخ الحارة ( الحي ) يأتيه الناس ليعطيهم شهادات ؛ لأنهم من سكان حارته ، ويعطونه فلوسا على ذلك ... فهل يجوز أخذ هذا ، وهل يعتبر هذا المال حلالا ؟ وهل يُستدل على جواز ذلك بحديث سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه عبد الله بن عمر ، عن عمر رضي الله عنهم قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيني العطاء فأقول : أعطه من هو أفقر إليه مني ، فقال : ( خذه ، إذا جاءك من هذا المال شيء وأنت غير مُشْرفٍ ولا سائل فخذه فتموله ، فإن شئت تصدق به ، وما لا فلا تتبعه نفسك ) قال سالم : فكان عبد الله لا يسأل أحدا شيئا ولا يرد شيئا أعطيه متفق عليه .

  1. الجواب : إذا كان الواقع ما ذكر فما يدفع لهذا العمدة حرام ؛ لأنه رشوة . ولا صلة لحديث ابن عمر رضي الله عنهما بهذا الموضوع ؛ لأنه في حق من أُعطي شيئا من بيت مال المسلمين من والي المسلمين دون سؤال أو استشراف نفس " انتهى .
  2. 2- وسئل الشيخ صالح الفوزان حفظه الله : لدينا قصر أفراح ، وفيه طباخون ، وبعض الطباخين يطلب إكرامية بالإضافة إلى راتبه ؛ فهل يجوز إعطاء العامل مبلغًا من المال إكرامية؛ حيث إنه تعود أخذه من الناس‏؟‏
  3. فأجاب : " إذا كان هناك عامل من العمال له راتب وله أجر مقطوع من صاحب العمل ؛ فلا يجوز لأحد أن يعطيه ؛ لأن هذا يفسده على الآخرين ؛ لأن بعض الناس فقراء لا يستطيعون إعطاءهم ؛ فهذا العمل سنة سيئة‏ " انتهى من "المنتقى في فتاوى الشيخ الفوزان" ج 3 سؤال رقم (233).
  4. 3- وسئل الشيخ عبد الرحمن البراك حفظه الله : ما حكم إعطاء عامل المطعم زيادة علماً أن بعض الفواتير بها بقشيش ؟
  5. فأجاب : " لا يجوز إعطاء العامل هذه الزيادة لأنها تعتبر رشوة منك للعامل حتى يعطيك من الخدمة أو الطعام أكثر مما يعطي غيرك ممن لا يدفع له هذه الزيادة ، وليس للعامل أن يخص أحداً بمزيد خدمة ، وعليه أن يعامل الناس معاملة واحدة . لكن .. إذا انتفت من هذه الزيادة شبهة الرشوة أو المحاباة فإنه لا حرج فيها حينئذ .
  6. كما لو قصدت بها الإحسان إلى هذا العامل الضعيف المحتاج وأنت لن تتردد على هذا المطعم رواه البخاري (6578) ومسلم (1832) عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ : اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا مِنْ الْأَسْدِ يُقَالُ لَهُ ابْنُ اللُّتْبِيَّةِ عَلَى الصَّدَقَةِ ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ : هَذَا لَكُمْ وَهَذَا لِي أُهْدِيَ لِي ، قَالَ : فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ : مَا بَالُ عَامِلٍ أَبْعَثُهُ فَيَقُولُ هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي أَفَلا قَعَدَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ فِي بَيْتِ أُمِّهِ حَتَّى يَنْظُرَ أَيُهْدَى إِلَيْهِ أَمْ لا ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لا يَنَالُ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْهَا شَيْئًا إِلا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى عُنُقِهِ بَعِيرٌ أَوْ بَقَرَةٌ أَوْ شَاةٌ ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ : ( اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ مَرَّتَيْنِ ) قال النووي – رحمه الله - : " في هذا الحديث بيان أن هدايا العمال حرام ، ولهذا ذكر في الحديث عقوبته وحمله ما أُهدي إليه يوم القيامة ، وقد بين صلى الله عليه وسلم في نفس الحديث السبب في تحريم الهدية عليه وأنها بسبب الولاية ، بخلاف الهدية لغير العامل ، فإنها مستحبة ، وحكم ما يقبضه العامل ونحوه باسم الهدية أنه يرده إلى مُهْديه ، فإن تعذر : فإلى بيت المال " . شرح مسلم  ، وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ اسْتَعْمَلْنَاهُ عَلَى عَمَلٍ فَرَزَقْنَاهُ رِزْقًا فَمَا أَخَذَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ غُلُولٌ ) . ومعنى الحديث : من جعلناه على عمل وأعطيناه على ذلك مالاً ، فلا يحل له أن يأخذ شيئاً بعد ذلك ، فإن أخذ فهو غلول ، والغلول هو الخيانة في الغنيمة وفي مال بيت مال المسلمين .

رواه أبو داود ( 2943 ) وصححه الألباني في " صحيح أبي داود " .

ففي هذين الحديث دليل على أنه لا يجوز لمن كان موظفاً يأخذ راتباً من دائرته أن يقبل مالاً أو هدية من أحدٍ بسبب وظيفته ، فإن فعل كان غلولاً .

وسئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى : نحن موظفون حكوميون تأتينا في رمضان إكراميات وزكوات من بعض رجال الأعمال ، ولا نستطيع التفرقة بين الزكوات والإكراميات لعدم علمنا بذلك .

والسؤال : إذا أخذنا هذه الأموال ونحن في غنى عنها وأنفقناها على الأرامل والأيتام والفقراء ما الحكم ؟ وإذا أنفقنا منها على أسرنا وأكلنا منها ، ما الحكم ؟

فأجاب : " هدايا العمال من الغلول ، يعني : إذا كان الإنسان في وظيفة حكومية وأهدى إليه أحد ممن له صلة بهذه المعاملة فإنه من الغلول ، ولا يحل له أن يأخذ من هذا شيئاً ولو بطيب نفس منه . مثال ذلك : لنفرض أن لك معاملة في دائرة ما ، وأهديت لمدير هذه الدائرة ، أو لموظفيها هدية فإنه يحرم عليهم قبولها ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن اللُّتْبيَّة على الصدقة فلما رجع قال هذا أهدي إلي وهذا لكم ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فخطب الناس وقال : ( ما بال الرجل منكم نستعمله على العمل فيأتي ويقول : هذا لكم ، وهذا أهدي إلي ، فهلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى له أم لا ) فلا يحل لأحد موظف في دائرة من دوائر الحكومة أن يقبل الهدية في معاملة تتعلق بهذه الدائرة ، ولأننا لو فتحنا هذا الباب وقلنا : يجوز للموظف قبول هذه الهدية : لكنا قد فتحنا باب الرشوة ، والرشوة خطيرة جداً وهي من كبائر الذنوب ، فالواجب على الموظفين إذا أهدي لهم هدية فيما يتعلق بعملهم أن يردوا هذه الهدية ، ولا يحل لهم أن يقبلوها ، سواء جاءتهم باسم هدية ، أو باسم الصدقة ، أو باسم الزكاة ، ولاسيما إذا كانوا أغنياء ، فإن الزكاة لا تحل لهم كما هو معلوم " .

فالفارق بين الهدية المحرمة ، والهدية الجائزة : أن ما كان لأجل عمل الإنسان ووظيفته ، فهو محرم ، وضابطه أن ينظر الإنسان في حاله ، لو لم يكن في هذا العمل ، هل كان سيُهدى إليه ؟ وهذا ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : ( فَهَلا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَيَنْظُرُ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لا ).

2- أن هذه الإكرامية تدعو العامل إلى محاباة الدافع ، حتى قد يعطيه ما ليس من حقه ، مما يعود بالضرر على صاحب العمل .

3- أنها تفسد قلب العامل على الآخرين الذين لا يدفعون له شيئاً ، فلا يحسن العمل لهم ، ويقصر في إكماله .

4- أنها تجرئ العامل على السؤال والطلب ، وتعوده على انتظار الإكرامية واستشراف نفسه لها ، فهي عادة سيئة ، ينبغي القضاء عليها ومحاربتها ، لأن الإسلام يدعو إلى عزة النفس وسموها وارتفاعها عن التطلع إلى ما في يد الآخرين ، بل يحرّم المسألة إلا عند الضرورة ، ولا يرضى أن تتحول هذه الشريحة الكبيرة من الأمة إلى متسولين ، ولو كان تسولا مغلفا باسم الإكرامية أو العمولة .

وهذه المفاسد تعارضها مصلحة الإحسان إلى العامل والتصدق عليه إذا كان فقيراً ، أو إجابة سؤاله كراهة رد السائل .

والقاعدة المقررة عند أهل العلم أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ، وعليه فلا يجوز دفع ما يسمى بالإكرامية ، إلا في صورة ضيقة تخلو من هذه المفاسد ، كأن يكون العامل قد فرغ من عمله ، ولا يُتوقع أن يقوم بعمل آخر للدافع ، فتنتفي شبهة الرشوة والمحاباة ، فيجوز إعطاء شيء له من باب الإكرام أو المساعدة ، على ما أفتى به بعض أهل العلم كما سيأتي ، والأولى عدم ذلك ؛ لأن مفسدة تعويده على الطلب والتطلع موجودة ، وكذلك مفسدة إفساد قلبه على من لا يدفع .

ومن كلام أهل العلم في هذه المسألة :

1- ما جاء في فتاوى اللجنة الدائمة (23/548) : ما حكم الشرع فيمن أُعطي له مال وهو في عمله بدون طلب منه أو احتيال لأخذ ذلك المال ، مثال ذلك : العمدة أو شيخ الحارة ( الحي ) يأتيه الناس ليعطيهم شهادات ؛ لأنهم من سكان حارته ، ويعطونه فلوسا على ذلك ... فهل يجوز أخذ هذا ، وهل يعتبر هذا المال حلالا ؟ وهل يُستدل على جواز ذلك بحديث سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه عبد الله بن عمر ، عن عمر رضي الله عنهم قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيني العطاء فأقول : أعطه من هو أفقر إليه مني ، فقال : ( خذه ، إذا جاءك من هذا المال شيء وأنت غير مُشْرفٍ ولا سائل فخذه فتموله ، فإن شئت تصدق به ، وما لا فلا تتبعه نفسك ) قال سالم : فكان عبد الله لا يسأل أحدا شيئا ولا يرد شيئا أعطيه متفق عليه .

الجواب : إذا كان الواقع ما ذكر فما يدفع لهذا العمدة حرام ؛ لأنه رشوة . ولا صلة لحديث ابن عمر رضي الله عنهما بهذا الموضوع ؛ لأنه في حق من أُعطي شيئا من بيت مال المسلمين من والي المسلمين دون سؤال أو استشراف نفس " انتهى .

2- وسئل الشيخ صالح الفوزان حفظه الله : لدينا قصر أفراح ، وفيه طباخون ، وبعض الطباخين يطلب إكرامية بالإضافة إلى راتبه ؛ فهل يجوز إعطاء العامل مبلغًا من المال إكرامية؛ حيث إنه تعود أخذه من الناس‏؟‏

فأجاب : " إذا كان هناك عامل من العمال له راتب وله أجر مقطوع من صاحب العمل ؛ فلا يجوز لأحد أن يعطيه ؛ لأن هذا يفسده على الآخرين ؛ لأن بعض الناس فقراء لا يستطيعون إعطاءهم ؛ فهذا العمل سنة سيئة‏ " انتهى من "المنتقى في فتاوى الشيخ الفوزان"  

3- وسئل الشيخ عبد الرحمن البراك حفظه الله : ما حكم إعطاء عامل المطعم زيادة علماً أن بعض الفواتير بها بقشيش ؟ فأجاب : " لا يجوز إعطاء العامل هذه الزيادة لأنها تعتبر رشوة منك للعامل حتى يعطيك من الخدمة أو الطعام أكثر مما يعطي غيرك ممن لا يدفع له هذه الزيادة ، وليس للعامل أن يخص أحداً بمزيد خدمة ، وعليه أن يعامل الناس معاملة واحدة . لكن .. إذا انتفت من هذه الزيادة شبهة الرشوة أو المحاباة فإنه لا حرج فيها حينئذ . كما لو قصدت بها الإحسان إلى هذا العامل الضعيف المحتاج وأنت لن تتردد على هذا المطعم ". 

ما حكم جمع الصلاة بسبب المطر

ما حكم من يتعمد الذهاب لمسجد معين من أجل جمع الصلاة بعذر المطر؛ حيث إن إمام مسجد الحي لا يجمع؟ أو من يتعمد ترك مصلى العمل ليذهب إلى المسجد في الشتاء من أجل الجمع؟ وهل يعد ذلك من تتبع الرخص؟ وهل هو بحكم من سافر في نهار رمضان من أجل الفطر لا من أجل السفر؟

الإجابــة

 قال ابن عثيمين في فتاوى لقاء الباب المفتوح : " أرى أن هذا يشبه من سافر في رمضان من أجل أن يفطر، والعلماء قالوا: إذا سافر في رمضان من أجل أن يفطر حرم عليه السفر والفطر؛ لأن هذا الرجل الآن لم يذهب من أجل الرخصة، ربما يكون تعبه في ذهابه من مسجد حيه إلى المسجد الثاني أكثر من تعبه إذا انتظر إلى صلاة العشاء، لكن يريد أن يتخلص من الصلاة، فكأنه يقول: أرحنا من الصلاة، ولا يقول: أرحنا بالصلاة. أرى مثل هذا إن لم تكن صلاته باطلة فهي إلى البطلان أقرب منها إلى الصحة؛ لأن هذا ما ذهب إلى المسجد الذي يجمع من أجل السهولة، إنما ذهب من أجل التخلص، وإلا فمن المعلوم أن السهولة إذا جاء إلى مسجده في وقت الصلاة مع قربه أفضل وأسهل له، فأنا في شك من صحة صلاته.

ونصيحتي للمسلمين: أن يتقوا الله -عز وجل-، وأن يعلموا أن الله فرض الصلاة، وجعلها كتابًا موقوتًا في وقت معين، لا يحل لإنسان أن يقدم صلاته على وقتها، وإذا قدمها لم تقبل منه، لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد) إلا إذا كان هناك عذر شرعي فلا بأس.

ثم نقول لهذا الرجل: اذهب الآن إلى بيتك، وإذا أذن العشاء فإن كان عندك قدرة أن تحضر إلى المسجد احضر، وإن كانت السماء تمطر ويلحقك مشقة فصلِ في بيتك، ولك أجر الجماعة كاملة؛ لأنك تخلفت عنها لعذر، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (من مرض أو سافر كتب له ما كان يعمل صحيحًا مقيمًا).

أما الحالاتُ التي يجوز فيها الجمعُ بين الصّلاتين في الحضرِ في فصلِ الشّتاءِ غالبًا فمنها: المطرُ، والبَرْدُ الشّديدُ، والرّيحُ العاصفُ، والوَحَلُ الكثيرُ، والثّلجُ ونحوُها، أمّا المطرُ فيجوز فيه الجمعُ سواءً كان نازلاً أو متوقَّعَ النُّزولِ، أمّا البردُ والثّلجُ والوَحَلُ فيجوز فيها الجمعُ وإن لم يكنِ المطرُ نازلاً لحصولِ الضّيقِ والحرجِ على المكلَّفين، و«المشَقَّةُ تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ»، ولا يخفى أنّ الصّلاةَ في المسجدِ جمعًا أولى من الصّلاةِ في البيوتِ مفرَّقةً، ولأنّ ما انعقد عليه الإجماعُ أولويّةُ إقامِ الصّلاةِ المفروضةِ في المسجدِ جماعةً على إقامتِها في البيوتِ قولاً واحدًا.  فالذين يسارعون إلى الجمع لمجرد وجود غيم أو مطر خفيف لا يحصل منه مشقة، أو لحصول مطر سابق لم ينتج عنه وحل في الطرق، فإنهم قد أخطأوا خطأ كبيرا، ولا تصح منهم الصلاة التي جمعوها إلى ما قبلها؛ لأنهم جمعوا من غير عذر، وصلوا الصلاة قبل دخول وقتها،  وأيضا لا يجوز الجمع بين الجمعة والعصر؛ لأن ذلك لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم – ولا عن أصحابه رضي الله عنهم؛ ولأن الجمعة ليست من جنس العصر، فمن جمع بين الجمعة والعصر فعليه أن يعيد صلاة العصر؛ لكونه صلاها قبل وقتها لغير مسوغ شرعي. وقد وقع نزول المطر وقت صلاة الجمعة في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم – وهو يصلي بالناس الجمعة، ولم يجمع بهم عليه الصلاة والسلام. أمّا إن جمع الإمامُ مع انتفاءِ الحرجِ كليًّا فللمقتدي أن ينوِيَ به فضْلَ الجماعةِ نفلاً ثمّ يقيمُها فرضًا بعد دخولِ وقتِها في المسجدِ مع المتخلِّفين عن الصّلاةِ أو في البيتِ مع جماعةٍ إن أمكنه ذلك؛ لقولِه صلّى اللهُ عليه وآلِه وسَلّم في قصّةِ الرّجلين: ( إذَا صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمَا ثُمّ أَتَيْتُمَا مَسْجِدَ جَمَاعَةٍ فَصَلِّيا مَعَهُمْ، فَإِنَّهَا لَكُمَا نَافِلَةٌ ) علماً أنّ الجمعَ لا يختصّ بالسّفرِ، وإنّما يتعلّق بالحرجِ والحاجةِ، بخلافِ القصرِ فإنّه يتعلّق بالسّفرِ، إذِ القصرُ سنّةٌ راتبةٌ واجبةٌ على الرّاجحِ، والجمعُ رخصةٌ عارضةٌ، وعليه فلا يجوز اتّخاذُ الجمعِ عادةً يُترخَّص بها مع تخلّفُ علّتِه المتمثّلةِ في دفعِ الحرجِ والمشقّةِ أو وجودِ الحاجةِ، قال النّوويُّ -رحمه الله-: «وذهب جماعةٌ من الأئمّةِ إلى جوازِ الجمعِ في الحضرِ للحاجةِ لمن لا يتّخذه عادةً، وهو قولُ ابنِ سيرينَ، وأشهبَ من أصحابِ مالكٍ، وحكاه الخطّابيُّ عن القفّالِ الشّاشيِّ الكبيرِ من أصحابِ الشّافعيِّ عن أبي إسحاقَ المروَزيِّ عن جماعةٍ من أصحابِ الحديثِ، واختاره ابنُ المنذرِ، ويؤيّده ظاهرُ قولِ ابنِ عبّاسٍ: «أَرَادَ أَنْ لاَ يُحْرِجَ أُمَّتَهُ».

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

000000000000

١- أخرجه التّرمذيّ في «الصّلاة»: (219). والنّسائيّ في «الإمامة»: (858)، وأحمد (17474) وأخرجه أبو داود في «الصّلاة» (575) بلفظ: «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فِي رَحْلِهِ ثُمَّ أَدْرَكَ الإِمَامَ وَلَمْ يُصَلِّ، فَلْيُصَلِّ مَعَهُ فَإِنَّهَا لَهُ نَافِلَةٌ»، من حديث يزيد بن الأسود العامريّ رضي الله عنه. وصحّحه النّوويّ في «الخلاصة» (1/ 271)، وابن الملقّن في «البدر المنير» (4/ 412)، والألبانيّ في «صحيح الجامع» (667).

٢- أخرجه مسلم في «صلاة المسافرين وقصرها» (1/ 319) رقم: (705).

٣- «شرح مسلم» للنّوويّ (5/ 219)

000000000000000

إذا تقدم صبي صغير إلى الصف الأول في الصلاة ، فهل يجوز أن نؤخره ليصلي مكانه رجل كبير؟

الجواب :

الحمد لله

أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أهل العلم والفضل أن يتقدموا إلى الصلاة ، ويكونوا قريبين منه صلى الله عليه وسلم ، فقال : (لِيَلِنِي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ). رواه مسلم (432) .

غير أن هذا الحديث ليس نهياً لغيرهم عن التقدم ، وإنما هو حث لأولي الأحلام والنهى بالتقدم إلى الصلاة ، حتى يكونوا خلف الإمام ، وفي الصفوف الأولى ، فإن تكاسلوا وتأخروا عن الحضور إلى الصلاة ، فمن سبق إلى الصف الأول أو خلف الإمام فهو أحق به ، ولو كان صبياً صغيراً ، فالمراد به التحريض على المسارعة إلى الصلاة من ذوي الأحلام والنهى وأن يكونوا في مقدم الناس ، وليس معناه تأخير من سبقهم من أجلهم

وقال الشيخ ابن عثيمين : لمساجدُ بيوتُ الله ، يستوي فيها عباد الله ، فإذا تقدَّم الصبيُّ إلى الصفِّ الأول ـ مثلاً ـ وجَلَسَ فليكنْ في مكانِه ، ولأننا لو قلنا بإزاحة الصِّبيان عن المكان الفاضل ، وجعلناهم في مكان واحد أدى ذلك إلى لَعبِهم ؛ لأنَّهم ينفردون بالصَّفِّ " وقال : " يجوز أن يكون الصبيان في الصف ولو قطعوا الصف ؛ لأنهم بشر ليسوا حجراً وليسوا أعمدة , فهم لا يقطعون الصفوف , ولا يجوز لأحد أن يبعدهم من مكانهم - أيضاً - حتى ولو كانوا خلف الإمام مباشرة في الصف الأول ، فإنه لا يحل لأحد أن يبعدهم من مكانهم "

 

نا بحاجة للسرعة في إنجاز المعاملة، ولم أحق باطلا، ولا أبطلت حقا إنما عجلت سير المعاملة، مقابل مبلغ دفعته

في إنجاز المعاملة مقابل مبلغ من المال، يدفع للموظف أنه من باب هدايا العمال، وهي حرام شرعا؛ لأن الاستعجال المذكور لا يخلو من أن يكون مستحقا للمراجع، ومن ضمن عمل الموظف الواجب الذي يتقاضى عليه راتبا، فلا يجوز له أخذ مال مقابله، أو أن يكون لا يستحقه المراجع، فيبذل المال توصلا إليه، وهذا لا يجوز أيضا وهو رشوة.

 

 

 

 

 وقوف الصبيان في الصف الأول في الصلاة

أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أهل العلم والفضل أن يتقدموا إلى الصلاة ، ويكونوا قريبين منه صلى الله عليه وسلم ، فقال : (لِيَلِنِي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ). رواه مسلم (432) . غير أن هذا الحديث ليس نهياً لغيرهم عن التقدم ، وإنما هو حث لأولي الأحلام والنهى بالتقدم إلى الصلاة ، حتى يكونوا خلف الإمام ، وفي الصفوف الأولى ، فإن تكاسلوا وتأخروا عن الحضور إلى الصلاة ، فمن سبق إلى الصف الأول أو خلف الإمام فهو أحق به ، ولو كان صبياً صغيراً ، فالمراد به التحريض على المسارعة إلى الصلاة من ذوي الأحلام والنهى وأن يكونوا في مقدم الناس ، وليس معناه تأخير من سبقهم من أجلهم

وقال الشيخ ابن عثيمين : المساجدُ بيوتُ الله ، يستوي فيها عباد الله ، فإذا تقدَّم الصبيُّ إلى الصفِّ الأول ـ مثلاً ـ وجَلَسَ فليكنْ في مكانِه ، ولأننا لو قلنا بإزاحة الصِّبيان عن المكان الفاضل ، وجعلناهم في مكان واحد أدى ذلك إلى لَعبِهم ؛ لأنَّهم ينفردون بالصَّفِّ " وقال : " يجوز أن يكون الصبيان في الصف ولو قطعوا الصف ؛ لأنهم بشر ليسوا حجراً وليسوا أعمدة , فهم لا يقطعون الصفوف , ولا يجوز لأحد أن يبعدهم من مكانهم - أيضاً - حتى ولو كانوا خلف الإمام مباشرة في الصف الأول ، فإنه لا يحل لأحد أن يبعدهم من مكانهم "

 

 

 

نا بحاجة للسرعة في إنجاز المعاملة، ولم أحق باطلا، ولا أبطلت حقا إنما عجلت سير المعاملة، مقابل مبلغ دفعته

في إنجاز المعاملة مقابل مبلغ من المال، يدفع للموظف أنه من باب هدايا العمال، وهي حرام شرعا؛ لأن الاستعجال المذكور لا يخلو من أن يكون مستحقا للمراجع، ومن ضمن عمل الموظف الواجب الذي يتقاضى عليه راتبا، فلا يجوز له أخذ مال مقابله، أو أن يكون لا يستحقه المراجع، فيبذل المال توصلا إليه، وهذا لا يجوز أيضا وهو رشوة.

 

 

 

 

ما حكم دفع المال لإنجاز المعاملة

في إنجاز المعاملة مقابل مبلغ من المال، يدفع للموظف أنه من باب هدايا العمال، وهي حرام شرعا؛ لأن الاستعجال المذكور لا يخلو من أن يكون مستحقا للمراجع، ومن ضمن عمل الموظف الواجب الذي يتقاضى عليه راتبا، فلا يجوز له أخذ مال مقابله، أو أن يكون لا يستحقه المراجع، فيبذل المال توصلا إليه، وهذا لا يجوز أيضا وهو رشوة.

أكل أموال الناس بالباطل

موضوع لا يهتم به الكثيرون ، وما علموا أن أخذ أموال الناس بالباطل من الكبائر    ومن لا يهتم من أين اكتسب المال ، فإنه يخالف منهج الله عزَّ وجل ،  الذي قال :  ﴿وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ ﴾البقرة  188 لا يأخذ بعضكم أموال بعض ، ولا يستولي عليها بغير حق ، وقد اعتبرت الشريعة الإسلامية المال من الضروريات الخمس التي جاءت الشريعة بوجوب حمايته ، بل سعى الشارع إلى المحافظة عليه ، فمنع أخذه بغير حق شرعي ، ولذلك نهى الله  عن أكل الأموال بالباطل، فقال تعالى : ﴿ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ البقرة ١٨٨.قال ابن عباس رضي الله عنه :"هذا في الرجل يكون عليه مال   وليس عليه بينة ، فيجحد المال ، ويخاصم إلى الحكام ، وهو يعرف أنّ الحقّ عليه، وقد علم أنه آثمٌ آكلُ حرام " الدر المنثور ، فالدَّيْنُ أمرُه عظيمٌ ، لتعلُّق حق الغير بذمة المدين، ولو لم يَرِدْ في ذلك إلا قولُ رسول الله صلى الله عليه وسلم  : (يُغفَر للشهيد كلُّ ذنب إلا الدَّين)مسلم ، لكفى ذلك زاجرًا عن إشغال الذمة من غير حاجة ، لذا يحرم على المسلم أن يماطل أو يتأخر في سداد الدين الثابت في الذمة ، وهذا داخل في ظلم الأموال  وهو من الذنوب العظيمة ، التي نهى عنها الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقد نص الفقهاء على أن المماطل فاسق ، ترد شهادته لظلمه وتهاونه بالحقوق. روى البخاري ومسلم وغيرهما عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:( مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ وَإِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ ) أي إذَا أُحِيلَ بِالدَّيْنِ الَّذِي لَهُ عَلَى مُوسِرٍ، فَلْيَحْتَلْ ، وإذا ماطل المدين ، فإنه يحل للدائن أن يشتكيه عند الحاكم ، ويحل للحاكم حبسه حتى يوفيه دينه ، لأنه ظلمه في ماله لقول الرسول صلى الله عليه وسلم  : ( لَيُّ الْوَاجِدِ-أي مطله- يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ )رواه أبوداود. وإذا لم يجد الدائن سبيلا عليه ، أبيح له أن يدعو على المدين لأنه مظلوم ، وقد جعل الشارع   دعوة المظلوم مستجابة ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) متفق عليه.

لذا ينبغي على المؤمن أن يتخلص من حقوق الغير في الدنيا ، ويوفيهم أموالهم قبل أن يقتصوا منه يوم القيامة ، فيأخذوا من حسناته ، فإن نفدت طرحوا عليه سيئاتهم وقد حذّر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك بقوله: ( مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلمَةٌ لأَخِيه ، مِنْ عِرضِهِ أَوْ مِنْ شَيْءٍ ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ اليَوْمَ قبْلَ أنْ لاَ يَكُونَ دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه) رواه البخاري. والمماطل إن نجا من عقوبة الدنيا ، فلن ينجو من عقوبة الآخرة ، وهذا يدل على خطورة الموقف وعظم الحساب فليحذر المؤمن من هذا الأمر أشد الحذر.

 ولو قال قائل : من يضحي أكثر ؟ الشهيد، أم الذي ينفق المال ، ومع ذلك: ( يغفر للشهيد كل ذنبٍ إلا الدين ) من الجامع الصغير: عن ابن عمر ، ورغم أن الشهيد قدم أثمن ما يملك ، لكنه لم ينجو من موضوع الدين  لقوله صلى الله عليه وسلم : ( أعليه دين ؟ ـ قالوا: نعم. ـ قال: صلوا على صاحبكم  فقال أحدهم: عليَّ دينه. فصلى عليه النبي  سأله: أأديت الدين ؟  قال: لا ، سأله مرةً ثانية: أأديت الدين ؟ قال: لا ، سأله ثالثةً: أأديت الدين ؟  قال: نعم ، قال: الآن ابترد جلده ) ، ومن المعلوم أن الذنوب ثلاثة: ذنبٌ لا يغفر وهو الشرك، وذنبٌ لا يترك وهو ظلم العباد بعضهم بعضاً، وذنبٌ يغفر ما كان بين العبد وبين الله ، فمن أكل حقوق العباد، لا تنفعه صلاته، ولا صيامه  ولا حجه ، لأن حقوق العباد  مبنيةٌ على المسامحة ، فلا يجوز أخذها إلا بطيب نفس صاحبها ،  عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم النحر، فقال: (يا أيها الناس، أي يوم هذا؟ قالوا: يوم حرام، قال: فأي بلد هذا؟ قالوا: بلد حرام، قال: فأي شهر هذا؟ قالوا: شهر حرام، قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، فأعادها مرارًا ) رواه البخاري ، اشتمل الحديث على جملة من المحرمات؛ وذكر منها النهي عن أكل الأموال، كما دل على ذلك ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (  كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله وعرضه). هناك من يفرح إذا أخذ أو ظفر بحق أخيه وامتنع عن قضاء دينه واعتبر ذلك ذكاءً ودهاءً وقوة ، إذ لا يهمه أن هذا المال حرام أو حلال ، لكن المهم عنده أنه حصل عليه ، دون خوف من الله  ، ونسي وعيد الله ودعاء المظلومين ، وعذاب قلوبهم المتجهة إلى ربها ، ترفع أكف الضراعة إلى الله ليأخذ حقها ، وينتقم ممن ظلمها فتساهلوا في أمر الدَّين ، وماطلوا في تسديده أو إنكاره أو تناسيه ، وما علموا أن روح المسلم معلقة بدينه إذا مات ، حتى يقضى عنه ، وعندما قدمت جنازة إلى رسول الله  ليصلي عليها قال : (هل عليه دين؟ فقالوا: ديناران، فقال صلوا على صاحبكم ، ورفض أن يصلي عليه، فضمن أبو قتادة الدينارين فصلى عليه الرسول وقال: الآن بردت جلدته)، وقال : (من أخذ أموال الناس ن يريد أدائها أدى الله عنه ومن أخذ أموال الناس ، يريد إتلافها أتلفه الله)، لقد كثرت في المحاكم الخصومات والقضايا والمشكلات بسبب المظالم ، ومن الناس من يعلم أنه هو الظالم ، لكنه يريد الانتصار على خصمه ن وأخذ حقه ، وربما غلب بالحجة ، وقضى له القاضي بمال أخيه ، على نحو ما ظهر له، وعليه أن يعلم أن حكم القاضي ، لا يحل الحرام أو يحرم الحلال ، لأن القاضي ليس له إلا الظاهر بما يسمع من الخصمين وأما الباطن فهو إلى الله الذي يحكم به يوم تبلى السرائر ، ولا يوجد في ذلك اليوم للظالم من قوة ولا ناصر قال عليه السلام : (إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له بنحو ما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار). وقال : (لكل غادر لواء يوم القيامة يقال: هذه غدرة فلان) ، إن هذه القضية الخطيرة  والجريمة الكبيرة ، انتشرت ، فصارت أموال الناس تؤكل بالباطل ، إما عن طريق المحاكم  أو عن طريق الكذب والمكر والاحتيال  والنصب والسلب والسرقة ، والغش والخديعة والتزوير ، صدق فيهم قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة الذي ذكره ابن بطال في شرحه لصحيح البخاري : ( لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لا يُبَالِى الْمَرْءُ بِمَا أَخَذَ الْمَالَ ، مِنْ حَلالٍ أَوْ مِنْ حَرَامٍ )  وقد وردت نصوص كثيرة في التحذير من هذا الأمر والتخويف منه ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : (إِنَّ رِجَالاً يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) رواه البخاري في صحيحه ، وعيد شديد ترجف منه قلوب المؤمنين ، وتطيب به مكاسب المتقين  وتصلح به أعمال الخائفين ، الذين يسعون إلى إبراء الذمم من حقوق المسلمين ، بأن يتحللوا منهم ويرضوهم ، فقال عليه الصلاة والسلام : (من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو من شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم ، إن كان له عمل صالح ، أخذ منه بقدر مظلمته    وإن لم يكن له حسنات ، أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه) . فليحذر المسلم  أن تذهب أعماله الصالحة التي تعب عليها   ويخسرها ، لتعطى للناس الذين ظلمتهم واعتدى على حقوقهم ، سأل الناس عمر بن عبدالعزيز وهو على فراش الموت : ماذا تركت لأبنائك يا عمر ؟ قال : تركت لهم تقوى الله ، فإن كانوا صالحين فالله تعالى يتولى الصالحين ، وإن كانوا غير ذلك فلن أترك لهم ما يعينهم على معصية الله تعالى" فتأمل ، كثير من الناس يسعى ويكد ويتعب ليؤمن مستقبل أولاده ، ظنا منه أن وجود المال في أيديهم بعد موته أمان لهم، وغفل عن الأمان العظيم الذي ذكره الله في كتابه:

( وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ) .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ما حكم أخذ مال الربا من البنك

من العلماء من قال : بإتلافه؛ لأنه مال حرام لا ينتفع به. قال ابن رجب رحمه الله: " كان الفضيل بن عياض يرى أن من عنده مال حرام لا يعرف أربابه ، أنه يتلفه، ويلقيه في البحر."   

وهذا القول رفضه العلماء لكونه مخالفا للأصول الشرعية في وجوب صيانة المال النافع وعدم إضاعته، يقول الشيخ مصطفى الزرقاء رحمه الله: " فالمال النافع لا ذنب له حتى نحكم عليه بالإعدام، فإتلافه إهدار لنعمة الله، وهو عمل أخرق، والشريعة الإسلامية حكمة كلها  لأن شارعها حكيم." وقال الشيخ السنبهلي:" المال نعمة من الله وليس بنجس بنفسه، والخيانة التي التصقت به إنما هي لأجل اكتسابه من غير طريق شرعي، يستدرك بوجوه أخرى، فإتلافه إهدار لنعمة الله، وهذا حرام." وقيل : أخذ هذا المال وتوزيعه على الفقراء والمساكين، وعلى المرافق العامة. وهذا قول جماهير العلماء المعاصرين، ومقتضى فتاوى السابقين، من فقهاء الأمة.

قال الغزالي:" إذا كان معه مال حرام وأراد التوبة، والبراءة منه، فإن كان له مالكٌ معيَّنٌ وجب صرفه إليه أو إلى وكيله، فإن كان ميتا وجب دفعه إلى وارثه، وإن كان لمالك لا يعرفه، ويئس من معرفته، فينبغي أن يصرف في مصارف المسلمين العامة، كالقناطر والربط والمساجد، ومصالح طريق مكة ونحو ذلك مما يشترك المسلمون فيه ، وإلا فيتصدق به على فقير أو فقراء." [12]

وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن رجل مراب خلف مالا وولدا، وهو يعلم بحاله، فهل يكون المال حلالا للولد بالميراث، أم لا؟

فأجاب : " أما القدر الذي يعلم الولد أنه ربا فيخرجه، إما أن يرده إلى أصحابه إن أمكن، وإلا تصدق به، والباقي لا يحرم عليه، لكن القدر المشتبه يستحب له تركه." [13]

وقال ابن القيم رحمه الله:" من قبض ما ليس له قبضه شرعا، ثم أراد التخلص منه، فإن كان المقبوض قد أخذ بغير رضى صاحبه، ولا استوفى عوضه، رده عليه، فإن تعذر رده إليه، قضى به دينا يعلمه عليه، فإن تعذر ذلك رده إلى ورثته، فإن تعذر ذلك تصدق به عنه." [14]

وقال الشيخ يوسف القرضاوي : " ما دام هو ليس مالكا له ، جاز له أخذه والتصدق به على الفقراء والمساكين، أو التبرع به لمشروع خيري...، ذلك أن المال الحرام ليس ملكا لأحد، فالفائدة ليست ملكا للبنك ولا للمودع، وإنما تكون للمصلحة العامة، وهذا هو الشأن في كل مال حرام، لا ينفعه أن يزكى عنه؛ فإن الزكاة لا تطهر المال الحرام ، وإنما الذي ينفعه هو الخروج منه." [15]

وقال الشيخ مصطفى الزرقاء رحمه الله:" إذا كان المودع لدى المصارف الربوية لا يجوز له شرعا أن يستبيح لنفسه أكل الفوائد التي يحتسبها له المصرف، ولا أن يتركها للمصرف، فما التدبير الصحيح ؟

والجواب على هذا السؤال الوجيه: ما أفتيت به وناقشت الكثيرين، هو أن التدبير الصحيح الشرعي في هذه الفوائد ، أن يأخذها المودع من المصرف دون أن ينتفع بها في أي وجه من وجوه الانتفاع، فعليه أن يأخذ تلك الفوائد التي يحتسبها له المصرف الربوي عن ودائعه لديه، ويوزعها على الفقراء حصرا وقصرا، لأنهم مصرفها الشرعي." [16]

وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء [17]: " الأرباح التي يدفعها البنك للمودعين على المبالغ التي أودعوها فيه تعتبر ربا ، ولا يحل له أن ينتفع بهذه الأرباح ، وعليه أن يتوب إلى الله من الإيداع في البنوك الربويَّة ، وأن يسحب المبلغ الذي أودعه وربحه ، فيحتفظ بأصل المبلغ وينفق ما زاد عليه في وجوه البر من فقراء ومساكين وإصلاح مرافق ونحو ذلك ." [18]

كما ورد إلى اللجنة هذا السؤال: لي مبلغ من المال في أحد البنوك ، وهذا البنك يعطيني فائدة شهرية ثابتة ، ومن متابعتي لإجابات سماحتكم على الأسئلة المشابهة أفدتم أنها من الربا الصريح ، فماذا عليّ أن أفعل بالفائدة العائدة لي من المبلغ المودع ؟

فأجابت : "ما أخذته من الفوائد قبل العلم بتحريمها فنرجو أن يعفو الله عنك في ذلك ، وأما ما بعد العلم فالواجب عليك التخلص منه وإنفاقه في وجوه البر : كالصدقة على الفقراء والمجاهدين في سبيل الله مع التوبة إلى الله سبحانه من المعاملة بالربا بعد العلم ؛ لقول الله سبحانه : ﴿ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ البقرة /275" [19]

وقال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله : " أما ما أعطاك البنك من الربح : فلا ترده على البنك ولا تأكله ، بل اصرفه في وجوه البر كالصدقة على الفقراء ، وإصلاح دورات المياه ، ومساعدة الغرماء العاجزين عن قضاء ديونهم ، …" [20]

وسئل الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله - عن حكم الصلاة في مسجد بني من مال حرام؟!

فأجاب: [21] "الصلاة فيه جائزة ولا حرج فيها؛ لأن الذي بناه من مال حرام ربما يكون أراد في بنائه أن يتخلص من المال الحرام الذي اكتسبه، وحينئذٍ يكون بناؤه لهذا المسجد حلالاً إذا قصد به التخلص من المال الحرام، وإن كان التخلص من المال الحرام لا يتعين ببناء المساجد، بل إذا بذله الإنسان في مشروع خيري حصلت به البراءة." [22]

قال مقيده : ووجه هذه التقريرات العلمية الصادرة من هؤلاء العلماء المحققين رحمهم الله: أن المال مال الله، ولما أصبحت هذه الفوائد الربوية بمنزلة المعطَّل عن ملكية أحد، لا للبنك الربوي ، ولا للمودع، صح أن يرجع إلى مالكه الأصلي وهو الله سبحانه، والفقراء والمساكين هم أولى الناس بمثله، لقوله تعالى: ﴿ وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ﴾النور33

وقد يقال إذا كنا ننزه أنفسنا عن أكل هذا المال الربوي كيف نسلمه للفقير والمسكين؟

الجواب: أن هذا المال بالنسبة للفقير والمسكين ليس من الربا أصلا ؛ لأنه لم ينتقل إليه بمعاملة ربوية، إنما انتقل إليه نعمة من الله أعان بها ذلك الفقير، ويسر للمودع سبيلا للتخلص من أكل الحرام.

ومعلوم أن الربا لا يخرج عن نوعيه المعروفين ربا النسيئة وربا الفضل، ولا يوجد أي نوع منهما في هذا المال بالنسبة للفقير.

والله تعالى أعلم

 

 

هل يجوز التهرب من الرسوم الجمركية

 إن كانت تؤخذ منك في مقابل خدمة تقدم لصاحب البضاعة    أو كانت ضرائب تدعو حاجة مرافق الدولة إليها وفق ضوابط الشرع، فلا يجوز التهرب منها، وإن كان الأمر على غير ذلك، جاز التهرب والتحايل على  ذلك والقاعدة تنص :" كل من أخفى شيئا لدفع الظلم عن نفسه فلا بأس " . أما إذا كانت الجمارك تحصل في غير مقابل، أو في مقابل خدمات لا تبلغ الرسم ‏الجمركي، فإنها حينئذ داخلة في المكس، وهو ما يفرض على التجار عند مرور بضائعهم ‏عبر المنافذ ، فلا يجوز فرض ضريبة عليها، إلا ما كان في مقابل خدمات حقيقية تؤدى إليهم، وإلا كانت داخلة في المكس والضرائب المحرمة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: )  لا يدخل الجنة صاحب مكس ) رواه أحمد وأبو داود والحاكم . والمكس من الغصب، قال المرداوي في الإنصاف:" ويدخل فيه -أي الغصب- ما أخذه الملوك والقطاع من أموال الناس بغير حق من المكوس وغيرها ". والمكس - بفتح الميم – هو الضريبة والإتاوة  وهي حرام ، لقول الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } النساء/29 ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه ) رواه

أحمد وصححه الألباني في الإرواء - 1459 - . وقال صديق بن حسن البخاري في الروضة الندية ج2 ص215 عن الجمارك التي تؤخذ من المسلمين : " فهذا عند التحقيق ليس هو إلا المكس من غير شك ولا شبهة " .

وإذا لم يجد المسلم وسيلة لدفع هذا الظلم عن نفسه إلا بدفع مبلغ من المال لموظف الجمارك فإن هذا جائز بالنسبة للشخص الدافع ، أما بالنسبة للموظف الذي أخذ هذا المال فإنه حرام عليه كما جاء في مجموع الفتاوي لشيخ الإسلام ابن تيمية ج30 ص358،359 ، وهذا إذا لم يترتب على تلك الرشوة الاضطرارية مفسدة أكبر ، فإن ترتب على دفعها مفسدة أكبر فإنه لا يجوز القيام بذلك حينئذ . وقد ذكر السخاوي في الجواهر والدرر في ترجمة ابن حجر ج 3 ص1058" وكان - أي ابن حجر - يحتال في المواطن التي يؤخذ فيها المكس على الذهب بأن يأمر بجعله في وعاء سمنٍ أو عسلٍ أو نحو ذلك قبل وضع شيء فيه، ثم يختم عليه بما يكون حائلاً بينه وبين ما يوضع فيه، ثم يملؤه بما يكون مناسباً للظرف؛ فلا يُتَفطَّن لذلك " وقد أفتى الشيخ الألباني في أشرطته مع الشيخ أبي إسحاق الحويني بجواز محاولة التملّص من الجمارك، ما لم يؤدّ هذا إلى تعريض الفاعل إلى التعذيب والمهانة.

 

 

ما هي أحكام الأضحية

تعريفها : ذبح حيوان من النعم تقرباً الى الله في أيام النحر بشرائط مخصوصة . أما دليل مشروعيتها: فهي مشروعة بالكتاب والسنة والإجماع  أما الكتاب فقوله تعالى : ﴿ فصل لربك وانحر ﴾ الكوثر 2 . وأما السنة فبما أروده الشوكاني في نيل الأوطار عن عائشة رضي الله عنه قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما عمل ابن آدم عملاً أحبَّ الى الله من اراقة دمٍ وإنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأشعارها  وإن الدم ليقع من الله عز وجل بمكان قبل أن يقع على الأرض  فطيبوا بها نفسا )   . وحديث أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم: (ضحى بكبشين  أملحين  أقرنين ذبحهما بيده وسمى وكبر ووضع رجله على صفاحهما ) متفق عليه  وقد انعقد الإجماع على مشروعيتها .

أما حكمة تشريعها فيكون بشكر الله سبحانه بامتثال أمره والتقرب إليه بإراقة الدم والتوسعة على أسرة المضحي وغيرهم ، ولطهارة النفوس من الشح والبخل ، ولإدخال السرور على الأولاد والأهل والجيران والفقراء .  أما حكم الأضحية الفقهي ، جمهور العلماء سنه مؤكدة على الكفاية إن تعدد أهل البت وإلا فسنة عين في حال عدم التعدد .  وهي واجبة عند الحنفية .لحديث أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من وجد سِعه فلم يضح فلا يقربنَّ مصلانا ) رواه أحمد وابن ماجة  .

أما شروط المكلف بالأضحية فهي الإسلام والعقل والبلوغ والاستطاعة بان تكون الأضحية فاضلة عن حاجته وحاجة من يعوله يوم العيد وأيام التشريق فإنها وقتها ، وقال الشافعي : " لا أرخص في تركها لمن قدر عليها " ومراده أنه يكره للقادر عليها تركها .  ويسن لمريد الأضحية عند جمهور الفقهاء إذا دخل العشر الأول من شهر ذي الحجة ، أن يقلم أظفاره ولا يحلق شعره كالمحرم بالحج . لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن يضحي ، فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره شيئاً حتى يضحي ) رواه مسلم . ويسن للمضحي أن يذبح بنفسه إن استطاع ، أو ينيب غيره ، وليشهد الذبح لقوله صلى الله عليه وسلم: ( لفاطمة قومي إلى أضحيتك فاشهديها ، فانه بأول قطره من دمها يغفر لك ما سلف من ذنوبك ) رواه الحاكم   ،          ويستحب التسمية والتكبير ثلاثاً ، والصلاة على رسول الله واستقبال القبلة بالذبيحة ، والدعاء بالقبول بأن يقول اللهم هذا منك وإليك فتقبل مني ، ويسن اضجاعها على شقها الأيسر .

أما نوع الحيوان المضحى به ، اتفق العلماء على أنه لا يصح إلا إذا كان من جنس الأنعام ، وهي الضأن والمعز والبقر ، والذكر من كل صنف أفضل من الأُنثى ، على أن لا يقل سن الحيوان المضحى به عن ستة أشهر . أما أوصاف الحيوان المضحى به ، فقد اختلف فيها ، منها ما يستحب توفرها فيه ، ومنها ما تمنع   ومنها ما تكره  فقد استحب الكبش السمين الفحل  الأملح الأقرن  ويمنع ذوات العلل البينة كالمرض والعور والعرج والعجف . لحديث علي بن أبي طالب قال: (مرنا رسول الله  صلى الله عليه وسلم أن تستشرف العين والأذن  ولا تضحي بعوراء ولا مقابله ، ولا مدابرة ولا خرقاء ، ولا شرقاء ) رواه الخمسة . وكرهوا الحولاء والتي جز صوفها والعجوز  واختلف الفقهاء في مقطوع الأُذن والقرن ، وقد اجمع الفقهاء على أنه لا تجزئ البقرة ولا البدنة إلا عن سبعة ، ولا يشترك فيهما أكثر منهم ، كما لا يجوز الاشتراك في الشاة ، إلا أن يضحي بها الرجل عن نفسه وأهل بيته . أما وقت التضحية في ذلك خلاف ، لكن خلاصة القول أن أيام العيد يجوز فيها التضحية ، وأفضل الأوقات في اليوم الأول ويكره الذبح ليالي الأيام التي تجوز فيها التضحية . 

وأما لحوم الأضاحي وما يفعل بها . فإن الفقهاء لم يختلفوا في أن القربة في التضحية تتحقق بإراقة الدم ولا في أن الأكل منها والإطعام والادخار مشروع ، وإنما الخلاف في وجوب ذلك وسنيته  والأفضلية في ذلك بأدلةٍ منها للقائلين على استحباب الأكل لقوله  تعالى :﴿ فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير﴾ الحج 28 . على أن الأمر للندب وليس للوجوب . واختلفوا في مقدار الأكل المستحب فقيل النصف وقيل الثلث وهذا في الأُضحية المتطوع بها أما الواجبة بالنذر فلا يجوز الأكل منها ، وإن أُكل منها تصدق بقيمة ما أكل . ويجوز إطعام الأغنياء من الأضحية بل هو مندوب  ويمكن الانتفاع بجلد الأُضحية ، ولا يجوز بيعه لقوله  صلى الله عليه وسلم : ( من باع جلد أضحيته فلا أضحية له ) رواه البيهقي  كما لا يجوز إعطاء الجزار من لحم الأُضحية ولا يضحى عن الميت ، وإن أوصى وجبت ووجب التصدق بجمعها ، ولا يجوز أكل الأغنياء منها0

 

ما هي الإرادة ؟

إنه لا يقع في ملك الله أي فعل  سواء كان ذلك خيراً أو شراً إلا بإرادته . والإرادة هنا معناها أنه لا يقع في ملكه شئ جبراً عنه ، فإذا عمل  العبد عملاً ولم يمنعه  الله منه  ولم يجبره عليه  وتركه مختاراً ، كان فعله هذا بإرادة الله  لا جبراً عن الله ، أما فعل العبد نفسه فهو باختياره ، بمعنى أن الإرادة هنا غير مجبره على الفعل ، لأنها لا دخل لها في الأفعال الاختيارية  وعليه فالبحث يكون ، هل العبد مجبر على الفعل أم مختار؟ وليس أن الله أراد الفعل أو لم يرده ، فإذا ثبت أن الفعل قام به العبد مختاراً في دائرة الأفعال الاختيارية ، وهي التي تقع ضمن نطاق الأوامر والنواهي  التي أوضحها الله ورسوله ،  والتي يسيطر عليها الإنسان ولم يجبر عليها ، فهذه الأفعال غير داخله في مجال القضاء والقدر  أي في أفعال العباد التي تقع في الدائرة التي تسيطر عليه والخاصيّات التي يحدثها في الأشياء .

 

أولاد النبي

فالذكور من أولاده: القاسم ، وأمه خديجة، وبه كان يكنى صلى الله عليه وسلم   وهو أول من مات من أولاده ، وعاش سنتين . وقال عروة: ولدت خديجة للنبي  صلى الله عليه وسلم  القاسم والطاهر وعبدالله والطيب . وقال أبو بكر البرقي: ويقال إن الطاهر هو الطيب وهو عبدالله. وإبراهيم أمه مارية القبطية، ولد في ذي الحجة سنة ثمان من الهجرة، وتوفي ابن ستة عشر شهرا، وقيل ثمانية عشر؛ ذكره الدارقطني. ودفن بالبقيع. وجميع أولاد النبي صلى الله عليه وسلم   من خديجة سوى إبراهيم . وكل أولاده ماتوا في حياته غير فاطمة .

وأما الإناث من أولاده فمنهن: فاطمة الزهراء بنت خديجة، وهي أصغر بناته ، وتزوجها علي رضي الله عنهما وتوفيت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم   بيسير ، وهي أول من لحقه من أهل بيته. رضى الله عنها..

ومنهن: زينب - أمها خديجة - تزوجها ابن خالتها أبو العاص بن الربيع ، وكانت أم العاصي هالة بنت خويلد أخت خديجة . وكانت أكبر بناته صلى الله عليه وسلم  ، وتوفيت - ثمان من الهجرة، ونزل رسول  صلى الله عليه وسلم  في قبرها .

ومنهن: رقية - أمها خديجة - تزوجها عتبة بن أبي لهب قبل النبوة، فلما بعث رسول الله  صلى الله عليه وسلم   وأنزل عليه: ) تبت يدا أبي لهب (  قال أبو لهب لابنه: رأسي من رأسك حرام إن لم تطلق ابنته؛ ففارقها ولم يكن بنى بها. وأسلمت حين أسلمت أمها خديجة، وبايعت رسول  صلى الله عليه وسلم  هي وأخواتها حين بايعه النساء، وتزوجها عثمان بن عفان،  

ومنهن: أم كلثوم - أمها خديجة - تزوجها عتيبة بن أبي لهب - أخو عتبة - قبل النبوة وأمره أبوه أن يفارقها للسبب المذكور في أمر رقية ، ولم يكن دخل بها ، حتى نزل بمكة مع رسول الله  صلى الله عليه وسلم   وأسلمت حين أسلمت أمها، وبايعت رسول الله  صلى الله عليه وسلم  مع أخواتها حين بايعه النساء، وهاجرت إلى المدينة حين هاجر رسول الله  صلى الله عليه وسلم  . فلما توفيت رقية تزوجها عثمان، وبذلك سمي ذا النورين. وتوفيت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم   

وذكر الزبير بن بكار أن أكبر ولد النبي صلى الله عليه وسلم  : القاسم، ثم زينب ، ثم عبدالله ، وكان يقال له الطيب والطاهر، وولد بعد النبوة ومات صغيرا ثم أم كلثوم ، ثم فاطمة ، ثم رقية ، فمات القاسم بمكة ثم مات عبدالله .

 

ما هو الحرام

 هو ما طلب الشارع تركه طلباً جازماً ، يذم فاعله ويعاقب ، ويثاب المرء على تركه ، وقد تكون العقوبة في الدنيا ، كقوله في حد القذف {واجلدوهم ثمانين جلده }النور 4. أو في الآخرة ،كما في قوله تعالى :{إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً}النساء  .  والحرام نوعان صغائر وكبائر .

أما الصغائر فتكفرها الصلاة والصيام والصدقة قال تعالى: {إن الحسنات يذهبن السيئات}هود 114. وفي الحديث الصحيح ( الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر

والكبائر لا يمحوها إلا التوبة النصوح   وهي كما عرّفها العلماء ما جاء فيها وعيد من الله بعذاب الآخرة ، أو جاء فيها عقوبة كالحد مثلاً ، أما التي لم يأت فيها حد فقد دخلت في عداد السيئة المغفورة باجتناب الكبيرة أو الصغيرة أو الأصغر .  اللامبالاة بصغائر الذنوب ، يوقع في الكبائر وصدق رسول الله ( ص ) ( لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار )  وقديماً قالوا : لا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن أنظر إلى من عَصيْتَه . وليس أمَرُّ على القلب ، من وحشة الذنب على الذنب لأن  الذنوب إذا تكاثرت   يُطبعُ على قلب صاحبها قال تعالى :{كلاّ بل ران على قلوبهم بما كانوا يكسبون} المطففين 14 . أي غطّى على قلوبهم ، وروى النسائي أن رسول الله r قال : ( إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكت في قلبه نكتةً سوداء  فإن هو نزع واستغفر وتاب صُقل قلبه ، فإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه فهو الران الذي قال تعالى : ) كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ( .

قال الحسن البصري : هو الذنب على الذنب حتى يعمى القلب فيموت .

ما حكم القوانين الوضعية

قال تعالى : } أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم وإن الظالمين لهم عذاب أليم { الشورى 21 .

ليس لأحد من خلق الله أن يشرِّع غير ما شرعه الله وأذن به كائناً من كان ، ومن تجرءوا على الله فاستمدوا تشريعاً من غير ما شرع الله ، زاعمين أنهم يختارون الخير لشعوبهم ، هؤلاء توعدهم الله بالعذاب الأليم ، لأنهم تصوروا أنهم أعلم من الله الذي شرع للبشرية ما يعلم انه يتوافق مع طبيعتها وفطرتها  فشرع في هذا أصولاً ، وهو وحده الذي يشرع لعباده ، ولكنه ترك للبشر فقط استنباط بعض التشريعات الجزئية المتجددة ، في حدود المنهج الكلي والتشريعات العامة ، فإذا اختلفوا في شيءٍ ردوه إلى الله  ورجعوا به إلى تلك الأصول الكلية التي شرعها للناس ، لتبقى ميزاناً يزن به البشر كل تشريعٍ وتطبيق جزئي   بذلك يتوحد مصدر التشريع  ويكون الحكم لله ، وما عدا ذلك خروج على شريعة الله ودينه وما لم يأذن به الله ، والقاعدة تنص على أن جماع الدين" أن لا نعبد إلا الله ولا نعبده إلا بما شرع ولا نعبده بالبدع  

تؤكد هذه القاعدة أن العبادة لا تكون إلا لله ولا تكون إلا بما شرع الله لعباده ولا تكون فيما يبتدعه الناس من عبادات لم يأذن بها الله قال تعالى : } أمر ألا تعبدوا إلا إياه{.  ولا بد من لفت الأنظار إلى أن العبادة تتميز عن غيرها من الأحكام   فلا اجتهاد في شرع عبادة من العبادات ، لأن حق التشريع فيها مقصورٌ على الله وحده ، فهو المتعبد الذي خلق العباد لعبادته ، وهو أعلم بما يتعبدهم به ، وهو أخبر بما يصلح لهم منها وما يرضيه من عبادات قال تعالى : } ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير { . ولو ترك الناس وشأنهم في اختيار أنواع  العبادات لوقعوا في المتاهات ، وما أكثر ما ورد عن السلف الصالح من الأمر بالإتباع وذم الابتداع استناداً إلى قوله e: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين  عضوا عليها بالنواجذ  وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل محدثةٍ بدعة وإن كل بدعة ضلالة ) . ومن القواعد الفرعية " أن الأصل في العبادات الحظر ، والأصل في العادات الإباحة " 

 

من الذين يدافع الله عنهم

 قال تعالى:) إن الله يدافع عن اللذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور ( الحج 38 . عند قراءة هذه الآية نشعر أن هناك معركة ، ولا بد أن تكون المعركة التي يدافع الله فيها   بين حق أنزله وبين باطل يواجهه ، معركة ضمن الله فيها للمؤمنين أنه يدافع عنهم . ومن يدافع الله عنه فهو ممنوع حتما من عدوه ، ظاهر عليه ..ففيم إذن يكتب علبهم الجهاد ؟ والله قادر على تحقيق العاقبة لهم بلا جهد ولا مشقة ، ولا تضحية ولا ألم ، ولا قتل ولا قتال ؟  إنها حكمة الله والذي ندركه من تلك الحكمة ، أن الله سبحانه لم يرد أن يكون حملة دعوته وحماتها من الكسالى الذين يجلسون في استرخاء ، ليتنـزل عليهم نصره سهلا هينا دون عناء  لمجرد أنهم يقيمون الصلاة ويرتلون القرآن ويتوجهون إلى الله بالدعاء   كلما مسهم الأذى ووقع عليهم الاعتداء ! نعم إنهم يجب أن يقيموا الصلاة  وأن يرتلوا القرآن ، وأن يتوجهوا إلى الله بالدعاء في السراء والضراء . ولكن هذه العبادة وحدها لا تؤهلهم لحمل دعوة الله وحمايتها ، إنما هي الزاد الذي يتزودونه للمعركة . والذخيرة التي يدخرونها  وهم يواجهون الباطل بمثل سلاحه   ويزيدون عنه بسلاح التقوى والإيمان والاتصال بالله .

لقد شاء الله تعالى أن يجعل دفاعه عن الذين آمنوا يتم عن طريقهم هم أنفسهم  والأمة التي تقوم على دعوة الله في حاجة إلى حشد كل قواها   وتجميع كل طاقاتها ، كي تتهيأ لحمل الأمانة .

وإن النصر السريع الذي لا يكلف عناء ، والذي يتنـزل هينا على القاعدين المستريحين ، سهل فقدانه وضياعه . لأنه رخيص الثمن لم تبذل فيه تضحيات عزيزة . فلا بد من إعداد العدة وأخذ الأسباب المؤدية للنصر ، وعندها يكون التأييد وتكون الغلبة للمؤمنين قال تعالى:) وإن جندنا لهم الغالبون (  ولكن النصر له تكاليفه وأعبائه وشروطه   فلا يُعطى لأحدٍ جزافا   فلا بد من استيفاء أسبابه حتى يتأذن الله به  فالله ينصر من ينصر نهجه الذي أراده للناس في الحياة   ويعبده حق عبادته ، ويؤدي حق المال الذي رزقه إياه   ويدعو إلى الخير والصلاح ومقاومة الشرّ والفساد   عندها يكون الأمر لله يصرِّفه كيف يشاء فيبدِّل الهزيمة نصرا ، والنصر هزيمة قال تعالى : ) ولينصرنَّ الله من ينصره إن الله لقويٌ عزيز   الذين إن مكناهم في الأرض وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور ( الحج 41 .

 

ما حكم الصلاة خلف الإمام القاعد

 هل يجوز للإمام أن يصلي بالناس وهو جالس على كرسي؟ أقصد انه يصلي على الصورة التالية: يكبر للإحرام وهو قائم ويستمر في قيامه، ثم يركع ، ثم يرفع من الركوع، ثم يكبر ويسجد (منحنيا) وهو جالس على الكرسي، ثم يعتدل قاعدا على الكرسي للجلسة ، ثم يسجد ، وبعد ذلك يكبر للركعة التالية . يجوز للإمام أن يصلي بالناس على هذه الصورة ، كما يجوز له كذلك أن يؤمَّ الناس وهو قاعد . وبه قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد . وقد احتجوا بحديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أمر في مرضه الذي توفي فيه أبا بكر أن يصلي بالناس فلما دخل في الصلاة وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من نفسه خفة ، فقام يهادي بين رجلين ورجلاه يخطان في الأرض ، فجاء فجلس يسار أبي بكر فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس جالساً وأبو بكر قائماً يقتدي أبو بكر بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر ) رواه البخاري .  وجه الدلالة من الحديث : أن أبا بكر ابتدأ بهم الصلاة قائماً ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم  فصلى بهم من حيث انتهى أبو بكر فصلى قاعداًَ  والصحابة صلوا خلفه قياماً فدل على أنه يجوز للقائم أن يصل خلف القاعد لأن النبي صلى الله عليه وسلم , صلى جالساً والناس خلفه قيام   وقال فريق من الفقهاء على أنه لا يؤم القاعد من يقدر على القيام إلا بشرطين : أحدهما: أن يكون إمام الحي، فإن صلوا قياماً خلف إمام الحي المرجو زوال علته  صحت صلاتهم ، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر من صلى خلفه قائماً بالإعادة , ولأن القيام هو الأصل ، لأنه لا حاجة بالناس إلى تقديم عاجز عن القيام إذا لم يكن الإمام الراتب ، فلا يتحمل إسقاط ركن في الصلاة لغير الحاجة ، والنبي صلى الله عليه وسلم حيث فعل ذلك ، كان هو الإمام الراتب . الثاني: أن يكون مرضه يرجى زواله ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرجى برؤه ، فإمام الحي، المرجو زوال علته يصح الاقتداء به ، وهو كل إمام مسجد راتب .  وأما الجواب عن حديث : ( لا يؤمن احد بعدى جالساً )  فقد قال أئمة الحديث : هو مرسل ضعيف ، وقال الشافعي رحمه الله : قد علم الذي احتج بهذا انه ليس فيه حجة وانه لا يثبت لأنه مرسل ، ولأنه عن رجل يرغب الناس عن الرواية عنه والله أعلم .

 

الفرق بين العبيد والعباد

الفرق بين العبيد والعباد ، كل خلق الله عبيد ، لأنهم تجري عليهم صفة القهر  ولا اختيار لهم في أشياء كثيرة كشكل خلق الإنسان ، لون عينيه ، رزقه وأجله   والأحداث التي تقع عليه ، كل هذا مقهورٌ فيه ، أما الذين أعطاهم الله صفة الاختيار في أن يفعلوا أو لا يفعلوا  فإن أطاعوا فحباً في لله وتقرباً إليه لا قهرا فيأتي بالحب وهو قادر على ألا يأتيه  هؤلاء هم عباد الرحمن قال تعالى : ) وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماوالذين يبيتون لربهم سجداً وقياما والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما ( الفرقان 63  . وحين يأتي العبد إلى الله معلناً إيمانه  ملزماً نفسه بما يريد أن يتبعه   يكون قد دخل في عقد إيماني مع الله سبحانه ، ويكون ملتزماً بمحض اختياره أن يتبع منهج الله أصبح من عباد الله   وعندما يقول الله : ) قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله   إن الله يغفر الذنوب جميعا ( الزمر53. نعرف أن غفران الذنوب جميعها يكون لأولئك الذين اختاروا منهج الله وارتفعوا من منـزلة العبيد إلى منـزلة العباد وحين يقول الله :  وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون هل معنى ذلك أنه يريدهم عبيداً أو عباداً ؟ إنه يريدهم عبادا ، أي يريدهم أن يتنازلوا باختيارهم وحبهم لله عن كل ما يغضبه   وأن يتبعوا ما يرضيه ، ولو أراد غير ذلك ما استطاع واحد منا أن يكفر  ولذلك قال تعالى : لا إكراه في الدين    فالله لا يريد قوالب تخضع ولكنه يريد قلوباً تخشع بالحب ، ولن تستطيع قوةٌ أن تكره قلبك على حب شيء تكرهه أو كره شيء تحبه ولذلك قال الله سبحانه :  إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان . ولذلك أسقط الله الحساب عن كل من أكره على شيءٍ وقلبه يرفضه ولذلك يقول الله تعالى :) إن نشأ ننـزل عليهم من السماء آيةً فظلت أعناقهم لها خاضعين  ( . يقول الله لرسوله أنا لا أريد أعناقاً تخضع بالقهر لأنني لو أردت ذلك فما اسهل أن أفعله  أنا لا أريد إكراهاً إنما أريد عباده تأتي بالحب لي وليس بالإكراه على عمل أريده فإذا عبدوا فعبادتهم عن حب وإذا حكموا فحكمهم عن حب في إرضاء الله  وإذا عملوا أي عمل ينبغي أن يكون في إطار حب إرضاء الله  .

 

فضل قيام الليل

صلاة الليل نافلة مؤكدة ندب إليها القرآن ومدح أصحابها، وحث عليها النبي صلى الله عليه وسلم وأقلها ركعة الوتر على الصحيح من أقوال أهل العلم، لما ورد في الصحيحين عن النبي  صلى الله عليه وسلم أنه قال: (صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خفت الصبح فأوتر بواحدة) وفي السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الوتر حق، فمن شاء أوتر بسبع، ومن شاء أوتر بخمس، ومن شاء أوتر بثلاث، ومن شاء أوتر بواحدة وفي صحيح البخاري أنه قيل لابن عباس: هل لك في أمير المؤمنين معاوية فإنه ما أوتر إلا بواحدة؟ قال: أصاب إنه فقيه.

وأما أكثر ركعاتها: فالسنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم  أنه لم يزد على إحدى عشرة ركعة، كما في الصحيح عن عائشة أم المؤمنين قالت : ( مَا كانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يزيدُ في رمضانَ ولا في غيرِهِ علَى إحدَى عشرةَ ركعةً ) رواه الجماعة .  وثبت صلى الله عليه وسلم  أنه صلى بعد الوتر ركعتين، والأولى المحافظة على هذا العدد، فمن أراد الزيادة فلا بأس، ويدل على ذلك دليلان: الأول: عموم قوله صلى الله عليه وسلم : (صلاة الليل مثنى مثنى) ولم يحصرها بعدد.

الثاني: عمل الصحابة، فقد صلى الصحابة عشرين ركعة خلف أبي بن كعب في خلافة عمر رضي الله عنهم جميعاً، روي ذلك في الموطأ وغيره.

وأما عن أفضل الأوقات لصلاة الليل فهو الثلث الأخير من الليل ليوافق النزول الإلهي، كما قال صلى الله عليه وسلم : (ينـزل ربنا تبارك وتعالى في كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ ومن يسألني فأعطيه؟ ومن يستغفرني فأغفر له؟) رواه البخاري ومسلم.  وذلك هو أفضل الأوقات لمن علم من نفسه أنه سيقوم من آخر الليل، وأما من خاف أن لا يستيقظ فالأفضل أن يصلي ويوتر قبل أن ينام، كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في سنن الترمذي وغيرها.

وأما وقت صلاة قيام الليل: فتجوز في أيِّ وقت منْ بعد صلاة العشاء وحتى أذان الفجر  ويستحبُّ تأخيرُها إلى الثلث الأخير من الليل.

 

 

 

 

 

ما قيمة الوقت  

الوقت له قيمة عظيمة في الإسلام وهو كالسيف إن لم تقطعه قطعك لأنه يعمل في عمرك ، وإن الفراغ سيف من سيوف الشيطان المسلطة على عنق الزمان ، قال عمر بن عبد العزيز :  إن الليل والنهار يعملان فيك فأعمل فيهما ، يقطعان في عمرك يبليان كل جديد ويقرّبان كلّ بعيد ويقصِّران كل طويل كل يوم ينقضي تقترب من القبر خطوة وينقص من عمرك خطوة لأنك مولود لتموت . فكل يوم ينقض ينقص من عمرك قال الحسن البصري : " يا ابن آدم إنما أنت أيام مجتمعة كلما ذهب يوم ذهب بعضك ". إن هناك مساءلة عن العمر وعن الشباب وعن العلم والمال روى الطبراني أن رسول الله r قال : ( لن تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع ، عن عمره فيما أفناه   وعن شبابه فيما أبلاه ، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه  وعن علمه ماذا عمل به    وهذا يدل على حرص الإسلام على كسب الوقت والانتفاع به ، وقد حذر سلفنا من التسويف وقالوا : " سوف جندٌ من جنود إبليس . لا تقل سوف أتوب سوف أعمل وما يدريك أن تعيش إلى أن تعمل   هل ضمنت ذلك ؟ ومن أعطاك عهداً على انك إن خرجت ستعود سالماً ؟ ألا ما أسرع الموت وما اغفل الناس عنه ؟وعظ النبي r رجلاً فقال : ( اغتنم خمساً قبل خمس  شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وغناك قبل فقرك وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك ).

لا تضع شبابك في الغفلة والمعصية ، وإن وقعت في المعصية فبادر إلى التوبة   واستغل صحتك في طاعة الله وعمل الخير قبل أن تُصاب بالأمراض ، واستغلّ وقتك بما يعود عليك وعلى أمتك بالخير ، ولا تضيعه في العبث روى البخاري أن رسول الله r قال : ( نعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس : الصحة والفراغ  فلا مانع من الترويح والترفيه في حدود الحلال بشرط أن نقسِّم وقتنا بين حظوظ أنفسنا وحق ربنا . الوقت ثمين فاعرف قيمته بدليل أنه إذا مضى فلن يعود قال الحسن البصري :" ما من يومٍ ينشق فجره إلا وينادي يا ابن آدم أنا خلقٌ جديد وعلى عملك شهيد فتزود مني فإني إذا مضيت فلن أعود إلى يوم القيامة " .

 

 

هل الإنسان يضل أو يهتدي

إن الإنسان هو الذي يهتدي ، وهو الذي يضل ، يهتدي مختاراً و يضل مختارا ً دون أي إجبار ، فالهدى والضلال من الإنسان نفسه ، لأنه فعل من أفعاله كسائر الأفعال الاختيارية ، بصريح الآيات القرآنية قال تعالى : ﴿ فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ﴾ الإسراء 15. وقال تعالى : ﴿فإن اسلموا فقد اهتدوا ﴾ آل عمران . إن القارئ لهذه الآيات وأمثالها ، يجد أن الله رتب الحساب على أعمال الناس قال تعالى : ﴿ من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها ﴾  فصلت 46 . أما لو كان الأمر كما يقول الجهلاء بأن الله هو الذي يهدي الإنسان ، وهو يضله وليس الإنسان نفسه ، فإن حساب الله للناس وتعذيبهم على الضلال حسب فهمهم ظلم ، لأنه حساب لهم على شيء لم يفعلوه ، وإنما بأمر من والله منـزه عن الظلم . فالإنسان هو الذي يضل و يهتدي ومحاسبته على ذلك عدلٌ ، لأنها محاسبةُ على فعله هو . أما الآيات التي تدل على نسبة الهداية و الضلال إلى الله ، فذلك يعني أن الله خلق الهداية و الضلال من العدم و ليس أن الله هو الذي باشر فعل الهداية مثال ذلك قال تعالى :﴿ قل الله يهدي للحق ﴾ يونس 35 . و قال : ﴿ من يهد الله فهو المهتد ﴾ الإسراء 97 . هذه الآيات وأمثالها في القرآن الكريم ، لا تعني أن الله باشر الهداية ، إنما تعني أن الله خلق الهداية ، كما لا يقال إن الهداية استندت إلى الله لأن هناك قرينه تصرف الأشياء عن الفعل إلى الخلق ، وهي الآيات التي تسند الهداية إلى الإنسان قال تعالى : ﴿ وما أضلنا إلا المجرمون ﴾ الأعراف 38 . يفي موضوع الآيات التي اقترنت فيها الهداية والضلال بمشيئة الله ، فهذه تفيد بأنه لا يهتدي أحدٌ جبراً عن الله ، أو يضل جبراً عنه ، وليس معناها أن إرادة الله هي التي فعلت الفعل قال تعالى : ﴿ ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ﴾ النحل 93 . فإضلال الله لشخص معناه : أن هذا الشخص آثر الغي على الرشاد وسعى إليه فناله قال تعالى : ﴿ فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين ﴾ الصف 23. وقال : ﴿ ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم لتولوا وهم معرضون ﴾ الأنفال 23. فمعنى يضل من يشاء لا يعدو قوله تعالى : ﴿ يضل الله به الفاسقين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ﴾ البقرة 26 .

 ما هو معنى الإيمان والإسلام

حتى ندرك معنى الإيمان ، لا بد من معرفة معنى الإسلام الذي هو الانقياد لأوامر الله تعالى   من الشهادة ، والصلاة والزكاة والصوم والحج  أما معنى الإيمان: فهو الإقرار باللسان والتصديق القلبي بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره . 

  هناك فرقٌ بين الإسلام والإيمان ، إذ الإسلام حكم على ظاهر الأعمال والأقوال ، من حيث الانقياد لأوامر الله تعالى ، بإتيان الأركان الخمسة . أما الإيمان فإنه حكمٌ على بواطن الأعمال ، من حيث المشاعر القلبية ، بالموافقة لما دعا الشارع إلى الإيمان به .  قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الإسلام علانية والإيمان في القلب  التقوى في القلب ، وأشار بيده إلى صدره ) رواه أحمد والنسائي . فليس الإيمان مجرد إعلان المرء بلسانه أنه مؤمن ، فما أكثر المنافقين الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ، وليس هو مجرد قيام الإنسان بأعمال وشعائر أُعتيد أن يقوم بها فما أكثر من يتظاهرون بالصالحات وشعائر التعبد وقلوبهم خراب من الخير والإخلاص لله .

إن المؤمن هو الذي تعلَّق قلبه بالله ، دائم الذكر له في جميع أحواله ، مراقب لعظمته ، لا يتجرأُ على معصيته  وما عصى من عصى إلا بسبب غفلته وغياب الإيمان عن قلبه .  

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن  ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ) رواه  البخاري ومسلم .

فحين يشرب الحمر أو يزني ، تكون عنده لحظة غفلة ، إنه يستحضر المعصية فقط بشهوتها ، وغافلٌ عن عقابها ، أما لو استحضر العقوبة أمام المعصية ، فإنه لن يرضى أن يرتكبها . وحتى ينجو المؤمن من الوقوع في المعصية ، عليه أن يداوم على الذكر ، لأن الذكر عنصرٌ أساسيٌ في تكوين إيمان المؤمن  فإذا غفل عنه غاب الإيمان ، وفي غيابه يقع الإنسان في المعاصي من أجل ذلك حث الإسلام على ذكر الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما جلس قوم يذكرون الله تعالى إلا ناداهم منادٍ من السماء : قوموا مغفوراً لكم ) رواه أحمد . والمؤمن يخاف من الله ، ويبكي من خشية الله  كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( عينان لا تمسهما النار : عينٌ بكت من خشية الله ، وعينٌ باتت تحرس في سبيل الله ) رواه الترمذي. والمؤمن يحب الله ورسوله ، أكثر من حبه لأهله وماله وولده قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( والله لا يكون أحدكم مؤمناً  حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده) المستدرك  

وهذا ما انعكس أثره على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا التاريخ أن سيدنا أبا بكر ، كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في معركة بدر ، وابنه كان ما يزال مع الكفار ، يقول ابن أبي بكر : يا أبي لقد رأيتك في المعركة ، فلويت وجهي عنك  فيقول أبو بكر : والله لو رأيتك لقتلتك . لماذا ؟ لأن أمام بكرٍ عقيدة حق ، أعزُّ عليه من ابنه   

 ومن كمال الإيمان أن يحب المرء للناس ، ما يحبه لنفسه من الخير ، ويكره لهم ما يكرهه لنفسه ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  :

( أفضل الإيمان أن تُحب لله ، وتُعْمِلُ لسانك في ذكر الله  وأن تحب للناس ما تحب لنفسك ، وتكره لهم ما تكره لنفسك ، وأن تقول خيراً أو تصمت ) الطبراني في الكبير .

إن الإيمان لا يكفي فيه الاعتقاد ، ولا يكفي فيه الادعاء بالأقوال ، بل لا بد من العمل فقد روى الطبراني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قـال :

( الإيمان معرفةٌ بالقلب وقولٌ باللسان وعملٌ بالأركان ) وإن الانشراح للأعمال الصالحة علامةٌ على إيمان المؤمن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا سرتك حسنتك ، وساءتك سيئتك فأنت مؤمن ) رواه أحمد وابن حبان في صحيحه .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

  

 ما هو معنى الإيمان والإسلام

حتى ندرك معنى الإيمان ، لا بد من معرفة معنى الإسلام الذي هو الانقياد لأوامر الله تعالى   من الشهادة ، والصلاة والزكاة والصوم والحج  أما معنى الإيمان: فهو الإقرار باللسان والتصديق القلبي بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره . 

  هناك فرقٌ بين الإسلام والإيمان ، إذ الإسلام حكم على ظاهر الأعمال والأقوال ، من حيث الانقياد لأوامر الله تعالى ، بإتيان الأركان الخمسة . أما الإيمان فإنه حكمٌ على بواطن الأعمال ، من حيث المشاعر القلبية ، بالموافقة لما دعا الشارع إلى الإيمان به .  قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الإسلام علانية والإيمان في القلب  التقوى في القلب ، وأشار بيده إلى صدره ) رواه أحمد والنسائي . فليس الإيمان مجرد إعلان المرء بلسانه أنه مؤمن ، فما أكثر المنافقين الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ، وليس هو مجرد قيام الإنسان بأعمال وشعائر أُعتيد أن يقوم بها فما أكثر من يتظاهرون بالصالحات وشعائر التعبد وقلوبهم خراب من الخير والإخلاص لله .

إن المؤمن هو الذي تعلَّق قلبه بالله ، دائم الذكر له في جميع أحواله ، مراقب لعظمته ، لا يتجرأُ على معصيته  وما عصى من عصى إلا بسبب غفلته وغياب الإيمان عن قلبه .  

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن  ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ) رواه  البخاري ومسلم .

فحين يشرب الحمر أو يزني ، تكون عنده لحظة غفلة ، إنه يستحضر المعصية فقط بشهوتها ، وغافلٌ عن عقابها ، أما لو استحضر العقوبة أمام المعصية ، فإنه لن يرضى أن يرتكبها . وحتى ينجو المؤمن من الوقوع في المعصية ، عليه أن يداوم على الذكر ، لأن الذكر عنصرٌ أساسيٌ في تكوين إيمان المؤمن  فإذا غفل عنه غاب الإيمان ، وفي غيابه يقع الإنسان في المعاصي من أجل ذلك حث الإسلام على ذكر الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما جلس قوم يذكرون الله تعالى إلا ناداهم منادٍ من السماء : قوموا مغفوراً لكم ) رواه أحمد . والمؤمن يخاف من الله ، ويبكي من خشية الله  كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( عينان لا تمسهما النار : عينٌ بكت من خشية الله ، وعينٌ باتت تحرس في سبيل الله ) رواه الترمذي. والمؤمن يحب الله ورسوله ، أكثر من حبه لأهله وماله وولده قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( والله لا يكون أحدكم مؤمناً  حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده) المستدرك  

وهذا ما انعكس أثره على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا التاريخ أن سيدنا أبا بكر ، كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في معركة بدر ، وابنه كان ما يزال مع الكفار ، يقول ابن أبي بكر : يا أبي لقد رأيتك في المعركة ، فلويت وجهي عنك  فيقول أبو بكر : والله لو رأيتك لقتلتك . لماذا ؟ لأن أمام بكرٍ عقيدة حق ، أعزُّ عليه من ابنه   

 ومن كمال الإيمان أن يحب المرء للناس ، ما يحبه لنفسه من الخير ، ويكره لهم ما يكرهه لنفسه ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  :

( أفضل الإيمان أن تُحب لله ، وتُعْمِلُ لسانك في ذكر الله  وأن تحب للناس ما تحب لنفسك ، وتكره لهم ما تكره لنفسك ، وأن تقول خيراً أو تصمت ) الطبراني في الكبير .

إن الإيمان لا يكفي فيه الاعتقاد ، ولا يكفي فيه الادعاء بالأقوال ، بل لا بد من العمل فقد روى الطبراني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قـال :

( الإيمان معرفةٌ بالقلب وقولٌ باللسان وعملٌ بالأركان ) وإن الانشراح للأعمال الصالحة علامةٌ على إيمان المؤمن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا سرتك حسنتك ، وساءتك سيئتك فأنت مؤمن ) رواه أحمد وابن حبان في صحيحه .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الفتح على الإمام

إذا أخطأ الإمام في القراءة خطأ يغيِّر المعنى أو يخل به ، فالواجب أن يُرد ، أما إذا كان لا يخل بالمعنى فإنه لا يجب ، إلا إذا وقف الإمام وقوفاً يدل على رغبته بأن يُلقن ويُفتح عليه ، فإنه يتولى الفتح والتلقين من يليه من المصلين ، لأن البعيد قد لا يُسمِع الإمام ، ولا ينبغي كثرة الفاتحين؛ لأن ذلك يوقع في الحيرة وعدم الفهم ،كما لا ينبغي رفع الصوت كثيرًا بل يكون بقدر الحاجة ، وإذا تخطى الإمام آية أو آيات وتعداها لما بعدها لا يفتح عليه ، لأن الفتح في هذه الحال قد يؤدي إلى ارتباك الإمام ، وقد يسكت الإمام لالتقاط نفسه ، أو لاستحضار ذهنه، ففي هذه الحالة يكره المبادرة بالفتح كما قال علماء الحنفية ، وقال الشافعية : الفتح على الإمام هو تلقين الآية عند التوقف  ولا يفتح ما دام يردد التلاوة ، لأن الواجب إمهاله، وعدم مبادرته بالفتح    ويجب أن تكون نية من يفتح على الإمام تذكيره إذا نسي، أو تصحيح ما أخطأ فيه   أما إن نوى القراءة، فإن صلاته تبطل لقوله r : ( لعلكم تقرأون خلف إمامكم؟ قلنا: نعم هَذّا يا رسول الله! قال: لا تفعلوا إلا أن يقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها ) رواه البخاري وأحمد وأبو داود وحسنه الترمذي ، ولا يجوز للمأموم أن يفتح على الإمام إلا إذا كان على ثقة من حفظه  فإن القرآن معظمه متشابه في اللفظ، وقد يأتي التشابه في آية بكاملها كقوله تعالى: ] فبأي آلاء ربكما تكذبان [ وقد يكون باختلاف في بعض الحروف كقوله تعالى: ] ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل [ وقوله تعالى: ] ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة [ وقد يكون في التقديم والتأخير كقوله تعالى: ] وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى [ وكقوله تعالى: ] وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى [ وكثيراً ما ينبري للرد والتصحيح من لا يكون على علم دقيق بالحرف الصحيح فيفسد على القارئ قراءته ويتسبب في التشويش والتعويق ، ولا يجوز أن يتولى الرد والتصحيح والفتح على الإمام أكثر من واحد في وقت واحد لأن هذا يؤدي إلى اختلاط الأصوات والتشويش على الإمام والمصلين، ويجب أن يترك الأقل حفظاً، وعلماً لمن هو أحفظ منه وأعلم.

 ولا يجوز للمأموم أن يحمل مصحفا لمتابعة الإمام والتصحيح له وذلك لأنه في صلاة وليس في تعليم وتعلم ، ثم أن الحركة بحمل المصحف ، وفتحه عند القراءة وإغلاقه بعد ذلك ينافي عمل الصلاة    ويجب أن تكون نية من يفتح على الإمام تصويب الخطأ ، أما إذا كان ذلك رياءاً   ليرى الناس أنه حافظ، فإنه بهذا يحبط أجره، وقد تبطل صلاته تبعا لذلك.

 

 

 

 

 

 

ما حكم صلاة السنة أثناء إقامة الصلاة

هل يلزم قطع الصلاة حين سماع الإقامة أم إتمام الركعتين واللحاق بالإمام .. المأموم مأمور بالإئتمام بإمامه ، لقوله عليه الصلاة والسلام ( إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه ). رواه البخاري ومسلم .

وفي رواية في الصحيحين : إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا وإذا ركع فاركعوا وإذا رفع فارفعوا وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا لك الحمد وإذا سجد فاسجدوا . والتأخر عن الإمام في إدراك تكبيرة الإحرام من الاختلاف عليه   ومِن مُخالفته ، وقد جاء الأمر الصريح بأن النافلة تُقطع إذا أقيمت الصلاة في قوله عليه الصلاة والسلام : إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة . رواه مسلم . وفي رواية للإمام أحمد : إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا التي أُقيمت ) . فهذا الحديث يدل على بطلان أي صلاة عند الإقامة سواء شُرع فيها عند الإقامة أو قبلها، وإنما اعتبرنا إدراك التحريمة؛ لأنها بداية الصلاة 

ومن قال لا يقطعها لقوله تعالى: ﴿ ولا تبطلوا أعمالكم ﴾ فليس صحيحاً لأن الآية عامة ، وحديث أبي هريرة خاص، وقد تقرر في الأصول أن العام يُحمل على الخاص؛ أي تبقى الآية على عمومها إلا في هذا الموضع .

ثم إن من المصلّين من يتأخر ليُتم النافلة  فيتسبب بوجود فجوة في الصف ، ثم إذا قام من السنة وتحرّك ليسد الفجوة تحرّك الصف من بعده ، فيكون قد تسبب في وجود فجوة في الصف  ويكون قد تسبب في خلخلة الصف ، وهو مأمور بالتراصّ وإتمام الصف قبل ذلك ، فإذا أُقيمت الصلاة وغلب على ظن المصلِّي أنه لا يُدرك تكبيرة الإحرام فإنه يقطع الصلاة ويُدرك تكبيرة الإحرام ، أما إذا كان في آخر الصلاة وغلب على ظنه أنه يُدرك تكبيرة الإحرام ، فإنه يُتمّها خفيفة ويُدرك تكبيرة الإحرام .

والسنة : إذا كبر الإمام أن تبادر وتكبر حتى تدرك فضل تكبيرة الإحرام ، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إذا كبر فكبروا ) والفاء تدل على الترتيب والتعقيب ، يعني : من حين أن يكبر وينقطع صوته من الراء بقوله : ( الله أكبر ) فكبر أنت ولا تشتغل لا بدعاء ولا بتسوك ولا بمخاطبة من بجانبك   فإن هذا يفوت عليك إدراك فضل تكبيرة الإحرام " ما حد إدراك تكبيرة الإحرام التي وردت في الحديث:  من أدرك تكبيرة الإحرام مع الإمام  الحديث؟   يرى بعض العلماء أن من أدرك الإمام في الركعة الأولى قبل ركوعه فقد أدرك التحريمة ، وحصل على فضلها، ويرى بعضهم أنه لا يدركها إلا إذا أدركها بعد تكبيرة الإمام مباشرة، ولعل الأقرب أن من كبَّر قبل أن يشرع الإمام في القراءة يكون مُدرِكًا لها، فإن أتى بعد شروع الإمام في القراءة جهرية، أو سرية فقد فاتته التحريمة .

والحرصَ على إدراكِ تكبيرتها الأولى دليلٌ على تعظيم هذه الشعيرة ، وحبها ، والرغبة فيها ، وهو دليل أيضا على صلاح العبد ودينه وتقواه

قال سفيان الثوري : " مجيئك إلى الصلاة قبل الإقامة توقير للصلاة "  

وقال إبراهيم التيمي : " إذا رأيت الرجل يتهاون في التكبيرة الأولى فاغسل يدك منه " . كان وكيع بن الجراح يقول : " من لم يدرك التكبيرة الأولى فلا ترجُ خيره " . 

 

 

ما حكم التنفل قبل الجمعة

اختلف العلماء في صلاة النَّافِلة قبل صلاة الجمعة هل يُراد بها التطوع المُطْلَق، أم أنها سُنَّة الجمعة الراتبة القبلية كراتبتها البعدية   فقالوا إن أُريد بها التطوُّع المُطْلَق فهي جائزة بل مستحبة، جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية: قال الحنفية والشافعية : تسن الصلاة قبل الجمعة وبعدها ، فعند الحنفية : سنة الجمعة القبلية أربع ، والسنة البعدية أربع كذلك ، وقال الشافعية : أقل السنة ركعتان قبلها وركعتان بعدها  والأكمل أربع قبلها وأربع بعدها ، لقوله  صلى الله عليه وسلم : « من كان منكم مصليا بعد الجمعة فليصل أربعا » وقال المالكية والحنابلة : يصلي قبلها دون التقيد بعدد معين ، على أن أكثر من قال بصلاة السنة يوم الجمعة حملها على تحية المسجد ، ومن كره صلاة السنة يوم الجمعة كرهها لأنها توافق وقت الاستواء غالبا ، لكن لو تقدمت أو تأخرت بعد ذلك فلا شيء فيها      وعلى هذا لا يجوز الإنكار على من يصلي قبل الجمعة . والمفروض في مثل هذه المسائل الاجتهادية أن لا تكون مثاراً للجدال أو التعصب ، أو سبباً لحصول الخصومة ، ومن ظهر له صواب أحد القولين اتبعه ، وعمل به ، من غير أن ينكر على من أخذ بالقول الآخر ، لأن الخلاف في هذه المسألة خلاف في أحد الفروع الاجتهادية، التي لا ينبغي أن يتعصَّب فيها أحد لرأيه ، أو يُنكر على الآخر رأيه، لأنَّ شرْط الإنكار أن يكون المُنْكَر مجمَعًا على أنه منكَر، ولا يجوز أن يُرمى صاحب الرأي الآخر بأنه عاصٍ أو مُبْتَدِع . ثم لماذا لا نقتدي بالأئمة المجتهدين ، الذين أُثر عن غير واحد منهم أنه قال: رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأى غيري خطأ يحتمل الصواب. والمطلع على ما دار بينهم من نقاش يرى أنه كان بعيدًا عن المُهَاتَرَات ملتزمًا أدب المجادلة بالحُسْنى لأن هدفهم كان الوصول إلى الحق من أجل الحق، وقد يُسرُّ أحدهم إذا ظهر الحق على يد غيره ، لأنهم عملوا بالقاعدة الأصولية: الدليل إذا تطَرَّق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال ، فلا يتمسك بالدليل لإثبات الوجوب أو الحُرْمَة إذا احتمل الندْب أو الكراهة، والاحتمال قد يكون في ثبوت الدليل وقد يكون في دلالته . ويكفي المتعبِّد أن يصل إلى معرفة الحكم ولو بطريق الظن، فذلك وُسْعه الذي لا يكَلِّفُه الله إلا به.

والخلاف في مشروعية هذه السنة قديم   ولم يأت المتكلمون اليوم عنها بأكثر مما جاء به الأولون . فقال بمشروعيتها أبو حنيفة وأصحاب الشافعي في أظهر الوجهين عندهم والحنابلة في غير المشهور أيضًا. ولم يقل بمشروعيتها مالك والحنابلة في المشهور عنهم . ومن أشدِّ المتعصِّبين لعدم مشروعيتها ابن قيِّم الجوزية الحنبلي الذي خالف إمامه ابن تيمية فيها  والمطلع على أدلة الطرفين يجد أنها ليست قطعية ، ولكلِّ مجتهد أن يرى ما أدَّاه إليه اجتهاده ، ولا ينبغي أن يُنكر أحدٌ على أحدٍ  ويعجبني قول ابن تيمية في فتاويه : إن صلاة ركعتين قبل الجمعة جائزة وحَسَنَة وإن لم تكن راتبة … ثم قال : فمن فعل ذلك لم يُنكَر عليه ، ومن ترك ذلك لم ينكَر عليه ، وقال: ويتوجه أن يقال : هذا الأذان لما سنه عثمان، واتفق المسلمون عليه، صار أذانا شرعيا وحينئذ فتكون الصلاة بينه وبين الأذان الثاني جائزة حسنة . وهذا أعدل الأقوال  .

 

 

 

 

 

ما حكم من أتى زوجته في دبرها

 وهل تطلق منه؟ وما الذنب الذي يترتب على ذلك ؟ وهل له كفارة ؟

وطْءُ الزوجةِ في دبرها حرام ، ومن كبائر الذنوب ، والعياذ باللَّـه .

وقد لعن النبيصلى الله عليه وسلممن فعل هذا فقال : " ملعون من أتى امرأة في دبرها " رواه الإمام أحمد .  قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن اللَّـه لا يستحي من الحق، لا تأتوا النساء في أدبارهن ) . وعن أبي هريرة وابن عباس مرفوعا: ( لا ينظر اللَّـه إلى رجل جامع امرأته في دبرها ) رواهما ابن ماجه . وعن أبي هريرة مرفوعا: ( من أتى حائضا أو امرأة في دبرها أو أتى عرافا فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد ) رواه الأثرم ، ورواه الترمذي برقم 1/243 وهو في صحيح الجامع 5918 . وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ملعون من عمل عمل قوم لوط قالها ثلاثا ) صحيح الترغيب 2421 . وقد ذكر العلامة شمس الدين ابن قيم الجوزية شيئا من الحكم في حرمة إتيان المرأة في دبرها في كتابه زاد المعاد فقال رحمه الله تعالى : وأما الدبر : فلم يبح قط على لسان نبي من الأنبياء .. وروى جابر قال : كان اليهود يقولون: إذا جامع الرجل امرأته في فرجها من ورائها، جاء الولد أحول؛ فأنزل اللَّـه تعالى: ] نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّـكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ [ متفق عليه   . قال : من بين يديها أو من خلفها غير أن لا يأتيها إلا في المأتى . وفي رواية : ( ائتها مقبلة ومدبرة إذا كان ذلك في الفرج ) ومن المعلوم أن هذا الفعل محرم حتى لو وافق الطرفان فإن التراضي على الحرام لا يصيره حلالا .

أما هل تطلق الزوجة ؟ فالجواب : لا تطلق ، ولكن يُبَيَّنُ للزوج الحكمُ فإن تاب وأقلع ، تاب اللَّـه عليه ، وإلا تعين تعزيره ؛ لارتكابه هذه المعصية، وهي لا حَدَّ فيها ولا كفارة. ومتى نُهي عن هذا فلم ينته ؛ تعين التفريق بينهما ، كما يفرق بين الرجل الفاجر وبين من يفجر به من رقيقه . ذكره الشيخ تقي الدين بن تيمية .

وأما هل فيه كفارة؟

فالجواب: ليس في ذلك كفارة، وإنما الكفارة في وطء الحائض؛ لأن الحائض يحرم وطؤها، وفيه كفارة قدرها دينار أو نصف دينار -على التخيير-؛ لما روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يأتي امرأته وهي حائض قال: «يتصدق بدينار أو نصفه» . رواه أحمد والترمذي وأبو داود. وقال: هكذا الرواية الصحيحة. واللَّـه أعلم.

أما بالنسبة لما سألت عنه فإنّ إتيان الزوجة في دبرها ( في موضع خروج الغائط ) كبيرة عظيمة من الكبائر سواء في وقت الحيض أو غيره ، 2/479 وهو في صحيح الجامع 5865   ورغم أن عددا من الزوجات من صاحبات الفطر السليمة يأبين ذلك إلا أن بعض الأزواج يهدد بالطلاق إن لم تطعه ، وبعضهم قد يخدع زوجته التي تستحي من سؤال أهل العلم فيوهمها بأن هذا العمل حلال ، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يجوز للزوج أن يأتي زوجته كيف شاء من الأمام والخلف ما دام في موضع الولد ولا يخفى أن الدبر ومكان الغائط ليس موضعا للولد . ومن أسباب هذه الجريمة - عند البعض - الدخول إلى الحياة الزوجية النظيفة بموروثات جاهلية قذرة من ممارسات شاذة محرمة أو ذاكرة مليئة بلقطات من أفلام الفاحشة دون توبة إلى الله .

وإذا كان الله حرم الوطء في الفرج لأجل الأذى العارض ، فما الظن بالحُشّ الذي هو محل الأذى اللازم مع زيادة المفسدة بالتعرض لانقطاع النسل والذريعة القريبة جداً من أدبار النساء إلى أدبار الصبيان .

وأيضاً : فللمرأة حق على الزوج في الوطء ، ووطؤها في دبرها يفوّت حقها ، ولا يقضي وطرها ، ولا يُحصّل مقصودها .

وإن الدبر لم يتهيأ لهذا العمل ، ولم يخلق له ، وإنما الذي هيئ له الفرج ، فالعادلون عنه إلى الدبر خارجون عن حكمة الله وشرعه جميعاً .

وهو من أكبر أسباب زوال النعم ، وحلول النقم ، فإنه يوجب اللعنة والمقت من الله   وإعراضه عن فاعله ، وعدم نظره إليه ، فأي خير يرجوه بعد هذا ، وأي شر يأمنه  وكيف تكون حياة عبد قد حلت عليه لعنة الله ومقته ، وأعرض عنه بوجهه ، ولم ينظر إليه . كما يذهب بالحياء جملة ، والحياء هو حياة القلوب ، فإذا فقدها القلب ، استحسن القبيح ، واستقبح الحسن ، وحينئذ فقد استحكم فساده .

وإنه يحيل الطباع عما ركبها الله ، ويخرج الإنسان عن طبعه إلى طبع لم يركّب الله عليه شيئاً من الحيوان ، بل هو طبع منكوس ، وإذا نُكس الطبع انتكس القلب  والعمل والهدى ، فيستطيب حينئذ الخبيث من الأعمال والهيئات ..

 ولقد تحدث كثير من الأطباء عن آية وحكمة تحريم وطء الزوجة في الدبر فذكروا أنه ثبت علميا بأن حول فتحة الدبر كثير من الجراثيم التي تسبب كثير من الأمراض ومنها مرض فقد المناعة .

. وكما تقول الدراسات بأن أكثر الجراثيم المسببة لالتهاب المجاري البولية وبالتالي الألم اثنا الاتصال الجنسي هي جرثومة الاشريشياء كولاي والتي توجد في البراز والتي تجد طريقها إلى المجاري البولية والمهبل بإتيان المرأة في دبرها . كما يعتبر التهاب المهبل البكتيري السيلاني نتيجة أخرى لهذه العادة السيئة .  

وقد يكون هذا الفعل من أسباب مرض السرطان المنتشر هذا الزمان فإذا كان ديننا يأمرنا بالتنـزه من البول قبيل وبعد الجماع الجنسي وهو من الأمور الوقائية التي تقلل فرص الالتهاب البكتيري للمسالك البولية والتناسلية عند المرأة و الرجل سواء ومن ضمنها إلتهاب البروستات عند الرجل . وقد صح أن النبيصلى الله عليه وسلملم يعطي للمسلم رخصة في أن ينام دون أن يتنـزه من البول ، وإذا أحب تأخير غسل الجنابة عليه أن يتوضأ ، ففي صحيح البخاري عن ابن عمر : أن عمر بن الخطاب : سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أيرقد أحدنا وهو جنب ؟ قال (نعم إذا توضأ ) : فقد  اشترط صلى الله عليه وسلم لتأخير غسل الجنابة الوضوء وقد تبين أن له حكمة ربانية تقي من كثير من الأمراض . فما بالك بإتيان المرأة في دبرها ، أو ممارسة اللواط معها وهو يعتبر من الأمور التي تؤدي إلى التهابات وأمراض جمة للرجل والمرأة وقد لوحظ زيادة أمراض البروستاتة عند الرجال الذين يمارسون رذيلة ومعصية اللواط .  

حكم الزيادة في الركعات في الصلاة

 روى البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلن صلى الظهر خمسا فقيل له :( أزيد في الصلاة ؟ فقال : وما ذاك قال : صليت خمسا  فسجد سجدتين بعدما سلّم ) إذا قام الإمام إلى ركعة خامسة ناسيا ، وجب على المأمومين تنبيهه ليرجع  فإن لم يرجع ظناً منه أنه على صواب  لم يجز للمأموم الذي يعلم أنها الخامسة أن يتابع الإمام ويقوم معه ، لأنه بذلك يكون قد زاد ركعة في الصلاة عالماً عامداً  وهذا مبطل للصلاة . بل يجلس المأموم ويتشهد ثم يسلم أو ينتظر الإمام ويسلم معه . وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن إمام قام إلى خامسة فسبح به فلم يلتفت لقولهم ، وظن أنه لم يسه فهل يقومون معه أم لا ؟

فأجاب : "إن قاموا معه جاهلين لم تبطل صلاتهم ، لكن مع العلم لا ينبغي لهم أن يتابعوه ، بل ينتظرونه حتى يسلم بهم ، أو يسلموا قبله ، والانتظار أحسن" . مجموع الفتاوى  (23/53) .

في صلاة التراويح سهى الإمام وبدل من أن يصلي ركعتين صلى ثلاث ثم سلم وسجد سجود السهو ، ثم قام وصلى واحدة لاعتقاده أنها تصبح ركعتان مع الركعة الزائدة في الركعتين الأوليتين ، ما الحكم ؟ وما ذا يجب على المأمومين إذا سهى الإمام؟ إن سجد الإمام للسهو قبل أن يأتي بركعة منفردة أصاب لأنه ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام : لكل سهو سجدتان بعد ما يسلم . رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث ثوبان رضي الله عنه ، وأخطأ في إتيانه بركعة مُنفردة ظانّـاً أنها تَجبُر ما تقدّم ، لأن السهو خطأ ولا يُبنى عليه ، لأن النبي صلى الله عليه وسلن قال ‏:‏ ‏( ‏صلاة الليل مثنى مثنى‏ ) ‏‏.‏ فإذا زاد المصلي على ذلك فقد أتى بما ليس عليه أمر النبي صلى الله عليه وسلن فإذا قام إلى الثالثة في صلاة التراويح ناسياً ثم ذكر أن يرجع ويتشهد ، ويسجد للسهو بعد السلام ،  ونص الإمام أحمد – رحمه الله – على أنه إذا قام المصلي في الليل إلى الثالثة فكما لو قام إلى ثالثة في الفجر، أي كما لو قام من يصلي الفجر إلى ثالثة  ومن المعلوم أن من قام إلى ثالثة في صلاة الفجر ، وجب عليه الرجوع لئلا يزيد على المفروض‏ .‏ وقد بين الفقهاء رحمهم الله هذا في باب صلاة التطوع‏.‏

وأما قياس هذا على من قام عن التشهد الأول ، وقال إنه لا يرجع إذا استتم قائماً ‏.‏ فلا وجه لقياسه؛ لأن القيام عن التشهد ترك لواجب جاءت السنة بجبره بسجود السهو وهو ترك لا يزيد الرجوع إليه إلا خللاً في الصلاة ، لا حاجة إليه لأنه يجبر بسجود السهو، أما من قام إلى زيادة فهو استمرار في زائد غير مشروع‏ .‏  

 

 

 

لماذا قست القلوب

 لقد قست القلوب ؛ فألفت رؤية المنكرات في واقع المسلمين وإن أنكرته   وأصبحت وقد تعوّدت رؤية النكبات تحيط بالأمة من كل جانب , حتى أضحت أخبار قتلى المسلمين هنا وهناك أمراً مألوفاً ، ومناظر القصف والتشريد كالوجبة المسممة التي تعودنا عليها ومع كثرة الفتن والابتلاءات التي تعرض على قلب المسلم يومياً , ومع عدم وجود التحصين الكافي لكثير من الناس إلا من رحم الله , أصيبت القلوب معها بشيخوخة قاتلة   ومرض مزمن لا يرفعه عن قلب المؤمن إلا الله  سبحانه مصداقاً لقول النبي  صلى الله عليه وسلم : ( تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودا عُودا. فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ. وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ. حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ، عَلَى أَبْيَضَ مِثْل الصَّفَا. فَلاَ تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ. وَالآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادا كَالْكُوزِ مُجَخِّيا لاَ يَعْرِفُ مَعْرُوفا وَلاَ يُنْكِرُ مُنْكَرا. إِلاَّ مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ ) . وحين تجف داخل النفس الإنسانية عاطفة الإحساس بآلام الآخرين وحاجاتهم   وحين تنعدم من القلوب الرحمة ، تحل القسوة بالقلوب فتصبح مثل الحجارة التي لا ترشح بأي عطاء ، وقد وصل أقوامٌ إلى هذا الحال من القسوة وانعدام الرحمة   فقال تعالى واصفاً قلوب بني إسرائيل:  ﴿ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَآءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ البقرة 74. قال الشوكاني في فتح القدير: "والقسوة الصلابة واليبس وهي عبارة عن خلوها من الإنابة والإذعان لآيات الله   وقد بين الله تعالى للمؤمنين خطورة قسوة القلب وبعده عن الخشوع في قوله  ﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلاَ يَكُونُواْ كَالَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ . كلمات يشع منها النور تدل على عطف الله على عباده ومعاتبته وحبه لهم ، لأن تخشع قلوبهم وتلين لذكره . لأننا إذا جعلنا القلب كثير الذكر لله فإنه يمتلء رحمةً وعطفا ، فالقلب هو منبع اليقين ومصب الإيمان ، وكما أن الإيمان في القلب فإن القسوة والكفر في القلب   وحين ينسى القلب ذكر الله يقسو ، لأنه يعتقد أنه ليس هناك إلا الحياة الدنيا وإلا المادة ، فيحاول أن يحصل منها على أقصى ما يستطيع وبأي طريقة ، فلا تأتي إلا بالظلم وأخذ الحقوق ، وإن أية أمة يطول عليها الأمد وهي تتقلب في بحبوحة النعم على فسق وفجور   ومعصية ونسيان لربها   تقسو قلوبها فلا تخشع لذكر الله وما نزل من الحق ، وبهذا يبتعدون عن مهابط الرحمة فتقسو القلوب أكثر فأكثر. وحين تشتد قسوة قلوب الأمم ، يكون آخر علاج لإصلاحها ، أن تنزل بها الآلام والمصائب   لتردها إلى الله ، فتلجأ إليه وتتضرع بذل وانكسار لاستدرار رحمته . فإذا لم تستجب القلوب لهذا الدواء ، يأتي دور الهلاك وفق سنة الله بعد أن يفتح عليهم أبواب كل شيء من الترف والنعمة  حتى إذا اغتروا بما عندهم من زهرة الدنيا وزينتها أتاهم عذاب الله: ] وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ  [ الأنعام:42 . أخذهم الله بالبأساء والضراء ليرجعوا عن عنادهم ويدعون الله أن يرفع عنهم البلاء ولكن تحجرت قلوبهم فلم تعد الشدّة تثير فيهم الإحساس وتردهم إلى الله  فقست قلوبهم قسوة بالغة ، فأصبحت لا تلين عند ذكر الله ، وتظل معرضة عنه ولا يزيدها التذكير بالله إلا قسوة ونفورًا   وفي الآية ما يدل على أن الرخاء ابتلاء آخر كابتلاء الشدة ، يبتلي الطائعين والعصاة على السواء ، فالمؤمن يبتلى بالشدة فيصبر ويبتلى بالرخاء فيشكر   ويكون أمره كله خيرا وفي الحديث :       ( عجباً للمؤمن إن أمره كله خير   وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن ، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له ، وإن أصابته ضرّاء صبر فكان خيراً له ) مسلم .وفي الآية ما يدل استئصال الأمم التي ظلمت وعصت وأعرضت عن أمر ربها ، ولكن الله رفع عذاب الاستئصال بعد بعثة رسول الله  صلى الله عليه وسلم  وبقين هناك ألوانٌ من العذاب تذوق منها الكثير ، كالعذاب النفسي والشذوذ الجنسي والانحلال الخلقي وليس هذا إلا غيضٌ من فيض وصدق رسول الله  صلى الله عليه وسلم  عندما قال ؛ ( إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا – على معاصيه – فإنما هو استدراج ) ثم تلا قوله تعالى : ] فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء [ غير أنه ينبغي مع ذلك التنبيه إلى أن سنة الله في تدمير الباطل ، أن يقوم في الأرض حق يتمثل في أمة ، ثم يقذف الله بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق .. فلا يقعدنَّ أهل الحق كسالى يرتقبون أن تجري سنة الله بلا عملٍ منهم ولا كد ، فإنهم حينئذٍ لا يمثلون الحق ولا يكونون من أهله .. وهم كسالى قاعدون   والحق لا يتمثل إلا في أمة تقوم لتقر منهج الله في الأرض وتدفع المعتدين عليه  إن أصحاب هذه القلوب القاسية هم أبعد الناس عن الله ،كما قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم  : ( لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله ، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب، وإن أبعد القلوب عن الله القلب القاسي ) . إن حرارة الإيمان تستطيع أن تنضج القلوب فتلينها وترققها ، فإذا غذاها وقود العمل الصالح والإكثار من الذكر ، ومراقبة عدل الله وفضله وسلطانه المهيمن على جميع خلقه ، رقَّت القلوب وخشعت.. ومتى وصلت القلوب إلى هذه المرحلة تدفقت منها الرحمة . أما عند غياب هذه المعاني الإيمانية عن القلوب فإنها تتيه في ظلمات الضلال والغواية والعصيان ، فتقسو وتتكبر . ومن العجيب أن صاحب هذا القلب لا يشعر بأنه معاقب . وما أشد هذه العقوبة وأعظمها ، يقول مالك بن دينار : ما ضُرب عبدٌ بعقوبة أعظم من قسوة القلب ، وما غضب الله على قوم إلا نزع الرحمة من قلوبهم  .  أما عن أعظم أسباب قسوة القلوب فقد أخبر الله عنه عندما ذكر السبب الذي جعل ذريات بني إسرائيل تقسو قلوبهم فقال تعالى: ]فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [ [المائدة:13]. فالمعصية ومخالفة أمر الله ونقضهم العهد والميثاق سبَّب لهم الطرد عن الله ، فابتعدوا بذلك عن مهابط رحمة الله   فأمست قلوبهم جافة قاسية .  لأن من شر ما أصيبت به النفوس ، وضربت به القلوب  وهلكت به الأبدان - الغفلة عن الهدى   والإعراض عن مسالك الرشد ، اتباعاً للهوى وإيثاراً للحياة الدنيا ، وكم ذم الله الغافلين ووصفهم بشر الصفات ووعدهم بشديد العقوبات ، قال تعالى في محكم الآيات: ] إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون * أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون [  وقال تعالى:  ] ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون [ .  فهم أضل من الأنعام  وجزاؤهم على غفلتهم النار وبئس المقام ، لأنهم قصروا هممهم على الطعام والشراب وتحصيل الملذات ، واشتغلوا باللهو والتمتع بمحرم الشهوات   عن طاعة رب الأرض والسماوات  فأسماعهم عن الخير مقفلة ، وأبصارهم عن النظر في العواقب معطلة  وقلوبهم في وجه الحق مغلقة ، تتلى عليهم الآيات فلا يعتبرون ، وتطرقهم القوارع وتنزل بساحتهم الفواجع ، وهم بلهوهم وملذاتهم وتجاراتهم مشتغلون ، خدعهم طول الأمل   فشغلهم عن صالح العمل ، والاعتذار عن الزلل ، ولم يبادروا إلى التوبة وصالح العمل . إن من أعظم مظاهر قسوة القلوب والغفلة عن مراقبة علام الغيوب  أن الناس في هذا الزمان قد أحاطت بهم الأخطار ، وتوالت عليهم نذر الجبار، وصاروا يتوقعون أشد  العقوبات والأخطار ، ومع ذلك فكثير منهم يعصون الله فيما أمر ، ويتعاملون بمى نهى عنه وزجر ، يتعاملون بالربا الذي آذن الله أهله بالحرب ، ويتعاطاه العامل والموظف والتاجر      يحتالون على أكله بالضرورات التي توقع في المحظورات  ولا ضرورة مع ورود الآيات المحرمات  وآخرون من الناس جاهروا بترك الصلوات ، وعطلوا المساجد من حضور الجماعات  ، وطائفة واطأوا أنفسهم على منع الزكاوات ، وبذلوا الأموال في المحرم من الشهوات ، وكم ترى في الشوارع والمنتديات ما عليه النساء من التبرج والسفور وغير ذلك من المنكرات   وكم في البيوت من يعمل عمل الكفار  وأصناف الأشرار، ونحوها مما هو كفيل بالعقوبة بخسف الدار ، وما أخذ الله قوماً إلا عند غفلتهم وسلوتهم  وحال غرتهم ونعمتهم فإذا رأيت الله يعطي العباد من الدنيا ما يحبون ، وهم على معصيته مقيمون ، فاعلم أنه يستدرجهم من حيث لا يعلمون ] وأملي لهم إن كيدي متين [ . إن الجرأة على اقتراف الخطيئة والمجاهرة بالمعصية والإصرار على تكرار الذنوب    والاستهانة بوعيد علاّم الغيوب طغيان ليس وراءه طغيان ، لذا توعد المجاهرين بالمعصية بحرمان النعم    وفي الحديث الصحيح قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم  : ( كل أمتي معافى إلا المجاهرين ) . فالمجاهر ليس في عافية ، والمصر على الخطيئة مرتكب للكبيرة ، وكلاهما عرضة لعذاب الله ونقمته وشدة غضبه ، وعظيم مؤاخذته  جزاء جرأتهم عليه   واستهانتهم بما لديه    فاتقوا الله عباد الله   واعملوا جاهدين بطاعته ، وحذار من المجاهرة بمعصيته ، أو الاستخفاف بعقوبته فإنها من أسباب هلكته ، وإن زلت بكم القدم فبادروا بإعلام الندم  وأسرعوا بالتوبة وصدق الأوبة قبل فوات الأوان ، فكل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون  فأصلحوا فساد قلوبكم ، واسلكوا نهج السداد في أقوالكم وأعمالكم ومعاملاتكم ، يصلح الله لكم أحوالكم   ويحفظ نعمه عليكم   وإلا فإن المعاصي على أهلها مشؤومة  فإنها تقصم الأعمار، وتمحو الآثار  وتسلط الأشرار ، وتجلب الأخطار  وتحدث في الأرض أنواعاً من الفساد والدمار ، وتجلب الحوادث المروعة  والمصائب الفاجعة ، والأمراض الفتاكة  وضررها على القلوب أعظم من ضرر السموم في الأبدان ، وكلما أحدث الناس ذنباً أحدث الله لهم عقوبة تليق به عدلاً  وصدقا ] واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون  [ .     

 

 

لماذا تخلّف المسلمون

وقف أمير الشعراء شوقي أمام قصر الحمراء بغرناطة-بأسبانيا- لينقل أحاسيسه وأحاسيس كل المسلمين ، وهي أحاسيس الأسى والحزن العميق علي هذا المجد الخالد الذي شيده المسلمون طيلة ثمانية قرون وقف يقول :

أناجي الرسم لو ملك الجوابا    وأجزيه بدمعي لو أثابـا

إنها ذكريات تبعث في النفس آلاماً كثيرة، وتذكرنا يوم أن كان أجدادنا سادة العالم ، وعندما انسلخوا عن دينهم وتركوا الجهاد ، خسروا الأندلس ، فخلت منهم بلاد طالما ازدانت بهم وعنت لهم فتذكرت قول الشاعر :

قلت يوماً لدار قومٍ تفانوا   أين سكانك العزاز علينا

فأجابت هنا أقاموا قليلاً   ثم ساروا ولست أعـلم أينا

إن عرب الأندلس لم يتخلوا عن دارهم طائعين ، ولكنهم أُخرجوا مطرودين ، أفلا نعتبر بما أصاب الأجداد ؟ وهل نفيق من غفلتنا  ونستيقظ من نومتنا ، ونصحوا من سباتنا ونفتح أعيننا وندرك ما يدور بالعالم من حولنا ، قبل أن يفوتنا قطار الزمن وأحسبه قد كاد ، أما آن لنا أن نهب لننفض غبار الذل والوهن والعار عن جبيننا ، ونعمل لاستعادة كرامتنا المفقودة ، وتحقيق وحدتنا المنشودة  ونتوحد ونتجمع حول ديننا الحنيف الذي أكرمنا الله به  وندرك قولة عمر بن الخطاب المشهورة : " نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فمتى ابتغينا العزة من غيره أذلنا الله "  ألا يكفنا ذلا ومهانة ، وأين النخوة والشجاعة والكرامة ؟ أين التلاحم والتكافل والتضامن ، وإلى متى نجري ونلهث وراء سراب السلام  بدل أن نحزم أمرنا ونشد أزرنا ونعتصم بربنا قال تعالى : ﴿ ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم﴾ ، أما آن لنا أن نكفر بأعدائنا قال تعالى : ﴿ فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى ﴾ ، أما آن لنا أن نفكر كيف انحدرت الأمة من مستواها الرفيع إلى ماهي عليه الآن ، حتى صارت ذلك الغثاء الذي أخبرنا عنه رسول الله  صلى الله عليه وسلم  ، وخُيِّل لمن استعبد الغزو الفكري قلوبهم وأرواحهم ، أن ضعف المسلمين وتأخّرهم كان لتمسكهم بالإسلام ، الذي كان حركة تقدمية يوماً ما! وأن دوره قد انتهى وتخلّف ، ولم يعد صالحاً لمواكبة التطور الحديث   وما علموا أن الذي تخلّف لم يكن هو الإسلام وإنما المسلمون ، وقد تخلّفوا لا لتمسكهم بالإسلام ولكن لتخليهم عنه, وتفريطهم فيه.. أما الإسلام فما زال هو الدين الحق ، وما زال هو الطريق المستقيم ، تخلّف المسلمون لبعدهم عن حقيقة الإسلام, وإن بقيت لهم بعض مظاهره ، كالنطق بأفواههم "لا إله إلا الله محمد رسول الله" التي تحوّلت من منهج حياة كامل إلى الكلمة التي تُنطق بالأفواه ، وتحوّلت العبادة بعد أن انحصرت في الشعائر التعبدية، وخرجت منها الأعمال والأخلاق إلى أداء آلي تقليدي خاوِ من الروح . وتحوّلت عقيدة القضاء والقدر من قوة دافعة إلى النشاط والحركة مع التوكل على الله , إلى قعود عن النشاط والحركة مع تواكل سلبي مريض، وتحوّل التوازن الجميل بين الدنيا والآخرة ، إلى إهمال للدنيا من أجل الخلاص في الآخرة ، فأُهملت عمارة الأرض وطلب العلم وطلب التمكين والقوة، وعمّ الجهل والفقر والمرض، ورضي الناس بذلك كله على أنه قدر ربّاني لا قبل لهم بتغييره ، أهذا هو الإسلام؟! أم هذه صورة مناقضة لحقيقة الإسلام ؟ وهل يمكن أن يؤدي الشيء ونقيضه إلى نتيجة واحدة ؟!ألا يقود الإسلام إلى حياة التمكين والقوة ونقاء الأخلاق والتقدم العلمي والحضاري، ومقاومة انحرافات البيئة والتغلب عليها ، وأن التمسك بالأوهام يؤدى إلى الضعف والتخلف والخضوع لانحرافات البيئة والعجز عن تقويمها؟ وأن  أوّل هذه الأوهام الاعتقاد بأن الإيمان هو التصديق والإقرار وأن العمل ليس داخلاَ في مسمى الإيمان !! وبهذا الوهم حسبوا أنفسهم مؤمنين ، وهم لا يعملون بمقتضى الإيمان   فخرجت أخلاقيات "لا اله إلا الله" من دائرة العبادة وأصبح من المستساغ عند الكثير أن يؤدوا الركعات المفروضة في المسجد ، ثم يخرجوا ليكذبوا على الناس ويغشوهم ويخدعوهم ، ويخلفوا وعودهم معهم , ولا يخلصوا في أعمالهم, و لا يتقنوا حرفتهم, ولا يأمروا بالمعروف ولا ينهوا عن المنكر ولا يعملوا على وقاية أنفسهم وأهليهم من النار باجتناب ما حرم الله, ولا يعاشروا زوجاتهم بالمعروف, ولا يهتموا بأمر المسلمين ولا يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله.. وفي حسهم أنهم أدّوا العبادة !! التي قد لا تصلح زاداَ للدنيا أو الآخرة ؟!  حين تؤدى على هذه الصورة ، فقد يسقط وزرها ولا يثاب الإنسان عليها، إنما يكون الثواب في الآخرة على قدر ما في العبادة من صدق ، أما في الدنيا فلا يكون لها أثر حقيقي  كما توهّموا أنهم ماداموا "مسلمين" فسينصرهم الله , وسيوفقهم وسيقضي لهم حوائجهم   مهما يكن حالهم ومهما تكن حقيقة أعمالهم!! في غفلة كاملة عن السنن الربانية قال تعالى للمؤمنين: ﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾ . ولم يقل لهم : مادمتم مؤمنين فسأنصركم, وأثبت أقدامكم مهما تكن أحوالكم وأوضاعكم وأعمالكم!!ألم يهزِم المؤمنون -وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقعة أحد حين عصوا أمر الرسول  صلى الله عليه وسلم . وهُزموا يوم حنين -وفيهم رسول الله  صلى الله عليه وسلم  كذالك- حين أعجبتهم كثرتهم فلم تغن عنهم شيئاَ وهم خير القرون.. فكيف بهاتيك القرون الغارقة بالبدع والمعاصي؟! أفكان الله ناصرهم وهم لا ينصرونه؟! لمجرد دعواهم أنهم مؤمنون؟ أفكان الله موفّقهم وهم يعصونه ولا يقومون بواجبهم نحوه؟ أفتنجح مقاصدهم وقلوبهم مشغولة بذكره غافلة عن أمره ونهيه كلا والله : ﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً﴾  .

أما كيف فسدت مفاهيم الإسلام ؟ وما الأسباب التي زحزحت المسلمين عن حقيقة دينهم , وهم يحسبون أنهم متمسكون به ! وحتى توهم البعض وإن أدركوا أنهم مقصرون ، فإنهم في مغفرة الله مهما فعلوا, حتى وقعوا فيما وقعت به بنو إسرائيل: ﴿ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا ﴾ ، ﴿ وَرِثُواْ الْكِتَابَ ﴾ أي أخذوه وراثة واتخذوه تراثاً! ولم يشعروا أنه كتابهم هم , المنزّل إليهم ليعملوا بمقتضاه! إنما هو كتاب الآباء والأجداد وهم مجرد ورثة له, غير مكلّفين بالعمل بما جاء به !! فتحقق النذير: تداعت عليهم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها, بينما هم كثير كثير.. ألف مليون من البشر ، وقد بذل الاستعمار جهوداً هائلة لشغل المسلمين عن تلبية صيحة الجهاد التي كانت تستهوي المسلمين من كل لون ، ليضمن فرض ظلماته ومظالمه دون أية مقاومة ، وقد توصل إلى ذلك بتكثير الشهوات أمام العيون الجائعة ، وتوهين العقائد والفضائل التي تعصم عن الدنايا ، وإبعاد الإسلام شكلاً وموضوعاً عن كل مجال جاد ، فكانت الكارثة عندما تآمرت الصليبية الصهيونية على الخلافة العثمانية وأسقطتها. وفتت العالم الإسلامي إلى دويلات صغيرة هزيلة ضعيفة تتصارع فيما بينها ، ونُحِّيت الشريعة الإسلامية عن الحكم في كل البلاد التي دنستها أقدام الصليبين ، تشفياً وحقداً من ناحية, وزعزعة للدين من أصوله من ناحية أخرى .

فهم يعرفون أنهم حين ينقضون عروة الحكم تنقض بعدها بقية العرى كما أخبر  صلى الله عليه وسلم : ( لتنقضن عرى هذا الدين عروة عروة, كلّما نقضت عروة تمسك الناس بالتي بعدها  فأولهن نقضاَ الحكم وآخرهن نقضاَ الصلاة)    وفي كل حين تهجم الصليبية هجمة أو تهجم الصهيونية هجمة فيعيدون تفتيت الدويلات التي فتتوها من قبل, ليحيلوها إلى تراب تسحقه أقدامهم! ويفتعلون الأزمات لتحقيق أهدافهم, وما أبعد الشقة بين الأجيال التي شهد لها خالقها بقوله  :   ﴿  كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ والأجيال التي حذّر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( غثاء كغثاء السيل ) وسنّة الله لا تتبدل ولا تتحول ولا تحابي أحداً من الخلق ، قال تعالى : ﴿ ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ فالمسلمون يمكنهم إذا أرادوا بعث العزائم وعملوا بما حرضهم عليه كتابهم أن يبلغوا مبالغ الأوربيين والأمريكيين واليابانيين من العلم والارتقاء، وأن يبقوا علي إسلامهم كما بقي أولئك علي أديانهم، بل هم أولي بذلك وأحرى، فإن أولئك رجال ونحن رجال، وإنما الذي يعوزنا الأعمال  وإنما الذي يضرنا هو التشاؤم والاستخذاء وانقطاع الأعمال. فلننفض غبار اليأس ولنتقدم إلي الأمام ولنعلم أننا بالغوا كل أمنية بالعمل  والإقدام وتحقيق شروط الإيمان التي في القرآن قال تعالى: ﴿ والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين ﴾ العنكبوت 69 . أيها المسلمون، إن عالم اليوم مليء بأطماع غير متناهية البشرُ يأكلون ولا يشبعون، ويشربون ولا يرتوون، في حياةٍ تدفع الأفراد والدول إلى صراع مسعور  قد ينتهي بالعجز والهلاك والشقاء، بل قد ينتهي إلى شرٍّ عريض ودمار كبير  فهل يعي عقلاء البشر أنه لا مخلِّص ولا منقذ إلا الاستجابة لنداء الخالق جل وعلا، ذالكم النداء الذي تصلح به الأحوال وتحسن به الأوضاع قال تعالى:﴿ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمْ بُرْهَانٌ مّن رَّبّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً فَأَمَّا الَّذِينَ ءامَنُواْ بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مَّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُّسْتَقِيماً﴾ النساء 174 .  وإنه لحريّ بأبناء الأمة الإسلامية حُكَّاماً ومحكومين أن يتّجهوا للهدي المُغني والصراط الواقي الذي بدونه يعيشون في هموم لازمة وتعبٍ دائم وحسرةٍ لا تنقضي وشقاء لا ينتهي فالله يقول: ﴿ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً ﴾ الأحزاب:36 . إن أعداء الإسلام يصِرّون على تمزيق وحدة المسلمين ويخططون لتفريقهم، ويتداعون لنهب حقوقهم وقتل روح الدين والعزة فيهم  يريدون أن  يمسخوا عقول المسلمين  فلا دين يحفظون، ولا دنيا يقيمون. يبيتون للمسلين الحقد والكراهية فهم كما قال تعالى : ﴿ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْواهِهِمْ وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ﴾  آل عمران 118 . وما أحرانا أن نفهم هذا التحذير النبوي ( إنما أخشى عليكم شهوات الغَيِّ في بطونكم وفروجكم ومضلات الهوى ) .

 

 

 

ما هو الحب في الله

قال تعالى : ) قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم ( آل عمران .فما هو الحب في الله : هو الحب الخالص الذي لا يراد به إلا وجهه الكريم ، حب خالٍ من أي غرض ، حب لا يقوم على الإعجاب بشخص لموهبة عظيمة أو حديث ممتع أو مصلحة قائمة ، بل يقوم على التقوى والصلاح ، ويولد ويكبر في طريق الإيمان والإحسان ، فبحب الله ورسوله نحب  وببغض الله ورسوله نبغض ، وإن من  يستحقون الموالاة والحب المطلق ؛ هم المؤمنون الخلص الذين آمنوا بالله تعالى رباً  وبرسوله نبياً ، وقاموا بشعائر الدين علماً وعملاً واعتقاداً قال الله تعالى: ) إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ( المائدة 55 .  وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم  : ( المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضاً ) وقال: (المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه ) . وحتى عصاة المؤمنين  يستحقون الموالاة والحب من جهة    والمعاداة والبغض من جهة أخرى ، يُحَبون لما فيهم من الإيمان والطاعة ، ويُبغَضون لما فيهم من المعصية والفجور التي هي دون الكفر والشرك . أما الكفار الخلّص الذين يظهر كفرهم على اختلاف أجناسهم من اليهود والنصارى والمشركين والملحدين ، والوثنين  والمجوس ، والمنافقين ، أو من تبعهم من أصحاب المذاهب الهدامة ، والأحزاب العلمانية فهم يستحقون المعاداة والبغض المطلق . يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:" فلا تزول الفتنة عن القلب إلا إذا كان دين العبد كله لله ـ عز وجل ـ، فيكون حبه لله ولما يحبه الله ، وبغضه لله ولما يبغضه الله  وكذلك موالاته ومعاداته " ونحن في أمس الحاجة إلى أننا نحبُّ أن نُحِبَّ، وأن نُحَبَّ وبقدر ذلك نكون راضين عن أنفسنا أكثر  وإن أعظم حب في الوجود حبُّ الله للعبد   وحبُّ العبد لله ؛ لأنه سر الحياة ، وينمو هذا الحب في القلب الصادق من خلال العبادات والطاعات ، ومن خلال تنمية الحب لله تعالى   تنمو حدائق الحب الأخرى بدءاً بحب الرسول صلى الله عليه وسلم  ، الذي هو الطريق إلى حب الله تعالى: ) قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ ( آل عمران:3. والى حب الوالدين الذي منبعه حب الله تعالى: ) وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ(  لقمان 14 . وحتى حب المؤمن للمؤمن مبنيّ على حب الله تعالى: ) فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (54 المائدة . وفي الحديث : ( ثلاثٌ من كُنّ فيه وجد حلاوة الإيمان؛ أن يكون الله ورسوله أحبّ إليه مما سواهما   وأن يحبَّ المرء لا يحبه إلا لله ، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يُقذف في النار) البخاري 16. فالعلاقة في الثلاث كلها علاقة حب وكره . والأصل في الحب أو البغض أن يكون لكل ما يحبه الله أو يبغضه الله ، فمن يحبه الله يستحق أن يُحَبَّ ، وما لا يحبه فهو المستحق للبغض والكره والهجران ؛ وقد جاءت المواقف الربانية لكثير من الأمور في حياة البشر بصيغة الحب والكره فالله تعالى: )لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ ( و ) يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ( و ) لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ( ولكنه ) يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ( وبناء على كل تلك المحبات المعللة ، جاءت علاقتنا بالآخرين علاقة حب وعدم حب بحسب علاقتهم بنا  فكل من عقد الله بينك و بينه عقد الأخوة  في قوله تعالى : ) إِنَّمَا الْمٌؤمِنٌونَ إِخْوَة ( يستحق مبادلته بلوازم الحب في الله ! وكل من يعاملك بالمحبة الإيمانية ، يستوجب عليك حقوق الأخوة الإسلامية ! وقد جعل الله عز وجل الحب في الله والبغض في الله من أوثق عرى الإيمان جاء في الحديث  : ( أوثق عرى الإيمان : الموالاة في الله ، والمعاداة في الله  والحب في الله ، والبغض في الله ! )  . والميزان الضابط لمفهوم الأخوة ، والذى لا يتم الإيمان إلا به  ما بينه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم  بقوله : ( والذي نفسي بيده ، لا يؤمن عبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير ) والإيمان لا يكمل إلا بصدق هذه العاطفة ، وإخلاص هذه الرابطة : ( من أحب لله ، وأبغض لله ، وأعطى لله ، ومنع لله ، فقد استكمل الإيمان ) . وأنشدوا :

وأحبب لحبّ الله من كان مؤمنا   و أبغض لبغض الله أهل التّمرّد

 لقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم  المفاضلة بين الأخوين المتحابين ، بمدى حب كل منهما لأخيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  : ( ما تحابَ اثنان في الله تعالى إلا كان أفضلهما أشدهما حباً لصاحبه )   وإن دخل الشيطان بينهما في يوم من الأيام فليراجع كل منهما قلبه ! وليحاسب نفسه ! لقوله صلى الله عليه وسلم  : ( ما توادَّ اثنان في الله فيفرق بينهما إلا بذنب يحدثه أحدهما ). إن التحابب في الله تعالى والأخوة في دينه من أعظم القربات   ولها شروط يلتحق بها المتصاحبون بالمتحابين في الله تعالى ، وبالقيام بحقوقها يُتقرب إلى الله زلفى ، وبالمحافظة عليها تُنال الدرجات العلى قال تعالى: ) وألّف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألّفت بين قلوبهم ولكنّ الله ألّف بينهم ( الأنفال 63 .  وللأخوة في الله مكانة عظيمة عند الله عز وجل فبها تنُال محبته ورضاه يقول سبحانه في الحديث القدسي : ( وجبت محبتي للمتحابين فيًّ، والمتجالسين فيَّ والمتزاورين فيَّ ، والمتباذلين فيَّ ) رواه مسلم . وللمتحابين في الله مكانة يغبطهم عليها كل من خلق الله سبحانه فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال: ( إن من عباد الله لأناسا ما هم أنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء بمكانتهم من الله فقالوا:يا رسول الله تخبرنا من هم ؟ قال: قوم تحابوا بينهم على غير أرحام بينهم ، ولا أموال يتعاطونها  فوالله إن وجوههم لنور، وإنهم لعلى نور، لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنوا إذا حزنوا، ثم قرأ : ) أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ( .  وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم  : ( ينصب لطائفة من الناس كراسي حول العرش يوم القيامة، وجوههم كالقمر ليلة البدر ، يفزع الناس وهم لا يفزعون ويخاف الناس وهم لا يخافون وهم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، فقيل من هم يا رسول الله؟ قال: هم المتحابون في الله تعالى). وقال صلى الله عليه وسلم  أيضا :( لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا ) رواه مسلم .والمتحابين يحميهم الله من حر يوم القيامة في ظله يوم لا ظل إلا ظله. قال صلى الله عليه وسلم  : ( حقت محبتي للذين يتزاورون من أجلي   وحقت محبتي للذين يتناصرون من أجلي ) .  والاخوة تحقق محبة الله للعبد . قال صلى الله عليه وسلم  : ( إن رجلا زار أخا له في الله ، فأوجد الله له ملكا فقال أين تريد.؟ قال: أريد أن أزور أخي فلانا.

فقال: لحاجة لك عنده؟  قال : لا ، قال :  فيم .. قال : أحبه في الله . قال : فإن الله أرسلني إليك أخبرك بأنه يحبك لحبك إياه وقد أوجب لك الجنة) .

 والمحب لله هو كما جاء في الأثر : "من عامل الناس فلم يظلمهم ، وحدثهم فلم يكذبهم ، ووعدهم فلم يخلفهم ، فهم ممن كملت مروءته ، وظهرت عدالته  ووجبت أخوته". وكما ورد "حق المؤمن على أخيه أن يبين له الحق إذا احتاجه ، ويشد عزمه إذا أصاب ، وأن يشكر له إذا أحسن  ويذكره إذا نسي ، ويرشده إذا ذل ، و يصحح له إذا أخطأ ، ولا يجامله في الحق   ولا يسايره على الباطل ، ويكون له هاديا ودليلا ومعينا وأمينا .

وقد اثبتت التجارب ، أنه إذا نشأت صداقة لله فلن تبقى إلا بطاعته ، ولن تزكو إلا ببعد الصديقين معا عن النفاق والفساد ، فإذا تسربت المعصية إلى أحدهما تغيرت القلوب وذهب الحب . ففي الحديث (والذي نفسي بيده ما تواد اثنان فيفرق بينهما إلا بذنب يحدثه أحدهما ) . ومن دلالات الحب  سلامة صدر المؤمن تجاه إخوانه ، لأن الأخوة الحقة هي التي تقوم على عواطف الحب والود والتعاون المتبادل والمجاملات الرقيقة ، بل هي كما وصفها القرآن: ( وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) .

فمن يحب في الله ويبغض في الله فإنه يحب الله ويمتلئ قلبه بالإيمان به ، فإذا وجد الإيمان كان الحب في الله والبغض فيه . وإن كان هناك حب في الله وجد المسلم حلاوة الإيمان في جوفه .  جاء في الخبر أن الله تعالى قال : " يا موسى هل عملت لي عملا قط ؟ قال: الهي صليت لك ، و صمت لك ، و تصدقت لأجلك  وسجدت لك ، وحمدت لك ، وقرأت كتابك ، وذكرتك ، قال الله تعالى: يا موسى ؛ أما الصلاة فلك برهان ، وإما الصوم فلك جنة ّ، وإما الصدقة فلك ظل  وأما التسبيح فلك أشجار في الجنة ، وأما قراءة كتابي فلك حور وقصور ، وأما الذكر فلك نور. فأيّ عمل عملت لي؟ قال موسى: دلني يا رب على عمل أعمله لك. قال: يا موسى  هل واليت لي وليا قط ؟ وهل عاديت لي عدوا قط؟ فعلم موسى أن أفضل الاعمال الحبّ في الله والبغض في الله " والمحبة هي طريق إلى الجنة ، وهي من الأعمال الصالحة التي تستوجب حسن الثواب ، ولها ثواب خاص روى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال : ( والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم) . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم  أخبر أن الله يقول يوم القيامة : ( أين المتحابون بجلالي اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي ) . اللهم أظلنا في ظلك يوم لا ظل إلا ظلك .

وهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول لابنه الحسن :" يا بني الغريب من ليس له حبيب ". وقال الحسن البصري : "إخواننا أحب إلينا من أهلينا ، إخواننا يذكروننا بالآخرة وأهلونا يذكروننا بالدنيا  

وأختم بهذه الأبيات الرائعة للإمام الشافعي  

إذا المرء لا يرعـاك إلا تكلفـا   فدعه ولا تكثر عليه التأسفــــا

ففي الناس أبدال وفي الترك راحة   وفي القلب صبر للحبيب ولو جفـا

فما كل من تهـواه يهواك قلبـه   ولا كل من صافيته لك قد صفــا

إذا لم يكـن صـفو الود طبيعـة   فلا خيـر في ود يجيء تكلفـــا

ولا خير في خِل ٍ يخـون خليـله   ويلقـاه من بعـد المودة بالجـفـا

وينـكر عيشا ً قد تقـادم عهـده  ويظهـر سرا ًكان بالأمس قد خفا

سلام ٌ على الدنيا إذا لم يكـن بها   صديق ٌصدوق ٌصادق الوعد منصفا

وتقبلوا مني حبي لكم جميعا في الله .

 

 

 

   لماذا يعفو أناس وينتقم آخرون ؟

 الجواب: إذا اتصل الإنسان بالله العفو الكريم اشتق منه بعضاً من هذا الخلق العظيم، وإذا استقرت الرحمة في قلب الإنسان فإنها تفيض على خصومه بالعفو والغفران، فيصبح العفو أحبَ إليه من الانتقام، وإذا علم الإنسان أن خصمه بشكل أو بآخر أخٌ له في الإنسانية إذا انتقم منه خسره، وإذا عفا عنه ربحه، ولأن يربح الإنسان أخاه خير له من الدنيا وما فيها عندئذ يرى في العفو غُنْماً، وفي الانتقام غُرْماً ، فهذا ابو بكر في حديث الإفك الذي لا يُحتمل  أمر أن يعفو عمن أشاع به في المدينة  ، وعاتبه الله لما  امتنع عن العطاء، فقال: ﴿ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ﴾  فكيف بما دون ذلك من الذنوب؟ إذا أيقن الإنسان أن العفو سلم يرقى به إلى عز الدنيا والآخرة، إذ بالعفو تتسع دائرة الصداقات والمودات فيصبح المجتمع كالبنيان المرصوص، وبالانتقام تفشو العداوات والأحقاد ، حتى تصل بالمجتمع إلى أحط الدركات ، فالإنسان إذا عفا عن أخيه كان أقرب إلى ربه مما لو انتقم منه، لأن الخلق كلهم عيال الله، وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله، وفي الحديث القدسي: ( إذا أردتم رحمتي فارحموا خلقي ) وقد جعل الله العفو بمثابة ثمن عظيم يأخذه صاحبه مقابل الإساءة المؤلمة التي يلقاها من غيره . فهو جوهرة ثمينة جداً يضيفها إلى مكارم الأخلاق  إضافةً إلى الثواب العظيم عند الله تعالى ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا جمع الله الخلائق يوم القيامة ناد مناد : أين أهل الفصل ؟ فيقوم ناس فينطلقون سراعاً إلى الجنة ، فتتلقاهم الملائكة   فيقولون لهم : إنا نراكم سراعاً إلى الجنة   فيقولون لهم : إنا أهل الفصل ، فيقولون لهم : ما كان فصلكم ؟ فيقولون : كنا إذا ظُلمنا صبرنا  وإذا أُسيء إلينا عفونا ، وإذا جُهل علينا حلمنا  فيقال لهم ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين ) . ولنا في رسول الله أسوة حسنة في التحلي بخلق الصفح ، وهو الإعراض عن مواجهة السيئة بمثلها وقد أنزل الله في تأديب رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الأدب قوله : ﴿ فاصفح الصفح الجميل ﴾ وقد أحسن القائل : 

وقال نبينا فــيما رواه   عن الرحمن في عِلْم الغيوب

محالٌ أن ينال العفو من لا يَمُنُّ بـه على أهل الذُّنوب

وقد طالبنا الله أن ندفع بالتي هي أحسن فقال تعالى : ﴿ ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ، ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليّ حميم ﴾ صلت 4 . ومع ضبط النفس وإيثار الدفع بالتي هي أحسن تأتي وساوس الشيطان ، فتحرك النفس إلى الانتقام ، وتوسوس بأن الشرّ لا يُدْفع إلا بمثله ،  وقد أبان الله الدواء الصارف لهذه الوساوس ، وذلك بالاستعاذة بالله من همزات الشيطان فقال تعالى : ﴿ وإما ينـزغنّك من الشيطان به نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم ﴾ فصلت35 . وقد علمنا القرآن أن نزن الأمور بميزان العقل والحكمة  ونسعى إلى تحقيق التآلف والإصلاح ، لأن الله أوجب على المؤمنين أن يصلحوا بين المختصمين فقال تعالى : ﴿ أصلحوا بين أخويكم  ﴾ ، وجعل الله العفو طاعة لله ومخالفةً للشيطان خصوصاً إذا اعتذر المسيء وندم على ما قدمت  يداه وعندها ينبغي أن لا تكون الإساءة مانعة 

  من فعل الخير مع المسيء لأن فعل الخير إنما ينبغي به وجه الله ومرضاته قال تعالى : ﴿ وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفورٌ رحيم ﴾، ومن يعفو عمن يسيء إليه ويصلح يعفو الله عنه ويغفر له قال تعالى : ﴿ فمن عفا وأصلح فاجره على الله ﴾ الشورى 04 

وحتى يستحق العبد من الله الرحمة والغفران فلا بد أن يعفوا ويصفح قال تعالى: ﴿ ادفع بالتي هي احسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليٌّ حميم ﴾ ولو يعلم الناس ما في العفو من حكمة وسداد وراحة ضمير لعفوا عن زلات المسيئين  .

لما عفوت ولم أحقد على أحدٍ   أرحت نفسي من هم العداوات

إني أحيي عدوي عند رؤيته     لأدفع الشرّ عني بــالتحيات

وأظهر البشر للإنسان أبغضه    كأنما قد حشا قلبي مــودات

وللعفو منـزلة خاصة عند الله تعالى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( رأيت قصوراً مشرفةً على أنهار الجنة فقلت لمن هذه يا أخي يا جبريل ؟ فقال : للكاظمين الغيظ والعافين عن الناس )  وليس من العفو أن نستسلم لحاقد ولا لعدو غاصب، سلب الأرض، وانتهك الحرمات، لأن الإصلاحُ واجب، والعفوُ مندوبٌ، فإذا كان في العفو فواتُ الإصلاحِ، فمعنى ذلك أننا قدَّمْنَا مندوبًا على واجبٍ، وهذا لا تأتي به الشريعةُ ، وقد قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (لا ينبغِي للمؤمنِ أن يُذلَّ نفسَه ، قالوا: وكيف يُذلُّ نفسَه؟ قال: يتعرَّضُ من البلاءِ لمَا لا يطيقُ ) رواه الترمذي .

 

 

 

 

 

  

ما حكم الفتوى بغير علم

إذا رأيت الخلاف بين العلماء ، فاعلم أن القول الفصل هو ما عبّر عنه القرآن ) إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءَهم العلم بغياً بينهم ( آل عمران 19. والبغي هو طلب الاستعلاء بغير حق ، ومظاهر طلب الاستعلاء بغير حق ، هو إعطاء الفتاوى التي توافق أمزجة الخلق ، وتخالف ما أنزل الله  بحجة أنه يأخذ الدين بروح العصر ، ويدّعي لنفسه عدم الجمود ، مع أنه من الواجب علينا أن نفهم أن الله إما أن ينـزِّل حكماً محكماً لا رأي فيه لأحد ، وإما أن ينـزل حكماً قابلاً للفهم والاجتهاد ، ولم يجعل الأحكام كلها من لون واحد ، حتى يحترم الإنسان ما وهبه الله له من عقل ، فيأتي بقضية ويبحثها  ويرجح سبباً على سبب   ومن هنا فإن الإفتاء يحتاجه الناس من الذي يعلم ، ولذلك جاءت كلمة يستفتونك ، أكثر من مرّة في القرآن ، لأن الذين يطلبون الفتوى هم الذين يحتاجون لتوضيح أمرٍ ما  لأنهم مشغولون بقضية الإيمان ، ولذلك يحذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الذين يحاولون إلقاء الفتاوى ، ويحذِّر المؤمنين أن يستمعوا لكل فتوى ، وقد حرّم الله القول عليه بغير علم فقال تعـالى : ) ولا تقولوا لما تَصِفُ ألسنَتُكُمُ الكذب هذا حلالٌ وهذا حرامُ لتفتروا على الله الكذبَ إن الذين يفترون على الله الكذِبَ لا يفلحون ( النحل 116.  فالآية تدل على أن الله وحده صاحب التحليل والتحريم  فلا يجوز أن نحلل شيئاً من عند أنفسنا ، أو نحرّمه حسب هوانا ، والمفتي يخبر عن الله وعن دينه ، فإن لم يكن خبره مطابقاً لما شرعه الله ، كان قائلاً على الله بغير علم .

قال ابن عباس : " إن كل من أفتى الناس في كل ما يسألونه عنه لمجنون " . 

لقد أصبحنا نرى الكثيرين ممن لا يستطيعون التمييز عمن أخذوا ، ومن يستحق أن يستمع إليه في أمور الشرع  ومن يستحق ألا يؤخذ منه ، ولا يلتفت إليه ، وإذا ما تكلم في أمور الشرع يستمع إليه ، دون التمييز عمن يؤخذ عنه ، ومن الذي يستحق أن يتكلم في مسائل الشرع ؟ فالمتكلم في أحكام الدين لا يعطينا رأيه الخاص  أو وجهة نظره الشخصية ، ولا يسأل عن مزاجه أو عن هواه ، إنما  يُسْأل عن حكم الله ، أو حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسألة ، ولذلك عبر الإمام القرافي -وهو من فقهاء المالكية وأصولييهم- عن المفتي ، بأنه ترجمانٌ عن الله تعالى  ، فهو مترجم للنص الشرعي ، وقد كان السلف يحاولون أن يتخلصوا من الفتوى  ويسندوها إلى غيرهم . لما جاء من التحذير من الفتيا في سنن الدارمي باب : من هاب الفتيا ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنه سُئل فقال: (لقد أدركت بهذا المسجد عشرين ومائة من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ما منهم رجل يحدث بحديث إلا ود أن أخاه كفاه الحديث  ولا يسأل عن فتيا إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا)   ولكننا نرى من يتحلل من قيود الدين وأحكامه في فتواه   بحجة مراعاة الواقع أو الظروف ، أو ما أشبه ذلك من المتغيرات ، التي تبنى عليها الفتوى ، متناسياً أن حكم الله ورسوله لا يتغير بحال من الأحوال .

وهناك بعض النفوس التي تواجه صعوبة في تغيير الواقع   وصعوبة في إزالته  أو تحويله إلى واقع آخر ، يرضي الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم  وقد يُدخِل البعض هذا في باب الضرورات ويقول : يا أخي هذه ضرورة  وما علم أن الضرورة لها أحكام ولها ضوابط ، فليس كل شيء ظن الإنسان أنه يحتاجه أصبح ضرورة ، بل للضرورة ضوابط وشروط ، لا بد من تحققها  فإذا تحققت هذه الضرورة فإنه يعمل بها في إطارها ، وتقدر الضرورة بقدرها ، دون أن يتعدى بها هذا الإطار إلى الناس كلهم بشكل عام  فالناس قد يقعون في المعصية ، ولكن مع الوقوع ؛ ينبغي أن يكثر الإنسان من الاستغفار، وألا يتحول الأمر إلى أن يبحث الإنسان عن أمر يحلل له المعصية ، ففرق بين من يعصي ويقول : أستغفر الله ، وبين من يقع في المعصية ثم يذهب يبحث في بطون الكتب ، عن نص يبيح له هذه المعصية . وهل من الحكمة أن نتعامل مع الله عز وجل بهذا الأسلوب ؟ وكأننا نفترض أن الله تعالى سيسألنا أوجدنا في كتب المراجع ، أو في أقوال العلماء أن هذا الأمر حلال ؟! بالطبع هذا غير معقول ، لأن الله عز وجل سيحاسب عباده ، على حسب ما وصل إليهم من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، إما آية محكمة ، أو سنة ماضية ثابتة  قال تعالى:{  وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ } القصص 65 . هذا هو السؤال : ماذا أجبتم المرسلين؟ فإذا عجزنا عن ترك معصية أو وقعنا فيها  فهذا لا يبيح لنا أن نذهب للبحث عن تحليل لهذه المعصية ، وإذا عَجزنا كأمة أو مجتمع عن تغيير بعض المنكرات الواقعة ، من سفور  واختلاط وربا  فهذا لا يبـرر لنا أن نذهب للبحث عن تحليل لها ، بل ينبغي أن نقول للحرام : هذا حرام وهو موجود ، ونسأل الله أن يعيننا على إزالته ، ونبحث عن الوسائل والأسباب ، التي تعيننا على تغيير هذا المنكر  أما أن نتحول من العجز عن التغيير ، إلى البحث عن مرتبة أقل من ذلك ، لنقنع أنفسنا بأن هذا الوضع أو هذا الحكم الذي نحن فيه مباح ، كعجز المسلمين في هذا الوقت بسبب ظروف وأوضاع داخلية وخارجية ، عن إخراج اليهود من أرض المسلمين ، نحن نقول عجزنا  لأننا نأمل من الله أن يأتي الوقت الذي ستخرج اليهود منها حتماً   كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم ونكون من المجرمين لو أقررنا اليهود على هذا الأمر ، وأعطيناهم وثيقة نعترف لهم بالحق في فلسطين ، بحجة أننا عاجزون ، لأن وجودهم يصبح شرعياً ، بمقتضى هذا الاعتراف من المسلمين ، مع أن المفروض أن نقرَّ بالعجز عن تغيير هذا الواقع إلى حين ، ولا نعترف به كواقع أبدي  .

لقد حذَّر أهل العلم من تتبع الرخص ، يقول سليمان التيمي : " لو أخذت برخصة كل عالم ، اجتمع فيك الشر كله" ويقول ابن عبد البر في تحريم تتبع رخص العلماء :"لا أعلم فيه خلافاً بين أهل العلم" وقد نُقل عن ابن حزم وابن الصلاح وغيرهم من العلماء ، إجماع العلماء ، على أنه لا يحل لمسلم أن يكون شأنه تتبع الرخص ، كأن يقول : قال فلان : هذا يجوز، وقال فلان : هذا مباح ، وقال فلان : لا يصل الأمر إلى التحريم  بل أقصى أحواله الكراهة وهكذا . وعليه فإن تتبع الرخص بهذه الطريقة حرام بإجماع العلماء ، قال الأوزاعي :" من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام" لأن النوادر والشذوذات لا تنتهي بحال من الأحوال ، وهي أصلاً ما اجتمعت في واحد من العلماء ، بل تجد العالم بحراً زاخراً من الفضائل ، لكن عنده زلة واحدة ، فأنهم يأخذوا بهذه الزلة ، والزلة تجمع زلات ، فيتعاملوا بهذه الزلات  ويقولوا هذه هي أقوال أهل العلم ، يقول الأوزاعي إمام أهل الشام : نحن نجتنب من أقوال أهل العراق خمساً ، أي خمس مسائل من مسائل فقهاء العراق لا نقبلها، ونتجنب من أقوال أهل مكة خمساً، وذكر مسائل لا نقبلها من فقه هؤلاء ، ولا من فقه هؤلاء حتى أن الإمام أحمد رحمه الله يقول :" لو أن رجلاً عمل بقول أهل الكوفة في النبيذ  وقول أهل المدينة في السماع ، وقول أهل مكة في المتعة لكان فاسقاً" مع أنه ما خرج عن أقوال العلماء ، ومع ذلك فسقه ، وقد ذهب الأوزاعي إلى أبعد من ذلك   فقال :" يكفر ولو لم يخرج بعد من أقوال العلماء" وقال الإمام ابن حزم رحمه الله :" هناك قوم بلغت بهم رقة الدين وقلة التقوى إلى طلب ما وافق أهواءهم في قول كل قائل ، فهم يأخذون ما كان رخصةً في قول كل عالم  غير طالبين ما أوجبه النص عن الله تعالى أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم"  ومن آثار هذا المسلك الخطير من تتبع الرخص وأخذها الاستهانة بالدين ، إذ يصير الدين بهذا الاعتبار كما ذكر الشاطبي في الموافقات قال :" يصير الدين سيالاً لا ينضبط ما دام أنه لم يبق شيء يمكن التحاكم والرجوع إليه"  كما أن من الآثار السيئة لتتبع الرخص الإعراض عن الدليل الشرعي من الكتاب والسنة ، ونحن نقول : نطالب الناس بالرجوع إلى الكتاب والسنة  لا إلى قول فلان أو علان لأن المطلوب هو الرجوع إلى الكتاب والسنة   وهذا أمر يجب أن يقبل به كل مسلم قال تعالى:{ فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً }انساء 65   وقد حذر أهل العلم من مجاراة الظروف ، والأوضاع المستقرة في مجتمعات الناس ، وتطويع النصوص والأحكام الشرعية لها ، مع مخالفة هذه الأشياء لحكم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وذلك لأن للواقع ضغطاً على كثير من النفوس ، فالإنسان بطبعه يحب أن يوافق من حوله وأن يقرهم على ما هم عليه ، ويكره أن يواجههم بشيء يكرهونه ، فلذلك إذا انتشر عند الناس أمر وشاع وذاع  واستقر في حياتهم ، وأصبح جزءاً من واقعهم ، فقد يصعب على الإنسان أن يقول لهم هذا حرام ، أو هذا لا يجوز ، وبالتالي يذهب ليبحث عن مسوغ في تحليل هذا الحرام أو تجويزه ، حتى يسلم من هذا الحرج الذي يجده في نفسه. وهناك من يركز على قضية الرخصة والتيسير في الدين     وأن الإسلام فيه تيسير عظيم ، ومن التيسير أن الله تعالى ما أغلق باباً إلى الحرام ، إلا وفتح باباً إلى الحلال ، فالمهم أن الدين فيه تيسير وسماحة ، فتجد من يقول لك يا أخي الدين يسر ، وقد رخص الفقهاء بهذا .

فما هي رخص الفقهاء ، الدارس للفقه يعرف أن  لكل مذهب رخصة في مسائل ، فمثلاً تجد في مذهب من المذاهب ، هذا حلال وهذا حرام ، وفي المذهب نفسه ممكن أن يحرِّم مسألة أخرى ، يبيحها المذهب الأول   وتجد بعض الناس ، يأتي إلى المذهب ، فيأخذ ما فيه من الرخص ، بأن يأخذ كل ما فيه من تحليل ، ويترك كل ما فيه من تحريم ، ثم يأتي إلى المذهب الآخر ، فيأخذ كل ما فيه من تحليل ، ويترك ما فيه من تحريم ، وهذه مسألة خطيرة ، لأنها عبارة عن تلفيق مجموعة من الآراء بغير ضابط ، إلا بمجرد أنها رخص ، ليس فيها مشقة على النفس ولا تكليف ، لكنها تناسب المزاج ، وخاصة مزاج الكسالى والقاعدين ، والذين لا يحبون أن يعملوا ، ولا أن يخضعوا حياتهم لحكم الله تعالى ، وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم  بل يصل الحال ببعض هؤلاء الذين لا يراقبون الله تعالى ولا يخافونه ، أن يصنفوا مصنفات ، يجمعون فيها رخص بعض العلماء ، وقد ذكر البيهقي وغيره أن إسماعيل القاضي قال :" دخلت على المعتضد وهو من أمراء بني العباس ، فرفع إلي كتاباً لأنظر فيه ، وقد جمع فيه رخص بعض العلماء ، من غير تثبت ولا نظر ، ولا مقارنة ولا ترجيح ، قال : فنظرت في هذا الكتاب ثم قلت : مصنف هذا الكتاب زنديق ، فسأله الخليفة لماذا ؟ قال له : هذه الأحاديث التي ذكر ، لم تصح على ما رويت  فمن أفتى مثلاً بالمتعة ، لم يفت بإباحة الغناء والمسكر ، وصاحب الكتاب قال : الغناء حلال ، وأهل المدينة أباحوه  والمسكر حلال لأن أهل العراق أباحوه ، والمتعة حلال لأن أهل مكة أباحوا المتعة بالنساء وهي معروفة . فقال له : الذي أباح مثلاً النبيذ ما أباح الغناء ، والذي أباح الغناء ما أباح النبيذ ، والذي أباح المتعة ما أباح هذين ، فكيف يأتي بترخيصات لهؤلاء جميعاً ويجمعها " . وبالمناسبة أمر المعتضد بإحراق هذا الكتاب ، ما دام أن مؤلفه زنديق  حتى روى أنهم قالوا : ما أحوجنا إلى نار المعتضد لتحرق كتباً من هذا القبيل! .

وبالمناسبة فإني بهذا لا أقصد الرخص الشرعية ، مثل الفطر للمسافر أو للمريض ، أو القصر وما أشبه ذلك ، فهذه يحب الله تعالى أن يأتيها الإنسان كما في الحديث الصحيح: ( إن الله يحب أن تؤتى رخصه ) وقال الله عز وجل :{ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } البقرة 185 وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( يسروا ولا تعسروا ) فالدين هو دين اليسر ، وفي الدين من السماحة والتيسير ما يعرفه المختصون ، وليس معنى ذلك أنه كلما كان العالم أكثر منعاً وتحريماً ، كلما كان أوسع علماً ، لا؛ بل العكس  فإن العالم الحقيقي أقرب إلى التيسير من غيره . وكما قال سفيان الثوري رحمه الله : "إنما العلم عندنا الرخصة عن ثقة ، فبين شيئاً فيه ترخص ، وتسامح ، وتيسير  وتسهيل على الناس " وليس ذلك إلا عن إنسان عالم ، يعرف أين يضع الرخصة ، وأين يضع العزيمة ، وأين يضع اليسر والشدة ، فلا بأس أن تقلد عالماً تثق بعلمه وبدينه ، على أن تقلده في الرخصة والعزيمة ، والتيسير والتشديد ، فلا حرج في ذلك ، لكن كونك تقول : بمجرد أن المسألة فيها أقوال ، أنا مأذون لي شرعاً أن أختار على مزاجي وحسب رغبتي من هذه الأقوال ، فأختار ما ترتاح له نفسي ، فهذا لا يجوز لأن  الميزان واضح في قوله تعالى : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِر } النساء 59. فهذا هو الميزان    أما من لا يؤمن بالله واليوم الآخر ، فهو يختار ما يشاء . وقال تعالى في آية أخرى : { وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ } النور:48-49 . يعني إذا وجد حكماً شرعياً يعجبه أخذ به ، وإذا وجد حكماً لا يعجبه رفضه ، وقال إن المسألة فيها خلاف ، وهذا ليس صحيحاً ، لأنهم بهذا يشددون ويضيقون على عباد الله فالتشهي في الشرع لا يجوز، لأن الشرع إنما جاء لإخراج الناس عن شهواتهم النفسية ، وأمزجتهم الذاتية إلى شريعة الله كما قال تعالى : { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ } الجاثية 18. وقال تعالى:{ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنـزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ } المائدة 49. فما أنـزل الله شيء ، والأهواء شيء آخر ، وأنت مطالب بالحكم بما أنـزل الله ، وترك الأهواء وعدم الالتفات إليها . فالعامي أو السائل أو المستفتي ، إذا جاء للعالم يقول : أفتني في المسألة الفلانية أو ما حكم الله ورسوله في المسألة الفلانية ؟ وكأنه يقول له : يا عالم أو يا إمام أو يا مفتي أخرجني من هواي ، لأن العامي أصلاً يعرف هواه . فعندما يسأله ما حكم شرب هذا الكأس ؟ هو يعرف أن نفسه تشتهي هذا الأمر أو لا تشتهيه ، وهو ما جاء يسأل العالم عن شهوته الذاتية أو عن مزاجه الشخصي ، بل جاء يسأل العالم عن حكم  الشرع في هذه المسألة . فمن غير الصحيح أن المفتي أو العالم أو الفقيه سيقول له : المسألة فيها قولان ، وأنت اختر من القولين ما شئت ، لأن معنى ذلك أنه رده إلى هواه ، وهو ما جاء ليسأل عن هواه ، لأنه يعرف هواه قبل أن يأتي ، إنما يريد حكم الله ورسوله في المسألة .

فأصل مسألة "الحلال والحرام" ليست مسألة سهلة ، لأنك تعبر فيها عن حكم الشرع ، فأنت مترجم لحكم الله ورسوله ، وموقّع عن رب العالمين  ولست تأتي بشيء من جيبك الخاص ، حتى تتساهل في هذا الأمر إلى هذا الحد ، أو تفرط فيه بحجة أو بأخرى ، فمن أفتى بدون علم ولا تثبت ولا دليل شرعي ، يحمل وزره ووزر من أضله بغير علم ، لقوله تعالى : { فمن أظلم مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } الأنعام 144 . فمن تكلم في شأن دينيٍ بغير علمٍ ، فهو من أظلم الظالمين ، فهو ظالم لنفسه وظالم لغيره ، وظالم لأمتة ، وظالم للمجتمع ، وإثمه موقوف عليه ، وكذلك إثم من أضلهم بغير علم كما قال تعالى :{ لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ } النحل 25 . 

 

 

 

هل الربا سبب أزمة الرهن العقاري

قال تعالى :{ الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } . الربا من الأمور التي حرمها الله تعالى ، وفي هذا التحريم إعجاز اجتماعي عظيم   لأن الربا لا يضر فقط الفرد أو رجل الأعمال أو التاجر إنما يضر الأمة كلها ، ولهذا لا توجد معصية وضع الله تعالى نفسه في حرب مع صاحب المعصية ، إلا في الربا قال تعالى : { فأذنوا بحرب من الله } وكأن هناك جيش يقوده الله تعالى   أمام ذاك المرابي أياً كان رجلا أو امرأة ، وكأنه يريد أن يبارز الله تعالى ، إنه وصف مخيف ، وليتخيل المرابي أنه مع جيش يقابل جيشا قائده الله تعالى هل سينتصر ؟ لا بالطبع ، فنظام الربا نظام يفتت المجتمع ويدمر الأمم ويهلك الفرد والأسرة   لذا كانت الحكمة الرئيسية من تحريم الربا هي حماية الفقراء وأصحاب الدخل المحدود في المجتمعات الإنسانية ، لأن التاجر إذا رفعت عليه سلعتك ، فسيرفع عليك سلعته ، أما الموظف والعامل أو الأرملة أو اليتيم أو الفقير  ، بل وأصحاب الدخل المحدود فإنهم يتأذون إيذاءً كبيرا من الربا ، لأنه يؤدي إلى ارتفاع الأسعار يوما بعد يوم ، كما هو في أيامنا هذه  والإسلام ليس الدين الوحيد الذي انفرد بتحريم الربا ، بل إن الشرائع السماوية كلها قد حرَّمت الربا ، وما نراه من التعامل الربوي في المجتمعات الغربية ، ما هو في حقيقته إلا خروجٌ على شرعة الدين   وهو امتداد لقمع الإنسانية واستعباد البشر ، لقد قطعت الأساليب الربويةُ في المعاملات الاقتصادية شوطاً طويلا ، وكان اليهود هم حملةُ لوائها ، ولم يخل عصرٌ من الدعاة الذين كشفوا فساد النظام الربويّ  ودعوا إلى حماية المجتمعات والفقراء من تحكُّمِ الدائنين . 

وليس غريباً أن نجد القوم الذين صدّروا لنا النظام الربوي   يحاولون الآن جاهدين أن يتخلصوا منه ، لا لأنهم ينظرون إلى هذا التخليص على أنه طهارةٌ دينية ، ولكن لأنهم يرون أن كل شرور الحياة ناشئة عن هذا الربا ، ومما يذكرُ في هذا المجال أن نابليون قد اعتنق الإسلام وتعلَّم العربية وغيَّر اسمه إلى علي بونابرت ،  وبعد أن رأى تصاعد الربا قال : "من المدهش أن هذا الوحش يستهلك البشرية برمتها"  وقال : "آملُ أن يأتي اليوم الذي أجمع فيه الحكماء والمثقفين من جميع الأمم ، لتأسيس نظام موحد عادل مبني على القرآن  الذي هو الحقيقة الوحيدة  وهو الذي يقود الإنسانية إلى السعادة"  وعندما حاول إبرا هام لنكولن تحريم الربا  قُتل بعد ثلاثة أيام من قراره هذا . وعندما حاول جون كندي إحياء قانون إبراهام ، اغتيل هو الآخر قبل توقيع القرار الذي كان موجوداً على مكتبه .

وقديماً قام الألماني رجل الاقتصاد العالمي - شاخت – فوضع تقريره الذي قال فيه : بأن الفساد ناشئ من النظام الربوي   لأنه يضمن للغني أن يزيد غنى ، وهذا الازدياد من الفقير   وبهذا يصبح المال في يد أقلية تتحكم في مصائر الناس ، لأن الذين يحبون أن يستثمروا المال لا ينظرون إلا إلى النفعية المالية  وهم يديرون المشروعات التي تحقق لهم تلك النفعية ، وهناك رجل اقتصاد آخر اسمه -كينـز – يقول : إن المال لا يؤدي وظيفته في الحياة إلا إذا انخفضت الفائدة إلى درجة الصفر  ومعنى ذلك أنه لا ربا . وقد عقد مؤتمر منذ سنوات في بريطانيا من أجل تحريم الربا ، ولم يكن منطلقا من منطلق إسلامي  ولكنه من منطلق اقتصادي بحت ، فتكلم المؤتمرون على أن مخطط جمع المال في أيدي محدودة في العالم مخطط يهودي ، اليهود الذين بدءوا بإقامة البنوك وإصدار الأوراق ، بدلا من الذهب والفضة ورصيد الذهب والفضة يبقى عندهم ، ثم تحركوا إلى إصدار الشيكات ثم البطاقة الذكية الائتمانية ثم أصبحت الأمور كلها أمورا الكترونيا ، حتى ينـزع المال من أيدي الناس ، ويبقى في أيدي أعداد محدودة من البشر ، يتحكمون في مقدرات الناس وفي أسعار الأشياء.

وهناك بنكان عالميان أحدهما في اليابان والآخر في ألمانيا لا يتعاملان بالفائدة ولا بالربا ، ليس من منطلق إسلامي ، ولكن من منطلق اقتصادي ، وقد أخبرني ثقة بأن الاقتصاد الياباني قائم على جعل فائدة البنوك صفرا ، وهي القضية الإسلامية التي تحرم الربا بالكامل .

 وكلنا نعيش هذه الأيام قصة القروض وما فعلته في أمريكا والانهيار الاقتصادي الذي تعاني منه ، والذي لحق بأوروبا   وذلك لأن هناك ارتباط بين القروض في أمريكا وبريطانيا وأوروبا ، فكانت  أزمة الرهن العقاري ، الأزمة المالية الأكبر في التاريخ الحديث ، هي ثغرة حقيقيّة لم يكن أحد يتوقعها خصوصاً من أكبر وأضخم اقتصاد على وجه الأرض ، الذي تعلم الدرس في القرن الماضي وذاق ألم الكساد الكبير، فقد وصلت  الخسائر أرقاماً فلكية لا يستطيع العقل تحملها، ومن يوم لآخر يزداد تفاقم الأزمة المالية، ومن ساعة لأخرى يتسع مدى انتشار تداعياتها على مستوى الاقتصاد العالمي.. لدرجة أن الحكومات باتت تخرج واحدة تلو الأخرى في الغرب الأوروبي   تعترف بمدى ضخامة خسائرها لدرجة أن إحدى الدول الأوربية خرجت بتصريحات بأنها على وشك إعلان الإفلاس   وعلى النقيض تخرج الدول العربية واحدة تلو الأخرى   لتؤكد أنها لم تلحق بها أي خسائر جراء الأزمة العالمية.. وإن الجميع في الغرب يسعى جاهدا لتقدير حجم خسائره على وجه الدقة مهما كان كبرها، وفي المقابل هناك دولا أخرى تسعى بكل جهدها لتقليل ما يمكن أن يلحق بها نتيجة الأزمة 

ولقد أشار الكثير من الاقتصاديين إلى بلوغ حجم سوق مضاربات التخلف عن سداد قروض الائتمان تقدَّر بحوالي 62 تريليون دولار  ليكشف أن عمق الأزمة الحالية يكاد يصل إلى جميع دول العالم ببنوكها ومؤسساتها الخاصة والعامة ومستثمريها صغارا وكبارا.

وهنا سؤال ؟ لماذا امتنع وزير الخزانة الأمريكي عن التدخل لإنقاذ ليمان براذرز؟ إننا نحتاج أن نعرف ماذا في جعبة هذا البنك المنهار.. لكي نعرف دوافع وزير الخزانة للتضحية بهذا البنك الكبير.. هل في جعبته ضحايا غير مرغوب فيهم؟ أم أن استثماراته لم تعد مفيدة للاقتصاد الأمريكي؟ لماذا أصبح لديهم قناعة بأن إفلاسه أفضل من إنقاذه؟ أم أن انهيار البنك لم يكن انهياراً بقدر ما كان انفجار لفقاعة بعد تحصيل أرباح مضاربات تقدر بتريليونات الدولارات؟

ويتسائل الناس عن الأزمة الحالية يريدون أجوبة، يريدون جواباً شافياً يصف الحالة وهذا بالضبط لا يستطيع أيّ اقتصادي فعله   فالأزمات المالية في الوقت الحالي تتداخل مع عوامل ومتغيرات تتعلق من نفسية الإنسان إلى وضع السوق ، فالأزمة المالية الحالية بدأت السنة الماضية  واليوم نشاهد بعض من آثارها، ولكن الآثار الموجعة لم تظهر بعد   لأن انهيار المؤسسات المالية هي بداية لحالة تصحيح شديدة ومؤلمة للسوق ، يتبعها بشكل حتمي انهيار في جميع القطاعات الصناعية والتجارية ، وتوقف النمو الاقتصادي وتحقيق الركود . 

وإن حقيقة الأزمة الحالية ، ترجع إلى أن العقارات الأمريكية قد وصلت أسعارها للسماء واستمرت في الصعود، وأن  الجميع يريد الاستثمار في هذه السوق، لكن أي استثمار يتطلب الشراء بسعر ، والبيع بسعر أعلى منه، ومهما كان المستثمر ذكياً فإنه سيصل إلى مرحلة لن يجد من يشتري منه بسعره العالي، وهنا يضطر إلى البيع بسعر أدنى مما اشترى  وعندها تبدأ موجة انخفاض الأسعار.

هذا أحد عوامل انخفاض الأسعار التي تعتمد على الطلب والعرض وهناك عوامل أخرى، كالوضع السياسي وسوق العمل وغيرها، لكن المهم أنّ أسعار العقارات بدأت في الانخفاض ، وقبل أن تنخفض أسعار هذه العقارات، كانت قد مُوّلت بقروض رديئة ، دون ضمانات كافية ، تدعى بالقروض العقارية الرديئة ، مقابل فائدة عالية غير ثابتة لتغطي على المخاطر، عندما تتقدم بطلب قرض عقاري رديء ، يمنحه لك البنك مقابل ملكية المنزل الذي ستبنيه، مع سعر فائدة عالي متغير ، لذا فإن أسعار العقارات كانت في ارتفاع مستمر لأنها صفقة رابحة، ابني بمليون وبيع بمليون ونصف، لكن ماذا لو أردت البيع وكان سعر المنزل نصف مليون؟. وهذا يعني هبوط أسعار العقارات ، وعندها يرفع البنك سعر الفائدة لمواجهة الأخطار المحتملة  وبذلك يرتفع قيمة القسط الذي يجب على صاحب العقار أن يسدده   ومع انخفاض سعر منزله ، لن يكون قادر على السداد لمدة طويلة ، فيعلن إفلاسه، فيقوم البنك بطرده من المنـزل   ويعرضه للبيع عبر المزاد العلني ، وما حصل أنّ حالات الإفلاس وصلت لمئات الآلاف ، ومع عرض مئات الآلاف من المنازل للبيع ، انخفض سعرها زيادة عمّا انخفضت عليه وبذلك أصبحت ديون البنك معدومة ، أي لم يستطع البنك تحصيل الديون المستحقة هذا  هو واقع أزمة الرهن العقاري ، ورغم أن الاقتصاد الأمريكي قوي ومرن جداً ، وقدرته عالية على التعافي، فهو اقتصاد متعدد الموارد وليس اقتصاد تجاري فقط ، إلا أن آثار الأزمة واضحة على الأمريكيين خصوصاً من فقدوا منازلهم ، وأصبحوا يعيشون في عربات مغلقة ومع ذلك تلاحقهم فواتير بطاقات الائتمان  ومطالبات الاستحقاق من البنوك على شكل ديون طويلة الأمد ، أي ربما يموت وهو يعمل ومازال يسدد ديونه. وفي المقابل وكأي أزمة مالية ، هناك من ينتفع ، فانهيار البنوك الأمريكية سهّل دخول المستثمرين الأجانب ومنهم الصين وإن ما يحدث في أمريكا اليوم تماماً كما حدث في كوريا الجنوبية في الأزمة الآسيوية 1997، حيث انهارت أغلب الشركات الكورية ، وتعرضت للإفلاس، فدخل الأمريكيون مشترين لأغلب شركاتهم ، فلا تجد اليوم شركة كورية إلا و10% إلى 30% من أسهمها ملك الأمريكيين   وقد تحرك العالم لإنقاذ “الاقتصاد العالمي ، بضخ مبالغ  تقدر بتريليونات الدولارات ، ترى لو تم صرف 100 مليار فقط في مكافحة المجاعات وبناء المدارس في إفريقيا، وإدخال هذه الأمّة في عجلة الإنتاج الاقتصادي، وتحقيق تنمية لا بأس فيها، ألن يكون لذلك فوائد هائلة على “الاقتصاد العالمي”. أليس دخول الصين عجلة الاقتصاد العالمي قبل أربعين سنة ، كان له أكبر الأثر على واقعنا؟!، هل كنّا لنحلم بامتلاك أجهزة الحاسوب الرخيصة الجيدة لولا العمالة الصينية الرخيصة؟. ونتيجة لهذه الأزمة فقد دعت كبرى الصحف الاقتصادية في أوروبا التي تنادي دولها بالعلمانية (فصل الدين عن الدولة) لتطبيق الشريعة الإسلامية في المجال الاقتصادي ، كحل أوحد للتخلص من براثن النظام الرأسمالي ، الذي يقف وراء الكارثة الاقتصادية التي تخيم على العالم ، ففي افتتاحية مجلة "تشالينجز"، كتب رئيس تحريرها موضوعا بعنوان (البابا أو القرآن) أثار موجة عارمة من الجدل  وردود الأفعال في الأوساط الاقتصادية   فقد تساءل الكاتب فيه عن أخلاقية الرأسمالية؟ ودور المسيحية كديانة والكنيسة الكاثوليكية بالذات في التساهل في تبرير الفائدة ، مشيرا إلى أن هذا النسل الاقتصادي السيئ ، أودى بالبشرية إلى الهاوية  وتساءل الكاتب بأسلوب يقترب من التهكم من موقف الكنيسة ومستسمحا البابا قائلا: "أظن أننا بحاجة أكثر في هذه الأزمة إلى قراءة القرآن ، بدلا من الإنجيل لفهم ما يحدث بنا وبمصارفنا ، لأنه لو حاول القائمون على مصارفنا ، احترام ما ورد في القرآن من تعاليم وأحكام وطبقوها ، ما حل بنا ما حل من كوارث وأزمات ، وما وصل بنا الحال إلى هذا الوضع المزري؛ لأن النقود لا تلد النقود". وفي الإطار ذاته لكن بوضوح وجرأة أكثر ، طالب رئيس تحرير صحيفة "لوجورنال د فينانس" في افتتاحية هذا الأسبوع بضرورة تطبيق الشريعة الإسلامية في المجال المالي والاقتصادي  لوضع حد لهذه الأزمة التي تهز أسواق العالم من جراء التلاعب بقواعد التعامل  والإفراط في المضاربات الوهمية غير المشروعة. وعرض في مقاله الذي جاء بعنوان: "هل تأهلت وول ستريت لاعتناق مبادئ الشريعة الإسلامية؟"، عرض المخاطر التي تحدق بالرأسمالية وضرورة الإسراع بالبحث عن خيارات بديلة لإنقاذ الوضع  وقدم سلسلة من المقترحات المثيرة في مقدمتها ، تطبيق مبادئ الشريعة الإسلامية ، برغم تعارضها مع التقاليد الغربية ومعتقداتها الدينية ، وفي استجابة -على ما يبدو لهذه النداءات، أصدرت الهيئة الفرنسية العليا للرقابة المالية -وهي أعلى هيئة رسمية تعنى بمراقبة نشاطات البنوك- في وقت سابق ، قرارا يقضي بمنع تداول الصفقات الوهمية والبيوع الرمزية التي يتميز بها النظام الرأسمالي ، واشتراط التقابض في أجل محدد بثلاثة أيام لا أكثر من إبرام العقد، وهو ما يتطابق مع أحكام الفقه الإسلامي ، كما أصدرت نفس الهيئة قرارا يسمح للمؤسسات والمتعاملين في الأسواق المالية ، بالتعامل مع نظام الصكوك الإسلامي في سوق المنظمة الفرنسية.

ومنذ سنوات والشهادات تتوالى من عقلاء الغرب ورجالات الاقتصاد ، التي تدع الى التنبه إلى خطورة الأوضاع التي يقود إليها النظام الرأسمالي الليبرالي على صعيد واسع، وضرورة البحث عن خيارات بديلة تصب في مجملها في خانة البديل الإسلامي .

ففي كتاب صدر مؤخرا للباحثة الإيطالية لووريتا نابليوني بعنوان "اقتصاد ابن آوى" أشارت فيه إلى أهمية التمويل الإسلامي ، ودوره في إنقاذ الاقتصاد الغربي.

واعتبرت نابليوني أن "مسئولية الوضع الطارئ في الاقتصاد العالمي ، والذي نعيشه اليوم ناتج عن الفساد المستشري  والمضاربات التي تتحكم بالسوق ، والتي أدت إلى مضاعفة الآثار الاقتصادية". وأضافت أن "التوازن في الأسواق المالية يمكن التوصل إليه بفضل التمويل الإسلامي ، بعد تحطيم التصنيف الغربي الذي يشبِّه الاقتصاد الإسلامي بالإرهاب ورأت نابليوني أن التمويل الإسلامي هو القطاع الأكثر ديناميكية في عالم المال الكوني".

ألا يعتبر هذا الحدث حرباً من الله على المتعاملين بالربا  حرباً تصبُ عليهم النقمة والعذاب أفراداً وجماعات ، وأمماً وشعوبا  وهي لا تعتبر ولا تفيق ، أليس اعترافهم بالنظام الاقتصادي الإسلامي ، دليل على فساد النظام الرأسمالي ، ورفع منـزلة النظام الذي فرضه رب العالمين  الذي يعلم ما يصلح مخلوقاته : { ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير } .   

 

 

 

 

هل الإسلام صالح للتطبيق في كل زمان

إن الإسلام عقيدة استعلاء ، من أخص خصائصها أنها تبعث في روح المؤمن بها إحساس العزّة من غير كبر  وروح الثقة بعيداً عن الغرور  وشعورٍ بالاطمئنان في غير تواكل وأنها تُشْعِر المسلمين بأن عليهم العمل على قيادة البشرية وهدايتها إلى الدين القيم ، وإخراجها من الظلمات إلى النور بما آتاها الله من نور الهدى والفرقان قال تعالى :﴿ كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ﴾ وإن الخلاف في الرأي حول بعض القضايا الاجتهادية أمر محمود يدل على صلاحية الشريعة الإسلامية لكل زمان ومكان ، ومشيئة الله تعالى اقتضت إن يخلق الناس مختلفين في تفكيرهم وإدراكهم للأشياء ، وفي أذواقهم وفي ألوانهم وألسنتهم  وبالتالي في فهمهم ، وهذا الاختلاف والتنوع يعطيان للحياة مظهر التجدد ، لكن الخلاف يكون مدمرا حين يكون الباعث إليه راجع إلى أسباب ذاتية ، وهذا النوع من الاختلاف هو الذي يعاني منه المسلمون ويدفعون إثمانا باهظة بسببه ، لأنه يؤدي إلى الفرقة والنـزاع في امة شرع الله لها التوحّد ونبذ الفرقة .

وصلاحية الإسلام لكل زمان آتيةٌ من نظرته إلى الأحكام على أنها نوعان : نوع لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها  لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة ولا اجتهاد الأئمة ، كوجوب الواجبات وتحريم المحرمات والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم ونحو ذلك ، فهذا لا يتطرق إليه تغيير ولا اجتهاد يخالف ما وضع عليه . والنوع الثاني : ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له زمانا ومكانا وحالا كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها فإن الشارع ينوع فيها بحسب المصلحة

وعلي هذا فإن القاعدة الفقهية ( لا ينكر تغير الأحكام بتبدل الزمان ) قد وضعها الفقهاء للقسم الثاني من الأحكام ، وهي الأحكام التي لا تستند مباشرة  إلى نص شرعي ، بل مصدرها عرف أو مصلحة سكتت عنها النصوص .  وقد جاء شرح هذه القاعدة بقصرها علي الأحكام التي لم تستنبط من النصوص  وعلى هذا استقر فهم الفقهاء .  فالأمة في شئون الدين تتلقى كلمة السماء ، ولا تملك أمامها إلا التسليم ، ومع النص القائم لا يقبل الاجتهاد  ولا تستطيع أي جهة أن تحذف حكماً او تضيف آخر ، ولا يملك المسلمون وحتى قيام الساعة أن يجعلوا سنة بدعة أو بدعة سنة ، وإن التعادي والتنازع انحرافاً عن الطريق المستقيم ، وإتباعا لخطوات الشيطان .

وقد بذل المستعمرون جهوداً مضنية لتلويث سمعة الإسلام  وأن يسوغوا المظالم النازلة بأهله ، ويغلفوا أصوله وفروعه بحشد لا آخر له من الأكاذيب .

 

 

هل الضرورة تبيح الربا

قال تعالى: ) الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ( البقرة 275.

في الآية تصويرٌ لبشاعة آكل الربا ، هذه الصورة التي لم يصورها القرآن  لأي فاسقٍ يرتكب محرَّماً من المحرَّمات   إنها صورةٌ مفزعةٌ في يوم البعث ، لكن هذه الصورةُ واقعةٌ بذاتها ، في حياة البشرية في هذه الأرض ، وهي تتفق مع ما سيأتي بعدها من الإنذار ، بحربٍ من الله ورسوله ، في قوله تعالى: ) وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين  فإن لم تفعلوا فأذنوا بحربٍ من الله ورسوله ( البقرة 278 .

في الآية دلالةٌ على أن الله لم يتوعد مرتكبي منكر بحربٍ كما توعد آكلي الربا ، الذين لا ينتهون بعد التحريم  .  وهذه الحرب واقعةٌ وقائمةٌ الآن , ومسلطةٌ على البشرية الضالة ، التي تتخبط كالممسوس في عقابيل النظام الربوي ، الذي جعله الله عنوان كفرٍ عظيم ، ومصدراً للذنوب والآثام وسبباً من أسباب مقته ، قال تعالى: ) يمحق الله الربا ويُرْبي الصدقات ، والله لا يحب كل كفارٍ أثيم ( البقرة 276. كما ورد في الأحاديث النبوية ، ما يدل على منتهى التقبيح لآكل الربا ، ومنتهى المبالغةِ في تحريمه  فقال عليه السلام : ( الربا ثلاثةٌ وسبعون بابا ، أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه ) والحديث يدل على أن الربا أنواعٌ كثيرةٌ ، كلها محرَّمةٌ صغيرها وكبيرها ، جلِّيها وخفِّيها  مهما اختلفت الأسماء وتعددت الأشكال ، من فائدةٍ في مصرف أو صندوق توفير أو سند أو غير ذلك . وقد عده النبي صلى الله عليه وسلم من السبع الموبقات أي المهلكات ، واعتبره من إحدى الرذائل  التي إذا شاعت في مجتمعٍ حلت به نقمةُ الله عز وجل  وهي الربا والزنا ، فقال صلى الله عليه وسلم : ( إذا ظهر الزنا والربا في قريةٍ ، أحلّوا بأنفسهم عذاب الله عز وجل ) . فهو ربا ما دام زيادةً بين مثلين من غير عوض ، أو في مقابل الأجل . ولعل تصوير النبي صلى الله عليه وسلم هو أبلغ تصويرٍ لانتشار الربا بأنواعه المختلفةِ في زماننا حين قال:( سيأتي على الناس زمانٌ يأكلون فيه الربا ، قال قائل : يا رسول الله : كلهم ؟ قال : من لم يأكله ناله غباره ) .  لقد كان الربا وما زال بطبيعته البشعة العدوانية  معارضاً لسلام البشرية وخيرها وتقدمها ، وكان وما يزال العامل الخطيرُ ، في استنـزاف ثروات العالم الإسلامي ، باسم القروض والفوائد ، التي يعاني منها العالم الإسلامي ، لهذا لا بد أن يكون تحريم الربا منهجاً أساسياً  ،  لتحرير الاقتصاد الإسلامي والمسلمين .

لقد أراد الإسلام أن يجعل من التجارة عملاً أخلاقياً ، لا أساساً اقتصادياً للتقايض ، فالتعريف العام للربا يقوم على تبادل سلعتين من نوعٍ واحد ، وهو ما نهى عنه الإسلام ، الذي لم يجز تغريم المدين مبلغاً من المال ، إذا تأخر في وفاء دينه ، لأن الزمن ليس سلعةً تجاريةً تباع وتشترى .  ومن العجيب أن بعض المسلمين  أباحوا الربا لأنفسهم   بدعوى الاضطرار التي استندوا إليها ، وما دروا أنهم بذلك بعدوا عن الله ، وإن ذكروه وصلوا وصاموا وحجوا .

فآكل الربا ملعون على لسان نبينا حيث يقول :( لعن الله الربا وآكله وموكله وكاتبه وشاهده )  لهذا على كل من يعمل في مؤسسةٍ ربويةٍ ، أن يراجع نفسه ، وإن الذين يتوسعون في الحرام محتجين بأن الذي دفعهم لهذا هو الضرورة ، وإذا ما نظرت إلى هذه الضرورة وخصوصاً بما يتعلّق بالربا ، كأن يقول بأنه محتاج لسيارة أو شقة يسكنها أو قرضٌ يتزوج به ، إن من يقول بذلك واهم يتحمّل إثم كبيرة من الكبائر ، سواء كان ذلك عمداً أو جهلاً أو تجاهلاً ، لأن هذه المحرمات من المعلوم من الدين بالضرورة ، وليست كل ضرورة تدخل في باب الاضطرار .

فإذا توافرت ظروف الضرورة بمعاييرها الشرعية  وأنه لا سبيل آخر سوى هذا السبيل ، فالضرورات تبيح المحظورات بشرط أن تكون هناك ضرورة بمعنى غلبة الظرف أو التيقن بالوقوع في الهلاك أو في دائرة الموت جوعا ، أو أنه سيبيت في الشارع ، فإذا توافرت ظروف الضرورة هذه ، فإنه يمكن أن يقال بالحِل ، علماً بأن توافر ظروف الضرورة هذه حالة محدودة ونادرة جداً ، وقلما ينطبق على مقترض من البنوك الربوية معنى الضرورة هذه ، لأن لها ضوابط مشددة ينبغي أولا أن تحقق معنى الضرورة في المعايير الشرعية ثم نطبق القاعدة "الضرورات تبيح المحظورات" أو "الحاجة العامة تنـزل منـزلة الضرورة" فإذا وجدت المعايير الشرعية فأنا مع ذلك ، إلا أن حالات الضرورة هذه نادرة جدا ، لذا ينبغي عدم التذرع بذريعة الضرورة من أجل الحصول على مسكن أفضل أو تنشيط تجارة أو توسيع مصنع أو تنشيط متجر ، ويقول بأنه في حال ضرورة ، وهو في الواقع ليس في حال ضرورة على الإطلاق ، هذا في الواقع مترفه وليس مضطرا ، لأن المضطر هو الذي يقترض من أجل الحفاظ على حياته من الوقوع في الموت ، بسبب الجوع الشديد أو العطش الشديد أو الإرباك الشديد أو التحقق من وجود ضرر في النفس أو المال أو الأهل ، فإذا توافر ظرف الضرورة بالمعنى الشرعي حينئذ نقول بالجواز  ولكن توافر الضرورة بالمعنى الشرعي غير محقق في أغلب الحالات ، كما أن دعوى الاضطرار للعمل أو التعامل بالربا غير صحيح ، لأن النص في الإباحة للاضطرار ورد في آيات كلها تبيح أكل ما حرّم الله من المنصوص عليها للاضطرار الذي يخشى منه لو لم يُبح الأكل مما حرّمه الله أن يموت الإنسان جوعاً أو يهلك عطشاً قال تعالى : ) إنما حرَّم عليكم الميتة والدم ولحم الخنـزيرِ وما أهل به لغير الله ، فمن اضطر غير باغٍ ولا عادٍ فلا إثم عليه إن الله غفورٌ رحيم ( البقرة 173. وقال تعالى : ) فمن اضطر في مخمصةٍ غير متجانفٍ لإثم فإن الله غفورٌ رحيم ( المائدة 3 . في هذه الآيات دليل على أنه ما أبيحت هذه المطعومات إلا عند الاضطرار في المجاعة المهلكة ، لكي يحفظ الإنسان حياته وهذه الضرورة غير قائمة في التعامل الربوي ، وإن أي محاولة يراد بها إباحة ما حرّم الله ، إنما هي جرأة على الله وقولٌ عليه بغير علم ، وضعف في الدين . قال القرطبي في معنى الضرورة المبيحة لأكل الميتة ولحم الخنـزير والذي عليه الجمهور من الفقهاء والعلماء في معنى الآية : هو من صيّره العدم والجوع إلى ذلك وهو الصحيح . وفي حديث أبي واقد الليثي قال يا رسول الله ؟ إنا نكون في الأرض تصيبنا المخمصة فمتى تحل لنا الميتة ؟ فقال صلى الله عليه وسلم ( متى لم تصطبحوا أو تفتبقوا أو تجدوا بقلا ) والفبوق العشاء والفِبوق بقلة تأكلونها .

لقد علّق الشيخ محمد أبو زهرة على الحديث بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتبر حد الضرورة إلا في هذا وقال : إن الضرورة لا يتصور أن تكون في نظامٍ ربوي بل تكون في أعمال الآحاد . إذ أن معناها أن النظام كله يحتاج إلى ربا كحاجة الجائع الذي يكون في مخمصة إلى أكل الميتة أو لحم الخنـزير أو شرب الخمر ، وإن مثل هذه الضرورة لا تتصور في نظام كهذا  على أنه يجب أن نقرر هنا أن كل الربا حرامٌ لذاته ، لا يحل إلا لضرورة تكون على الحد الذي بيناه نقلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم . قال عبد الله بن عباس في قوله تعالى : ) فمن اضطر ( يعني إلى شيءٍ مما حرّم الله ، وقوله تعالى : ) غير باغٍ ولا عاد ( يقول : من أكل شيئاً من هذه وهو مضطر فلا حرج ، ومن أكله وهو غير مضطر فقد بغى واعتدى . وقد تقرر فقهاً أن الضرورة تقدّر بقدرها ، وقدرها في المأكل والمشرب لسد الحاجة ، وإذا زال سبب الضرورة حرم التـزود وتكرار الفعل حتى قال الفقهاء : إن المضطر لا يأكل من الميتة إلا قدر سد الرمق ولا يباح له الشبع ، ومن يستطيع دفع أجرة مسكن لا يحل له أخذ قرض لشراء مسكن ، وإذا كان لا بد من الدَين ، فقد شاء رب الإسلام ، أن تكون قروضاً حسنة ، بلا زيادةٍ على مبلغ الدَين الأساسي . فالضرورة التي يؤخذ بها تكون عند الإشراف على الهلكة ، وجوعٌ يؤدي إلى إزهاق الرّوح ، وليست كل ضرورة تدخل في باب الاضطرار ، ولو كان المجتمع يدفع إليها ، لأنه يمكن الاستغناء عنها كشراء بيت و سيارة أو أي شيءٍ من الكماليات ، فالشريعة لا تسمح بأخذ الربا في هذه الحالة ، ومن يقول إن اللجوء إلى الربا ضرورة من الضرورات لأن صلاح الأمة من الناحية الاقتصادية قائم على التعامل الربوي هذه الأيام ، وإلا توقف حال الأمة ، إنها مغالطة وضعف أمام النظم التي يسير عليها أقوياء العالم ، وإن كل محاولة يراد بها إباحة ما حرًم الله أو تبـرير ارتكابه بأي أنواع من أنواع التبـرير ، إنما هي جرأةٌ على الله وقولٌ عليه بغير علم ، وضعفٌ في الدين وتزلزلٌ في اليقين ، وإن القول بأن الربا ضرورةٌ عامة للأمة والمجتمع  اتهامٌ لشريعة الله بالنقص ، هذه الشريعة التي شهد الله لها بالكمال ومن كمالها تحريم الربا قال تعالى : ) اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ( المائدة 3 . وأما من يعتمد على حل القرض باسم المرابحة وهو أحد أنواع بيوع الأمانة في الفقه الإسلامي ، وهو مشروع جرى التعامل به في زمن الرسول الله صلى الله عليه وسلم , وبيع المرابحة هذا يكون بين مبايعين لا بين ثلاثة   والسلعة في ملك البائع وهو بيعٌ بمثل الثمن الأول مع ربح مبلغ معلوم يصّرح به البائع على وجه الأمانة .

أما كيفية الشراء عن طريق البنك فتتم بطلب العميل من البنك شراء سلعة ليست عنده مع وعد من العميل بشراء السلعة بعد شراء البنك لها بثمن آخر ، ووعد البنك بيع السلعة له بعد شرائها ، فبيع المرابحة بهذه الطريقة كما يتعامل المصرف يكون الثمن الذي يدفعه العميل مؤجلاً بينما الأصل في بيع المرابحة أن يدفع ثمن السلعة عند العقد  أما ما يجري التعامل به فإن البيع يتم فيه إبرام عقدين أي بيعتين بين المصرف والبائع للسلعة ، وعقد بين المصرف والآخر بالشراء ، وهذا غير جائز حسب قناعتي ، لأن المرابحة تتم بإجراء عقد واحد ، ولما روى الترمذي قال حكيم يأتيني الرجل يسألني من البيع ما ليس عندي أأبتاع له من السوق ثم أبيعه ؟  ولم يقل أبيعه ثم أشتريه ، فقال له الرسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تبع ما ليس عندك )  معنى قول رسول الله e لا تعدْه بالبيع ثم تذهب لتشتريه ، لأن ذلك يعتبر بيعاً ، فيكون بيع ما لا تملك ، وقد نهى رسول الله e صراحة عن بيعتين في بيعه .

قال الإمام مالك رحمه الله في باب النهى عن بيعتين في بيعه : أنه قد بلغه أن رسول الله e ( نهى عن بيعتين في بيعه ) وأنه بلغه أن رجلاً قال لرجل : ابتع لي هذا البعير بنقد حتى ابتاعه منك إلى أجل ، فسأل عن ذلك عبد الله بن عمر فكرهه ونهى عنه .

كما إن ما يجري التعامل به على هذه الصورة يعتبر كبيع العينة وهي كما فسرها كثير من العلماء : بيع من طلبت منه سلعة قبل ملكه إياها لطالبها بعد شرائها ، وقد ورد النهى عنها عن ابن عمر سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( إذا ضن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة وتركوا الجهاد ، واتبعوا أذناب البقر أدخل الله عليهم ذلاً لا ينـزعه حتى يتوبوا ويراجعوا دينهم ) أعلام الموقعين  .

وإذا كانت الزيادة في ثمن السلعة قائمة على أساس سعر الفائدة كما يجري التعامل به ، إذ يتمثل عائد التمويل في صورة هامش مرابحة محدد مسبقاً ، على حسب المدة الزمنية التي يتم بها سداد الدين ، فهذا حرام كما قال به كثير من العلماء ، يقول سيد قطب في الظلال لمن يريدون أن يحصروا الربا في بعض صوره : " إن الإسلام ليس نظام شكليات ، وإنما هو نظامٌ يقوم على تصوّرٍ أصيل ، فهو حين حرّم الربا لم يحرِّم صورةً منه ، إنما كان يناهض تصوراً يخالف تصوره ، ويحارب عقليةً لا تتمشى مع عقليته  وكان شديد الحساسية في هذا إلى حد تحريم ربا الفضل ابعاداً لشبح العقلية الربوية والمشاعر الربوية من بعيدٍ جدا ، وإن كل عملية ربوية حرام ، سواء جاءت في الصور التي عرفتها الجاهلية ، أم استُحدِثت لها أشكالٌ جديدة ، ما دامت تتضمن العناصر الأساسية للعملية الربوية ، أو تتسم بسمة العقلية الربوية ، وهي عقلية الأثرة والجشع والفردية والمغامرة " .         

إن خطر استسلام الاقتصاد الإسلامي لنظام الربا  بالرغم من فساده في مجال التعامل ، هو فسادٌ خطيرٌ دعا الدين الحق إلى تحريمه ، وما نلاحظه هذه الأيام ، أن دول الكفر  سيطرت على هيكل الاقتصاد العالمي  وأقامته على الربا والاستغلال  وتكديس الثروات  فأصبحت تتحكم في أسواق العالم أجمع . وقد ديس بالأقدام الخط الإسلامي في المعاملات ، مما يوجب على المسلمين ، البحث عن الحلول المستمدة من أصول الإسلام ، ولم يعد الاستنكار القلبي كافيا ، مع الخضوع للأمر الواقع . وإن الإسلام ليس هو الدين الوحيد الذي انفرد بتحريم الربا ، بل إن الشرائع السماوية كلها قد حرَّمت الربا ، وما نراه من التعامل الربوي في المجتمعات الغربية ، ما هو في حقيقته إلا خروجٌ على شرعة الدين ، وهو امتداد لقمع الإنسانية واستعباد البشر ، لقد قطعت الأساليب الربويةُ في المعاملات الاقتصادية شوطاً طويلا ، وكان اليهود هم حملةُ لوائها . ولم يخل عصرٌ من الدعاة ، الذين كشفوا فساد النظام الربويّ ، ودعوا إلى حماية المجتمعات ، والفقراء من تحكُّمِ الدائنين . ومما يذكرُ في هذا المجال أن نابليون قد اعتنق الإسلام وتعلَّم العربية وغيَّر اسمه إلى علي بونابرت  وبعد أن رأى تصاعد الربا قال : "من المدهش أن هذا الوحش   يستهلك البشرية برمتها"  وقال : "آملُ أن يأتي اليوم الذي أجمع فيه الحكماء والمثقفين من جميع الأمم ، لتأسيس نظام موحد عادل مبني على القرآن ، الذي هو الحقيقة الوحيدة  وهو الذي يقود الإنسانية إلى السعادة"  وعندما حاول إبرا هام لنكولن تحريم الربا  قُتل بعد ثلاثة أيام من قراره هذا . وعندما حاول جون كندي إحياء قانون إبراهام ، اغتيل هو الآخر قبل توقيع القرار الذي كان موجوداً على مكتبه . ومن الجدير بالذكر أن كلَّ البنوك في العالم تقوم على مبدأ الفائدة ، وإن الفتاوى التي صدرت بهذا الخصوص باطلة  لأن هذه البنوك ما هي إلا شركات مساهمة  تخضع للنظم الرأسمالية الباطلة من وجهة نظر الإسلام ، لأنها شركاتٌ مالية بحتة ولا يوجد للعنصر الشخصي أي اثر فيها ، وقد تجمعت هذه الأموال وصارت لها قوة التصرف بإشراف مجلس للإدارة والذي يَنْتَخِبُ مديراً يتصرف بتنمية الملك للشركة وإدارة الأموال ، وهذا غير جائزٍ في الإسلام ، لأن الأصل في إيجاد المال وفي تنمية الملك هو البدن وهو الأصل في الربح ، والشركة في الإسلام عقدٌ يحصُلُ فيه الإيجاب والقبول بين اثنين أو أكثر يتفقون فيه على القيام بعملٍ مالي بقصد الربح  فهي تعتمد المال والعمل مجتمعين أو العمل وحده ولا تنعقد على المال فقط . أما الشركات المساهمة فهي  تعتمد على المال الذي يدفعه المساهمون بدل أسهمهم   ودون أن يكون هناك أي عقد للشركة بينهم وبين شركائهم ، وهي شركات دائمة لا تبطل بموت أحد الشريكين أو الحجر عليه مما يخالف الشرع ، كما أن الأرباح والخسائر قائمة على نسبة الأسهم   ولا يصل الخسران إلى فقدان رأس المال أي قيمة السهم ، الأمر الذي لا يجوز في الإسلام لأن القاعدة الشرعية تنص على أن الغُرْم بالغْنَمِ ، كما أنها تجعل لأحد الشركاء وهم أعضاء مجلس الإدارة مقداراً معيناً من المال زيادة على حصته في الربح وهذا لا يجوز ، ولهذا تعتبر الشركات المساهمة باطلة من وجهة نظر الإسلام .

أما الأسهم التي تطرحها هذه البنوك ، فلا يجوز التعامل بها   لأن السهم لا يمثل رأس المال المدفوع عند تأسيس الشركة   وإنما يمثل رأس مال الشركة عند البيع في أي وقت وهو كورقة النقد يتعرض سعره للهبوط والارتفاع ، والحكم الشرعي في الأوراق المالية إن كان لها مقابل من الذهب أو الفضة يساويها فشراؤها وبيعها حلال وإن كانت سندات تتضمن مبالغ من المال الحرام كسندات الدين التي تستثمر المال بالربا كأسهم البنوك ، فإن شراؤها وبيعها يكون حراما لأن المال الذي تتضمنه مال حرام واسهم الشركات المساهمة ، سندات تتضمن مبالغ واسهم من رأس مال حلال ومن ربح حرام في عقد باطل ومعاملة باطلة ، دون تمييز بين المال الأصلي والربح فصارت حراماً ، لا يجوز بيعها ولا شراؤها ولا التعامل بها .

حتى أن الكثيرين ألفوا هذا الأسلوب  واندفعوا في تطبيقه   مع أنه يخالف عقيدتهم ، ويا ليت الأمر اقتصر على ذلك فقد نسي الناس تطبيق أحكام الشرع عليهم ، فتراهم حين يباشرون أعمالهم في علاقاتهم مع الناس ، لا يدور بخلدهم سوى هذه المنافع ، وما في المعاملات من أرباح ، ولا يمتنعون عن عمل لأن الشرع حرَّمه  بل الممنوع عندهم ما منعه القانون ، أو ما كان عيباً في عرف الناس ، والجائز ما أجازه القانون وما اصطلح الناس على التعامل به ، أو التذرُّع ببعض الفتاوى الصادرة عن بعض العلماء ، حتى اندفع الناس في المعاملات على هذا الأساس وتركوا أحكام الشرع بالرغم من محافظتهم على الصلاة وإيمانهم بالله ودينه .

إن التعامل الربوي ، ليس ضرورة من ضرورات الحياة الاقتصادية ، وإن الإنسانية التي انحرفت عن المنهج قديماً  حتى ردها الإسلام إليه ، هي الإنسانية التي تنحرف اليوم الانحراف ذاته . ولننظر كيف كانت ثورةُ الإسلام ، على الأنظمة الربوية التي ذاقت منها البشريةُ ، ما لم تذق قط من بلاء ، إننا نرى حرباً من الله على المتعاملين بالربا ، حرباً تصبُ عليهم النقمة والعذاب أفراداً وجماعات  وأمماً وشعوبا ، وهي لا تعتبر ولا تفيق ، وتتناسى بأن الأمة مجمعة على حرمة الربا ، ومن يقول بحل الربا فقد خالف المعلوم من الدين بالضرورة  ، ولا حيلة لنا إلا أن نُذَكِّر ولعل هذه الذكرى تنفع المؤمنين .

 

 

 

ما حكم حرمان البنات من الميراث

لقد اختص الله ذاته تقسيم التركة وتوزيعها وتحديد أنصبتها ولم يترك هذا لنبي أو ولى ، وقد اهتم بعض العلماء بالميراث فقالوا بأنه نصف العلم ، واستدلوا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم ( تعلموا الفرائض وعلموها الناس فأنها نصف العلم وأول علم ينسى ) والمقصود بالفرائض الميراث . والآيات في سورة النساء واضحة ومشهورة فكلها تدل على أن المحتضر لا دخل له بتركته لأنها آلت لغيره وهنا نذكر حكمين : الحكم الأول : إن صاحب المال ( التركة ) لا يجوز له إن يعطى احد الأولاد ويترك الآخر وهو على قيد الحياة ، ولذلك جاء الأمر في حديث الرسول  صلى الله عليه وسلم ( اتقوا الله واعدلوا في أولادكم ) .

الحكم الثاني : لا يجوز للورثة بعد وفاه صاحب المال أن يصنفوا الوارثين بحيث يأخذ هذا ويترك هذا ، لان الله فرض لكل وارث حقا معلوما ، وفريضة مقدسة سواء كان ذكر أم أنثى . فعلى ضوء الآيات القرآنية وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وما أجمعت عليه الأمة ، لا يجوز حرمان المرأة بأي حال من الأحوال ، وإن كانت الظاهرة مألوفة عند بعض الناس ، فهذا يرجع لجهلهم بأمور دينهم وقد حذَّر الله من ذلك بقوله عقب أية المواريث { تلك حدود الله فلا تعتدوها } .

فكل من يَحْرم امرأة من نصيبها الكامل، سواء بالتهديد أو الوعيد ، أو بإجبارها على التنازل عن ميراثها ، أو بجزء منه ، حرام شرعاً ، وهو آثم ، ومعطل لأحكام الله عز وجل، ومعتدٍ على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وآكل لأموال الناس بالباطل ، ولا يجوز أن يستباح حق المرأة بالحيل والمكر والخديعة ، فإن الحيلة وإن نفعت في الدنيا فلن تنفع صاحبها يوم القيامة .

ونقول لهؤلاء الذين يحرمون النساء من حقهن في الميراث ، ماذا ستقول لربك إذا سألك: لماذا حرمت أختك من حقها؟! وتذكَّر ذلك اليوم الذي تقول فيه الرحم لربها: يا رب، فلان ظلمني ، فلان قطعني ، فيقول رب العالمين: ( أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ قَالَتْ: بَلَى، قَالَ: فَذَاكِ لَكِ. ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :{ اقْرَؤوا إِنْ شِئْتُمْ: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ  أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ  أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}  محمد22-2 . حتى حرمان بنات الصلب من الإرث والوصية  أو الوقف حرام ، لأنهم كأولاد الصلب ، فلا يجوز حرمانهم ، وهذا من باب الإصلاح لقوله تعالى: { فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } البقرة 182.

وأما تسجيل البيت باسم الأولاد الذكور، فللإنسان العاقل البالغ الرشيد أن يهب ماله لمن شاء ، فإذا وهبه له وسلمه إليه نفذت الهبة  ولكن يكره للمسلم أن يهب ماله كله لبعض أولاده أو أحدهم بقصد حرمان الآخرين من غير مبرر وعليه المساواة بينهم في الهبة ، أو تفضيل البعض على البعض دون الحرمان إذا كان للتفضيل سبب ، مثل فقر البعض أو كثرة عياله أو كثره بره أو تقواه .

هذا إذا كانت الهبة حال صحته ، أما إذا كانت الهبة تمت في حال مرض الموت ، فتنفذ في الثلث فقط دون باقي التركة ، إذا كان الموهوب له من الغرباء ، فإن كان من الورثة توقفت كلها على موافقة الورثة الباقين .

وأما الذي يشغل الشقة ، ففي حياة والده لا يسأل ، وبعد وفاة والده ، إذا رضي الأخوة بذلك فجائز ، وإذا لم يرضوا بذلك فعليه إخلاؤها ، وعلى الأخوة أن ييسروا الأمور فيما بينهم .

 

 

 

هل لخوارق دليل الصلاح

قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد } الحشر18. واحذروا أن تكونوا ممن قال الله فيهم :{ استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أُوْلَئكَ حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون } المجادلة 19 . إن من نواقض الإسلام السحر ، وإن ظاهرة السحر والشعوذة تزداد نفوذا في بلاد المسلمين  لضعف الإيمان في نفوسهم ، إذ الإيمان الدعامة الكبرى ، والوقاية العظمى من كل فتنة وشر ومكروه : { ومن يؤمن بالله يهد قلبه} التغابن11. وفى الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الإيمان ليَخلَق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم ) فحين يضعف الرجاء بالله، ويقل الخوف منه ويهتز جانب التوكل على الله ، والرضاء لما قدر ، واليقين بما قسم يتسامح بعض الناس بالذهاب للسحرة والمشعوذين فيزيدهم ذلك وهنا على وهنهم ، وتستلب أموالهم وعقولهم .

وذلك يرجع لجهلهم بأحكام الشريعة ، وما جاء فيها من زواجر عن الذهاب إلى هؤلاء السحرة والعرافين، وما ورد في ذلك من ضرر على المعتقد والدين قال صلى الله عليه وسلم : ( من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة ) الحديث . أما إن سألهم وصدقهم فالخطب أكبر ، والخطر أعظم ، فقد روى الحاكم بسند صحيح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه فيما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ) وعند البزار بسند صحيح عن ابن مسعود موقوفا قال : ( من أتى كاهنا أو ساحرا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ) ولا يتعامل مع السحرة والمشعوذين إلا من جهل حالهم فتراهم فيذهبون ليستطبّون عندهم ، وهم في الحقيقة لا يملكون من أنواع العلاج إلا ما يضر ولا ينفع ، تخرّصات وأوهام وتمتمات وطلاسهم وكتابات تباع بغالي الأثمان ، وهي لا تساوي فلسا عند أولي الألباب ، بل ولو ذهبت ترقب أحوال هؤلاء المشعوذين الدينية والخلقية لرأيت العجب العجاب ، ولأيقنت أنهم أحوج الناس إلى العلاج ، وإن نصّبوا أنفسهم على هيئة الشيوخ وحذاق الأطباء  والمصيبة في ظن أولئك المرضى أن شفاءهم يتم على أيدي السحرة والمشعوذين ، فراحوا يطرقون أبوابهم ويدفعون أموالهم وينتظرون الشفاء على أيديهم ، فكانوا كالمستجير من الرمضاء بالنار ، لأن هؤلاء المشعوذين ، غالباً ما يكونون ممن يعانون من ظروف اليأس والفقر والبطالة ، وممن يدّعون الكرامات الزائفة ، والهمم الباطنية التي لا تخلو من الدس الشيطاني فيتخذون شياطين الجن أولياء من دون الله ويدعون أنهم أولياء وأصحاب كرامات وأصحاب طرق ينسبونها للصوفية ، ويتخذون الجن أولياء من دون الله ، ويعرف هؤلاء بسلوكهم الذي يعتمد ضرب السيف وضرب الشيش والغيبوبة التي يتبعها التشنج ، وقراءة العزائم ، التي ما انزل الله بها من سلطان وكذلك الأقسام ، والممارسات التي تتنافى مع الشريعة نصا وروحا وما هي إلا طرائق شيطانية وشعوذة ، ولا علاقة لها بالكرامات ، والمشعوذ أو الساحر له تعاون مباشر مع شياطين الجن والطواغيت منهم ، وهم جميعا داخل دائرة شيطانية ، يتبرأ الساحر فيها من الله وملائكته وكتبه ورسله ، ويعلن ولاءه الكامل لإبليس اللعين الذي له مئة اسم من الأسماء التي تدخل في العزائم التي يقرأها الساحر   وله أسرار توزيع الخدمة وهي الطلاسم ، وعددها مئة  وهي همزة الوصل لكل من دخل هذه الدائرة الشيطانية . ويقوم عُبّاد إبليس بذبح القرابين له ولمساعديه ، وهي عبارة عن ذبح لا يسمى عليه ، ويكون على نية شيطانية ويدهنون أجسامهم بدم هذه القرابين . وفروض عبادتهم تعظيم أسماء إبليس وتعظيم طلاسمه وتعظيم عرشه الفاني . كما أن أذية عباد الله ، والتلذذ بمعصية الله وتدنيس القرآن عندهم عبادة ، كما أنهم يعظمون الأسماء الشيطانية والطلاسم ، ويعرفونها من خلال الكتب والمكائد ويعملون بها ، ومنهم المنجم الذي يتوقع الغيب   والعراف الذي يضرب الرمل ويقرأ الكف ويقرأ الفنجان   ومنهم صاحب ألعاب السيم والمشي على الجمر وكلهم يدعي بأن ما يمارسونه علم ، نعم إنه علم ولكنه علم شيطاني ، وتلك أحوال شيطانية باطلة ، وأكثر أحوالهم من باب الحيل والبهتان ، ومن أراد أن يدخل النار فليدخل أولاً إلى الحمام ، وليغسل جسده بالماء الحار غسلاً جيدا ، ويدلكه بالخلّ والأُشنان ، لأنهم يطلون جسومهم بأدوية يصنعونها من دهن الضفادع ، وباطن قشر النارنج  وحجر الطلق ،  ثم يدخل بعد ذلك على النار إن كان صادقاً ، ولو فرض أن أحدا من أهل البدع دخل النار بعد أن يغتسل ، فإن ذلك لا يدل على صلاحه ولا على كرامته ، ولا يدل على صحة ما يدّعونه من مخالفة الشرع ، فقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الدجال الأكبر يقول للسماء أمطري فتمطر ، وللأرض أنبتي فتنبت  وللخربة أخرجي كنوزك فتُخرج كنوزها تتبعه ، ويقتل رجلاً ثم يمشي بين شِقَّيه  ثم يقول له : قم  فيقوم ، ومع هذا فهو دجال كذّاب ملعون لعنه الله .  قال يزيد البسطامي : لو رأيتم الرجل يطير في الهواء  ويمشي على الماء فلا تغتروا به ، حتى تنظروا كيف وقوفه عند الأوامر والنواهي وقد كثر في زماننا هذا من يقومون بأعمال مشكوك فيها منها الضرب بالشيش، وأكل الزجاج، والضرب بالخنجر ويدعون بأنهم أولياء لله ، ويعتبرون هذه الأعمال كرامات  وهي في الحقيقة من أعمال الشعوذة والسحر والتلبيس على الناس المحرمة شرعا ، والتي يجب إنكارها والقضاء عليها، وليست تلك الظواهر الغريبة من الكرامات التي يظهرها الله تعالى على يد أوليائه المؤمنين تكريما لهم ولا علامة على صلاح من ظهرت على يده؛ لأن أولياء الله هم أهل الإيمان والتقوى المعروفون بطاعة الله ورسوله كما قال تعالى : { أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } .

وهنا سؤال هل مجرد خرق العادة يدل على ولاية من وقع الخارق على يديه ؟ يقول الحافظ ابن حجر : إن الذي استقر عند العامة من خرق العادة يدل على أن من وقع له ذلك من أولياء الله تعالى, وهو غلط ممن يقوله  فان الخارق قد يظهر على يد المبطل من ساحر وكاهن وراهب, فيحتاج من يستدل بذلك على ولاية أولياء الله تعالى إلى فارق, وأولى ما ذكروه أن يختبر حال من وقع ذلك على يديه ، فان كان متمسكا بالأوامر الشرعية والنواهي كان ذلك علامة ولايته ومن لا فلا . فتح الباري: 7 442   كما أكثر ابن تيمية القول وهو يذكر أحوال أقوام قد تطير بهم الشياطين, وتنقلهم من مكان إلى آخر, وقد تتجسد في هيئات بعض المشائخ أمام مريديهم وتلاميذهم مع بعد المسافات بينهم, إلى غير هذا من صور خوارق العادات, وأرجع ذلك كله إلى أن الشياطين هي التي تقوم بهذه الأعمال, لا يبعد أن يكون من أسباب وقوع خوارق العادات على أيدي المبطلين والمدعين, الاستعانة بالجن وقد سمعت من أكثر من واحد من أصحاب التجارب مع بعض "الشيوخ" حول حقيقة ما يسمى بالكرامات, كالطعن بالسيوف والخناجر, والضرب بالشيش وأكل الزجاج, أو مكاشفة الحجب حتى تتراءى لهم الكعبة, أو يروا الملائكة, أن كل ذلك يقع بفعل الاتصال بالجن وهم الذين يقومون بهذه الأفعال على الحقيقة ، نحن لا ننكر أن هناك عجائب خارقة تقع للناس. بيد أنها تقع للمؤمن والكافر، والبر والفاجر. فلو أن رجلاً سار على الماء دون أن تبتل قدماه ما دل ذلك على صلاحه، لأن مناط الصلاح بما شرع الله من عمل وإيمان ، وإن كرامات الأولياء ليست كخوارق السحرة والكهنة والعرافين، وإذا كان بين كرامات الأولياء وخوارق السحرة والكهنة والعرافين فرق ، فمن باب أولى الفرق بين معجزة النبي وخوارق السحرة  ولهذا فإن الخوارق التي يدعيها الكهان والعرافون والرمالون لا بد أن يصاحبها الكفر؛ لأنها خضوع لشياطين الجن، ومعلوم أن الجن لهم من الاقتدار على الأشياء ما ليس لبني آدم ، فيتحركون حركة هي في نظر الجن حركة معتادة ، وتكون في نظر الإنس حركة خارقة قال تعالى:{ قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ } النمل 39 . 

 

 

 

ما هو الإيمان

هو ما وقر في القلب وصدقه العمل، وهو إقرار باللسان  وتصديق بالجنان ، وعمل بالجوارح ، إنه سر من الأسرار الخفية التي يودعها الله قلب من يشاء من عباده المخلصين والإيمان الحق : هو نور من الله يضئ جوانب النفوس  وسعادة تغمر القلوب ، ويقظة تحيى الضمير ، وشعور بالطمأنينة ، وهو مصدر الطاقة المتحررة  التي تسمو بالإنسان عقلاً وقلبا ، عن عبادة الأشخاص أو الأوضاع أو التقاليد ، وكما أن الإيمان طاقة تحرير فهو عامل تطهير   ووسيلة امن ، ومصدر سكينة ، ورمز كرامة وعزة : { ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} النور40 . ولا يكون الإيمان مثمراً إلا إذا كان انطلاقاً إلى عمل جاد لصالح الفرد والأمة، ووقوفاً مع الله تعالى بإخلاص وصدق وتجرد  ومن ثم نقول:  إن الإيمان من غير عمل شجرة بلا ثمر ، فإبليس كان يعلم أن الله ربه ، وأنه لا إله إلا هو، وأن مصيره إليه يوم يبعثون ، ولكنه لما كلف بالعمل ، حين صدر إليه الأمر الإلهي بالسجود لآدم ، أبى واستكبر ، وقال :{ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً } الإسراء 61 . فلم تنفعه معرفته بالله ، ولم ينفعه علمه بأن البعث والمصير إلى الله  لأن الإيمان الذي لا يستلزم الخضوع لله لا قيمة له ولأن المعرفة التي لا يصاحبها العمل لا وزن لها ، فكان الجزاء كما قال الله : { وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ } الحجر 34 ، والإيمان من غير عمل لا يفيد ، والعمل من غير إيمان بالله لا ينفع ، ويؤكد ذلك قوله تعالى : { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً } الكهف 103 . وقد جاء ذكر الإيمان مقروناً بالعمل الصالح في القرآن قال تعالى :{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً } الكهف 30 . وماذا يبقى للإيمان من دور فاعل في الحياة ، حينما يحصر في التصديق والإقرار ؟ وهل ثمة إيمان قلبي تام لا يلازم عمل بدني ظاهر ؟ ثم أليس الإيمان القلبي يستلزم الأعمال الظاهرة ؟ وكيف يتحقق الإيمان ؟ وكيف يظهر صدق ذلك ؟ أيتحقق الإيمان بتصديق قلبي مع امتناع الجوارح عن العمل ؟ أم بإقرار لساني مع  ترك جميع المحرمات ؟ وفي هذا قال الحسن البصري : "ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل "  وقد أكد الله ذلك بقوله : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ }  الأنفال 2 . وقد أنكر أئمة السلف على من أخرج العمل من الإيمان إنكاراً شديداً    وجعلوه من الأقوال المحدثة المردودة على أصحابها ، قيل لسفيان بن عينية :" إن قوماً يقولون : الإيمان كلام فقال : كان هذا قبل أن تنـزل الأحكام ، فأمر الناس أن يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا دمائهم وأموالهم فلما علم الله صدقهم ، أمرهم بالصلاة ففعلوا ، ولو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار ، ثم ذكر الأركان إلى أن قال : فلما علم الله ما تتابع عليهم من الفرائض وقبولهم قـال :{ اليوم أكملت لكم دينكم } فمن ترك شيئاً من ذلك كسلاً أو مجوناً أدبناه عليه وكان ناقص الإيمان ، ومن تركها جحوداً كان كافراً " وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدى عامله على الجزيرة  :" إن للإيمان فرائض وشرائع  وحدوداً وسنناً ، فمن استكملها استكمل الإيمان ، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان " ، لقد كانوا يملكون رصيداً حياً من مبررات الانطلاق والحركة ، التي تربوا عليها في مدرسة النبي صلى الله عليه وسلم   فالصحابة والتابعين ؛ لم يكونوا يفرقون بين الإيمان والعمل ، بل إن صدق الإيمان وعمق اليقين ، الذي استقر في قلوبهم ، أطلق جوارحهم بالعمل ، وجعلهم يسطرون بفاعليتهم صفحات في ميادين الفضيلة ، ودروب البر والخير ، وإلا فما الذي حمل حنظلة على مفارقة فراش زوجه الوثير ، في ليلة عرسه ؟ وهو القادر لو شاء أن يلتمس من الأعذار ما يعفيه من اللحاق بقافلة المجاهدين ؟ وما هي الدوافع التي حملت أولئك الكرام على التسابق في الإنفاق، والتنافس في البذل والعطاء ؟ يقول عمر : ( أمرنا رسول الله  صلى الله عليه وسلم أن نتصدق ، فوافق ذلك مالاً عندي  فقلت : اليوم اسبق أبا بكر إن سبقتة يوماً  فجئت بنصف مالي ، وأتى أبو بكر بكل ما عنده ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : يا أبا بكر ما أبقيت لأهلك ؟ قال : أبقيت لهم الله ورسوله ) وما الذي حدا بأبي طلحة حينما وقف على قوله تعالى :{ انفروا خفاقاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله } التوبة 41 . أن يقول لأبنائه : أرى ربما استنفرنا شيوخاً وشباناً ، جهزوني يا بني ، فقال بنوه : يرحمك الله   قد غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات ، ومع أبى بكر حتى مات ، ومع عمر حتى مات ، فنحن نغزو عنك ، فأبى وركب البحر فمات   فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد تسعة أيام ، فلم يتغير ، فدفنوه بها ، وهذا الصحابي عمرو بن الجموح – الأعرج شديد العرج – كان له أربعة بنين شباب يغزون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا ، فلما توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد ، أراد أن يتوجه معه ، فقال له بنوه : إن الله قد جعل لك رخصة ، فلو قعدت ونحن نكفيك ، وقد وضع الله عنك الجهاد ، فأتى  عمرو بن الجموح رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إن بني هؤلاء يمنعوني أن أخرج معك  والله إني لأرجوا أن استشهد ، فأطا بعرجتي هذه الجنة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما أنت فقد وضع عنك الجهاد ، وقال لبنيه : وما عليكم أن تدعوه ، لعل الله عز وجل أن يرزقه الشهادة ، فخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتل يوم أحد .

إنها القوة الإيمانية الدافعة إلى الطاعات وفعل الخيرات  قرأت قصة رجل استيقظ مبكراً ليصلي الفجر في المسجد لبس وتوضأ وذهب إلى المسجد ، وفي منتصف الطريق تعثر ووقع ، فاتسخت ملابسه ، فرجع إلى البيت إلي البيت ليستبدلها ، ثم رجع ثانية إلى المسجد ، وفي نفس المكان تعثر ووقع ، فاتسخت ملابسه ، فرجع إلى البيت واستبدلها ، ولما خرج من البيت إلى المسجد ، لقي شخصاً يحمل مصباحاً ينتظره ، فسأله من أنت قال : قال رأيتك وقعت مرتين ، وجئت لأنور لك الطريق إلى المسجد ، ولما وصلا باب المسجد ، قال له الرجل : ادخل لنصلي ، فرفض الدخول ، وعندما كرر عليه الطلب رفض وبشدة ، ولما سأله عن سبب الرفض قال له : أنا الشيطان ، أوقعتك في المرة الأولى لكي ترجع ولا تصلي بالمسجد ، لكنك رجعت ، فغفر الله ذنوبك ، ولما أوقعتك المرة الثانية ورجعت ، غفر الله لأهل بيتك ، وفي المرة الثالثة خشيت أن أوقعك فيغفر لأهل قريتك .   

إن المسلمين اليوم فقدوا القوة الإيمانية التي ترغب في العمل والعطاء ، وتسرب إليهم الوهن لضعف إيمانهم  وفتور هممهم ، وتناسوا أن القوة الإيمانية التي دفعت أسلافهم نحو البناء الحضاري ، لم تعد تملك الوقود اللازم الذي يتمثل في وضوح الفكرة ، وبذلك أصبح المسلمون عاجزين عن أداء رسالتهم الحضارية   لأن من يفقد قوة الدفع اللازمة ، سيبقى ثابتاً في مكانه يدور حول نفسه ، والإيمان هو القوة الدافعة المحركة التي فقدوها ، وحينما يفهم المؤمنون ذلك ، فإن رياحه حينما تهب تأتى بالأعاجيب ، وتغير مجرى التاريخ ، وتحدث انعطافاً حاداً في مسيرة الزمن ،لأن له حلاوة لا يعرف طعمها إلا من ذاقها ، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولا ) مسلم . فهذا بلال بن رباح رأى حلاوة الإيمان بالله وهو يردد أَحَدٌ..أَحَدٌ، وهو ملقي على رمال مكة الملتهبة ، وهذا ابن تيمية قال سعيداً بإيمانه: ماذا يصنع أعدائي بي؟ جنتي في صدري ، لا يستطيعون أن ينـزعوها مني  فإن نفوني فنفيي سياحة ، وإن حبسوني فحبسي خلوة ، وإن قتلوني فقتلي شهادة ، والدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة ، إنها جنة الإيمان   في صدري كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والمحبوس من حبس قلبه عن ربه ، والمأسور من أسره هواه ، والله لو بذلت ملء القلعة ذهباً ما عدل ذلك عندي شكر نعمة الحبس  وما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير ، اللهم أعنِّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ولسان حاله :

أنا لست إلا مـؤمناً       باللـه في سري وجهري

أنا نبضة في صدر هذا  الكون فهل يضيق صدري

وقد قُرن الإيمان بحسن الخلق نلاحظ ذلك في قولـه صلى الله عليه وسلم : ( أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم أخلاقاً ) صحيح   المستدرك للحاكم النيسابوري   وقد كان المسلمون الأوائل إذا سمعوا آية فيها تكليف سارعوا إلى تطبيقه ، وإذا نزل تحريم لأمر انتهوا عند ذلك من صدق الإيمان وصلابة العقيدة .

وهنا سؤال : لماذا لا نرى ذلك الأثر في واقع المسلمين الآن ؟ لإننا نجد الفرق شاسعاً بين ما يدّعون من عقيدة وبين ما يسلكون ويتصرفون به في المعاملات والسلوك .  والحقيقة : أن الدعوى شيء والإيمان الحقيقي شيء آخر  إذ الإيمان حقيقة ، وكل حقيقة لها علامة، وعلامة الإيمان العمل به ، وإذا دخل الإيمان القلوب واستقر فيها دفع النفوس إلى العمل بموجبها ، وهؤلاء ممن : { يَقُولُونَ بَأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } آل عمران 167  . لأن معيار صدق الإيمان هو العمل الصالح ، والإيمان ما وقر في القلب وصدَّقه العمل، والاعتقاد الصحيح يدفع إلى السلوك الطيب . وإن ما وصلت إليه الأمة من ضعف مرده إلى ضعف الإيمان أو فقدانه ، وقد أصبحت الشكوى مريرة ، لما أصاب الناس من انهيار في الأخلاق واضطراب في الموازين؛ فالجار يشكو جاره والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن، قيل : مَن يا رسول الله؟ قال : الذي لا يأمن جاره بوائقه ) رواه البخاري.

وثمرة الإيمان الكامل ، تكمن في القوة الدافعة لكل ما هو خير للإنسان, بدءا من جهاد النفس ومغالبة الهوى   ووصولاً إلى الجهاد في سبيل إعلاء كلمة الله ، ومنع الظلم والفساد في الأرض, وانتهاء بإماطة الأذى عن الطريق    والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر, وثمرة الإيمان الكامل لها ما لها من الآثار العظيمة في حياة الإنسان ، وفي القصة القصيرة التي رواها الإمام مسلم برهان مبين على مبلغ أثر الإيمان ،ذلك أن رجلاً كان ضيفاً على النبي صلى الله عليه وسلم فأمر له بشاة فحلبت ، فشرب حلابها، ثم أمر له بثانية فشرب حلابها ثم بثالثة فرابعة  حتى شرب حلاب سبع شياه  وبات الرجل وتفتح قلبه للإسلام ، فأصبح مسلماً معلناً إيمانه بالله ورسوله ، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم له في الصباح بشاة  فشرب حلابها ثم أخرى لم يستتمه، وهنا قال الرسول صلى الله عليه وسلم   : (إن المؤمن ليشرب في معىً واحد والكافر ليشرب في سبعة أمعاء) . فيما بين يوم وليلة استحال الرجل من شرهٍ   حريص على ملء بطنه ، إلى رجل قانع عفيف ماذا تغير فيه ؟ إن الذي تغير فيه قلبه حيث تحول من الكفر إلى الإيمان . 

جاءت أمراه إلى داوود عليه السلام ، قالت: يا نبي الله ربك ظالم أم عادل ؟ فقال داود: ويحك يا امرأة هو العدل الذي لا يجور، ثم قال لها ما قصتك ؟ قالت : أنا أرملة عندي ثلاث بنات ، أقوم عليهن من غزل يدي   فلما كان أمس شدّدت غزلي في خرقة حمراء ، وأردت أن أذهب إلى السوق لأبيعه وأبلّغ به أطفالي ، فإذا أنا بطائر قد انقض عليّ وأخذ الخرقة والغزل وذهب ،  بقيت حزينة لا أملك شيئاً أبلّغ به أطفالي ، فبينما المرأة مع داود عليه السلام في الكلام ، إذا بطارق يطرق بالباب على داود فأذن له بالدخول ، وإذا بعشرة من التجار كل واحد بيده : مائة دينار ، فقالوا يا نبي الله أعطها لمستحقها ، فقال لهم داود عليه السلام : ما كان سبب حملكم هذا المال ؟ قالوا يا نبي الله ! كنا في مركب فهاجت علينا الريح ، وأشرفنا على الغرق ، فإذا بطائر قد ألقى علينا خرقة حمراء وفيها غزل ، فسدّدنا به عيب المركب ، فهانت علينا الريح وانسد العيب ، ونذرنا لله أن يتصدّق كل واحد منا بمائة دينار ، وهذا المال بين يديك فتصدق به على من أردت ،  فالتفت داود- عليه السلام- إلى المرأة وقال لها : رب يتجر لكِ في البر والبحر وتجعلينه ظالمًا، وأعطاها الألف دينار وقال : أنفقيها على أطفالك .

فالمؤمن يسعد بإيمانه في الدنيا وبثوابه في الآخرة وذلك فضل الله على الناس ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون .

 

 

 

 ما هي عاقبة القول بغير علم

القول على الله بغير علم ، من أشد المحرمات تحريما وأعظمها إثما  والمحرمات هذه نوعان : محرم لذاته لا يباح بحال ، ومحرم تحريما عارضا في وقت دون وقت  قال تعالى في المحرم لذاته : ﴿ قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن ﴾ ثم انتقل إلى ما هو أعظم منه فقال : ﴿ والإثم والبغي بغير الحق ﴾ ثم انتقل إلى ما هو أعظم منه فقال : ﴿ وان تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ﴾ ثم انتـقل منه إلى ما هو أعظم منه فقال : ﴿ وان تقولوا على الله ما لا تعلمون ﴾ الأعراف 33 . وتوعد من يكذب عليه في أحكامه ، والقول لما لم يحرمه : هذا حرام ولما لم يحله : هذا حلال ، إذ لا يجوز للعبد أن يقول هذا حلال وهذا حرام إلا بما علم أن الله سبحانه أحله أوحرمه فقال تعالى : ﴿ وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ . فالقول على الله بغير علم ضربٌ من الكذب ، بل هو من أخطر أنواع الكذب قال تعالى : ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴾الأنعام 21 . فمن يقول على الله ما لا يعلم ، فقد وقع في إثم عظيم  لقوله تعالى : ﴿ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ البقرة 169  . ولذلك قال بعض العلماء: لأن يرتكب العوام الكبائر ، أهون من أن يقولوا على الله ما لا يعلمون  لأننا حين تقول على الله ما لا تعلم ، تطمئن العاصي أو تخوف التائب، فهذا ابن عمر يقول : دينك دينك إنه لحمك ودمك، خذ عن الذين استقاموا ولا تأخذ عن الذين مالوا . لأن من استقام صدق ونطق بالحق   ومن مال ظلم ، ومن ظلم أو أعان على ظلم سلط الله عليه ، كما أخبر بذلك صلى الله عليه وسلم : ( من أعان ظالما سلطه الله عليه ) أخرجه ابن عساكر عن ابن مسعود وقال : ( من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة لقي الله يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله ) أخرجه ابن ماجه عن أبي هريرة ، لذلك قل الحق ولو كان مراً، لقي أبو جعفر المنصور أبا حنيفة النعمان، فقال: يا أبا حنيفة لو تغشيتنا – زرتنا- قال له : ولِمَ أتغشاكم وليس لي عندكم شيءٌ أخافكم عليه؟ وهل يتغشاكم إلا من خافكم على شيء؟ إنك إن أكرمتني فتنتني، وإن أبعدتني أزريت بي . ومن القول بغير علم ، من يقول عندما يرتكب الكبيرة هذه إرادة الله  والمكتوب على الجبين لازم تشوفه العين ، ويتجاهل أن الإنسان مخير  وفي اللحظة التي يتوهم فيها أنه مجبر ، يكون قد خرق أكبر محور للعقيدة : لأن الإنسان حينما يتوهم أن الله أجبره على ذنب ما ، يكون قد وقع في أكبر خطأ في العقيدة، جيء بشارب خمر إلى عمر بن الخطاب فقال: أقيموا عليه الحدّ، قال : والله يا أمير المؤمنين إن الله قدر عليّ ذلك، فقال : أقيموا عليه الحد مرتين، مرة لأنه شرب الخمر، ومرة لأنه افترى على الله، قال له: ويحك يا هذا إن قضاء الله لم يخرجك من الاختيار إلى الاضطرار: ﴿ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾الكهف 29 ، ﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ﴾ الإنسان 3، فالإنسان مخير وفي اللحظة التي يتوهم فيها أنه مجبر على أعماله  يكون قد خرق أكبر محور للعقيدة، لأن الله لا يحاسب إلا المذنب ، روي أن رجلاً قال وهو يطوف حول الكعبة : ربي اغفر لي ذنبي ولا أظنك تفعل؟  فقال له رجل سمعه : يا هذا ما أشد يأسك من رحمة الله؟ قال له: ذنبي عظيم، قال له: ما ذنبك؟ قال له: كنت جندياً في قمع فتنة، فلما قُمعت ، أُبيحت لنا المدينة  فدخلت أحد البيوت ، فرأيت فيه رجلاً وامرأة وطفلين، فقتلت الرجل، وقلت لامرأته : أعطيني كل ما عندك، أعطتني كل ما عندها، فقتلت ولدها الأول، ولما رأتني جاداً في قتل الثاني ، أعطتني درعاً مذهبة - من الذهب-، أعجبتني أيما إعجاب  تأملتها، فإذا عليها بيتان من الشعر  قرأتهما فوقعت مغشياً عليّ، البيتان :

إذا جار الأمير وحاجباه  وقاضي الأرض أسرف في القضاء

فويل ثم ويل ثم ويل     لقاضي الأرض من قاضي السماء

في اليوم ألآخر قد تقع عين الأم على ابنها فتقول : يا بني، جعلت لك صدري سقاء، وبطني وعاء وحضني وطاء، فهل من حسنة يعود عليّ خيرها؟ يقول لها ابنها : يا أمي، ليتني أستطيع ذلك ، إنما أشكو مما أنت منه تشكين : ﴿ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ ﴾المؤمنون101   المهم أن يكون العبد مستقيماً مع الله  ولذلك قال النبي : (إن الله تعالى لا يعذب العامة ، بل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم ، وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه ، فإذا فعلوا ذلك عذب الله العامة والخاصة) الفتن لنعيم بن حماد ، والدليل : ﴿ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ﴾

قال صلى الله عليه وسلم : ( إن بين يدي الساعة كذابين فاحذروهم ) ومع الأسف كثير من الناس لم يأخذوا بهذه النصيحة النبوية ، فيحذروا الكذابين ، ومنهم أصحاب الشعارات البراقة و الدعاوى الضالة .

وإن الصراع الدائر بين أهل الحق والباطل في كل زمان ومكان ، لا بد في هذا الصراع بين الفريقين أن ينتهي الحق إلى الغاية التي وعد الله بها لتشمل دينه وإظهار أهل الحق على أهل الباطل ، ولابد أن ينتهي الباطل وأهله إلى الهزيمة والفشل ، وما على أهل الحق إلا الثبات والصمود والسعي الجاد ، وعليهم أن يعلموا أن خصوم الحق ، قد بلغوا الغاية في المكر والكيد ، ومن ذلك استغلالهم لسكوت كثير من أهل الحق ، وإحجامهم عن مواجهة الباطل اللابس لباس الحق ، وإن هذا الصنف من أهل الباطل من أشد الناس كذبا وتدليسا ، وتشبعا بما لم يعطوا   فهم كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم : ( المتشبع بما لم يعطى كلابس ثوب زور ) فتجدهم من أشد الناس مدحا وتلميعا لأهل الباطل ، ومن أشد الناس طعنا في أهل الحق ودعاته ، وقد وضعوا لنصرة الباطل وحماية أهل المناهج الضالة ، القواعد الفاسدة وحاربوا أهل الحق ، بافتعال المكايد والقبائح وكشروا عن أنيابهم ، وأظهروا حقدهم وعداءهم لأهل الحق ، وسعوا من غير ملل ولا كلل في شحن الشباب ضد أهل الحق ، غير مبالين بما ينجم عن ذلك من ضرر وكراهية وبغضاء ، وقطع لأواصر المحبة والتآلف بين الناس ، وما فيها من غبن وقهر وسلب لحقوق الآخرين من خلال الظلم والغش والكذب ، الذي يكاد أن يكون ظاهرة وسلوكاً سائداً عند كثير من الناس، ولهذا كثرت الأحقاد والمفاسد بينهم ، وتجاهلوا أن الكذب يهدي إلى الفجور ، وأن الفجور يهدي إلى النار .  ومما يؤسف له ذهاب الصدق في هذا الزمن ، وكثرة الكذب في الأعم والأغلب، فما أقل من يصدق في حديثه وعلاقاته ومعاملاته ووعوده ، وما أحوجنا أن نصدق ونتحرى الصدق ، لأنه نور ونجاة   وأن نجتنب الكذب لأنه شيمة أهل النفاق ، كما الصدق من أمارات الفلاح للمؤمن في الدنيا والآخرة قال صلى الله عليه وسلم :  ( إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة  وإن الرجل ليصدق حتى يُكتبَ عند الله صديقاً ) فلنتحرى الصدق في القول والفعل لنفلح في الدنيا والآخرة  

               

 

 

ما هي التــوبـة

قـال تعالى : ﴿  وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ النور:31  التوبة رجوع إلى الله بسبب المعاصي والذنوب أو المخالفات والتقصيرات  بالندم عليها والعزم على ألا يعودها أبدا  وقيل : هي الندم على ما سلف منه في الماضي والإقلاع عنه في الحال  والعزم على ألا يعاوده في المستقبل  التوبة من أي معصية واجبة على الفور لا على التراخي. وتسويف التوبة أو تأخيرها ذنب يجب التوبة منه .

وروي عن علي رضي الله عنه أنها اسمٌ يقع على ستة معان  لما ورد عن جابر أن أعرابياً دخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك وكبر ، فلما فرغ من صلاته قال له علي رضي الله عنه : يا هذا ؟ إن سرعة اللسان بالاستغفار توبة الكذابين ، وتوبتك تحتاج إلى التوبة ، فقال يا أمير المؤمنين وما التوبة ؟ قال : " اسمٌ يقع على ستة معانٍ : على الماضي من الذنوب الندامة ، ولتضييع الفرائض الإعادة  ورد المظالم ، وتعويدها على الطاعة كما عودتها على المعصية ، وإذاقتها مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية ، والبكاء بدل كل ضحك ضحكته " وقال: عجباً لمن يهلك ومعه النجاة ، قيل له وما هي؟ قال: التوبة والاستغفار  ومتى كانت التوبة صادقة قبلت ويفرح الله لها جاء في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري عن الحارث بن سويد قال : سمعت رسول الله  صلى الله عليه وسلم  يقول :( لله أفرح بتوبة عبده المؤمن من رجل نزل في أرضٍ دَوِّية مهلكة معه راحلَتهُ عليها طعامه وشرابه فوضع رأسه فنام نومه  فاستيقظ وقد ذهبت راحلته فطلبها ، حتى إذا اشتد عليه الحر والعطش أو ما شاء الله  قال أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت ، فوضع رأسه على ساعده ليموت فأستيقظ فإذا راحلتهُ عنده عليها زاده وشرابه  فالله أشد فرحاً بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده ) . إن فرح الله بتوبة عبده أكثر وأعظم من فرح هذا الرجل بالحياة بعد الموت ، وإطلاق الفرح في حق الله مجاز عن رضاه . والتائبون تدعو لهم الملائكة بالغفران قال تعالى : ) الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما ، فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الحميم ( غافر 40 . والله ينادي عباده الذين أسرفوا على أنفسهم أن ينيبوا إليه بالطاعة والعمل الصالح ، وأن يستغفروه ولا يقنطوا من رحمته ، ويطمعهم بأنه يغفر الذنوب جميعاً وأن أبواب الرجاء مفتوحة للذين أسرفوا على أنفسهم ، فإذا ما أخطأ العبد فإن رحمة الله تمنحه البر والعافية والمغفرة قال تعالى: ﴿ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله   إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم ﴾ الزمر 53.وقد وعد الله بالمغفرة والرحمة من عمل سوءاً بجهالة بشرط توبة المذنب بعد ذنبه و إصلاحه نفسه واستقامته على الطريق التي شرعها الله لعباده . قال تعالى : ﴿ إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب ﴾ النساء 17  كل ذنب أصابه العبد فهو جهالة ، والجهالة هي السفه والجهل ،  وكل من عصى الله فهو جاهل ، إذ لو كان عالما بتحريم المعصية وعقوبتها لما أقدم عليها ويمكن أن نفهم الجهالة على أنها ارتكاب الذنب دون تخطيط لفعله والندم بعد ذلك ، أما من يخطط ويصرّ ولا يندم ، فهذا لا يغفر الله له إن استمر حتى شارف على الموت وهذا ما نبه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : ( إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ) وفي هذا يقول الله تعالى : ﴿ وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ﴾  النساء 18 . ومن حلم الله وكرمه ورحمته بعباده ، أن فتح لهم باب التوبة ، جاء في الحديث القدسي الذي رواه الترمذي  : ( يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ، يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة ) .

ولولا باب التوبة مفتوح لكل العصاة لتحول العاصي اليائس من التوبة والغفران   إلى أكبر طاغ واخبث شيطان ، ولا يجوز للإنسان أن يتجاوز عن أخطائه ويقول هذه صغيرة وتلك صغيرة ، لأن الصغيرة بالإصرار والمواظبة تكبر  قال صلى الله عليه وسلم : ( لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار ). أخرجه الطبراني ، وقد يسأل سائل : إذا حيل بين العاصي وأسباب المعصية وعجز عن فعل المعصية ، فهل تصح توبته ؟ لا تصح ، لأن التوبة تكون ممن يمكنه الفعل أو الترك  وقد سميت بتوبة المفاليس ، وهي لا تصح كتوبة العاجز وما لا يقدر على فعله  انعدم بنفسه لا بتركه إياه  .

 

  

 

 متى يستجاب الدعاء

الدعاء هو سؤال العبد ربه  ، وقد طلب الله منا أن ندعوه فقال تعالى : ﴿ وقال ربكم ادعوني أستجب لكم ﴾ غافر 60 .  وجاء أعربي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أقريبٌ ربنا فنناجيه أم بعيدٌ فنناديه فسكت عنه فانزل الله :﴿ وإذا سألك عبادي عني فأني قريبٌ أجيب دعوة الداعِ إذا دعانِ فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلّهم يرشدون ﴾ البقرة 186 . فإن قيل ما للداعي يدعو فلا يجاب ؟ ذلك لأن قوله في الآيتين  أجيب وأستجب ، لا يقتضي الإجابة مطلقاً لكل داع ولا بكل مطلوب لقوله تعالى في آيةٍ أخرى : ﴿ أدعو ربكم تضرّعاً وخفية إنه لا يُحبُ المعتدين ﴾ الأعراف 55 . فكل مُصرٍّ على كبيرةٍ عالماً بها أو جاهلا فهو معتدٍ  والله لا يحبُ المعتدين ، فكيف يستجيب له قد ورد الترغيب في الدعاء أخرج البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من لم يسأل الله يغضب عليه ) فالدعاء إلى الله نوعٌ من العبادة والخضوع والتذلل  والداعي يشعرُ دائماً بالحاجة الملحة إلى ربه ، وطلب المدد والعون في المحن والبلايا وقد صح في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم  قال  : ( الدعاء هو العبادة ) وهو مفيدٌ في مصارعة القضاء والقدر وفي تخفيف المصاب وفي رفع البلاء وجلب الرزق قال صلى الله عليه وسلم :( الدعاء يرد القضاء  وإن البر يزيد في الرزق وإن العبد يحرم الرزق بالذنب يصيبه ) .وقد يسأل سائل : كثيرٌ من الناس يلحون في الدعاء ولا يُستجاب فما سرُّ ذلك ؟ أولاً :  ليس من الحكمة  ولا من المصلحة ، أن يُستجاب دعاء الناس جميعا ، لذا فإن الإجابة تكون في الوقت الذي يريده الله ، وليس في الوقت الذي يريده الناس . لأن مطالبهم متباينة ، وحاجاتهم متناقضة متضاربة ثانياً : الدعاء إما أن يكون لطلب خيرٍ أو لدفع شر وليس كل ما يتصور الإنسان من خيرٍ أو شرٍّ يكون كذلك ، والله يستجيب حتماً لخير عبده المؤمن   وما هو غيبٌ عنا لا يعلمه إلا الله ، وقد نطلبُ من الله شيئا وفيه ضرر كبير ، فالله يريدُ أن يحفظنا   وأن  يجعل لنا حظاً من الآخرة ، ومن هنا تكون كيفية الإجابة رحمة من الله ، والله إذا وجد في سابق علمه الأزلي خيراً عجل بالإجابة ، وإن وجد شرّاً أجّل ، ثم إن الحكمة من تأخّر ظهور الاستجابة حتى لا يتصور الإنسان أنها نتيجة حتمية للدعاء وعندها يصبح الدعاء وانتظار الاستجابة دون ضجر ولا قلق جزءاً لا يجزأ من العبادة وروحها لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ( انتظار الفرج عبادة ) رواه ابن عساكر ،  وما على المسلم إلا أن يَجتهدَ في الدعاء  بإخلاصٍ وخشوع  ويترك النتائج لله يفعل ما يشاء  ومن يقول لقد دعوت ربي فلم يستجب لي نقول له لا تكن قليل الفطنة فمن الخير لك أنك لا تجاب إلى ما طلبت لأن الله يعطيك الخير في الوقت الذي يريده ، وشيء آخر قد يحجب عنك الإجابة لأنه إن أعطاك ما تحب فقد أعطاك  من خير الدنيا الفانية وهو يحبك فيُبقي لك الإجابة إلى خير الباقية ، ولأن الإنسان مرتبط بمسائل يحبها فما دامت لم تأت فهو يقول دائماً يا رب وهذا الدعاء يحب الله أن يسمعه من العبد فيقول ( إن من عبادي من أحب دعائهم فأنا أبتليهم ليقولوا : يا رب ) وإن الإنسان المؤمن لا يجعل حظه من الدعاء أن يجاب ، إنما حظه من الدعاء ما قاله الله : ﴿ قل ما يعبأُ بكم ربي لولا دعاؤكم  ﴾ . ومن ناحية أخرى فإن استجابة الدعاء تتطلب شروطاً لا بد من تحققها وهي :- أن يستجيب العبد لله فيما دعاه إليه ، وبذلك يكون العباد أهلاً للدعاء جاء في الحديث القدسي ( من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين   -مناجاة الله في تذلل وخشوع .

-التوبة الصادقة النصوح من سائر الذنوب والمعاصي .

-التطهر من الحرام في المأكل والملبس والمشرب لما روى مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم : ( أيها الناس إن الله طيبٌ لا يقبلُ إلا طيبا وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين  فقال : يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم  . وقال : يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم   ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يارب ومطعمه حرام ، ومشربه حرام  وملبسه حرام ، وغذِّيَ بالحرام ، فأنى يُسْتجابُ لذلك ) . ولما قال سعد بن أبي وقاص يا رسول الله ؟ أدع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة قال له : (أطب طعمتك تُستجاب دعوتك ) .  -المسارعة في الخيرات لقوله تعالى ﴿ إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهبا وكانوا لنا خاشعين ﴾ .

فعلينا أن نلتزم آداب الدعاء وشروطه ، حتى يكون مرجوا مقبولا عند الله وما أروع ما قاله ابن عطاء :"إن للدعاء أركانا وأسبابا وأوقاتا ، فإن وافق أركانه قوي ، وإن وافق مواقيته فاز ، وإن وافق أسبابه نجح " .

لذا فإن شرط تحقق النصر على الأعداء يتطلب منا أن ندعوه ونحن نواجه الأعداء في ميدان المعركة ونحن نرفع راية الجهاد ونضحي في سبيل الله ، أما أن ندعوه وقد قطعنا الصلة ما بيننا وبين الله بفعل المعاصي وارتكاب الموبقات والتهاون في فرائض الله  والإعراض عن شرع الله  ، وتحكيم منهجه في الحياة وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فلا إجابة لما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لتأمرنَّ بالمعروف ولتنهونَّ عن المنكر ، أو ليسلطنَّ الله عليكم شراركم فيدعوا خياركم فلا يستجاب لهم ) . وعلى الإنسان أن يلحّ في الدعاء وإن أمكن بالأدعية التي ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم كحديث ابن مسعود الذي رواه الإمام أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ما أصاب أحد قط ، همٌ ولا حزنٌ فقال إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك  ناصيتي بيدك ، ماضٍ فيَّ حُكمك  عدْلٌ فيَّ قضاؤك ، أسألك اللهم بكل اسمٍ هو لك  سميت به نفسك ، أو علّمته أحداً من خلقك  أو أنزلته في كتابك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك ، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي  ونور صدري ، وجلاء حزني   وذهاب همي ، إلا أذهب الله عز وجل همه وحزنه  وأبدله مكانه فرحا  فقيل يا رسول الله  ألا نتعلمها ؟ قال : بل ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها ) .

 

 

 

 

 

 

 

 ما حكم اتباع الهوى في الفتوى

 إن اتباع الهوى في الفتوى ،أمر خطير فترى من أحل الربا الذي حرم الله؛ يبرر موقفه بالأماني الكاذبة ، والفتاوى الضالة ، فيتتبع زلات العلماء ، حتى يأكل الربا، الذي كان وما زال بطبيعته البشعة العدوانية ، معارضاً لسلام البشرية وخيرها وتقدمها ، وما يزال العامل الخطيرُ ، في استنـزاف ثروات العالم الإسلامي   باسم القروض والفوائد ، لهذا لا بد أن يكون تحريم الربا منهجاً أساسياً ، لتحرير الاقتصاد الإسلامي ، وقد جعل الإسلام التجارة عملاً أخلاقياً ، لا أساساً اقتصادياً للتقايض   ولذلك نهى عن تبادل سلعتين من نوعٍ واحد  لأنه لا يجوز تغريم المدين مبلغاً من المال ، إذا تأخر في وفاء دينه ، لأن الزمن ليس سلعةً تجاريةً تباع وتشترى ، ومن يعتمد على حل القرض  ،باسم المرابحة ، وهو أحد أنواع بيوع الأمانة في الفقه الإسلامي ، جرى التعامل به في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم  وهو بيع  يكون بين اثنين  لا بين ثلاثة ، والسلعة في ملك البائع ، وهو بيعٌ بمثل الثمن الأول ، مع ربح مبلغ معلوم يصّرح به البائع على وجه الأمانة ، أما كيفية الشراء عن طريق البنك ، فتتم بطلب العميل من البنك شراء سلعة ليست عنده ،مع وعد من العميل بشراء السلعة ، بعد شراء البنك لها بثمن آخر ، ووعد البنك بيع السلعة له بعد شرائها ، فبيع المرابحة بهذه الطريقة ، كما يتعامل  البنك ، يكون الثمن الذي يدفعه العميل مؤجلاً ، بينما الأصل في بيع المرابحة  أن يدفع ثمن السلعة عند العقد ، أما ما يجري التعامل به ، فإن البيع يتم فيه إبرام عقدين- أي بيعتين- بين البنك والبائع للسلعة ، وعقد بين البنك والآخر بالشراء ، وهذا غير جائز  لأن المرابحة ، تتم بإجراء عقد واحد ، لما روى الترمذي قال حكيم : يأتيني الرجل يسألني من البيع ما ليس عندي ، أأبتاع له من السوق ثم أبيعه ؟  ولم يقل أبيعه ثم أشتريه ، فقال له الرسول عليه السلام  : (لا تبع ما ليس عندك )  معنى قول رسول الله لا تعدْه بالبيع ثم تذهب لتشتريه ، لأن ذلك يعتبر بيعاً ، فيكون بيع ما لا تملك ، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم  صراحة عن بيعتين في بيعه ، قال الإمام مالك رحمه الله في باب النهى عن بيعتين في بيعه : أنه قد بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( نهى عن بيعتين في بيعه ) وأنه بلغه أن رجلاً قال لرجل : ابتع لي هذا البعير بنقد حتى ابتاعه منك إلى أجل ، فسأل عن ذلك عبد الله بن عمر فكرهه ونهى عنه إن ما يجري التعامل به على هذه الصورة يعتبر كبيع العينة ، وهي كما فسرها كثير من العلماء : بيع من طلبت منه سلعة ، قبل ملكه إياها  لطالبها بعد شرائها ، وقد ورد النهى عنها عن ابن عمر قال : سمعت النبي عليه السلام  يقول : ( إذا ضن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة وتركوا الجهاد  واتبعوا أذناب البقر أدخل الله عليهم ذلاً لا ينـزعه حتى يتوبوا ويراجعوا دينهم ) أعلام الموقعين وإذا كانت الزيادة في ثمن السلعة قائمة على أساس سعر الفائدة ، كما يجري التعامل به ، إذ يتمثل عائد التمويل في صورة هامش مرابحة محدد مسبقاً ، على حسب المدة الزمنية التي يتم بها سداد الدين ، فهذا حرام كما قال به كثير من العلماء ، لأنه ربا ، والربا ممحوق البركة  منزوع الخير ، قال تعالى : ﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ﴾ وهو من أشد الرزايا على المجتمعات   وإن اختلفت أسماؤه وهيئاته وطرق التعامل به  قال تعالى : ﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين * فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون ﴾ في الآية تصويرٌ لبشاعة آكل الربا ، هذه الصورة التي لم يصورها القرآن ، لأي فاسقٍ يرتكب محرَّماً من المحرَّمات ، إنها صورةٌ مفزعةٌ في يوم البعث ، لكن هذه الصورةُ واقعةٌ بذاتها  في حياة البشرية على هذه الأرض ، وهي تتفق مع ما سيأتي بعدها من الإنذار ، بحربٍ من الله ورسوله ، في الآية دلالةٌ على أن الله لم يتوعد مرتكبي منكر بحربٍ كما توعد آكلي الربا  الذين لا ينتهون بعد التحريم ، وهذه الحرب واقعةٌ وقائمةٌ الآن , ومسلطةٌ على البشرية الضالة  التي تتخبط كالممسوس في عقابيل النظام الربوي   الذي جعله الله عنوان كفرٍ عظيم ، ومصدراً للذنوب والآثام وسبباً من أسباب مقته ، قال تعالى:  ﴿ يمحق الله الربا ويُرْبي الصدقات  والله لا يحب كل كفارٍ أثيم ﴾البقرة 276.كما ورد في الأحاديث النبوية ، ما يدل على منتهى التقبيح لآكل الربا ، ومنتهى المبالغةِ في تحريمه  فقال عليه السلام : ( الربا ثلاثةٌ وسبعون بابا ، أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه ) والحديث يدل على أن الربا أنواعٌ كثيرةٌ  كلها محرَّمةٌ صغيرها وكبيرها ، جلِّيها وخفِّيها ، مهما اختلفت الأسماء وتعددت الأشكال ، من فائدةٍ في مصرف أو صندوق توفير أو سند أو غير ذلك ، ولعل تصوير النبي عليه السلام هو أبلغ تصويرٍ لانتشار الربا بأنواعه المختلفةِ في زماننا حين قال:( سيأتي على الناس زمانٌ يأكلون فيه الربا ، قال قائل : يا رسول الله : كلهم ؟ قال : من لم يأكله ناله غباره  ) أخرجه أحمد ، ولقد جاء التحذير من خطورة الربا أو التعامل به في سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ، عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ : ( لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آكِلَ الرِّبَا ، وَمُؤْكِلَهُ ، وَكَاتِبَهُ ، وَشَاهِدَيْهِ ، وَقَالَ : هُمْ سَوَاءٌ ) أخرجه مسلم وهو كبيرة من كبائر الذنوب  وجريمة من أعظم الجرائم ، وإني لأعجب ممن أباحوا الربا لأنفسهم ، بدعوى الاضطرار التي استندوا إليها ، وما دروا أنهم بذلك بعدوا عن الله ، وإن ذكروه وصلوا وصاموا وحجوا ، وإذا ما نظرت إلى هذه الضرورة ، كأن يقول بأنه محتاج لسيارة أو شقة يسكنها أو قرضٌ يتزوج به ، فهذا واهم يتحمّل إثم كبيرة من الكبائر  سواء كان ذلك عمداً أو جهلاً أو تجاهلاً   لأن هذه المحرمات من المعلوم من الدين بالضرورة ، وليست كل ضرورة تدخل في باب الاضطرار ، فالضرورات تبيح المحظورات   بشرط أن تكون هناك ضرورة بمعنى الوقوع في الهلاك أو في دائرة الموت جوعا ، أو أنه سيبيت في الشارع فإذا توافرت ظروف الضرورة هذه  فإنه يمكن أن يقال بالحِل ، علماً بأن توافر ظروف الضرورة هذه حالة محدودة ونادرة جداً  وقلما ينطبق على مقترض من البنوك الربوية معنى الضرورة هذه ، لأن لها ضوابط مشددة ينبغي أولا أن تحقق معنى الضرورة في المعايير الشرعية ثم نطبق القاعدة "الضرورات تبيح المحظورات" أو "الحاجة العامة تنـزل منـزلة الضرورة" فإذا وجدت المعايير الشرعية جاز ذلك ، إلا أن حالات الضرورة هذه نادرة جدا ، لذا ينبغي عدم التذرع بذريعة الضرورة من أجل الحصول على مسكن أفضل أو تنشيط تجارة أو توسيع مصنع أو تنشيط متجر   ويقول بأنه في حال ضرورة ، وهو في الواقع ليس في حال ضرورة على الإطلاق ، هذا في الواقع مترفِّه وليس مضطرا ، لأن المضطر هو الذي يقترض من أجل الحفاظ على حياته من الوقوع في الموت ، بسبب الجوع الشديد أو العطش الشديد ، أو التحقق من وجود ضرر في النفس أو المال أو الأهل ، فإذا توافر ظرف الضرورة بالمعنى الشرعي ، حينئذ يجوز ، إلا أن توافر الضرورة بالمعنى الشرعي هذا، غير محقق في أغلب الحالات ،كما أن دعوى الاضطرار للعمل أو التعامل بالربا غير صحيح ، لأن النص في الإباحة للاضطرار ، ورد في آيات كلها تبيح أكل ما حرّم الله من المنصوص عليها للاضطرار الذي يخشى منه لو لم يُبح الأكل مما حرّمه الله أن يموت الإنسان جوعاً أو يهلك عطشاً قال تعالى : ﴿ إنما حرَّم عليكم الميتة والدم ولحم الخنـزيرِ وما أهل به لغير الله  فمن اضطر غير باغٍ ولا عادٍ فلا إثم عليه إن الله غفورٌ رحيم  ﴾ البقرة 173 قال تعالى : ﴿ فمن اضطر في مخمصةٍ غير متجانفٍ لإثم فإن الله غفورٌ رحيم ﴾ المائدة 3  في هذه الآيات دليل على أنه ما أبيحت هذه المطعومات إلا عند الاضطرار في المجاعة المهلكة ، لكي يحفظ الإنسان حياته ، وهذه الضرورة غير قائمة في التعامل الربوي ، وإن أي محاولة يراد بها إباحة ما حرّم الله ، إنما هي جرأة على الله وقولٌ عليه بغير علم ، وضعف في الدين . قال القرطبي في معنى الضرورة المبيحة لأكل الميتة ولحم الخنـزير والذي عليه الجمهور من الفقهاء والعلماء في معنى الآية : هو من صيّره العدم والجوع إلى ذلك ، وهو الصحيح . وفي حديث أبي واقد الليثي قال يا رسول الله ؟ إنا نكون في الأرض تصيبنا المخمصة فمتى تحل لنا الميتة ؟ فقال  ع متى لم تصطبحوا أو تفتبقوا أو تجدوا بقلا ) والفبوق العشاء والفِبوق بقلة تأكلونها .

وقال عبد الله بن عباس في قوله تعالى :  ﴿ فمن اضطر ،يعني إلى شيءٍ مما حرّم الله ، وقوله تعالى :  ﴿ غير باغٍ ولا عاد ، يقول : من أكل شيئاً من هذه وهو مضطر فلا حرج ، ومن أكله وهو غير مضطر فقد بغى واعتدى . وقد تقرر فقهاً أن الضرورة تقدّر بقدرها ، وقدرها في المأكل والمشرب لسد الحاجة ، وإذا زال سبب الضرورة حرم التـزود وتكرار الفعل حتى قال الفقهاء : إن المضطر لا يأكل من الميتة إلا قدر سد الرمق ولا يباح له الشبع ، ومن يستطيع دفع أجرة مسكن لا يحل له أخذ قرض لشراء مسكن ، وإذا كان لا بد من الدَين   فقد شاء رب الإسلام ، أن تكون قروضاً حسنة ، بلا زيادةٍ على مبلغ الدَين الأساسي . فالضرورة التي يؤخذ بها تكون عند الإشراف على الهلكة ، وجوعٌ يؤدي إلى إزهاق الرّوح  وليست كل ضرورة تدخل في باب الاضطرار  ولو كان المجتمع يدفع إليها ، لأنه يمكن الاستغناء عنها كشراء بيت و سيارة أو أي شيءٍ من الكماليات ، فالشريعة لا تسمح بأخذ الربا في هذه الحالة ، ومن يقول إن اللجوء إلى الربا ضرورة من الضرورات لأن صلاح الأمة من الناحية الاقتصادية قائم على التعامل الربوي هذه الأيام ، وإلا توقف حال الأمة ، فهذه مغالطة وضعف أمام النظم التي يسير عليها أقوياء العالم ، وإن كل محاولة يراد بها إباحة ما حرًم الله ، أو تبـرير ارتكابه بأي أنواع من أنواع التبـرير ، إنما هي جرأةٌ على الله  وقولٌ عليه بغير علم ، وضعفٌ في الدين وتزلزلٌ في اليقين ، وإن القول بأن الربا ضرورةٌ عامة للأمة والمجتمع  اتهامٌ لشريعة الله بالنقص ، هذه الشريعة التي شهد الله لها بالكمال ومن كمالها تحريم الربا قال تعالى :  ﴿ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا  ﴾ المائدة 3 ، وجاء قرار مجمع الفقه بمنظمة المؤتمر الإسلامي بالإجماع على أن المسكن من الحاجات الأساسية للإنسان  ويجب أن يوفر بالطرق الشرعية بمال حلال  وإن الطريقة التي تسلكها البنوك العقارية والإسكانية ونحوها، من الإقراض بفائدة- قلت أو كثرت- هي طريقة محرَّمة شرعًا لما فيها من التعامل بالربا». وليس المباح للضرورة أصلاً وقاعدة؛ بل هو استثناء مؤقت، يزال بزوال الضرورة؛ ولهذا أضاف العلماء إلى قاعدة (الضرورات تبيح المحظورات) قاعدة أخرى مكملة وضابطة لها وهي التي تقول: «ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها»، وهي مأخوذة من قوله تعالى: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ﴾، ومن تجاوز حد الضرورة زمانًا أو مقدارًا فقد بغى وعدا. (فوائد البنوك هي الربا الحرام: 110 ).

لأنه سيفتح الباب أمام عشرات من الصور والتطبيقات الأخرى التي لعل بعضها لم تدر بخلد من أطلقه، وقد تنتهي بنا إلى استباحة ما حرم الله بالكلية في باب المعاملات ، فنرى من يقول إنه محتاج إلى الاقتراض الربوي الذي     

 حذَّر الله منه، يغتر بفعل الناس، يقول: الناس فعلوا، قال تعالى:﴿ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ يوسف 103 والربا لم يُحل في شريعة قط ، ولم تصدر فتوىً بجوازه إلا كان صاحبها محارباً لله ولرسوله ، متبعاً لهواه يرضي الناس بسخط الله   قال صلى الله عليه وسلم : ( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به ) ، فقد فاز من سلك سيبل ما أحل الله ، أما من سلك ما ألفه الناس في الحرام فهو ضلال لقوله تعالى : ﴿ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ الأنعام 116، فليست أفعال الناس قدوة في الباطل لأن الواجب اتباع الحق ، وإن قل أهله، ومن يقول بحل الربا فقد خالف المعلوم من الدين بالضرورة   ولا حيلة لنا إلا أن نُذَكِّر ولعل هذه الذكرى تنفع المؤمنين .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 ما هو السلوك المستحب في المسجد

قال كثير من  العلماء بعدم التكلم في أمور الدنيا لأنك جئت من حركتك المطلقة في الأرض إلى حركتك بيت الله في تلك اللحظة فاجعل لحظاتك لله ولذلك حينما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً ينشد ضالته في المسجد فقال له : ( لا رده الله عليك فإن المساجد لم تبنى لهذا ) لماذا قال ذلك . لأن المسجد مكان للعبادة ولذلك نقول لمن يتحدث في المسجد بأي شيء يتعلق بحركة الحياة " أبشر بأنها لن تنفع " لأنك دخلت المسجد للعبادة فقط فلحظة دخولك المسجد هي لحظة جئت فيها لتتقرب من ربك وتناجيه ، وتعيش في حضن عنايته  فلماذا تأتي بالدنيا معك ؟ وليكن لنا في أحد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة حسنة كان يقول : كنا نخلع أمر الدنيا مع نعالنا  ، وزاد صحابي آخر فقال له وزد : إننا نترك أقدارنا مع نعالنا . لا يخلع الدنيا مع نعله فقط على باب المسجد ولكن يخلع أيضاً قدره في الدنيا . يمكن يا أخي أن تأخذك الدنيا ساعات اليوم الكثيرة ، ولكن المسجد لن يأخذ منك إلا الوقت القليل  فضع قدرك مع نعلك خارج المسجد ، وادخل بلا قدرٍ إلا قدر إيمانك بالله واجلس في المكان الذي تجده خالياً ، ولا تتخط الرقاب لتصل إلى مكان معين في المسجد كما نلاحظ من يتخطى الرقاب ليجلس في الصف الأول وما درى أن الله قد صف الصفوف قبل أن يأتي هو إلى المسجد ، فاجلس حيث ينتهي بك المجلس ولا تتخط الرقاب  فقد كان رسول الله يجلس حيث ينتهي به المجلس أي عندما يجد مكانا  .  جاء رجل ليصلي الجمعة مع الرسول صلى الله عليه وسلم فتخطى رقاب الناس ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب على المنبر فقال  صلى الله عليه وسلم: (اجلس فقد آذيت وآنيت ) أي أبطأت وتأخرت أبو داود والنسائي وأحمد . وللمسجد حرمته وله مكانته وخصوصيته الدينية فهو بيت الله الذي يلتقي فيه العباد طلبا للمغفرة والتوبة وتأدية لأهم ركن من أركان الاسلام وهو الصلاة, ومما يؤسف له عدم احترام هذه الخصوصية وتلك المكانة من البعض , كأن يجلب أولاده غير الراشدين معه أثناء الصلاة فيزعجون المصلين ويعبثون في محتويات المسجد وفي مقدمتها القرآن الكريم الذي لا يمسه إلا المطهرون .

 

 

 

ما هو اليمين الغموس

اليمين الغموس في الاصطلاح هو: تحقيق أمرٍ غير ثابتٍ ماضياً كان أو مستقبلاً نفياً كان أو إثباتاً أو ممتنعاً؛ صادقةً كانت أو كاذبةً مع العلم بالحال أو الجهل به. وقد اتّفق الفقهاء على مشروعية اليمين وجوازها على العموم، فيجوز الحلف مُطلقاً ما دام الحالف صادقاً، ويجوز للمدعي -في التقاضي- طلب تحليف المدعى عليه إن عَجِز عن إثبات دعواه، ولقد حثّ الإسلام على حفظ الأَيمان وعدم نقضها، وألّا يحلف بشيءٍ إلّا أن يكون صادقاً، واليمين له  أهمية كبرى في التقاضي بين الناس وإثبات الحقوق أو إبطالها، ومن هذه الأيمان : اليمين الغموس ، وسُمّيت بذلك لأنّها تغمس صاحبها في الإثم والعقوبة، كما أنّها تغمسه في النار يوم القيامة؛ وذلك لَعِظم الجريمة التي يقع فيها من يحلف بالله كاذباً ولأكله مال الناس بالباطل، ولأن الحالف يتجرّأ على الله -جلَّ وعلا- فيحلف باسمه وهو كاذب، فيقرن اسم الله بشيءٍ فيه معصيةٌ، وذلك من أعظم الذنوب وأشدّها عقوبةً ، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنَّ أعجلَ الطاعةِ ثوابًا صلةُ الرَّحِمِ وإنَّ أهلَ البيتِ لَيكونون فُجَّارًا فتنموا أموالُهم ويكثُرُ عددُهم إذا وصلُوا أرحامَهم وإنَّ أعجلَ المعصيةِ عُقوبةً البغيُ، والخيانةُ واليمينُ الغموسُ يُذهِبُ المالَ ويُثقلُ في الرَّحِمِ ويذرُ الدِّيارَ بَلاقِعَ)، رواه الألباني، في السلسلة الصحيحة، عن أبي هريرة، مقبول وله شاهد كما قال ابن حجر.  ولمّا روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: جاء أعرابيٌّ إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فقال: (يا رسولَ اللهِ، ما الكبائرُ؟ قال: الإشراكُ باللهِ، قال: ثم ماذا؟ قال: ثم عقوقُ الوالدَينِ، قال: ثم ماذا؟ قال: اليمينُ الغموسُ، قلتُ: وما اليمينُ الغموسُ؟ قال: الذي يقتطعُ مالَ امرئٍ مسلمٍ، هو فيها كاذبٌ)، كأن يحلف الشخص على أمرٍ كاذبٍ ليأخذ به مال أخيه بغير وجه حق أو يحلف أنّ شخصاً سبّه ويكون كاذباً، أو يحلف أنّه لم يفعل شيئاً وقد فعله ، لينجو من العقوبة ، أو يحلف أنّه فعل ولم يفعل؛ وتُعتبر اليمين الغموس من كبائر الذنوب التي لا تجب فيها الكفّارة عند جمهور الفقهاء الحنفية والمالكية والحنابلة؛ وذلك لعِظَم الذنب فيها؛ إذ يقرن الحالف اسم الله في معصيته فيحلف به كذباً، وبالتالي فإنّ كفارتها تكون بالتوبة والاستغفار (مع مراعاة شروط التوبة)، وإعادة الحقوق لأصحابها إن وُجد، وقد اتّفق الفقهاء الأربعة على خطورة اليمين الغموس وعِظَم الذنب فيها، وأنّ لا شيء من الأعمال الصالحة يُكفّرها سوى التوبة والاستغفار وقد خالف بذلك الإمام الشافعي ووافقه ابن تيمية والحنابلة في رواية؛ حيثُ ذهب أصحاب هذا الفريق إلى أنّه يجب في اليمين الغموس الكفّارة، وأنّها تجوز فيه مع التوبة إلى الله عز وجل، وأن لا يعود إلى الحلف كاذباً.  

وقد قسَّم العلماء اليمين باعتبار الأثر المترتب عليه إلى ثلاثة أقسام رئيسية   وبعض هذه الأقسام لا يلحق المسلم عليها أجرٌ أو إثم، ولا يُطلب منه تكفيراً لها  ومنها ما يلحقه الإثم ، وليس عليه الكفارة، ومنها ما يلحقه الإثم وتجب عليه الكفارة،  ومنها يمين اللّغو: وهذه اليمين لا يترتب على حالفها شيءٌ من الأجر أو الإثم، وليس فيها كفارةٌ ً؛ حيث إن الحالف لا يقصد بها اليمين، بل يقصد توكيد الشيء كقوله: لا والله، بلى والله، أو أن يحلف على شيءٍ يظنّ نفسه صادقاً فيه ثم يتبيّن له غير ما حلف عليه، فلا شيء عليه لعدم نيّته الكذب. ومنها : اليمين المنعقدة وهي اليمين التي يكون فيها عزمٌ على فعل شيءٍ في المستقبل، أو ترك فعله في المستقبل؛ كأن يقول: والله لأفعلنّ كذا، أو والله لا أفعل كذا، وهو حين اليمين ينوي أن يقوم بذلك، أو أن لا يقوم به، ثم يتبين له أن الخير في ترك ما حلف عليه، أو فعل ما حلف على تركه، فهنا تجب عليه الكفارة فقط.  

 

ما حكم الجمع في المطر

ما أن يشتد البرد وينـزل المطر، حتى يبدأ المصلون بالمطالبة بالجمع بين صلاتي المغرب والعشاء، وبين صلاتي الظهر والعصر، ويعترض البعض على التساهل في أمر الجمع، بحجة ضعف المطر وقلته، وعدم حصول المشقة عند الحضور للمسجد، ويثار الجدل اكثر في الجمع بين الظهر والعصر، ويدافع كل عن وجهة نظره، حسب المذهب الذي ينتمي اليه ورؤيته لهذه المسألة، كما يطرح للنقاش موضوع الجمع في غير المسجد، وهل يجوز لمن لا يحضر للمسجد ان يجمع بسبب المطر؟ ومتى يحق للمريض الجمع؟ وكيفية ذلك، هذه التساؤلات نجيب عليها بما يلي :

- يصح الجمع بسبب المطر ولو كان خفيفا، واقله ان يبلل الثياب وهذا عند جمهور الفقهاء - عدا الحنفية - لقول ابن عباس رضي الله عنهما: ( صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم  بالمدينة الظهر والعصر جميعا والمغرب والعشاء جميعا ) . مسلم 1/491)  ويُحمل هذا على الجمع لعذر المطر، وكان ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم يجمعون في المطر.

واما الحنفية فإنهم لا يجيزون الجمع لأي عذر، لأن الجمع عندهم جائز فقط بين الظهر والعصر في عرفات جمع تقديم وبين المغرب والعشاء في مزدلفة جمع تأخير للحاج. ويصح الجمع إذا كانت الريح شديدة والبرد قارسا ولو لم يكن معه مطر على ما ذهب اليه الحنابلة، ودليلهم اقوى من غيرهم، فقد يكون البرد مع الريح اشد على المصلين من المطر، وقد روي عن عبدالله بن عمر قوله: كان رسول  صلى الله عليه وسلم ينادي مناديه في الليلة المطيرة او الليلة ذات الريح ( صلوا في رحالكم ) (البخاري 2/13 ومسلم 1/484) ولم يجز المالكية والشافعية الجمع للريح او البرد، محتجين بأن ذلك لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم  مع وجود الريح والبرد. و أمّا الإمام حنبل فقد أجاز الجمع بين المغرب و العشاء فقط ، تقديماً و تأخيراً بسبب الثلج و البرد الشديد و الجليد و المطر والذي يقدر البرد والريح وشدتهما هو الإمام وله ان يستشير بعض المصلين قبل الصلاة، ويؤخذ بالاعتبار في شدة البرد والريح اختلاف البلدان، فما يكون معتادا في بلد، قد يكون غير معتاد فيصح الجمع، وقد اخذنا بمطلق الجمع في البرد والريح ولو كان معتادا في بلد، فلربما كان اغلب العام فيكاد يكون اصلا وعزيمة والجمع رخصة.  وكذلك يجوز الجمع لوجود الثلج، فقد جوز جمهور الفقهاء - عدا الحنفية - الجمع بسبب المطر لقول ان عباس رضي الله عنهما: ( جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء من غير خوف ولا مطر ) وفي رواية: ( من غير خوف ولاسفر ) مسلم 1/491. ولا شك في أن الثلج اشد على المصلين من المطر فيقاس عليه بالأولى، ويمكن قياس الثلج بالأولى على الطين والوحل ايضا. وقد أجاز بعض الفقهاء الجمع لهما، وكذلك البرد الشديد يجوز الجمع بسببه، واذا كان مع البرد ريح فهذا  أجوز من البرد وحده، وطول المدة لا يغير من الحكم شيئا فما دامت علة الحكم وحكمته موجودة، وهي الثلج او البرد والمشقة، فرخصة الجمع قائمة، وينبغي ان يؤخذ في هذا الصدد، اختلاف البلدان، فما يكون مشقة بسبب البرد قد لا يكون كذلك في بلد آخر لاعتيادهم هذا البرد، فتكون رخصة الجمع لبلد دون آخر. والحكم  إنما يدور مع علته، وعلة الجمع: الثلج او البرد، او الريح مع البرد للمشقة، فإذا وجدت كانت رخصة الجمع قائمة.

 

 

ما حكم التنفل بعد الجمع

إنما تسقط الرواتب في السفر أما الحضر ولو جمع لعذر المطر فلا فإنه مادامه متم يصلي الراتبة كما جاء في سنن أبي داود قال حَدَّثَنَا الْقَعْنَبِيُّ حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ حَفْصِ بْنِ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ صَحِبْتُ ابْنَ عُمَرَ فِي طَرِيقٍ قَالَ فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ أَقْبَلَ فَرَأَى نَاسًا قِيَامًا فَقَالَ مَا يَصْنَعُ هَؤُلَاءِ قُلْتُ يُسَبِّحُونَ قَالَ لَوْ كُنْتُ مُسَبِّحًا أَتْمَمْتُ صَلَاتِي يَا ابْنَ أَخِي إِنِّي صَحِبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّفَرِ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَصَحِبْتُ أَبَا بَكْرٍ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَصَحِبْتُ عُمَرَ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَصَحِبْتُ عُثْمَانَ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾ فهذا يدل على أن المتم على كل حال يصلي الراتبة والذي يصلي قصرا لا يصلي الراتبة إلا الوتر وركعتي الفجر ولم يفرق بن عمر عند الإتمام بين الجمع لعذر وغيره فيصلي راتبة المغرب والعشاء بعدهما إذا جمعهما الإمام ولا أذكر أنه نقل التنفل بينهما أو أن النبي صلى الله عليه وسلم تركهم يتنفلون بل الحديث أنه جمع في المدينة هكذا بلا تفصيل فجعل الإمام فاصل لراتبة المغرب محل نظر يحتاج إلى دليل ولا أعلم دليل واضح في ذلك والله أعلم0 المشروع في صلاتي الجمع ألا يفرق بينهما إلا بشيء يسير، كالوضوء مثلاً، فلا ينبغي التنفل بين صلاتي الجمع كالمغرب والعشاء  . عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ رَضيَ الله عَنْهُمَا : قال: جَمَع النبي صلى الله عليه وسلم بَيْنَ

الْمَغرِب وَالْعِشَاءِ، بـ"جَمْعٍ" لِكُلٌ وَاحِدَةٍ مِنهُمَا إقَامَة، وَلَمْ يُسَبِّحْ بينهُمَا وَلا عَلَى

أثر وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا .  لم يسبح بينهما: يراد بالتسبيح – هنا - صلاة النافلة، كما جاء في بعض الأحاديث تسمية صلاة الضحى بـ" سبحة الضحى" لاشتمال الصلاة على التسبيح من تسمية الكل باسم البعض.  المعنى الإجمالي : لما غربت الشمس منٍ يوم عرفة، والنبي صلى الله عليه وسلم واقف يشاهد فيها انصرف منها إلى "مزدلفة"، ولم يُصَلِّ المغرب . فلما وصل إلى "مزدلفة"  إذا بوقت العشاء قد دخل، فصلَّى بها المغرب والعشاء، جمع تأخير، بإقامة لكل صلاة، ولم يُصَلِّ نافلة بينهما،

 

 

حكم من قال لزوجته : أنت علي حرام ، أو تحرمي علي ؟

 اختلف الفقهاء في الحكم : فمنهم من حكم بأنه ظهار  ومنهم من حكم بأنه طلاق . هنا الحكم على نية القائل : فإن نوى الطلاق أو الظهار أو اليمين   فالأمر على ما نواه . وإن لم ينو شيئا ، لزمه كفارة يمين ، وهذا مذهب الإمام الشافعي ، ويدل على ذلك : أن هذا اللفظ يصلح لأن يكون طلاقاً أو ظهاراً أو يميناً ، فكان المرجع في تحديد ذلك إلى نية القائل ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى ) . وعن ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ : ( إِذَا حَرَّمَ الرَّجُلُ عَلَيْهِ امْرَأَتَهُ فَهِيَ يَمِينٌ يُكَفِّرُهَا ) رواه البخاري  ومسلم  .

 وأما الفرق بين الطلاق والظهار واليمين : ففي اليمين ما نوى التحريم ، لكنه نوى الامتناع إما معلقا وإما منجزا   مثل أن يقول : إن فعلت كذا، فأنت عليّ حرام  هذا معلق . هنا ليس قصده أنه يحرم زوجته ، بل قصده أن تمتنع زوجته من ذلك  أو أنت علي حرام ، قصده أن يمتنع من زوجته ، فهذا يمين ؛ لقوله تعالى : ﴿ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ۖ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ ۚ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ ۖ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾قوله : ﴿ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ﴾ "ما" اسم موصول يفيد العموم  فهو شامل للزوجة وللأمة وللطعام والشراب واللباس ، فحكم هذا حكم اليمين . قال ابن عباس رضي الله عنهما : إذا قال لزوجته : أنت علي حرام فهي يمين يكفرها ، بدليل الآية .   

والحالة الثانية : أنه يريد به الطلاق ، فينوي بقوله أنت علي حرام ، يعني : يريد أن يفارقها بهذا اللفظ . فهذا طلاق ، لأنه صالح للفراق ، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام :(إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى )   الحالة الثالثة : أن يريد به الظهار ، ومعنى الظهار أن يريد أنها محرمة عليه  فهذا قال بعض أهل العلم : إنه لا يكون ظهارا لأنه لم يوجد فيه لفظ الظهار . وقال بعض العلماء : إنه يكون ظهارا ؛ لأن معنى قول المظاهر لزوجته : أنت علي كظهر أمي ، ليس معناه إلا أنت حرام ، لكنه شبهها بأعلى درجات التحريم وهو ظهر أمه ، لأنه أشد ما يكون حراما عليه  فهذا يكون ظهارا ، والظهار كما وصفه الله منكراً وزوراً ، فعليه التوبة منه، وألا يقرب زوجته حتى يفعل ما أمره الله به لقوله تعالى : ﴿ الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ﴾ ، فعليه عتق رقبة، يعني أن يحرر عبداً مملوكاً من الرق، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين لا يفطر بينهما إلا بعذر كسفر ومرض، فإذا لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً لقوله تعالى : ﴿ وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ ﴿ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ﴾ . وإذالم تقصد إيقاع الطلاق. فإنه لا يقع به طلاق، وتلزمك كفارة يمين في أصح قولي العلماء ، وهي إطعام عشرة مساكين من أوسط ما يأكل هو وأهله، ومقداره خمسة عشر كيلو غراماً من الرز ، ويكفي أن يغديهم أو يعشيهم، أو كسوتهم ، لكل واحد ما يستره لصلاته فإن لم يستطع فيصوم ثلاثة أيام لقوله تعالى: ﴿ فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ﴾ المائدة 89 ، وإن كنت أردت به إيقاع الطلاق. وقعت به طلقة واحدة

 

من أم قوما وهم له كارهون

 إن مما يعاني منه أكثر أئمة المساجد أنهم يبتلون ببعض المأمومين ، وهؤلاء المأمومون أصناف : فمنهم الجاهل الذي يرى أنه هو سيد المسجد ، فيأمر وينهى وكأن إمام  المسجد لا دور له عنده ولا مكانة وقد يحرض المأمومين عليه ، وهؤلاء من أصعب الناس تعاملا .

* ومنهم المثقف الذي لا يشارك في أي شيء من أمور المسجد البته ، إلا على سبيل النصيحة    

* ومنهم أهل الصلاح والاستقامة الذين هم سند وعون لإمام المسجد في الصغيرة والكبيرة  بل هم الذين يظهرون للإمام محبتهم له  ورضاهم بإمامته لهم . 

ومما يستدل به أولئك المأمومون إذا حصل بينهم وبين الإمام أدنى خلاف  يسارعون إليه بقولهم لا يجوز لك أن تأمنا ونحن لك كارهون لا نحبك ويذكرون حديث : ( ثلاثة لا ترفع لهم صلاة … وذكر منهم : ورجل أم قوما وهم له كارهون ) . فهل هذا الاستدلال هذا في محله أم لا ؟ وما المقصود بالكراهة في هذا الحديث الذي يستدلون به ؟ عن أبي أمامة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم : العبد الآبق حتى يرجع ، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط   وإمام قوم وهم له كارهون ) . الحديث ضعفه قوم ووثقه آخرون ، من علماء الحديث  - المعاني الشرعية للكراهة :  قد اتفق أصحاب الأئمة الأربعة بأنه يكره أن يؤم إمام قوما في الصلاة وهم له كارهون وذلك إن كرهوه لمعنى مذموما شرعا ومن ذلك  ، قال النووي في المجموع 4- 155 : وإنما تكره إمامته إذا كرهوه لمعنى مذموما شرعا كوال ظالم وكمن تغلب على إمامة الصلاة ولا يستحقها أو لا يتحرز من النجاسات أو يخل بهيئات الصلاة أو يعاشر أهل الفسوق أو ما شابه ذلك ، فإن لم يكن شيء من ذلك فلا كراهة ، وقال المناوي في فيض القدير (3/324) : يذم شرعا كفسق وبدعة وإخلال بهيئة من هيئات الصلاة وتعاطي حرفة مذمومة ،  فهذه بعض المعاني الشرعية للكراهة  أما إن كانوا يكرهونه لأمر آخر غير شرعي فلا عبرة بكراهتهم له . قال ابن قدامة في المغني 2/32 : وإن كان ذا دين وسنة فكرهه القوم لذلك لم تكره إمامته . وسئل شيخ الإسلام في رجل يؤم قوما وأكثرهم له كارهون ؟ الجواب : إن كانوا يكرهون هذا الإمام لأمر في دينه مثل كذبه ، أو ظلمه ، أو جهله ، أو بدعته ونحو ذلك . لو كانوا يكرهونه لشحناء بينهم في أمر دنيوي ونحوه فقد جاء في الإنصاف للمرداوي  4/405  : لم تكره إمامته على الصحيح من مذهب أحمد ، وسئل الحسن البصري عن الصلاة خلف المبتدع فقال : صل وعليه إثم بدعته .  وابن تيمية يقول : لو علم المأموم أن الإمام مبتدع يدعو إلى بدعته ، أو فاسق ظاهر الفسق ، وهو الإمام الراتب الذي لا تمكن الصلاة إلا خلفه ، كإمام الجمعة والعيدين والإمام في صلاة الحج بعرفة ، ونحو ذلك. فإن المأموم يصلى خلفه عند عامة السلف والخلف ، وهو مذهب أحمد والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم .  والصحيح أنه يصليها، ولا يعيدها، فإن الصحابة كانوا يصلون الجمعة والجماعة خلف الأئمة الفجار، ولا يعيدون كما كان ابن عمر يصلي خلف الحجاج، وابن مسعود وغيره يصلون خلف الوليد بن عقبة ، وكان يشرب الخمر حتى أنه صلى بهم مرة الصبح أربعاً ثم قال: أزيدكم ؟ فقال ابن مسعود: ما زلنا معك منذ اليوم في زيادة! ولهذا رفعوه إلى عثمان . وفي صحيح البخاري أن عثمان ـ رضي الله عنه ـ لما حوصر صلى بالناس شخص ، فسأل سائل عثمان . فقال: إنك إمام عامة ، وهذا الذي يصلي بالناس إمام فتنة . فقال: يا ابن أخي! إن الصلاة من أحسن ما يعمل الناس ، فإذا أحسنوا فأحسن معهم ، وإذا أساؤوا فاجتنب إساءتهم، ومثل هذا كثير .

 

 

ما الفرق بين العبيد والعباد

الفرق بين العبيد والعباد ، كل خلق الله عبيد ، لأنهم تجري عليهم صفة القهر  ولا اختيار لهم في أشياء كثيرة كشكل خلق الإنسان ، لون عينيه ، رزقه وأجله   والأحداث التي تقع عليه ، كل هذا مقهورٌ فيه ، أما الذين أعطاهم الله صفة الاختيار في أن يفعلوا أو لا يفعلوا  فإن أطاعوا فحباً في لله وتقرباً إليه لا قهرا فيأتي بالحب وهو قادر على ألا يأتيه  هؤلاء هم عباد الرحمن قال تعالى : ) وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماوالذين يبيتون لربهم سجداً وقياما والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما ( الفرقان 63  . وحين يأتي العبد إلى الله معلناً إيمانه  ملزماً نفسه بما يريد أن يتبعه   يكون قد دخل في عقد إيماني مع الله سبحانه ، ويكون ملتزماً بمحض اختياره أن يتبع منهج الله أصبح من عباد الله   وعندما يقول الله : ) قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله   إن الله يغفر الذنوب جميعا ( الزمر53. نعرف أن غفران الذنوب جميعها يكون لأولئك الذين اختاروا منهج الله وارتفعوا من منـزلة العبيد إلى منـزلة العباد وحين يقول الله :  وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون هل معنى ذلك أنه يريدهم عبيداً أو عباداً ؟ إنه يريدهم عبادا ، أي يريدهم أن يتنازلوا باختيارهم وحبهم لله عن كل ما يغضبه   وأن يتبعوا ما يرضيه ، ولو أراد غير ذلك ما استطاع واحد منا أن يكفر  ولذلك قال تعالى : لا إكراه في الدين    فالله لا يريد قوالب تخضع ولكنه يريد قلوباً تخشع بالحب ، ولن تستطيع قوةٌ أن تكره قلبك على حب شيء تكرهه أو كره شيء تحبه ولذلك قال الله سبحانه :  إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان . ولذلك أسقط الله الحساب عن كل من أكره على شيءٍ وقلبه يرفضه ولذلك يقول الله تعالى :) إن نشأ ننـزل عليهم من السماء آيةً فظلت أعناقهم لها خاضعين  ( . يقول الله لرسوله أنا لا أريد أعناقاً تخضع بالقهر لأنني لو أردت ذلك فما اسهل أن أفعله  أنا لا أريد إكراهاً إنما أريد عباده تأتي بالحب لي وليس بالإكراه على عمل أريده فإذا عبدوا فعبادتهم عن حب وإذا حكموا فحكمهم عن حب في إرضاء الله  وإذا عملوا أي عمل ينبغي أن يكون في إطار حب إرضاء الله  .

 

أين الإسلام

أين الإسلام في بلد الإسلام ؟ بل أين المسلمون في بلاد المسلمين أسأل عن الإسلام ولا أسأل عن المسلمين عدداً ، فما أغنت الكثرة المفككة الهزيلة أمام من احتلوا الأرض وانتهكوا الحرمات وهم يتفرجون على مصائبهم وآلامهم غثاء لا غناء فيه ولا وزن ولا قيمة ، لا أسأل عن الإسلام دولاً وشعوباً تنتمي إليه بشهادات الميلاد ، ولكني أسأل عن الإسلام دين المروءة والشهامة والنجدة و الصدق والوفاء والأمانة ، لأننا إن وجدنا ذلك فقد وجدنا الإسلام ووجدنا المسلمين الذين يحسب حسابهم . أسأل عن المسلمين دولاً إسلامية تجمعها عقيدة وتوحد بينها روحه في السياسة و الاقتصاد و التقاليد و العادات ، تقوم المعوج و تصلح الفاسد وتعلي كلمة الحق وتحارب الطاغوت و تحقق في عالم الواقع العبودية لله .

أسأل بمرارة أين الإسلام بين من غلب الكذب على حديثهم والغش في معاملاتهم فلم يلتزموا بعهد ولم يوفوا بوعد ، ضاعت بينهم الحقوق وفسدت الطباع وانحطت الأخلاق وامتلأت القلوب حقداً وحسداً بين من انصرفوا عن واجباتهم وأهملوا أعمالهم استخفوا بأحكام شريعتهم وتجرؤا على المعاصي والوقوع في محارم الله واستعباد عباد الله والإمعان في الشهوات والإسراف في المتع والملذات قال تعالى : ) وإن بروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا (.الاعراف 146. وبعبارة أخرى فإن حال المسلمين اليوم حال لا يرضى عنها الإسلام ولا يرتضيها أهل الإيمان والتقوى فيهم ، صغرت عندهم أنفسهم وهانت عليهم كرامتهم ونسوا الله فنسيهم الله وأنساهم انفسهم ، حتى غزاهم المستعمرون واحتلوا البلاد وأذلوا العباد وفرضوا عليهم أنظمتهم واخذوا يرمون المسلمين بالتهم التي يتذرعون بها ليبرروا بقائهم في بلاد المسلمين ونهب ثرواتهم .

وفي تقديري ان هذا الكيد للإسلام ولأهله ليس وليد هذا العصر بل إنه حلقه في سلسلة طويلة من حلقات الكيد لدين الله ، والذين يدينون بهذا الدين ، وإذا كان المسلمون يريدون الخلاص مما هم فيه من خوف و قلق ، فلا بد لهم من العودة إلى ماضيهم المشرق يتلمسون قوتهم و أسرار صحوتهم ويقظتهم ، ونهضتهم من كبوتهم ، وأن يعودوا إلى أن يكونوا خير أمة أخرجت للناس ، يحملون دعوة الإسلام إلى العالم أجمع ، لأنه الرسالة الوحيدة التي تقدم للبشرية منهجاً يتميز بالتوازن والتكامل عن رسالة الإسلام ، هي الرسالة القادرة على بناء إنسان قوي ومتكامل الشخصية ، يمشي على الأرض ويتطلع إلى السماء ويعايش الواقع  يعمل للدنيا ولا ينسى الآخرة ، ويجمع المال ولا ينسى الحساب ، يأخذ الحق ولا ينسى الواجب ، يتعامل مع الخلق ولا ينسى الخالق ، يصلح نفسه ولا ينسى إصلاح غيره ، ينتهي وينهى ، داع إلى الخير ، آمر بالمعروف ناه عن المنكر ، حافظ لحدود الله .

والمسلم بلا إسلام يقتل نفسه ويظلمها ، والإنسانية بلا إسلام تدمر نفسها وتهدم سعادتها  وتعيش حياة الشقاء الدائم في هذا العالم الذي لا يدوم ، ومن العجيب ان بعض الناس كفروا بالإسلام ولم يعودوا مسلمين ، أو استخفوا به لدرجة أنهم بدلاً من أن يحاربوا من لا يطبقه يدافعون عن تصرفاته الباطلة ولو بتهديم الإسلام .

وهو ما يريده أعداء الإسلام الذين يقفون في وجه أي توجه يعمل للخروج على هيمنتهم أو يحاول الاستقلال عنهم ، ويعملوا جاهدين لأن يكون المسلمين تابعين لهم ، يلهثون وراءهم لا يخرجون في أعمالهم وتصرفاتهم عن إرادتهم ورغباتهم . والسؤال هنا ماذا على المسلمين أن يفعلوا أو ما هي طريق الخلاص ؟ إن الإسلام هو وحدة القادر على أن ينقذنا مما نحن فيه في كل مجالات الحياة ، فالعامل كي يتقن يحتاج إلى الفكر الذي يوجهه ، والصانع الذين يتقن عمله لا بد له من مجموعة أفكار تكون سلوكه وتكيف حياته ، ولا يكون ذلك إلا بعقيدة والعقيدة عندنا هي الإسلام ، فإذا فرغنا الناس من العقيدة ، لم بجد الصانع الذي يحسن صنعته ، ولا العامل الذي يتقن عمله ، نحن بحاجة إلى الإسلام بأفكاره ومفاهيمه في كل أمور حياتنا ، لنستقر ونشعر بالطمأنينة بدلاً من الهزات النفسية والاجتماعية والسياسية التي يتعرض لها المسلمون .

فالإسلام وحده هو القادر على إنقاذنا مما نعاني من مشكلات وويلات في كل جوانب الحياة وهذا ما ينادي به منطق الواقع ، لأننا جربنا الأنظمة والأفكار والمذاهب المستوردة ، فلماذا لا نجرب الإسلام ، الذي وضع منهاجاً ينظم كل شؤون الحياة ، التي لا يصلحها إلا التمسك بالعقيدة ، حتى نقيم حياةً إنسانية فاضلة ، تعطينا الوازع الذاتي الذي يصنع الضمائر الحية ، التي توجب علينا الرجوع إلى الإسلام والقرآن والسنة ، إسلام الصحابة ومن تبعهم ، إسلام القرون الأولى ، الإسلام كما جاء به القرآن الكريم ، ودعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هذا الإسلام الذي يريده الله لهذه الأمة ، ويوم يحكم هذا الإسلام حياتها ، فإنها ستسعد في الدنيا قبل الآخرة ، أما إذا أصبح المسلمون لا يعنيهم أمر الدين وأفكاره ، ولا يهمهم مصير الإنسانية ومستقبل العالم ، ولا تهمهم إلا الفوائد المادية الحاضرة التي تعود إلى أشخاصهم ، فحبْلُهم على غاربهم ، وأمرهم بيدهم ، ولكن ليعلموا أن سفينة الجاهلية التي اختاروها لسفرهم قد أحيط بها ، وليعلموا أن هذه السفينة إذا غرقت فإن تغرق ركابها ، وكل من وصل أسبابهم بأسبابها ، ولا عاصم من أمر الله إلا من رحم قال تعالى : ) ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من جون الله من أولياء ثم لا تنصرون (. هود 112 . نسأل الله أن يردنا إلى الإسلام رداً جميلاً وأن يعيدنا إلى هذا الدين نطبقه كله عقيدةً وشريعة حتى نعود أمة إسلامية كما أمر الله .

 

                أين نحن من الإسلام

في ظل البعد عن مبادئ الإسلام وقيمه ، وتحكّم المناهج المعادية للإسلام ، وطمع دول الكفر ببلادنا ومقدراتنا ، نجد الشكوى على لسان كل غيور ، على مصير هذه الأمة ، وما آلت إليه من بعد عن منهج الله ، وما تعانيه من الذلِّ ، والقهر والاستعباد .

إننا نعيش في زمنٍ نرى فيه أعداءنا ، شديدوا التعلق بدينهم وتراثهم ، بينما نحن نزداد ابتعاداً  عن ديننا وتراثنا . ناسبن أن لنا الخيرية ، على أمم الأرض قال تعالى: ﴿ كنتم خير أمةٍ أُخرجت للناس أعداؤنا يعتبرون مخالفة عقيدتهم ، وتقاليدهم وتاريخهم ، جريمةً لا تغتفر ، بينما نحن نلتزم بكل شيء عدا العقيدة والمنهج وحوافز الإيمان . أعداؤنا اختاروا الأقليات العنصرية  والدينية في بلادنا ، عيوناً لها وأرصادا ، وأدواتِ تخريبٍ وهدم ، تحت ستار التقدمية والقومية ، ويجاهرون بالعداوات ، الموروثة ضد الإسلام ، كما يعتزون بأفكار قادتهم ، بينما يوجد بيننا ، من يعتبر الدين تأخُّرٌ ورجعية ، وما يقوله تلامذة الكفر وبطانات السوء وأسيادهم تقدمية،  إننا نلمس أن عدونا ، لا يهمه الانتصار علينا ، بقدر ما يهمه العمل ، على تقويض الدين ، وتدمير الإسلام ، وإبعاد منهجه عن الحياة .

إن من الظلم أن نعيش في بلادٍ إسلامية ، ثم نحشى أن نجهر بكلمة الحق ، اتقاء أن يستخفَّنا السفهاء منها  مع أن أمر الله أولى بالإتباع ، من أهواء الأفراد والجماعات ، والمطلوبٌ من المسلم أن يصدع بأمر الله  لتغيير الواقع الأسود ، الذي لا يمكن لمؤمن ، أن يدين له بالولاء . أعداؤنا يتآمرون علينا ، ومن بيننا من يُعِدُّ لهم أرضية التآمر . تلك هي أحوال المسلمين اليوم   فهل هناك ضياع ، يشبه هذا الضياع ؟ إننا نطلب من العالم أن يحترمنا ، ويتفهم قضيتنا  ولكن أية قضية …؟ أهي قضية الأمة المصيرية ؟ أم قضايا المصالح  المتعددة  بتعدد القادة والزعماء ، إن حالة الأمة ، وما هي عليه  يذكرني بما جاء في إرشاد الأريب ، لياقوت الحموي قال :" إن أحد التجار ، كتب إلى السلطان فخر الدين  يطلب الوزارة ، وأرسل مع الكتاب ثمانية آلاف درهم  ولكن الوزير الذي يشغل الوزارة ، دفع تسعة آلاف  ليبقى في سدة الحكم ، فأشرك السلطان كليهما في الوزارة ، ورتب أمورهما  على أن يجلسا في مكانٍ واحد  فيكون التوقيع لأحدهما ، والختم للآخر ، وحينما عمَّ الفساد ، وأصبحت الشرطة تهاب العصاة والمتمردين   الذين تمادى أذاهم على أمن الدولة ، والافتراء على مذاهب الأمة ، لجأ السلطان إلى اختيار واحدٍ من رؤوس العصاة  وجعله آمراً على الشرطة " .

هذه هي أحوال المسلمين في العالم اليوم ، حكمُ عَضُوضٌ ، المنتفعون به لا يسأمونه ، والرازحون تحته لا ينكرونه ، تقام الدنيا وتقعد ، وتهتز الأرض ، حين يوجه نقدٌ لحاكمٍ أو لنظام حكمه ، بينما لا تهتزُ شعرة واحدة ، إذا هوجم الدين ، وتعرض الله وكتابه وسنة نبيه  للسب والنقد والإهانة . كلُّهم ينشد السلامة ، ولو على حساب ضياع الدين ، وذل الآخرين . فما المخرج إذن ؟ إنه الخلاص ، الذي يكمن في الإيمان بدل الكفر  وفي مخافة الله ، بدل مخافة القادة والحكام ، وفي الجهاد لتكون كلمة الله العليا ، بدل الركون إلى الجبن ، والدعة والكسل . وهنا قد يقول قائل : من المستحيل أن يجتمع شتات هذه الأمة ، على اختلاف الأفكار والأمزجة  وهذا بالطبع من باب التشاؤم ، الذي لا يجوز ، لأن الإيمان والتشاؤم لا يجتمعان ، وكيف يكون متشائماً ؟ من آمن بالله وقضائه وقدره . كان الواحد من أسلافنا  يلقى الجيش فيستخف بوعيده لوعيد الله ، ويمضي لا يلوي على شيء  لأنه يؤمن أن حياته موصولة ، وأنه إنما ينتقل من دنيا الفناء ، إلى دنيا البقاء .

إن كل مؤمن بالله ، يفتدي نفسه ، من أجل إقامة المنهج ، ولا أقل من أن يجاهد المرء بلسانه ، عائذاً بالله من الخيبة ، أما الهيبة فلا هيبة ، ومن عرف نفسه وعرف حقه ، هانت عنده الدنيا بما رحبت ، إن أوضاع المسلمين في هذا العالم سيئة ، بينما الأعداء في وضع جيد ، فهم يحققون كل يومٍ كسباً .

ونحن نحمل كلَّ يومٍ خِزيا ، عدونا لا يقبل إلا سلما  يفتح له المجالات المغلقة ، ويمكن له في قلب بلدنا الإسلامي ، ليمزق أجزاءه ، ويدمر وحدته .

والقبول بذلك هو الاستسلام ، الذي لا يقره الإسلام  وإن معركتنا مع عدونا لا تنتهي ، حتى يحق الحق  ويبطل الباطل ، وإذا ما آمنا بأننا حملة الرسالة ، وآمنا بربنا ، وحملنا راية الجهاد ، لإعلاء كلمة الله ، استهنا بالموت ، لتوهب لنا ولأولادنا حياة العزة والكرامة .

إن أمتنا أحوج ما تكون ، إلى الرجوع إلى الإسلام ، في كلِّ أمر من أمورها ، مما يعزز روح الجهاد ، وإلا فأين نحن ؟ من صدق التوجه إلى الله ، وأين دورنا ؟ في قيادة أمم الأرض ، وأمتنا هي المرشحة لقيادة ركب الإنسانية الحائرة ، وقد انتدبها الله لهذه المهمة ، وهي جديرةٌ بذلك لأنها تملك عقيدةً سليمةً صائبة ، وديناً قيّما  وهي حاملة لواء خاتمة الرسالات السماوية ، التي فيها كل الخير والسعادة للإنسانية . 

وفي تاريخ أمتنا ما يؤكد على صدق ذلك  وخصوصاً جيل الصحابة ، الذي استطاعت الأمة أن تطهر به الأرض ، من رجس الكفر . فقد كان الجندي منهم  المثلَ الأعلى في الدفاع عن الحق ، وما قاتل غالباً إلا انتصر . وفي معركة القادسية ، الأمثلة الحية على صدق ذلك ، فقد طلبت القيادة الفارسية ، من سعد أن يبعث إليهم بجماعةٍ يفاوضونهم ، ليبينون لهم ماذا يريد العرب ، فأرسل إليهم واحداً ، هو المغيرة ابن شعبة .

حشد الفرس ما استطاعوا من الأبهة ، وستائر الديباج والوسائد المرصعة ، والجند بأبهى الثياب وأفخم الأزياء  وجاء المغيرة بثيابه المرقعة ، وعندما أرادوا نزع سلاحه   أبى وثار في وجوههم ، فتركوه يدخل كما هو ، فأقبل يطأ على هذه البسط ، وهذه الوسائد مزدرياً لها  كيف لا وقد تعلموا أن العظمة هي لله وحده  ولا أحد غيره  وأن متاع الدنيا زائل ، حتى بلغ سرير رستم فجلس عليه .. فطارت عقولهم وصاحوا به ، فقال المغيرة : " يا معشر العجم ، قد كانت تبلغنا عنكم الأحلام   ونحسب أن لكم عقولا ، فالآن عرفت أنكم لا عقول لكم ، وأنكم ترضون أن تكونوا عبيداً لإمرائكم ، ونحن لا فرق فينا ، بين أمير ومأمور ، بل الأمير فينا  هو أكثر الناس عملاً ، وأثقلهم حملاً ، لأن الأمارة فينا  واجبٌ وتكليف ، لا لذةٌ وتشريف …فتركوه ، فقال له رستم : إننا نعلم سوء حالكم ، وفقركم واقفار بلادكم  وإنكم كنتم تأتوننا سائلين راغبين ، وإنني سأعطي لكل واحدٍ منكم ، حمل بعيره قمحاً وتمرا ، وأعفو عن جرأتكم علينا ، قال المغيرة : " لقد كنا على شرٍّ مما ذكرت ، وكنا نأكل من الجوع ، الحشرات والهوام ، وكان أحدنا يقتل ابن عمه ليسلبه ماله ، وكنا أهل جهالة وضلالة ، ولكن الله بعث فينا نبياً ، أرشدنا إلى طريق الهدى ، ودلنا على أبواب الخير ، فألف الله به بين قلوبنا ، وأنار به عقولنا ، وأثار به هممنا " .

ومضى يشرح له مزايا الإسلام ، وأراد رستم أن يداعبه  وأشار إلى سيفه محتقراً ، وجاء بسيفٍ مرصَّعٍ باللآلئ والجواهر ، وقال : خذ هذا بدله .

فسلَّ المغيرة سيفه ، وضرب به سيف رستم فقطعه  وقال الآن .. إما الإسلام أو الجزية أو الحرب  فغضب رستم وقال له : لولا أنك رسولٌ لقتلتك ، ولكن غداً  سأمحوكم من الأرض محوا  وما حصل فقد خاب وعيد رستم ، ومُحِيَتْ دولة كسرى من خريطة العالم  .

نعم وإن أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم لها ، مادام في قلوبها ذلك الإيمان ، وعلى ألسنتها ذلك الهتاف . وإن الأمة التي أطاحت بعرش كسرى وقيصر ، لقادرةٌ بالإيمان ، أن تستردَّ ما اغتصب من الأرض .                         

  هذا هو الإسلام الذي يصنع الرجال ، ويصوغ العقول  ويهذب النفوس ، إنها مدرسة القرآن التي ربت رجالاً يندر أن يجود بمثلهم الزمان ، يقولُ عليٌ رضي الله عنه وقد تولى أمارة المؤمنين : أأقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين ، ثم لا أشارك المؤمنين في مكاره الزمان ؟ " والله لو شئت لكان لي من صفو هذا العسل ، ولباب هذا البر ، ومناعم هذه الثياب ، ولكن هيهات أن يغلبني الهوى   فأبيت مبطاناً وحولي بطونٌ غرثى  وأكبادٌ حرَّى " ليست المسألة جاهاً ينشد ، ولا ترفاً يطلب  ولا ألقاباً ينادى بها الناس .. ولكنه تحمّلٌ للمسئولية  وإحساسٌ بخطورة التبعة ، إنه لا يخادع الله ولا يخادع نفسه ، ولا يخادع جماعة المؤمنين ، فلا يرضى أن يقال عنه أمير المؤمنين ، والمؤمنون في جوعٍ وفاقة وحرمان  فإما أن يحيا المؤمنون في أفياء هذا اللقب ، حياةً هانئة  أو أن يذوق أمير المؤمنين ما تذوقه الرعية .   

      

أين وعد الله بالنصر

في القرآن الكريم عشرات الوعود الربانية، التي يعد فيها سبحانه وتعالى عباده المؤمنين بوعود، تبشرهم وتطمئنهم بنصر الله وتمكينه لهم، إلا أن فهم كثير من الناس لهذه الوعود يشوبه الخلل في الفهم والتصور، فينظر إلى هذه الوعود كأنما هي بشارات ، بأن الله سيخوض المعركة بالنيابة عنهم، ناسين أن تلك الوعود لا تعمل عملها إلا بشروط ومقدمات ، فوعد الله بهزيمة الذين يكفرون ويكذبون وينحرفون عن منهج الله ، قائم في كل لحظة ، ووعد الله بنصر الفئة المؤمنة قائم كذلك في كل لحظة . وتوقف النصر على تأييد الله الذي يعطيه من يشاء حقيقة قائمة وسنة ماضية لم تتوقف ، وعلى الفئة المؤمنة أن تطمئن إلى هذه الحقيقة  وتثق  بالوعد الرباني ، وتعد للأمر عدته ، وتصبر حتى يأذن الله ، ولا تستعجل ولا تقنط إذا طال عليها الأمد ، المغيب في علم الله ، المدبر بحكمته  المؤجل لموعده الذي يحقق هذه الحكمة : ] إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار [ وقبل أن نسأل : أين وعد الله للمؤمنين بالنصر في الحياة الدنيا علينا أن نؤمن بأنه وعد من الله قاطع ، وحكم من الله جامع ، إذا استقرت حقيقة الإيمان في نفوس المؤمنين ، وتمثلت في واقع حياتهم منهجا للحياة ، ونظاما للحكم ، وتجردا لله في كل حركة ، وعبادة لله في الصغيرة والكبيرة ، حينها لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا  والدارس للسيرة النبوية والتاريخ ، يجد أن الهزيمة لا تلحق بالمؤمنين , ولم تلحق بهم في تاريخهم كله ، إلا وهناك ثغرة في حقيقة الإيمان ، إما في الشعور وإما في العمل ، ومن الإيمان أخذ العدة ، وإعداد القوة في كل حين بنية الجهاد في سبيل الله ، وتحت راية لا إله إلا الله  وبقدر هذه الثغرة تكون الهزيمة الوقتية ، ثم يعود النصر للمؤمنين   ففي أحد مثلا  كانت الثغرة في ترك طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وفي الطمع في الغنيمة ، وقد بيَّن الله تعالى أن الهزيمة ما لحقتهم إلا بمعصيتهم لله ] أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [ آل عمران   فهو سبحانه وتعالى قدير على نصركم   وعلى خذلانكم، فلما عصيتم قدَّر الله سبحانه لكم الخذلان ، الذي من أعظم أسبابه معصية الله تعالى ، وهي سبب الخلاف والتنازع، كما أنها سبب الفشل والهزيمة ، أما الطاعة فهي سبب التآلف واجتماع الكلمة   وهي سبب النصر والظفر .

وفي غزوة حنين كانت الثغرة في الاعتزاز بالكثرة والإعجاب بها 

ولو ذهبنا نتتبع كل مرة تخلف فيها النصر عن المسلمين في تاريخهم ، لوجدنا شيئا من هذا ، نعرفه أو لا نعرفه  ، أما وعد الله فهو حق في كل حين ، وأما المحنة فقد تكون للابتلاء  والابتلاء إنما يجيء لحكمة ، وهي استكمال حقيقة الإيمان  ومقتضياته من الأعمال .  والهزيمة في أي معركة لا تكون هزيمة ، إلا إذا تركت آثارها في النفوس ، يأساً وقنوطا ، أما إذا بعثت الهمة ، وكشفت عن طبيعة العقيدة وطبيعة المعركة ، فهي المقدمة الأكيدة للنصر الأكيد ، ولو طال الطريق ، وحين يقرر النص القرآني : أن الله  ] ولن يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا  [فإنما يشير إلى أن الروح المؤمنة هي التي تنتصر ، والفكرة المؤمنة هي التي تسود  والنص القرآني إنما يدعو الجماعة المسلمة إلى استكمال حقيقة الإيمان في قلوبها ، تصورا وشعورا ، وفي حياتها واقعا وعملا  وليس بيننا وبين النصر في أي زمان وفي أي مكان ، إلا أن نستكمل حقيقة الإيمان ، ونستكمل مقتضيات هذه الحقيقة في حياتنا وواقعنا كذلك ، ومن حقيقة الإيمان أن نأخذ العدة ونستكمل القوة ، ومن حقيقة الإيمان ألا نركن إلى الأعداء   وألا نطلب العزة إلا من الله .

ووعده الأكيد للمؤمنين بالنصر , هو الوعد الذي يتفق تماما مع حقيقة الأيمان وحقيقة الكفر في هذا الكون ، فالإيمان صلة بالقوة الإلهية التي لا تضعف   والكفر انقطاع عن تلك القوة وانعزال عنها ، ولن تملك قوة محدودة مقطوعة منعزلة فانية , أن تغلب قوة موصولة بمصدر القوة في هذا الكون جميعا ، إلا عندما يتحول الإيمان إلى مظهر ، عندها فإن حقيقة الكفر تغلبه   لأن حقيقة أي شيء أقوى من مظهره .  ومتى عصى المسلمون ربهم ، أظهر عليهم الكافرين ، وقد بينت الآيات القرآنية ، أن المؤمنين منصورون غالبون قاهرون لعدوهم ، مهما كانت قوة العدو وعدده وعدته ، ومهما اختلت موازين القوى لصالح الكفار إذا كان المؤمنون صادقين عاملين بما يجب عليهم ، تاركين لما نُهوا عنه   وقد أخذوا من أسباب القوة ما كان في طاقاتهم ووسعهم ، ولم يقصّروا في امتلاك القوة التي يمكنهم امتلاكها ، وقد قال الله تعالى مبيناً ذلك : ] وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ [ الصافات 173. والآيات في ذلك كثيرة ، وكان عمر بن الخطاب يُوصي الجيش إذا خرج للجهاد بطاعة الله فيقول : "إنكم لا تنتصرون على عدوكم بعددٍ ولا عدة ، وإنما تنتصرون بطاعتكم لله ومعصيتهم له ، فإذ تساويتم في المعصية غلبوكم بالعدد والعدة". ويبين ابن رواحة أن المسلمين لا ينتصرون على عدوهم بعدد أو عدة ، وإنما ينتصرون بطاعة المسلمين لله   ومعصية الكافرين له ، ويقول عندما استشاره زيد في لقاء الروم بعد أن جمعوا جموعاً كثيرة في مؤتة : " لسنا نقاتلهم بعدد ولا عدة والرأيُ المسير إليهم " ، إنه الجيل الذي زلزل عرش كسرى وقيصر ، وفتح البلدان والأمصار ، مع أنهم كانوا قلة في العدد والعتاد، ولكنه الإيمان الذي يصنع المعجزات  ، قال تعالى : ] فأيدنا الذين أمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين [   الصف14. وعندما سأل هرقل ملك الروم جنوده عن سرِّ هزيمتهم  مع أن عددهم يفوق بكثير عدد المسلمين، ومعهم من العدة والعتاد ما ليس للمسلمين أجابه أحدهم: "لأنهم يصومون النهار ويقومون الليل، ويحبون الموت كما نحب نحن الحياة". وقد يتأخر ويبطؤ نصر الله لحكمةٍ ما، لكن في نهاية المطاف فهو آتٍ لا محالة : ] حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [يوسف 110.

 

بماذا يتميز المسلم

إن الدين عند المسلمين رباط جامع بين العقيدة و العبادة والمعاملة والأخلاق والآداب وهي من صلب الدين ، يحكمها مبدأ الحلال و الحرام و الثواب و العقاب , وهو ما يتميز المسلم لأن قدوته واحدة و مصدر تلقيه الهداية واحد ، وهو ملتزم ألا يتكلم إلا بخير قال تعالى : ] لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقةٍ أو معروف أو إصلاح بين الناس  [.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم  : ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت ) . و ملتزم إلا يتكلم فيما لا يعنيه قال صلى الله عليه وسلم : ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ) . وملتزم أن يحاسب نفسه قبل أن يتكلم فلا تخرج كلمة من فيه إلا بميزان ، خوفاً من وعيد الله قال صلى الله عليه وسلم : ( إن الرجل ليتكلم الكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم سبعين خريفاً ) .

و إذا رأى الناس يخوضون في الباطل اعتزلهم طاعة لأمر الله قال تعالى : ]وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما يُنْسيّنك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين [ الأنعام 68.و قال تعالى : ] وإذا مرّوا باللغو مرّوا كراما [ . والمسلم لا يحب الجدال والمراء وإنما يبين الحقيقة فما رآه فيها أقام عليه الحجة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تمار أخاك ولا تمازحه ولا تعده موعداً فتخلفه ).ولا يحب الخصومة مع الآخرين قـال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم ) .كما لا يجب التكلف في الكلام قال صلى الله عليه وسلم : ( إن أبغضكم إلى الله وأبعدكم مني مجلساً الثرثارون المتفيهقون المتشدقون )  .والمسلم لا يحب اللعن و السب و الفحش والبذاء قال عليه السلام : ( ليس المؤمن باللعان ولا بالطعان ولا الفاحش و لا البذيء ) . يمازح و يداعب و لكن بحق فلا يخرجه مزاحه ومداعبته إلى باطل أو اختلاق الكذب وقد ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم الرجل يتكلم الكلمة ليضحك بها الناس فقال : ( ويل له ويل له ) .

والمسلم يبتعد و ينأى بنفسه عن الاستهزاء بالآخرين أو السخرية بهم أو غيبتهم لأن الله ينهى عن السخرية واحتقار الناس , والنهي الذي جاءت به النصوص يفيد التحريم قال تعالى : ] لا يسخر قوم من قوم [ .

و السخرية لا تقع إلا من قلب ممتلئ بمساوئ الأخلاق و لهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( بحسب امرئ من الشر أن يحِّر أخاه ) . فلا يعيِّره أخاه و يلقبه بلقب ذم يكره أن يقال له قال تعالى : ] و لا تنابزوا بالألقاب [. وأمر باجتناب سؤ الظن وحرمَّه قال تعالى : ] اجتنبوا كثيراً من الظن [ . ونهى عن التجسس بالبحث عن عورات المسلمين و معايبهم و كشف أسرارهم قال تعالى : ] ولا تجسسوا [ . والمسلم يبتعد عن الغيبة وهي كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(ذكرك أخالك بما يكره ولوكان فيه ) ، وإذا ائتمن المسلم على سرٍّ فإنه لا يفشيه فقد جاء في الحديث : ( إذا حدث الرجل الحديث ثم التفت فهي أمانه وإفشاؤه خيانة ) . ولأن الوفاء بالعقود والعهود مع الناس ومع الله هو أن الله هو من أهم وأخطر ما تميزت به شريعة القرآن ، فإن على المسلم إذا وعد بالوفاء فلا يعد إلا وهو ناوٍ أن يفي قال تعالى:(يا أيها الذين آمنوا أوفوا العقود[ .1 المائدة ، وهو شامل للعقود التي بين العبد وبين ربه من التزام عبوديته ، والقيام بها أتم قيام ، وعدم الانتقاد من حقوقها شيئاً , والتي بينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم بطاعته وإتباعه , والتي بينه وبين الوالدين والأقارب ، ببرهم وصلتهم وعدم قطيعتهم , والتي بين أصحابه من القيام بحقوق الصحبة في الغنى والفقر و اليسر والعسر , والتي بينه وبين الخلق من عقود و معاملات كالبيع و الإجارة ، وعقود التبرعات كالهبة و نحوها , والقيام بحقوق المسلمين التي عقدها الله بينهم في قوله تعالى : ] إنما المؤمنون أخوه [ . بالتناصر على الحق والتعاون عليه ، والتآلف بين المسلمين ، وعدم التقاطع ، وبعبارة أخرى أمرٌ شامل لأصول الدين وفروعه ، فهي كلها داخله في العقود التي أمر الله بالقيام بها . والمسلم إذا عاهد أو حلف أو تحدث أن يكون صادقاً ، قال صلى الله عليه وسلم : ( وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً )

وليس من الكذب المحرم ما رخص فيه الرسول صلى الله عليه وسلم لما رُوي عن أم كلثوم قالت ما سمعت رسول الله يرخص في شيء من الكذب إلا في ثلاث : ( الرجل يقول القول يريد به الإصلاح والرجل يقول في الحرب و الرجل يحّدث امرأته و المرأة تحدِّث زوجها ) .

والمسلم ملزمٌ ألا ينقل بين الناس الكلام الذي يؤدي إلى إيجاد الخصومات أو استمرارها قال صلى الله عليه وسلم : ( لا يدخل الجنة قتات ) أي نمام هذه هي أخلاق الإسلام وآدابه , أدب الله تعالى بها عباده المؤمنين فالمسلم الحق له السلطان على لسانه بإذن الله ، ما يجعله محل الثقة التي لا يشك فيها , والخير الذي لا يخالطه شر والمعروف الذي لا يخالطه منكر .

والمسلم يطيع المجتمع في طاعة الله ، ويطيع حزب الله في طاعة الله ، ويطيع رسول الله ، لأن طاعته من طاعة الله   والمسلم الذي لا يعطي عبوديته وطاعته لله ، يعطيها في العادة إما لدولة تستعبده أو حزب يقيّده ، ولو استعرضنا أوامر الله ، وما أدب الله به عباده ، لوجدنا ان كل ما أدب الله به عباده كمال وصلاح ، ففي أوامر الإسلام صلاح البشر في حدود ما يطيقون من صلاه وصيام إلى حج إلى بيع إلى شراء ، و المسلم يؤمن بأن حق الله أن يُتخذ إلهاً فلا يطيع سواه ، ولا يتوكل ولا يعتمد إلا على الله ، ويؤمن بأن يذكره فلا يغفل عنه عملاً و سلوكاً ، وأن يتعاون مع المسلمين لإيجاد دولة تقيم حدود الله وتنفذ أوامره ، وأن يجاهد في سبيل الله حتى تكون كلمته هي العليا ، وأن يقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم في كل حال ، وان ينصر شريعته و يطبق منهجه قال تعالى : ] وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا [ .      

 

 

 

 

تساؤلات بحاجة إلى إجابة

يستنكر الكثيرون من المسلمين ، بل ويشعرون بالإحباط كلما سمعوا بحدوث مجزرة تنزل بالمسلمين كما حصل في كوسوفو،  وحاصل في العراق  ويحصل في سوريا ، بل وفي معظم البلاد الإسلامية  مما يدعو للتساؤل : ما الذي دهى أمة الإسلام حتى غدت كقطيع من الغنم تعدو عليها الذئاب الضارية تنهش لحمها ؟  وما هي أسباب فقر وتخلف هذه الأمة عن غيرها من الأمم المتقدمة في حياتها وفي اقتصادها ؟  إن الذي ينقذ أمة الإسلام من تخبطها واضطرابها وحيرتها وعذابها وذلها وعارها  هو حَلٌّ واحد ولا شيء غيره ، إنه الحل الذي يتمثل في قيام مجتمع إسلامي صحيح  مجتمعٌ توجهه وتحكمه وتسوده عقيدة الإسلام ، ومفاهيم الإسلام ، وشعائر الإسلام ، ومشاعر الإسلام  وأخلاق الإسلام ، وتقاليد الإسلام ، وقوانين الإسلام . لا كما يقوم على حكم الشعوب الإسلامية من يدّعون الأخذ بالإسلام ، ويزعمون أنهم موالون له ، وليسوا غرباء عنه ، علماً بأنه لا يمكن أن يكون الحكم إسلامياً ، إلا أن يرى الناس في ظله نموذجاً للمجتمع المسلم ، وللأمة المسلمة  التي تقوم على عقيدة الإسلام ، وأخلاق الإسلام  ومفاهيم الإسلام ، كما كان الحال أيام الدولة الإسلامية التي استمرت ثلاثة عشر قرناً  فكان الانسجام والاستقرار . وإذا كانت الأفكار والمفاهيم والقناعات لدى الدولة ، مخالفة لأفكار وقناعات الأمة ، فإنه لا يكون هناك انسجام ولا استقرار، لأن عقيدة الإسلام لا ترضى أن تعيش على هامش الحياة ، بل من شأنها ان تسود الحياة كلّها ، وتوجه الأفكار والمفاهيم ، والأقوال والأعمال ، وبدون ذلك تكون الكراهية بين الحاكم والمحكوم ، ولا يطول عمر الدولة كما حدث للاتحاد السوفيتي المنهار . وتكون الدولة من غير جنس الأمة ، وتكثر الاضطرابات وتكثر قوى المعارضة ، وتكون فكرة التغيير ومحاولات الانفصال لديها قضية مصيرية ، كما هو حادث الآن في  العراق وسوريا واليمن وليبيا ، وكما حصل في كوسوفو والبوسنة والهرسك والشيشان من قبل  وغيرها من البلاد الإسلامية ، وفي هذه الحقبة الزمنية التي تعيشها أمتنا اليوم ، تبرز قضية العمل للتغيير ، لاختلاف ما هو ناشئ عن عقيدة الأمة  من أفكار ومفاهيم وقناعات مناقضة لأفكار ومفاهيم وقناعات الأنظمة التي تحكمها ، وهذا ما جعل فئات المعارضة التي تنشد التغير ، تكثر في أوساط الأمة . إن الحل الإسلامي هو الذي يتخذ الإسلام وحده مصدر الإلهام في الشئون الفكرية  ومصدر الإلزام في الشئون العملية ، فليس بحلٍ إسلامي ذلك الذي يبيح الربا ويقرُّ البنوك الربوية بدعوى أنها دعامة الاقتصاد الحديث ، ولا يستطاع الاستغناء عنها ، فإن الله لم يحرّم علي الناس شيئاً يتعذر عليهم الاستغناء عنه أبدا ، فقد اعتبر الإسلام التعامل بالربا جريمة إعلان حرب على الله تعالى لقوله :﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقى من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله ﴾ . والمشاريع الاقتصادية القائمة على قروض المراباة مشاريع خاسرة لقوله تعالى : ﴿ يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفارٍ أثيم ﴾ . والحرية الشخصية التي هي جزء من مفهوم الديمقراطية   التي تفتخر بها الأنظمة الحاكمة ، تبيح المتعة الجنسية بين الذكر والأنثى وبين الذكر والذكر، بينما هي في نظر عقيدة الأمة زناً ولواطاً ، أي جريمة تصل العقوبة فيها حد القتل .

والجهاد الذي هو لنشر الإسلام وإخراج الناس من الكفر إلى الإيمان ، وهو من مفاهيم الأمة وقناعاتها بينما هو في مفهوم الدول الحالية إرهاب وتخريب  لذلك لا تنتهي المصادمات حتى تأخذ الدولة بأفكار الأمة وقناعاتها ، وتصبح الدولة من جنس الأمة . وأما الجواب على أسباب تخلف الأمة . فإنه ينظر إلى ذلك من ناحيتين ، إما أن تكون للأمة رسالة تحملها أو أنها لا تحمل رسالة ؟ فالأمة التي لها رسالة تحملها وتدعوا لها ، فهي أمة واعية معطاة تعطي ولا تأخذ ، متحركة نشيطة لها أفكارها ومفاهيمها وقناعاتها ، أما الأمة التي لا رسالة لها أو أن لها رسالة ولكنها لا تعمل بها ولا تدعو لها ، فهي أمة ميتة تخلو من الوعي ولا تدرك ما يدور حولها ، مثلها كمثل النائم يكون حياً ولكنه غير واعٍ مادام نائماً . لأن الرسالة في الأمة بمثابة الروح في الجسد ، فإذا خرجت الروح يفقد وعيه أو يموت كما ورد في قوله تعالى : ﴿ الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجلٍ مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ﴾ . فما دام الله ممسكاً روح النائم ، فإنه يبقى بلا وعي إلى أن يرسل الله له روحه فيدب فيه الوعي ، ويبدأ يدرك ما يدور حوله ، وهكذا الأمة الفاقدة لرسالتها ، تبقى في حالة غيبوبة لا تعرف طريقها ولا تدرك مسارها ، ولهذا كالأمة الإسلامية تعتبر في عداد النائمين لأنها لا تحمل رسالة .

ويوم كانت الأمة تحمل الرسالة ، كانت أمة حية واعية تصدرت قيادة الشعوب ، وتربعت فوق عروش الأمم ، وسادت العالم ردحاً من الزمن  وأقامت العدل على مقاتل الجور وشادت الحرية على مذابح العبودية فكانت أمة عزيزة منيعة .

فلما تركت الرسالة عادت إلى الخلود في النوم العميق ، وفقدت أفكارها وقناعتها ، وصارت تستقبل مفاهيم وقناعات الدول المتقدمة ، ولهذا لا غرابة في فرض أمريكا أفكارها وقناعاتها على المسلمين مثل الديمقراطية ، والتعددية ، وحقوق الإنسان وسياسات السوق والخصخصة وغير ذلك من الأفكار ، وحينما تطرح علينا أفكارها فلا تطرح علينا الأفكار المتعلقة بالتكنولوجيا المتطورة ولا بأسرار الصناعات أو الاختراعات ، وإنما تطرح علينا الأفكار التي تزعزع عقيدتنا وتدمر مجتمعاتنا وتفسد أخلاقنا ، وتفرض علينا خدمة مصالحها  فهي حينما تطرح علينا سياسات السوق مثلاً تريد أن نفتح أسواق بلادنا أمام منتجاتها المتقدمة   وأمام استثماراتها ، وتريدنا أن نرفع الحواجز الجمركية والقيود مهما كان نوعها من أمام تجارتها لتكون هي المتحكمة في اقتصادنا ، لذا لن يتسنى لدول امتنا أن تخرج من بؤرة الفقر والتخلف ما دامت خاضعة للأفكار والقناعات الأمريكية . إن لدى الأمة الإسلامية من الأفكار والمفاهيم والقناعات الصادقة ما ليس له وجود عند أمة من الأمم ، لأنها أفكار من لدن حكيم عليم ، أما أنه حكيم فإنه يشرِّع الأحكام في محلها المناسب ، وأما أنه عليم فإنه يعلم ما تخفي الصدور فيضع التشريع لمعالجة ما في النفوس ، ولو أخذت الأفكار الإسلامية لكانت الأمة أقوى الأمم اقتصادياً وارقاها اجتماعياً  وأقواها عسكرياً كما سبق لها أن كانت كذلك . ومن هذه الأفكار على سبيل المثال لا الحصر :

1- وحدة الأمة المجزأة خمسة وخمسين كياناً ، لقوله تعالى : ﴿ واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا﴾ . وحدة الدولة لقوله صلى الله عليه وسلم : (إذا بويع  لإمامين فاقتلوا الآخر منهما ) . ولقوله صلى الله عليه وسلم : ( من جاءكم وأمركم جميع فأراد أن يشق عصاكم ويفرق جماعتكم فاقتلوه كائناً من كان ) .

2- السيادة للشرع ، أي أنه لا يجوز لأحد أن يصنع تشريعاً إلا الله ، لأنه لا يحابي أحداً من خلقه على أحد فكلهم خلقه ولا يظلم مثقال ذرة ولا حصانة لأحد في شرعه.

3- السلطان للأمة ، فهي التي تختار الحاكم بكل حرية ، وتعطية الولاء بشرط أن يحكمها بشرع الله .

4- الشورى حق من حقوق المسلمين على الحاكم قال تعالى :﴿ وشاورهم في الأمر ﴾ .

5- الطاعة فرض على المسلمين للحاكم ما لم يأمر بمعصية .

6- الملكية العامة تشمل معظم مصادر الطاقة كالبترول والغاز ومناجم الفحم الحجري والكهرباء والمعادن التي بمنزلة العد كالحديد والذهب والفوسفات وغير ذلك .

7- المصانع تأخذ حكم المادة التي تصنعها ، فإن كانت المادة مما يمتلكها الأفراد كانت ملكية فردية  وإن كانت المادة من الملكية العامة كانت المصانع كذلك وتشرِف عليها الدولة .

إن العلاج الوحيد لأوضاع هذه الأمة ، هو العودة لنظام الحكم في الإسلام ، مصدر أفكار ومفاهيم وقناعات الأمة ، لكي تعود الأمة موحدة في دولة واحدة ، تحمل رسالتها فتفيق من غفوتها ، وتصبح أمة حية نشيطة معطاة ، تنشر الهدى وتقيم العدل  فتزول المصادمات وتختفي المعارضات وتتوقف محاولات الانفصال ، وتستعيد الأمة مكانتها في الصدارة .

                   

 

هل اجتماع القمة يمثل الموقف الإسلامي

إن المتتبع للأحداث الجارية في العالم يجد أن الأمة مفتقرة لوحدة الكلمة والرأي ، فضلاً عن وحدة الهدف والوسيلة ، فقد تعددت الآراء والمواقف حول جدوى مؤتمر القمة ، فتحول بعضها إلى علامات استفهام أو التعجب الذي تحوَّل إلى علامات استهجان وترقب للإجابة عن السؤال الكبير ، الذي يدور في خلد كل مسلم مخلص  من يمثل الموقف الإسلامي الصحيح ؟ وقد يتكرر هذا السؤال بلسان المقال ، وأحياناً بلسان الحال  ثم لا يلبث المتسائل أن يُخْلِد إلى التناوم أو التناسي ، هرباً من ضغوط الاحباطات والصدمات من جراء التعارض والتناقض ، بين ما يسمع وما يرى .

 هناك من يتكلم بلغة التنديد ومن يتكلم بلغة التأييد ، فاحتج المنددون بأن الاستجابة للضغوطات إهانة وخيانة للأمة ، وتضحية بمبادئها التي تحرِّم وتجرِّم مسايرة الدول القوية والاستجابة لمطالبها الظالمة ، بينما تطلع الفريق الثاني إلى إخراج الأمة من الوقوع في محنة الاحتلال ، وقالوا بجواز الاعتراف بدولة اليهود والتطبيع مع عصابتهم ، وعقد الصلح الدائم معهم والاعتراف بهم ، ناسين أنهم لا يمثلون في هذه القضية الموقف الإسلامي الصحيح ، وقد أبرزت الأحداث في فلسطين غياب الموقف المساند للحق كما يريد الحق سبحانه ، علماً بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر بأنهم موجودون لم يخل منهم زمان فقال: صلى الله عليه وسلم ( سألت ربي ألا يجمع أمتي على ضلاله فأعطانيها ) .رواه احمد في مسنده

فلماذا يجمع زعماء الأمة على الضلالة ؟ بل وأين اجتماعهم على الحق ؟ ونحن نعاني من ظلم اليهود وبطشهم ، وإن شدَّة المعاناة والضعف وثقل الهزيمة وخور العزائم وغلبة اليأس ، كثيراً ما يبعث في النفوس التعلل بالأماني الكاذبة ، والهروب من الواقع المؤلم إلى أطياف الأحلام ، لعلنا نجد السلوى من الآلام والهزائم ، وما هي في الواقع إلا أضغاث أحلام أو سراباً من الأوهام } يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئا { وقد اثبت واقعنا الذي نعيش أن الذي يعيش في عالم الأحلام الموهوم ، جدير به أن يقول ما لا يفعل   وأن يفعل ما لا يرضى عنه عقل ولا دين ، وهنا يكمن الخطر الذي يوجب على الأمة أن تستيقظ وترفض المساومة على حقوق الأمة المشروعة .

 في الوقت الذي قرر حكام العرب اجتماع القمة  وهو لقاء خطير وهام وعظيم ، لأن أي قرار يتخذه لا يدعو إلى إعلان الجهاد ، والتمسك بالدين عقيدة وشريعة لا فائدة منه ، لأنه لا نصر ولا توفيق بدون العودة إلى الله والتمسك بمبادئ الدين ، هذا بالإضافة إلى أن يصدق العمل القرارات التي تتخذ ، لأن علامة الصدق في القول أن يتبعه العمل ، ونحن بحاجة ماسة إلى أن يفي الحكام بالواجب الذي رسمه الله لعباده في شريعته التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والمسؤولية في هذا الاتجاه كبيرة وحاسمة ، وهم يعلمون ذلك ولا ينقصهم إلا التطبيق العملي .

فما أحوجهم لأن يتماسكوا ويسيروا على طريق الحق ، طريق القوة والمنعة طريق الإسلام  الذي دعا الله إلى التمسك به ديناً ومنهج حياة ، وإنا لنرجوا الله أن يعودوا إلى شريعة الله  ويعملوا على تطبيقها في كل شؤون الحياة ، فكم هو جميل اللقاء الأخوي ، ولكن الأجمل منه اتخاذ القرارات الحازمة التي تتبعها الأعمال الجادة ، بعيداً عن  الوقوف عند الوعود والأقوال ، واتخاذ قرارات تعمل على رفع العار والذل ، الذي تعاني منه الشعوب التي تتطلع بشوق ولهفة إلى اتخاذ القرارات التي تحقق للأمة النصر .

لقد سئمت الأمة الكلام والخطب ، وهي تنادي كل ذي قلب يعي أن لا حاجة الآن لأقوال مجردة عن الأفعال لأن الأمة بحاجة إلى أعمال إيجابية  تلبية لنداء الله:} وقل اعملوا فسيرى الله عملكم (

ففي كل اجتماع أو مؤتمر يعقد ، يذاع البيان الختامي الذي يطمئن على أن اللقاءات كانت مثمرة للغاية وهادفة وناجحة ، تساعد على وحدة الصف والهدف ، ولكن الشعوب في كل مرة يسمعون كلاماً ووعوداً ، لا يلمسون لها حقيقة في واقع التطبيق العملي . وفي هذه القمة لم تتخذ القرارات الداعمة للمقاومة .

 لقد نسي الذين اجتمعوا أو تناسوا وجوب الالتزام بكتاب الله وسنة رسول الله شريعةً ومنهج حياة ، الذي خلا منه البيان الختامي ، كما هو الحال في كل قمة عقدت من قبل  وخلا من المطالبة بوجوب إلزام إسرائيل بالكف عن ممارسات القتل والقمع لشعب فلسطين  والتزامها بالقرارات الدولية وإلا فالحرب والمقاطعة  ولأن البيان خلا من قرارٍ كهذا فقد كانت رسالة إسرائيل للمؤتمر دخول دباباتها وعرباتها المصفحة إلى مدن الضفة .   

هذه المواقف تذكرني بقصة أبي جعفر المنصور  حين وقف يوماً خطيباً في جماعة من الأعراب فقال : " أيها الناس احمدوا الله على أن وهبني لكم ، فإنني منذ وليت أموركم أبعد الله عنكم الطاعون ، فقال له أحد الحاضرين " إن الله اكرم من أن يجمع علينا الطاعون والمنصور ". وبقصة ذلك الوالي الذي وقف يخطب الناس فأرْتِجَ عليه فمكث ساعة ثم قال : والله لا أجمع عليكم عيّاً ولؤماً ، من أخذ شاةً من السوق فهي له وثمنها علي " . ما أكثر ما يجمع على الأمة الإسلامية هذه الأيام ، من عيّ ولؤم وفساد وإلحاد وعمالة وخيانة ، والمخفي أعظم والله المستعان .

فقد صدرت القرارات وجاء الإعلان بنجاح القمة   إلا أن الحقيقة ظلت تائهة ضائعة  ولو وجد من يقول للمجتمعين عودوا إلى دينكم ، وضمنوا بيانكم الختامي ضرورة الالتزام بالإسلام نظاماً ومنهج حياة ، والعودة إلى الجهاد لحماية الأهل واسترداد ما فقد من الأرض ، أقول لو وجد من يقول ذلك ، لأداروا له ظهورهم وقلبوا له شفاههم  وجعلوه سخرية الاجتماع ، وأخذوه مأخذ الهزل واستخفوا بما قال ، علماً بأننا إن لم نتخذ منهج ربنا دستوراً لحل قضايانا ، فإن معالجة ما تعاني منه الأمة داخلياً وخارجياً هو حلم حالم .   

 إن من بين العرب والمسلمين من يؤيدون السياسة الإسرائيلية . وهم كثرٌ لا أستطيع حصرهم  وبالمناسبة تذكرت قصة الرجل الذي حلف بالطلاق أن الحجاج في النار فأتى ابن شبرمة يستفتيه فقال : يا ابن أخي امضي فكن مع أهلك  فإن الحجاج إن لم يكن من أهل النار فلا يضرّك أن تزني  .

كيف نأمل الخير في الاجتماعات واتخاذ القرارات  وقد تخلينا عن قرآننا ، فأصبحنا أضحوكة الأمم ومهزلة التاريخ ، فلا نعيش إلا تابعين ولا نحيا إلا موجهين ، تُرسم لنا الطريق ونبحث عن سند وصديق ، متناسيين أن الأقوياء لا صداقة عندهم  لأن همهم مصلحتهم وما يحقق مجد أمتهم .

إننا نعيش حياة الذل بدل مجد ضيعناه ، ونهوى الهزيمة بدل النصر الذي فقدناه يتفاوض على قضايانا الأقوياء ، حتى غدونا سلعاً تباع في الأسواق ، أسواق السياسة الدولية .

إن عزتنا وقوتنا لن تكون إلا بالإسلام ، لأنه عماد صمودنا وباعث مقاومتنا ، ومكون حضارتنا وحافز تقدمنا ، وذخيرتنا التي لا تنفذ مع الأيام ، إننا بالإسلام نتحرر من اليأس ولاستسلام ، لأنه يولِّد فينا الثقة بالنصر والتصميم على الجهاد ، ويدفعنا إلى الأخذ بما يحقق النصر وأسبابه ، ويرتفع بنا إلى ذروة التضحية .

لقد عايش المسلمون قديماً أوضاعاً تشبه الأوضاع العالمية هذه الأيام ، كان الروم يومئذٍ يمثلون الدولة الأولى في العالم ، صحيح أن الفرس نازعوهم السيادة ، غير أن حرباً نشبت بين القوتين العظميين انتهت بانهزام الفرس انهزاماً ساحقا ، فانفرد الرومان بالسطوة في أرجاء العالم كله ، تماماً كأمريكا هذه الأيام ، وقد قام الرومان بمطاردة الدعاة الإسلاميين ومنعهم من نشر الدعوة .

وعندما قرَّر النبي صلى الله عليه وسلم محاربة الروم والتصدي لعدوانهم ، فزع الكثيرون وتثاقلوا عن الخروج   وقال بعضهم لبعض : أنى لنا مقاومة هذه الدولة العظمى ؟ فنـزل الوحي يقطع دابر الضعف  ويستأصل روح الهزيمة ، ويطلب إلى المؤمنين أن يسارعوا إلى النفير ، وان يسيروا إلى الروم حيث كانوا دون أي تهيب . وذكَّر المتثاقلين عن الجهاد بأن النصر من عند الله وحده ، لا تمنعه قلة عدد أو عدة ، فماذا كانت النتيجة ؟ إن الله لم يخذل من تعلق به واستند إليه ، وها هو ذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع  راية الحق . فكانت غزوة تبوك  وبعد سنين كانت معركة اليرموك التي انتصر فيها المسلمون على دولة الروم ، أعتى دول الأرض وأوسعها سلطانا في ذلك الوقت ، والتي كانت  تريد الطغيان بباطلها وجبروتها .

إننا في هذه الأيام من المفرِّطين ، والله لا ينصر المفرِّطين ، تماماً إذا تكاسل الواحد منا عن أداء ما عليه وهو قادر ، فكيف يرجو من الله أن يساعده وهو لم يساعد نفسه ؟

وإن ما يجري في فلسطين درس من دروس الجهاد الحية ، يُساق إلى المتواكلين  الذين ينتظرون من الله أن يُقدِّم لهم كل شيء ، وهم لم يقدِّموا شيئا  في الوقت الذي يهبُّ فيه الأعداء لاجتياح الإسلام وبلاده ، والإتيان عليه من القواعد ، فهل نرفع راية الجهاد للعمل على  ما يخزي أعداء الله ويرد كيدهم في نحورهم ، وما يساعدنا على استئناف رسالتنا ودعم حضارتنا ، في الوقت الذي يترنح فيه الوضع الدولي في هذه الفترة  والدواء عندنا وحدنا  فهل ننقذ أنفسنا وننقذ العالمين ؟ .     

 

 

   

هل يجوز اتباع الأهواء في الأحكام الشرعية

 لقد جاءت الشريعة الإسلامية بكل أحكامها وأوامرها ونواهيها ، لتحقيق المصالح وتكثيرها  ودرء المفاسد وتقليلها، قال تعالى: ﴿  وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴾ ولو كان في هذه الشريعة شيء خلاف المصلحة الحقيقية ،لم يصح وصفها بأنها رحمة للعالمين، والله يعلم حقيقة الخلق ومصالحهم ، ولا يفوته - سبحانه – أن يرعى مصالحهم وحاجاتهم ، فقد أرسل الرسل ليخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ، وجاء بهذا الدين ليتولى قيادة الحياة البشرية، وتنظيمها وتوجيهها  وصيانتها. ولم يجئ ليكون مجرد عقيدة في الضمير   أو مجرد شعائر تعبدية تؤدى في الهيكل والمحراب   ورغم ضرورة الشعائر التعبدية وأهميتهما ، إلا أنها لا تكفي وحدها لقيادة الحياة وتنظيمها وتوجيهها وصيانتها ، ما لم يقم على أساسها منهج ونظام وشريعة ، تطبق عمليا في حياة الناس ، ويؤخذ الناس بها بحكم القانون والسلطان ، ويؤاخذ الناس على مخالفتها، ويؤخذون بالعقوبات .

والحياة البشرية لا تستقيم إلا إذا تلقت العقيدة والشعائر والشرائع من منهج الله ، ولا بد  من التسليم لله وتعظيم نصوص شرعه ، وأخذ الدين بقوة ، والبعد عن تتبع الرخص وزلات العلماء قال تعالى :﴿ خذوا ما آتيناكم بقوة ﴾  ويقول لنبيه يحي ﴿ يا يحيى خذ الكتاب بقوة ﴾ .

لقد كثر في هذه الأيام تتبع الناس لفتاوى ورخص العلماء فيما يهوونه ويرغبونه من متاع الدنيا وزينتها ، وإن خالفت هذه الفتاوى من كان أوثق وأعلم وأتقى لله ممن أفتاهم ، ورخص لهم في المسألة التي يريدون ، وإذا ما قلت لأحدهم أن هذا الأمر حرمه أكثر العلماء ، يجيبك بأن فلان أحله وأنا آخذ بفتواه ، مع أن الواجب على المسلم إتباع الدليل ، ومن المعلوم أن أقوال العلماء يستعان بها على فهم الأدلة ، ومن لا علم عنده ولا يستطيع الترجيح بين أقوال العلماء ، عليه أن يسأل أهل العلم ، الذين يوثق بعلمهم ودينهم ويعمل بما يفتونه به ، لقوله تعالى : ﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ﴾ الأنبياء43 . فإذا اختلفت أقوال العلماء ، فعليه أن يتبع   الأوثق والأعلم ، والأخطر من هذا أن أناساً ممن جمعوا بين قلة الفقه ورقة الدين، واتباع الهوى والإعجاب بالنفس، أخذوا يخوضون في أحكام الشريعة، ويفتون في كبار المسائل بلا حجة ولا دليل، ولا بينة ولا برهان، وإنما دليلهم هو المصالح المرسلة أو الضرورة ، التي تقررها عقولهم القاصرة، وتدعو لها أهوائهم الضالة وإراداتهم الفاسدة، فأباحوا كثيراً من المحرمات، وأنكروا كثيراً من المشروعات، لأنها بزعمهم خلاف المصلحة التي هي مقصود الشارع، بل وصل الحال ببعضهم إلى أن يتبنى عن حسن نية أو سوء نية   أحد هذين المنهجين الخطيرين، وكلاهما كفيل بهدم الدين والتشكيك في أحكامه القطعية  وثوابته الشرعية، لذلك لا يجوز للمسلم أن يأخذ من أقوال العلماء ما يوافق هواه ، ولو خالف الدليل ، ولا أن يستفتي من يرى أنهم يتساهلون في الفتوى ، بل عليه أن يحتاط لدينه ، فيسأل من أهل العلم ، من هو أكثر علماً ، وأشد خشية لله تعالى ، فنحن متعبدين بالنص لا بأقوال العلماء   فمن الناس من يسأل عالماً ، فإذا لم توافق فتواه هواه سأل آخر ، وهكذا حتى يصل إلى عالم يفتيه بما يهوى وما يريد ‍‍!! ولهذا قال العلماء : من تتبع ما اختلف فيه العلماء ، وأخذ بالرخص من أقاويلهم  تزندق ، أو كاد . والزندقة هي النفاق  ، ورد في كتب الفقه مسائل فقهية ، تَبَيَّنَ خطأ قائلها من أهل العلم، بسبب خفاء النص عليه، أو لغير ذلك من الأسباب المعروفة التي لأجلها يختلف العلماء  ولئن كان ذلك الإمام معذوراً مأجوراً ، لخفاء النص عليه أو لغير ذلك من الأسباب ، فما عُذْرُ من بلغه النص عن الله أو عن رسوله؟! ثم يدعي بعد ذلك أنه يجوز له الأخذ بذلك القول لأجل أنه قد قيل به! والمصيبة أن بعض الناس وجد في بعض تلك الأقوال ، التي قد تكون شاذةً في المقياس الفقهي ، وجد فرصةً للأخذ بها، بحجة أنه قد وجد في هذه المسألة قولاً يقول بالإباحة! ضارباً عرض الحائط بالقول الآخر ، الذي يكاد يكون إجماعاً أو شبه إجماع من السلف الصالح على تحريم هذا الفعل أو ذاك القول! أليس لهؤلاء نصيب من قوله تعال : ﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ﴾ ؟!

ولم لا يتذكر المترخصون قوله تعالى: ﴿ بل الإنسان على نفسه بصيرة﴾ وقوله صلى الله عليه وسلم : ( البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب والإثم ما حاك في النفس، وتردد في الصدر ) وهذا المعنى   الذي دلّ عليه الحديث ، إنما يجده من بقي في قلبه بقية من نور، لم تطمسها ظلمة الشهوات والشبهات! أما من هام في أودية الفسق والفجور  فإن قلبه لا يفتيه ، إلا بما تهواه نفسه! وما أجمل ما حكاه ابن الجوزي: عن نفسه، وهو يصف حالاً مرّت به، تشبه ما نحن بصدد الحديث عنه من أحوال بعض المترخصين اتباعاً لأهوائهم، يقول:

"ترخصت في شيء يجوز في بعض المذاهب فوجدت في قلبي قسوة عظيمة، وتخايل لي نوع طرد عن الباب وبُعْدٌ، و ظلمة تكاثفت! فقالت نفسي: ما هذا؟ أما خرجت عن إجماع الفقهاء؟ فقلت لها: يا نفس السوء! إنك تأولت ما لا تعتقدين، فلو استُفْتِيْتِ لم تفتِ بما فعلتِ ، وأنه ينبغي لك يا نفسُ الفرح بما وجدت من الظلمة عقيب ذلك؛ لأنه لولا نورٌ في قلبك ما أثر هذا عندك!" . يقول العلامة عبد الكريم الخضير :" ليس للمسلم أن يختار أسهل الأقوال ، لأنه بهذه الطريقة يتنصَّل من التكاليف الشرعية أو جُلِّها   بل على الشخص أن يختار من أقوال العلماء أرجحها من حيث الدليل ، إن كان أهلاً للنظر والموازنة ، وإن لم يكن فعليه أن يُقلِّد أوثق العلماء في نفسه علماً ، وديناً ، وورعاً قال الله  تعالى : ﴿ وبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ﴾ وقال تعالى: ﴿ ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن ﴾ فالحق واحد ثابت ، والأهواء كثيرة متقلبة ، وبالحق الواحد يدبر الكون كله , فلا ينحرف ناموسه لهوى عارض ، ولا تتخلف سنته لرغبة طارئة   ولو خضع الكون للأهواء العارضة والرغبات الطارئة لفسد ، وفسد الناس معه ، ولفسدت القيم والأوضاع ، واختلت الموازين والمقاييس  فما شهد له الشرع بالصلاح فهو المصلحة، وما شهد له بالفساد فهو المفسدة  والخروج عن هذا المعيار معناه اتباع الهوى ، والهوى باطل لا يصلح لتمييز الصلاح من الفساد ، ومن تأمل كلمة الهوى في القرآن الكريم، لم يجدها ذكرت إلا في موطن الذم! ولهذا حذر الله نبياً من خيرة أنبيائه من هذا الداء القلبي الخطير فقال: ﴿ يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ ص 26! فالمقصود بالذم هنا، هو من اتبع هواه في الاستفتاء، بحيث يتنقل بين المفتين، فإن وافقت الفتيا ما في نفسه طبقها ، وإلا بحث عن آخر حتى يجد من يفتيه، وهذا هو اتباع الهوى بعينه، وقد أحسن ابن دريد في  مقصورته :

وآفة العقل الهوى فمن علا على هواه عقله فقد نجا

فالحق هو ما جاء به الشرع الحنيف، وما عداه فهو الهوى ، ولو كانت العقول البشرية المجردة قادرة على تمييز الحلال من الحرام، وإدراك المصالح والمفاسد الحقيقية ، لما كانت هناك حاجة لإرسال الرسل وإنزال الكتب السماوية!،

إن اعتماد بعض الناس في فهم المصالح والمفاسد على خبراتهم العادية ، وموازينهم العقلية، هو الذي جعلهم يتصورون أن التعامل بالربا ضرورة لا بد منها لتنشيط الحركة التجارية، والنهوض بها   أو شراء شقة يسكنها أو سيارة يركبها ، وهو الذي صور لهم أن العقوبات الشرعية، كعقوبة القصاص، وقطع يد السارق، ورجم الزناة، وجلد السكارى، غير ملائمة لهذا العصر، لما تنطوي عليه من قسوة وبشاعة، وهو الذي صور لهم أن الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله ، وحشية وهمجية لا تلائم روح العصر، ولا تتفق ومواثيق الأمم المتحدة ، والأعراف الدولية السائدة ، وهو الذي صور لهم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيه تعد على حريات الناس، وتدخل في خصوصياتهم ، لذا يجب تركه وإهماله ، إلى غير ذلك من الأمثلة من أناس لم يستنيروا بنور الشرع، ولم يهتدوا بهدي الله قال تعالى : ﴿ وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾ الزمر 23 وقال :  ﴿ وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ ﴾ النور 40 .

يقول الإمام الشاطبي في الموافقات 37 : "المصالح المجتلبة شرعاً، والمفاسد المستدفعة، إنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى، لا من حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية، أو درء مفاسدها العادية" .

وما جاءت الشريعة إلا لتخرج المكلفين عن دواعي أهوائهم، حتى يكونوا عباداً لله اختياراً كما هم عبيد له اضطراراً قال تعالى : ﴿ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ﴾ المؤمنون71 . فقد زادت الأهواء واستولت الشهوات على النفوس، ورق الدين وهان شأنه   عند الناس ، فكان من واجب الدعاة إلى الله اتباع المنهج الشرعي، والتيسير فيما يسر فيه الشرع  وأخذ الناس بالحسنى، وألا يؤدي الترخص إلى تهوين شأن العبودية والتسليم لله ، وتعويد الناس على الجرأة على معصية الله  ، وألا يدعونا فساد الواقع إلى تطويع الشرع لتسويغه قال الله تعالى : ﴿ ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه ﴾ . 

 

 

 

ما هي أهمية المسجد في الإسلام

المساجد بيوت الله تعالى، ومن أحب الله تعالى أحب بيوته، وأكثر من زيارتها قال تعالى: ﴿ وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً ﴾ 18 الجن. والضيف إذا نزل بساحة الكرماء، و منازل العظماء، أصابه جودُهم وفضلُهم، ونال من أعطياتهم وغنم من إكرامهم، فكيف بضيف نزل بأكرم الأكرمين، وحلّ على رب العالمين..؟ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيما يرويه عن ربه: ( إنّ بيوتي في أرضي المساجد، وإنّ زوّاري فيها عمّارها، فطوبى لعبد تطهّر في بيته ثم زارني في بيتي فحقّ على المزور أن يكرم زائره ) رواه أبو نعيم.  ولا شك أن أعظم هذه الكرامات، وأفضل هذه الأعطيات، أن يذيقه الله تعالى لذة قربه وحلاوة مناجاته، وأن يمنحه شهادة الإيمان.  فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان، قال الله تعالى:﴿ إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر ﴾ رواه الترمذي. وفي منازل القيامة، وأهوال مشاهدها، يكون في ظل عرش الرحمن آمنا مطمئنا جاء في حديث رسول الله : ( سبعة يظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله –ذكر منهم - ورجل قلبه معلق بالمساجد ) متفق عليه. ثم يصله تعالى بنعمة الجنة، وما أعده له فيها من نعيم مقيم ، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من غدا  إلى المسجد أو راح  أعدّ الله له في الجنة نزلا كلما غدا أو راح ) متفق عليه.

وإذا كان حق الضيف إكرامه، فإن من واجبه معرفة قدر من يزور، والاستعداد لزيارته   والتأدب في حضرته بما يليق وجلال المزور وعظمته ، فهو المدرسة الأولى التي تخـرَّج فيها الصحابة رضي الله عنهـم. فقد كـان لهـم كبير الأثر في جميع المجالات العلمية والدعوية والقضائية والأدبية وغيرها ، فقد أدى المسجد دوره وقام برسالته التي أقيم من أجلها؛ فلم يكن المسجد دار صـلاة فحسـب ، بـل كـان دار اجتماع لكـل المسلمـين ، ومـركزاً لإرسال السرايا والجيوش ، ومنه انطلــق الدعـاة إلى اللـه يعلِّـمون النـاس الخير.

ففد كان المسجد روح المجتمع الإسلامي    ولذلك كان فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الأول عندما هاجر إلى المدينة ، أن يبني المسجد ، حتى يكون مَحْضِناً للرجال ومصنعاً للأبطال ، وكما نعلم أن المصانع نوعان : مصانع للسلع أو الأسلحة ومصانع للرجال ، والحقيقة أن المسجد كان مصنعاً للرجال ، وكل أمة ليس لديها مصنعاًً للرجال ، فإن الأسلحة مهما كثرت فلا تغني عنها شيئا ، أما لماذا اهتم الرسول صلى الله عليه وسلم بإقامة المسجد ، لأن الناس الطيبين يوم يكون كلٌ منهم منطوٍ على نفسه بعيدٍ عن أخيه ، لا ينجحون في مقاومة الباطل والضلال ، ولذلك نرى أن الأعداء بالرغم من النجاح العسكري في غزو بلادنا ، فقد عملوا وبجد على ُسحب الإسلام من ميدان المقاومة ، وأن يجعل المسلمين المهزومين لا يلتقون في المساجد لقاءً نافعاً ، وقد تحقق لهم ما أرادوا   فقد أصبحت المساجد صوراً  وأصبح الكلام الذي يلقى فيها ميتاً ، فهانت المساجد رسالة  وهانت مظهراً وجوهراً ، وقد استطاع أعداؤنا أن يجعلوا صلتنا بالمسجد مبتوتة ، بينما تشبثوا بعقائدهم الباطلة في كنائسهم .  

كان المسجد يشكل الملتقى الروحي للناس فيعبدون الله فيه ، ويتعلمون العلوم النافعة لهم في دينهم ودنياهم، ويجتمعون فيه للتداول في أمورهم الداخلية والخارجية، فكانت تنطلق من منابره التوجيهات والتخطيطات المتعلقة بتنظيم حياتهم   كما كانت تنطلق منها صيحات الجهاد. وقد سارت حياة المسلمين في مساجدهم على هذا النحو ، بحيث جسّدت المفهوم الإسلامي للعبادة التي تنفتح على الله سبحانه، لينفتح الناس من خلال ذلك على الحياة في مواقعها المضيئة المتحركة في سبيل الخير.

لقد أصبحت المساجد هذه الأيام ، تعاني من اللغط واللهو والنوم ، وقضاء الأوقات في الأحاديث الدنيوية ، وربّما تعاطي الغيـبة والنميمة  والكذب ، وتناول أعراض المسلمين   وجلوس الناس في المسجد على هذا النحو يخالف أدب المسجد  لحديث أنس مرفوعاً وابن مسعود كذلك : (سيكون في آخر الزمان قومٌ يجلسون في المساجد حلقاً حلقاً، أمامهم الدنيا فلا تجالسوهم، فإنه ليس لله فيهم حاجة) أخرجه ابن حبّان والطّبراني وإسناده حسن . فالتحدث في المسجد في أمر الدّنيا ، وما جرى لفلانٍ ، وما جرى على فلانٍ ، مخالف لتعظيم المساجد ورعاية حرمتها وتنزيهها عن كل ما لا يليق بها ، لذلك طلب من الداخل إلى المسجد ، صلاة ركعتين سنة تحية المسجد قبل الجلوس ، وقبل التكلم مع الغير ، روي عن أبي قتادة  رضي الله عنه  أن رسول الله  صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا دخل أحدُكم المسجد فلا يجلس حتَّى يُصلي ركعتين ) رواه البخاري ، فكم هو عظيم وجليل وجميل أن يفتتح المسلم دخوله إلى بيت من بيوت الله في الأرض بركعتين يُعلِنُ بهما السمع والطاعة   والخشوع والخضوع لله سبحانه ، قطعاَ للحديث بين المصلين ، وانتظاراً للصلاة في  خشوعٍ ووقارٍ وسكينة ، وما يفعله بعض الناس من التحدث قبل الصلاة ، مناف لما أمرنا الله تعالى به من صيانة المساجد وتعظيمها، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بعدم التشويش على المصلي ولو بقراءة القرآن فكيف بالتشويش عليه بأحاديث تتنافى مع آداب المساجد وتعظيمها ، إضافة إلى  التسبّب في هتك حرمتها ، عن السائب بن يزيد الصحابي قال:( كنت في المسجد فحصبني رجل فنظرت فإذا عمر بن الخطاب فقال: اذهب فأتني بهذين، فجئته بهما  فقال: من أين أنتما؟ فقالا: من أهل الطائف   قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ) رواه البخاري.

 لقد ارتبط تاريخ الأمة الإسلامية بالمسجد ارتباطاً وثيقاً ، لأن الإسلام لم يقْصر رسالة المسجد على أداء الصلاة فحسب ، بل أراد أن يكون له دور إيجابي ، وأهداف سامية تخدم المجتمع الإسلامي  فكما أن المسجد محراب للعبادة، فهو مدرسة للعلم، وندوة للأدب ، ومصحة للأرواح ، لهذا نتمنى أن تعود للمسجد رسالته السامية، ومكانته التي كان عليها في صدر الإسلام ، ليعيش المسجد في هذا العصر ، كما كان في الماضي ، وأن لا يقتصر دوره على أداء الصلوات ، وطلب العون والمساعدات والإعلان عن المفقودات ، وعلى مداخله تباع السلع والحاجيات ، عن أبي ذر قال : قلت يا رسول الله كيف تعمر مساجد الله ؟ قال : ( لا ترفع فيها الأصوات، ولا يخاض فيها بالباطل ولا يُشتر فيها ولا يُباع واترك اللغو ما دمت فيها، فإن لم تفعل فلا تلومنّ يوم القيامة إلا نفسك ) . فيه النهي عن الاشتغال بأمور الدنيا  والبيع والشراء، والبحث عن ضائع ، كما جاء النهي عن ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم  حينما رأى رجلاً ينشد ضالته في المسجد فقال له : ( لا رده الله عليك فإن المساجد لم تبنى لهذا ) لماذا قال ذلك . لأن المسجد مكان للعبادة ، ولذلك نقول لمن يتحدث في المسجد بأي شيء يتعلق بحركة الحياة " أبشر بأنها لن تنفع " لأنك دخلت المسجد للعبادة فقط ، فلحظة دخولك المسجد هي لحظة جئت فيها لتتقرب من ربك وتناجيه ، وتعيش في حضن عنايته ، فلماذا تأتي بالدنيا معك ؟ وليكن لنا في أحد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة حسنة كان يقول : كنا نخلع أمر الدنيا مع نعالنا     فقال له صحابي آخر وزد : إننا نترك أقدارنا مع نعالنا . لا يخلع الدنيا مع نعله فقط على باب المسجد ، ولكن يخلع أيضاً قدره في الدنيا . لأن الدنيا يا أخي تأخذ منك ساعات اليوم الكثيرة   ولكن المسجد لن يأخذ منك إلا الوقت القليل   فضع قدرك مع نعلك خارج المسجد ، وادخل بلا قدرٍ إلا قدر إيمانك بالله ، واجلس في المكان الذي تجده خالياً ، ولا تتخط الرقاب لتصل إلى مكان معين في المسجد ، كما نلاحظ من يتخطى الرقاب ليجلس في الصف الأول ، وما درى أن الله قد صف الصفوف قبل أن يأتي هو إلى المسجد   فاجلس حيث ينتهي بك المجلس ، ولا تتخط الرقاب ، فقد كان رسول الله يجلس حيث ينتهي به المجلس ، أي عندما يجد مكانا له .

وللمسجد آداب منها : الذهاب إلى المسجد على طهارة تامة، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ﴿ من تطهر في بيته ثم مضى إلى بيت من بيوت الله، ليقضي فريضة من فرائض الله، كانت خطواته إحداها تحطّ خطيئة والأخرى ترفع درجة ﴾ رواه مسلم ، كما ينبغي المحافظة على المظهر الحسن ، ولبس الثياب النظيفة، والتجمّل والتطيّب ، عند ارتيادها والدخول إليها عملاً بقوله تعالى : ﴿ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ﴾ الأعراف 31 . ومعنى ذلك أن يلبس المصلي لباساً لائقاً بالمساجد ، و الحذر من ارتيادها بملابس غير لائقة ، كأن يأتي الإنسان إلى المسجد بثياب النوم أو بملابس العمل المتسخة   فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يلبس أحسن ثيابه ، لأن الإنسان يقف بين يدي الله عز وجل فيجب أن يستشعر عظمته والتجمل والتزين بأحسن الثياب وأطهرها أرأيت لو دعيت لمقابلة ملك أو مسئول في الدنيا ، ألا تلبس أحسن الثياب ، فكيف وأنت تقف بين يدي ملك الملوك ورب الأرباب.  

ومنها : تجنب أكل الثوم أو البصل، وما له رائحة كريهة، عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من أكل ثوما أو بصلا فليعتزلنا، أو فليعتزل مسجدنا ) متفق عليه.

ومنها : صيانة المسجد من الأطفال والمجانين  وتشجيع الصبية الذين تجاوزوا السابعة وإحضارهم الى المسجد تعويدا لهم على العبادة، وتحبيبهم بالمساجد مع تعليمهم آدابها قبل دخولها، والإشراف عليهم أثناء وجودهم فيها لتوجيههم وتنبيههم عند الإخلال بحرمتها أو مخالفة آدابها  .

ولكن المساجد هذه الأيام تعاني من الأطفال الذين يلعبون و يتسامرون داخل بيت الله على مرأى من الكبار و الرجال دون وجود من يوجههم أو يرشدهم، حتى وضعية جلوسهم التي تدل على أنهم لا يعرفون آداب المسجد، لكن الخطأ ليس خطأهم إن ذهبوا للمسجد بدون مرافق، بل الذنب على أولياء أمورهم بالدرجة الأولى الذين لا يصطحبون أبنائهم معهم ، ولا يحرصون على إبقائهم بجانبهم أثناء الصلاة ، وتعليمهم ما لا يعرفونه إن أخطأوا ، حتى تكون نشأتهم الدينية سليمة و يحسوا بقيمة بيوت الله ، لأن الطفل المؤذي والمشوش على المصلين يجب تعليمه وتربيته على آداب المساجد وصيانتها عن الأذى والإيذاء، فإن لم يفهم ولم يعقل وجب منعه ، بإجماع الفقهاء ، وما صدر عن دور الإفتاء في هذا العصر

يقول الشيخ عبد الله  الجبرين رحمه الله :

"منع الصبيان ونحوهم من المساجد عند خوف العبث واللعب فيه: وذلك أن من طبيعة الأطفال كثرة اللعب والحركة، والتقلب والاضطراب، مما يشوش على المصلّين والقراء، وأهل الذكر والعلم، ولا يستطع وليه التحكم في تسكينه غالبًا، فهو في الصلاة يكثر الالتفات والتقدم والتأخر، ومد اليدين، وحركة القدمين، وذلك مما يشغل من يصلي إلى جانبه، ويلهيه عن الإقبال على صلاته، مما يذهب الخشوع، وينقص الأجر، ثم إن الأطفال الذين دون سن التمييز لا يؤمن تلويثهم للمسجد، فقد يحصل منهم التبول ونحوه، والروائح المستكرهة، واللعاب والبصاق ونحو ذلك، لعدم فهمهم بحرمة المكان، وصعوبة تأديبهم، والتحكم فيهم، فلذلك يتأكد على أوليائهم منعهم من دخول المساجد إلا بعد التأكد من فهمهم، وتعلمهم احترام المسجد، وتربيتهم على النظافة والأدب، وحفظهم عن كثرة الحركة وما يسبب ضررًا أو تشويشًا للمنظر الظاهر في بيوت الله التي أذن أن ترفع.

 

 

 

 

 

 

 

 

ما هي القلوب القاسية

  هي التي ألفت رؤية المنكرات  ورؤية النكبات التي تحيط بالأمة من كل جانب , حتى أضحت أخبار قتلى المسلمين ومناظر القصف والتشريد أمراً مألوفا ، قلوب انعدمت عندها عاطفة الإحساس بآلام الآخرين وحاجاتهم        فقست قلوبهم  وتحجرت ، فلم تعد الشدّة تثير فيهم الإحساس وتردهم إلى الله ، وأصبحت لا تلين عند ذكر الله ، ولا يزيدها التذكير بالله إلا قسوة ونفورًا  فكانوا أبعد الناس عن الله ،كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله ، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب، وإن أبعد القلوب عن الله القلب القاسي ) . ويقول مالك بن دينار : ما ضُرب عبدٌ بعقوبة أعظم من قسوة القلب   وما غضب الله على قوم إلا نزع الرحمة من قلوبهم  

أصحاب القلوب القاسية اشتغلوا باللهو والتمتع بمحرم الشهوات ، عن طاعة رب الأرض والسماوات  فأسماعهم عن الخير مقفلة ، وأبصارهم عن النظر في العواقب معطلة ، وقلوبهم في وجه الحق مغلقة ، تتلى عليهم الآيات فلا يعتبرون ، وتطرقهم القوارع وتنزل بساحتهم الفواجع ، وهم بلهوهم وملذاتهم مشتغلون   خدعهم طول الأمل ، فشغلهم عن صالح العمل   والاعتذار عن الزلل .

لقد كثرت أسباب القسوة والغفلة ، فلم يبق للعبد إلا توفيق الله تعالى إلى العمل بأسباب صلاح القلوب واستقامتها، وقد كان المسلمون من قبل يعتنون بذلك   ويخافون من أن تقسو قلوبهم ، فتجترئ على المعاصي وتهلك مع من هلك! وشتان بين القلب القاسي والقلب اللين لأن القلب القاسي مصدره التطرف والاستكبار والغرور ، والثاني  مصدره الاعتدال والتواضع واللين  الأول : غير قابل للمراجعة والتراجع ، المؤدي إلى الفرقة والجهل والتخلف والضعف ، والثاني : قابل للمراجعة والتراجع المؤدي إلى الإيمان ، الأول: خزي وندامة في الدنيا والآخرة ، لأنه نقمة ولعنة من الله على من سخط من عباده والثاني: علو وسعادة في الدنيا والآخرة لأنه نعمة ورحمة من الله .

 وقد أوضح القرآن الكريم الفارق الكبير بن قسوة القلب وقوته ، فقد وصف الله تعالى الذين لم يؤمنوا بأنبيائه ورسله بالقسوة قال تعالى ]ويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله[الزمر 22. ويل ، عذاب ونكال لقلوب قست عن ذكر الله ، بينما النعيم والرحمة والسعادة والفوز لقلوب انكسرت وخشعت لله .

  إن أصحاب القلوب القاسية ، لا يؤمنون بتعظيم الإسلام للنفس المسلمة والتشديد في النهي عن قتلها لأنهم لا يؤمنون بالله الذي صانها ، ووضع لها القيود للحفاظ عليها، قال تعالى: ﴿ وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقة مؤمنة ودية مسلمة الى أهله إلا أن يصدقوا ﴾ النساء92. مما يدل على التشديد في حرمة النفس المسلمة فإذا كان الإسلام قد وضع هذه القيود على من قتل مسلماً خطأ فكيف بمن يزهق الأرواح البريئة المسلمة بغير حق، كيف بمن يزرع القنابل والألغام والمتفجرات ، فيقتل العشرات ويجرح المئات ويروع الآلاف من المسلمين، كيف بمن يقتل الصغير والكبير   إشباعاً لنزواته الشيطانية ، كيف بمن استعملوا نفوذهم كحكام وأباطرة للدول ، في تعذيب شعوبهم وإذاقتهم ويلات الظلم والقهر ، ومن يقرأ صفحات التاريخ يجد بعضها يقطر دماً ، ومن هذه الصفحات المؤلمة : ما قرأناه عن جرائم محاكم التفتيش ، فما مرّ أقسى ولا أشد منها ، فقد كانوا تعاقبون بالظنة ويأخذون بالشبهة ويحرقون الأطفال ويرهقون الشيوخ العجزة والنساء الضعيفات بصنوف العذاب وألوان الاضطهاد والإجرام .

ففي بلد المليون ونصف شهيد واصل الاستعمار الفرنسي طيلة سنوات الاحتلال حملة إبادة لشعب الجزائر بحيث كان جنوده يسجلون كل يوم صفحات جديدة من الجرائم كانت ادمي واشد آلاماً مما شهده تاريخ القرن العشرين ، قال الكاتب الفرنسي بيار هنري : إنني لا أتكلم كثيرا عن القسوة والتعذيب وإلقاء القنابل علي المدن والقرى بما فيها من نساء أطفال ومواشي ولا أتكلم عن حوادث القتل التي قام بها جنود المظلات إذ من السهل علي كل مسافر بالقطار أن يشاهد علي طول الطريق آثار حطام المنازل التي أوقدت فيها نيران رشاشاتنا للانتقام ، إن الجنود الفرنسيين يقومون غالباً بهدم المنازل وإحراقها دون شفقة أو رحمة وقال : لم يصيبني ملل من الحياة كما أصابني في الجزائر ، فان الألمان النازيين في وحشيتهم القاسية ليسوا إلا أطفالاً صغاراً أمامنا .

ولم تكن بريطانيا رائدة الاستعمار في العالم بأقل حظاً من فرنسا فما فعلته في مصر وفلسطين ، يفوقها وحشية وهمجية ، فقد كان جيشهم عندما يعجز أن ينال من المجاهدين ينقلب إلى الفلاحين المساكين الآمنين في بيوتهم ينتقم منهم ويشفي صدره بتعذيبهم بالضرب الشديد بأعقاب البنادق والهراوات الغليظة بلا شفقة ولا رحمة وبدون تفريق بين الصغار والكبار والرجال والنساء وكانوا يسمون هذا العمل عملية تفتيشية يرتكبون خلالها من الفظائع أشكالا وألوانا ، كتخريب البيوت ونسفها بالديناميت وإتلاف أمتعة الفلاحين ومؤنهم ونهب الحلي والأموال وترويع النساء والأطفال وقتل الآمنين على قارعة الطريق من رجال ونساء وأطفال

ومن الصفحات التاريخية المؤلمة تطل علينا شخصية نيرون الإمبراطور الروماني الذي لم يدخر جهداً في تعذيب أبناء شعبه وقتل القريب منه والبعيد، جاء ليدون واحدة من أبشع الجرائم التي ارتكبت  وهي حريق روما الشهير عام 64م، حيث عمل على زيادة تعذيب الشعب وجاءت أبشع صور طغيانه بإشعال النار في روما وجلس متفرجاً، متغنياً بأشعار هوميروس ومستعيداً لأحداث طروادة وانتشرت النيران في أرجاء روما واستمرت مندلعة لأكثر من أسبوع حاصدة معها أرواح البشر من رجال ونساء وأطفال، كما زاد في جوره وطغيانه للمسيحيين ولم  يترك أي وسيلة لتعذيبهم إلا وفعلها ، ولما تصاعدت النبرة الغاضبة الكارهة له سواء من شعبه أو من باقي ملوك أوربا، عمد إلي إيجاد ضحية جديدة ليفتدي بها نفسه فكان عليه أن يختار ما بين اليهود والمسيحيين، وبما أن اليهود كانوا تحت حماية إحدى زوجات نيرون، فقد ألصق تهمة الحريق بالمسيحيين   فسفك دمائهم وعمد إلى اضطهادهم، وحشد الشعب من أجل قتلهم وتعذيبهم في مشاهد دموية بشعة ، وفي النهاية ولكل ظالم نهاية تم عزله وحكم عليه بالقتل ، لكنه أبى أن يقتل بيد شعبه فقتل نفسه

وها نحن نرى ما يفعله نيرون العرب في سوريا ، فقد فاقه قتلاً وهدما ، ولكن الصمت الدولي يفوق جرائمه  بل إن الصمت على ما يجري جريمة أخرى لا يمكن السكوت عليها ، فالدماء التي تسفك في سوريا تستدعي وقفة العالم الذي يقف في حالة  ذهول من بسالة وشجاعة وصبر وجلد الشعب السوري في مواجهة آلة قمع ليس لها مثيل أو شبيه في هذا الزمن ؛ حتى الصهاينة والصليبيين يتقززون منها ولا يجرؤن على فعل مثلها .

فلله دره من شعب يجاهد الظلم والطغيان فريدا وحيدا إلا من توكله على  الله ، ولله در شهدائه الأبرار الذين ارتوت أرض الشام من دمائهم وستنبت بإذن الله أشجار العزة والحرية والإيمان ، ولله در شبابه الذين تركوا السفاسف وألقوا أثقال الأرض خلف ظهورهم ؛ وركبوا ظهور المنايا شامخي الرؤؤس يستقبلون الموت بابتسامة الرضا ، وقلوبهم تهتف وعجلت إليك ربي لترضى ، ولله در شيوخه الذين كسروا قيود الذل وحطموا أغلال العبودية ؛ فاستحالوا أسودا فتية في ميادين الكرامة على ضفاف العاصي والفرات وحول مسجد خالد بن الوليد وفي باحات درعا الريادة وبانياس النجدة ولاذقية النخوة ولله در علمائه ومثقفيه ومفكريه الذين خلعوا أرديت الضعف عن كهولهم ؛ ومزقوا صورة الهلع من عقولهم وصدعوا بكلمات سيسجلها التاريخ في أبواب البطولات وسيكتبها الزمان في كتب الهامات ، شعب توكل على الله وآمن بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وَاعْلَمْ أنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وأنَّ الفَرَجَ مَعَ الكَرْبِ ، وأنَّ مَعَ العُسْرِ يُسراً ) والله إن النصر قريب والفرج قاب قوسين أو أدنى , ولقد قالت العرب: (بين النصر والهزيمة صبر ساعة)، وهذا عنترة بن شداد الفارس الجاهلي لما سئل: بم تغلب خصمك؟ قال: (ما بارزت أحداً إلا قلت: الآن أفر، ثم قلت: أنتظر قليلاً فربما فر، فيفر، فأكون أنا الذي انتصرت) فهذا الذي يحدث الآن من هذا النظام الوحشي هو السهم الأخير في جعبته وبعده تبدأ قصة النهاية والانهيار الشامل بإذن الله ، وإنكم تعيشون أروع لحظاتكم فأنتم مابين جهاد سلمي للظلم والبغي والطغيان   وهذا ذروة سنام الجهاد (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر) ؛ وما بين الفوز بالشهادة التي هي منتهى أمنيات الأنبياء والرسل والصحابة وأهل الصدق والإيمان   وما بين كفالة يتيم ورعاية أرملة وإيثار عائلة وتقاسم لقمة واستضافة أخوة ، فهنيئا لكم اجتماع شرف هذه الأعمال وشرف المكان أرض الشام .

 

 

 

 

 

هل يصح إخراج الزكاة للابنة المتزوجة المحتاجة ؟

  إن كل من اتصف بوصف يستحق به الزكاة فالأصل جواز دفع الزكاة إليه وعلى هذا فإن كان الرجل لا يمكنه أن ينفق على ابنته وأولادها فيدفع الزكاة إليها ، لكن الأفضل والأحوط والأبرا للذمة أن يدفعها إلى زوجها ، لأن الأصلُ أنه لا يجوز إلا في الحال التي لا تجب فيها نفقتها، كأن يكون الوالد عاجزا عن الإنفاق عليها، أو أن تعطى لوصف آخر غير الفقر كأن كانت غارمة وليس لها ما تقضي به دينها،  فيجوزُ له أن يدفع إليها من مال الزكاة ، وإن كانت البنت تحت زوج موسر ينفقُ عليها فلا يجوزُ دفع الزكاة لها وإن كانت فقيرة لكونها غنية بنفقة زوجها.

قال ابن قدامة في المغني: وإن كان للمرأة الفقيرة زوج موسر ينفق عليها لم يجز دفع الزكاة إليها، لأن الكفاية حاصلة لها بما يصلها من نفقتها الواجبة فأشبهت من له عقار يستغني بأجرته، وإن لم ينفق عليها وتعذر ذلك جاز الدفع إليها كما لو تعطلت منفعة العقار  وقد نص أحمد على هذا. انتهى.

فإن أعسر الزوج بالنفقة، فهل تجبُ النفقة على الأب؟ في هذا قولان للعلماء، فمذهب المالكية وجوبها عليه ، ومذهب الشافعية عدمُ وجوبها عليه .  وظاهرُ اختيار الشيخ العثيمين الوجوب ، فإن قلنا بعدم وجوب النفقة على الأب في هذه الحال، فلا حرج في أن يدفع لابنته من مال الزكاة، وإن قلنا بوجوبها عليه لم يجز له دفع الزكاة إليها إلا إذا كان عاجزاً عن نفقتها ، وله أن يدفع الزكاة إلى زوجها الفقير على كل حال، وهذا أولى بلا شك خروجاً من خلاف من منع دفع الزكاة للبنت في هذه الصورة ، وعندما سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله هل يصح إخراج الزكاة للابنة المتزوجة المحتاجة ؟ أجاب فضيلته بقوله : كل من اتصف بوصف يستحق به الزكاة فالأصل جواز دفع الزكاة إليه، وعلى هذا فإن كان الرجل لا يمكنه أن ينفق على ابنته وأولادها فيدفع الزكاة إليها، والأفضل والأحوط والأبرأ للذمة أن يدفعها إلى زوجها. انتهى.

وقال أيضاً : إن هذا الرجل الذي عنده بنات متزوجات وأزواجهن فقراء إذا لم يكن عنده مال يتسع للإنفاق عليهن فلا بأس أن يدفع زكاته إليهم، وليدفع المال إلى الأزواج؛ لأنهم هم المسؤولون عن الإنفاق، فلا بأس بذلك على كل حال. انتهى.

وخلاصة القول : إذا جاز دفع الزكاة للبنت أو كانت ستدفع إلى زوجها، فجائزٌ أن تُعطى جميعها إليها .

  

 

 

ما حكم المصافحة بين الرجال والنساء– منقول -
ما حكم المصافحة باليد بين الرجال والنساء خصوصًا الأقارب وما تدعو إليه الحاجة كالقدوم من سفر أو الشفاء من مرض أو العودة من حج أو عمرة ونحو ذلك من المناسبات.  إن قضية مصافحة الرجل للمرأة قضية شائكة، وتحقيق الحكم فيها بعيدًا عن التزمت والترخص يحتاج إلى جهد نفسي وفكري وعملي حتى يتحرر المفتي من ضغط الأفكار المستوردة، والأفكار المتوارثة جميعًا إذا لم يكن يسندها كتاب ولا سنة، وحتى يستطيع مناقشة الأدلة وموازنة الحجج بعضها ببعض لاستخلاص الرأي الأرجح والأدنى إلى الحق في نظر الفقيه، الذي يتوخى في بحثه إرضاء الله، لا موافقة أهواء النساء  ، قال الدكتور القرضاوي : أود أن أخرج صورتين من مجال النزاع أعتقد أن حكمهما لا خلاف عليه بين متقدمي الفقهاء فيما أعلم:

الأولى: تحريم المصافحة للمرأة إذا اقترنت بها الشهوة والتلذذ الجنسي من أحد الطرفين: الرجل أو المرأة، أو خيفت فتنة من وراء ذلك في غالب الظن، وذلك أن سد الذريعة إلى الفساد واجب، ولاسيما إذا لاحت علاماته، وتهيأت أسبابه.
ومما يؤكد هذا ما ذكره العلماء أن لمس الرجل لإحدى محارمه، أو خلوته بها وهي من قسم المباح في الأصل تنتقل إلى دائرة الحرمة إذا تحركت الشهوة، أو خيفت الفتنة - الاختيار لتعليل المختار في فقه الحنفية، ج4 ، ص 155. وخاصة مع مثل بنت الزوجة أو الحماة أو امرأة الأب، أو أخت الرضاع اللائي ليس لهن في النفوس ما للأم أو البنت أو الأخت أو العمة أو الخالة أو نحوها    .   الثانية: الترخيص في مصافحة المرأة العجوز التي لا تشتهى ومثلها البنت الصغيرة التي لا تشتهي؛ للأمن من أسباب الفتنة، وكذلك إذا كان المصافح شيخًا كبيرًا لا يشتهي . وذلك لما روى عن أبي بكر ( رضي الله عنه) أنه كان يصافح العجائز، وعبد الله بن الزبير استأجر عجوزًا تمرضه فكانت تغمزه وتفلي رأسه . -  الاختيار لتعليل المختار في فقه الحنفية ج 4، ص 155-156 - . ويدل لهذا ما ذكره القرآن في شأن القواعد من النساء، حيث رخص لهن في التخفف من بعض أنواع الملابس ما لم يرخص لغيرهن: ﴿ وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ النور: 60 .  ومثل ذلك استثناء غير أولي الإربة من الرجال، أي الذين لا إرب لهم في النساء، والأطفال الذين لم يظهر فيهم الشعور الجنسي لصغر سنهم من نهي المؤمنات عن إبداء الزينة : ﴿ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء ﴾ النور: 31 ، وما عدا هاتين الصورتين، فهو محل الكلام ،وموضع البحث والحاجة إلى التمحيص والتحقيق: فالذين يوجبون على المرأة أن تغطي جسمها، حتى الوجه والكفين، ولا يجعلونهما من المستثنى المذكور في قوله تعالى: ﴿ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ﴾ بل يجعلون ما ظهر منها الثياب الظاهرة، كالملاءة والعباءة ونحو ذلك، أو ما ظهر منها بحكم الضرورة كأن ينكشف منها شيء عند هبوب ريح شديدة أو نحو ذلك.
هؤلاء لا عجب أن تكون المصافحة عندهم حرامًا ، لأن الكفين إذا وجبت تغطيتهما كان النظر إليهما محرما، وإذا كان النظر محرمًا  ،كان المس كذلك من باب أولى، لأن المس أغلظ من النظر، لأنه أقوى إثارة للشهوة، ولا مصافحة دون أن تمس البشرة البشرة . ولكن المعروف أن أصحاب هذا القول هم الأقلون، وجمهور الفقهاء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم يجعلون المستثنى في قوله تعالى: ﴿ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ﴾ الوجه والكفين.
فما الدليل عندهم على تحريم المصافحة إذا لم تكن لشهوة ؟ يقول الدكتور القرضاوي : الحقيقة أنني بحثت عن دليل مقنع منصوص عليه، فلم أعثر على ما أنشده ، وأقوى ما يستدل به هنا، هو سد الذريعة إلى الفتنة، وهذا مقبول من غير شك عند تحرك الشهوة، أو خوف الفتنة بوجود أماراتها ولكن عند الأمن من ذلك ، وهذا يتحقق في أحيان كثيرة فما وجه التحريم ؟ من العلماء من استدل بترك النبي صلى الله عليه وسلم مصافحة النساء عندما بايعهن يوم الفتح بيعة النساء المشهورة، على ما جاء في سورة الممتحنة ، ولكن من المقرر أن ترك النبي صلى الله عليه وسلم لأمر من الأمور لا يدل بالضرورة على تحريمه، فقد يتركه لأنه حرام، وقد يتركه لأنه مكروه، وقد يتركه لأنه خلاف الأولى، وقد يتركه لمجرد أنه لا يميل إليه   كتركه أكل الضب مع أنه مباح ،  وإذن يكون مجرد ترك النبي صلى الله عليه وسلم  للمصافحة لا يحمل دليلاً على حرمتها، ولابد من دليل آخر لمن يقول بها ، على أن ترك مصافحة النبي صلى الله عليه وسلم للنساء في المبايعة ، ليست موضع اتفاق، فقد جاء عن أم عطية الأنصارية رضى الله عنها ما يدل على المصافحة في البيعة، خلافًا لما صح عن أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها، حيث أنكرت ذلك وأقسمت على نفيه ، فقد روى البخاري في صحيحه عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمتحن من هاجر إليه من المؤمنات بهذه الآية يقول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرُجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ الممتحنة:12، قالت عائشة: فمن أقر بهذا الشرط من المؤمنات قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( قَدْ بَايَعْتُكِ ) كلامًا ولا والله ما مست يده يد امرأة قط في المبايعة، ما يبايعهن إلا بقوله : ( قَدْ بَايَعْتُكِ عَلَى ذَلِكَ ). رواه البخاري. قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" في شرح قول عائشة :"ولا والله" الخ : فيه القسم لتأكيد الخبر، وكأن عائشة أشارت بذلك إلى الرد على ما جاء عن أم عطية، فعند ابن حبان، والبزار والطبري، وابن مردويه، من طريق إسماعيل بن عبد الرحمن عن جدته أم عطية في قصة المبايعة، قالت : فمد يده من خارج البيت، ومددنا أيدينا من داخل البيت ثم قال: ( اللّهُمَّ اشْهَدْ ) . رواه البخاري. وكذا الحديث الذي بعده يعني بعد الحديث المذكور في البخاري حيث قالت فيه :"فقبضت امرأة يدها" رواه البخاري. فإنه يشعر بأنهن كن يبايعنه بأيديهن. قال الحافظ : ويمكن الجواب عن الأول : بأن مد الأيدي من وراء الحجاب إشارة إلى وقوع المبايعة، وإن لم تقع المصافحة، وعن الثاني بان المراد بقبض اليد: التأخر عن القبول؛ إذ كانت المبايعة تقع بحائل، فقد روى أبو داود في المراسيل عن الشعبي أن النبي  صلى الله عليه وسلم  حين بايع النساء أتى ببرد قطري فوضعه على يده، وقال: ( لا أُصَافِحُ النِّسَاءَ ) وفي مغازي ابن إسحاق: أنه كان صلى الله عليه وسلم  يغمس يده في إناء وتغمس المرأة يدها معه.
قال الحافظ: ويحتمل التعدد، يعني أن المبايعة وقعت أكثر من مرة، منها ما لم يمس يد امرأة فقط لا بحائل ولا بغيره إنما يبايع بالكلام فقط، وهو ما أخبرت به عائشة، ومنها ما صافح فيه النساء بحائل، وهو ما رواه الشعبي.
ومنها : الصورة التي ذكرها ابن إسحاق من الغمس في الإناء والصورة التي يدل عليها كلام أم عطية من المصافحة المباشرة.
ومما يرجح احتمال التعدد: أن عائشة تتحدث عن بيعة المؤمنات المهاجرات بعد صلح الحديبية، أما أم عطية فتتحدث فيما يظهر عما هو أعم من ذلك وأشمل لبيعة النساء المؤمنات بصفة عامة، ومنهن أنصاريات كأم عطية راوية الحديث، ولهذا ترجم البخاري لحديث عائشة تحت عنوان باب: (إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات) ولحديث أم عطية باب: (إذا جاءك المؤمنات يبايعنك  والمقصود من نقل هذا كله: أن ما اعتمد عليه الكثيرون في تحريم المصافحة من ترك النبي  صلى الله عليه وسلم  لها في بيعة النساء، ليس موضع اتفاق  كما قد يظن الذين لا يرجعون إلى المصادر الأصلية، بل فيه الخلاف الذي ذكرناه .  وقد استدل بعض العلماء المعاصرين على تحريم مصافحة المرأة بما أخرجه الطبراني والبيهقي عن معقل بن يسار عن النبي صلى الله عليه وسلم  قال : ( لأَنْ يُطْعَنَ فِي رَأْسِ أَحَدِكُمْ بِمِخْيَطٍ مِنْ حَدِيدٍ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يِمَسَّ امْرَأَةً لا تَحِلُّ لَهُ )  رواه الطبراني في المعجم الكبير ورمز له السيوطي بالضعف. قال المنذري في الترغيب : ورجال الطبراني ثقات رجال الصحيح. والمخيط: آلة الخياطة كالإبرة والمسلة ونحوها.  ويلاحظ على الاستدلال بهذا الحديث ما يلي: 1 - أن أئمة الحديث لم يصرحوا بصحته واكتفى مثل المنذري أو الهيثمي أن يقول : رجاله ثقات أو رجال الصحيح، وهذه الكلمة وحدها لا تكفي لإثبات صحة الحديث لاحتمال أن يكون فيه انقطاع، أو علة خفية، ولهذا لم يخرجه أحد من أصحاب الدواوين المشهورة، كما لم يستدل به أحد من الفقهاء في الأزمنة الأولى على تحريم المصافحة ونحوه.
2 - أن فقهاء الحنفية، وبعض فقهاء المالكية قالوا: إن التحريم لا يثبت إلا بدليل قطعي لا شبهة فيه، مثل القرآن الكريم والأحاديث المتواترة ومثلها المشهورة، فأما ما كان في ثبوته شبهة، فلا يفيد أكثر من الكراهة مثل أحاديث الآحاد الصحيحة، فكيف بما يشك في صحته؟
3 - على فرض تسليمنا بصحة الحديث، وإمكان أخذ التحريم من مثله أجد أن دلالة الحديث على الحكم المستدل عليه غير واضحة، فكلمة   :  ( يِمَسَّ امْرَأَةً لا تَحِلُّ لَهُ ) لا تعنى مجرد لمس البشرة للبشرة بدون شهوة، كما يحدث في المصافحة العادية بل كلمة المَسّ  حسب استعمالها في النصوص الشرعية من القرآن والسنة تعني أحد أمرين  :
1 - أنها كناية عن الصلة الجنسية  -الجماع - كما جاء ذلك عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: ﴿ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء ﴾ النساء:43 ، أنه قال: اللمس الملامسة ، والمس في القرآن كناية عن الجماع..واستقراء الآيات التي جاء فيها المس يدل على ذلك بجلاء، كقوله تعالى على لسان مريم: ﴿ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ﴾ آل عمران:47 وقوله : ﴿ وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ ﴾ البقرة:237  ،  وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدنوا من نسائه من غير مسيس. رواه أحمد وأبو داود.

2 - أنها تعني ما دون الجماع من القبلة والعناق والمباشرة ونحو ذلك مما هو مقدمات الجماع وهذا ما جاء عن بعض السلف في تفسير الملامسة : قال الحاكم في كتاب الطهارة من -المستدرك على الصحيحين - : " قد اتفق البخاري ومسلم على إخراج أحاديث متفرقة في المسندين الصحيحين يستدل بها على أن اللمس ما دون الجماع .
أ- منها : حديث أبي هريرة: ( فَالْيَدُ زِنَاهَا اللَّمْسُ ) .
ب- وحديث ابن عباس: ( لَعَلَّكَ مَسَسْتَ ) .
ج- وحديث بن مسعود : ( وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ ) يشير إلى ما رواه الشيخان وغيرهما من حديث ابن مسعود، وفي بعض رواياته : أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر أنه أصاب من امرأة، إما قُبْلَةً أو مسًا بيده أو شيئًا، كأنه يسأل عن كفارتها، فأنزل الله عز وجل يعني آية: ﴿ وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ﴾ هود:114 ، رواه مسلم بهذا اللفظ في كتاب التوبة قال:وقد بقي عليهما أحاديث صحيحة في التفسير وغيره ، وذكر منها 
د - عن عائشة قالت : قل يوم، إلا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم  يطوف علينا جميعًا تعنى نساءه فيقبل ويلمس ما دون الوقاع، فإذا جاء إلى التي هي يومها ثبت عندها .
ه‍- وعن عبد الله بن مسعود قال: ﴿ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء ﴾ هو ما دون الجماع وفيه الوضوء.
و- وعن عمر قال: ( إن القبلة من اللمس فتوضأ منها ). -  المستدرك للحاكم، ج1، ص135 -  ومن هنا كان مذهب مالك، وظاهر مذهب أحمد: أن لمس المرأة الذي ينقض الوضوء هو ما كان بشهوة، وبه فسروا قوله تعالى: ( أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء ) وفي القراءة الأخرى : ﴿ أَوْ لَمَسْتُمُ النِّسَاء﴾   
ولهذا ضعف شيخ الإسلام ابن تيمية في فتاويه قول من فسروا الملامسة أو اللمس في الآية بمجرد مس البشرة ولو بلا شهوة، ومما قاله في ذلك : فأما تعليق النقض بمجرد اللمس، فهذا خلاف الأصول، وخلاف إجماع الصحابة وخلاف الآثار، وليس مع قائله نص ولا قياس فإن كان اللمس في قوله تعالى : ﴿ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء ﴾ إذا أريد به اللمس باليد والقبلة ونحو ذلك كما قال ابن عمر وغيره فقد علم أنه حيث ذكر ذلك في الكتاب والسنة فإنما يراد به ما كان لشهوة، مثل قوله في آية الاعتكاف : ﴿ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِد ﴾ ومباشرة المعتكف لغير شهوة لا تحرم عليه  بخلاف المباشر لشهوة وكذلك قوله : ﴿ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ ﴾ الأحزاب:49  وقوله : ﴿ لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ﴾ البقرة: 236 ، فإن لو مسها مسيسًا خاليًا من غير شهوة لم يجب به عدة، ولا يستقر به مهر، ولا تنتشر به حرمة المصاهرة باتفاق العلماء ، ومن زعم أن قوله : ﴿ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء﴾  يتناول اللمس وإن لم يكن لشهوة فقد خرج عن اللغة التي جاء بها القرآن، بل وعن لغة الناس في عرفهم، فإنه إذا ذكر المس الذي يقرن فيه بين الرجل والمرأة علم أنه مس الشهوة، كما أنه إذا ذكر الوطء المقرون بين الرجل والمرأة، علم أن الوطء بالفرج لا بالقدم - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، ج21، ص(223-224)، طبعة الرياض - وذكر ابن تيمية في موضع آخر: أن الصحابة تنازعوا في قوله تعالى: ﴿ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء ﴾ فكان ابن عباس وطائفة يقولون : الجماع، ويقولون : الله حيي كريم يُكَني بما شاء عما شاء، قال : وهذا أصح القولين وقد تنازع العرب والموالي في معنى اللمس: هل المراد به الجماع أو ما دونه ؟ فقالت العرب : الجماع، وقالت الموالي: هو ما دونه، وتحاكموا إلى ابن عباس فصوب العرب، وخطأ الموالي – فتاوى ابن تيميه -والمقصود من نقل هذا الكلام كله أن نعلم كلمة "المس" أو "اللمس" حين تستعمل من الرجل للمرأة، لا يراد بها مجرد وضع البشرة على البشرة، بل المراد بها إما الجماع، وإما مقدماته من التقبيل والعناق، ونحو ذلك من كل مس تصحبه الشهوة والتلذذ.
على أننا لو نظرنا في صحيح المنقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لوجدنا ما يدل على أن مجرد لمس اليد لليد بين الرجل والمرأة بلا شهوة ولا خشية فتنة، غير ممنوع في نفسه، بل قد فعله النبي صلى الله عليه وسلم  والأصل في فعله أنه للتشريع والاقتداء : ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ﴾ الأحزاب:21 . فقد روى البخاري - في كتاب الأدب-­  من صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "إن كانت الأمة من إماء أهل المدينة ؛ لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت، وفي رواية للإمام أحمد عن أنس أيضًا قال: "إن كانت الوليدة يعني الأمة من ولائد أهل المدينة لتجيء، فتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما ينزع يده من يدها حتى تذهب به حيث شاءت" وأخرجه ابن ماجة أيضًا. قال الحافظ في الفتح : "والمقصود من الأخذ باليد لازمه، وهو الرفق والانقياد، وقد اشتمل على أنواع من المبالغة في التواضع، لذكره المرأة دون الرجل، والأمة دون الحرة، وحيث عمم بلفظ "الإماء" أي أمة كانت وبقوله: "حيث شاءت" أي مكان من الأمكنة، والتعبير بالأخذ باليد إشارة إلى غاية التصرف حتى لو كانت حاجتها خارج المدينة، والتمست منه مساعدتها في تلك الحاجة لساعد على ذلك، وهذا دليل على مزيد تواضعه وبراءته من جميع أنواع الكبر صلى الله عليه وسلم - فتح الباري، ج13، ص601- وما ذكره الحافظ رحمه الله مسلم في جملته، ولكن صرْفه معنى الأخذ باليد عن ظاهره إلى لازمه وهو الرفق والانقياد غير مسلم؛ لأن الظاهر واللازم مرادان معًا.. والأصل في الكلام أن يحمل على ظاهره، إلا أن يوجد دليل أو قرينة معينة تصرفه عن الظاهر، ولا أرى هنا ما يمنع ذلك، بل إن رواية الإمام أحمد، وفيها : "فما ينزع يده من يدها حتى تذهب به حيث شاءت" لتدل على أن الظاهر هو المراد، وأن من التكلف والاعتساف الخروج عنه.
والذي يطمئن إليه القلب من هذه الروايات أن مجرد الملامسة ليس حرامًا..فإذا وجدت أسباب الخلطة كما كان بين النبي صلى الله عليه وسلم  وأم حرام وأم سليم، وأمنت الفتنة من الجانبين، فلا بأس بالمصافحة عند الحاجة  ، كمثل القادم من سفر، والقريب إذا زار قريبة له أو زارته، من غير محارمه، كابنة الخال، أو ابنة الخالة، أو ابنة العم، أو ابنة العمة، أو امرأة العم، أو امرأة الخال أو نحو ذلك، وخصوصًا إذا كان اللقاء بعد طول غياب
وهنا نركز على أمرين : الأول: أن المصافحة إنما تجوز عند عدم الشهوة وأمن الفتنة، فإذا خيفت الفتنة على أحد الطرفين: أو وجدت الشهوة والتلذذ من أحدهما حرمت المصافحة بلا شك، بل لو فقد هذان الشرطان عدم الشهوة وأمن الفتنة بين الرجل ومحارمه مثل خالته، أو عمته، أو أخته من الرضاع  أو بنت امرأته، أو زوجة أبيه، أو أم امرأته، أو غير ذلك، لكانت المصافحة حينئذ حرامًا. بل لو فقد الشرطان بين الرجل وصبي أمرد، حرمت مصافحته أيضًا، وربما كان في بعض البيئات، ولدى بعض الناس، أشد خطرًا من الأنثى.   والثاني: ينبغي الاقتصار في المصافحة على موضع الحاجة،كالأقارب والأصهار الذين بينهم خلطة وصلة قوية، ولا يحسن التوسع في ذلك، سدًا للذريعة وبعدًا عن الشبهة، وأخذًا بالأحوط، واقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي لم يثبت عنه أنه صافح امرأة أجنبية قط وأفضل للمسلم المتدين، والمسلمة المتدينة ألا يبدأ أحدهما بالمصافحة ولكن إذا صوفح صافح.  وإنما قررنا الحكم ليعمل به من يحتاج إليه دون أن يشعر أنه فرط في دينه ولا ينكر عليه من رآه يفعل ذلك ما دام أمرًا قابلاً للاجتهاد ، والله اعلم .  فتاوى معاصرة، ص( 291-302) للدكتور القرضاوي .
 

 

 

 

 

ما الذي يصلح حالنا في الدنيا

لقد جعل الله  الدنيا دار تكليف وعمل ، كما جعل الآخرة دار قرار وجزاء ، فلا غنى للإنسان عن التزود منها للآخرة ، لذا لا بد أن يوليها حظاً من عنايته  وهذا لا يتناقض مع من قالوا بترك فضولها وزجر النفس عن الرغبة فيها ، لأن الراغب فيها إذا جاوز قدر الحاجة ملوم ، وطالب فضولها إذا زاد على قدر الكفاية مذموم قال تعالى : ﴿ فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب ﴾ وبهذا المعنى قال صلى الله عليه وسلم : ( ليس خيركم من ترك الدنيا للآخرة ولا الآخرة للدنيا ولكن خيركم من أخذ من هذه وهذه ) وقال رسول الله  صلى الله عليه وسلم : ( كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل ) أخرجه البخاري . هذا الحديث أصلٌ في الحث على الفراغ عن الدنيا والزهد فيها وكان عمر بن الخطاب يقول : " إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح ، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء ، وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك " وقد ذم رجلٌ الدنيا عند علي رضي الله عنه فقال : " الدنيا دار صدقٍ لمن صَدَقها ، ودار نجاةٍ لمن فهم عنها ، ودار غنىً لمن تزود منها " ولقد صدق القائل  :

لا تتـبع الدنـيا وأيامـها      ذمّاً وإن دارت بك الدائرة

من شرف الدنيا ومن فضلها   أن بـها تستدرك الآخـرة

قال ابن عباس إن الله جعل الدنيا ثلاثة أجزاء : " جزء للمؤمن ، وجزء للمنافق ، وجزء للكافر . فالمؤمن يتزود والمنافق يتـزين والكافر يتمتع ". قال عيسى عليه السلام : "يا معشر الحواريين ارضوا بدنيء الدنيا مع سلامة الدين ، كما رضي أهل الدنيا بدنيء الدين مع سلامة الدنيا " وقد جاء في هذا المعنى قول الشاعر : 

أرى رجالاً بأدنى الدين قد قنعوا      وما أراهم رضوا في العيش بالدون

فاستغنِ بالدين عن دنيا الملوك كما  استغنى الملوك بدنياهم عن الـدين

هناك ستة أمور تصلح بها الدنيا لتصير أحوالها منتظمة وأمورها ملتئمة وهي : دِينٌ مُتّبَع  وسلطانٌ قاهر  وعدلٌ شامل ، وأمنٌ عام ، وخِصْبٌ دائم ، وأملٌ فسيح .  أما الدين المتبع : فلأنه يصرف النفوس عن شهواتها   ويعطف القلوب عن إيراداتها ، حتى يصير قاهراً للسرائر ، زاجراً للضمائر ، رقيباً على النفوس نصوحاً لها ، ولا يوصل لذلك بغير الدين ، لأنه أقوى الأمور في صلاح الدنيا واستقامتها ، وأجداها نفعاً في انتظامها وسلامتها . ولقد صدق القائل : 

ما صِحَّةٌ أبداً بنافعةٍ     حتى يصحَّ الدين والخلُقُ

وإن صاحب الدين يختار من الدنيا حلالها وطيبها  ليعمل صالحاً به ، والفاجر يستعمل هذا النعيم في شهواته فيهوي بها في جهنم أما السلطان القاهر : فلأن رهبة السلطان أشد زاجراً وأقوى رادعاً روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( السلطان ظل الله في الأرض   يأوي إليه كل مظلوم ) وقال : ( إن الله ليزع بالسلطان أكثر مما يزع بالقرآن ) رواه الماوردي . وقال عبد الله بن مسعود : " السلطان يَفْسُد ، وما يُصْلِح الله به أكثر فإن عدل فله الأجر وعليكم الشكر ، وإن جار فعليه الوزر وعليكم الصبر " . وقال أحد البلغاء : " السلطان في نفسه إمامٌ متبوع وفي سيرته دينٌ مشروع فإن ظلم لم يعدل أحدٌ في حكم ، وإن عدل لم يجسر أحدٌ على ظلم " .

أما العدل الشامل : فلأنه يدعو إلى الألفة ، ويبعث على الطاعة ، وتعمر به البلاد  ويأمن به السلطان لذا قال رسول كسرى لعمر عندما وجده نائماً : عدلت فأمنت فنمت . كما أنه لبس أسرع في خراب الأرض   ولا افسد لضمائر الخلق من الجور روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه قال : ( بئس الزاد إلى المعاد والعُدوان على العباد )   وقال بعض البلغاء : " إن العدل ميزان الله الذي وضعه للخلق ونصبه للحق ، فلا تخالفه في ميزان ، ولا تعارضه في سلطان ، وإذا كان العدل من إحدى قواعد الدنيا ، التي لا انتظام لها إلا به ، ولا صلاح فيها إلا معه وجب أن يُبْدَأ بعدل الإنسان في نفسه   ثم بعدله في غيره ، أما عدله في نفسه : فيكون بحملها على المصالح وكفها عن القبائح ، ثم بالوقوف في أحوالها على أعدل الأمرين : من تجاوزٍ أو تقصير ، إذ التجاوز فيها جَوْر ، والتقصير فيها ظلم ، ومن ظلم نفسه فهو لغيره أظلم ، ومن جار عليها فهو على غيرها أجور . أما عدله مع غيره فقد ينقسم حال الإنسان مع غيره إلى ثلاثة أقسام : الأول : عدله فيمن دونه كالسلطان في رعيته والرئيس مع صحابته كترك التسلط وابتغاء الحق روى أن رسول الله قال : ( أشد الناس عذاباً يوم القيامة ، من أشركه الله في سلطانه فجار في حكمه ) وقد قيل : " ليس للجائر دار ولا تَعْمُر به دار " . والثاني : عدل الإنسان مع من فوقه  كالرعية مع سلطانها والصحابة مع رئيسها وهذا يكون بإخلاص الطاعة وبذل النصرة وصدق الولاء .

الثالث : عدل الإنسان مع أكفائه ويكون بترك الاستطالة ومجانبة الإذلال وكف الأذى عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ألا أنبئكم بشرار الناس ؟ قالوا : بلى يا رسول الله ! قال : من أكل وحده  ومنع رفده وجلد عبده ، ثم قال : أفلا أنبئكم بشرٍّ من ذلك ؟ قالوا بلى يا رسول الله قال : من لا يرجى خيره ولا يؤمن شرّه ثم قال : ألا أنبئكم من شرٍّ من ذلك ؟ قالوا بلى يا رسول الله قال : من يبغض الناس ويبغضونه ) . أما الأمن العام : وهو ما تطمئن به النفوس ، ويسكن فيه البريء ويأنس به الضعيف قال بعض الحكماء : " الأمن أهنأ عيش والعدل أقوى جيش " . فإنه لا يعرف الإنسان قدر النعمة حتى يخاف ، ولا يعرف المعافى نعمة العافية حتى يصاب

قال أبو تمام :

والحادثات وإن أصابك بؤسها      فهو الذي أنباك كيف نعيمها

أما الخصب الدائم : حيث تتسع النفوس به في الأحوال ، فيقل في الناس الحسد ، وينتفي عنهم التباغض قال بعض السلف : " إني وجدت خير الدنيا والآخرة في التقى والغنى  وشر الدنيا والآخرة في الفجور والفقر " .  فكما أن صلاح الخصب عام فإن فساد الجدب عام ، وما عم به الصلاح إن وجد ، عم به الفساد إن فقد وقال الشاعر :

ولم أرى بعد الدين خيراً من الغنى   ولم أر بعد الكفر شرّاً من الفقر

أما الأمل الفسيح : فلولا الأمل ما تجاوز الواحد منا حاجة يومه ، ولا تعدّى ضرورة وقته روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( الأمل رحمةٌ من الله لأمتي ، ولولاه ما غرس غارس شجرا ، ولا أرضعت أمٌ ولدا ) .

 قال الشاعر :

وللنفوس وإن كانت على وجل           مـن المنـية آمـالٌ تقـويها

فالصبر يبسطها والدهر يقبضها    والنفس تنشرها والموت يطويها

أما ما ورد في ذم الدنيا كقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الدنيا ملعونة ٌملعونٌ ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالماً أو متعلماً ) ابن ماجة والترمذي . فلا يفهم من هذا الحديث لعن الدنيا وسبها مطلقاً لما روي عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تسبوا الدنيا فنعم مطية المؤمن الدنيا عليها يبلغ الخير   وبها ينجو من الشر ، وإذا قال العبد لعن الله الدنيا   قالت الدنيا لعن الله أعصانا لربه ) وهذا يقتضي المنع من سب الدنيا ولعنها ووجه الجمع بين الحديثين ، أن المباح لعنه من الدنيا ما كان مبعداً عن الله وشاغلاً عنه وهو الذي نبه على ذمه بقوله تعالى : ﴿ إنما الحياة الدنيا لعبُ ولهوٌ وزينة ، وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد  ﴾ وأما ما كان من الدنيا يقرِّب من الله ويعين على عبادته فهو المحمود ، ومثل هذا لا يسب بل يرغب فيه وإليه الإشارة بقوله  عليه السلام ( إلا ذكر الله وما والاه ) .

 

 

 

هل الضرر أساس التحريم لكل شيء

إن التحليل والتحريم يكون بحكمة من الله ، فله سبحانه حكمة فيما يحلل وحكمة فيما يحرِّم  ولا يجوز أن تفهم أن كل شيءٍ يحرِّمه الله يكون ضاراً ، فقد يحرِّم الله أشياءً لتأديب الخلق   فيأمر بالتحريم ، ولا يصح أن تسأل عن الضرر فيها ، وقد يعيش المؤمن دنياه ولم يثبت له ضرر بعض ما حرَّم الله ، لأن الله يحرِّم الضار  ويحرِّم بعضاً مما هو غير ضار قال تعالى : ﴿ فبظلمٍ من الذين هادوا حرّمنا عليهم طيباتٍ أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا ﴾ النساء 160. فليس ضرورياً أن يكون التحريم لما فيه ضرر لهذا جاء قول الله على لسان عيسى رسوله إلى بني إسرائيل : ﴿ ولأحل لكم بعض الذي حرِّم عليكم  ﴾ ليحل لهم بأمر الله ما كان قد حرّمه عليهم من قبل .

سؤال اللـه ، روى الترمذي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال : ( إن من لم يسأل الله تعالى يغضب عليه ) من لم يطلب من فضل الله يغضب عليه لأنه إما قانط و إما متكبر و كل واحد من الأمرين يوجب الغضب قال بعض المفسرين في قوله تعالى : ﴿  إن الذين يستكبرون عن عبادتي ﴾ أي عن دعائي ، و هذا يدل على أن الدعاء عبادة و الله يحب أن يسأل و أن يلح عليه  ومن لم يسأله يبغضه و المبغوض مغضوب عليه قال ابن القيم :" هذا يدل على أن رضاه في مسألته و طاعته ، و إذا رضي الرب تعالى فكل خير في رضاه، كما أن كل بلاء و مصيبة في غضبه  و الدعاء عبادة فالله يغضب على من لا يسأله كما أن الآدمي  يغضب على من يسأله :

الله يغضب أن تركت سؤاله    وبني آدم حين يسأل يغضب

 

 

 

 

لمن حق التشريع

قال تعالى : ﴿ أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ، ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم ، وإن الظالمين لهم عذاب أليم ﴾ الشورى 21 .

نحن مأمورين أن نتبع الرسول ونطيعه ونتأسى به فالحلال ما حلله والحرام ما حرمه والدين ما شرعه ، فليس لأحد من خلق الله أن يشرِّع غير ما شرعه الله وأذن به كائناً من كان  ومن تجرءوا على الله فاستمدوا تشريعاً من غير ما شرع الله ، زاعمين أنهم يختارون الخير لشعوبهم   هؤلاء توعدهم الله بالعذاب الأليم ، لأنهم تصوروا أنهم أعلم من الله الذي شرع للبشرية ما يعلم انه يتوافق مع طبيعتها وفطرتها ، فشرع في هذا أصولاً ، وهو وحده الذي يشرع لعباده ، ولكنه ترك للبشر فقط استنباط بعض التشريعات الجزئية المتجددة ، في حدود المنهج الكلي والتشريعات العامة ، فإذا اختلفوا في شيءٍ ردوه إلى الله ، ورجعوا به إلى تلك الأصول الكلية التي شرعها للناس ، لتبقى ميزاناً يزن به البشر كل تشريعٍ وتطبيق جزئي  بذلك يتوحد مصدر التشريع ، ويكون الحكم لله   وما عدا ذلك خروج على شريعة الله ودينه وما لم يأذن به الله   والقاعدة تنص على أن جماع الدين" أن لا نعبد إلا الله ولا نعبده إلا بما شرع ولا نعبده بالبدع " كما قال تعالى   :  ﴿ فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ﴾ .

 وقد بين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما نعبد الله به ونهانا عن محدثات الأمور وأخبر أنها ضلالة  والقاعدة  تؤكد أن العبادة لا تكون إلا لله ولا تكون إلا بما شرع الله لعباده ولا تكون فيما يبتدعه الناس من عبادات لم يأذن بها الله قال تعالى : ﴿ أمر ألا تعبدوا إلا إياه ﴾ . كما بين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أفضل ما يتقرب به العباد إلى الله عز وجل هو العمل بما افترضه عليهم . جاء في الحديث القدسي ( وما تقرب إلي عبدي بشيءٍ أحب إلي مما افترضت عليه.. ) .  إذ ليس من العقل والحكمة أن يتقرب العبد إلى خالقه بما أباحه له  أو ندبه إلى فعله ، في الوقت الذي يهمل فيه الواجب الذي فرضه الله عليه وألزمه به! فلا تتحقق طاعة العبد لله عز وجل إلا بتنفيذ الأوامر واجتناب النواهي التي تعد الفيصل الأساسي بين العبد المطيع والعبد العاصي. وما شرعت النوافل بعد ذلك إلا تكميلاً لمعنى الطاعة ، ومبالغة في معنى التقرب من الله والتحبب إليه سبحانه . ومن العجب أن ترى أناساً يحرصون على كثير من النوافل في بعض العبادات ، في الوقت الذي يهملون فيه فروضاً أخرى !! فقد يتوسع المرء الجاهل في عبادة مندوبة تنسجم مع طبيعته وتوافق هواه ، أو تسهل عليه ويقصر في عبادة واجبة تشق عليه ، أو لا تستريح إليها نفسه  مما يقدح في حقيقة عبوديته ، وصدق طاعته لربه !! فتأتي هذه القاعدة الشرعية لتوضح المنهج ، وترتب الأولويات في طريق التقرب إلى الله عز وجل ، فالأولوية المطلقة في هذا الأداء الفروض الشرعية ، وتأتي النوافل والمندوبات في الدرجة الثانية تابعة ومكملة  كما تصرح بذلك القاعدة الثانية الواردة في الحديث نفسه : ( وما يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه ) . ومما يؤكد دلالة هذه القاعدة ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه : ( قال رجل يا رسول الله: إن فلانة تذكر من كثرة صلاتها وصدقتها وصيامها، غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها، قال : هي في النار ، قال : يا رسول الله إن فلانة تذكر من قلة صيامها وصلاتها ، وإنها تصدق بالأثوار من الأقط، ولا تؤذي بلسانها جيرانها ، قال : هي في الجنة ) . لم تنقذ المرأة من النار كثرة صلاتها وصيامها وصدقتها ، في الوقت الذي قصرت فيه بحق جيرانها وكف الأذى عنهم ، وما كان الله ليحب من يقصر في واجب  ويكثر من نفل.. وما أكثر ما تختل هذه الموازنة عند كثير من المسلمين اليوم !!  ولا بد من لفت الأنظار إلى أن العبادة تتميز عن غيرها من الأحكام  فلا اجتهاد في شرع عبادة من العبادات ، لأن حق التشريع فيها مقصورٌ على الله وحده ، فهو المتعبد الذي خلق العباد لعبادته ، وهو أعلم بما يتعبدهم به ، وهو أخبر بما يصلح لهم منها وما يرضيه من عبادات قال تعالى : ﴿ ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ﴾ . ولو ترك الناس وشأنهم في اختيار أنواع العبادات لوقعوا في المتاهات ، وما أكثر ما ورد عن السلف الصالح من الأمر بالإتباع وذم الابتداع ، وأصل ذلك كله قوله e: ( فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين  عضوا عليها بالنواجذ  وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل محدثةٍ بدعة وإن كل بدعة ضلالة ) . ومن القواعد الفرعية " أن الأصل في العبادات الحظر  والأصل في العادات الإباحة " .

 

 

 

لماذا لم يتعرض الرسول لتفسير الآيات الكونية

لو أن النبي صلى الله عليه وسلم تعرض لهذه الآيات الكونية تعرضا لا يتناسب مع استعدادات العقول وقت نزول القرآن ، فلربما صرف العقول عن أساسيات الدين إلى الجدل في أسرار الكون ، التي لا يستطيع العقل أن يستوعبها  أو يفهمها ، و لكن  الله سبحانه  ترك في الكون أشياء لإثبات العقول في العلم ، بحيث كلما تقدم العلم وجد خيطا يربط بين آيات الله في الكون و آياته في القرآن الكريم ، ولو أن الرسول صلى الله عليه وسلم فسر كونيان القرآن وقت نزوله لجمد القرآن ، لأنه لا أحد يستطيع أن يفسر بعد تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبذلك يكون عطاء القرآن قد جمد ، ولكن تَرْك الرسول الله صلى الله عليه وسلم للتفسير ، أتاح الفرصة لعطاءات متجددة للقرآن إلى قيام الساعة

 وهكذا كان المنع هو العطاء .

 

ما هي التوبة الصادقة

إن الاسلام يعترف للفرد  بدوافع الخطأ والخطيئة ،فأما الخطأ والنسيان ، وما يقع عن إكراه ، فمعفيان من المؤاخذة ، لقوله صلى الله عليه وسلم : ( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ) .وأما الذنب والخطيئة ، فباب التوبة مفتوح في كل لحظه ، فإذا ما أخطا العبد ، فإن رحمة الله تمنحه البر والعافية والمغفِرةَ   قال تعالى : ﴿ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله . إن الله يغفرُ الذنوب جميعا . إنه هو الغفورٌ الرحيم  ﴾ فليتوجه الانسان المخطىء الى ربه ، حتى يفتح له بابه ، ويتقبله بين عباده ، ويمنحه رحمته وعفوه ، وليطرق بابه كل مُسيء ،وألا يقنط وييأس من روح الله . قال تعالى : ﴿ ولا تيأسوا من روح الله  إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ﴾  ويذهب الاسلام في هذا مذهباً بعيدا ، حتى ليحسبه المرء عند النظرة السريعة ، يُزيِنُ للناس  الخطيئة ليتوبوا منها  قال صلى الله عليه وسلم : ( كلُّ بني آدم خطاءٌ وخير الخطائين التوابون )  وقال : ( والذي نفسي بيده لو لم تُذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقومٍ يُذنبون ويستغرون فيغفر لهم ) رواه مسلم . فهو لا يُزيَنُ الخطيئة هنا ، ولكن يُيَسِرُ التوبة ، فما هي التوبة ، لقد ذكرها الله وحض عليها في آياتٍ كثيرةٍ  فقال تعالى : ﴿ يا أيها الذين آمنوا توبوا الى  الله توبةً نصوحا ﴾  دلت الآية على أن التوبة النصوح مطلوبة ، وهي كما عرَّفها عمر ابن الخطاب . أن يتوب العبد من الذنب ، ثم لا يعود اليه ، كما لا يعود اللبن الى الضرع .  وقال تعالى : ﴿ إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ﴾  لقد اختلف في وجوب التوبة  فمن قال بأن الله أوجب التوبة ، على من أذنب من عباده ، استدل بهذه الآيات . ومن قال بأن التوبة لا تحتاج الى دليل ، على اعتبار أن التوبة من القضايا التي تحمل دليلها معها ، فكل إنسان يدرك بفطرته ، أن على المسيء أن يعتذر عن اساءته ، ويطلب الصفح ممن أساء اليه .  وإن من أذنب ولم يتب فقد أساء مرتين ، مرَّةً على فعل الذنب ، ومرَّةً على ترك التوبة ، وأسوأ حالاً ممن ترك التوبة ، من فسخها وعاد الى الذنب ، بعد أن عاهد الله على الوفاء بالطاعة  والامتثال . لقوله تعالى: ﴿ عفا الله عما سلف ، ومن عاد فينتقمُ الله منه ، والله عزيز ذو انتقام ﴾  قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( المقيمُ على الذنب ، وهو مُستغفِرٌ منه ، كالمُستَهزِء ) أما الاستغفار الذي لا يرافقه إصرار فهو كالتوبة قال تعالى : ﴿ والذين إذا فعلوا فاحشةً أم ظلموا أنفسهم ذكروا الله ، فاستغفروا لذنوبهم ، ومن يغفرُ الذنوب إلا الله ، ولم يُصِروا على ما فعلوا وهم يعلمون ﴾ . مع أن الفاحشة ، من أبشع الذنوب وأكبرها ، إلا أن مرتكبها لا يطرد من  رحمة الله ، وباب التوبة مفتوح ما دام يذكر الله ويستغفِرْه ولا ينساه ، ولا يُصِرُ على الخطيئة .قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما أصر من أستغفر ، وإن عاد في اليوم سبعين مره  ) . إن الاستغفار كالتوبة ، بل هو التوبة بعينها ، مع تضمنه طلب المغفرة من الله ، وهو محو الذنب ، وإزالة أثره ، ووقايةُ شرّه . والدليل على أن الاستغفار كالتوبة . قوله تعالى : ﴿ واستغفروا ربكم ثم توبوا اليه ﴾ أما ما يطلب من المذنب عمله عند التوبة ؟  أن يندم على ما كان منه ، ويطلب من الله العفو والمغفِرة ، ولا يعود الى الذنب ثانية ، وأن يبدأ قبل كل شيء ، بتأدية حقوق الناس ورد ظلامتهم ، فإن اغتصب رد ما اغتصبه ، وإن أساء طلب السماحة ، ثم يبدأ بقضاء ما فاته من الفرئض .  والتوبة تكون إما عن الكبائر كلها أو عن بعضها ، بخلاف الصغائر لأنها أقرب الى تطرق العفو اليها .  أما من تعذَّرَ عليه أداءُ الحق المترتب عليه ، فإن كان في حق الله ، كمن ترك الصلاة عمدا من غير عذر، فتوبته بالندم والاشتغال بأداء الفرائض المستأنفة ، وقضاء الفرائض المتروكة باتفاق الأئمة . وأما حقوق العباد  فإن كانت أموالاً ردها الى أصحابها ، فإن تعذَّر ذلك ، تصدق بتلك الأموال عن أصحابها ، ويوم الحساب ، يُخيروا بين أن تكون لهم أجورها ، أو يأخذوا من حسنات التائب بقدر أموالهم . لما روى عن ابن مسعود أنه اشترى من رجل جاريه ، ودخل يزن له الثمن ، فذهب رب الجارية ، فانتظره حتى يئس من عودته ، فتصدق بالثمن ، وقال : اللهم هذا عن رب الجارية ، فإن رضي فالأجر له ، وإن أبى فالأجر لي ، وله من حسناتي بقدره . وكدلك حكم اللقطة . وأما توبة من اختلط ماله الحلال بالحرام  وتعذَّر عليه تمييزه ، فإنه يتصدَّقُ بقدر الحرام ، ويُطَيِبُ باقي ماله . وقد اتفق الجمهور ، على أن التوبة ، تأتي على كل ذنب  .  لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه : ( ابن آدم لو لقيتني بقراب ألأرض خطايا ، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لقيتك بقرابها مغفرة ) أما هل تصح توبة العاجز عن اقترف الذنب ؟  لا تصح ، لأن التوبة عباره عن ندم ، يبعثُ العزم على الترك ، فيما يقدر على فعله ، لأن مالا يقدر على فعله ، انعدم بنفسه لا بتركه إياه .  أما أقسام العباد في التوبة  .. من الناس من يستقيم على التوبة الى آخر العمر ، ولا يُحدِّثُ نفسهُ بالعودة الى ذنوبه ، وهذه هي التوبة النصوح ، ومن الناس من سلك طريق الاستقامة في أمهات الطاعات ، وترك كبائر الفواحش كلها ، إلا أنه يُذْنِبُ ذنوباً ، لا عن قصد ، وإنما يبتلى بها دون عزم ، لكنه يلوم نفسه ، ويُجدد العزم على عدم الاقدام عليها ، وهذه هي النفس اللوامة ، لها حُسْنُ الوعد من الله ، لقوله سبحانه : ﴿ الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة ﴾  وهناك فريقٌ من الناس ، يستمر على الاستقامة مده ، ثم تغلبه الشهوات في بعض الذنوب ، فيُقْدِمُ عليها عن شهوة وقصد ، إلا أنه مواظبٌ على الطاعات ، وتاركٌ لجملةٍ من الذنوب ، مع القدرة على فعلها ،  هؤلاء من  الذين قال الله فيهم : ﴿ وآخرون اعْتَرَفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئا﴾  وفريقٌ آخر يتوب ثم يعود الى ارتكاب الذنوب ، من غير أن يُحدِّثَ نفسه بالتوبة ، أو يتأسف على فعله ، هذه هي النفوس الأمّارة بالسوء ، الفرّارة من الخير ، وهذه هي النفوس التي يُخافُ عليها من سوء الخاتمة . لأن الأعمال كما أخبر الرسول عليه السلام بخواتيمها . وإياك يا أخي المسلم أن تكون من المسوفين ، فقد روي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : هلك المسوفون ، والمسوف من يقول : سوف أتوب ، وقال صلى الله عليه وسلم التائب من الذنب كمن لا ذنب له .‏

ما هي التـوبة الصادقة

قال تعالى : ﴿ وهو الذي يقبل التوبة من عباده ويعفوا عن السيئات ويعلم ما تفعلون ﴾ . التوبة رجوعٌ إلى الله بسبب المعاصي والذنوب أو المخالفات والتقصيرات ،  والله يحب التوبة من عباده ويفرح لها . روى البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لله افرح بتوبة عبده المؤمن ، من أحدكم سقط على بعيره وقد أضله في فلاة ) . وإطلاق الفرح في حق الله مجازُ عن رضاه ، وقد شُرعت التوبة وقايةً للمجتمع من الأذى والشرِّ  ، فلو كان الذنب الواحد يُخَلِّدُ في النار ولا توبة بعده ، لتجبر العصاة وازدادوا شرّا .. ولأُصيب المجتمع كله بشرورهم ، وليئس الناس من آخرتهم  لذا جاءت الدعوة من الله ، ألاّ نيأس من رحمته فقال سبحانه : ﴿ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ، إن الله يغفر الذنوب جميعا  إنه هو الغفور الرحيم ﴾ الزمر 53 .  لذا شرع الله لنا التوبة ، ليرحمنا من الأذى والمعصية . قال تعالى : ﴿ إنما التوبة للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب ﴾ النساء 17 . والسوء : هو الأمر المنهي عنه من الله ، والمقصود من قوله بجهالة ، لا كما يفهم البعض أنها عدم العلم ، فالجهالة غير الجهل ، وقد عرَّفوا الجهل بأن يعلم الإنسان حكماً ضد الواقع ، كأن يكون مؤمناً بعقيدةٍ تخالف الواقع ، وأما الجهالة فقد قال العلماء : بأنها السفه والطيش ، والطيش يكون بعدم تدبر نتائج الفعل  والسفه ألا يقدِّر الإنسان قيمة ما يفوته من ثواب ، وما يلحقه من عقاب  وقد يكون الإنسان مؤمناً ، لكنه يرتكب السوء  لأنه لم يستحضر الثواب والعقاب  ويرتكب من السوء ما يحقق له شهوة عاجلة ، دون التفكر في النتائج مستقبلاً  ولو استحضر الثواب والعقاب لما فعل ذلك السوء . ويمكن أن نفهم أيضاً الجهالة  على أنها ارتكاب الأمر السيئ ، دون أن يبيت له الإنسان أو يخطط ، ويظل نادماً ويُعذِّب نفسه  أما من يخطط لفعل المنكر ، وارتكاب الفحشاء  ويصرُّ على السوء ، ويتفاخر ولا يندم على ما فعل ، فهذا لا يغفر الله له إن استمر على حاله حتى شارف على الموت ، وقد نبه الرسول صلى الله عليه وسلم   إلى ذلك بقوله :(إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ) رواه أحمد والترمذي ، وفي هذا يقول الله سبحانه : ﴿ وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت فال إني تبت الآن ﴾ النساء 18 . وعلى المسلم أن يجتنب التسويف في التوبة ، ففي الخبر: ( هلك المسوفون ) ،  وإذا كانت التوبة واجبة ، كان ما لا يتوصل إليها إلا به واجباً  فمعرفة الذنوب واجبة ، والذنب : عبارة عن كل ما هو مخالف لأمر الله تعالى في ترك أو فعل  والذنوب صغائر وكبائر ، بدليل قوله تعالى : ﴿ إن تتجنبوا كبائر ما تتهون عنه نُكَفِّر عنكم سيئاتكم  ﴾ النساء 31 . وقوله تعالى : ﴿ الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم﴾ النجم 23 . ولا يجوز للإنسان أن يتجاوز عن أخطائه  ويقول هذه صغيرة وتلك صغيرة   لأن الصغيرة بالإصرار والمواظبة تكبر ، ففي الحديث أن رسول الله  صلى الله عليه وسلم  قال : ( لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار ) ، أخرجه الطبراني ورواه البيهقي .  وحين ننظر إلى قوله تعالى : ﴿ والذين إذا فعلوا فاحشةً أو ظلموا أنفسهم ﴾ آل عمران 135 . نجد أن الذي فعل الفاحشة ظالم لنفسه  لأنه حقق لنفسه شهوة عارضة ، وأبقى على نفسه عذاباً خالدا . أما لماذا لم يقل الله الذين ظلموا أنفسهم فقط ؟ أي العطف ب-الواو لا ب-أو ، ذلك لأن الله يريد أن يوضِّح لنا الاختلاف بين فعل الفاحشة وظلم النفس ، فالذي يفعل الفاحشة إنما يحقق لنفسه شهوة ولو عاجلة ، لكن الذي يظلم نفسه يذنب الذنب ، ولا يعود عليه شيء من النفع  فالذي يشهد الزور مثلاً ، لا يحقق لنفسه النفع  لأن النفع يعود للمشهود له زورا ، وشاهد الزور هنا ظلم نفسه ، لأنه لبى حاجة عاجلة لغيره ، ولم ينقذ نفسه من عذاب الآخرة .

أما الإنسان الذي يرتكب الفاحشة ، فقد أخذ متعة في الدنيا ، وبعد ذلك ينال العقاب في الآخرة  ، والظالم لنفسه لا يفيد نفسه ، كمن باع دينه بدنيا غيره .

وأما قول الله تعالى : ﴿ فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ﴾ . قال الشعراوي : معنى الذنب : هو المخالفة لتوجيه المنهج ، فقد جاء أمر من المنهج ولم ينفذ الأمر ، وجاء نهي من المنهج فلم يلتزم به ، ولا يسمى ذنبا إلا حين يعرِّفنا الله الذنوب ، ذلك هو تقنين السماء ، أما في مجال التقنين البشري فنقول : لا تجريم إلا بنص ولا عقوبة إلا بتجريم . وهذا يعني ضرورة إيضاح ما يعتبر جريمة ، حتى يمكن أن يحدث العقاب عليها ، ولا تكون هناك جريمة إلا بنص عليها ، أي يتم النص على الجريمة قبل أن ينص على العقوبة ، فما بالنا إذا كان المنهج من عند الله ؟ إنه يعرِّفنا الذنوب أولاً وبعد ذلك يحدد العقوبات التي يستحقها مرتكب الذنب . ومن هنا كان قوله تعالى : ﴿ ولم يصرّوا على ما فعلوا وهم يعلمون ﴾ آل عمران 135 ، يتضح لنا أن الاستغفار ، ليس أن تردف الذنب بقولك : أستغفر الله فقط ، روى جابر أن أعرابياً دخل مسجد رسول الله ًصلى الله عليه وسلم  وقال : اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك وكبَّر ، فلما فرغ من صلاته قال له علي رضي الله عنه يا هذا إن سرعة اللسان بالاستغفار توبة الكذابين ، وتوبتك هذه تحتاج إلى التوبة ، فقال يا أمير المؤمنين وما التوبة ؟ قال : هي اسمٌ يقع على ستة معانٍ : على الماضي من الذنوب الندامة ، ولتضييع الفرائض الإعادة ، ورد المظالم ، وإذابة النفس في الطاعة كما ربيتها في المعصية ، وإذاقتها مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية , والبكاء بدل كل ضحكٍ ضحكته "، فعلى الإنسان إذن  أن يردف الذنب بقوله : استغفر الله وأن يصرّ على ألا يفعل الذنب أبدا  .

وليس معنى هذا ألا يقع الذنب مرَّةً أخرى ، إن الذنب قد يقع من الإنسان  ولكن ساعة أن يستغفر ، يصرُّ على عدم العودة ، وبشرط ألا يكون بنيةٍ مسبقة  كأن يقول الإنسان ، سأرتكب الذنب وأستغفر لنفسي بعد ذلك ، فهذا كالمستهزئ بربه ، وهذا ما نهى عنه رسول الله  صلى الله عليه وسلم بقوله : (التائب من الذنب وهو مقيمٌ عليه كالمستهزئ بربه ) .

  أما هل يعود الذنب الذي تاب منه ثم عاد إليه ؟ قيل يعود إليه إثم الذنب الأول ، لفساد التوبة وبطلانها بالمعاودة ، لأن التوبة من الذنب ، بمنـزلة الإسلام من الكفر ، فالكافر إذا أسلم هدم إسلامه ما قبله من إثم وتوابعه ، فإذا ارتد عاد إليه الإثم الأول مع إثم الردة . كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أحسن في الإسلام أُخذ بالأول والآخر) ، قد يسأل سائل : إذا حيل بين العاصي وأسباب المعصية وعجز عن المعصية فهل تصح توبته ؟     فقد قيل لا تصح توبته ، لأن التوبة إنما تكون ممن يمكنه الفعل والترك . وقد سميت بتوبة المفاليس .

وأما حقوق الناس ، فإن التائب يغفر له إما بأدائه أو الاستحلال بعد الإعلام  لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (من كان لأخيه عنده مظلمة من مال أو عرض فليتحلله اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إلا الحسنات والسيئات ) . وأن يبدأ قبل كل شيء ، بتأدية حقوق الناس ورد ظلامتهم ، فإن اغتصب رد ما اغتصبه ، وإن أساء طلب السماحة .    

والتوبة تكون إما عن الكبائر كلها أو عن بعضها  بخلاف الصغائر، لأنها أقرب إلى تطرق العفو إليها   أما من تعذَّرَ عليه أداء الحق المترتب عليه ، فإن كان في حق الله ، كمن ترك الصلاة عمدا من غير عذر، فتوبته بالندم والاشتغال بأداء الفرائض المستأنفة ، وقضاء الفرائض المتروكة .

أما حقوق العباد ، فإن كانت أموالاً ، ردها إلى أصحابها ، فإن تعذَّر ذلك  تصدق بتلك الأموال عن أصحابها ، ويوم الحساب ، يُخيَّرُ بين أن تكون له أجورها ، أو يأخذ من حسنات التائب بقدر أمواله . لما روى عن ابن مسعود أنه اشترى من رجل جاريه ، ودخل يزن له الثمن ، فذهب رب الجارية ، فانتظره حتى يئس من عودته ، فتصدق بالثمن  وقال : "اللهم هذا عن رب الجارية ، فإن رضي فالأجر له ، وإن أبى فالأجر لي ، وله من حسناتي بقدره" .   

وأما توبة من اختلط ماله الحلال بالحرام ، وتعذَّر عليه تمييزه ، فإنه يتصدَّقُ بقدر الحرام ، ويُطَيِبُ باقي ماله . وقد اتفق الجمهور ، على أن التوبة  تأتي على كل ذنب  .  لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه : ( ابن آدم لو لقيتني بقراب الأرض خطايا ، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لقيتك بقرابها مغفرة ) . أما هل تصح توبة العاجز عن اقتراف الذنب ؟ لا تصح ، لأن التوبة عبارة عن ندم ، يبعثُ العزم على الترك ، فيما يقدر على فعله ، لأن مالا يقدر على فعله ، انعدم بنفسه لا بتركه إياه .                         

وهل تصح التوبة من ذنب مع الإصرار على غيره؟  حكى النووي الإجماع على صحة ذلك ، لأن التوبة من الله سبحانه ، هي فتح المجال لرجوع الإنسان الذي انحرف ، والله حين شرع التوبة وفتح باباً لها .. إنما يريد أن يجعل للإنسان العذر في الغفلة أو النسيان أو الضعف الذي قد يصيب النفس الإنسانية فتعصي  ولكن ذلك لا يعني أن يتمادى الإنسان في المعصية  لأن صحة التوبة متوقفة على العزم على الفرار إلى الله والرجوع إليه .

وهنا سؤال : هل يصح أن تتبعض التوبة كالمعصية ؟ فيكون تائباً من وجه دون وجه ، كالإيمان والإسلام ؟  الراجع صحة ذلك ، كما لو أتى الإنسان بفرض وترك فرضاً آخر ، فإنه يستحق العقوبة على ما تركه دون ما فعله ، فكذلك إذا تاب من ذنب وأصر على الآخر ، فقد أدى أحد الفرضين وترك الآخر ، فإن ما ترك لا يكون موجباً لبطلان ما فعل ، كمن ترك الحج وأتى بالصلاة والصيام والزكاة .

وذكر ابن القيم في مدارج السالكين : بأن التوبة لا تصح من ذنب مع الإصرار على آخر من نوعه ، أما التوبة من ذنب مع مباشرة آخر لا صلة له به ، ولا هو من نوعه ، فذلك صحيح كمن تاب من الربا ، ولم يتب من شرب الخمر .

وهل يشترط في صحة التوبة أن لا يعود إلى الذنب أم ليس ذلك بشرط ؟

ذهب أكثر العلماء إلى أن ذلك ليس بشرط ، إنما صحة التوبة تتوقف على الإقلاع عن الذنب والندم عليه ، والعزم الجازم على ترك معاودته ، وباب التوبة مفتوح في كل لحظه ، فإذا ما اخطأ العبد فإن رحمة الله ، تمنحه البر والعافية والمغفِرةَ  قال تعالى : ﴿ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله . إن الله يغفرُ الذنوب جميعا . إنه هو الغفورٌ الرحيم ﴾ الزمر 53 . فليتوجه الإنسان المخطئ إلى ربه حتى يفتح له بابه ، ويتقبله بين عباده ، ويمنحه رحمته وعفوه ، وليطرق بابه كل مُسيء ، وألا يقنط وييأس من روح الله . قال تعالى:﴿ ولا تيأسوا من روح الله . إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ﴾ يوسف 87 . ويذهب الإسلام في هذا مذهباً بعيدا ، حتى ليحسبه الجاهل عند النظرة السريعة ،يُزَيِّنُ للناس الخطيئة ليتوبوا منها  قال صلى الله عليه وسلم :(كلُّ بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون ) ، وقال : (والذي نفسي بيده لو لم تُذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يُذنبون ويستغفرون فيغفر لهم ) رواه مسلم . إنه لا يُزَيِّنُ الخطيئة هنا   ولكن يُيَسِّرُ التوبة ، التي حض عليها بقوله :﴿ يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبةً نصوحا ﴾ التحريم 8 .       

 

 

 

 

 

ما هي العبـادة

العبادة : هي إطاعة العابد لأمر الله ، وهي لا تقتصر على إقامة الأركان التعبدية في الدين ، من الشهادة والصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت ، بل إن العبادة هي كل حركة جزئية تؤدي إلى إسعاد الناس ، وعمارة الكون . والأركان التعبدية ، هي تقسيم اصطلاحي ، وضعه العلماء في الفقه ، كباب العبادات والمعاملات ، والواقع أن كل شيء يأمر به الله اسمه عبادة ، ومن العبادة ما يصل العبد بالمعبود ، ليأخذ شحنته الإيمانية من الخالق ، ومنها ما يتصل بعمارة الكون فعندما يتقبل الإنسان من الله أمرا بعبادة ما ، فإنما يتلقاها وهو موصول بأسباب الله ، بحثا عن الرزق وغير ذلك من أمور الحياة ، ومهمة العبادات ، هي التنبيه والتذكير  لمن نسي الله  أو غفل عن أخراه ، وما يتعبد الله العباد ، إلا بما يصلح أنفسهم ، ويعود عليهم بالخير .

 

ما هي حقيقة الجن وما حكم التعامل معهم

وحكم الرقى من العين

سمي الجن جناً لاستتارهم عن العيون ، أما الشياطين فهم العصاة من الجن ، وهم ولد إبليس  والمردة  أعتاهم وأغواهم ، وهم أعوان إبليس . وقد جاء ذكر الجن في القرآن ، وخصصت لهم سورةٌ كاملة  ولما سمعوا القرآن ، أيقنوا أن رؤساءهم يفترون على الله الكذب . قال تعالى : ﴿ وأنا ظننا أن لن تقول الإنسُ والجنُ على الله كذبا ﴾ الجن 5 . إن الجن سمعوا حكمة القرآن  فوعوها واتعظوا بها .. ونحن نسمع القرآن  مرات ومرات ، فلا نتعظ بمواعظه ، ولا نهتدي برشده   فهل الجن يا ترى أحسن حالاً منا ؟ إن الجن ذوو عقولٍ مدركة ، لذا كُلِفوا بالإيمان قال تعالى : ﴿ وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به ﴾ الجن 13  وإن الإيمان بهم واجب ، ويكفر منكرُهُمْ ، لأن إنكارَهُمْ تكذيبٌ للقرآنِ والسنة ، التي أثبتت وجودَهُمْ أيضا .  إن الجن لهم حقيقةٌ موجودةٌ فعلا ، وهم أجسامٌ يغلبُ عليها النارية ، كما أخبر تعالى : ﴿ وخلق الجانَّ من مَّارجٍ من نَّارٍ ﴾ الرحمن 15 ، وأخبر أن الشهب تضرُّهم وتحرقُهم . وهنا سؤال : كيف تحرق النارُ النارَ ؟ لقد أضاف الله الشياطين والجن إلي النار ، حسب ما أضاف الإنسان ، إلى التراب والطين والفخار ، فيكون المراد في حق الإنسان  أن أصله الطين ، وليس الآدمي طيناً حقيقة ، لكنه كان طينا ، كذلك الجان فإنه ليس ناراً حقيقةً  مع أن أصله النار . دليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم :  (عرض لي الشيطان في صلاتي فخنقته  فوجدت برد ريقه على يدي ) رواه البخاري . ومن يكون ناراً محرقةً ، كيف يكون ريقه باردا ؟ لذا فإن الجن وإن خلقوا من نار ، فليسوا بباقين على عنصرهم الناري ، بل استحالوا عنه بالأكل والشرب   كما استحال بنو آدم عن عنصرهم الترابي بذلك . ومساكن الجن ، في أماكن النجاسة ، وإن أهل الضلال والبدع  الذين يدَّعون المكاشفات والتأثيرات  كثيراً ما يأوون إلى مواضع الشياطين  لأنها تتنزل عليهم فيها .

 أما ما يمنع الشياطين ، من السكنى بمنازل الإنس  فهو ذكر الله . لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا دخل الرجل منـزله ، فذكر اسم الله عند دخوله  وعند طعامه  قال الشيطان : لا مبيت لكم ولا عشاء ، وإذا ذكر اسم الله عند دخوله  ولم يذكره عند طعامه يقول : أدركتم العشاء ولا مبيت لكم ، وإذا لم يذكر اسم الله عند دخوله قال : أدركتم المبيت والعشاء ) رواه مسلم . وفي الحديث دلالة على أنهم يأكلون ويشربون .

ولكل مسلمٍ قرينٌ من الجن ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :  (ليس أحد منكم إلا وله شيطان ، قالوا : ولك ؟ قال : ولي ، إلا أن الله تعالى أعانني عليه فأسلم ) مسلم  . ويتناكحون ويتناسلون قال تعالى : ﴿ لم يطمثهنَّ إنس قبلهم ولا جان ﴾ الرحمن 55 ، وهم يشاركون الرجل في المجامعة ، إذا لم يذكر اسم الله . وزواج الإنس من الجن غير ممكن . ولا ثواب لهم على أعمالهم ، إلا النجاة من النار  ثم يقال لهم كونوا ترابا ، أما دخول مشركيهم النار  فلا خلاف عليه لقوله تعالى : ﴿ لأملأنَّ جهنم من الجنة والناس أجمعين  ﴾ هود 119 . وإبليس من الجن وليس من الملائكة لقوله تعالى : ﴿ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ، فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه ﴾ الكهف 51

وعليه يكون الاستثناء منقطعاً في قوله تعالى: ﴿ فسجدوا إلا إبليس ﴾ في سورة البقرة . وهم يتشكلون في صور المخلوقات ، ولا قدرة لهم على تغيير خلقهم ، ومن شأنهم الخفاء ، لأن أجسامهم رقيقة ، ولضعف أبصارنا لا نراهم  ولو قوّى الله أبصارنا ، أو كثَّف أجسامهم لرأيناهم  لقوله تعالى:﴿ إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم ﴾ الأعراف 27 ، والآية دليل على أنه لا يمكن رؤية الجن ، حتى أن الشافعي قال : من زعم أنه يرى الجن ، أبطلنا شهادته ، إلا أن يكون نبيا  لكنها قد تشاهد بصورٍ  غير صورها الأصلية  وهم كما يصفون أنفسهم بقوله تعالى: ﴿ وأنا منا الصالحون ، ومنا دون ذلك كنا طرائق قِدَداً ﴾ الجن 11 .. إنهم مذاهب شتى  مسلمون وكفار  وأهل سنة وأهل بدعة ، ومنهم الضالون المضلون  ومنهم السذَّج الأبرياء الذين ينخدعون . وهم قابلون للهداية من الضلال ، ومستعدون لإدراك القرآن  سماعاً وفهماً وتأثراً .

قال تعالى : ﴿ فقالوا إنا سمعنا قرآناً عجبا  يهدي إلى الرشد فأمنا به ، ولن نشرك بربنا أحدا ﴾ الجن2 وهم قابلون بخلقتهم ، لتوقيع الجزاء عليهم  وتحقيق نتائج الإيمان والكفر فيهم . قال تعالى : ﴿ وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون  ﴾ الجن 14 . وأنهم لا ينفعون الإنس ، حين يلوذون بهم ، بل يرهقونهم .

قال تعالى : ﴿ وأنه كان رجال من الإنس  يعوذون برجال من الجن ، فزادوهم رهقا ﴾ الجن 6 . إن رجال الإنس هم البسطاء السذَّج  ورجال الجن هم المشعوذين ، الذين يموهون على البسطاء  بأن لهم صلاتٌ بالجن ، يستحضرونهم متى شاءوا  ويسخرونهم فيما أرادوا ، ويتنبئوا بما يحدث لهم . والحقيقة أنهم لا يعلمون الغيب ، ولم تعد لهم صلةٌ بالسماء . قال تعالى : وإنا لمسنا السماء فوجدناها مُلِئت حرساً شديداً وشهباً  ﴾ الجن 8 . وفي هذا ردٌ على المشعوذين ، الذين يزعمون أن الجن ينقلون إليهم أخبار السماء ، فهم لا يستطيعون الوصول ، وأن المشعوذين يفترون الكذب على الله وعلى الجن ، لأن علم الغيب لله وحده قال تعالى : ﴿ وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ﴾ الانعام59

  إن كفار الجن وشياطينهم ، يختارون الكفر  والشرك والمعاصي ، فإذا تقرَّب صاحب العزائم والأقسام والسحر إلى الجن بما يحبون من الكفر والشرك ، صار ذلك كالرشوة لهم ، فيقضون بعض أغراضه ، كمن يكتبُ كلامَ الله بالنجاسة  أو يمتهن المصحف أو يصلي بدون وضوء ، أو يأتي أمه أو ابنته ، وإلا لا يساعد الجنيّ الساحر  أو الحجاب ولا يخدمه ، وكلما كان الحجَّابُ أشدَّ كفراً ، كان الشيطانُ أكثرَ طاعةً له ، وأسرعَ قي تنفيذ أمره .

إن السحرة  والحجَّابين ، يُسَخِّرون الشياطين  بالقرابينِ والمعاصي ، وارتكابِ المحذورات ، مما لله عز وجل في تركها رضا ، وللشياطين في استعمالها رضا  مثل ترك الصلاة والصوم ، فإذا استبد بهذا الإنسانِ هواهُ وأنانيتُهُ ، واستخدمَ هذه الميزةَ في الشرِّ ، بدلاً من الخير ، سلَّط الله عليه ما يجعلُهُ مرهقاً متعباً في حياته  ولذا نجدُ أمثالَ هؤلاءِ الناس ، يعيشون حياةً تعسةً شقيةً ، وينتهي أمرُهُمْ في بعض الأحيان بالانتحار أو الجنون  وإذا أمعنت النظر بمن يستعين بالجن ، تجد شكله منفِّرا  رغم أنه قد يَسْتَخِفُّ بعقولِ بعض الناس  ويحصلُ منهم على الأموال ، إلا أننا دائماً نجد هذا الصنفِ من الناس مفلساً معسرا ، ويموت في أسوأ حال مصداقاً لقوله تعالى: ﴿ فزادوهم رهقا ﴾ .  

أما السحر : فهو أمرٌ غريب ، عن مألوف الناس  يشبه خوارق العادات ، وليس منها ، إنه عُقَدٌ ورقى ، وكلامٌ يتكلم به فاعله أو يَكْتُبُهُ ، أو يعملُ شيئاً يؤثِّر في بدن المسحورِ ، أو قلبِه أو عقلِه من غير مباشرةٍ له ، والسَحَرَةُ يزاولون صناعتهم ، بالتقرب إلى الشياطين بأنواع القبائح  كالرقى التي فيها ألفاظ الشرك ومدحُ الشياطين . والسحرُ حقيقة ، وبعضه مبني على الوهم والتخييل ، ومنه ما يقتل ، ومنه ما يُمَرِّضْ  ومنه ما يفرق بين الرجل وزوجه ، وما يحصلُ من السحر بمعاونة الشياطين ، ومخاطبة النجوم والكواكب ، كفرٌ صريح ، والاشتغال بالسحر حرام ، وهو من الكبائر المهلكات الموبقات ، وقد اعتبره رسول الله صلى الله عليه   وسلم من السبع الموبقات كما لا يجوز تعلِّم السحرِ والعملِ به ، وما يتردد على السنة الناس منسوباً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلموا السحر ولا تعملوا به ، حديث موضوع .  والسحر مرضٌ من الأمراض التي تُصيب الإنسان  والتداوي منه كالتداوي من سائر الأمراض ، لكن بالطرق المشروعة .

أما كيف يُحَصِّنُ الإنسان نفسَهُ ، من الشياطين من مَرَدَةِ الجن والسحر ومن الحسد والإصابة بالعين ؟ أما الحسد : فهو تمني زوال النعمة عن الغير مطلقاً وهذا مذمومٌ شرعا ، أما من يتمنى أن يكون له من الخير مثل ما لغيره دون تمني زواله ، فإن ذلك من الغبطة التي لا تذم شرعا ، وهو داء قديم في الناس روى الإمام أحمد  المروزي عن الزبير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء ، هي الحالقة ، لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين . ولما لداء الحسد من عواقب اجتماعية سيئة جداً ، ولما فيه من تأثير سيئ على دين الحاسد وإيمانه ، اشتد الإسلام في النهي والتحذير منه فقال صلى الله عليه وسلم: (لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا) . وثبت أن العين حق ، وأنها تقتل ولها تأثيرٌ في النفس والبدن ، وحقيقتها النظر باستحسان مشوبٍ بحسد من خبيث الطبع  يحصل للمنظور منه ضرر ، يؤيد ذلك حديث أبي هريرة مرفوعاً عن البخاري ( العين حق …). وحديث ابن عباس عن مسلم ( العين حق ولو كان شيءٌ سابقَ  القدرِ لسبقتْهُ العين وإذا استُغسلتُم فاغسلوا ) . يستفاد من الحديث أن العين تكون مع الإعجاب ولو بغير حسد ولو من الرجل المحب ، ومن الرجل الصالح .

أما النفس : يقال إصابته نفْسٌ والنافس العائن والمنفوس المعيون وهي تطلق على العين بدليل الحديث الذي أخرجه مسلم عن أبي سعيد الخدري أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال :يا محمد اشتكيت ؟ فقال : نعم ، قال : ( باسم الله أرقيك من كلِّ شيءٍ يؤذيك ، من شرِّ كلِّ نفْسٍ أو عين حاسدٍ  الله يشفيك ، باسم الله أرقيك ) . ومما يدل على تأثير الحسد على المحسود قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أكثر من يموت بعد قضاء الله وقدره بالنفس يعني العين )   

ويستدل بالواقع حيث يقول القرطبي " فكم من رجل أدخلته العين القبر ، وكم من جمل ظهير أحَلَّته القدر، لكن ذلك بمشيئة الله تعالى كما قال : ﴿ وما هم بضارِّين به من أحد إلا بإذن الله ﴾. والوقاية من الحسد والعين تكون بالمواظبة على ذكر الله والاستعاذة من شرِّ الحاسد إذا حسد وقد أمر الله بذلك فقال: ﴿قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق ﴾ كما تكون بتقوى الله والإقلاع عن المعاصي والمواظبة على فعل الطاعات قال تعالى : ﴿ وإن تصبروا وتتقوا لا يضُرَّكُم شيئاً ﴾ آل عمران120  وقال صلى الله عليه وسلم لابن عمه  عبد الله بن عباس (احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك).

أما كيف يحصل الضرر للمعيون ؟ قيل إن العائن تنبعث من عينه قوةّ سُميِّة تتصل بالمعيون فيهلك أو يفسد . قيل للحسن البصري : أيحسد المؤمن ؟ قال ما أنساك لأخوة يوسف ؟  فما من ذي نعمة في عقله وعلمه أو في سلطانه ومجده أو في ماله وتجارته إلا له حاسدون واشون وكم من زوجين سعيدين في حياتهما أفسد الحاسدون ما بينهما ، وكم من أصحاب متآخين في الله نالهم من حسد الحاسدين العداوة والبغضاء فتفرقوا تفرق الأعداء ، وكم من محصنة شريفة أساء الحاسدون إلى سمعتها ، وكم من أمين خوَّنه الحاسدون ، وكم كان الحسد السبب في قطع وشائج المودات وصلات القرابات ، وكم ولَّدَ في الناس العداوات وباعد بين الجماعات . كثيرٌ من الناس وخاصةً النساء ، يذهبون إلى التماس العلاج أو الشفاء أو الوقاية من العين  والأمراض المختلفة ، إلى أساليب جاهلية وأعمال شيطانية ، ما أنزل الله بها من سلطان ، وهي من الأمور التي تنافي التوحيد ، وتعرِّض فاعلها لِسَخَطِ الله ومقتهِ ، كتعليق تميمةٍ أو خرزة .

إن هذا شركٌ لا يغفره الله ، إلا بالتوبة وقد ورد الوعيد الشديد ، على من علَّق تميمةً ، لحديث ابن مسعود قال:( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الرقى والتمائم والتولة شرك ) والتولة هي السحر . ولا شك أن الرقية جائزة  فقد ثبت أن جبريل عليه السلام رقى رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رقى بعض أصحابه ، إلاّ أنها غابت ضوابطها وأهملت شروطها عند المشعوذين والدجالين ، حتى أصبحت أقرب إلى السحر والشعوذة بسبب الخرافات والخزعبلات التي يرتكبها المشعوذون باسم العلاج بالقرآن وهم منه براء ، لأنَّ حرفة القراءة على المرضى صارت من الوظائف التي يسعى إليها البعض طمعاً في الحصول على المال الوفير .

وقد أجرى المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية بمصر دراسة حول تلك الظاهرة نشرته مجلة الأسرة ومما جاء في هذه الدراسة ، إحصائية كشفت أن 63 % من الرجال والنساء يخشون السحر واستحضار الأرواح منهم 28 % من المثقفين و11% من مشاهير الرياضة والفن والسياسة ، كما ورد في تلك الدراسة أن 693 جريمة هتك عرض وقتل ونصب وقعت خلال ستة أشهر جميعها متصلة بالدجل والشعوذة وفك السحر ، وكلهم يدَّعون أنهم يعالجون بالقرآن  وإنَّ أكثر من عشر مليارات جنيه مصري تنفق في هذا المجال " .

وقد تجد بعض الذين يمارسون المعالجة بالقرآن لا يصلّون ولا يجيدون قراءة القرآن ، وعندما سُئل بعضهم عن سبب اتجاهه للمعالجة بالقرآن قال : وجدتها لعبة ممتعة ومكسبها واسع وزبائنها كثير .

ومنهم من احترف العلاج بالقرآن واتخذه وسيلة لاصطياد النساء والنصب والابتزاز ، وكثيراً ما تكون النساء الضحية لأدعياء العلاج بالقرآن .

وإن الحالات الاجتماعية من زواج وطلاق وخلافات زوجية هي في مجملها الحالات التي يتعامل معها المشعوذون ببراعة ، مستغلّين ما يقع فيه الإنسان من ضيق وأزمات نفسية ليزيدوا من ضغطهم وسيطرتهم .

وإني إذ أحذِّر من هذه الظاهرة فإني لا أنفي إمكانية العلاج بالقرآن ولكني أحذِّر من اتخاذها مهنة للبعض بادعاء القدرة على الشفاء ، بدلاً من أن يكون للناس اليقين بقدرة الله على ذلك ، وقد قال أهل العلم : لا ينبغي للإنسان أن يبتدئ بطلب الرقية لأن من كمال توكل العبد وقوة يقينه ألا يسال أحداً من الخلق لا رقية ولا غيرها ، ولهذا من صفات السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة

بغير حساب ولا عذاب أنهم لا يسترْقون ، أي لا يطلبون من أحدٍ أن يرقيهم لكمال توكلهم . ويمكن أن ندفع شرورَ الجنِ وأذاهم ، والتخلصِ من السحر والعين ، بالاستعاذة بالله ، وقراءة المعوذتين ، وآية الكرسي ، وأواخر سورة البقرة أو كاملةً لما ورد في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن البيت الذي تقرأ به سورة البقرة لا يقربه الشيطان ) . ويدفعُ شرورَ الجنِ الذِكرُ  وقولُ لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيءٍ قدير ، مائة مرة وكثرةُ الوضوءِ والصلاة . كذلك التعوذاتُ التي وردت في السنن ومنها : ( أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ) . ( أعوذ بكلمات الله التامة ، من غضبه وعقابه ، ومن شرّ عباده  ومن همزات الشياطين وأن يحضرون ) . وقوله تعالى : ﴿ حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم ﴾ التوبة 129 . ومن أدعية الشفاء ، من السحر والعين . (اللهم رب الناس ، اذهب البأس واشف أنت الشافي ، لا شِفاء إلا شِفاؤك ، شفاءً لا يغادر سُقْما ) . إن الذهاب إلى الساحر والحجاب ، للتعامل معه كفر ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد ) كما لا يجوز بإطلاق ، سؤال الكهان والمنجمين والعرافين والرمّالين وأشباههم ، ممن يستخدم الجن ، أو يدّعي الغيب لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :  (من أتى عرافاً فسأله عن شيءٍ لم تقبل له صلاة أربعين ليلة ) رواه البخاري .

 

 

 

 

 

ما الفرق بين الإسلام والمسلمين

إن الإسلام اسم للدين الإسلامي ، أي اسم للقرآن والسنة النبوية ، والمسلمون هم الذين يعتقدون هذا الدين ، ويفعلون ما يؤمرون من الطاعات والصالحات  ويطبقونه على أنفسهم  ويَدْعون سواهم إلى العمل به ، وتطبيقه بالحكمة والموعظة الحسنة .

قال تعالى : ﴿ ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين ﴾ فصلت 33 . إن من يتربى التربية الإسلامية ، يكون أقدر على احتمال التبعة ، واكثر جداً في أخذ الأمور وتصريفها ، لأن له من ضميره عاصماً ، ومن دينه سنداً ، ومن قرآنه هادياً . قال تعالى : ﴿ إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ﴾ الإسراء 9. إن الإسلام عقيدة ينبثق منها سلوك المجتمع  ويقوم عليها نظام الحياة ، الذي يحكم علاقات الإنسان في كل الميادين ، ويضع الشرائع التي تنظم هذه العلاقات ، فكان لا يمكن الفصل بين العقيدة والشريعة التي تحكم الحياة ، لأن الشريعة لا تقوم إلا على أساس العقيدة .

إننا نلاحظ أن علماء المسلمين ومفكريهم  يفكرون ويكونون الآراء ، ويطلقون الأحكام ، وينظرون للأشياء والوقائع والأحداث ، بعيداً عن أحكام الإسلام  وهذا ما نجح الغرب في تحقيقه بدليل رضاء المسلمين بالحلول الوسط ، وأنصاف الحلول ، حتى أن المسلم أصبح يشعر بأنه يعيش في جوٍّ فقد مقياس الجلال والحرام ، لأعماله وتصرفاته ، والذي استبدل بمقياس المنفعة أو المصلحة    حتى أصبح المجتمع في بلاد المسلمين  لا يسهم بتحقيق القيم التي يحتاجها ، والتي تضمن رفعته ورقيه وسعادته ، بل اتبع خطى الغرب ، الذي جعل القيمة المادية هي الأساس . وقد وجد من بين الشباب ، من يستحي من الانتساب إلى الإسلام ، أو يكره أن يُرى وهو يقوم بشيء من شعائره ، خصوصاً بين طبقات المثقفين بالثقافة الغربية ، والذين وصلوا إلى درجة الحكم والنفوذ ، وإدارة المناصب العليا . لقد زلزل الغزو الثقافي ، ثقة فئة كبيرة من الشباب بدينها ، حتى أصبحت مسلمة بالاسم فقط ، إن العقلية التي زرعها الكفار ، هي التي أوصلت الناس إلى هذا الحال ، حتى أن الأمة أصبحت تتبع ذليلة خطى الغرب ، وتسلمِّ له بحل قضاياها ، وتستبعد الإسلام عن مشاكل الحياة  وعلاقات المجتمع ووجد في هذه الأمة من يفصلون بين الدين والحياة ، كأن هذه الحياة ليست مخلوقة للخالق وكأنه ليس هناك حساب ولا عقاب .

إنه ليس من طبيعة الإسلام أن يعوق سير الحياة ، ويسد الطريق على الآخذين بأسباب الوجاهة والجاه ، ومن الظلم أن يفهم الدين بهذا الفهم   بل من الخيانة لدين الله ، أن تكون للإسلام هذه المنزلة في الحياة .

لقد أصيب المسلمون بعلل أفسدت حياتهم ، وأنزلتهم منازلتهم منازل الهوان في دنيا الناس ، حتى تصور فريق من الناس ، بأن الدين هو السبب فيما وصلنا إليه من تأخر ، ونظروا للدين  والمتدينين نظرة ازدراء واحتقار ، حتى أصبح من المحال تغيير الحال ، إلا برد الاعتبار لدين الله باحترامه والاعتماد عليه في كل شؤون الحياة .  هذا هو حال المخدوعين بالغرب وحضارته ، فما هو حال بعض الفئات الإسلامية الأخرى ؟ إننا نجدهم وكما أشرت أكثر من مرَّةٍ ، يركِّزون اهتمامهم على الأحكام المتعلقة بالفرد ، كالصلاة والصوم والزكاة والوضوء ، والصفات الأخلاقية  والسنن والمندوبات ، وغيبوا أحكام نظام الحكم والنظام الاقتصادي والاجتماعي والتعليم  وأحكام السياسة الخارجية ، والتفاصيل المتعلقة بذلك  كله ، وكما نرى الكثيرين يركزون على اللحية وحكمها ، والدخان والطهارة ، وآداب الأكل ،  ودخول المساجد ، وآداب دخول الخلاء  وما يقال عند لبس الثياب الجديدة وعند النوم  حتى أنهم لم يتركوا شيئا متعلقاً بالفرد ، إلا فصَّلوه ودققوا فيه ، أو بحثو كلَّ جوانبه ، وأهملوا الأحكام المتعلقة بأنظمة المجتمع ، وفروض الكفاية المطلوبة من الأمة .

إن العقلية التي غرسها الكفار ، منذ أن احتلوا بلاد المسلمين ، جعلت مفهوم المنفعة ، من المفاهيم التي جعلت الأنانية وحب الذات ، هي الطاغية في المجتمع  مما قضى على الروح الجماعية التي أرادها الإسلام ، وعبرت عنها النصوص الشرعية . كقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) . وقوله : ( من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم)

كما جعلت المسلمين ، يقصرون حياتهم على الركض ، وراء حياةٍ يُقْذف لهم فيها بالفضلات  مما فاض على موائد المترفين والمسرفين ، بل وصل الحد بالبعض  إلى تقديم الروابط المنحطة ، من رابطة قبلية أو عائلية أو وطنية أو مصلحيه ، على رابطة المبدأ وما تتطلبه الآية القرآنية : ﴿ قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تحشون كسادها ومساكنٌ ترضونها أحبَّ إليكم من الله ورسوله وجهادٍ في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين  ﴾ التوبة 24 . إن الأمة الإسلامية ، أمةٌ مبدأ يحمل في باطنه السعادة للبشرية ، والهناء والاستقرار ، وهي مكلفةٌ بإيصال هذا المبدأ إلى الناس ، والعمل على تحرير البشرية من عبودية العباد ، إلى عبودية الله  وعلى تنظم حياة البشر بالعدل ، وما يحقق لهم الخير ، ويجنبهم ويلات الفتن والحروب .

 

إن الأمة مكلفة أن تنقذ نفسها باتباع الهدى الرباني ، والعمل على إنقاذ البشرية من التيه والضياع ، وإخراجها من الظلمات إلى النور  ومن القهر والإذلال والاستعباد ، إلى العز والسعادة والسلام .

 

إن سياسة تمويت الإسلام  ومخاصمة أهله والافتراء عليه ، ومحاربة دعاته وإعمال القتل والتعذيب والملاحقة لمعتنقيه ، لم يحقق لأعداء الإسلام رغباتهم ، فلا الإسلام مات ، ولا قرآنه باد ، ولا أمته هلكت ، وإذا أصابهم الذي أصابهم  إنما ذلك إلى حين ، ولا بد من استئناف المسيرة   إن تابوا من تقصيرهم وثابوا إلى رشدهم . إن سياسة تمويت الإسلام ، لا بد من إفشالها  ولن يكون حظ الصليبية الجديدة  بأحسن من حظ سابقتها القديمة ، وإن طال الزمن أم قصَّر  لأن الله تكفل بحفظ دينه ، ونصر أتباعه  ولينصرن الله من ينصره .                                       

 

 

 ش

ما هو الحكم الشرعي

الحكم الشرعي : خطاب الشارع المتعلق بأفعال العباد . بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع . أما الشارع : فهو الله تعالى ، وأما خطاب الشارع : فإنه يعني خطاب الله ، ونفس المعاني التي تضمنتها الألفاظ والتراكيب هي الخطاب ، وإنما قيل خطاب الشارع ولم يقل خطاب الله ، ليشمل السنة وإجماع الصحابة من حيث كونه دالاً على الخطاب ، حتى لا يتوهم أن المراد به القرآن فقط ، لأن السنة وحي فهي خطاب الشارع ، وإجماع الصحابة يكشف عن دليل من السنة فهو خطاب الشارع . أما لماذا قيل بأفعال العباد ولم يقل ولم يقل المكلفين ؟ ذلك ليشمل الأحكام المتعلقة بالصبي والمجنون كالزكاة في أموالهما . ومعنى كونه متعلقاً بالاقتضاء أي بالطلب والذي ينقسم إلى طلب فعل وطلب ترك ، فإن كان طلب الفعل جازماً فهو الإيجاب أو الفرض ، وإن كان غير جازم فهو المندوب أو السنة أو النافلة . وإن كان طلب الترك جازماً فهو التحريم أو الحظر ، وإن كان غير جازم فهو الكراهة . وأما التخيير فهو الإباحة . أما خطاب الوضع أو الخطاب المتعلق بأفعال العباد بالوضع فهو جعل الشيء سبباً أو مانعا ، مثل مانعية النجاسة للصلاة ، فهي وإن كانت علامةً للأحكام فهي من الأحكام ، لأن الله جعل وجود النجاسة علامة على بطلان الصلاة ، ولا معنى لكون النجاسة مبطلة إلا طلب ترك النجاسة فهي في حقيقتها خطاب من الشارع .

إن ذكر الاقتضاء أو التخيير في تعريف خطاب الشارع شمل الأحكام الخمسة وهي : الواجب والمندوب والحرام والمكروه والمباح .

أما قوله بالوضع فقد شمل ما كان سبباً أو مانعاً أو شرطاً أو صحيحاً وباطلاً وفاسدا ، وما كان رخصةً وعزيمة . مما سبق بيانه ينقسم خطاب الشارع إلى قسمين .

الأول : خطاب التكليف وهو خطاب الشارع المتعلق بطلب الفعل أو طلب الترك أو التخيير بين الفعل أو الترك . وسمي بالتكليفي لأن فيه تكليف للإنسان ، فيُخيَّر بين الفعل والترك . وأقسام الحكم الشرعي التكليفي : المستحب : هو الذي رغَّب الشارع في فعله ، ولا حرج في تركه ، يُثابُ فاعله ولا يُعاقبُ تاركه ، ولا عتاب ولا لوم ، كالأمور التي لم يُواظبْ عليها النبي صلى الله عليه وسلم كصيام يومَي الاثنين والخميس من كل أسبوع ، وهناك المستحبات الزائدة : وهي الأمور التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم بحسب العادة كالاقتداء بأكله صلى الله عليه وسلم وشربه ، وهذه كمالية لا يعتبر مُسيئاً من لم يقتد برسول الله فيها ، وهي من قبيل المندوب ، وهي ما طلب الشارع فعلها طلباً غير جازم ، وسميت بهذا الاسم لأن الشارع ندب إليها أي دعا إليها . وسميت بالنفل لأنها زائدة عن الفرض ، وتزيد في الثواب ، وسمي المندوب بالتطوع  لأن فاعله يأتي به تطوعاً دون إلزام ، وفاعله يستحقُ الثواب من الله ، ولا عقاب على تاركه ويستحسن الإكثار من عمل المندوبات طلباً لثواب الله ، ليكون له رصيد من الحسنات التي تمحو السيئات لقوله تعالى : ﴿ إن الحسنات يذهبن السيئات ﴾هود 114 . ومن المندوبات ، صلاة النافلة  والصدقة ، وصلاة الجماعة .

أما السنة : وهي ترادف المندوب في العبادات ، وتطلق على ما كان نافلة منقولةً عن النبي صلى الله عليه وسلم   ومن السنة المسنون سنة مؤكدة : فهو ما واظب النبي صلى الله عليه وسلم على فعله ، ولم يتركه إلا نادرا ، ولم يطلبه طلباً جازما  وإنما تركه ليدل على عدم حتميته . كالمضمضة والاستنشاق في الوضوء ، وقراءة شيءٍ من القرآن في الصلاة بعد الفاتحة ، وحكمها يُثاب فاعلها ولا يُعاقب تاركها ، ولكنه يستحق اللوم والعتاب على تركها . أما إن كانت من الشعائر الدينية كالآذان والجماعة ، فإن أتفق أهل بلدة على تركها وجب قتالهم لاستهانتهم بالسنة .

وأما الواجب : فهي والفرض بمعنى واحد ، وذهب البعض إلى أن من الواجب ما يثبت بدليل قطعي  كأركان الإسلام التي ثبتت بالقرآن ، وما ثبت بالسنة المتواترة كقراءة القرآن في الصلاة ، والمتواتر : هو الحديث الذي نقاه جماعة من تابعي التابعين ، عن جماعة من التابعين عن جماعة من الصحابة عن النبي عليه السلام  

أما الواجب الذي ثبت بدليل ظني فيه شبهه ، وهو خبر الواحد وهو الذي رواه واحد أو أكثر لا يبلغ عددهم حد التواتر من الصحابة ، ومن بعدهم من التابعين وتابعي التابعين ، كصدقة الفطر ، وصلاة الوتر والعيدين . ولكن الأصح كما قال بعض الفقهاء والأصوليين ، انه ليس في اللغة ولا في الشرع  ما يدل على هذا الفرق ، لأن واقع المسمى هو ما طلبه الشارع طلباً جازماً ولا فرق بين أن يكون الطلب ثبت بدليل ظني أو السنة المتواترة ، يثاب فاعله ويعاقب تاركه ويكفر من أنكره  والظني هو اللفظ الذي يحتمل أكثر من معنى كقوله تعالى : ﴿والمطلقات يتربصن بأنفسهنَّ ثلاثةُ قُروء ﴾ البقرة 228 ، فلفظ قرء يحتمل أن يراد به الطهارة ، ويحتمل أن يراد به الحيضات ،ولهذا الاحتمال تكون دلالة الآية على الحكم ظنيه لا قطعيه . والقطعي هو الذي لفظه لا يحتمل إلا معنى واحدا كقوله تعالى : ﴿ ولكم نصف ما ترك أزواجكم  ﴾ النساء 12 .

وأما الفرض : وهو ما ثبت وجوبه بطريق قطعي، لا شبهه فيه ، ورتب الشارع على فعله الثواب ، وعلى تركه العقاب ، ويلزم من تركه الفسق ، ومن جحده الكفر . والفرض نوعان فرض كفاية وفرض عين أما فرض الكفاية : إذا قام به البعض سقط عن الباقين . وأما فرض العين : فهو عينٌ على كل من يلزمه  وهو درجات ،حيث أن هناك فرائض اعتبرها الإسلام أركاناً أساسيه وهي خمس ، شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، وإقامُ الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا .

إن الإسلام يقدم فرض العين على فرض الكفاية ، لذا يقدم بر الوالدين وطاعتهما على الجهاد ، ما دام فرض كفاية ، أما إذا أصبح فرض عين ،كما إذا هاجم العدو الكافر بلاد المسلمين ، واحتل أرضها فيقدم الجهاد على حق الوالدين في البر والطاعة . ويفضل الجهاد على العبادة الفردية . كما يفضل الفقه والعلم على العبادة ، والفقيه على العابد ، وإصلاح ذات البين على التطوع بالصلاة  والصدقة ، لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم) ، وفي حديث آخر (كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب) .

ويفضل عمل  الإمام العادل في رعيته ، على تطوعه بنوافل العبادات بأضعاف مضاعفه قال عليه السلام (ليوم من  إمام عادل أفضل من عبادة سبعين سنه ) كما يقدم الإسلام ، العقيدة على العمل  ويعتبرها هي المحور والأساس .

وهناك أمور وقع فيها المسلمون ذات أهميه ، فقد أهملوا فروض الكفاية المتعلقة بمجموع الأمة كالتفوق العلمي ، والصناعي ، والحربي ، والاجتهاد في الفقه ، واستنباط الأحكام ، ونشر الدعوة إلى الإسلام ، ومقاومة السلطان الجائر فقد ورد في مراسيل الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (لا تزال هذه الأُمة تحت  يد الله  وفي كنفه ما لم يمالئ قراؤها أمراءَها ، وما لم يزك صلحاءها فجارها ، وما لم يُهِنْ خيارها أشرارها ، فإذا هم فعلوا ذلك رفع الله يده عنهم ، ثم سلط عليهم جبابرتهم ، فساموهم سوء العذاب  ثم ضربهم الله بالفاقة والفقر) .

 كما أهمل المسلمون بعض الفرائض العينية ، أو أعطوها دون قيمتها ، مثل فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، عندما تركها المسلمون ضلوا ، وأضاعوا دينهم وأخلاقهم ، وانقطعت الصلة بينهم وبين ربهم ،حتى أصبح المسلمون في آخر الأمم ، وقوى عليهم أعداؤهم ، فاصبحوا تابعين بدلاً من أن يكونوا مبشِّرين ، فترى النصارى يبشرون المسلمين ليغيروا دينهم ، ويشككون في عقيدتهم ،ويخرجونهم من إيمانهم وإسلامهم ، والحكومات تغض الطرف عن المبشرين وتصرفاتهم وكأنهم يطلقون يدهم في هذا المجال ، بينما الداعيةُ إلى الله ، يحارب ، ويسجن  .

لقد اهتم المسلمون ببعض الأركان أكثر من بعض ، فاهتموا بالصوم أكثر من الصلاة حيث تجد كثيرين من المسلمين من يتكاسل عن الصلاة ،حتى وجد من ينقضي عمره دون أن ينحني لله راكعاً ساجداً ، ومن المسلمين من يهتم بالصلاة اكثر من الزكاة مع أن طلبهما جاء على حد سواء ، حتى قال بعض الصحابة ، من لم يزك فلا صلاة له . وقال أبو بكر (رضي) والله لأقاتلَنَّ من فرق بين الصلاة والزكاة . ومن المسلمين من اهتم بالنوافل ، اكثر من اهتمامهم بالفرائض والواجبات ،كبعض المتصوفة الذين اكثروا من الأذكار والتسابيح والأوراد ، ولم يولوا هذا الاهتمام لكثير من الفرائض  ، مثل إنكار ومقاومة ظلم الحكام .

ومن المسلمين من اهتم بالعبادة الفردية ،كالصلاة والذكر ، أكثر من اهتمامهم بالعبادات الاجتماعية التي يعم نفعها ،كالجهاد ، والفقه ، ومنهم من اهتم بفروع الأعمال ، واغفلوا الأساس ، وهو العقيدة والتوحيد ، وإخلاص الدين لله .

أما مراتب الأمور التي ينهى عنها الإسلام فهي : المكروه : وهو ما طلب الشارع تركه ،لا على وجه الحتم والإلزام ، يمدح تاركه ولا يذم فاعله وهو عند الحنفية نوعان : مكروه تحريماً : وهو ما كان الى الحرام أقرب ، ويتميز عن الحرام بأن الحرام ما طلب الشارع تركه على وجه الحتم والإلزام بدليل قطعي كالآيات القرآنية والسنة المتواترة أو المشهورة والحديث المشهور : هو الذي نقله جماعة من تابعي التابعين ، عن جماعة من التابعين عن واحد أو أكثر من الصحابة ، لا يبلغ عددهم حدَّ التواتر وسمي بالمشهور لأن الأمة تلقته بالقبول واشتهر بينها . وما ثبت بدليل قطعي كالسرقة ، والربا ، والزنى ، والحرام يكفر منكره ، بخلاف المكروه التحريمي، فلا يكفر ، ويشترك الاثنان في استحقاق العقاب والذم والترك  

أما المكروه تنزيهاً : وهو ما طلب الشارع تركه ،لا على وجه الحتم والإلزام ، وهو إلى الحلال أقرب وفعله لا يستوجب العقاب ولا يذم ، كأكل لحوم الخيل ، للحاجة إليها في الحروب .

أما المباح : وهو ما خيّر الشارع المكلف ، بين فعله وتركه ، أو لا يتعلق بفعله مدح ولا ذم ،كترك الجهاد بالنسبة للأعمى ، لقوله تعالى : ﴿ ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ﴾ النور 61 . ومنها المشتبهات ، والمشتبه : هو الذي يحتمل أكثر من معنى ، والمشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس  فمن وقع فيها  وقع في الحرام ،كالراعي يرعى حول الحمى ، يوشك أن يقع فيه .

ومنها الحرام الصريح : وهو الذي فصله الله في كتابه وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تعالى : ﴿ وقد فصل لكم ما حرَّم عليكم ﴾ الأنعام 119 .

أما الحرام :ما طلب الشارع تركه طلباً جازماً ، يذم فاعله ويعاقب ، ويثاب المرء على تركه ، وقد تكون العقوبة في الدنيا ،كقوله في حد القذف : ﴿ واجلدوهم ثمانين جلده ﴾ النور 4. أو الآخرة ،كما في قوله تعالى : ﴿ إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً ﴾ النساء0

والحرام نوعان صغائر وكبائر . أما الصغائر  فتكفرها الصلاة والصيام والصدقة قال تعالى: ﴿ إن الحسنات يذهبن السيئات ﴾ هود 114 . وفي الحديث الصحيح ( الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر) .

وأما الكبائر : فلا يغسلها ولا يمحوها ، إلا التوبة النصوح . وهي تتفاوت ، فمنها ما عدَّه النبي  صلى الله عليه وسلم من أكبر الكبائر ، وعلى رأسها الإشراك بالله وشتم الرب أو الرسول . أما ما وقع فيه الخلل والاضطراب : كاشتغال كثير من الناس  بمحاربة المكروهات ، أو الشبهات أكثر مما اشتغلوا بحرب المحرمات المنتشرة ، أو الواجبات المضيعة ، كالاهتمام الشديد ، بما أختلف في حله وحرمته ، عما هو مقطوع بتحريمه . وكذلك انصراف الكثيرين إلى مقاومة الصغائر  والاهتمام بها ، وإغفال الكبائر الموبقات ، مما كدّر عقيدة التوحيد . إن صغائر الذنوب ، إلى حد الشعور باللامبالاة ، تصبح بمثابة الكبيرة  وقديماً قالوا : لا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن أنظر إلى من عصيته . وليس أمَرُّ على القلب ، من   وحشة الذنب على الذنب . وأنشدوا :         

رأيت الذنوب تميت القلوب   وقد يورِثُ الذلَّ إدمانها

وترك الذنوب حياةُ القلوب    وخيرٌ لنفسك عصيانها

وهل أفسد الدين إلا الملوك    وأحبارُ سوءٍ  ورهبانها

إن الذنوب إذا تكاثرت ، يُطبعُ على قلب صاحبها قال تعالى : ﴿ كلاّ بل ران على قلوبهم بما كانوا يكسبون ﴾ المطففين 14 .                                                      

 

 

ماذا لوتُرك لكل واحد أن يحدد ضرورته

ولو تُرِك كل واحد يحدد لنفسه ضرورته، لفسد الناس، وذلك لميلهم إلى التفلت من التكاليف الشرعية فضلا عن عدم طلبهم للعلم الشرعي.

والشرع لا يترك الأمور لأهواء الناس وميولهم الشخصية، بل يضع الضوابط لكل مسائله لتستقيم حياة الناس مع مراعاة حاجاتهم ورفع الحرج عنهم.

ونحن إن شاء الله نحاول أن نتعرف على هذه القاعدة الفقهية الهامة وضوابطها المختلفة.

أولا: تعريف الضرورات والمحظورات:

الضرورة شرعًا: هي الحالة الملجئة لتناول الممنوع شرعًا. وعرَّفها بعض الفقهاء بأنها بلوغ الإنسان حدًا إن لم يتناول الممنوع هلك أو قارب الهلاك.

أما المحظورات: فهي الممنوعة شرعًا، أي المحرمة شرعًا.

ثانيًا: معنى القاعدة:

والمعنى العام للقاعدة أن حالة الضرورة التي يكون الإنسان فيها تبيح له تناول المحرم عليه شرعًا، وفق قيود وشروط، إذ أن هذه الإباحة التي تجلبها حالة الضرورة ليست على عمومها، ولا على إطلاقها، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

{الوجيز في القواعد الفقهية د. عبد الكريم زيدان بتصرف}

ثالثًا: أدلة القاعدة:

من القرآن: قوله تعالى: فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم.

{المائدة:3}

أي ألجأته الضرورة وقت المجاعة الشديدة لتناول المحرمات المذكورة في الآية، غير متجانف لإثم: مائل إليه بتجاوز قدر الضرورة.

وقوله تعالى: وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه {الأنعام:119}.

وقوله تعالى: إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان {النحل:106}.

رابعًا: أمثلة لحالات الضرورة:

1 المحرمات من مطعوم ومشروب: يباح للمضطر تناولها دفعًا للهلاك عن نفسه، وهذا جاء بنص القرآن.

إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم {البقرة:173}.

يقول القرطبي في تفسيره: فأباح الله في حالة الاضطرار أكل جميع المحرمات، لعجزه عن جميع المباحات.

وقال أيضًا في قوله تعالى: إلا ما اضطررتم إليه يريد من جميع ما حرم، كالميتة وغيرها، وقال ابن قدامة في المغني أيضًا بإباحة الأكل عند الاضطرار من سائر المحرمات.

2 إباحة النطق بكلمة الكفر للضرورة:

عند التهديد بالقتل إن لم ينطق المكره بذلك، والأصل في جواز ذلك، قوله تعالى: من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم {النحل:106}.

علمًا بأن النطق بالكفر عند ضرورة الإكراه رخصة لا عزيمة، لأن العزيمة عدم النطق بالكفر، ولو أدى إلى موت المكره، والنطق بكلمة الكفر للضرورة مع اطمئنان القلب بالإيمان هو رخصة، والأخذ بالعزيمة لمن استطاعها أولى وإذا قتل بسببها فهو شهيد، لأنه موت في سبيل الله فهو ضرب من ضروب الجهاد بالنفس، والمقتول في هذا الجهاد شهيد باتفاق العلماء.

{الوجيز د. عبد الكريم زيدان}

ولما رخص الله عز وجل بالنطق بالكفر عند الإكراه ولم يؤاخذ به، حمل العلماء عليه فروع الشريعة كلها، فإذا وقع الإكراه عليها لم يؤاخذ بها ولم يترتب عليه حكم. {تفسير القرطبي}

3 جواز الكذب والحلف عليه عند الضرورة:

الكذب حرام وهو مع الحلف أشد تحريمًا، ولكن مع هذا يجوز الكذب والحلف عليه لضرورة تخليص نفس بريئة من الهلاك أو امرأة من الزنا بها.. لأن مفسدة الكذب أهون من مفسدة القتل والزنا، والضرورات تبيح المحظورات، والضرر الأشد يدفع بتحمل الضرر الأخف، بل إن الكذب في هذا الموطن واجب دفعًا للإثم، قال العز بن عبد السلام: ولو صدق في هذه المواطن لأثم أثم المتسبب إلى تحقيق هذه المفاسد. {قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام، الوجيز د. عبد الكريم زيدان}

4 طواف الحائض بالبيت طواف الإفاضة للضرورة:

يقول ابن القيم في إعلام الموقعين: إن الضرورة تبيح دخول المسجد للحائض والجنب، فإنها لو خافت العدو أو من يستكرهها على الفاحشة أو أخذ مالها، ولم تجد ملجأ إلا دخول المسجد جاز لها دخوله مع الحيض، وهذه (أي الحائض) تخاف ما هو قريب من ذلك، فإنها تخاف إن أقامت بمكة أن يؤخذ مالها إن كان لها مال، وإلا أقامت بغربة ضرورة، وقد تخاف في إقامتها ممن يتعرض لها، وليس لها من يدفع عنها. {إعلام الموقعين 3-20}

5 سقوط القطع في المجاعة للضرورة:

لأنه إذا كانت سنة مجاعة وشدة غلب على الناس الحاجة والضرورة، فلا يكاد يسلم السارق من ضرورة تدعو إلى ما يسد به رمقه.

وهذا مما استند إليه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في عام الرمادة من عدم قطع يد السارق.

6 الفتوى بالرأي:

يقول ابن القيم أيضًا في إعلام الموقعين:

إن الفتوى بالرأي لا تجوز إلا عند الضرورة، فالضرورة تبيحه كما تبيح الميتة عند الاضطرار.7 المحظورات عند التداوي والعلاج: فيباح بالنسبة للاضطرار مباشرة المحظور من الأدوية إلا الخمر وغيرها في حالة المرض، كالنظر إلى العورات ولمسها.

8 إباحة نكاح الإماء للضرورة:

إن الله تعالى منع من نكاح الإماء لأنهن في الغالب لا يحجبن حجب الأحرار، وهن في مهنة سادتهن وحوائجهن، فصان الله تعالى الأزواج أن تكون زوجاتهم بهذه المثابة، مع ما يتبع ذلك من رق الولد، وأباحه لهم عند الضرورة، كما أباح الميتة والدم ولحم الخنزير عند المخمصة. {المرجع السابق}

ومع ذلك فهناك حالات لا يجوز فيها استخدام قاعدة الضرورات تبيح المحظورات، مثل قتل النفس البريئة، فلو أكره شخص على قتل آخر وهدد بالقتل إن لم يفعل، فإنه لا يجوز له قتل معصوم الدم، لأن نفس البرئ معصومة كنفس المكره، فليس تخليص حياته هو أولى من إبقاء حياة غيره.

خامسًا : الضرورات تقدر بقدرها:

وهذه القاعدة توضح قاعدة الضرورات تبيح المحظورات، وهي بمثابة القيد لها، وتبين بدقة المقصود منها، والمقدار الذي تبيحه الضرورة من المحظورات الشرعية، لأن إباحة المحظورات يكون دفعًا لعدم تعرض نفس المكلف للهلاك، أو عرضه للانتهاك، أو ماله للغصب، وإذا كان الأمر كذلك فلا يجوز أن يباح من المحظور الشرعي إلا المقدار الذي تندفع به حالة الضرورة فقط، دون توسع في استباحة المحظور الشرعي.

وأصل هذا قوله تعالى: فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم.

{البقرة:173}

قال ابن القيم في تفسيره لهذه الآية: فالباغي الذي يبتغي الميتة مع قدرته للتوصل إلى المذكّى. والعادي: الذي يتعدى قدر الحاجة.

وقال: إن السلف في استخدام قاعدة الضرورة لم يفرِّعوا فيها، ويولِّدوا، ويوسعوا.. فلم يتعدوا قدر الضرورة، ولم يبغوا بالعدول إليه مع تمكنهم من النصوص والآثار.

{القواعد الفقهية المستخرجة من إعلام الموقعين}

فالمباح بالضرورة لابد له من أمرين:

الأمر الأول: أن يتعين هذا المحرم (المحظور) دافعًا للضرورة، بحيث لا تندفع الضرورة بدونه، هذه واحدة.

الأمر الثاني: أن تندفع ضرورته به، فإن لم تندفع فلا ضرورة.

فالدواء المحرم لا يمكن أن يكون ضرورة لإمكان أن يشفى المريض بلا دواء أو أن يشفى بدواء آخر مباح.

وكرجل وجد ميتة وهو مضطر فهل له أن يشبع أو يأكل بقدر ما يبقي حياته؟

فهو يأكل بقدر ما يبقي حياته. إذا قال أنا في أرض فلاة (صحراء) ولا أدري متى أحصل على طعام مباح وأشبع. نقول: لا تشبع املأ كيسك ولا تملأ بطنك، خذ من الميتة بالكيس ونحوه فإذا اضطررت إليه (بعد ذلك) فكل وإلا فلا. {القواعد والأصول الجامعة للسعدي شرح ابن عثيمين}

وكمن أكره على اليمين الكاذبة فإنه يباح له الإقدام على التلفظ مع وجوب التورية والتعريض فيها إن خطرت على باله التورية والتعريض، فإن في المعاريض مندوحة.

{شرح القواعد الفقهية أحمد الزرقا}

ومن الأمثلة أيضًا على أن الضرورة تقدر بقدرها، نظر الطبيب إلى عورة المريض، فإنه إنما ينظر إلى العورة بقدر ما تستوجبه الضرورة للمعالجة فقط.

وتقبل شهادة النساء في المواضع التي لا يمكن إطلاع الرجال عليها، وذلك للضرورة. ومن استشير في خاطب اكتفى بالتعريض كقوله: لا يصلح لك، ولم يعدل إلى التصريح. {الوجيز د. زيدان}

سادسًا : بين الحاجة والضرورة:

قد يحدث خلط بين الحاجة والضرورة، فلزم بيان الفرق بينهما، فالحاجة هي الحالة التي تستدعي تيسيرًا أو تسهيلا لرفع الضيق الذي يجده المكلف، وهي تتنزل فيما يحظره ظاهر الشرع منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة، وتنزيلها منزلة الضرورة في كونها تثبت حكمًا، لكنها تختلف عن الضرورة في أن الحاجة الحكم الثابت لها مستمر بينما الضرورة حكمها مؤقت بمدة قيام الضرورة فقط، حيث أن الضرورة تقدر بقدرها، والضرورة هي الحالة الملجئة إلى ما لا بد منه، والحاجة هي التي تستدعي التيسير للحصول على المقصود.

فالحاجة إذن دون الضرورة، ويحتاجها الناس لليسر والسعة، بحيث إذا لم تراع لا يختل نظام حياتهم، ولا تعمهم الفوضى، ولكن يصيبهم حرج شديد، ومشقة كبيرة، أما الضرورة فهي ما تقوم عليه مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت اختل نظام حياة الناس، ولم تستقم مصالحهم.

وقد صاغ العلماء قاعدة فقهية عن الحاجة، فقالوا: حاجة الناس تجري مجرى الضرورة (ذكرها ابن القيم وكذلك السيوطي وابن نجيم بلفظ: الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة الخاصة).

ومن أمثلة هذه القاعدة وتطبيقاتها:

1 تجويز السلم(1) فإنه يجوز بالنص على خلاف القياس للحاجة إليه.

2 تجويزهم استئجار السمسار على أنه له في كل مائة كذا، فإن القياس يمنعه ويستحق أجر المثل، ولكن أجيز التعامل به.

وقد راعى الشرع حاجات الناس، ومن تأمل أسرار الشريعة، وتدبر حكمها رأى ذلك ظاهرًا على صفحات أوامرها، ونواهيها، باديًا لمن له نظرة نافذة، فإذا حرم عليهم شيئًا عوضهم عنه بما هو خير منه وأنفع، وأباح لهم ما تدعو حاجتهم إليه ليسهل عليهم تركه، كما حرَّم بيع الرطب بالتمر وأباح لهم منه العرايا، وحرَّم عليهم النظر إلى الأجنبية، وأباح لهم منه نظر الخاطب والمعامل والطبيب، وحرَّم عليهم أكل المال بالمغالبات الباطلة كالنرد والشطرنج وغيرها، وأباح لهم أكله بالمغالبات النافعة كالمسابقة والنضال، وحرَّم عليهم لباس الحرير وأباح لهم من اليسير الذي تدعو الحاجة إليه، وحرم عليهم كسب المال بربا النسيئة، وأباح لهم كسبه بالسلم، وحرم عليهم في الصيام وطء نسائهم، وعوضهم عن ذلك بأن أباحه لهم ليلا، فسهل عليهم تركه بالنهار، وحرَّم عليهم الزنا، وعوضهم بأخذ ثانية وثالثة ورابعة، ومن الإماء ما شاءوا، فسهل عليهم تركه غاية التسهيل.

وحرم عليهم الاستقسام بالأزلام، وعوضهم بالاستخارة ودعائها، ويا بعد ما بينهما، وحرم عليهم نكاح أقاربهم وأباح لهم منه بنات العم، والعمة، والخال، والخالة، وحرم عليهم وطء الحائض، وسمح لهم في مباشرتها، وأن يصنعوا بها كل شيء إلا الوطء، فسهل عليهم غاية السهولة، وحرَّم عليهم الكذب، وأباح لهم المعاريض التي لا يحتاج من عرفها إلى الكذب البتة، وحرَّم عليهم كل ذي ناب من السباع، مخلب من الطير، وعوضهم عن ذلك بسائر أنواع الحيوانات والطير على اختلاف أجناسها وأنواعها. {إعلام الموقعين، الوجيز، شرح القواعد الفقهية}

سابعًا: عدم جواز التوسع في قاعدة الضرورات تبيح المحظورات:

فالأمر ليس بالهين، لأنك تأتي ما حرَّم الله عليك وجوزه لك اضطرارًا، واعلم أن الله يغار وغيرة الله أن تؤتى محارمه، ولم يكن من هدي السلف الصالح التفريع والتوسع في استعمال حالات الضرورة، وكانوا يقدرون للضرورة قدرها المحدد الذي تندفع به، فإذا اندفعت عادوا إلى الأصل وهو اجتناب ما حرم الله عليهم وقبل الإقدام على المحرمات، استوثق من أهل العلم وراجعهم، هل تنطبق عليك قيود الضرورة وضوابطها أم لا، خاصة أننا نعيش في عصر تنوعت فيه الضرورات وكثرت، كلٌ بحسبه، فلو وسَّعنا الأمر وفرَّعناه لتخبط الناس في المحرمات ليلا ونهارًا، ولانتهكت المحرمات.

والحمد لله رب العالمين.

 

 

 

في المعاملات الربوية، لانه لايمكن - كما يزعمون! - الاستغناء عنها في هذا العصر و هذا معناه نسخ الايات القرآنية التي تثبت حرمتها بصفة قاطعة الثبوت و الدلالة و دون ذلك خرط القتاد لتأديته الى أن الله كان لا يعلم حين حرم الربا هكذا ما فيه الخير و المصلحة للناس، و من البدهي أنه لا يرضى بذلك من يؤمن بالله و رسله و كتبه، و من يلاحظ بعين فاحصة ماجره الربا من خراب البيوت و ضياع ثروة الامة.

مة من يعتقد أن مبدأ "الضرورات تبيح المحظورات" يمكن أن يبيح هذا الأمر حتى أن بعض الفقهاء أجازوا دفع الرشوة للوصول إلى الحق. فهل توضحون فضيلتكم لنا مدى انطباق ذلك المبدأ على قضيتنا هذه؟

إذا توافر ظرف الضرورة بمعاييرها الشرعية وتوافر ظرف أيضا دفع الرشوة من أجل تعين الوصول إلى الحق وأنه لا سبيل آخر سوى هذا السبيل، فالضرورات تبيح المحظورات بشرط أن تكون هناك ضرورة بمعنى غلبة الظرف أو التيقن بالوقوع في الهلاك أو في دائرة الموت جوعا أو أنه سيبيت في الشارع، فإذا توافرت ظروف الضرورة فنحن نقول بالحل ولكن توافر ظروف الضرورة حالة محدودة ونادرة جدا وقلما ينطبق على مقترض من البنوك الربوية معنى الضرورة لأن لها ضوابط مشددة ينبغي أولا أن تحقق معنى الضرورة في المعايير الشرعية ثم نطبق القاعدة "الضرورات تبيح المحظورات" أو "الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة" فإذا وجدت المعايير الشرعية فنحن مع ذلك، هذه حالات وأمثلة نادرة جدا، فينبغي أيضا عدم التذرع بذريعة الضرورة من أجل الحصول على مسكن أفضل أو تنشيط تجارة أو توسيع مصنع أو تنشيط متجر ويقول الإنسان إنه في حال ضرورة، هذا ليس في حال ضرورة على الإطلاق، هذا في الواقع مترفه وليس مضطرا ، المضطر هو الذي يقترض من أجل الحفاظ على حياته من الوقوع في الموت بسبب الجوع الشديد أو العطش الشديد أو الإرباك الشديد أو التحقق من وجود ضرر في النفس أو المال أو الأهل فإذا توافر ظرف الضرورة بالمعنى الشرعي حينئذ نقول بالجواز ولكن توافر الضرورة بالمعنى الشرعي غير محقق في أغلب الحالات.

الربا، بل الأمة مجمعة على حرمته، ومن يقول الربا حلال فقد خالف المعلوم من الدين بالضرورة، لكنها متعلقة بحالات خاصة قد يرى المفتي أنها من الضرورة التي تبيح المحرمات، ويرى غيره خلاف ذلك. لكن الأصل متفق عليه بين الجميع.

 

 

هل يجوز تهنئة أهل الكتاب بأعيادهم

لا يجوز للمسلم أن يهنئ الكتابي بعيده المرتبط بدينه كالكريسماس مثلا؛ ولا أن يأكل من طعامهم المصنوع احتفاء بذلك اليوم أو غيره من أعيادهم الدينية؛ وذلك لوجوه شرعية معتبرة أولها: أن ذلك من التشبه بهم  وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : (من تشبه بقوم فهو منهم ) رواه أحمد وأبو داود ، وثانيها: أنه من التعظيم لشركهم وعونهم على كفرهم وقد قال الله عز وجل ( ولا تعاونوا على الإثم والعدوان  )  وثالثها: أنه لم يكن من هدي النبي تهنئة غير المسلمين بعيدهم، وقد علمنا أن اليهود كانوا يساكنونه المدينة ولم ينقل أنه هنأهم بعيدهم، ولا أصحابه من بعده كذلك ، ورابعها: أنه قد تتابع النقل عن أئمة الدين  النهي عن ذلك والتحذير من ذلك

 

أين الإسلام

أين الإسلام في بلد الإسلام ؟ بل أين المسلمون في بلاد المسلمين أسأل عن الإسلام ولا أسأل عن المسلمين عدداً ، فما أغنت الكثرة المفككة الهزيلة أمام من احتلوا الأرض وانتهكوا الحرمات وهم يتفرجون على مصائبهم وآلامهم غثاء لا غناء فيه ولا وزن ولا قيمة ، لا أسأل عن الإسلام دولاً وشعوباً تنتمي إليه بشهادات الميلاد ، ولكني أسأل عن الإسلام دين المروءة والشهامة والنجدة و الصدق والوفاء والأمانة ، لأننا إن وجدنا ذلك فقد وجدنا الإسلام ووجدنا المسلمين الذين يحسب حسابهم . أسأل عن المسلمين دولاً إسلامية تجمعها عقيدة وتوحد بينها روحه في السياسة و الاقتصاد و التقاليد و العادات ، تقوم المعوج و تصلح الفاسد وتعلي كلمة الحق وتحارب الطاغوت و تحقق في عالم الواقع العبودية لله .

أسأل بمرارة أين الإسلام بين من غلب الكذب على حديثهم والغش في معاملاتهم فلم يلتزموا بعهد ولم يوفوا بوعد ، ضاعت بينهم الحقوق وفسدت الطباع وانحطت الأخلاق وامتلأت القلوب حقداً وحسداً بين من انصرفوا عن واجباتهم وأهملوا أعمالهم استخفوا بأحكام شريعتهم وتجرؤا على المعاصي والوقوع في محارم الله واستعباد عباد الله والإمعان في الشهوات والإسراف في المتع والملذات قال تعالى : ) وإن بروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا (.الاعراف 146

و بعبارة أخرى فإن حال المسلمين اليوم حال لا يرضى عنها الإسلام ولا يرتضيها أهل الإيمان و التقوى فيهم ، صغرت عندهم أنفسهم وهانت عليهم كرامتهم ونسوا الله فنسيهم الله وأنساهم انفسهم ، حتى غزاهم المستعمرون واحتلوا البلاد وأذلوا العباد و فرضوا عليهم أنظمتهم واخذوا يرمون المسلمين بالتهم التي يتذرعون بها ليبرروا بقائهم في بلاد المسلمين ونهب ثرواتهم .

وفي تقديري ان هذا الكيد للإسلام ولأهله ليس وليد هذا العصر بل إنه حلقه في سلسلة طويلة من حلقات الكيد لدين الله والذين يدينون بهذا الدين وإذا كان المسلمون يريدون الخلاص مما هم فيه من خوف و قلق ، فلا بد لهم من العودة إلى ماضيهم المشرق يتلمسون قوتهم و أسرار صحوتهم ويقظتهم ونهضتهم من كبوتهم ، وأن يعودوا إلى أن يكونوا خير أمة أخرجت للناس ، يحملون دعوة الإسلام إلى العالم أجمع ، لأنه الرسالة الوحيدة التي تقدم للبشرية منهجاً يتميز بالتوازن والتكامل .

عن رسالة الإسلام هي الرسالة القادرة على بناء إنسان قوي الشخصية متكامل الشخصية يمشي على الأرض و يتطلع إلى السماء و يعايش الواقع ، يعمل للدنيا ولا ينسى الآخرة ويجمع المال ولا ينسى الحساب ، ياخذ الحق ولا ينسى الواجب ، يتعامل مع الخلق ولا ينسى الخالق ، يصلح نفسه ولا ينسى إصلاح غيره ، ينتهي وينهى داع إلى الخير آمر بالمعروف ناه عن المنكر حافظ لحدود الله .

والمسلم بلا إسلام يقتل نفسه ويظلمها والإنسانية بلا إسلام تدمر نفسها وتهدم سعادتها ، وتعيش حياة الشقاء الدائم في هذا العالم الذي لا يدوم ومن العجيب ان بعض الناس كفروا بالإسلام ولم يعودوا مسلمين أو استخفوا به لدرجة أنهم بدلاً من أن يحاربوا من لا يطبقه يدافعون عن تصرفاته الباطلة ولو بتهديم الإسلام .

وهو ما يريده أعداء الإسلام الذين يقفون في وجه أي توجه يعمل للخروج على هيمنتهم أو يحاول الاستقلال عنهم ، ويعملوا جاهدين لأن يكون المسلمين تابعين لهم يلهثون وراءهم لا يخرجون في أعمالهم وتصرفاتهم عن إرادتهم ورغباتهم .

والسؤال هنا ماذا على المسلمين أن يفعلوا أو ما هي طريق الخلاص ؟

إن الإسلام هو وحدة القادر على أن ينقذنا مما نحن فيه في كل مجالات الحياة فالعامل كي يتقن يحتاج إلى الفكر الذي يوجهه والصانع الذين يتقن عمله لا بد له من مجموعة أفكار تكون سلوكه وتكيف حياته ولا يكون ذلك إلا بعقيدة والعقيدة عندنا هي الإسلام فإذا فرعنا الناس من العقيدة لم بجد الصانع الذي يحسن صنعته ولا العامل الذي يتقن عمله نحن بحاجة إلى الإسلام بأفكاره ومفاهيمه في كل أمور حياتنا لنستقر و نشعر بالطمأنينة بدلاً من الهزات النفسية والاجتماعية و السياسية التي يتعرض لها المسلمون .

فالإسلام وحده هو القادر على إنقاذنا مما نعاني من مشكلات وويلات في كل جوانب الحياة وهذا ما ينادي به منظق الواقع ، لأننا جربنا الأنظمة و الأفكار والمذاهب المستوردة فلماذا لا نجرب الإسلام الذي وضع منهاجاً ينظم كل شؤون الحياة التي لا يصلحها إلا التمسك بالعقيدة ، حتى نقيم حياةً إنسانية فاضلة ، تعطينا الوازع الذاتي الذي يصنع الضمائر الحية التي توجب علينا الرجوع إلى الإسلام والقرآن والسنة ، إسلام الصحابة ومن تبعهم ، إسلام القرون الأولى الإسلام كما جاء به القرآن الكريم ودعا إليه رسول الله r هذا الإسلام الذي يريده الله لهذه الأمة ، ويوم يحكم هذا الإسلام حياتها فإنها ستسعد في الدنيا قبل الآخرة أما إذا أصبح المسلمون لا يعنيهم أمر الدين وأفكاره ولا يهمهم مصير الإنسانية ومستقبل العالم ، ولا تهمهم إلا الفوائد المادية الحاضرة التي تعود إلى أشخاصهم ، فحبلهم على غاربهم وأمرهم بيدهم ولكن ليعلموا أن سفينة الجاهلية التي اختاروها لسفرهم قد أحيط بها ، وليعلموا أن هذه السفينة إذا غرقت فإن تغرق ركابها ، وكل من وصل أسبابهم بأسبابها ، ولا عاصم من أمر الله إلا من رحم قال تعالى : ) ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من جون الله من أولياء ثم لا تنصرون (. هود 112

نسأل الله أن يردنا إلى الإسلام رداً جميلاً وأن يعيدنا إلى هذا الدين نطبقه كله عقيدةً وشريعة حتى نعود أمة إسلامية كما أمر الله .

 

ما هو حكم عقد الإيجار المنتهي بالتمليك

هذا العقد وجد أول ما وجد عام 1846م في إنجلترا، وأول من تعامل بهذا العقد، أحد تجار الآلات الموسيقية في إنجلترا، ثم بعد ذلك انتشر مثل هذا العقد وانتقل من الأفراد إلى المصانع، وكان أول هذه المصانع تطبيقًا لهذا العقد مصنع سنجر لآلات الخياطة في إنجلترا. ثم بعد ذلك تطور، وانتشر بصفة خاصة في شركات السكك الحديدية، التي تشتري المركبات، وتؤجرها لمناجم الفحم تأجيرًا ينتهي بالتمليك. ثم بعد ذلك انتشر هذا العقد، وانتقل إلى بقية دول العالم، فانتقل إلى الولايات المتحدة عام (1953م) ، وإلى فرنسا عام (1962م). ثم بعد ذلك انتقل إلى البلاد العربية والإسلامية عام (1397هـ).

إن عقد التأجير المنتهي بالتمليك اصطلاح معاصر ، لم يكن عند الفقهاء السابقين ، وهو مصطلح مركب من كلمتين: 1- التأجير أو الإجارة  2- التمليك ، أما الإجارة في اصطلاح العلماء: فهي عقد على منفعة معلومة مباحة من عين معينة أو موصوفة في الذمة أو على عمل معلوم بعوض معلوم مدة معلومة. والإجارة تنقسم إلى قسمين: 1- إجارة أعيان. 2- إجارة أعمال.

أما التمليك : فهو جعل الغير مالكًا للشيء ، وقد يكون تمليكًا للعين، وقد يكون تمليكًا للمنفعة، وقد يكون بعوض، وقد يكون بغير عوض. فإذا كان تمليكًا للعين بعوض : فهذا بيع ،  وإذا كان تمليكًا للمنفعة بعوض : فهذه إجارة ، وإذا كان تمليكًا للعين بلا عوض : فهي الهبة ، وإذا كان تمليكًا للمنفعة بلا عوض فهذه عارية .   

أما الإجارة المنتهية بالتمليك مركبة من كلمتين: تمليك منفعة من عين معلومة مدة معلومة، يتبعه تمليك العين على صفة مخصوصة بعوض معلوم. وقولهم: تمليك المنفعة فهي إجارة. وأما قولهم: يتبعه تمليك العين فهذا بيع .  

وقبل الدخول في عقد الإجارة المنتهية بالتمليك ، لابدّ من بحث بعض المسائل الفقهية التي يبنى عليها هذا العقد. فالذين منعوا هذا العقد قالوا: بأنه اشتراط عقد في عقد، وهذا لا يجوز عند جمهور أهل العلم. وقالوا : بأنه يتضمن تعليق عقد البيع على شرط مستقبل  وهذا لا يجوز. وقالوا : بأنه تعليق الهبة، وهذا لا يجوز. وقالوا: هذا مبني على الوعد والإلزام به، والوعد غير لازم عند جمهور العلماء .

وإذا عرفنا الحكم في هذه المسائل ، يتبين لنا الإجابة عن قول من منع عقد الإجارة المنتهي بالتمليك مطلقًا بكل أقسامه وصوره ، لأنه عقد جامع بين عقدين على عين واحدة غير مستقر على أحدهما ، وهما مختلفان في الحكم متنافيان فيه . كمن اشترى سيارة بهذا العقد ، فإن هذه السيارة يجري عليها أحكام الإجارة، ويجري عليها أحكام البيع فهذا العقد محرم، لما فيه من الغرر والجهالة؛ لأنه لا يعلم هل هذا عقد إجارة، أو عقد بيع، ولا يعلم أي أحكام العقدين يستقر على هذه العين ، فالبيع : يوجب انتقال العين بمنافعها إلى المشتري ، فلا يصح عقد الإجارة هذا على المبيع لأنه ملك للمشتري ، لأن الإيجارة توجب انتقال منافع العين فقط إلى المستأجر . والمبيع مضمون على المشتري بعينه ومنافعه ، فتلفه عليه  عيناً ومنفعة ، فلا يرجع بشيء منهما على البائع ، لأن العين المستأجرة من ضمان مؤجرها ، فتلفها عليه ، عيناً ومنفعة ، إلا أن يحصل من المستأجر تعد أو تفريط .

كما أن الأجرة في هذا العقد تقدر سنوياً أو شهرياً بمقدار قسط يستوفي به قيمة المعقود عليه ، يعتبره البائع أجرة من أجل أن يتوثق بحقه حيث لا يمكن للمشتري بيعه . فمثلاً إذا كانت قيمة العين التي وقع عليها العقد خمسة آلاف دينار وأجرتها شهرياً  مائة دينار حسب المعتاد ، جعلت الأجرة مائتان ، وهي في الحقيقة قسط من الثمن حتى تبلغ القيمة المقدرة ، فإذا قصّر عن دفع القسط الأخير مثلاً سحبت منه العين باعتبار أنها مؤجرة ولا يُردّ عليه ما أُخذَ منه بناء على أنه استوفى المنفعة . ولا يخفى ما في هذا من الظلم لأنه يضطر إلى الاستدانة لإيفاء القسط الأخير ، كما أن هذا العقد وأمثاله يؤدي إلى تساهل الفقراء في الديون ، وربما يؤدي إلى إفلاس بعض الدائنين لضياع حقوقهم في ذمم الفقراء .

وعليه فإن عقد الايجار المنتهي بالتمليك يتناقض مع أحكام البيع في الاسلام ، لأن البيع في الاسلام هو مبادلة مال بمال تمليكا وتملكا على سبيل التراضي، والبيع عن طريق هذه المعاملة لا يكون فيه تمليكا الا بعد السداد ، وهذا مناقض لأحكام البيع الشرعية ، حيث يملك المشتري السلعة بعد ابرام عقد البيع مباشرة ، ويجوز له أن يتصرف فيها جميع التصرفات الشرعية ، من بيع واجارة وهبة وهدية وعطية وصدقة وتبرع في سبيل الله ، والمدقق في واقع هذه المعاملة يجد أن لا صلة لها بالإيجارة، بل تنطبق عليها أحكام البيوع الفاسدة التي نهى عنها الاسلام كبيع الغرر والبيع بالشرط وغيره ، التي أفرد لها الفقهاء أبوابا خاصة في أبحاثهم الفقهية.

 

 

 

 

 

 

 

شكل الحكومة الإسلامية

في الحكومة الإسلامية ،يقوم نظام الحكم في أساسه على العقيدة الإسلامية ، وعلى الأحكام الشرعية ، والسيادة فيه للشرع لا للأمة ، ولا تملك الأمة فيه ولا ولي الأمر حق التشريع ، فالمشّرع هو الله ، ولولي الأمر أن يتبنى أحكاماً للدستور والقانون من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم

وفي الحكومة الإسلامية ، إقامة الدين ، وتنفيذ أحكام الشرع

في جميع شؤون الحياة الدنيا والأخرى ، فرض على المسلمين بالدليل القطعي الثبوت القطعي الدلالة ، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا بحاكم ذي سلطان ، والقاعدة الشرعية " أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب " فولي الأمر يحكم بين المسلمين بما أنزل الله ، وهو أمرٌ بشكلٍ جازم ، قال تعالى مخاطباً النبي صلى الله عليه وسلم ﴿ فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهوائهم عما جاءك من الحق ﴾ وخطاب الرسول خطاب لأمته ، وفي الحكومة الإسلامية ، تكون السيادة للشرع ، والسلطان للأمة  يأخذ ولي الأمر السلطان منها ، ببيعتها له ، ووجوب طاعة الأمة لمن بايعته ، أي لمن له في عنقها بيعه ، وهذا يدل على أن السلطان للأمة ، وأن يكون للأمة حاكم واحد ، من حقه فقط تبني الأحكام ، فيحرم عليه أن يتبنى حكماً لم يستنبط استنباطاً صحيحاً من الأدلة الشرعية ، ولا يجوز أن يتبنى خلافها   وينوب عن الأمة في الحكم والسلطان ، وفي تنفيذ أحكام الشرع  ذلك أن الإسلام قد جعل الحكم والسلطان للأمة ، تنيب من يقوم به نيابةً عنها ، وفي الحكومة الإسلامية ، يطالب المسلمون مطالبةً كليةً بتنفيذ وتطبيق جميع أحكام الإسلام كاملة ، سواء كانت تتعلق بالعقائد أو العبادات أو الأخلاق أو المعاملات قال تعالى ﴿ وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ﴾ وقد نهى الله رسوله والحكام المسلمين من بعده ، عن اتباع أهواء الناس ، وتحقيق رغباتهم حيث قال تعالى ﴿ ولا تتبع أهوائهم ﴾ كما حذّر الله رسوله والحكام المسلمين من بعده ، أن يفتنه الناس ، وأن يصرفوه عن تطبيق بعض ما أنزل الله إليه من الأحكام ، بل يجب عليه ان يطبق جميع ما انزل الله إليه من الأحكام التي انزلها الله عليه ، دون أن يلتفت إلى ما يريده الناس حيث قال تعالى ﴿ واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك ﴾ إذ لا تساهل في تطبيق أحكام الشرع ، ولا تدريج في تطبيق أحكام الإسلام ، كما تفعل بعض الدول التي تقيم حدود الله كقطع يد السارق وجلد الزاني ، فلا إنكار أن الحدود من أحكام الإسلام ، ولكن الذي ينكر ، أن تعتبر كل الإسلام   ويا ليت الحدود تقام لتحفظ الحقوق ، ويوطن الأمن ، وتحرس الفضائل ، لا أن تقام الحدود لتقطع يد لص صغير سرق قروش  ثم لا يقام الحد ، بل لا يفكر في إقامته أبداً ، على لص القناطير المقنطرة من خزائن الدولة ، ومن موارد الشعب ، علماً بأن التشريعات الجنائية والمالية ، ليست إلا فروعاً من الدستور الإسلامي ، الذي يجب أن يقرر أولاً ، وتحدد فيه حقوق الحاكم والمحكوم ، فإذا فقد هذا الأصل ، فأي غناء للفرع بعد فقدانه ؟ هناك بعض البلاد الإسلامية ، ليس فيها دستور إلا سلطان الحاكم المطلق ، وعندما يكون لسان الحال لحاكم ما ، هو لسان المقال ، الذي نطق بفرية فرعون عندما صرخ في اتباعه ﴿ أنا ربكم الأعلى ﴾ فكيف يقال أن هناك قانونا قائما أو هناك حدوداً محترمة ؟ كان بيت المال في الحكومة الإسلامية للأمة  وللحاكم منه الفتات ، الذي يمسك عليه حياته فقط ، أما هذه الأيام فبيت المال للحاكم ، يأخذ منه نصيب الأسد ، ثم يرمي بفضلاته للمصالح العامة ، فكيف يقال أن هذه حكومات دينية  وإن حدود الله تقام فيها ، وهي بحاجة إلى ما يحفظ عليها كيانها  فإن تم لها ذلك ، أمكن أن ترتفع إلى المستوى الذي يرسمه لها الإسلام ، وقلَّ أن تصل إلى هذه المرتبة ، لذا لا يقال هذه حكومات طبقت الإسلام ديناً ودولة .     

الدخان بين التحريم والإباحة

الفريق الذي يحرّم الدخان يعطيه حكم الخبائث ، والدخان من الخبائث ، ومعيار هذا الفريق للخبائث معيار عقلي ، أي ما يعتبره العقل خبيثاً فهو خبيث ، وما يعتبره طيباً فهو طيب ولذلك يعتبرون الدخان حراما بدليل قوله تعالى : ﴿ ويحل لهم الطيبات ويحرّم عليهم الخبائث ﴾ .

أما الفريق الذي يبيح الدخان ، فيعطيه حكم الإباحة ، استناداً إلى القاعدة " الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد دليل التحريم " ولا يعطيه حكماً خاصاً به ، لعدم ورود نص خاص به ، ولا يقيسه على شيء من المطعومات ، لأنها لا تعلل ، والقياس لا يكون إلا فيما يلتمس له عله ، ولا يُلْحقه بالخبائث ، لأن معياره للخبائث ، معيار شرعي ، والشرع لا يعتبر الشيء خبيثاً إلا إذا كان محرّما بنص خاص به ، ويستدلون لرأيهم بإباحة الدخان بقوله تعالى : ﴿ ألم تر أن الله سخّر لكم ما في الأرض جميعا ﴾ ومعنى تسخير الله جميع ما في الأرض للإنسان هو إباحته لكل ما في الأرض ، من حيوان وشجر وحجر ، ولا يصبح واحد منها حراما ، إلا إذا ورد نصٌ خاصٌ به يحرّمه ، أو نصٌ عامٌ يشمله ويحرّمه ، كما ورد النص بالتحريم في قوله تعالى : ﴿ حرّمت عليكم الميتتة والدم ولحم الخنزير ﴾ وهذه مستثناة من حكم الإباحة ، واكتسبت حكم التحريم بالنص على تحريمها ولما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن تحريم الجاهلية للبحيرة والسائبة والوصيلة والحام _ والبحيرة : الناقة تشق أذنها وتخلى للطواغيت إذا ولدت خمسة أبطن آخرها ذكر ، والسائبة : الناقة تسيب للأصنام لنحو برء من مرض أو نجاة في حرب ، والوصيلة : الناقة تترك للطواغيت إذا بكّرت بأنثى ثم ثنّت بأنثى ، والحام : الفحل لا يركب ولا يحمل عليه إذا لقح ولدُ ولده _ ثم تلى عليهم قوله تعالى : ﴿ قل لا أجد فيما أوحي إلىّ محرّما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتتة أو دماً مسفوحا أو لحم خنزير ﴾ وهكذا ظل التحريم مقتصراً على الأشياء الثلاثة : الميتتة والدم ولحم الخنزير ، وما سألوا عنه ليس بحرام لأن الأصل فيه الإباحة ولم يرد فيه نص يحرّمه ، ثم نزلت الآيات تستثني أفراداً أخرى من حكم الإباحة فتخرجها من الطيبات وتلحقها بالخبائث المحرّمة فقال تعالى : ﴿ حرّمت عليكم الميتتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ذالكم فسقٌ اليوم يئس الذين كفروا من دينكم ........الآية ﴾ المائدة 2 - الدمُ : الدم المسفوح وهو السائل ، لحمُ الخنزير : يعني الخنزير بجميع أجزائه ، ما أُهل لغير الله به : ما ذُكر عند ذبحه اسمُ غيره تعالى ،المنخنقة : الميتةُ بالخنق ، الموقوذة : الميتةُ بالضرب ، المتردية : الميتةُ بالسقوط من علو ، النطيحة : الميتةُ بالنطح ، ما أكل السبع : ما أكل منهُ فمات بجرحه ، ما ذكيتم : ما أدركتموه وفيه حياة فذبحتموه ، النصب : حجارة حول الكعبة يعظمونها ، تستقسموا : تطلبوا معرفة ما قُسم لكم ، بالأزلام : قداحٌ معلمةٌ معروفةٌ في الجاهلية ، ذلكم فسق : خروج عن طاعة الله إلى معصيته ، اضطُرًّ : ألجَأته الضرورة للتناول منها ، مخمصة : مجاعة شديدة ، مُتجانف لإثم : مائل إليه بتجاوز قدر الضرورة - ثم حرّم النبي صلى الله عليه وسلم كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير وحرّم لحوم الحمر الأهلية ، ولم يرد ذكر نوع من النباتات يندرج تحت شجرة الدخان فظل الدخان على أصل الإباحة وعل هذه الآية بنى الشافعي تحليل كل مسكوت عنه أخذاً من حصرها تحريم هذه الأشياء ، إلا ما دل عليه الدليل واعتبار الدخان من الخبائث غير وارد عندهم ، لأن الطيبات والخبائث التي وردت في الآية معناها الحلال والحرام ، فلفظة الطيبات كما قال الشافعي مختصةٌ فيما حلله الشرع في المحرّمات بالشرع ، ولذلك حتى نعطي الدخان وصف الخبث ، لا بد وأن يكون تحريمه سابقاً لوصفه ، ولا يكون الشيء حراما إلا إذا ورد نصٌ بتحريمه ولذلك فالدخان حتى نعطيه وصف الخبث لا بد أن يكون تحريمه سابقً لوصفه ، ولا يكون الشيء حراما بتا لا بد أن يكون تحريمه سابقً لوصفه ، ولا يكون الشيء حراما إلا إذا ورد نص ٌبتحريمه ، ولذلك لا يوصف بانه خبيث ، ولا يجوز إلحاقه بالخبائث ، بل يظل على حكم الأصل وهو الإباحة ، ولا يخرج عن هذا الأصل إلا إذا أوصل شربه إلى ضرر ، عندها يصبح حراما لقوله عليه السلام : ( لا ضرر ولا ضرار ) وعملاً بالقاعدة الشرعية التي تنص على أن : " الفرد من أفراد المباح إذا أوصل إلى ضرر يمنع " .

قاعدة : اليقين لا يزول بالشك

اليقين في اللغة : العلم وإزالة الشك وتحقيق الأمر الثابت، ومن القواعد التي تندرج تحتها ما يلي: " ما ثبت بيقين لا يرتفع إلا بيقين " ومفهوم ذلك أن اليقين لا يرتفع بما هو دونه ، كالشك والوهم ، لكونه أضعف من المثبت ، وقد ذُكِر أن هذه القاعدة مما استنبطه الشافعي ، وأنه أخذها من قول الرسول  صلى الله عليه وسلم : ( إذا وجد أحدكم في بطنه شيئاً فأشكل عليه أخرج منه شيء أم لا؟ فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً ) . وهذه القاعدة من الأسس العظيمة في الشريعة، عليها مدار كثير من الأحكام الفقهية في الشريعة الإسلامية. قال النووي في شرح أصل هذه القاعدة، وهو الحديث الذي ذكره آنفاً يقول: هذا الحديث أصل من أصول الإسلام وقاعدة عظيمة من قواعد الفقه وهي: أن الأشياء يحكم ببقائها على أصولها حتى يتيقن خلاف ذلك ولا يضر الشك الطارئ عليها ، لأن الشك عند الفقهاء : التردد بين وجود الشيء وعدمه ، وينقسم الشك باعتبار الوقت الذي حصل إلى قسمين : الشك في أثناء العبادة ، وبعد الشروع فيها ، في هذه الحالة يبنى على اليقين ، وهو العدم ، فمن شك في الفعل هل حصل منه أو لا فالأصل عدم الاتيان به : والبناء على ما ستيقن ، والأصل أنه لم يأت به لقوله صلى الله عليه وسلم : (وليبن على ما استيقن) فلو شك في العدد ، فالأقل هو المتيقن ، ولو شك في أثناء العبادات في ترك ركن وجبت إعادته ، ومن سها وشكّ هل سجد للسهو يسجد .

وأما الشك بعد الفراغ من العبادة : فلا أثر له ، لأن غالبه وسواس وقد انتهت العبادة ، لذا قالوا :"لا أثر للشك بعد الفراغ من العبادة "

ومن القواعد : " الأصل بقاء ما كان على ما كان " ومثاله من تيقن في الطهارة، وشك في الحدث ، فهو متطهر.

أدلة مشروعية القاعدة : من الكتاب والسنة والإجماع والمعقول .  

أما الكتاب 1ـ قوله تعالى (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) . سورة الأنعام آية 116

2ـ وقوله تعالى (وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنّاً إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ) . سورة آية يونس آية 36

3ـ وقوله تعالى (أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) . سورة يونس آية 66

4ـ وقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ) . سورة الحجرات آية 12

5 ـ وقوله تعالى (وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) سورة النجم آية 28

فالظن في هذه الآيات بمعنى التوهم .

أما الأحاديث فمنها : 1ـ حديث عباد بن تميم عن عمه أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل الذي يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة فقال ( ثم لا ينفتل أو لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا ) . صحيح البخاري ج1ص64 ، صحيح مسلم1/276 سنن أبي داود 1/45 وقد بوب البخاري على هذا الحديث فقال ( باب لا يتوضأ من الشك حتى يستيقن ) .

2 ـ حديث أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ثم إذا شك أحدكم في صلاته فليلق الشك وليبن على اليقين فإذا استيقن التمام سجد سجدتين فإن كانت صلاته تامة كانت الركعة نافلة والسجدتان ، وإن كانت ناقصة كانت الركعة تماما لصلاته وكانت السجدتان مرغمتي الشيطان  ) .سنن أبي داود 1/269، سنن النسائي 3/27، سنن ابن ماجة 1/382 ، مسند أحمد 3/83 صحيح مسلم 1/400

3 ـ حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ثم إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا فأشكل عليه ، أخرج منه شيء أم لا فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا ) . صحيح مسلم1/276 ، سنن الترمذي 1/109 ، سنن أبي داود 1/ 45 ، مسند أحمد 2/414 . قال النووي : " وهذا الحديث أصل من أصول الاسلام ، وقاعدة عظيمة من قواعد الفقه ، وهي ان الاشياء يحكم ببقائها على اصولها ، حتى يتيقن خلاف ذلك ، ولا يضر الشك الطاريء عليها ، فمن ذلك مسألة الباب التي ورد فيها الحديث ، وهي أن من تيقن الطهارة ، وشك في الحدث ، حكم ببقائه على الطهارة ، ولا فرق بين حصول هذا الشك في نفس الصلاة ، وحصوله خارج الصلاة ، قال النووي : هذا مذهبنا ومذهب جماهير العلماء من السلف والخلف " . شرح النووي على صحيح مسلم 4/49

 4ـ حديث عبدالرحمن بن عوف رضى الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (ثم إذا شك أحدكم في الثنتين والواحدة فليجعلها واحدة ، وإذا شك في الثنتين والثلاث ، فليجعلها ثنتين وإذا شك في الثلاث والأربع ، فليجعلها ثلاثا ، ثم ليتم ما بقي من صلاته ، حتى يكون الوهم في الزيادة ، ثم يسجد سجدتين وهو جالس قبل أن يسلم ).سنن ابن ماجة 1/381 .

أما الأجماع : فقد أجمع العلماء على أصل العمل بهذه القاعدة . وقد نقل الإجماع الإمام القرافي فقال : " هذه قاعدة مجمع عليها ، وهي أن كل مشكوك فيه يجعل كالمعدوم الذي يجزم بعدمه" الفروق 1/111. وقد أشار الإمام ابن دقيق العيد إلى ذلك فقال: "   حديث عباد بن تميم ، أصل في إعمال وطرح الشك ، وكأن العلماء متفقون على هذه القاعدة ، لكنهم يختلفون في كيفية استعمالها"  إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام 1/78.وقال أبوبكر السرخسي  " إن التمسك باليقين ، وترك المشكوك فيه ، أصل في الشرع " أصول السرخسي 2/ 116.

أما من جهة المعقول : فلا شك ان اليقين أقوى من الشك ، لأن اليقين يتصف بالثبات والاستقرار ، في مقابل أن الشك يحمل معنى التردد والاحتمال ، فلا يقوى على إزالة اليقين ، وإلى هذا أشار مصطفى الزرقاء فقال : اليقين أقوى من الشك ، لأن اليقين حكماً قطعياً جازماً ، فلا ينهدم بالشك "   المدخل الفقهي 2/981

  التطبيقات على القاعدة : تطبق هذه القاعدة في مسائل كثير من أبواب مختلفة ، سواء في العبادات أو المعاملات أو العقود ومن هذه التطبيقات : 1ـ إذا شك في طهارة الماء أو غيره أو نجاسته بنى على اليقين. شرح العمدة 1/83 .

2ـ لو شك هل صلى ثلاثة أو أربعا وهو منفرد بنى على اليقين إذ الأصل بقاء الصلاة في ذمته ، وإن كان إماما فعلى غالب ظنه لأن المأموم ينبهه ، فقد عارض الأصل هنا ظهور تنبيه المأموم على الصواب ، وقال الشافعي ومالك : يبني على اليقين مطلقا لأنه الأصل. بدائع الفوائد 3/779 .

3ـ إذا شك هل طاف ستا او سبعا أو رمى ست حصيات او سبعا بنى على اليقين . بدائع الفوائد 3/779 .

4ـ إذا شك هل عم الماء بدنه وهو جنب أم لا ، لزمه يقين تعميمه ما لم يكن ذلك وسواسا . بدائع الفوائد 3/779.

5ـ إذا اشترى ثوبا جديدا أو لبيسا ، وشك هل هو طاهر أو نجس فيبني الأمر على الطهارة ، ولم يلزمه غسله . بدائع الفوائد 3/779

6ـ إذا كان عليه حق لله عز وجل من صلاة أو زكاة أو كفارة أو عتق أو صيام وشك هل أتى به أم لا ، لزمه الإتيان به . بدائع الفوائد 3/779

 7- إذا شك الصائم في غروب الشمس لم يجز له الفطر، لأن الأصل بقاء النهار، ولو اكل أفطر، ولو شك في طلوع الفجر ، جاز له الأكل ، لأن الأصل بقاء الليل ، ولو اكل لم يفطر . بدائع الفوائد 3/789

  8 - وإذا وقع الشك في وجود الرضاع أو في عدد الرضاع المحرم هل كملا أو لا لم يثبت التحريم ، لأن الأصل عدمه ، فلا نزول عن اليقين بالشك . المغني 8/138

 9- وإن شك في عدد الطواف بنى على اليقين قال ابن المنذر : " أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على ذلك " . ولأنها عبادة فمتى شك فيها ، وهو فيها بنى على اليقين . المغني 3/187

 

ما حكم العمل في الشركات التي تعمل في الحلال والحرام

إن العمل في الشركات التي تعمل في مجالات الحلال والحرام جائز ، إذا كان العامل فيها لا يقوم بالعمل في المجال المحرم من أعمال هذه الشركات.

لأن ما لا يفضي إلى الحرام بشكل مباشر، يبقى على أصل الإباحة   والقاعدة الشرعية تنص على : " أن الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد دليل التحريم " ومن يعمل في المباح ، مع من يكتسب الحرام ، لا مانع من ذلك ،  لأن العمل اذا لم يكن فيه إعانة على الحرام، فلا حرج فيه شرعا ، ومن لا يعمل على بيع الخمر في شركة ، ولا يعين على بيعه  فعمله جائز على الراجح ، ولا حرج عليه في عمله هذا ، لأنه عمل مباح  والأجر عليه مباح ، أما إن كان عمله يتعلق بالخمر بشكل خاص ، فهذا غير جائز، لدخوله في الإعانة على الإثم، والله تعالى يقول: ﴿ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾ المائدة 2 ، وما رواه أبو داود والحاكم عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لعن الله الخمر وشاربها ، وساقيها ، وبائعها ، ومبتاعها ، وعاصرها  ومعتصرها ، وحاملها  والمحمولة إليه ، وآكل ثمنها ) هذا الحديث صححه الألباني في صحيح الجامع برقم: 5091 . لعن النبي صلى الله عليه وسلم في الخمر عشرة أشخاص، والذي شربها من هؤلاء العشرة واحد، والبقية مجرد معينين له على هذه المعصية، ولاشك أن الشخص إذا عمل في حانة أو مرقص  وكان عمله هو تسجيل وأخذ بيانات شاربي الخمر، فإنه معين لهم على تناولها ، ومن المقرر شرعاً ، أنه كما يحرم على المسلم فعل المحرم  ، فإنه يحرم عليه الإعانة عليه ، والأجر المأخوذ على ممارسة هذه الإعانة حرام  لقوله تعالى : ﴿ وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ﴾ وإذا كان العامل يستطيع في عمله هذا ، أن يمتنع عن الإعانة على الحرام ، ويقتصر على المباح ، فيجوز له أن يبق في عمله ، وإلا وجب عليه الترك ، إلا إذا كان مضطرا إلى العمل ، بحيث إذا تركه لم يجد ما يأكل أو ما يشرب أو ما يسكن ونحو ذلك من الضروريات له ولمن يعول  فإن كان مضطرا على هذا النحو ، جاز له العمل حتى يجد عملا آخر تندفع به ضرورياته ، والأصل في ذلك قول الله تعالى : ﴿ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ﴾ الأنعام: 119.

 

حكم رسائل الجوال التي تُختم بعبارة "انشر، تُؤجر"

لا يجوز إرسال مثل هذه الرسائل ، ولا وضعها أمانة في أعناق الناس لأن هذا من إيجاب ما ليس بواجب ، ولا يجوز إلْزام الناس بما لم يُلزمهم به الله ورسوله صلى الله عليه وسلم . ، ولأن في هذه الرسائل عبارات تختزل الدين في كلمات يرددها عدد من الناس،  ليتلهوا بترديدها عن العبادات المختلفة، ويجعل كاتب هذه العبارات النعيم المقيم والسعادة السرمدية لمن أرسلها إلى غيره ، وامتثل لما ورد فيها، والعذاب والخراب والشقاء في الدنيا والآخرة لمن لم يمتثل، وكل هذا يعد قرينة دامغة على تفاهة مرسلها، وسوء طويته، وابتغائه الشر كل الشر من صياغتها وإرسالها للناس على هذا النحو، فإن الدين لم يُختزل في عبارات يتمتم بها بعض الناس أو ينقلها بعضهم إلى بعض، لأن فيه إلزاماً لأمر لم يجعله الله واجباً  ،  وفيه تجنياً على نصوص الشرع التي لم ترد بمثل هذه الصيغ ، وفيه تكليفاً للناس بما لم يكلفوا به ، وهذا قد يتسبب بضيق الناس من العبادات والأذكار فيقولوها على أنها دين فقط ، فتكون بمثابة نطق باللسان دون أن يكون للقلب أي تأثر بذلك

إذ الدين الإسلامي عبادات ومعاملات وأخلاق وسلوك، وإذا كان الدين الإسلامي يختزل في هذه العبارات المقرونة بالنعيم السرمدي لمن رددها، والعذاب المقيم لمن لم يفعل، فلا معنى مع ذلك من تشريع عبادة أو معاملة أو سلوك إسلامي، أو غيرها من أساسيات الدين، لعدم الحاجة إليها للفوز بسعادة الدنيا والآخرة، وهذا يقتضى أن لا ينال الجزاء الذى أعده للصالحين إلا من عمل  وليس من أخذ على نفسه أن يردد ألفاظا حتى ولو كانت مأثورة، ولذا فإن من جاءته عبارات من هذا النوع عن طريق مواقع التواصل أو نحوها، فليلغها ولا يبلغها لأحد، ومن جاءه مثل ذلك في أوراق تطبع وتوزع، فليمزقها، فإن مغزاها خبيث، ومبتغى صاحبها شر في معتقد الناس، ولا ينبغي لأحد أن يعبأ بما ورده منها، أو أن يلقى لها بالا، وليس له أن يكرر قراءتها، أو أن يعلق بذهنه شيء من عباراتها، فإنها تأتى من أعداء هذا الدين، الذين يبغون هدمه، وزلزلة معتقد الناس فيه ، فقد صرّح رجل الدين الإسرائيلي هنري ليونر لصحيفة إسرائيلية تصدر بتل أبيب قائلا: إن لنا أعوانا ومساعدين يعملون  ليل نهار على _الواتس آب _ بجدية منقطعة النظير لإضعاف الإسلام بين المسلمين ،  وأضاف الفقيه الإسرائيلي، نحن نكتب بيانات باللغات: العربية والتركية والهندية والفارسية، وكل لغة يتكلم بها المسلمون في جميع أنحاء العالم ،  وفى هذه الرسائل: آيات قرآنية صحيحة وأحاديث نبوية صحيحة وأقوال لأئمة المسلمين صحيحة، ولكننا نكتب في آخر الرسالة: أرسلها لـ 10 أشخاص أو أقل أو أكثر ونقول لهم: إذا أرسلت هذه الرسالة لهذا العدد من الأشخاص فستحدث لك معجزة وسترى اليوم معجزة، أو بعد 15 دقيقة أو أكثر أو أقل ، ونؤكد لهم ذلك بأن هذا الأمر مجرب وأكيد وبعد مرور الفترة الزمنية التي حددناها له في الرسالة سيرى المسلم أنه لم تحدث معه معجزة ولا أي شيء. وسيعتبر ما قرأه عن الله  وعن الرسول والأئمة مجرد خرافات، ولا يأتي منهم إلا الخداع. ولا ينتظر منهم إلا السراب، وهكذا بمرور الزمن وتكرار هذه الرسائل  سيضعف إيمانهم بالدين بهذا نهزمهم في دينهم، ونزلزل عقيدتهم، لأن دينهم لا يقدم لهم إلا السراب والخداع ، وبذلك نستطيع أن نسيطر عليهم " .

لذا لا يجوز شرعًا إرسال هذه الرسائل؛ لأنه إيجاب ما لم يوجبه الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم تدلّ عليه قواعد الشريعة. وإن ترتيب ثواب أو عقاب على تلك الأعمال تقوّل على الله تعالى بالباطل. قال الله تعالى: ﴿ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ ﴾ الشورى/21 . 

وعلى المسلمين الابتعاد عن كل ما من شأنه تشويه صورة الدين ، وأن يتعالوا بأنفسهم عن تصديق كل مدَّع فيما يكتبه في تلك الرسائل؛ لأن الكثير منها مليء بالخرافات والأكاذيب، وكفى بالمرء إثمًا أن يُصدِّق أو يُحدِّث بكل ما سمع. والله أعلم ، ولاشك أن في هذا سلوكاً لغير شرع الله تعالى ، فإن الله تعالى لم يلزم الناس بما ألزموهم به بل إن خطاب الشارع الحكيم هو تحبيب الناس للذكر وبيان أجره ولا يوجد أي دليل حسب علمي يجيز لأحد من الناس أن يأخذ العهد والميثاق على أحد في عبادة .

 ما هو حكم الختان

الختان شعار من شعائر الإسلام ، وأقرب الأقوال أن الختان واجب في حق الرجال، سنة في حق النساء، ووجه التفريق بينهما أن الختان في حق الرجال فيه مصلحة تعود إلى شرط من شروط الصلاة وهي الطهارة، لأنه إذا بقيت القلفة، فإن البول إذا خرج ثقب الحشفة بقي وتجمع في القلفة وصار سبباً إما لاحتراق أو التهاب، أو لكونه كلما تحرك خرج منه شيء فيتنجس بذلك. وأما المرأة فإن غاية ما فيه من الفائدة أنه يقلل من غُلمتها - أي شهوتها - وهذا طلبُ كمال، وليس من باب إزالة الأذى.

ومن ذهب من الأطباء إلى منع الناس منه بدعوى أن له ضرراً فلا يلتفت إلى قوله لأن قوله مصادم لأمر النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.

والله تعالى أعلم

هل يستحق الهاتف المحمول كل هذا الاهتمام؟

إن كان لغرض المكالمة والتواصل نتفق ؛ أما لمتابعة برامجها وألعابها وخدماتها من أفراد العائلة فرداً فرداً  ،كل فرد على حده ، بهاتف محمول لا يلقي بالاً لجليس ولا أنيس فلا ، فما السبب ؟  في اتجاه الشباب والفتيات خصوصاً والمجتمع عموماً إلى التقنيات الحديثة عموماً والهواتف المحمولة خصوصاً ، نجد أن وقت الفراغ وانعدام الأهداف هو السبب الغالب والأعم.

الغرب يسمينا بدول العالم الثالث, بين قوسين (بالدول المتخلفة) فهل حمتنا شراهتنا الشرسة على اقتناء التقنيات الحديثة من هاتف محمول ولاب توب  هل حمتنا من وسم التخلف؟!! لا بل زادت من تمسك القوم بهذه التسمية لأننا نستورد ولا نصدر ، نأكل ولا نفكر ، نصمت ولا نسأل. فلماذا لا نسأل أنفسنا ما الذي جلب لهم التقنية والصناعة التي نمسك بها بين أيدينا في كل دقيقة ولحظة ؟ هل نحن عبيد لصناعاتهم ومنتجاتهم ؟. ولماذا نقبل أن نكون سوقاً لترويج صناعاتهم ؛ وهل يعقل أن دولة صغيرة مثل تايوان تتفوق على جميع الدول العربية اقتصادياً ؟!!. للأسف؛ ظننا أن تطورنا يكون بسيارة آخر موديل ، أو هاتف محمول بشريحتين ولم ننظر بعين الحقيقة والواقع عن السر في تقدم تلك الدول ، ونحن نفكر في اقتناء أحلى  هاتف محمول . ولم نفكر في سرّ تقدمهم الذي يرجع إلى تعظيمهم للقراءة؛ قراءة الكتب لأبنائهم وبناتهم وشبابهم  بل وحتى أطفالهم منذ الصغر وحتى الكبر .. لا يتوقفون عن قراءة الكتب. في الجامعة كتاب ، وفي البيت كتاب ، وفي الحافلة كتاب ، وفي الحديقة كتاب ، وفي أماكن الانتظار كتاب ، وفي المقاهي كتاب  بل حتى في أماكن اللهو والمرح تجد هناك مكاناً للكتاب عندهم.

بينما نحن استبدلنا الكتاب بالهاتف المحمول ؛ ففي الجامعة محمول ، وفي البيت محمول ، وفي الحافلة محمول .. وهكذا إلى نهاية فصول حياتنا اليومية التي لا تخلوا من محمول وربما محمولين ، وقد تتطور إلى محمولات.

ذاك سر تقدمهم ، إنه الكتاب ، بينما سر تخلفنا هو الجري على التقنية والجديد دون المحاولة في الصناعة والتطوير ؟ . نعم؛ ولكن كيف يكون لنا قدم سبق في العلم والتقنية ، ونحن نرضع من لبن الغرب الصناعي ولم نبحث عن اللبن الطبيعي ، الذي رضع منه الغرب ، وهو العلم والعكوف على القراءة وتخصيص الأوقات والساعات لتلك المهمة ، حتى أصبحت القراءة عندهم عادة وعبادة وعمل ، لا يمكن تركه بأي حال من الأحوال. فالعامل عندهم يقرأ ، والطبيب يقرأ، والأم تقرأ والأب يقرأ ، والطالب يقرأ ، والمدير يقرأ ، أما نحن فإن سر تخلفنا وجهلنا هو غياب الكتاب عن حياتنا فأين من يقرأ ؟  لذا ؛ لا عجب أن لا نجد من يصنع ومن يكتب، ومن يصمم!! لا عجب  ، فلا يؤتى العلم إلا من أبوابه. أما آن لنا أن نهتم بالكتاب والمكتبات لتصبح أكثر من عدد محلات الهواتف المحمولة؟ أم أن هذا مستحيل ؟ أترك الإجابة لك عزيزي القارئ .

حكم تتبع الرخص

المراد بالرخص هنا ليست حقيقتَها؛ وإنما هي التيسيراتُ والتخفيفات التي ينفرد بها مذهبٌ دون آخر. نحو عدم نقضِ الوضوء من لمس المرأةِ والاكتفاء بمسح بعض الرأس في الوضوء ، ولذا كانت تسميتها بـالرخص تسميةً مجازية لا حقيقية ، ولا بد من العلم أن الرخص نوعان: الأول: رخص شرعية ثابتة بالكتاب أو السنة، كالقصر والجمع في السفر، فهذه يستحب الأخذ بها إذا وجد سببها .

والثاني: رخص المذاهب الفقهية، وهي فتوى عالم بالجواز في مسألة خلافية ، قال غيره فيها بالمنع والحظر. وتتبع مثل هذه الرخص أخذا بالأيسر مطلقا، دون مرجح شرعي، ودون تقليد العامي لمن يظنه الأعلم، بل على سبيل التشهي واتباع الهوى منكر لا يجوز .

ومن أبواب الشرِّ التي فتحها الشيطانُ على العباد ، بابُ تتبُّعِ رُخَصِ الفقهاء وزلاّتهم ، فخدعَ بذلك الكثيرين من جهلةِ المسلمين  فانتُهكتِ المحرّماتُ وتُركتِ الواجباتُ ، تعلّقاً بقولٍ أو رخصةٍ زائفةٍ ، فصاروا   يُحكِّمونَ أهواءَهُم في مسائل الخلافِ ، فيأخذون أهونَ الأقوالِ وأيَسَرَها على نفوسهم ، دون استنادٍ إلى دليلٍ شرعي ، بل تقليداً لزلّةِ عالم     لو استبان له الدليلُ لرجع عن قوله بلا تردُّد ، فإذا ما أنكر عليهم أحدٌ ، تعلَّلوا بأنهم لم يأتوا بهذا من عند أنفسهم ، بل هناك مَن أفتى لهم بجوازِ ذلك ، وليسُوا بمسئولين ، فقد قلَّدوهُ والذنب عليه إن أصابَ أو أخطأ ، بل انهَّم يأخذونَ برخصةِ زيدٍ من الفقهاء في مسألةِ ما   ويهجرون أقوالهُ الثقيلة في المسائل الأخرى ، فيعمدون إلى التلفيق بين المذاهب والترقيعِ بين الأقوال ، ويحسبُون أنهم يحسنون صُنعاً ، وأشاع الشيطانُ بين هؤلاء الناس مقولة : " ضعها في رأس عالم واخرج منها سالماً " ، فإذا نزلت بأحدهم نازلةٌ ، ذهب إلى بعض المتساهلين في الإفتاء ، فيفتيه بها مع مخالفتها للدليل ، مع أن المفروض  على الإنسان أن يسأل من هو أهلٌ للفتيا، ولا يسأل من يعلم أنه يوافق هواه    فيكون متتبعاً للرخص ، يدور مع هواه حيث دار ، ينظر في كل مسألة ما هو الأخف؟ وما هو الأيسر؟ وفي ذلك خروج عن الشريعة . وقد أجمع العلماء على أن من تتبع الرخص فهو فاسق ، ومن تتبع رخص الفقهاء فهو فاسق، وقد نهاه الشارع عن كل موجب للفسق، فالفسق إنما يجر إليه فعل المحرمات وترك الواجبات، وقد نقل عن غير واحد من العلماء ، أن تتبع الرخص يوجب الفسق ، قال ذلك الإمام أحمد   والمروزي، ونقل الإجماع على فسقه ، ابن حزم وابن عبد البر وأبو الوليد الباجي من المالكية، وقال الأوزاعي : "من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام". وأخيراً لعلّ الحل الأمثل للخروج من بؤر الرخص والشبهات ، هو التزام مذهب فقهي من المذاهب الأربعة في عباداتنا وسلوكياتنا ومعاملاتنا ، بحيث لا نخرج عن هذا المذهب إلاّ في حالات الحرج والمشقة في دائرة المذاهب الأربعة .

 

 

حكم تتبع الرخص

المراد بالرخص هنا ليست حقيقتَها؛ وإنما هي التيسيراتُ والتخفيفات التي ينفرد بها مذهبٌ دون آخر. نحو عدم نقضِ الوضوء من لمس المرأةِ والاكتفاء بمسح بعض الرأس في الوضوء ، ولذا كانت تسميتها بـالرخص تسميةً مجازية لا حقيقية ، ولا بد من العلم أن الرخص نوعان: الأول: رخص شرعية ثابتة بالكتاب أو السنة، كالقصر والجمع في السفر، فهذه يستحب الأخذ بها إذا وجد سببها .

والثاني: رخص المذاهب الفقهية، وهي فتوى عالم بالجواز في مسألة خلافية ، قال غيره فيها بالمنع والحظر. وتتبع مثل هذه الرخص أخذا بالأيسر مطلقا، دون مرجح شرعي، ودون تقليد العامي لمن يظنه الأعلم، بل على سبيل التشهي واتباع الهوى منكر لا يجوز .

ومن أبواب الشرِّ التي فتحها الشيطانُ على العباد ، بابُ تتبُّعِ رُخَصِ الفقهاء وزلاّتهم ، فخدعَ بذلك الكثيرين من جهلةِ المسلمين  فانتُهكتِ المحرّماتُ وتُركتِ الواجباتُ ، تعلّقاً بقولٍ أو رخصةٍ زائفةٍ ، فصاروا   يُحكِّمونَ أهواءَهُم في مسائل الخلافِ ، فيأخذون أهونَ الأقوالِ وأيَسَرَها على نفوسهم ، دون استنادٍ إلى دليلٍ شرعي ، بل تقليداً لزلّةِ عالم     لو استبان له الدليلُ لرجع عن قوله بلا تردُّد ، فإذا ما أنكر عليهم أحدٌ ، تعلَّلوا بأنهم لم يأتوا بهذا من عند أنفسهم ، بل هناك مَن أفتى لهم بجوازِ ذلك ، وليسُوا بمسئولين ، فقد قلَّدوهُ والذنب عليه إن أصابَ أو أخطأ ، بل انهَّم يأخذونَ برخصةِ زيدٍ من الفقهاء في مسألةِ ما   ويهجرون أقوالهُ الثقيلة في المسائل الأخرى ، فيعمدون إلى التلفيق بين المذاهب والترقيعِ بين الأقوال ، ويحسبُون أنهم يحسنون صُنعاً ، وأشاع الشيطانُ بين هؤلاء الناس مقولة : " ضعها في رأس عالم واخرج منها سالماً " ، فإذا نزلت بأحدهم نازلةٌ ، ذهب إلى بعض المتساهلين في الإفتاء ، فيفتيه بها مع مخالفتها للدليل ، مع أن المفروض  على الإنسان أن يسأل من هو أهلٌ للفتيا، ولا يسأل من يعلم أنه يوافق هواه    فيكون متتبعاً للرخص ، يدور مع هواه حيث دار ، ينظر في كل مسألة ما هو الأخف؟ وما هو الأيسر؟ وفي ذلك خروج عن الشريعة . وقد أجمع العلماء على أن من تتبع الرخص فهو فاسق ، ومن تتبع رخص الفقهاء فهو فاسق، وقد نهاه الشارع عن كل موجب للفسق، فالفسق إنما يجر إليه فعل المحرمات وترك الواجبات، وقد نقل عن غير واحد من العلماء ، أن تتبع الرخص يوجب الفسق ، قال ذلك الإمام أحمد   والمروزي، ونقل الإجماع على فسقه ، ابن حزم وابن عبد البر وأبو الوليد الباجي من المالكية، وقال الأوزاعي : "من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام". وأخيراً لعلّ الحل الأمثل للخروج من بؤر الرخص والشبهات ، هو التزام مذهب فقهي من المذاهب الأربعة في عباداتنا وسلوكياتنا ومعاملاتنا ، بحيث لا نخرج عن هذا المذهب إلاّ في حالات الحرج والمشقة في دائرة المذاهب الأربعة .

 

 

 

  

 

حكم تتبع الرخص

المراد بالرخص هنا ليست حقيقتَها؛ وإنما هي التيسيراتُ والتخفيفات التي ينفرد بها مذهبٌ دون آخر. نحو عدم نقضِ الوضوء من لمس المرأةِ والاكتفاء بمسح بعض الرأس في الوضوء ، ولذا كانت تسميتها بـالرخص تسميةً مجازية لا حقيقية ، ولا بد من العلم أن الرخص نوعان: الأول: رخص شرعية ثابتة بالكتاب أو السنة، كالقصر والجمع في السفر، فهذه يستحب الأخذ بها إذا وجد سببها .

والثاني: رخص المذاهب الفقهية، وهي فتوى عالم بالجواز في مسألة خلافية ، قال غيره فيها بالمنع والحظر. وتتبع مثل هذه الرخص أخذا بالأيسر مطلقا، دون مرجح شرعي، ودون تقليد العامي لمن يظنه الأعلم، بل على سبيل التشهي واتباع الهوى منكر لا يجوز .

ومن أبواب الشرِّ التي فتحها الشيطانُ على العباد ، بابُ تتبُّعِ رُخَصِ الفقهاء وزلاّتهم ، فخدعَ بذلك الكثيرين من جهلةِ المسلمين  فانتُهكتِ المحرّماتُ وتُركتِ الواجباتُ ، تعلّقاً بقولٍ أو رخصةٍ زائفةٍ ، فصاروا   يُحكِّمونَ أهواءَهُم في مسائل الخلافِ ، فيأخذون أهونَ الأقوالِ وأيَسَرَها على نفوسهم ، دون استنادٍ إلى دليلٍ شرعي ، بل تقليداً لزلّةِ عالم     لو استبان له الدليلُ لرجع عن قوله بلا تردُّد ، فإذا ما أنكر عليهم أحدٌ ، تعلَّلوا بأنهم لم يأتوا بهذا من عند أنفسهم ، بل هناك مَن أفتى لهم بجوازِ ذلك ، وليسُوا بمسئولين ، فقد قلَّدوهُ والذنب عليه إن أصابَ أو أخطأ ، بل انهَّم يأخذونَ برخصةِ زيدٍ من الفقهاء في مسألةِ ما   ويهجرون أقوالهُ الثقيلة في المسائل الأخرى ، فيعمدون إلى التلفيق بين المذاهب والترقيعِ بين الأقوال ، ويحسبُون أنهم يحسنون صُنعاً ، وأشاع الشيطانُ بين هؤلاء الناس مقولة : " ضعها في رأس عالم واخرج منها سالماً " ، فإذا نزلت بأحدهم نازلةٌ ، ذهب إلى بعض المتساهلين في الإفتاء ، فيفتيه بها مع مخالفتها للدليل ، مع أن المفروض  على الإنسان أن يسأل من هو أهلٌ للفتيا، ولا يسأل من يعلم أنه يوافق هواه    فيكون متتبعاً للرخص ، يدور مع هواه حيث دار ، ينظر في كل مسألة ما هو الأخف؟ وما هو الأيسر؟ وفي ذلك خروج عن الشريعة . وقد أجمع العلماء على أن من تتبع الرخص فهو فاسق ، ومن تتبع رخص الفقهاء فهو فاسق، وقد نهاه الشارع عن كل موجب للفسق، فالفسق إنما يجر إليه فعل المحرمات وترك الواجبات، وقد نقل عن غير واحد من العلماء ، أن تتبع الرخص يوجب الفسق ، قال ذلك الإمام أحمد   والمروزي، ونقل الإجماع على فسقه ، ابن حزم وابن عبد البر وأبو الوليد الباجي من المالكية، وقال الأوزاعي : "من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام". وأخيراً لعلّ الحل الأمثل للخروج من بؤر الرخص والشبهات ، هو التزام مذهب فقهي من المذاهب الأربعة في عباداتنا وسلوكياتنا ومعاملاتنا ، بحيث لا نخرج عن هذا المذهب إلاّ في حالات الحرج والمشقة في دائرة المذاهب الأربعة .

 

 

 

  

 

 

  

 

ما حكم سب الدين أو الرب

سب الدين أو الرب من أعظم الكبائر ومن أعظم المنكرات ، وقد اتّفق الفقهاء وأهل العلم جميعا في حُكم من سبَّ دين الله ، أو سبَّ الله وشتَمه، أو سبَّ رسوله، أو استهزأ به ، على أنه كافرٌ مُرتَدّ عن الإسلام إن كان مسلماً، سواءً كان ذلك السبُّ مباشراً بشتم الذّات الإلهيّة أو الدّين الإسلاميّ، أو غير مباشر عن طريق الاستهانة بتعاليم الله، وأحكامه، وكتبه، ورُسله، أو الاستهزاء بما جاء به أنبياؤه، وجاء بيان حُكم سبِّ الدّين أو الاستهزاء به في كتاب الله عزَّ وجلَّ قال تعالى: ﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ۚ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ*لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ۚ إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ ﴾ التوبة . أما مَن شتم دينَ مسلم ، فإنه لا تجوز المسارعة إلى تكفيره؛ لأنه وإن أقدم على أمر محرَّم شرعًا ، إلا أنه لَمّا كان محتملًا للدِّين ، بمعنى تدين الشخص وطريقته ، فإن هذا الاحتمال يرفع عنه وصف الكفر، إلا أنه مع ذلك لا ينفي عنه الإثم شرعًا؛ لأنه أقدم على سب مسلم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ ) أخرجه الشيخان من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، كما أنه تجرأ بذلك على لفظ سَيِّئٍ قبيحٍ دائر بين الكفر والإثم ، فإن سلم من الكفر فإنه واقع في المعصية، وقد نهى الشرع عن إطلاق الألفاظ  التي تحتمل معاني فاسدة، فكيف إذا احتملت الكفر وسب دين الإسلام! وعلى ذلك جرى كلام الفقهاء في تأثيم صاحبه وتعزيره من قبل الحاكم ، مع المنع مِن المبادرة بتكفيره ، بمقتضى كلام فقهاء الحنفية -كما يقول العلامة ابن عابدين في "رد المحتار على الدر المختار" : أنه لا يكفر بشتم دين مسلم؛ أي لا يحكم بكفره لإمكان التأويل   بأن مراده أخلاقه الرديئة ، ومعاملته القبيحة ، لا حقيقة دين الإسلام فينبغي أن لا يكفر حينئذ، ونص على ذلك المالكية ؛ جاء في فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب مالك : " يُؤخَذ مِن هذا الحكمُ فيمن سب الدين أو الملة أو المذهب وهو يقع كثيرًا مِن بعض سفلة العوام كالحمّارة والجمّالة والخدّامين، وربما وقع من غيرهم ، فإن قصد الشريعة المطهرة والأحكام التي شرعها الله تعالى لعباده على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ، فهو كافر قطعًا ، وإن قصد حالة شخص وتَدَيُّنَه فهو سب المسلم؛ ففيه الأدب أي التعزير باجتهاد الحاكم  ويفرق بين القصدين بالإقرار والقرائن " .

وعليه فإن سب الدين أمر محرم شرعًا؛ فإن قصد به المتلفظ طريقة الشخص وتدينه وأخلاقه فهو آثم شرعًا ، مرتكب لمعصية سمّاها النبي صلى الله عليه وسلم فسقًا، ولكنه لا يكون كافرًا ، ولا يجوز إطلاق الكفر عليه، أمّا مَن سب الدين مريدًا به دينَ الإسلام قاصدًا عالمًا فإنه يكون مرتدًا عن الإسلام ، ويكون كافرًا يستتاب ، فإن تاب وإلا قتل من جهة ولي الأمر ، وقال بعض أهل العلم: إنه لا يستتاب بل يقتل؛ لأن جريمته عظيمة ، ولكن الأرجح أنه يستتاب لعل الله يمن عليه بالهداية فيلتزم الحق ، ولكن لا مانع من تعزيره، وهو الصواب كما قال جمع من أهل العلم ، وينبغي أن يعزر بالجلد والسجن حتى لا يعود لمثل هذا ، وقال آخرون: لا يستتاب بل يقتل بكل حال وهو قول قوي ، لكن استتابته أولى إن شاء الله ، مع التأديب المناسب والسجن المناسب ، حتى لا يعود إلى هذا المنكر، وهكذا لو سب القرآن أو سب الرسول صلى الله عليه وسلم ، فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل؛ لأن سب الدين وسب الرسول صلى الله عليه وسلم وسب الرب من نواقض الإسلام ، وكذا الاستهزاء بالله أو برسوله أو بالجنة أو بالنار أو بأوامر الله كالصلاة والزكاة، فإن القول الراجح عند المحققين من أهل العلم وهو مذهب الجمهور أن من سب الله عز وجل أو سب الرسل أو بعضهم يجب قتله حدا ، ولا تقبل توبته إن تاب ، يدل عليه قول الله عز وجل : ﴿ إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ماكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا ﴾ وقد استدل شيخ الإسلام ابن تيمية بهذه الآية على أن المسلم يقتل من غير استتابة إذا سب الرسول صلى الله عليه وسلم وإن تاب بعد أخذه ، فقال في كتابه الصارم المسلول على شاتم الرسول ، بأن هذا يقتضي قتله ويقتضي تحتم قتله ، وإن تاب قبل الأخذ ، لأنه سبحانه ذكر الذين يؤذون الله ورسوله ويؤذون المؤمنين والمؤمنات ، فإذا كانت عقوبة هؤلاء لا تسقط إذا تابوا قبل الأخذ ، فعقوبة هؤلاء أولى وأحق ، يعني أن من قذف مؤمنا أو مؤمنة فإن العقوبة المترتبة على القذف لا تسقط وإن أظهر القاذف توبته ، وكذلك عقوبة من سب الله أو سب رسوله فإن عقوبته لا تُسقِط بلسانه ، كفر هو باق عليه ، إلا أن العقوبتين تتفاوت فعقوبة سب المسلم إن كانت قذفا فالحد ، وإن كانت شتما فالتعزير أما عقوبة سب الله أو سب رسوله فهي القتل حدا :

صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أهدر دم عبد الله بن خطل لأنه أسلم ثم ارتد ، فكان يشتم النبي صلى الله عليه وسلم فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله ، وإن كان متعلقا بأستار الكعبة ، وأمر بقتل كعب بن الأشرف فقال : من لكعب بن الأشرف فإنه آذى الله ورسوله  وأمر بقتل امرأة كانت تتغنى بهجاء النبي صلى الله عليه وسلم ولما قتلها رجل من المسلمين ، قال لا ينتطح فيها عنزان ، وأمر الأعمى بقتل جاريته التي كانت تتغنى بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاها فأبت فقتلها ، إلى غير ذلك من الأدلة التي حصرها يطول وقد استقصى جميعها أو أكثرها شيخ الإسلام في كتابه المذكور، الصارم المسلول ، فقال إن سب الله أو سب رسوله صلى الله عليه وسلم كفر ظاهرا وباطنا سواء كان الساب يعتقد أن ذلك محرم أو كان مستحلا له أو كان ذاهبا عن اعتقاده .

هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول وعمل وقد قال الإمام أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم الحنظلي المعروف بابن راهوية ، وهو أحد الأئمة يعدل بالشافعي وأحمد ، قال قد أجمع المسلمون أن من سب الله أو سب رسوله صلى الله عليه وسلم أو دفع شيئا مما أنزل الله أو قتل نبيا من الأنبياء أنه كافر، وإن كان مقرا بما أنزل الله ، وكذلك قال محمد بن سحنون ، وهو أحد الأئمة من أصحاب مالك قال : أجمع العلماء أن شاتم النبي صلى الله عليه وسلم المنتقص له كافر، والوعيد جار عليه بعذاب الله ، وحكمه عند الأمة القتل ، ومن شك في كفره وعذابه كفر ، وقد نص على مثل هذا غير واحد من الأئمة ، ثم ذُكِر عن الإمامين أحمد بن حنبل والشافعي ما يؤيد هذا المذهب ثم قال : وكذلك قال أصحابنا وغيرهم من سب الله كفر سواء كان مازحا أو جادا لهذه الآية قال تعالى : ﴿ قل أبا لله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم ﴾ ثم قال وهذا هو الصواب المقطوع به

أما حكم سبّ الدّين في حالة الغضب الشديد :

يرى الفقهاء أنّ من سبَّ الدّين الإسلاميّ أو الذّات الإلهيّة، أو أساء إلى الله أو رسوله فعلاً أو قولاً بعد أن وصل إلى حالة غضبٍ شديدٍ؛ بحيث لم يعلم ما صدر عنه من أفعال أو كلمات فإنّه لا يؤاخذ على ما صدر منه ولا يترتّب عليه شيءٌ عن ذلك حتّى لو فعل ما فعل، ويمكن أن التحقُّق من حالته بسؤاله عمّا فعل، فإن ذَكَرَه فإنّما يكون مُدرِكاً لفعله وقوله    فهو كافر مرتد عن الدين ، أمّا إن لم يَذكُر ما فعله أو قاله فيكون قد خرج عن طوره، ولم يعِ أقواله وأفعاله، فيدخل بذلك في حُكم المدهوش  

أما عن قبول توبة سابّ الدّين :

اختلف أهل العلم في قبول توبة سابّ الدّين أو سابّ الله على قولين الأول : أنّ توبته لا تُقبَل، بل يُحكَم عليه بالقتل لكفره، ولا تجوز الصّلاة عليه، ولا الدُّعاء له بالرّحمة، ولا يُدفَن في مقابر المسلمين، وقد ذهب إلى ذلك فُقهاء الحنابلة. الرّأي الثاني: تُقبّل توبته إذا عُلِم عنه صِدق توبته إلى الله، وأقرَّ بأنّه قد أخطأ بحقّ الله وحقّ نفسه، ثمّ وصف الله -سبحانه وتعالى- بما يليق به من صفات الكمال والتّعظيم. شروط توبة سابّ الدّين فقال تعالى: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ فإذا تاب سابُّ الدّين من فعله، أو قوله فإنّ الله يتوب عليه ما دامت توبته صحيحةً مُستوفيةً الشّروط الشرعيّة، فهو كغيره من العصاة والمرتدّين؛ إن تابوا قُبلت توبتهم، أمّا شروط التّوبة النَّصوح التي ينبغي توفّرها فيمن يُريد التوبة من شتم الدّين الإسلاميّ، فهي: أن تكون التوبة خالصةً لله سبحانه وتعالى؛ وذلك بألّا يكون القصد من التوبة الرِّياء أو السُّمعة، أو مخافة مخلوق، أو رجاء نعمةٍ دنيويّة ينالها كأن تكون وظيفةً، أو مالاً، أو منصباً، فإذا أخلص التائب في توبته لله، وكان الدافع لها تقوى الله عزّ وجلّ، ومخافة عقابه، ورجاء ثوابه يكون قد حقّق الشرط الأوّل الأهمّ في صحّة التّوبة. أن يندم الذي سبَّ الدّين الإسلاميّ أو الذات الإلهيّة على ما فعل من الشتائم، والاستهانة بالإسلام وأحكامه وشرائعه، أو شتمه لشيءٍ من ذلك، بحيث يجد في قلبه حسرةً لما فعل، وحزناً على ما بدر منه، وأن يرى أنّ ما فعله سابقاً كان كبيرةً من الكبائر، ويجب عليه التوبة عنها، وترك العودة إليها قَطعاً. أن يعزم على الإقلاع عمّا فعله من شتم الدّين، والإساءة إلى أحكام الإسلام، فلا يبقى مُصرّاً على فعله، يُعيده مرّةً بعد مرّة. أن يعزم التائب على ألّا يعود إلى ذلك الفعل بعد ذلك في المستقبل مهما جرت الظروف، ومهما تغيّرت الأحوال؛ وذلك بأن ينوي بقلبه متيقّناً، ويعزم مؤكّداً أنّه لن يعود إلى تلك المعصية ما دام على قيد الحياة.

أما حكم زوجة من سب الدين :

وبما أن سبّ الدين ردّة عن الإسلام، والمرتدّة لا تكون زوجة لمسلم والمرتدّ لا يكون زوجًا لمسلمة؛ فإذا ارتد أحد الزوجين قبل الدخول حُكِمَ بفسخ عقد النكاح بينهما، ولا عدّة لها، فلا تحلّ له إلا بعد أن يسلم من ارتدّ منهما ، فينطق بالشهادتين ثم يعقد عقد نكاح جديد على تلك المرأة ، وإن كانت الردة بعد الدخول حُكِم بالتوقف؛ فليس له أن يعاشرها معاشرة الأزواج بل ينتظران: فإن عاد المرتد منهما إلى الإسلام وتاب وهي في العدة رجعت إليه من دون حاجة إلى شيء  أي إذا تاب وأناب إلى الله رجعت إليه ، وأما إذا انتهت العدة وهو لم يتب فإنها تنكح من شاءت ، ويكون ذلك بمثابة الطلاق ، لا أنه طلاق ، لكن بمثابة الطلاق لأن الله حرم المسلمة على الكافر .

 قبل انتهاء عدّة المرأة؛ استمرّ النكاح، وإلا بانت منه بينونة صغرى من حين الردة، ولا يُجَدَّد عقد النكاح بينهما إلا إذا عاد المرتدّ إلى الإسلام ، أما إن تاب بعد العدة وأراد أن يتزوجها فلا بأس ، ويكون بعقد جديد أحوط خروجاً من خلاف العلماء ، وإلا فإن بعض أهل العلم يرى أنها تحل له بدون عقد جديد ، إذا كانت تختاره ، ولم تتزوج بعد العدة بل بقيت على حالها ، فإن الأكثرين يقولون : متى خرجت من العدة بانت منه وصارت أجنبية لا تحل إلا بعقد جديد ، فالأولى والأحوط أن يعقد عقداً جديداً ، هذا إذا كانت قد خرجت من العدة قبل أن يتوب ، فأما إذا تاب وهي في العدة فهي زوجته ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر الذين أسلموا بعد إسلام زوجاتهم على أنكحتهم قبل خروج زوجاتهم من العدة .

والجدير بالملاحظة أن العدّة هنا كعدة المطلقة، وأن الفسخ بسبب الردة لا يُحسب طلاقاً؛ فلا يدخل في عدد الطلقات.

 

 

حكم كتابة الأب بعض أملاكه باسم أحد أولاده لتكون له بعد موته

يجب على الأب العدل بين الأولاد في الهبة ، ويحرم التخصيص أو التفضيل  إلا بسبب يوجب ذلك . فإن كان هناك ما يدعو إلى التفضيل أو التخصيص فلا بأس ، كأن يكون أحد الأولاد مريضاً أو أعمى أو ذو عاهة  أو كان ذا أسرة كبيرة أو طالب علم ونحو ذلك من الأسباب فلا بأس بتفضيله لشيء من هذه المقاصد ، بشرط أن يفعل ذلك حال صحته في غير مرض مخوف, وفي هذه الحال يجوز له أن يهب بعض أملاكه لأحد أبناءه أو يبيعه له بيعا صوريا ولا حرج عليه في ذلك, والبيع إن كان صوريا فقط ، فهو في حقيقته هبة, وإذا رفع الرجل يده عن بعض أملاكه وحاز أحد الأبناء ما وهبه له ، وصار يتصرف فيه تصرف المالك صار له ذلك  تشجيعًا له وإكرامًا، ويمنع الإبن العاق تأديبًا له، ولكن لا يعطي الأب كلَّ ماله لأحد أبنائه؛ لئلا يحرم وارثًا من حقه في الميراثِ، فقد نحل أبوبكر الصديق ابنته عائشة رضي الله عنهما عشرين وسقًا بالغابة، واختصها بها دون أختيها كما في روى في موطأ مالك ، وسئل مالك: عن الرجل يكون له ولد ، فيبره بعضهم، فيريد أن يعطيه من ماله دون بعض، أذلك له؟ قال: نعم، لا بأس به، ذلك له. وقال محمد بن رشد رحمه الله: إنما أجاز مالك أن يُعْطى الرجل العطية لمن يبره منهم؛ لأنه لم يقصد بذلك إلى تفضيل بعض أولاده على بعض، وإنما أعطى البار جزاء على بره، وحرم العاق أدبًا لعقوقه، فلا مكروه في ذلك إن شاء الله، وإنما المكروه أن يفضل بعض أولاده على بعض، فيخصه بعطية، مخافةَ أن يكون ذلك سببا إلى أن يعقه الذي حرمه عطيته، أو يقصر فيما يلزمه من البرِّ به ، وقد أشار إلى ذلك الإمام أحمد بقوله في تخصيص بعض الأولاد بالوقف : لا بأس إذا كان لحاجة ، وأكرهه إذا كان على سبيل الأثرة . فإن للشخص المؤهل للتصرف أن يوزع جميع ممتلكاته بهبة أو صدقة أو غيرهما، إذا كان ذلك على سبيل النفاذ ، بحيث يتصرف كل من وهب له شيء ، تصرف المالك في ملكه. أما إذا كان ذلك معلقا بموت الواهب ، فإنه يأخذ حكم الوصية التي لا تجوز  لوارث ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ ، فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ ) رواه أبو داود وغيره  وصححه . وقال ابن قدامة في المغني: فإن مات ولم يَرْدده ، فقد ثبت لمن وهب له ، إذا كان ذلك في صحته، يعني: إذا فاضل بين ولده في العطايا أو خص بعضهم بعطية ثم مات قبل أن يسترده ، فإن ذلك يثبت للموهوب له ويلزم، وليس لبقية الورثة الرجوع.

ويجوز للوالد تخصيص أحد أبنائه بالعطية دون الآخرين إذا كان لهذا سبب خاص وحاجة معينة، فيجوز له مثلاً أن يساعد الولد المريض للعلاج، ولا يجب عليه تعويض الآخرين عما يدفعه لهذا المريض، وكذلك بالنسبة لابنه الذي يحتاج المال للدراسة، ونحو ذلك. ودليل ذلك ما رواه الإمام مالك في الموطأ من تخصيص أبي بكر ابنته عائشة رضي الله عنهما ببستان أهداه لها دون باقي إخوانها، وذلك لكفايتها - وهي أم المؤمنين وزوج النبي صلى الله عليه وسلم- عن حاجة الناس. وأما نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن إعطاء أحد الأبناء دون بقية إخوانه، كما رواه النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ رضي الله عنه أَنَّ أُمَّهُ بِنْتَ رَوَاحَةَ سَأَلَتْ أَبَاهُ بَعْضَ الْمَوْهِبَةِ مِنْ مَالِهِ لِابْنِهَا فَالْتَوَى بِهَا سَنَةً، ثُمَّ بَدَا لَهُ، فَقَالَتْ: لَا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا وَهَبْتَ لِابْنِي. فَأَخَذَ أَبِي بِيَدِي - وَأَنَا يَوْمَئِذٍ غُلَامٌ - فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ أُمَّ هَذَا بِنْتَ رَوَاحَةَ أَعْجَبَهَا أَنْ أُشْهِدَكَ عَلَى الَّذِي وَهَبْتُ لِابْنِهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا بَشِيرُ! أَلَكَ وَلَدٌ سِوَى هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ: أَكُلَّهُمْ وَهَبْتَ لَهُ مِثْلَ هَذَا؟ قَالَ: لا قَالَ: فَلَا تُشْهِدْنِي إِذًا فَإِنِّي لا أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ ) رواه البخاري ومسلم ، فهذا النهي عندما تكون العطية على وجه المحاباة وتمييز أحد الإخوان على أشقائه بلا مبرر شرعي.

وكذلك الحكم إذا كان أحد الأبناء بحاجة إلى المساعدة للحصول على سكن ، فهذا يجيز للوالد تخصيصه ، ولا إثم عليه إن شاء الله .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 هل يجوز أن تخرج المتوفى عنها زوجها ؟

إن للزوج حقوقاً على الزوجة في حياته وبعد مماته ، ومن الحقوق الواجبة تعظيماً لحق الزوج ، ورعاية لحرمة النكاح ، الاحداد على الزوج بعد وفاته في زمن العدة ، بترك الزينة ، واجتناب ما يُرَغِّب إلى النظر إليها ، وهذا واجب باتفاق الأئمة الأربعة ، دل على ذلك السنة الصحيحة عن أم عطية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا تحد امرأة على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا ولا تلبس ثوباً مصبوغاً إلا ثوب عصب ، ولا تكتحل ولا تمس طيباً إلا إذا طهرت من نُبْذَة من قُسطِ أو أظفار ) رواه البخاري في صحيحه ، ويقال له القسط والكسط، وهو نوع من الطيب على شكل ظفر الإِنسان يوضع في البخور ، كما اتفقت المذاهب على تحريم الحلي للمعتدة ، وقد أجمع أهل العلم على وجوب الإحداد على المتوفى عنها زوجها في العدة ، ومن الأمور التي تجب على المعتدة في زمن العدة ترك الزينة وترك الطيب ، وإذا تركت الإحداد أثمت وعليها ملازمة المسكن الذي توفي وهي ساكنة فيه ، لحديث الفريعة بنت مالك حيث قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن أذن لها في الانتقال : ( امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله ) الاصل القرار في البيت وعدم الخروج منه إلا لحاجة قال تعالى : ﴿ وقرن في بيوتكن ﴾ الاحزاب 33 . وقد اختلف الأئمة الأربعة في حكم خروجها من بيتها ليلاً أو نهارا ، والقول المختار جواز خروجها نهاراً لقضاء حوائجها كبيع وشراء ما تحتاجه والعلاج ، ولا تخرج ليلاً إلا للضرورة ، وكذلك لا تخرج للعبادة إذا كانت العبادة تحتاج لسفر كحج أو عمرة ، واتفق الفقهاء على جواز الخروج إن وجب عليها حق لا يمكن استيفاؤه إلا به .     

 

 لماذا نخاف أعدائنا

ما الذي أوصلنا إلى هذه الدرجة من الانحدار والسقوط ؟ ولماذا تخلينا عن مكانتنا التي أرادها الله لنا ؟ هل نسينا أننا كنا للشعوب مثالاً ؟ أما كنا خير الناس بما نملك من قيم ؟ وأعظمها بما كان لنا من حضارة، لقد كنا أهل الشرف والوفاء وحملة لواء النخوة والنصرة، نهب لنجدة الملهوف فينا وننتصر للضعيف بيننا، ونضرب على يد الظالم فينا، ماذا أصابنا ؟ ولماذا تردت أخلاقنا وساءت نفوسنا ؟ بتنا نقتل بحقد، ونغتال بخبث ، فلا أرض تسترنا، نتآمر على الأخ والقريب نبحث عن كل وسيلةٍ للقتل ، ونبتدع كل طريقةٍ للثأر والانتقام ، نشتري من عدونا سلاحاً لنقتل به أنفسنا وأهلنا، نتآمر مع عدونا ليقتلنا وأهلنا وهو الذي خرب بلادنا ، وسام أمتنا سوء العذاب، ننساه ولا نمسه بسوء ونبتعد عنه ولا نذكر جرائمه، وننأى بأنفسنا عن مقاومته فلا نقاتله، ما الذي دهانا ؟ وما هذه المصيبة التي حلت علينا ؟ أي نائحةٍ جائحةٍ أصابتنا ؟ وأي نقمةٍ حلت علينا ؟ أيُ ضياعٍ نعيش ؟ وأي غربةٍ نقاسي؟ أصبحنا نكره أنفسنا، كلنا يتطلع لأن ينسلخ عن بني جلدته، ويخرج عن قومه، غايتنا أن نعيش، وأن نتخلص مما نحن فيه من ذلٍ وهوان وشدةٍ وعسرٍ وضيق حال، وأن ننعتق من العبودية التي أصابتنا ، وأن نتحرر من القيد الذي أسرنا، سئمنا الموت، ولم يعد فينا شجاعاً مغواراً، ولا قائداً جباراً، وبتنا نخاف من كل صوتٍ نظنه انفجاراً، ونكره الهدنة التي يتبعها دمارٌ وخرابٌ، وقصفٌ وتفجيرٌ ، أما آن لنا أن نحقن الدماء ،ونضع حداً لنار الحرب التي بيننا ، ويكون بعضنا لبعض أهلاً وإخوانا، يستغيث بنا من احتل الأعداء بلادهم ، ويطلبون النجدة منا ، إذ لم يجدوا من ينصرهم على عدوهم، لأن منا من يتعامل مع عدونا سياسيا، ودبلوماسيا واقتصاديا، بما يقويهم علينا ، ويحمون مصالحهم بالسلاح الذي يوجهونه إلى صدور الغاضبين على العدو منا غير مبالين بقوله الله تعالى : ﴿ وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا ﴾ النساء75 .

واجب على كل قادر منا على مناصرة إخوانه المجاهدين بالمال أن يدفع ما يقدر عليه لمن يوصله إليهم، فهم في أشد الحاجة إلى المال، وعلى كل قادر من المسلمين على العمل على طرد اليهود من فلسطين ، أن يفعل ما يقدر عليه، من قتل أو ضرب أو إهانة وإذلال، لأنهم أعداء محاربون فقد أمر الله المسلمين أمرا جازما بقتل العدو المحارب الذي احتل الأرض ونقض العهد وخان الأمانة، أينما وجد ، وأمر بحصره والترصد له إلى أن يتوب من عدوانه ويعود إلى رشده ، كما قال تعالى: ﴿ فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم ﴾ التوبة 5 .

إن ما يفعله اليهود اليوم في فلسطين ، والصليبيون المعاصرون وعملاءهم من العلمانيين والإعلاميين ، والعقول التي لم تقبل نداء الحق الذي فيه عز المسلمين وكرامتهم، ونصرهم على عدوهم الذي عزز في نفوس المسلمين الخنوع والمذلة لأعدائهم، وأصبحوا يخافونهم أشد من خوفهم من ربهم، وهنا نتساءل : هل يحل لعدونا أن يرهبنا ويَحْرُمْ علينا إرهابه؟! ألم يشرع الله لنا في كتابه إرهابنا لعدونا؟ وهل ما شرعه الله لنا في القرآن مما فيه عزنا وكرامتنا عيب علينا ؟ وما شرعه أعداؤنا مما فيه خزينا وذلنا خير لنا؟ ألم يتفوق أعداؤنا على قادتنا بوسائل إرهابهم، حتى أصبح عندهم القوة التي لا تقهر؟! ألم يقل الله تعالى: ﴿ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون ﴾ الأنفال 60 ، وإذا كان الدفاع عن النفس والعرض والأرض إرهابا كما يتصور الأعداء ، فعلينا إذن أن نكون إرهابيين .

كيف كنا واين انتهينا

 كنا أمة تدكُ صروح الشرّ على وجه الأرض ، وتدوس تحت أقدامها كل القوى المادية ، التي تحطمت أمامها ، معلنة الضعف الحقيقي ، ومظهرة أن المادة لا يمكنها أن تقف أمامها بأي شكل من الأشكال ، وإذا بأضخم الحصون تنهد ، وأعظم المعاقل تندك ، وأكبر الجيوش تهزم ، وأقوى الدول ترضخ ، وإذا بمجد الفرس ينتهي ، وعز الروم يختفي ، ولم تستطع قوى الشر أن تبدي حراكا ، وآثرت السكون والهدوء .

فخلف خلف ورثوا الجاه الواسع ، والوطن الشاسع ، فلم يجدوا شاغلاً لوقتهم غير النزاع ، ولفراغهم غير الضياع ، استكانوا وتركوا الجهاد ، فتوقف خط السير عن التقدم والرقي والارتفاع ، وتحركت قوى الشر ، للسيطرة على المسلمين عن طريق اصطناع عملاء لهم ، يستطيعون أن يتوصلوا إلى مراكز حساسة ، ويستطيعون أن يتوصلوا عن طريقهم على المعلومات التي يريدونها ، وعلى توجيه السياسة كما يرتؤون ، ويستميلوا هؤلاء العملاء عن طريق المال فيغرونهم به ، أو عن طريق الجاه لإيصالهم إلى مناصب كبيرة  أو عن طريق الجنس فيقدمون لهم النساء ، ليسيطروا على الأمة ومقدراتها .     

بهذا انطفأت مصابيح الإسلام بأيدي المسلمين ، وأمسوا يسيرون بلا خطه ويحكمون بلا شرعه ، ويفكرون بلا عقل ، فولاة أمرهم لا يدركون ما انتهوا إليه من ضعف في أفكارهم وفي أعمالهم وفي وسائلهم ، ولم يغفل  الأعداء عن هذا المصير ، فتحرشوا بالمسلمين ، ومازالوا يناوشونهم حتى اغتصبوا فلسطين ، فهل ظُلم المسلمون ؟ كلا . فقد أنزلهم الله على سننه الخالدة كما أنزل غيرهم من الأمم ، وها هم اليوم يعيشون مرحلة حرجة من مراحل التاريخ، ويعيشون في ذات الوقت واقعًا مريرًا، كما أنهم يعيشون حياة الذل والهوان والاستكانة، ويرضخون لما يملى عليهم من أعوان الكفر والإلحاد من كل أمة، ومن كل جنس ولون، ولا تزال أمتنا الإسلامية تأكل فتات الموائد العالمية، ولا زالت أيضًا هي القصعة المستباحة لكل الأمم من الشرق أو الغرب، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم في حديث القصعة المشهور الذي رواه الإمام أحمد في مسنده عن ثوبان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم :( يوشك أن تتداعى عليكم الأمم من كل أفق, كما تداعى الأكلة على قصعتها، قلنا: يا رسول الله أمن قلة منا يومئذ؟ قال: أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، تنزع المهابة من قلوب عدوكم, ويجعل الوهن، قالوا: وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهة الموت ) ، فقد انتهينا بعد أن كنا خير أمة وأكثرها تقدما ومهابة  تحْذَرها الشعوب ، وتحسب لها ألف حساب ، فأمسى المسلمون يتفاسدون ويتجاهلون وهم مع ذلك موقنون بأن كفتهم على سائر الناس أرجح  ودرجتهم عند الله أعلى ، فتبدل الحال وتنزل عليهم السخط في الآفاق  وسارت بمذمتهم الركبان ، فنسوا الأحوال التي نالوا بها رضوان الله تعالى  وحسبوا أنهم لو تغيروا فلن يغيّر الله ما بهم ، فكانت العاقبة ما نرى ونشاهد  وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان خبيراً بطبائع الأمم واسرار المجتمعات يوم تصور أن أمته قد يعتريها ما اعترى غيرها فقال صلى الله عليه وسلم محذراً : ( ليأتين على أمتي ما أتى على بني اسرائيل حذو النعل بالنعل ، حتى لو كان فيهم من أتى أمه علانية لكان في أمتي من يصنع ذلك .. ) قال علماء الحديث حديث حسن .

 

 

 

 خطر الفجور

  الفاجرون هم الزَائِغُونَ عَنِ الْحَقِّ ، المُنْقَادُونَ للمَعَاصِي ، قال الحافظ بن رجب -رحمه الله-:" إذا كان الرجل ذا قدرةٍ عند الخصومة -سواء كانت خصومة في الدين أو في الدنيا على أن ينتصر للباطل ويخيل للسامع أنه حق ويوهن الحق ويخرجه في صورة الباطل-، كان ذلك من أقبح المحرمات وأخبث خصال النفاق "  وفي سنن أبي داود: عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ خَاصَمَ في باطِلٍ وهو يعلمُه لم يزلْ في سخَطِ اللهِ حتَّى ينْزِع)، ولذا فإن اللبيب العاقل ليس هو الذي يميز بين الخير والشر في الخصومة فحسب؛ لأن كثيراً من الناس يملك هذا التمييز، ولكن اللبيب حقاً هو من يميز في مثل هذه الأمور خيرَ الخيرين وشر الشرين ، ومن علامات الفجور؛ الانحراف عن شرع الله، والاستهانة بتعاليمه، وعدم الاكتراث بالمعاصي ، وهم الأخطر على الفرد والمجتمع؛ لأن قلوبهم تخرج أسوأ ما عندهم من الأخلاق، حيث تظهر على جوارحهم كل علامات النفاق التي حذر منها الشرع الحنيف، فتراهم إذا حدثوا كذبوا وإذا وعدوا أخلفوا ، وإذا اؤتمنوا خانوا ، وإذا خاصموا فجروا ، إنها صفات  تهدم كل الأخلاق والقيم ، بل لو اجتمعت كلها في إنسان لكان منافقاً خالصاً، قال صلى الله عليه وسلم: ( أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً ومن كانت فيه خلة منهن كانت فيه خلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر )  أخرجه البخاري ومسلم في كتاب الإيمان ، وقد وصفهم لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : ( لأعلمن أقواماً من أمتي يأتون يوم القيامة بأعمال أمثال جبال تهامة بيضاء فيجعلها الله هباء منثوراً، قال: ثوبان صفهم لنا يا رسول الله أو جلِّهم لنا لئلا نكون منهم ونحن لا نعلم، قال: أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها )  الحديث أخرجه ابن ماجه بسند رواته ثقات عن ثوبان رضي الله عنه ، والفاجرون لا يراعون حرمات الله ولاسيما في الخلوة لم يقدروا الله حق قدره،  فترى الفاجر يستخف بنظر الله إليه ويعظِّم نظر المخلوق ، يستحيي من الناس ولا يستحيي من الله، ويبذل كل جهده في خدمة البشر ويتكاسل في حق الله، يقول ابن القيم: «لم يقدر الله حق قدره من هان عليه أمره فعصاه، ونهيه فارتكبه، وحقه فضيعه ، وذكره فأهمله وغفل قلبه عنه، وكان هواه آثر عنده من طلب رضاه، وطاعة المخلوق أهم من طاعته. فلله الفضلة من قلبه وقوله وعمله. هواه المقدم في ذلك كله المهم أنه يستخف بنظر الله إليه، واطلاعه عليه، وهو في قبضته، وناصيته بيده، ويعظم نظر المخلوق إليه واطلاعه عليه بكل قلبه وجوارحه، يستحيي من الناس ولا يستحيي من الله ويخشى الناس ولا يخشى الله، ويعامل الخلق بأفضل ما يقدر عليه، وإن عامل الله عامله بأهون ما عنده وأحقره، وإن قام في خدمة من يحبه من البشر قام بالجد والاجتهاد، وبذل النصيحة وقد أفرغ له قلبه وجوارحه، وقدمه على كثير من مصالحه حتى إذا قام في حق ربه قام قياماً لا يرضاه مخلوق من مخلوق مثله وبذل له من ماله ما يستحيي أن يواجه به مخلوقاً مثله. فهل قدّر الله حق قدره من هذا وصفه؟»  

وصاحب القلب الفاجر لا يعبأ بنظر الله إليه فيخون في السر والعلانية وخيانته في السر أشد وأكثر، فمن كان هذا فعله فسوف يفضحه الله ويهتك سره، يقول ذو النون المصري: من خان الله في السر هتك الله ستره في العلانية» الداء والدواء .             

والفاجر يقدم على سفك الدماء المقدسة والمحرمة التي لا يجيز الإسلام التعدي عليها مهما كان اعتقادها وفكرها إلا بالحق، عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة ) أخرجه البخاري في كتاب الديات ومسلم في القسامة، باب ما يباح به دم المسلم.

وقد سبق الإسلام بتشريعاته القوانين الحديثة، وأصحاب الحضارات حيث قرر حقوق الإنسان، وخصوصاً الحفاظ على الدين والنفس والعرض، وأكد صلى الله عليه وسلم حرمة الدم في أكثر من موضع وأكثر من حديث، حتى وهو يودع الدنيا في خطبة الوداع يضع ما يشبه الوثيقة النبوية، وأعطى العالم كله ولاسيما المتشدقين بحقوق الإنسان درساً عملياً، حيث حافظ على حرمة الدم حتى في ساعة الحرب، وعصم دم الأبرياء الذين لم يشاركوا في الحرب ، وأصّل قاعدة عظيمة في حرمة النفس بقوله: ( إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ) أخرجه مسلم في كتاب الحج ، وسار الصحابة ومن تبعهم على هذه القاعدة ، وقد اعتبر القرآن الكريم قتل النفس كقتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً، قال تعالى: {مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا}المائدة 32. فأين الغارقون في الدماء من هذا التحذير الإلهي ، أليس لهم قلوب يفقهون بها، أم هم من أصحاب القلوب الفاجرة؟! التي تنتهك الأعراض التي حافظ عليها الشرع الكريم ، ونهى عن انتهاكها بالقول والفعل، فكل قول يتأذى منه الإنسان فهو محرم لقوله تعالى : {وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا}الحجرات 12 وقوله :{وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ}الحجرات:١١وقوله:{لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ}الحجرات ١١، ثم إنه - سبحانه وتعالى - أوجب حد القذف ثمانين جلدة؛ زجراً ومحافظة على أعراض الناس فقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْـمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} النور ٤، فالألسنة الحداد تكون أحياناً أشد وقعاً من التعدي على الأبدان، فكلمة في عرض إنسان تجعله لقمة سائغة، يتلذذ بها المغتابون والنمامون، وتعكر صفو الحياة، وتكدر السلم الاجتماعي، مما يفقد المجتمعات الأمن والأمان، وإذا قيل للفاجر اتق الله أخذته العزة بالإثم، وفوق ذلك أنه يخدع من حوله بزخرف القول غروراً، فينال إعجاب الناس، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْـخِصَامِ وَإذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْـحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَإذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْـمِهَادُ} البقرة: 204   وصاحب القلب الفاجر يملأ الأرض فساداً ، ويحدث فتناً يصبح الحليم فيها حيران، ثم إذا نهي عن فساده وبغيه ادعى أنه من الصالحين، قال تعالى: {وَإذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}البقرة: ١١، والطامة الكبرى أن تلتبس الأمور عند الناس ويصفون المفسد مصلحاً والمصلح فاسداً، فيصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً وتختلط الموازين عند كثير من الناس! ومن أخطر علامات القلب الفاجر أن صاحبه يطوع الدين ليتناسب مع واقع الحضارة الغربية أو لخدمة وتنفيذ أوامر أسياده حفاظاً على منصبه وجاهه وطلباً للدنيا الزائلة، وذلك عن طريق تأويل بعض النصوص والتعدي على بعض الأحكام تحت دعوى معالجة ومسايرة الواقع . ومن علامات صاحب القلب الفاجر أنه يتكلم بلسانين، ويتعامل بوجهين، عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن شر الناس ذو الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه ) أخرجه البخاري، كتاب الأحكام ومسلم كتاب البر والصلة والآدب .

وذو الوجهين الذي يأتي كل طائفة بما يرضيها هو أشر الناس، قال النووي هو الذي يأتي كل طائفة بما يرضيها فيظهر لها أنه منها ومخالف لضدها وصنيعه نفاق ومحض كذب وخداع " تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي

ومن كان ذا وجهين في الدنيا كان له لسانان من نار يوم القيامة، يقول صلى الله عليه وسلم: ( من كان ذا وجهين في الدنيا كان له لسانان من نار يوم القيامة ) أخرجه أبو يعلى في مسنده ، وقال الشيخ الألباني: صحيح . 

إن جهاد أهل الفجور والنفاق بالقول والكتابة، وبيان حقيقتهم للناس وفضح مخططاتهم لأهل الإيمان، وإيضاح سيرتهم الخبيثة، وكشف سريرتهم المخادعة من أعظم الجهاد ؛ لأن فيه حفظ الناس من تزويرهم وكذبهم وإضلالهم، وإفشال مشروعاتهم التخريبية، وتحذير الأمة منهم، ولا سيما أنهم يظهرون في صورة الناصحين المخلصين، وهم أغش الناس وأكذبهم وأخونهم؛ فمن خان ربه ودينه وأمته هانت عليه خيانة كل أحدٍ فأضحت الخيانة سلوكاً له.

 

أين الاسلام في عالم اليوم

أين الإسلام وما هو الإسلام؟ هناك اليوم أكثر من إسلام في حياتنا، فكل حزب بما لديهم فرحون، إسلامٍ يفصّلونه حسب مقاسات الحزب ، أو حسب مزاج رجل الدين الذي ينتمي إليه الحزب السياسي. هناك إسلام المذهب ، وهناك إسلام الرجل السياسي ، وآخر للجماهير وهكذا، ولهذا نجد أن الإسلام الذي جاء رحمة للعالمين بات غريباً في ظل تجاذبات الأهواء والسياسة ، والمصالح الحزبية، ومن هنا لن  تجد المسلم الذي يأمن البشر من لسانه ويده في صراعات الحاضر إلا ما شذ وندر.

فالإسلام: رسالة تحمل البشرى لكل من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا ورسولا ، الإسلام: دين يحمل بين تشريعاته اليسر والبشرى والأمل والخير والتسامح والود والألفة والعدل والمساواة ، والإنسانية والرحمة ، والجمال لكل من دان به، وسمع عنه، ووصلته رسالة الله سبحانه وتعالى.

الإسلام ليس كلماتٍ تُقال باللسان ، إنه سلوك وتطبيق وعمل ، إنه استسلام لله بالتوحيد والعبودية.

إنه العمل الحقيقي بمقتضيات (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) ، وهو السلوك الذي يتوافق مع عبادة الله وتوحيده  هو الحكم بما أنزل الله والاحتكام إلى تشريعه سبحانه ، وهو القناعة بأنّ النافع والضار هو الله تعالى بحكمته البالغة.

واليوم لم يعد الإسلام في قلوب الكثيرين ، ولا حيًّا بينهم ، ثم يزعمون أنهم من أمة الإسلام ، ومن أهل الإسلام  ومن أبناء الإسلام ، ليست فيهم السيرة الإسلامية ، ولا الخلق الإسلامي ، ولا الفكر الإسلامي ، حتى الروح الإسلامية الخالصة ، لا توجد في المساجد ولا في المدارس ، بل لم يبق من علاقه بين الإسلام والحياة العملية  والحياة الفردية والحياة الجماعية ، هناك مسلمون منتمون للإسلام وهم له منكرون ، وما أكثر المسلمون الذين ينتمون للإسلام وهم عنه صادون، أو يتمسكون بشكليات منه وهم عن روحه معرضون ، أو يؤمنون ببعض كتابه وبالبعض هم كافرون ، أو يحتفلون بأعياده وهو لأعدائه موالون.

إننا اليوم في أمس الحاجة إلى الإسلام الحقيقي ، لأن الإسلام الذي يروج له السياسي والحزبي وحتى بعض الأنظمة الإسلامية ليس هو الإسلام الذي قضى في سبيل انتشاره ملايين الشهداء عبر التاريخ، بل هو   عبارة عن مجموعة من القوانين الخالية من القيم والأخلاق ، يقومون بالترويج لها باعتبارها هي الإسلام، وهي ليست سوى مصالح لأفراد وجماعات ودول ، وإن الحاجةَ إلى تغيير هذا الوضع، وزحزحةَ أحوالنا عن هذا التردي والفصام النكد بين الإسلام وواقع المسلمين ، مطلبٌ مُلحٌ لا يحتملُ الانتظارَ ولا التأخير.

وما لم نبادر جميعًا فلن نجد حلاً ، وسنعيش مسلمين اسما ، لأن الإسلام لم يعد في حياتنا هو الذي يحكم ويقرر ويأمر وينهى، فإذا ما اصطدم بمصالحنا وحاجياتنا تركناه وراء ظهورنا قال تعالى : { وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } النور: 48- 51 .

 

لماذا صار المسلمون إلى هذا الحال

إن المسلمين اليوم يمرون بفترة من أحلك فترات تاريخهم، وذلك أنهم انحدروا من القوة إلى الضعف، ومن القيادة والريادة إلى التبعية والهوان ، يعانون من الذلة والمهانة, وما يحيط بهم من ظروف صعبة وأحوال مريرة, تتمثل في كيد الأعداء, وتسلطهم على بلاد المسلمين, كما تتمثل في أحوال المسلمين الذين ابتعدوا عن تعاليم الإسلام,   ورفض الحكم بها والتحاكم إليها.

وإن أعظم سبب لما صرنا إليه ، عدم الإعداد لمحاربة العدو، فالمسلمون اليوم في أضعف ما يكون إعداداً، بل لم يخطر على بال كثير من المسلمين أن يقوموا بالإعداد لمواجهة العدو والاستعداد للقائه، وهذا ما جعل العدو يعد العدة والقوة ، فصار قوياً والمسلمون ضفعاء ، ولا يزالون كذلك إلا أن يأخذوا بأسباب النصر والتمكين.

وسبب آخر يرجع إلى الإعراض عن الله تعالى، والاستنكاف عن عبادته، ورفض الخضوع لشريعته، والاعتراض على أحكامه وأوامره ، الذي يعتبر أساساً  لكل شقاء، والقول بأن الإسلام هو الخل ، دون تحديد الكيفيات ، ووضع الآليات للوصول إلى هذا الحل ، هو نوع من التبسيط ، الذي يخشى معه تكريس حالة العجز ، وتراجع الثقة بقيمة هذا الشعار ، لأن طرح الشعار  دون القدرة على تنزيله على الواقع ، وتحويله إلى ممارسة وفعل ، هو إجهاض للشعار ، وإيهام بعدم واقعيته ، الأمر الذي أدى إلى تأويل نصوص الدين وتحريفها ، لتوافق الأهواء ، وبذلك يصبح النص الديني تابعاً ، بدل أن يكون متبوعاً ، فينمو التدين المغشوش ، ويسود فقه الحيل ، ويوظف الدين لأغراض الناس وأهوائهم ، ويستخدم مسوغاً لتصرفاتهم ، وتصنع الفتاوى وتجهز ، وتلوى عنق الأدله ، لتسويغ مسالك الكبراء وأصحاب السلطان ، وهنا يبرز الإنسان الذي يكون إلهه هواه ، وتنقلب المعادلة ، ويصير ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم تابعاً لأهواء البشر ، وبذلك تقوم مذاهب وفرق وأديان ، تنحرف شيئاً فشيئاً في تدينها ، حتى تصل إلى مرحلة لا علاقة لها بالدين ، ومن هنا نعرف مدى خطورة تجاوز نصوص الكتاب والسنة ، يقول سفيان الثوري : " لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، إلا من كان فيه خصال ثلاث : رفيق بما يأمر، رفيق بما ينهى ، عدل بما يأمر ، عدل بما ينهى ، عالم بما يأمر ، عالم بما ينهى " .

لقد تخلى المسلمون اليوم عن اتباع منهج الله فتأخر عنهم نصر ‏الله ، بكى أبو الدرداء عند فتح قبرص، فقيل له: " تبكي في يوم نصر الله فيه دينه وأعز فيه جنده. ‏فقال رضي الله عنه: أبكي على حال هؤلاء الذين عصوا الله فسلطنا عليهم، وأخشى أن يأتي يوم ‏يقصر فيه المسلمون في طاعة الله فيسلط عليهم عدوهم " .

وإني لأعجب من أمة آمنت بالله ولم تتبع أوامره ، تسمع ولا نتبع ، وهذا مذموم لمخالفة الفعل القول قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ } الصف:3

فكم مِن صاحِبِ منكر يجادل عن مُنكَرِه بالباطل، ويسوِّغُه بحجج يعلم أنها متهافتة، وإذا ذكر بآيات الله تعالى التي تثبت أن ما يدعو إليه منكر لا يرضاه الله تعالى؛ ضاق صدره بآيات الله تعالى، ولم يحتمل سماعها، وأعرض عما فيها، وركب هواه،  إن الله أعزنا بالإسلام فمتى ابتغينا ‏العزة في غيره أذلنا الله، وإذا تركت الأمة الجهاد كتب الله عليها ذلاً لا ينزعه حتى يراجعوا دينهم، ‏فالعودة إلى الله سببٌ لكل خير، والبعد عن الله سببٌ لكل شرٍ وهوان.‏

 

لماذا صار المسلمون إلى هذا الحال

إن المسلمين اليوم يمرون بفترة من أحلك فترات تاريخهم، وذلك أنهم انحدروا من القوة إلى الضعف، ومن القيادة والريادة إلى التبعية والهوان ، يعانون من الذلة والمهانة, وما يحيط بهم من ظروف صعبة وأحوال مريرة, تتمثل في كيد الأعداء, وتسلطهم على بلاد المسلمين, كما تتمثل في أحوال المسلمين الذين ابتعدوا عن تعاليم الإسلام,   ورفض الحكم بها والتحاكم إليها.

وإن أعظم سبب لما صرنا إليه ، عدم الإعداد لمحاربة العدو، فالمسلمون اليوم في أضعف ما يكون إعداداً، بل لم يخطر على بال كثير من المسلمين أن يقوموا بالإعداد لمواجهة العدو والاستعداد للقائه، وهذا ما جعل العدو يعد العدة والقوة ، فصار قوياً والمسلمون ضفعاء ، ولا يزالون كذلك إلا أن يأخذوا بأسباب النصر والتمكين.

وسبب آخر يرجع إلى الإعراض عن الله تعالى، والاستنكاف عن عبادته، ورفض الخضوع لشريعته، والاعتراض على أحكامه وأوامره ، الذي يعتبر أساساً  لكل شقاء، والقول بأن الإسلام هو الخل ، دون تحديد الكيفيات ، ووضع الآليات للوصول إلى هذا الحل ، هو نوع من التبسيط ، الذي يخشى معه تكريس حالة العجز ، وتراجع الثقة بقيمة هذا الشعار ، لأن طرح الشعار  دون القدرة على تنزيله على الواقع ، وتحويله إلى ممارسة وفعل ، هو إجهاض للشعار ، وإيهام بعدم واقعيته ، الأمر الذي أدى إلى تأويل نصوص الدين وتحريفها ، لتوافق الأهواء ، وبذلك يصبح النص الديني تابعاً ، بدل أن يكون متبوعاً ، فينمو التدين المغشوش ، ويسود فقه الحيل ، ويوظف الدين لأغراض الناس وأهوائهم ، ويستخدم مسوغاً لتصرفاتهم ، وتصنع الفتاوى وتجهز ، وتلوى عنق الأدله ، لتسويغ مسالك الكبراء وأصحاب السلطان ، وهنا يبرز الإنسان الذي يكون إلهه هواه ، وتنقلب المعادلة ، ويصير ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم تابعاً لأهواء البشر ، وبذلك تقوم مذاهب وفرق وأديان ، تنحرف شيئاً فشيئاً في تدينها ، حتى تصل إلى مرحلة لا علاقة لها بالدين ، ومن هنا نعرف مدى خطورة تجاوز نصوص الكتاب والسنة ، يقول سفيان الثوري : " لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، إلا من كان فيه خصال ثلاث : رفيق بما يأمر، رفيق بما ينهى ، عدل بما يأمر ، عدل بما ينهى ، عالم بما يأمر ، عالم بما ينهى " .

لقد تخلى المسلمون اليوم عن اتباع منهج الله فتأخر عنهم نصر ‏الله ، بكى أبو الدرداء عند فتح قبرص، فقيل له: " تبكي في يوم نصر الله فيه دينه وأعز فيه جنده. ‏فقال رضي الله عنه: أبكي على حال هؤلاء الذين عصوا الله فسلطنا عليهم، وأخشى أن يأتي يوم ‏يقصر فيه المسلمون في طاعة الله فيسلط عليهم عدوهم " .

وإني لأعجب من أمة آمنت بالله ولم تتبع أوامره ، تسمع ولا نتبع ، وهذا مذموم لمخالفة الفعل القول قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ } الصف:3

فكم مِن صاحِبِ منكر يجادل عن مُنكَرِه بالباطل، ويسوِّغُه بحجج يعلم أنها متهافتة، وإذا ذكر بآيات الله تعالى التي تثبت أن ما يدعو إليه منكر لا يرضاه الله تعالى؛ ضاق صدره بآيات الله تعالى، ولم يحتمل سماعها، وأعرض عما فيها، وركب هواه،  إن الله أعزنا بالإسلام فمتى ابتغينا ‏العزة في غيره أذلنا الله، وإذا تركت الأمة الجهاد كتب الله عليها ذلاً لا ينزعه حتى يراجعوا دينهم، ‏فالعودة إلى الله سببٌ لكل خير، والبعد عن الله سببٌ لكل شرٍ وهوان.‏

 

كيف نكون سعداء

لاشك أن السعادة مطلب كل عاقل و غاية كل حكيم ..يُحكى أن أحد التجار أرسل ابنه لكي يتعلم سر السعادة لدى أحكم رجل في العالم ! مشي الفتى أربعين يوما حتى وصل إلى قصر جميل علي قمة جبل ، و فيه يسكن الحكيم الذي يسعى إليه ، وعندما وصل وجد في قصر الحكيم جمعاً كبيرا من الناس .. انتظر الشاب ساعتين لحين يأتي دوره ، أنصت الحكيم بانتباه إلى الشاب ثم قال له : الوقت لا يتسع الآن ، وطلب منه أن يقوم بجولة داخل القصر ثم يعود لمقابلته بعد ساعتين ! و قال له امسك بهذه الملعقة في يدك طوال جولتك وحاذر أن ينسكب منها الزيت .. أخذ الفتى يصعد سلالم القصر، ويهبط مثبتاً عينيه على الملعقة ! ثم رجع لمقابلة الحكيم الذي سأله : هل رأيت السجاد الفارسي في غرفة الطعام ؟ هل رأيت الورود في الحديقة الجميلة ؟ و هل استوقفتك المجلدات الجميلة في مكتبتي ؟ ارتبك الفتى و اعترف له بأنه لم ير شيئا ! فقد كان همه الأول ألا يسكب نقطتي الزيت من الملعقة ! فقال الحكيم : ارجع وتعرف على معالم القصر ! فلا يمكنك أن تعتمد على شخص لا تعرف البيت الذي يسكن فيه ، عاد الفتى يتجول في القصر منتبها إلي الروائع الفنية المعلقة على الجدران و شاهد الحديقة والزهور الجميلة ، وعندما رجع إلي الحكيم قص عليه بالتفصيل ما رأى من جمال وروائع .. فسأله الحكيم : ولكن أين قطرتي الزيت اللتان عهدت بهما إليك ؟ نظر الفتى إلى الملعقة فلاحظ أنهما انسكبتا فقال له الحكيم : تلك هي النصيحة التي أستطيع أن أسديها إليك ! سـر الـسـعـادة هو أن ترى جمال الطبيعة ، وروائع الدنيا ، وتستمتع بها دون أن تسكب أبدا قطرتي الزيت ، فَهِمَ الفتى مغزى القصة ، فـالـسعـادة هي حاصل ضرب التوازن بين الأشياء ، وقطرتا الزيت هما الـسـتـر والـصـحـة ، فهُما التوليفة الناجحة ضد التعاسة والشقاء

وفي الحديث أربع من السعادة : ( الزوجة الصالحة والجار الصالح والبيت الواسع والمركب الهني ومن بات آمنا في سربه ، معافا في بدنه ، لديه قوت يومه ، فقد حيزت له الدنيا بحذافيرها ) كثيرٌ يكون أمامه الجمال ، ولا يشعر به ، وكثيرٌ منا يبحث عن خطيبة جميلة وبجواره حورية رائعة ، وكثيٌر منا عنده زوجة صالحة ، ولا يحس بما تهديه من فرحة وسعادة .. للأسف أمامنا حاجات كثيرة حلوة لا نحس بيها  وصدق القائل : " من الغباء أن ما تملكه اليد تزدريه العين ... فالسعادة ليست ملعقة دواء أو وصفة سحرية  ، كن جميلا ترى الوجود جميلا "   فليست السعادة جمع مال ، ولكن التقي هو السعيد .. أسأل الله القدير أن يهبنا التوفيق والسعادة في الدنيا و الآخرة و أن يجعلنا من أهل رضوانه .

دروس وخطب

نقدم بين يديكم مجموعة من الدروس والخطب والمواعظ 

واسال الله ان يتقبل منا جميعا