ماذا لوتُرك لكل واحد أن يحدد ضرورته
ولو تُرِك كل واحد يحدد لنفسه ضرورته، لفسد الناس، وذلك لميلهم إلى التفلت من التكاليف الشرعية فضلا عن عدم طلبهم للعلم الشرعي.
والشرع لا يترك الأمور لأهواء الناس وميولهم الشخصية، بل يضع الضوابط لكل مسائله لتستقيم حياة الناس مع مراعاة حاجاتهم ورفع الحرج عنهم.
ونحن إن شاء الله نحاول أن نتعرف على هذه القاعدة الفقهية الهامة وضوابطها المختلفة.
أولا: تعريف الضرورات والمحظورات:
الضرورة شرعًا: هي الحالة الملجئة لتناول الممنوع شرعًا. وعرَّفها بعض الفقهاء بأنها بلوغ الإنسان حدًا إن لم يتناول الممنوع هلك أو قارب الهلاك.
أما المحظورات: فهي الممنوعة شرعًا، أي المحرمة شرعًا.
ثانيًا: معنى القاعدة:
والمعنى العام للقاعدة أن حالة الضرورة التي يكون الإنسان فيها تبيح له تناول المحرم عليه شرعًا، وفق قيود وشروط، إذ أن هذه الإباحة التي تجلبها حالة الضرورة ليست على عمومها، ولا على إطلاقها، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
{الوجيز في القواعد الفقهية د. عبد الكريم زيدان بتصرف}
ثالثًا: أدلة القاعدة:
من القرآن: قوله تعالى: فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم.
{المائدة:3}
أي ألجأته الضرورة وقت المجاعة الشديدة لتناول المحرمات المذكورة في الآية، غير متجانف لإثم: مائل إليه بتجاوز قدر الضرورة.
وقوله تعالى: وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه {الأنعام:119}.
وقوله تعالى: إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان {النحل:106}.
رابعًا: أمثلة لحالات الضرورة:
1 المحرمات من مطعوم ومشروب: يباح للمضطر تناولها دفعًا للهلاك عن نفسه، وهذا جاء بنص القرآن.
إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم {البقرة:173}.
يقول القرطبي في تفسيره: فأباح الله في حالة الاضطرار أكل جميع المحرمات، لعجزه عن جميع المباحات.
وقال أيضًا في قوله تعالى: إلا ما اضطررتم إليه يريد من جميع ما حرم، كالميتة وغيرها، وقال ابن قدامة في المغني أيضًا بإباحة الأكل عند الاضطرار من سائر المحرمات.
2 إباحة النطق بكلمة الكفر للضرورة:
عند التهديد بالقتل إن لم ينطق المكره بذلك، والأصل في جواز ذلك، قوله تعالى: من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم {النحل:106}.
علمًا بأن النطق بالكفر عند ضرورة الإكراه رخصة لا عزيمة، لأن العزيمة عدم النطق بالكفر، ولو أدى إلى موت المكره، والنطق بكلمة الكفر للضرورة مع اطمئنان القلب بالإيمان هو رخصة، والأخذ بالعزيمة لمن استطاعها أولى وإذا قتل بسببها فهو شهيد، لأنه موت في سبيل الله فهو ضرب من ضروب الجهاد بالنفس، والمقتول في هذا الجهاد شهيد باتفاق العلماء.
{الوجيز د. عبد الكريم زيدان}
ولما رخص الله عز وجل بالنطق بالكفر عند الإكراه ولم يؤاخذ به، حمل العلماء عليه فروع الشريعة كلها، فإذا وقع الإكراه عليها لم يؤاخذ بها ولم يترتب عليه حكم. {تفسير القرطبي}
3 جواز الكذب والحلف عليه عند الضرورة:
الكذب حرام وهو مع الحلف أشد تحريمًا، ولكن مع هذا يجوز الكذب والحلف عليه لضرورة تخليص نفس بريئة من الهلاك أو امرأة من الزنا بها.. لأن مفسدة الكذب أهون من مفسدة القتل والزنا، والضرورات تبيح المحظورات، والضرر الأشد يدفع بتحمل الضرر الأخف، بل إن الكذب في هذا الموطن واجب دفعًا للإثم، قال العز بن عبد السلام: ولو صدق في هذه المواطن لأثم أثم المتسبب إلى تحقيق هذه المفاسد. {قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام، الوجيز د. عبد الكريم زيدان}
4 طواف الحائض بالبيت طواف الإفاضة للضرورة:
يقول ابن القيم في إعلام الموقعين: إن الضرورة تبيح دخول المسجد للحائض والجنب، فإنها لو خافت العدو أو من يستكرهها على الفاحشة أو أخذ مالها، ولم تجد ملجأ إلا دخول المسجد جاز لها دخوله مع الحيض، وهذه (أي الحائض) تخاف ما هو قريب من ذلك، فإنها تخاف إن أقامت بمكة أن يؤخذ مالها إن كان لها مال، وإلا أقامت بغربة ضرورة، وقد تخاف في إقامتها ممن يتعرض لها، وليس لها من يدفع عنها. {إعلام الموقعين 3-20}
5 سقوط القطع في المجاعة للضرورة:
لأنه إذا كانت سنة مجاعة وشدة غلب على الناس الحاجة والضرورة، فلا يكاد يسلم السارق من ضرورة تدعو إلى ما يسد به رمقه.
وهذا مما استند إليه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في عام الرمادة من عدم قطع يد السارق.
6 الفتوى بالرأي:
يقول ابن القيم أيضًا في إعلام الموقعين:
إن الفتوى بالرأي لا تجوز إلا عند الضرورة، فالضرورة تبيحه كما تبيح الميتة عند الاضطرار.7 المحظورات عند التداوي والعلاج: فيباح بالنسبة للاضطرار مباشرة المحظور من الأدوية إلا الخمر وغيرها في حالة المرض، كالنظر إلى العورات ولمسها.
8 إباحة نكاح الإماء للضرورة:
إن الله تعالى منع من نكاح الإماء لأنهن في الغالب لا يحجبن حجب الأحرار، وهن في مهنة سادتهن وحوائجهن، فصان الله تعالى الأزواج أن تكون زوجاتهم بهذه المثابة، مع ما يتبع ذلك من رق الولد، وأباحه لهم عند الضرورة، كما أباح الميتة والدم ولحم الخنزير عند المخمصة. {المرجع السابق}
ومع ذلك فهناك حالات لا يجوز فيها استخدام قاعدة الضرورات تبيح المحظورات، مثل قتل النفس البريئة، فلو أكره شخص على قتل آخر وهدد بالقتل إن لم يفعل، فإنه لا يجوز له قتل معصوم الدم، لأن نفس البرئ معصومة كنفس المكره، فليس تخليص حياته هو أولى من إبقاء حياة غيره.
خامسًا : الضرورات تقدر بقدرها:
وهذه القاعدة توضح قاعدة الضرورات تبيح المحظورات، وهي بمثابة القيد لها، وتبين بدقة المقصود منها، والمقدار الذي تبيحه الضرورة من المحظورات الشرعية، لأن إباحة المحظورات يكون دفعًا لعدم تعرض نفس المكلف للهلاك، أو عرضه للانتهاك، أو ماله للغصب، وإذا كان الأمر كذلك فلا يجوز أن يباح من المحظور الشرعي إلا المقدار الذي تندفع به حالة الضرورة فقط، دون توسع في استباحة المحظور الشرعي.
وأصل هذا قوله تعالى: فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم.
{البقرة:173}
قال ابن القيم في تفسيره لهذه الآية: فالباغي الذي يبتغي الميتة مع قدرته للتوصل إلى المذكّى. والعادي: الذي يتعدى قدر الحاجة.
وقال: إن السلف في استخدام قاعدة الضرورة لم يفرِّعوا فيها، ويولِّدوا، ويوسعوا.. فلم يتعدوا قدر الضرورة، ولم يبغوا بالعدول إليه مع تمكنهم من النصوص والآثار.
{القواعد الفقهية المستخرجة من إعلام الموقعين}
فالمباح بالضرورة لابد له من أمرين:
الأمر الأول: أن يتعين هذا المحرم (المحظور) دافعًا للضرورة، بحيث لا تندفع الضرورة بدونه، هذه واحدة.
الأمر الثاني: أن تندفع ضرورته به، فإن لم تندفع فلا ضرورة.
فالدواء المحرم لا يمكن أن يكون ضرورة لإمكان أن يشفى المريض بلا دواء أو أن يشفى بدواء آخر مباح.
وكرجل وجد ميتة وهو مضطر فهل له أن يشبع أو يأكل بقدر ما يبقي حياته؟
فهو يأكل بقدر ما يبقي حياته. إذا قال أنا في أرض فلاة (صحراء) ولا أدري متى أحصل على طعام مباح وأشبع. نقول: لا تشبع املأ كيسك ولا تملأ بطنك، خذ من الميتة بالكيس ونحوه فإذا اضطررت إليه (بعد ذلك) فكل وإلا فلا. {القواعد والأصول الجامعة للسعدي شرح ابن عثيمين}
وكمن أكره على اليمين الكاذبة فإنه يباح له الإقدام على التلفظ مع وجوب التورية والتعريض فيها إن خطرت على باله التورية والتعريض، فإن في المعاريض مندوحة.
{شرح القواعد الفقهية أحمد الزرقا}
ومن الأمثلة أيضًا على أن الضرورة تقدر بقدرها، نظر الطبيب إلى عورة المريض، فإنه إنما ينظر إلى العورة بقدر ما تستوجبه الضرورة للمعالجة فقط.
وتقبل شهادة النساء في المواضع التي لا يمكن إطلاع الرجال عليها، وذلك للضرورة. ومن استشير في خاطب اكتفى بالتعريض كقوله: لا يصلح لك، ولم يعدل إلى التصريح. {الوجيز د. زيدان}
سادسًا : بين الحاجة والضرورة:
قد يحدث خلط بين الحاجة والضرورة، فلزم بيان الفرق بينهما، فالحاجة هي الحالة التي تستدعي تيسيرًا أو تسهيلا لرفع الضيق الذي يجده المكلف، وهي تتنزل فيما يحظره ظاهر الشرع منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة، وتنزيلها منزلة الضرورة في كونها تثبت حكمًا، لكنها تختلف عن الضرورة في أن الحاجة الحكم الثابت لها مستمر بينما الضرورة حكمها مؤقت بمدة قيام الضرورة فقط، حيث أن الضرورة تقدر بقدرها، والضرورة هي الحالة الملجئة إلى ما لا بد منه، والحاجة هي التي تستدعي التيسير للحصول على المقصود.
فالحاجة إذن دون الضرورة، ويحتاجها الناس لليسر والسعة، بحيث إذا لم تراع لا يختل نظام حياتهم، ولا تعمهم الفوضى، ولكن يصيبهم حرج شديد، ومشقة كبيرة، أما الضرورة فهي ما تقوم عليه مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت اختل نظام حياة الناس، ولم تستقم مصالحهم.
وقد صاغ العلماء قاعدة فقهية عن الحاجة، فقالوا: حاجة الناس تجري مجرى الضرورة (ذكرها ابن القيم وكذلك السيوطي وابن نجيم بلفظ: الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة الخاصة).
ومن أمثلة هذه القاعدة وتطبيقاتها:
1 تجويز السلم(1) فإنه يجوز بالنص على خلاف القياس للحاجة إليه.
2 تجويزهم استئجار السمسار على أنه له في كل مائة كذا، فإن القياس يمنعه ويستحق أجر المثل، ولكن أجيز التعامل به.
وقد راعى الشرع حاجات الناس، ومن تأمل أسرار الشريعة، وتدبر حكمها رأى ذلك ظاهرًا على صفحات أوامرها، ونواهيها، باديًا لمن له نظرة نافذة، فإذا حرم عليهم شيئًا عوضهم عنه بما هو خير منه وأنفع، وأباح لهم ما تدعو حاجتهم إليه ليسهل عليهم تركه، كما حرَّم بيع الرطب بالتمر وأباح لهم منه العرايا، وحرَّم عليهم النظر إلى الأجنبية، وأباح لهم منه نظر الخاطب والمعامل والطبيب، وحرَّم عليهم أكل المال بالمغالبات الباطلة كالنرد والشطرنج وغيرها، وأباح لهم أكله بالمغالبات النافعة كالمسابقة والنضال، وحرَّم عليهم لباس الحرير وأباح لهم من اليسير الذي تدعو الحاجة إليه، وحرم عليهم كسب المال بربا النسيئة، وأباح لهم كسبه بالسلم، وحرم عليهم في الصيام وطء نسائهم، وعوضهم عن ذلك بأن أباحه لهم ليلا، فسهل عليهم تركه بالنهار، وحرَّم عليهم الزنا، وعوضهم بأخذ ثانية وثالثة ورابعة، ومن الإماء ما شاءوا، فسهل عليهم تركه غاية التسهيل.
وحرم عليهم الاستقسام بالأزلام، وعوضهم بالاستخارة ودعائها، ويا بعد ما بينهما، وحرم عليهم نكاح أقاربهم وأباح لهم منه بنات العم، والعمة، والخال، والخالة، وحرم عليهم وطء الحائض، وسمح لهم في مباشرتها، وأن يصنعوا بها كل شيء إلا الوطء، فسهل عليهم غاية السهولة، وحرَّم عليهم الكذب، وأباح لهم المعاريض التي لا يحتاج من عرفها إلى الكذب البتة، وحرَّم عليهم كل ذي ناب من السباع، مخلب من الطير، وعوضهم عن ذلك بسائر أنواع الحيوانات والطير على اختلاف أجناسها وأنواعها. {إعلام الموقعين، الوجيز، شرح القواعد الفقهية}
سابعًا: عدم جواز التوسع في قاعدة الضرورات تبيح المحظورات:
فالأمر ليس بالهين، لأنك تأتي ما حرَّم الله عليك وجوزه لك اضطرارًا، واعلم أن الله يغار وغيرة الله أن تؤتى محارمه، ولم يكن من هدي السلف الصالح التفريع والتوسع في استعمال حالات الضرورة، وكانوا يقدرون للضرورة قدرها المحدد الذي تندفع به، فإذا اندفعت عادوا إلى الأصل وهو اجتناب ما حرم الله عليهم وقبل الإقدام على المحرمات، استوثق من أهل العلم وراجعهم، هل تنطبق عليك قيود الضرورة وضوابطها أم لا، خاصة أننا نعيش في عصر تنوعت فيه الضرورات وكثرت، كلٌ بحسبه، فلو وسَّعنا الأمر وفرَّعناه لتخبط الناس في المحرمات ليلا ونهارًا، ولانتهكت المحرمات.
والحمد لله رب العالمين.
في المعاملات الربوية، لانه لايمكن - كما يزعمون! - الاستغناء عنها في هذا العصر و هذا معناه نسخ الايات القرآنية التي تثبت حرمتها بصفة قاطعة الثبوت و الدلالة و دون ذلك خرط القتاد لتأديته الى أن الله كان لا يعلم حين حرم الربا هكذا ما فيه الخير و المصلحة للناس، و من البدهي أنه لا يرضى بذلك من يؤمن بالله و رسله و كتبه، و من يلاحظ بعين فاحصة ماجره الربا من خراب البيوت و ضياع ثروة الامة.
مة من يعتقد أن مبدأ "الضرورات تبيح المحظورات" يمكن أن يبيح هذا الأمر حتى أن بعض الفقهاء أجازوا دفع الرشوة للوصول إلى الحق. فهل توضحون فضيلتكم لنا مدى انطباق ذلك المبدأ على قضيتنا هذه؟
إذا توافر ظرف الضرورة بمعاييرها الشرعية وتوافر ظرف أيضا دفع الرشوة من أجل تعين الوصول إلى الحق وأنه لا سبيل آخر سوى هذا السبيل، فالضرورات تبيح المحظورات بشرط أن تكون هناك ضرورة بمعنى غلبة الظرف أو التيقن بالوقوع في الهلاك أو في دائرة الموت جوعا أو أنه سيبيت في الشارع، فإذا توافرت ظروف الضرورة فنحن نقول بالحل ولكن توافر ظروف الضرورة حالة محدودة ونادرة جدا وقلما ينطبق على مقترض من البنوك الربوية معنى الضرورة لأن لها ضوابط مشددة ينبغي أولا أن تحقق معنى الضرورة في المعايير الشرعية ثم نطبق القاعدة "الضرورات تبيح المحظورات" أو "الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة" فإذا وجدت المعايير الشرعية فنحن مع ذلك، هذه حالات وأمثلة نادرة جدا، فينبغي أيضا عدم التذرع بذريعة الضرورة من أجل الحصول على مسكن أفضل أو تنشيط تجارة أو توسيع مصنع أو تنشيط متجر ويقول الإنسان إنه في حال ضرورة، هذا ليس في حال ضرورة على الإطلاق، هذا في الواقع مترفه وليس مضطرا ، المضطر هو الذي يقترض من أجل الحفاظ على حياته من الوقوع في الموت بسبب الجوع الشديد أو العطش الشديد أو الإرباك الشديد أو التحقق من وجود ضرر في النفس أو المال أو الأهل فإذا توافر ظرف الضرورة بالمعنى الشرعي حينئذ نقول بالجواز ولكن توافر الضرورة بالمعنى الشرعي غير محقق في أغلب الحالات.
الربا، بل الأمة مجمعة على حرمته، ومن يقول الربا حلال فقد خالف المعلوم من الدين بالضرورة، لكنها متعلقة بحالات خاصة قد يرى المفتي أنها من الضرورة التي تبيح المحرمات، ويرى غيره خلاف ذلك. لكن الأصل متفق عليه بين الجميع.