الاخلاق

الاخلاق

الاخلاق

من المنازل العظيمة منـزلة سلامة الصدر من حمل الأحقاد والغل والحسد على الآخرين قَلَّ من يصل إليها ، لمكانتها العالية ، التي ترفع الإنسان وتقرِّبُه من ربه ، بل إنها سبب من أسباب دخول الجنة ، وقد أبرز النبي  r مكانة سليم الصدر ، وأعلى من شأنه ،   لحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : قال رسول الله  r : ( خير الناس ذو القلب المخموم واللسان الصادق ) ، قيل ما القلب المخموم ؟ قال : ( هو التقي النقي الذي لا إثم فيه ولا بغي ولا حسد ) قيل : فمن على أثره ؟ قال : ( الذي يشنأ الدنيا ، ويحب الآخرة ) ..  قيل : فمن على أثره ؟ قال : ( مؤمن في خُلقٍ حسن ) ..

فهل نكون ـ أيها الأحبة ـ ممن يربي نفسه على خلق العفو والصفح ، وسلامة الصدر من شوائب الغل والحسد ، من سَلِمَ منه فقد سلم ، وهو مثل الغيرة يثير الحقد والكراهية  ويدفع إلى تمني وقوع الأذى للشخص ، إنه ليحزني ويؤلمني ما يحصل من مشادات تتنافى مع هذا الخلق الكريم  وكم أتمنى أن نكون من أصحاب الصدور الطاهرة الصافية النقية ، التي لا تحمل حقدا ، ولا تعرف حسدا ، ولا تكمن غلا ، ولسليم الصدر مكانة عظيمة ومنـزلة عالية فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : قال رسول الله  r : ( خير الناس ذو القلب المخموم واللسان الصادق ) قيل : ما القلب المخموم ؟ قال هو التقي النقي الذي لا إثم فيه ولا بغي ولا حسد ) قيل فمن على أثره ؟ قال : ( الذي يشنأ الدنيا ويحب الآخرة ) قيل فمن على أثره ؟ قال : (مؤمن في خلق حسن ) رواه بن ماجه  

وسليم الصدر يحوز حسنات كثيرة ولو كان عمله قليلا ، فعن سفيان بن دينار قال: قلت لأبي بشر: أخبرني عن أعمال من كان قبلنا (يعني الصحابة) قال: كانوا يعملون يسيراً ويؤجرون كثيراً قال: قلت: ولم ذاك؟ قال: لسلامة صدورهم .   

أما الصدر الحاقد فهو يعرض الإنسان لرد عمله، وحرمانه من الفضل العظيم. قال النبي r : ( تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ فَيُقَالُ أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا ) رواه مسلم وأبوداود وابن ماجه  

فسلامة الصدر من أخلاق العلماء: وقد وصف العلماء رحمهم الله أخلاق أهل العلم، فقالوا: لا مداهن ولا مشاحن ولا مختال ولا حسود ولا حقود ولا سفيه ولا جاف ولا فظ ولا غليظ ولا طعَّان ولا لعَّان ولا مغتاب ولا سبَّاب، يخالط من الإخوان من عاونه على طاعة ربه ونهاه عما يغضب مولاه ، ويخالط بالجميل من لا يأمن شره إبقاء على دينه ، سليم القلب للعباد من الغل والحسد ، يغلب على قلبه حسن الظن بالمؤمنين في كل ما أمكن فيه العذر ، لا يحب زوال النعم على أحد من العباد  

  إن الألفة والتالف والتآخي في الله من ثمرة حسن الخلق ولهذا مشاهد كثيرة من أحاديث النبي  r منها قوله r : ( المؤمن إلفٌ مألوف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف ) رواه أحمد والطبرانى . فالضغائن والأحقاد والحسد الذي تمتلأ به القلوب لن يزيدنا من الله إلا بعدا لأن القلوب إذا ملئت غيظا ًوعداوة لأي سبب من الأسباب، فإن ذلك يودي بصاحبها إلى تجاوز الحد في الخصومة ، ولا يحتكم حينئذ إلى عقل أو دليل ، بل يتحكم الهوى فيه ، فيورده موارد الهلاك ، وتنشأ القطيعة والهجر، والتدابر الذي حرّمه الإسلام على المسلمين، والتي سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم الحالقة، فقال: ( إِيَّاكُمْ وَسُوءَ ذَاتِ الْبَيْنِ فَإِنَّهَا الْحَالِقَةُ ) رواه الترمذي وأبوداود وأحمد .   

خطورة هذا الداء فهو مقس للقلوب مشتت للشمل زارع للعداوات والبغضاء فكن سليم الصدر ، فإنه ينفعك في يوم أنت أحوج ما تكون إليه ، هناك : يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ* إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (الشعراء:88 *89)

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المزاح

المزاح مشروع في الإسلام، ويُعد صدقة من الصدقات ، يُؤجر عليها المسلم، ولكن وفق الشروط والضوابط الشرعية ، التي ضبطها الإسلام ، وكما قال بعض الفقهاء ، وحتى يكون خلقاً مهذباً  وسلوكاً مقبولاً ، ينبغي أن يكون موافقاً لما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح ، يقول النووي : ( المزاح المنهي عنه ، هو الذي فيه إفراط ، ويُداوم عليه؛ فإنه يورث الضحك ، وقسوة القلب ويشغل عن ذكر الله تعالى ، ويؤول في كثير من الأوقات إلى الإيذاء، ويورث الأحقاد ويسقط المهابة والوقار ، وما سلم من هذه الأمور    فهو المباح ، الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله ، وكان يفعله ، في نادر من الأحوال ، لتطييب نفس المخاطب ومؤانسته وهذا لا مانع منه مطلقاً، بل هو سنة مستحبة  إذا كان بهذه الصفة " والحكمة من مشروعية المزاح ، ليدل على سماحة الإسلام ، ومراعاته للطباع الإنسانية ، في النزوع إلى الضحك  والتبسم والانبساط ، والتخفيف من أثقال الحياة ، وأعبائها النفسية ، والابتعاد عن مشاغل الدنيا ، وترويح النفس  إذ لا بد من مواقف ، تتجدد فيها الطاقة ، لأن القلوب إذا كلَّت عميت ،  ومشروعية المزاح ، مستمدة من أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم وأقواله عن عبد الله بن الحارث قال: ( ما رأيت أحداً أكثر تبسُّماً من رسول الله صلى الله عليه وسلم ) وما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبي هريرة (قالوا: يا رسول الله! إنك لتداعبنا! قال: إني لا أقول إلا حقاً ) وكان صلى الله عليه وسلم : ( يلاعب زينب بنت أم سلمة ويقول: يازوينب! يا زوينب! مراراً )     وقد عُرف المزاح عن صحابته صلى الله عليه وسلم، حتى اشتهر بعضهم بكثرة قصصه ودُعاباته ، وكان فيهم الحازم ، من أمثال عمر بن الخطاب ، وفيهم صاحب الدعابة ، الذي يستلقي على قفاه، ولم ينكر على أحد منهم. لأن الأصل إنكار الضحك المتكلَّف ، أو الضحك في مواطن الجد، أو الإفراط فيه ، ولما سئل ابن عمر : هل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحكون ؟ قال: نعم والإيمان في قلوبهم مثل الجبل ، وهكذا ظل الصحابة أوفياء للمنهج النبوي ، دون أن يؤثر المزاح على جدية العمل ، أو على تطبيق السنن، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرى مزاحهم ، ولم ينكر عليهم ذلك، وربما شاركهم مزاحهم، لأن المزاح يدور معناه ، حول المباسطة والملاعبة والتلطف ، ووسائله متنوعة فقد يكون بابتسامة ، أو نكتة، أو نادرة، أو فكاهة، أو ملحة أو بإشارة ، أو حركة يُراد بها المباسطة ، وإدخال السرور على قلب المسلم  قال صلى الله عليه وسلم: ( وتبسُّمُك في وجه أخيك صدقة ) ولكن الصحابة كانوا ينهون عن الإفراط في المزاح، قال سعد بن أبي وقاص لابنه ناصحاً:" اقتصد في مزاحك، فإن الإفراط فيه يُذهب البهاء، ويجرِّئ عليك السفهاء "  وقد سار السلف على منهج الصحابة في جعل المزاح استراحة ، قيل لسفيان بن عيينة: المزاح هجنة ؟ قال: بل سنة، ولكن الشأن فيمن يحسنه ويضعه مواضعه ، وعلى هذا جرى عمل كثير من السلف ، قال ابن مسعود: « خالط الناسَ، ودينَك لا تَكلِمَنَّه » وقال علي بن أبي طالب: ( أجِمٌّوا هذه القلوب ، فإنها تمل كما تمل الأبدان ) وعن أبي الدرداء قال: « إني أستجِمٌّ ببعض الباطل ، ليكون أنشط لي في الحق » وكان ابن سيرين يمزح ويضحك حتى يسيل لعابه، وإذا أردته على شيء من دينه   كانت الثريا أقرب من ذلك ، وقد كرهه بعض السلف ، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله : ( لا تمارِ أخاك ولا تمازحه ) وهذا عمر بن عبد العزيز يرسل إلى عدي بن أرطأة فيقول: ( اتقوا المزاح فإنه يُذْهِبُ المروءة )  ونقل عنهم : « لكل شيء بدء، وبدء العداوة المزاح » ، وكان يقال: « لو كان المزاح فحلاً ما ألقح إلا الشر »  وقال جعفر بن محمد: « إياكم والمزاح فإنه يذهب بماء الوجه » ، وقال الإمام ابن عبد البر : « كره جماعة من العلم الخوض في المزاح لما فيه من ذميم العاقبة ، ومن التوصل إلى الأعراض ، واستجلاب الضغائن وإفساد الإخاء »، وللمزاح شروطاً ينبغي الالتزام بها ، وإلا كان محذوراً منهياً عنه، ومن هذه الشروط: ألا يقترن بمعصية أو يؤدي إلى مخالفة شرعية ، إذ يلجأ بعض المازحين ، إلى المبالغات والكذب، فيدخل على النكتة أو النادرة زيادات من عنده ، وصياغات خاصة  ليعطي لمزاحه نكهة ، ومذاقاً خاصاً، فيشتد الناس في الضحك ، وقد توعد الرسول صلى الله عليه وسلم أولئك الصنف من الناس فقال: ( ويل للذي يُحدِّث فيكذب ليضحك به القوم، ويل له )، وقال :( إن الرجل ليتكلم بالكلمة ليُضحك بها جلساءه، يهوي بها في النار أبعد من الثريا ) . ومن الشروط : أن يخلو من الغيبة، لقوله تعالى: ﴿ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحبُّ أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتمون واتقوا الله إن الله تواب رحيم ﴾ الحجرات:12 ، وألا يكون فيه استهزاء بالآخرين أو سخرية منهم، لأن ذلك حرام، لقوله سبحانه: ﴿ يأيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكنَّ خيراً منهن ولاتلمزا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ﴾ الحجرات 11. ، وللمزاح آداب منها : ألا يكون في المزاح ترويع لأحد من المسلمين، لما رواه أبوداود عن ابن أبي ليلى قال: حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يسيرون مع النبي صلى الله عليه وسلم، فنام رجل منهم، فانطلق بعضهم إلى حبل معه فأخذه، ففزع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا يحلُّ لمسلم أن يُروِّع مسلماً )  وقوله صلى الله عليه وسلم: ( لا يأخذن أحدكم متاع أخيه لاعباً ولا جاداً ) ، ويحرم المزاح الذي يُلهي عن أداء الفروض والواجبات  أو يشغل عن ذكر الله ، أو الذي فيه شيء من الاستهزاء بالدين أو بشعائره، لقول الله تعالى: ﴿ ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم ﴾التوبة 65 ، قد يروق لبعض المسلمين الغافلين ، أن يطلق نكتة أو نادرة فيها استهزاء ، ببعض شعائر الإسلام وفرائضه أو يتمازح وهو في معصية ، دون أن يعلم أن في ذلك جُرماً عظيماً ، قد يؤدي به إلى الكفر والعياذ بالله، قال ابن عباس رضي الله عنهما: " من أذنب ذنباً وهو يضحك، دخل النار وهو يبكي " . وقد يحلو لبعض المسلمين في هذا العصر ، أن يكثر من المزاح ، حتى يصير لديه حرفة ، ولازمة من لوازم حياته التي يُعرف بها ظاناً بذلك أنه يصنع معروفاً لإخوانه المسلمين يقول الإمام أبو حامد الغزالي: " من الغلط العظيم أن يُتَّخذ المزاح حرفة " . فقد يؤدي إلى  

إفساده المودة، وإيغار الصدور، وإثارة العداوة وذهاب البهاء، وتجرئة الدنيء، وحقد الشريف وإحياء الضغينة ، فكم من افتراق بين أخوين وهجران بين متآلفين ، كان أول ذلك المزاح   فقد يجره مزحك معه ، إلى إيذائك ، و كما قيل: « لا تمازح الغلمان فتهون عليهم أو يجترئوا عليك » وقيل: « لا تمازح الشريف فيحقد عليك، ولا تمازح الوضيع فيجترئ عليك » لذا ينبغي أن يكون المزاح مع الأقران ، لأن المزاح مع الأعلى يؤذي ، ومع الأقل يؤدي إلى الجرأة على المازح ، كما يجب على العاقل أن يستعمل من المزاح ، مَا ينسب بفعله إلى الحلاوة ، ولا ينوي به أذى أحد ، ولا سرور أحد بمساءة أحد ، وقد أحسن الذي قال :  

وإياك من حلو المزاح ومره   ومن أن يراك الناس فيه مماريا

وإن مراء المرء يخلق وجهه  وإن مزاح المرء يبدي التشانيا

وقَالَ عمر بن الخطاب : " مَنْ كَثُرَ ضَحِكُهُ قَلَّتْ هَيْبَتُهُ ، وَمَنْ مَزَحَ اسْتُخِفَّ بِهِ ، وَمَنْ أَكْثَرَ مِنْ شَيْءٍ عُرِفَ بِهِ " .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

  

 

 

النهي عن الضحك والمزاح وكثرة الكلام

  قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه :

من كثر ضحكه قلت هيبته، ومن مزح استخف به، ومن أكثر من شيء عرف به ومن كثر كلامه كثر سقطه – خطئه- ومن كثر سقطه قل حياؤه، ومن قل حياؤه قل ورعه، ومن قل ورعه مات قلبه.

لقد رغب الرسول صلى الله عليه وسلم في الابتسامة لما صح عنه :( تبسُّمك في وجه أخيك لك صدقة ) الترمذي  وابن ماجه  وقوله : ( لا تحقِرَنَّ من المعروفِ شيئاً ولو أن تلقى أخاكَ بوجه طَلق ) ولا شك بأن الإنسان المبتسم قريب من قلوب الناس، وصدق من قال : "عندما يبتسم الإنسان لنفسه فمن السهل أن يبتسم للآخرين " ولقد أحسن القائل:

إذا كان الكريمُ عَبوسَ وجهٍ  فما أَحلى البشاشَـةَ في البخيلِ

 إن للضحكة فعل سحريّ في شفاء الناس وكشف الغمّ ، وإعادة الحياة والنشاط للروح والبدن ، وهي جالبة للمحبة في قلوب الناس، ومُظْهرة للتواضع ، وعدم الترفع  بخلاف الضحك ، الذي يصاحبه قهقهة   فإنه مذموم إن كان كثيرا ، لما صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أوصى بعض أصحابه، فقال:(لا تكثروا الضحك، فإن كثرة الضحك تميت القلب ) صحيح مسلم  ولأن الإكثار منه مُذهب للهيبة ، ومخالف للمروءة ، وقد قيل :كثرة الضحك تقلل الهيبة، وكثرة الكلام يقلل الوقار، وكثرة الزيارة تقلل القدر، وكثرة التواصل تقلل الشوق ، أما المزاح فلا بأس به ، ما لم يكن سفها ، فهو خُلق ، وسلوك بشري له ضوابطه وحدوده ، يشتمل على المداعبة والمضاحكة والمفاكهة ، بقصد الترويح عن النفوس ، وإدخال السرور والبهجة إليها حتى لا تمل ولا تكل ، وتجنب الإكثار من المزاح ، لأنه يُسقط الهيبة ، ويُزيل المحبة والاحترام من قبل الآخرين ، ويخل بالمروءة ويجرئ السفهاء والأنذال، وكان يقال:" لكل شيء بدء وبدء العداوة المزاح" وأنشدوا :

مازحْ صديقك ما أحبَّ مزاحا   وتوقَّ منه في المزاح جماحا

   فلربما مزح الصديق بمزحةٍ      كانت لِبـابِ عداوة مفتاحـا

ومن أكثر من شيء عرف به ، فإن الرجال يُعرفون بالدين ، ولا يُعرف الدين بالرجال    ولا يُعرف الحق بالرجال ، بل الرجال يُعرفون بالحق، لأن الحق متبوع لا تابع ، قال تعالى :  ﴿ ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات واﻷرض ومن فيهن﴾ ولا يصح الاستدلال بالرجال على الحق ، والاحتجاج عليه بفعل فلان وفلان ، لأن الواجب أن يُنظر إلى القول لا إلى القائل، وإلى الدليل لا إلى الفكرة ، والقاعدة : "يُعرف الرجال بالحق  ولا يُعرف الحق بالرجال" ومن كثر كلامه كثر سقطه ، ومن كثر سقطه ، ومن كثرت ذنوبه كانت النار أولى به ، قال الغزالي : " لا تبسطن لسانك فيفسد عليك شأنك " وفي المثل السائر " رب كلمة تقول لصاحبها دعني دعني " فالكلام حسنه حسن   وقبيحه قبيح ، واللسان إنما هو آلة يستخدمها صاحبها ويسيرها، فإن سار بها طريق الخير ، أفلح ونجح، وإن سار بها طريق الشر ، خسر وخاب، ومن ملَك لسانه  فقد ملك أبواب الخير، وقد أحسن القائل :

يموت الفتى من عثرة بلسانه   وليس يموت المرء من عثرة الرِّجْلِ

فعثرته بالقول تُذهب رأسه   وعثرته في الرجْل تبرا على مهلِ

ومن كثر سقطه قل حياؤه ، ومن قل حياؤه  جاهر بالذُّنوب والمعاصي ، وعدم الخوف مِن الله ، وسوء الأدب في الأقوال والأفعال فلا يجد البعض حياءً يمنعه ، ولا دينا يردعه ويرده إلى الصواب ، لأن الحياء خُلُقٌ يبعث على فعل كل مليح ، وترك كل قبيح ، وهو دليل على الخير والاستقامة ، ومُخْبِـرٌ عن المدح والسلامة ، ومُجِـيرٌ من الذم والملامة ، فهو من صفات النفس المحمودة ، التي يحبها الله تعالى  ولا يأتي إلا بخير، بل هو خير كله ، لقوله صلى الله عليه و سلم في الحديث المتفق على صحته :( الحياء لا يأتي إلا بخير) ولم يكن في شيءٍ إلا زانه ، وهو شعبة الإيمان وخلق الإسلام ، كما روى الإمام مالك في الموطإ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (إن لكل دين خلقا وخلق الإسلام الحياء) ، وقد قيل:" من كساه الحياءُ ثوبَه لم يرَ الناسُ عيبَه "، وقال  أحد شعراء العباسيين :

حيـاؤك فاحفظه عليك فإنما   يدلُّ على فضل الكريم حياؤه

إذا قلَّ ماء الوجه قلَّ حيـاؤه   ولا خير في وجهٍ إذا قلَّ ماؤه

وقيل: خمسٌ مِن علامات الشَّقاوة :" القسوة في القلب ، وجمود العين ، وقلَّة الحَيَاء   والرَّغبة في الدُّنْيا ، وطول الأمل " وهو الباعث على فعل المأمور ، وترك المحظور ، فهنيئاً لمن كان الحياء خلقاً له ، ولا خير في المرء إذا ذهب منه الحياء .

إذا لم تخش عاقبة الليالي  ولم تستحي فاصنع ما تشاء

فلا والله ما في العيش خير  ولا الدنيا إذا ذهب الحياء

يعيش المرء ما أستحيا بخير  ويبقى العود ما بقي اللحاء

ومن قل حياؤه قل ورعه ، بأن يُطهَّر القلب من الدنس ،كما يُطهِرُ الماء دنس الثوب  أو ترك ما يريب، ونفي ما يعيب، قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " تمام الورع أن يعلم الإنسان خير الخيرين ، وشر الشرين ، ويعلم أن الشريعة ، مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها  وتعطيل المفاسد وتقليلها ، قال صلى الله عليه وسلم: (كن ورعًا تكن أعبد الناس ، وكن قنعًا تكن أشكرَ الناسِ ، وأحب للناسِ ما تحب لنفسك تكن مؤمنًا ، وأحسِنْ جوار من جاورَك تكن مسلمًا، وأقِل الضحكَ فإن كثرةَ الضحك تميت القلبَ ) وأحسن من قال :

تَوَرَّعْ وَدَعْ مَـا إِنْ يَرِيبُـكَ كُلَّـهُ  جَمِيعًا إِلَى مَـا لا يَرِيبُـكَ تَسْلَمِ

الورع نوعان : واجب ، وهو اتقاء ما يكون سببا للذنب والعذاب ، بترك المحرمات  ومستحب ، باتقاء ما يمكن أن يؤدي إلى محرم أو ترك ما يكون سببا للذم والعذاب ، سأل الحسن غلاما فقال له: "ما ملاك الدين قال: الورع ، قال: فما آفتة قال: الطمع ، فعجب منه الحسن" إن الإنسان ليخجل من قلة زهده وورعه ، وخوفه وحياءِه من الله عز وجل ، وكم نتجرأ على الله ، بارتكاب المعاصي والذنوب  التي نستصغرها ، وكم هي الفتن التي حولنا   ولا نستطيع أن نحمي أنفسنا منها ، من قلة ورعنا ، وكثرة حبنا للدنيا ، وترك ما عند الله  فمتى نتوب إلى الله توبة نصوح ، ونأخذ بأيدينا إلى طريق السلامة ، وأين أهل الآخرة ، الذين نشد أيدينا على أيديهم ، حتى ندرك سبيل النجاة في الدنيا والآخرة ، ومتى ندرك أن الورع هو ملازمة الأدب ، وملازمة الأعمال الحميدة بموافقة الشرع ، واجتناب الشبهات  خوفاً من الوقوع في المحرمات ، ومحاسبة النفس ، ومن كان حاسب نفسه حساباً عسيراً  كان حسابه يوم القيامة يسيراً   ومن حاسب نفسه حساباً يسيراً ، في الدنيا كان حسابه يوم القيامة حساباً عسيراً ، ومن الوُرع : هو حجز اللسان عن قول الزور ، والخوض في أعراض الناس وعدم سوء الظن بالآخرين أو ظلمهم، أو إلحاق الضرر بهم  وأنْ يَجْعَلَ الإنسانُ بينْهُ وبينَ الحَرَامِ حَاجِزا . قَالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ : (كُنْ وَرِعًا تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ ، وَكُنْ قَنِعًا تَكُنْ أَشْكَرَ النَّاسِ  وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا  وَأَحْسِنْ جِوَارَ مَنْ جَاوَرَكَ تَكُنْ مُسْلِمًا ، وَأَقِلَّ الضَّحِكَ ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ ) رَوَاهُ الإمامُ أحمدُ والترمذيُّ وابنُ ماجَه والبيهقيُّ في الشُعبِ  وصَحَّحَهُ الألبانيُّ  

 

 

 الافتراء على الأبرياء

قال الله تعالى: ﴿ وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً﴾ 112النساء ، إن اتهام الناس والكذب عليهم، والافتراء على الأبرياء والبريئات، خطره جسيم وضرره عظيم، بل هو خطيئة منكرة،وجريمة عظيمة، وعاقبته وخيمة في الدنيا والآخرة، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ﴾ فكان على الإنسان أن يهتم بكلامه ، قبل الحكم علي الناس ، والافتراء عليهم لقوله تعالى : ﴿ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُم ْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ ﴾ سورة النور ، فاتهام الأبرياء بالتهم الباطلة، والأخذ بالظن والتخمين، ورمي المؤمنين بما لم يعملوا،وبهتانهم بما لم يفعلوا،عاقبته وخيمة وآثاره أليمة في الدنيا والآخرة، واتهام الأبرياء ، من الأمور المستشرية بين الناس ، وهو ما نهى عنه الإسلام ، لأن اتهام الناس بالباطل ظلم كبير ، جاء في الحديث النبوي الشريف عن عائشة : ( ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم ، فإن وجدتم للمسلم مخرجا فخلوا سبيله ، فإن الإمام يخطئ في العفو خير أن يخطئ في العقوبة ) رواه الترمذي مرفوعا وموقوفا.  لذا حذّر الله عز وجل ورسوله الكريم, من الاتهام بالباطل وقذف المحصنات  والسب, والتنابذ بالألقاب والتلاعن , والتباغض, فقال تعالى : ﴿ ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا ﴾ فاتهام الناس بالباطل أمر عظيم عند الله ، وكل من أقدم علي ذلك سوف يجد عذابا عظيما في الدنيا والآخرة، لأنه من اشد أنواع الظلم ، لما له من عواقب وخيمة علي المجتمع ، إذا يعمل علي تفسخ العلاقات الاجتماعية ، ويوصل إلى الخراب والدمار   لهذا فإن الأعراض مصونة في الإسلام ، لا يجوز أن ينتهكها ، أو يشهّر بها أحد ، فكيف إذا كان انتهاك عرض المسلم والتشهير به من غير بينة ؟ ففي ذلك مخالفة صريحة لما  جاء في الحديث الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لو يُعطى الناس بدعواهم   لادّعى رجالٌ أموال قوم ودماءهم ، لكن البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر ) حديث حسن رواه البيهقي وغيره هكذا ، وبعضه في الصحيحين

 جبل الله النفس على الضعف ، كما قال تعالى : ﴿ وخلق الإنسان ضعيفا ﴾النساء 28  ، وهذا الضعف يشمل الضعف النفسي ، والضعف البدني ، وقد يصبح الضعف في بعض الأحيان مولداً للأخلاق الرديئة ، والصفات الذميمة   حتى يقود الإنسان إلى أن يدّعي على أخيه ما ليس من حقّه ، فيزعم أنه قد أخذ له مالاً ، أو سفك له دماً ، أو أخذ أرضا ، بدعوات كثيرة ليست مبنية على دليل أو برهان ، بل هي تهم باطلة قائمة على البغي والعدوان . ولو كانت الموازين البشرية أو مقاييسها هي المرجعية فيما يقع بين الناس من اختلاف ، لعمت الفوضى   وانتشر الظلم ، وضاعت حقوق الناس   وأُهدرت دماء واستبيحت أموال بغير حق    لكن من رحمة الله أنه لم يترك الناس هملا   ولم يكلهم إلى أنفسهم ، بل شرع لهم من الشرائع ما هو كفيل بتحقيق العدل والإنصاف بين الناس ، وما هو سبيل لتمييز الحق من الباطل ، بميزان لا يميل مع الهوى ، ولا يتأثر بالعاطفة ، ولكنه راسخ رسوخ الجبال ، قائم على الوضوح والبرهان .

ومن هذا المنطلق أورد الإمام النووي رحمه الله هذا الحديث ، ليكون أصلا في باب القضاء بين الناس ، إذ هو منهج يجب أن يسير عليه كل من أراد أن يفصل بين خصومات الناس ، ليعود الحق إلى نصابه وأهله ، ويرتدع أصحاب النفوس المريضة عن التطاول على حقوق غيرهم . فكم أشاع الناس عن بعضهم أموراً لا حقائق لها كذبا وزورا ،وخصوصاً عند من عرفوا بعدم المبالاة بالنقل،أو عرف منهم الهوى ، فكان لا بد من التثبت وعدم التسرع في نقل الأخبار، وبهذا يعرف دين العبد،ورزانته،وعقله  قال تعالى(إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ)النحل، وقد يكون الذي يتناقله الناس صدق،وحق، فكيف يتبين الإنسان،قال تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾ سورة الحجرات،  هنالك ضوابط شرعية لنقل الأخبار ، لا بد للمسلمين من معرفتها،فكم من دماء أريقت لأبرياء،وكم من أعراض انتهكت، دون أن  نتثبت،وأن نتبين، نكتفي بالقول ، سمعت الناس يقولونه فقلته، وقد قال تعالى(وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ)النور، وقد قال صلى الله عليه وسلم : (كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع)رواه مسلم، إن التسرع في الاتهام، رُوّع به أقوام من الأبرياء، وظُلم به أناس، وهُجر به صلحاء دون مسوغ شرعي، فهذا يصف بعض الناس بالإجرام، وآخر بذهاب الدين، وثالث بالسرقة والاحتيال، ورابع بالفاحشة، وتستمر وسائل التدليس، من مواقع الأخبار في الإنترنت وغيرها، وألسنة الناس تلوك أعراض الأبرياء.   جاء في القرآن والسنة قصصاً من التاريخ اتهم فيها  كثير من عباد الله الأبرياء ، فهذا نبي الله يوسف في عرضه، ثم برأه الله سبحانه وتعالى: وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ ﴾  . وآذى اليهود موسى عليه السلام قال تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا ﴾ الأحزاب 69. وقصة الآية ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم، كما في صحيح البخاري عن أبي هريرة: (إن موسى كان رجلاً حيياً ستيراً، لا يرى من جلده شيء استحياءً منه) كان يبالغ في التستر لا يريد أن يرى أحد شيئاً من جلده، قال: (فآذاه من آذاه من بني إسرائيل، فقالوا: ما يستتر هذا التستر إلا من عيب بجلده إما برص وإما أدرة) انتفاخ في الخصيتين (وإما آفة، وإن الله أراد أن يبرأه مما قالوا) اتهموه بذلك العيب (وإن الله أراد أن يبرأه مما قالوا لموسى، فخلا يوماً وحده) أي موسى عليه السلام (فوضع ثيابه على الحجر) وهو بعيد عن الناس (ثم اغتسل، فلما فرغ ، أقبل إلى ثيابه ليأخذها، وإن الحجر عدا بثوبه) معجزة  جرى الحجر بثوب موسى (فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر)   (فجعل يقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر، حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل، فرأوه عرياناً أحسن ما خلق الله، وأبرأه مما يقولون وقام الحجر ، فأخذ ثوبه فلبسه وطفق بالحجر ضرباً بعصاه فوالله إن بالحجر لندباً من أثر ضربه ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً ) وهكذا اتهموا نبيهم بهذه الأدرة، وبرأه الله مما قالوا . ولما جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، واستقبله فيمن استقبله عبد الله بن سلام، أبو يوسف الحبر الصادق، الذي هداه الله فترك دين اليهودية، وآمن بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ لما تبين له أنه الحق، فلما أسلم قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله إن اليهود قوم بهت، يعرفهم، أليسوا قومه؟ أليس منهم؟ إن اليهود قوم بهت، ثم إن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم بهتوني عندك، فجاءت اليهود، ودخل عبد الله البيت – أي اختفى بعدما أسلم ولم تعلم اليهود بإسلامه- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أي رجل فيكم عبد الله بن سلام؟) قالوا: أعلمنا وابن أعلمنا، وأخيرنا وابن أخيرنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفرأيتم إن أسلم عبد الله) قالوا: أعاذه الله من ذلك، فخرج عبد الله إليهم فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فقالوا: شرنا وابن شرنا، ووقعوا فيه.

وقد افتر اليهود على مريم قال تعالى: ﴿ وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا ﴾ سورة النساء 156.البهتان: الكذب المفرط الذي يتعجب منه، افتروا عليها ، بأنها وقعت في الفاحشة وأنها بغي، ولكن برأها الله بنطق عيسى، فرد الله تعالى فريتهم، وكان في بني إسرائيل رجل يقال له: جريج كان يصلي  جاءته أمّه فدعته، فقال: أجيبها أو أصلي ، فتكرر ذلك فتضايقت أمه، فقالت: اللهم لا تمته حتى تريه وجوه المومسات    وكان جريج في صومعته يعبد الله منقطعاً عن الناس، فتعرضت له امرأة وكلمته فأبى، فأتت راعياً فأمكنته من نفسها، فولدت غلاماً، سألوها من أين هذا؟ قالت: من جريج، فأتوه فكسروا صومعته، وأنزلوه وسبوه، فتوضأ وصلى ثم أتى الغلام، فقال: من أبوك يا غلام؟ قال: الراعي، أنطق الله الغلام، فشهد ببراءة جريج، قالوا: نبني صومعتك من ذهب، قال: لا، إلا من طين.أعيدوها كما كانت ، وبينما امرأة ترضع ابنها إذ مر بها راكب، فقالت: اللهم اجعل ابني مثله، ترك الغلام الثدي وقال : اللهم لا تجعلني مثله، ثم رجع إلى الثدي، ومر بامرأة تجرر، بأمة   فقالت: اللهم لا تجعل ابني مثلها، فقال: اللهم اجعلني مثلها فقالت له ذلك، وقد تعجبت أشد العجب من نطق الرضيع، قال: أما الراكب فإنه كافر، أو جبار  وأما المرأة فإنهم يقولون لها: سرقت ولم تسرق، وزنيت ولم تزن، وهي تقول: حسبي الله.

قال النووي رحمه الله معلقاً على القصة: "إنما سأل ذلك لا لأن يكون متهماً ولكن ليكون في براءتها ونصاعتها، لم يسأل أن يكون متهماً   وإنما سأل أن يكون في مثل حالها براءة ونصاعة". وقال عز وجل في كتابه العزيز: ﴿ وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا ﴾النساء 112.فبعض الناس لا يكتفي بفعل السيئة، حتى يضيف إليها سيئة أخرى، وهي أن يلصقها بالبريء، يسرق ويتهم غيره بالسرقة، يقتل، ويتهم غيره بالقتل، وهكذا، فنزلت الآيات في قوم سرقوا فألبسوا التهمة بغيرهم، وجاء من يجادل ويدافع عنهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله الآيات في الدفاع عن البريء، وبيان عاقبة الذي يفتري الكذب على البريء  ، وقد حدثت عائشة رضي الله عنها عن امرأة كانت تأتي إليها، سوداء، أمة، وتقول كلما جلست عندها:

ويوم الوشاح من تعاجيب ربنا  ألا إنه من بلدة الكفر أنجاني

 فسألتها عائشة: كلما جلست تقولين هذا؟ فقالت: إنها كانت لحي من العرب، أمة  فأعتقوها فكانت معهم، فخرجت صبية لهم عليها وشاح أحمر من سيور، خيطان من اللؤلؤ، فوضعته أو وقع منها، فمر به حدياة، -حدأة- وهو ملقى فحسبته لحماً فخطفته، فالتمسوه فلم يجدوه، قالت: فاتهموني به، فطفقوا يفتشون حتى فتشوا قبلها، وكشفوا عورتها، هذه المظلومة المسكينة، تقول: والله إني لقائمة معهم إذ مرت الحدياة فألقته فوقع بينهم، وفي رواية: فدعوت الله أن يبرأني، فجاءت الحدية وهم ينظرون فألقته بينهم، فقلت: هذا الذي اتهمتموني به زعمتم، وأنا منه بريئة، وهو ذا هو وجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأسلمت. اللهم أحينا مسلمين، وتوفنا مؤمنين  وألحقنا بالصالحين .

 

 

 

 

 

 

النهي عن القيل والقال في المجالس

المجالس فرصة خير لمن أراد الله به الخير، ومن أراد الله واليوم الآخر، وذكر الله كثير، وهو فرصة للازدياد من الشر والسيئات، والوقوع في حبائل الشيطان ، ولهذا ورد النهي عن القيل والقال في المجالس ، فقال تعالى : ﴿ لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ﴾ وكتب معاوية إلى المغيرة بن شعبة أن اكتب إلي بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتب إليه سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الله كره لكم ثلاثاً, قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال ) أخرجه البخاري . وللجليس صفات ، وله حقوق، قال سعيد بن العاص : " لجليسي علي ثلاث خصال: إذا دنا رحبت به  وإذا جلس وسعت له، وإذا حدث أقبلت عليه "

هناك أناس  يستهزئون في المجالس بأشياء كثيرة بأحكام الدين، وشرائع الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولذلك جاء النهي عن فضول ما يتحدث به المتحدثون ، وزوائد ما يتكلم به المتجالسون  كالخوض في أخبار الناس ، وحكاية أقوالهم وأفعالهم ، ونقل أحداث الزمان ووقائعها     في عالم مليء بالقيل والقال ، من مئات القنوات الفضائية, وأمثالها من الإذاعات ، ناهيك عن الجرائد والمجلات والكتب, بشتى مجالاتها ومستوياتها, أقوال اختلط فيها الحابل والنابل  والمفيد بالمضر ، والترهات والسخافات. وقد قيل :" من اشتغل بالفضول  فاته المأمول , ومن اشتغل بما لا يعنيه ، فاته ما يغنيه " وما أكثر الكلام الفاسد الذي يدور في مجالس المسلمين ، مما يزكم الأنوف ، ويصم الأذان ويصيب بالدوار والغثيان وهذا ما نهى الله فقال : ﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ﴾ الأنعام68 . ولو تعاون الناس على النصح لمن ينطق بالباطل ، ويفسد المجالس بكلماته  لصلحت أحوالنا ، وصارت مجالسنا مجالس نور وحق وصدق ، قال الشافعي رحمه الله: "نزِّهوا أسماعكم عن استماع الخنا- أي الكلام الفاسد-  كما تنزهون ألسنتكم عن النطق به، فإن المستمع شريك القائل، وإن السفيه ينظر إلى أخبث شيء في وعائه ، فيحرص أن يفرغه في أوعيتكم، ولو رُدت كلمة السفيه لسعد رادُّها، كما شقي بها قائلها"ابن عساكر في تاريخ دمشق . قال ابن القيم في الجواب الكافي : " من العجيب أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز  من أكل الحرام ، والظلم والسرقة ، وشرب الخمر  والنظر المحرم وغير ذلك  ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه ، حتى ترى الرجل يُشار إليه بالدين  والزهد والعبادة ، وهو يتكلم بالكلمة من سخط الله ، لا يلقي لها بالاً  يزل بها أبعد مما بين المشرق والمغرب ، وقال : " إن العبد ليأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال   فيجد لسانه قد هدمها عليه كلها , ويأتي بسيئات أمثال الجبال فيجد لسانه قد هدمها ، من كثرة ذكر الله تعالى وما اتصل به " أخرج الترمذي في سننه وأحمد في مسنده من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه قال : قلت : يا رسول الله ما النجاة ؟ قال صلى الله عليه وسلم : ( املك عليك لسانك وليسعك بيتك وابكِ على خطيئتك ) وفي لفظ : " أمسك عليك لسانك ) والحديث صحيح بشواهده ، لأن من كثر كلامه كثر سقطه ، ولأننا نرى الناس قد أطلقوا العنان لألسنتهم ، فأصبح ذلك اللسان سلاحاً ، لبث الفرقة والنـزاع والخصام ، بل وفي مجالات الحياة كلها  ولأن الكلام فاكهة هذه الجلسات , كان لا بد من وضع ضابط ، ولا بد من تحذيرٍ وتذكيرٍ للناس  في مثل هذه الجلسات ، التي تخلو من ذكر  الله   والصلاة على رسول الله ،  ولو كان الكلام مباحاً لذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (ما اجتمع قوم في مجلس فتفرقوا ولم يذكروا الله، ويصلوا على النبي صلى الله عليه وسلم إلا كان مجلسهم ترة عليهم يوم القيامة) . يعني: حسرة وندامة ، والسنة الإمساك حتى عن الكلام  المباح ، لأنه قد يؤدي إلى حرام أو مكروه  وذلك مكتوب ومحسوب ، فقل ما شئت ، وتكلم بما شئت ، فهناك من يسجل، ومن يراقب قال تعالى :﴿ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيد  مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ قّ 17 قال ابن عباس :" يكتب كل ما تتكلم به من خير وشر ، حتى إذا كان يوم الخميس عُرض قوله وعمله ، فأقِر منه ما كان من خير وشر  وألقي سائره  فربك راصد ومسجل قال تعالى:﴿ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ﴾الفجر 14. هذا تطمين لمن يدور عنه الحديث في المجالس ، وتحذير لمن أطلقوا العنان لألسنتهم في أعراض العباد ، وبالمرصاد للطغيان والشر والفساد ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق) أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما. ترهيب غليظ لمن يلقون الكلمات ولا يحسبون لها حساباً  وهي عند الله في كتاب لا يضل ولا ينسى ، ألا يعتبر من ينشر الشائعات في المجالس ، فكم من كلمة قصمت ظهر صاحبها وهو لا يعلم ,  وفي حديث معاذ الطويل قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ألا أخبرك بملاك ذلك كله ؟" قال معاذ : بلى يا رسول الله , فأخذ بلسانه ثم قال : كف عليك هذا قلت : يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به  قال النبي صلى الله عليه وسلم :ثكلتك أمك يا معاذ  وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم؟" والحديث أخرجه الترمذي في سننه وقال حسن صحيح. في حديث سهل بن سعد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة) والحديث أخرجه البخاري في صحيحه.وقد غفلت النفوس  وتجاهلت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)  وتعلقت بالدنيا وشهواتها ولذاتها  ونسيت الحساب والعذاب ، وانطلق اللسان يفري في لحوم العباد فرياً  وتجاهل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) وغيرها من الأحاديث التي تذكّر  كلما أراد اللسان أن ينطلق بكلمة ، أن يحسب لها حسابها ، كان عبد الله بن أبي زكريا يعاتب جليسه ويقول :" إن ذكرتم الله أعنـّاكم , وإن ذكرتم الناس تركناكم " في مجالسنا نقول : نخشى عذاب الله من فعل فلان  ونخاف من عقاب الله من قول علان  ولا نخشى الله من قولنا وفعلنا ، وهذا ظاهر في مجالسنا نقول : نخشى من عذاب الله من عمل فلان وعلان , ولكننا ننسى أن نخاف على أنفسنا من عذاب الله من ذنوبنا وأفعالنا وأقوالنا.

لنرجع إلى أنفسنا وننظر إلى عيوبنا قبل أن ننظر إلى عيوب الآخرين ، ونقول : إن فلاناً فيه أخطاء وفلان فيه تقصير، وآخر فيه غفلة، ولا يسلم من العيب الفلاني ، وهكذا أقاموا أنفسهم لتقييم الآخرين وجرحهم ولمزهم ، ونسوا أنفسهم    وعيوبهم وتقصيرهم وغفلتهم وكثرة أخطائهم , كثيراً ما نرى في المجالس ، من إذا حدث كذب ، وإن وعد أخلف ، وإن جاء للصلاة نقرها نقر غراب  مقصر في الفرائض مهمل في النوافل , في وظيفته تأخر وهروب ، وإهمال واحتيال، وفي بيته وسائل الفساد ، وضياع الأولاد ، وعقوق الأرحام , نسي هذه النقائص في نفسه ، وذكرها في إخوانه ولم يسلم منه حتى الصالحون المخلصون ، وصدق القائل :   

إذا رمت أن تحيا سليماً من الردى   ودينك موفور وعرضك صيّن

فلا ينطقن منك اللسان بسوءةٍ   فكلك سوءاتٍ وللناس ألسن

وعينك إن أبدت إليك معائباً   فدعها وقل يا عين للناس أعين

وعاشر بمعروف وسامح من اعتدى   ودافع ولكن  بالتي هي أحسن

كثير من الناس يجلس في مجلس، ينتهكون أعراض الناس، أو يتبادلون قصص المنكرات، هؤلاء أيضاً لا يجوز لك أن تسكت عما يقولون، لأن الساكت عن الحق شيطان أخرس  ولأن المستمع شريك للقائل ما لم يرد ، لقوله صلى الله عليه وسلم :   (من ردّ عن عرض أخيه بالغيبة كان حقاً على الله أن يعتقه من النار ) أخرجه أحمد والترمذي وغيرهما ،  ويقول ابن تيمية في الفتاوى : ( ومنهم من يخرج الغيبة في قوالب شتى ، تارة في قالب ديانة وصلاح فيقول : لي ليس عادة أن أذكر أحداً إلا بخير ولا أحب الغيبة ولا الكذب وإنما أخبركم بأحواله  ويقول : والله إنه مسكين أو رجل جيد ولكن فيه كيت وكيت وربما يقول : دعونا منه الله يغفر لنا وله   وإنما قصده استنقاصه وهضم لجنابة  ويخرجون الغيبة في قوالب صلاح وديانة يخادعون الله بذلك كما يخادعون مخلوقاً " . ولا يجوز في المجالس  التسرع في النقل أو القراءة، أو نقل ما لم يُقل  وقديماً قيل : وما آفة الأخبار إلا رواتها.

وكم من عائبٍ قولاً صحيحاً   وآفته من الفهم السقيمِ

ولكن تأخذ الأذهان منه     على قدر القرائح والفهومِ

ومن أخطر ما يدور في المجالس ، إطلاق العنان للسان في التحليل والتحريم ، والسخرية والاستهزاء بالدين ، وقد نهى الله تعالى عن ذلك ونهى عن   فقال تعالى : ﴿ وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ ﴾ النحل 116 . يقول الإمام مالك رحمة الله تعالى عليه : (لم يكن من أمر الناس ولا من مضى من سلفنا ولا أدركت أحداً أقتدي به يقول في شيء هذا حلال وهذا حرام، ما كانوا يجترئون على ذلك وإنما كانوا يقولون : نكره هذا , ونرى هذا حسناً , ونتقي هذا ولا نرى هذا , ولا يقولون حلال ولا حرام) جامع بيان العلم .

 ثم اعلم أنك تجالس كثيراً من الناس من أحبابك وخلانك وأصدقائك , ولا تخلو المجالس من مخالفات قلّت أو كثرت , فمن حقهم عليك أن يسمعوا مثل هذا الكلام وأن يُذكّروا بالآيات والأحاديث , التي تنهى عن ذلك ، فإن القلب يغفل ، والنفس تسلو ، فاسمع وسمّع ، واستفد وأفِد  والدال على الخير كفاعله ، وأخيراً لابد من ذكر كفارة المجلس ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه فقال : قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد ألا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك).

 

 

 

 

  

تحريم الأذى الفعلي والقولي

عندما تكلّم الله عن إيذاء المؤمنين والمؤمنات خص هذا الإيذاء بقوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ﴾الأحزاب 58. وهناك إيذاءً مشروعاً أوجبه الله ، كحد الزنا والسرقة ، لا يعاقب من قام به ، ولذلك يقول الله في اللذان يأتيان الفاحشة : ﴿ واللذان يأتيانها منكم فآذوهما ﴾النساء 16.والله حين شرع هذا الإيذاء ، ليكون تطهيرا ورادعا ، روي أن عمر بن الخطاب لما قرأ هذه الآية بكى ، فقال له جليسه ما يبكيك؟ قال لأني آذيت المؤمنين والمؤمنات ، فقال له ، إنك تؤذي لتعلِّم وتقوِّم  والله أمرنا أن نرجم ونقطع ، فضحك عمر وسرَّ  وأكثر من هذا قال الله : ﴿ ولا تأخذْكم بهما رأفة في دين الله ﴾النور 2. لأن الرأفة في حدود الله رحمة حمقاء ، ولسنا أرحم بالخلق من الخالق ، ولنا أن نسأل عند قوله تعالى ﴿ ولكم في القصاص حياة ﴾ كيف تكون الحياة في القتل ، لأن القاتل حين يعلم أنه إن قتل يُُقْتَل ، فلن يقدم على القتل  أما إيذاء المسلِمِ غير المشروع ، وإلحاق الشرِّ به  واتهامِه بالباطلِ ، ورميِه بالزورِ والبهتانِ ، وتحقيرِه وتصغيرِه ، وتعييرِه وثَلمِ عرضِه ،وغيبَته وسَبِّه وشتمِه  ولعنِه وتهديدِه ، وترويعِه وابتزازه ، وتتبُّع عورتِه  ونشرِ هفوتِه ، وفضيحتِه وتكفيرِه وتفسيقِه ، وقتالِه وحمل السلاح عليه ، وسلبِه ونهبِه ، وسرقتِه وغِشِّه   وخداعِه والمكر به ، ومماطلتِه في حقِّه ، وإيصالِ الأذى إليه ، ظلمٌ وجرمٌ وعدوانٌ، لا يفعلُه إلا دَنيء مَهين ، يؤذي أخاه ، وكفى بذلك إثمًا .

وقد جاءت النّصوص القرآنيةٍ ، والأحاديث النبوية  تتضمّن المنعَ مِن أذيّة المؤمن، والزجرَ الشديدَ من الإضرار بالمسلم ، بأيّ وجهٍ من الوجوه القوليّة أو الفعليّة، أو الحسّيّة أو المعنويّة ، حتى ولو لم تعرفه أو كان من غير بلدك، أو يتكلم بغير لغتك ، فإثم ذلك عظيم، عن نافعٍ عن ابنِ عمر رضي الله عنهما قال: صَعد رسول الله صلى عليه وسلم المنبر فنادى بصوتٍ رفيع فقال: (يا معشرَ من أسلم بِلِسانه ولم يُفضِ الإيمانُ إلى قلبه، لا تُؤذوا المسلمين، ولا تعيِّروهم، ولا تتَّبعوا عَوراتهم؛ فإنّه من تتبَّع عَورةَ أخيه المسلِم تتبَّع الله عَورتَه، ومن تتبَّع الله عَورَته ، يَفضَحه ولو في جوفِ رحلِه) ، وعن سهل بنِ معاذ عن أبيه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: (مَن رمى مسلماً بشيءٍ يريد شينَه به ، حبَسه الله على جِسر جهنّم حتى يخرُجَ ممّا قال) أخرجه أبو داود. ومن الأذى تعرّض المجتمعون في المجالس  للمزاح الرخيص ، كالمزاح الجنسي،  والكناية عن العورات ، والكلام المبطن، ليضحك من في المجلس متناسياً ، أن هذا يتناقض مع طهر الإنسان وعفته   لأن المزاح المتعلق بالعورات، أو العلاقة بين الرجل والمرأة  ، لا يمكن أن يتفق مع أخلاق المؤمن, ولا يوجد شيء يصغر الإنسان عند الله ، وعند المؤمنين  كالمزاح المبطن ، الذي يحمر منه الوجه ، فقد بَنى الإسلام ، أُسسَه في تنظيم العلاقةِ الاجتماعية  على قواعدَ مُثلى ، وركائزَ فضلى فقال الله  تعالى:﴿  إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾ الحجرات10، وقال صلى الله عليه وسلم :(لا تحاسدوا، ولا تناجَشوا ولا تباغَضوا ولا يبِع بعضكم على بيعِ بعض   وكونوا عبادَ الله إخوانا المسلمُ أخو المسلم، لا يظلِمه ، ولا يحقرُه، ولا يخذُله، التّقوى ها هنا  فأشار بيده إلى صدره ثلاثًا، بحسب امرئٍ من الشّرّ أن يحقرَ أخاه المسلم  ،كلُّ المسلم على المسلم حرام؛ دمُه وماله وعِرضه)مسلم ، إن أذيّة المؤمنين  سببٌ عظيم لسخط الله ومقتِه ، وعذابه وغضبِه قال عليه الصلاة والسلام: (إذا كنتم ثلاثةً فلا يتناجَى اثنان دون صاحبِهما، فإنّ ذلك يُحزِنه)   أخرجه البخاري وفي رواية: (فإنّ ذلك يؤذي المؤمنَ والله يكرَه أذَى المؤمن)الترمذي وقال: حديث صحيح. فكان كبائر الذنوب ، قصد المؤمن بما يسوؤه ويؤذيه ، سواء كان الأذى حسيا ، كالقتل أو الضرب ، أو التعذيب ، أو بالقول ، كالشتم واللعن ، والغيبة والنميمة ، والبهتان والتعيير ، وقد يكون الأذى المعنوي ، أشد على النفس، لما فيه من تلويث السمعة، ونشر السوء ، وخصوصاً إن كان كذبا وبهتانا، وفيه يقول الله تعالى ﴿ وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ﴾النساء 112، فالجريمة جريمتان : فعل الخطيئة  ورمي البريء بها ، ومن صُوَر الإيذاء والاعتداءِ  إيذاءُ الرجل زوجتَه ، بالجَور والظلمِ والقَهر   والقسوَة والغِلظة، والبخلِ والحِرمان ، والتُّهمة والظنّ والتّخوين ، والشكِّ في غير رِيبة ، ومعاملتها بالخلُق السيء ، واللّسان البذيء ، الذي لا تبقَى معه عِشرة ، ولا يدوم معه استقرارٌ ، ولا سُكون ولا راحة، ومن صوَر الأذى ، إيذاء المرأة زوجَها  بالمعانَدَة والمعارَضَة ، والمكايدة والاستفزاز ، وعدَمِ رعاية حقِّه المشروع ، إلى غير ذلك من صوَر الأذى التي يرفضُها الشرع الحكيم ويأبَاها الطبع السليم والعقلُ المستقيم ، ومن صور الأذى الأشد حرمة  ما كان مع الأقارب ، فأذية الوالدين عقوق، وأذية القرابة قطيعة، وأذية الوالد لولده سوء تربية، ويزداد الجُرم إثمًا وبهتانًا ، ويشتدّ عند الله كُرهًا ومقتًا  حينما يتّجه الأذى إلى الجيران ، فأذية الجار سوء جوار، تذهب أجر كثير من العبادات  وتمحو أثرها   ومقْتَصِدٌ محسن لجيرانه، خيرٌ من قانت يُسيء جوارهم ، لما روى أَبو هُرَيْرَةَ قَالَ : ( قَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا، غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ: هِيَ فِي النَّارِ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَإِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا وَصَلَاتِهَا، وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالْأَثْوَارِ مِنَ الْأَقِطِ ، وَلَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا  قَالَ: هِيَ فِي الْجَنَّةِ ) رواه أحمد. وفي حديث أبي شُرَيْحٍ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( والله لَا يُؤْمِنُ والله لَا يُؤْمِنُ والله لَا يُؤْمِنُ، قِيلَ: وَمَنْ يا رَسُولَ اللَّهِ؟ قال: الذي لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بوائقه) رواه البخاري.بوائقه : غوائله وشروره، هذا إذا كان بمجرد الخوف من بوائقه ، فكيف بمن يفعل البوائق   ومن صور الأذى ممن يأتي المسجد للصلاة   فيؤذي غيره ، بقوله أو بفعله أو حتى برائحته؛ ولذا شرع الله التطهر ، والتزين للصلاة فقال تعالى :   ﴿ يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ﴾ الأعراف31، وقال النبي صلى الله عليه وسلم :( من أَكَلَ من هذه الشَّجَرَةِ فلا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا ولا يُؤْذِيَنَّا بِرِيحِ الثُّومِ ) مسلم. ولشدة النهي عن أذية المؤمن  فإنه يحرم سب ميِّتٍ مات  ، إذا كان يؤذي أهله أو ولده أو قريبه، وفي ذلك يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا تَسُبُّوا الْأَمْوَاتَ فَتُؤْذُوا الْأَحْيَاءَ) رواه أحمد. هذا وإن دفع الأذى من محاسن الأعمال  قال صلى الله عليه وسلم : (عُرِضت عليّ أعمال أمّتي حسنُها وسيّئُها، فوجدتُ في محاسن أعمالِها الأذى يُماط عن الطريق ، ووجدتُ في مساوئ أعمالِها النخاعة تكون في المسجد لا تُدفَن) أخرجه مسلم واعتبر الإسلام إزالة ما يؤذي الناس في الطرقات عمل رتب عليه أجر عظيم ، ولو كان شيئا يسيرا  جاء في الحديث أن رجلا دخل الجنة في غصن نحاه عن طريق الناس؛ عن أبي هُرَيْرَةَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( مَرَّ رَجُلٌ بِغُصْنِ شَجَرَةٍ على ظَهْرِ طَرِيقٍ فقال: والله لَأُنَحِّيَنَّ هذا عن الْمُسْلِمِينَ لَا يُؤْذِيهِمْ فَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ ) رواه الشيخان واللفظ لمسلم. وقد عد النبي صلى الله عليه وسلم إِمَاطَةُ الْأَذَى عن الطَّرِيقِ من شعب الْإِيمَانِ ، كما حذّر من الجلوس في الطرقات فقال : (إيّاكم والجلوسَ في الطرقات  فقالوا: يا رسول الله، ما لنا بدّ في مجالسنا، نتحدّث فيها، فقال عليه الصلاة والسلام : إذا أبَيتم إلاّ المجلس فأعطُوا الطريقَ حقَّه قالوا: وما حقُّ الطريق يا رسول الله؟ قال: غضّ البصر وكفّ الأذى وردّ السّلام، والأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر) متفق عليه  يقول الفضيل رحمه الله: "لا يحلّ لك أن تؤذيَ كلبًا أو خنزيرًا بغير حقّ، فكيف بمن هو أكرم مخلوق؟!" تهذيب الكمال وسير أعلام النبلاء . هذه النصوص تعمّ بدلالاتِها  وتشملُ بعمومِها  تحريمَ أذى المؤمنين وجماعاتهم  صغارهم وكبارهم   رجالهم ونساءهم، وتشمل أيضًا التحذيرَ من أنواع الأذى ، وصُوَر الإضرار في النّفس والبدن، في العِرض والمال، وفي أمورِ الدّين والدّنيا، صح في الحديث : (المسلم من سلِم المسلمون من لسانِه ويده) أخرجه الشيخان في الصحيحين . وقد بلغَت عناية الشريعة في منعِ أذى المؤمنين والتحذير من الإضرار بهم ، ولو كان القصد حسنًا ، والهدف نبيلاً، جاء رجلٌ يتخطّى رقابَ النّاس يومَ الجمعة  والنبيّ  يخطب  فقال له عليه الصلاة والسلام : (اجلِس فقد آذيت) رواه أبو داود والنسائي وإسناده حسن . وإذا كان الأمر كذلك فكيف بالأذى المقصود ، والأذيّة المتعمَّدة ؟! ويحذّر النبي صلى الله عليه وسلم تحذيرًا واضحًا صريحًا عن الأذيّة بعباد الله الصالحين فيقول: (إنّ الله جلّ وعلا يقول: من عادى لي وليًّا فقد آذنتُه بالحرب) أخرجه البخاري في الرقاق ، يقول أحد السّلف معبِّرًا عن منهاج النبوّة: "اجعَل كبيرَ المسلمين عندك أبًا ، وصغيرَهم ابنًا ، وأوسطَهم أخًا، فأيّ أولئك تحبّ أن تسيء إليه"  ويقول آخر: "ليكُن حظّ المؤمن منك ثلاثة: إن لم تنفعه فلا تضرَّه ، وإن لم تُفرحه فلا تغمَّه، وإن لم تمدَحه فلا تذمَّه". بادروا بالكفِّ عن الأذى قبل أن يُقضَى بين الناس ، يومَ لا ينفع مال ولا بنون، عن أبي هريرة أنّ رسول الله  قال: (أتدرون ما المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: إنّ المفلسَ من أمّتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وقيام وزكاةٍ، ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مالَ هذا وسفك دمَ هذا أو ضربَ هذا، فيُعطى هذا من حسناتِه وهذا من حسناتِه، فإن فنِيت حسناته قبل أن يَقضيَ ما عليه أخِذ من خطاياهم فطُرحت عليه فطُرح في النّار ) رواه مسلم فمن آذى مسلمًا من خلال عملِه أو وظيفتِه فهو آثم ، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : (لا ضرَرَ ولا ضِرار ومن ضارّ ضرّه الله، ومن شاقّ شقّ الله عليه) أخرجه الدارقطني والبيهقي في الكبرى والحديث حسن ، ويقول : (اللهمَّ من ولِي من أمر أمّتي شيئًا فشقّ عليهم فاشقُق عليه) أخرجه مسلم في الإمارة . 

 

 

 

  

 

 

 

النهي عن حب الشهرة والجاه

خلق الله في الإنسان حب الشهرة ، وانتشار الصيت والسمعة ، ويُحب الإنسان أن يُسمع له أو يُكتب قوله ، وحب الشهرة ، شهوة خفية تصيب القلوب ، فتمنعها من الإخلاص ، والصدق مع الله تعالى : فتأكل الحسنات ، وتحبط الأعمال الصالحة ، وتسبب الغفلة ، وقسوة القلب ، ومع ذلك ، يتمناها أكثر الناس، ويسعون جهدَهم لأجلها، رغم أنها صفة من الصفات الإبليسية قال تعالى : ﴿ قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طيبن ﴾ بل هي آفة من الآفات الخطيرة ، التي تقود صاحبها إلى الهلاك ، والتعالي والغرور   ولذلك جاء التحذير منها في قوله تعالى : ﴿ فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن أتقى ﴾ والإعجاب بالنفس ، هو الكبر الذي نهى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم عنه ، فقال عليه الصلاة والسلام : ( لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر )  وطالب الجاه والشهرة ، طالب آفة دنيوية ، جاءت  النصوص تدل على ذمهما ، فقال تعالى: ﴿ تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا ﴾ القصص 83 . وقال: ﴿ من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون ﴾ هود 15. وروى مسلم عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( حسب امرئ من الشر - إلا من عصم الله - أن يشير الناس إليه بالأصابع في دينه ودنياه  وإن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن إلى قلوبكم وأعمالكم ) . ولأن حب الشهرة والجاه ، مرتبطة بحب الظهور  فقد حذّر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : ( إنكم ستحرصون على الإمارة ، وستكون ندامة يوم القيامة ، فنعم المرضعة وبئس الفاطمة ) وقوله : نعم المرضعة ، لأن معها المال والجاه والسلطة ، وقوله : بئس الفاطمة ، لأن معها القتل والعزل في الدنيا ، والحسرة والتبعات يوم القيامة  وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم عواقب الرئاسة ومراحلها الثلاث في قوله : ( إن شئتم أنبأتكم عن الإمارة وما هي : أولها ملامة ، وثانيها ندامة  وثالثها عذاب يوم القيامة ، إلا من عدل ) . وجاء التحذير منها ، لأن من علاماتها ، حب ذكر الغير   بالنقائص والعيوب ، وكراهة أن يُذكر أحد بخير   بل وانتقاص الآخرين ، ليرفع نفسه ، فلا يدل على من هو أفضل منه ، في الدين أو العلم ، بل ويحجب فضائل الآخرين ، ويكتم أخبارهم   خشية أن يستدل الناس عليهم ، فيتركوه ويذهبوا إلى غيره ، أو يقارنوا بينه وبين من هو خير منه فينفضوا عنه.   

هناك من يعبدون الله تعالى، ويخدمون دينه، فلا يغضبون إن قُدم غيرهم عليهم، ولا يحزنون إن استأثر الناس بالأمر دونهم، لأنهم يعملون لله تعالى  ولا يعملون للناس، غايتهم رضا الله تعالى ، لا ينظرون إلى الدنيا نظر أهلها لها، لأنهم ليسوا عبيدا للجاه والمال، ولا يهمهم أن يكونوا من سراة الناس أو من عامتهم،  يعملون ويخلصون ، سواء عرف الناس قدرهم أم لم يعرفوه، وسواء وضعوهم في المكان اللائق بهم ، أم لم يضعوه؛ فالله تعالى يعلم قدرهم وفضلهم وإخلاصهم، وجزاء الله تعالى أعظم من جزاء البشر. هذا الصنف من الناس  يجاهد نفسه في ردها عن غيها، ويجتهد في الإخلاص لله تعالى في كل أحواله. لا يحسد أحدا على منصب أو جاه ، وإن أعطاه الله ، لا يغتر بذلك، ولا يظن أنها دليل على رضا الله تعالى عنه   

كان السلف يحذرون من الشهرة ، وحب الظهور قال ابن المبارك: قال لي سفيان:" إياك والشهرة فما أتيت أحداً ، إلا وقد نهى عن الشهرة، وكانوا يحرصون على الإخلاص والتواضع ، عَنِ الْحَسَنِ أنه قَالَ: لقد صحبت أقواماً ، إن كان أحدهم لتعرض له الحكمة ، لو نطق بها نفعته ، ونفعت أصحابه فما يمنعه منها إلاَّ مخافة الشهرة ، وكثيراً ما تظهر علامات الشهرة ، وحب الظهور على أعضاء الإنسان وحركاته، مثل الميل على الناس    ومحادثتهم بطرف الوجه ، احتقاراً لهم واستكباراً عليهم، وهذا ما حذر منه القرآن ، فقال الله تعالى: ﴿ ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور ﴾ لقمان . وكم من حوار علمي أفسده حب الشهرة والظهور والتعالي على الآخرين، وكم من فرد ارتكب الحرام لأجل الشهرة وحب الظهور، وكم من إنسان قال باطلاً وأشعل فتنة بسبب حب الظهور والشهرة . يقول الفضيل بن عياض :" إنه ما أحب أحد الشهرة والرياسة ، إلا حسد وبغى ، وتتبع عيوب الناس ، وكره أن يذكر أحد بخير ، فعاشق الشهرة لا ينظر إلا إلى رضا الناس ، ومن تتبع رضا الناس فقد تتبع شططا " وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصي: ( إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاص نفسك ودع عنك العوام ) وقوله صلى الله عليه وسلم     : (حق على الله ألا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه) .وإذا كان تحذير السلف - رحمهم الله - من عاقبة هذا الباب بناء على ما شاهدوه في أزمانهم المتواضعة ، فمن باب أولى التحذير منه في هذا الزمان وإذا كان المشهور عندهم يؤثر في المئات أو الآلاف من الناس ، فالمشهور في هذا الزمن يؤثر في الملايين ، والشهرة وحبها باب واسع ليس مقتصرا على فئة بعينها، بل تكون في الحاكم والعالم والوزير والغني والمفكر والكاتب والصحافي وغيرهم فكم من شخص أراق الدماء ، وبطش وظلم لأجل التصدر والشهرة، فكم من عالم أو داع كبا وزل وانقلبت حاله لأجل الشهرة ، وكم من صحافي قال باطلا ، وأخفى حقا ، وأشعل نارا للفتنة لأجل الشهرة ، فليس الأصل في الشهرة الذم وإنما الذم لمن يسعى في طلبها ، والتحلي بها بين الناس ، ورحم الله الفضيل بن عياض إذ قال : "من أحبَّ أن يُذكر لم يذكر ، ومن كره أن يُذكر ذُكر " ، وكلام هذا الإمام متين لمن أمعن النظر فيه ، وقرأ في تاريخ أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، فيجد أن الذين رفع الله ذكرهم ، وبقي ثناء الناس عليهم بعد مماتهم ، هم أهل الزهد في الشهرة والذكر  وأهل الإخلاص من أهل السنة والجماعة ، قيل لأبي بكر بن عياش : إن أناسا يجلسون في المسجد  ويُجلس إليهم ، فقال : "من جلس للناس جلس الناس إليه ، ولكن أهل السنة يموتون ، ويبقى ذكرهم ، وأهل البدع يموتون ويموت ذكرهم"، قال شيخ الإسلام ابن تيمية : "لأن أهل السنة أحيَّوا ما جاء به الرسول عليه السلام ، فكان لهم نصيب من قوله تعالى ( ورفعنا لك ذكرك) وأهل البدع شنأوا ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان لهم نصيب من قوله تعالى: ﴿ إن شانئك هو الأبتر ﴾ فأهل الإخلاص والصدق من هذه الأمة من أهل السنة و الجماعة ، وهم من أعلى شأنهم وأبقى ذكرهم بين الناس ، روى الإمام مسلم من حديث أبي ذر ( رضي الله عنه) أنه قال : قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : الرجل يعمل العمل لا يريد به إلا وجه الله ، فيحبه الناس وفي رواية ( فيثني عليه الناس) فقال صلى الله عليه وسلم :( تلك عاجل بشرى المؤمن) .

قال النووي في شرحه على مسلم  : " قال العلماء معناه : هذه البشرى المعجلة له بالخير ، وهي دليل على رضاء الله تعالى عنه ، ومحبته له ، فيحببه إلى الخلق ، ثم يوضع له القبول في الأرض، وهذا إذا حمده الناس ، من غير تعرض منه لحمدهم ، وإلا فالتعرض مذموم" . فعلى المؤمن أن لا يريد وجوه الناس بعمله ، بل عليه أن يرجو وجه الله ، وهو سبحانه من يعلي ذكره ، ويرفع شأنه ، ويرزقه محبة الناس ، جاء في الحديث القدسي : (إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحْبِبْهُ فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ ) رواه البخاري .

 

 

 

أبغض الرجال

من السلوكيات الخاطئة الفجور في الخصومة من ذوي الأنانية ، ومحبي الذات ، وأصحاب النفوس المريضة ، الذين لا يرون الحق إلا معهم فيفجرون في خصومتهم ، ويتجاوزون الحد ويبغون على الناس ، لأن الفاجر في الخصومة   يسبق لسانه عقله ، وطيشه حِلْمه ، وظلمه عدله ، لسانه بذيء ، وقلبه دنيء ، يتلذذ بالتهم ، والتطاول على الناس ، يزيد على الحق مائة كذبة ، لا يعد محاسن الناس إلا ذنوبا    ولا يقع على شيء إلا أفسده ، لا أمان له   ولا ستر لديه ، فيه طبع اللئام ، فإن اختلفت معه في شيءٍ حقير ، كشف أسرارك ، وهتك أستارك ، ولذلك نهانا الإسلام عن هذه السلوكيات ، وسماها الله لَدُّداً فقال تعالى :﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾   البقرة 204 والألَدُّ : الأعوج الذي يخاصم على عِوَج  ويحاور على انحراف في مزاجه أو فكره ، فلا يستقيم على حقٍّ واضحٍ فيما يقول، ويكون ميله إلى ما يوافق هواه ، مهما كان مخالفاً للحق ، يقول سيد قطب في تفسير الآية :

"هذا المخلوق الذي يتحدث، فيصور لك نفسه ، خلاصة من الخير ، ومن الإخلاص  ومن التجرد، ومن الحب، ومن الترفع، ومن الرغبة في إفاضة الخير والبر ، والسعادة والطهارة على الناس، هذا الذي يعجبك حديثه وتعجبك ذلاقة لسانه، وتعجبك نبرة صوته ويعجبك حديثه ، عن الخير والبر والصلاح

﴿ ويشهد الله على ما في قلبه ﴾ زيادة في التأثير والإيحاء وتوكيداً للتجرد والإخلاص وإظهاراً للتقوى ، وخشية الله ﴿ وهو ألد الخصام﴾ تزدحم نفسه باللَدُّد والخصومة، فلا ظل فيها للود والسماحة، ولا موضع فيها للحب والخير، ولا مكان فيها للتجمل والإيثار هذا الذي يتناقض ظاهره وباطنه، ويتنافر مظهره ومخبره  هذا الذي يتقن الكذب  والتمويه والدهان ، حتى إذا جاء دور العمل  ظهر المخبوء ، وانكشف المستور، وفضح بما فيه من حقيقة الشر والبغي ، والحقد والفساد"  

 وهو ما قاله رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الذي روته عائشة :( أَبْغَضُ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الأَلَدُّ الْخَصِمُ )متفق عليه ، الألد : هو الدائم في الخصومة ، الذي يتناقض ظاهره وباطنه  ويتنافر مظهره ومخبره، المبالغ في الخصومة ، لأنه إنسان صاحب خصام وجدال ، قوي المعارضة بالباطل، والحجة الباطلة ، إذا أتيته من هنا نزع بحجة باطلة من هنا .

من المتخاصمين من لا يكتفي بحقه ، إن كان له حق ، بل يؤلب على خصمه ، ويقلب عليه وينبش عن مساوئه وماضيه، فينشرها ويهتك الستر ، وينشر القبيح ، ويخفي المليح، وقد يزيد على ذلك ، فيتقوّل عليه مالم يقله ، وينسب إليه ما ليس فيه، ويمعن في الإساءة إليه ، في كل وادٍ ونادٍ، وينسى أو يتناسى ، مابينهما من الود والمعروف السابق ، فتنقلب الخصومة إلى عداوة أشد ، لأن الخصومة اختلاف في وجهات النظر ، وهي قطع على أمل الوصل  وكما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( فيعرض هذا ويعرض هذا ، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام ) أما العداوة : فهي والعياذ بالله  الضغينة التي تترسب ، وتستقر في النفس   حتى يكاد يضيع الأمل في العودة مره أخرى  للوئام والود ، يضيع بها الشرف ، عند من ليس لديه ضوابط للشرف والمحبة . وقد تقع الخصومة بين الأحباب ، ثم يلتقون على التحكيم   فيزول ما بينهم من خصومة ، بخلاف العداوة المطلقة ، كما ذكرت الآية : ﴿ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ  وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ﴾205  البقرة .هناك أناس منافقون ، يعجب المرء من حلاوة ألسنتهم يتظاهرون بالورع ، وطيب السريرة ، ويشهدون الله على صدق طُويتهم ، وقلوبهم في الحقيقة  هي أمرُّ من الصبر ، يقولون حسناً، ويفعلون سيئاً، وهم شديدو الجدل، لا يعجزهم أن يغشوا الناس ، بما يظهر عليهم من الميل إلى الإصلاح ، وهذا يبغضه الله ، لأنه يقصد بخصومته ، مدافعة الحق ورده ، بالأوجه الفاسدة ، يقيم الدنيا ولا يقعدها ، لقضية تافهة، يرغب في معاداة الناس ، ومجادلتهم، ويا ليته يلجأ للحوار ، ويتلطف معه ، ويعمل بقول الإمام الشافعي:" أنا على حق ، وحقي يحتمل الخطأ ، وخصمي على باطل ، وبطله يحتمل الصح " لأن الذي يبتغي وجه الله  ينبغي أن يتواضع للطرف الآخر ، عملاً بقوله تعالى:﴿ قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾سبأ 25. أما  من بنى حواره على أنه على الحق ، والآخر على الباطل ، فهذا حوار خاطئ ، بدليل قوله تعالى : ﴿ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾سبأ24. فالحق قد يكون معنا ، وقد يكون معكم   وعلى هذا يكون التحاور، أما الذي يحتقر الطرف الآخر ، ويضخم نفسه ، فهذا لا يبتغي وجه الله، وإنما يبتغي العلو في الأرض  وقد ورد في الحديث :  عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:( مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ أَوْ لِيُبَاهِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ أَوْ لِيَصْرِفَ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ فَهُوَ فِي النَّارِ ) أحياناً عندما تهاجم إنساناً حقيراً ، أنت تخدمه   وتكبّره، وتجعله شيئاً مذكوراً، والحق أن لا تعيره اهتماما ، عملاً بقول القائل : ما ضر السحاب نبح الكلاب ، وليعلم من يتطاول على أهل الحق ، أنه من أبغض الرجال ، لأن المؤمن يحاور بتواضع ، ولأن الحياة الدنيا أهم من أن تستهلكها في خصومات جانبية ، وقد صور الإمام الشافعي أحوال من يطعن بالآخرين لأسباب تافهة  حين قال:

إِذا الـمَـرءُ لا يَـرعاكَ إِلّا َكَلُّفاً ‍  فَـدَعـهُ وَلا تُـكثِر عَلَيهِ التَأَسُّفا

فَفِي النَّاسِ أبْدَالٌ وَفي التَّرْكِ رَاحة ٌ ‍وفي القلبِ صبرٌ للحبيب ولو جفا

فَـمَـا كُلُّ مَنْ تَهْوَاهُ يَهْوَاكَ قلبهُ ‍  وَلا كـلُّ مَنْ صَافَيْتَه لَكَ قَدْ صَفَا

إذا لـم يـكن صفو الوداد طبيعة ‍  فـلا خـيـرَ في ودٍ يجيءُ تكلُّفا

ولا خـيـرَ فـي خلٍّ يخونُ خليلهُ ‍  ويـلـقـاهُ من بعدِ المودَّة ِ بالجفا

وَيُـنْـكِـرُ عَيْشاً قَدْ تَقَادَمَ عَهْدُهُ   وَيُـظْهِرُ سِرًّا كان بِالأَمْسِ قَدْ خَفَا

فسَلامٌ عَلَى الدُّنْيَا إذا لَمْ يَكُنْ ِبهَا   صديق صدوق صادق الوعد منصفا

والواجب على المسلم أن يتعلم خلق العفو والتسامح ، وأن لا يجعل الخصومة سبيلا إلى معاداة الناس ، ومحاولة أذاهم ؛ لأن ذلك ليس من أخلاق الكرام ، يقول الشاعر :

إن الكـريم إذا تمكن من أذى ‍  جاءته أخلاق الكـرام فأقلــعا

وترى اللئيم إذا تمكن من أذى   يطغى فلا يبقي لصلح موضعا

ولما أُتي عبد الملك بن مروان بأسارى ابن الأشعث في وقت الفتنة ، قال عبد الملك لرجاء بن حيوة: ماذا ترى؟ قال: إن الله تعالى قد أعطاك ما تحب من الظفر ، فأعط الله ما يحب من العفو، فعفا عنهم.

فالعفو هو خلق الأقوياء ، الذين إذا قدروا وأمكنهم الله ممن أساء إليهم عفوا ، والكرام إذا اختلفوا تآلفوا ، واللئام إذا اختلفوا يتعادون ويتباغضون ، ويتدابرون ويتحاسدون ، فلا يعذر بعضهم بعضا، ولا ينصح بعضهم بعضا لذا على المسلم أن يكون ظاهره كباطنه  في جانب الاعتقاد ، وجانب السلوك ، بحيث يكون عمله ظاهراً ، متوافقاً لما يعتقده باطناً   ولا يليق بمن يشهد أن لا إله إلا الله، أن يعمل أعمالاً تخالف ما يعتقده؛ لأن الذي يتناقض ظاهره وباطنه، ويتنافر مظهره ومخبره ، حريٌّ به أن يتصف بوصف النفاق، وأن يكون من أهل الشقاق، وليس جديراً بأن يكون في عداد المسلمين الصادقين ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من كظم غيظًا وهو قادر على أن يُنْفِذَهُ دعاه الله -عز وجل- على رُءُوس الخلائق حتى يخيِّره الله من الحور ما شاء) أبو داود والترمذي وابن ماجه. 
    

 

اختيار الأصحاب

 

قال تعالى : ﴿ الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ ﴾الزخرف:67 موضوع الصحبة  موضوع له أهميته في الدين والحياة ، لأن الإنسان ميال إلى التواصل والمعاشرة والمصاحبة  ولا يطيق الوحدة والانعزال، فيصطفي من الناس ويختار أصحابا له ، ورفقاء وجلساء ، يعاشر بعض الناس ويقاطع البعض ، ويتوافق مع هؤلاء  ويتنافر مع أولئك ، وقلما يكون ذلك عن  حسن اختيار للصاحب الصالح والرفيق النافع ، والجليس الناصح . وصار ذلك شاهدا على المرء في عقليته وأخلاقه وسيرته  حيث يعرِف بين الناس صالحًا أو طالحا بالنظر الى أصحابه وقرنائه وجلسائه، حتى قيل : قل لي من تصاحب أقل لك من أنت لأن الإنسان يتأثر بصفيه وجليسه، ويكتسب من أخلاق قرينه وخليله في أقواله وأفعاله وأحواله ،خيرا أو شرا . وبالرغم من أن أثر الصحبة والمجالسة ثابت ومعلوم ، فإن من الناس من يصاحب الصالحين الأخيار  الذين يعينون على الحق والطاعات وفعل الخيرات، ومنهم من يلازم الأشرار، أهل الغواية والمعاصي ، لذا حث الإسلام المسلم على اختيار الصحبة الصالحة  والارتباط بأصدقاء الخير الذين إذا نسيت ذكروك، وإذا ذكرت أعانوك. وحذّر من اختيار الأصحاب الذين يجاهرون بالمعاصي لما في صحبتهم من الداء، وما في مجالستهم من الوباء، وجاءت النصوص   تحثُ المسلمين على اختيار الصحبة الصالحة ، عن ابن عباس قال: قيل يا رسول الله، أي جلسائنا خير؟ قال: ( من ذكَّركم بالله رؤيته وزاد في علمكم منطقه وذكركم بالآخرة عمله ) رواه أبو يعلى الموصلي. فمن صاحب أصدقاء الخير تأثر بأخلاقهم الحميدة  وأعمالهم المرضية لله عز وجل، وكانوا له عوناً على طاعة الله وإصلاح نفسه ،وهذا ما يؤكد أهمية الصحبة والمعاشرة والمجالسة .   

 

عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه  فكل قرين بالمقـــــــارن يقتــــــــدي

 

فكم من فائدة تجنى من مجالسة الأخيار  و كم من معصية وضرر تصيب من مجالسة الأشرار. وإن مجالسة الأخيار جالبة لمحبة الله كما في الحديث الذي رواه الأمام مالك في موطأه وصحح إسناده المنذري والنووي : أن مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ قال : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : ( قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَجَبَتْ مَحبِتي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ، وَالْمُتَجَالِسِينَ فِيَّ وَالْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ وَالْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ ) قال ابن الجوزي:" رفيق التقوى رفيق صادق، ورفيق المعاصي غادر، ومهر الآخرة يسير، قلبٌ مخلص، ولسانٌ ذاكر" فالناسُ معادن مختلفة، وأصنافٌ مُتعدِّدة، وطبائِع مُتفاوتة، وغرائزُ متغايِرة، كلٌّ يميلُ إلى من يُوافِقُه، ويصبُو إلى من يُشاكِلُه، ويحِنُّ إلى من يُماثِلُه ، فعن أبي هريرة  أن رسول الله  قال: ( الأرواح جنودٌ مُجنَّدة، ما تعارفَ منها ائتلَف، وما تناكَر منها اختلَف) أخرجه مسلم. والجُودُ بالمودَّة من كريمِ البذل، والبَوح بالمحبَّة من جميل الفضل، وقصرُها على أهل التقوى دليلُ العقل. والعاقلُ من يُخالِطُ الأفاضِل، ويُعاشِر الأماثِل، لا يُصافِي غريبًا حتى يسبُر أحوالَه، ولا يُؤاخِي مستورًا حتى يكشِف أفعالَه؛ لأن المرء موصوفٌ بأفعالِ من صاحَب؛ فعن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : ( الرجلُ على دين خليلِه، فلينظُر أحدُكم من يُخالِل ) أخرجه أبو داود والترمذي. أي ليتدبَّر أحدُكم من يُخالِط فإن رضِيَ دينَه وخُلُقَه خالَلَه، وإلا صارمَه وبايَنَه، لأن الطباعَ تُعدِي، وصُحبةَ السُّوء تُغوِي ، ومن يصحَب صاحبَ السوء لا يسلَم، ومن يدخل مداخِل السوء يُتَّهَم   وإياك وإخوانَ السوء؛ فإنهم يخونون من رافقَهم، ويُحزِنون من صادقَهم، قُربُهم أعدَى من الجرَب، ورفضُهم من استِكمال الأدب"، وقد قيل: "الجليسُ الصالِح كالسِّراج اللائِح، والجليسُ الطالِح كالجرَب الجائِح". فلا غرابة إذن أن يعنى الإسلام بشأن الصحبة والمجالسة ويوليها بالغ الرعاية، ويدعو الى اختيار الصاحب الناصح والجليس الصالح، وتلك قيمة حميدة من قيم الإسلام ، التي أضحت عملة نادرة في زمان ابتلي الناس فيه بقرناء الشر ، وجلساء السوء . وفي حديث أكثر بيانا وتفصيلا لأهمية هذه القيمة ، في وصية خير صاحب وأفضل جليس بين كل الأنام محمد عليه الصلاة والسلام، الذي يقول : عن أبي موسى الأشعريِّ : ( إنما مثلُ الجليس الصالِح وجليس السوء كحامِل المِسك ونافِخ الكِير؛ فحامِلُ المِسك إما أن يُحذِيَك، وإما أن تبتاع منه ، وإما أن تجِد منه رِيحًا طيبة، ونافِخُ الكِير إما أن يُحرِق ثيابَك، وإما أن تجِد منه ريحًا مُنتِنة ) متفق عليه.  يراد بالجليس الصالح ، كل صديق او رفيق فاضل ، كريم الأخلاق ، طيب في أقواله وأفعاله وأثاره، ونافع في صحبته ومرافقته ومجالسته ، فكيف إذا كان هذا الجليس ممن يعلمك علما وأدبا وخلقا، ويرشدك إلى ما فيه صلاح دنياك وآخرتك . ويراد بجليس السوء الصاحب السيئ الذي يضر ولا ينفع، في مصاحبته ومرافقته ومجالسته  لا ينفث الا الخبث والشرر والضرر.فكيف اذا كان يصد عن ذكر الله وشكره وعبادته ويغري بالفواحش والمنكرات .

 

إن من الحكمة والحزم والرشاد ،أن يزن المسلم الناس بميزان الشرع والعقل ، فلا يصاحب أو يرافق أو يجالس إلا من يرى في مصاحبته ومجالسته ومؤاخاته نفعا له في  دينه ودنياه . وإن خير الأصحاب ، وأنفع الجلساء ، الأتقياء الأوفياء ، ذوو المروءة والنهى، ومكارم الأخلاق والآداب من أهل  الصحبة الطيبة التي تثمر محبة الله تعالى كما في الحديث:(وجبت محبتى للمتحابين فىّ والمتجالسين فىّ).وإن شر الأصحاب والرفقاء والجلساء ، وأسوأهم أثرًا على من يصاحبهم ويجالسهم، من قلت مروءتهم وساءت أخلاقهم، وخبثت سيرتهم و سريرتهم ، لا يقيمون للدين وزنًا، ولا للمروءة اعتبارًا، ولا يرعون للصداقة حقًا ، فزايِل أخي أهلَ الرِّيَب، وانْأَ عن أهل الفسوق ، وصارِم أهل الفجور، وأعرِض عن أهل السَّفَه والتفريط؛ فكم جلبَت خِلطتُهم من نقمة، ورفعَت من نعمة، وأحلَّت من رزِيَّة، وأوقعَت في بليَّة،﴿ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا ﴾النساء 38. فمن الجهل والغفلة أن يعاشر المرء قرناء السوء ، يرتاح إليهم وينقاد ، إن همَّ بخير ثبطوه ، وإن أبطأ عن شر أعجلوه ، وإن استحيا من منكر هونوه له وشجعوه ، ومن قادَه أهلُ الزَّيغ والفِسق والعمَى ، عضَّ على يديه تحسُّرًا وتأسُّفًا وتندُّمًا ، يوم القيامة ، يوم لا تنفعه صيحة  الندامة ﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا  لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا ﴾الفرقان27. فيا فوزَ من وعَى! ويا سعادة من إلى ربِّه سعَى!،

 

لعمرُك ما مالُ الفتى بذخيرةٍ  ولكنَّ إخوانَ الثقاتِ الذخائِرُ

 

قيل لابن السمَّاك: أيُّ الإخوان أحقُّ ببقاء المودَّة؟ قال: الوافِرُ دينُه، الوافِي عقلُه  الذي لا يَمَلُّك على القُرب، ولا ينساكَ على البُعد، إن دنوتَ منه أدناك، وإن بعُدتَ عنه راعاك " وأوصى رجلٌ ابنه : "يا بُنيَّ، إن نزعَتك إلى صُحبة الرجال حاجة، فاصحَب من إذا صحِبتَه زانَك، وإن خدمتَه صانَك وإن أصابَتك خصاصةٌ أعانَك، وإن رأى منك حسنةً عدَّها، وإن بدَت منك ثُلمةٌ سدَّها". وخيرُ الجُلساء والأخلاَّء من تُذكِّرُ بالله رؤيتُه، وتنفعُ في الحياة حكمتُه، وتُعين على الطاعةِ نصيحتُه وسيرتُه ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾الكهف28. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "ما أُعطي العبد بعد الإسلام نعمة خيراً من أخ صالح، فإذا وجد أحدكم وداً من أخيه فليتمسك به".وقال الشافعي: "إذا كان لك صديق -يعينك على الطاعة- فشد يديك به؛ فإن اتخاذ الصديق صعب ومفارقته سهلة". وقال الحسن البصري:" إخواننا أحب إلينا من أهلنا وأولادنا، لأن أهلنا يذكروننا بالدنيا وإخواننا يذكروننا بالآخرة " وقال لقمان الحكيم لابنه:" يابني؛ ليكن أول شيء تكسبه بعد الإيمان بالله أخا صادقا ، فإنما مثله كمثل شجرة ، إن جلست في ظلها أظلتك وإن أخذت منها أطعمتك وإن لم تنفعك لم تضرك ". كان العلماء والصالحون عبر التاريخ في حياتهم العملية وفي أثارهم التي يجالسهم فيها اهل النهى والفضائل ، فلينظر المسلم العاقل ، من يصطفي ويقتفي  ويصاحب ويجالس ، لخير دينه ودنياه وأخرته :

 

يُقاسُ الـمرءُ بالمـرءِ  إذا ما المرءُ ماشـاه

 

وللشـئ  من  الشيئ   مقاييــسٌ وأشبـــــاه

 

وذو الـعقل إذا أبصَــر  ما يخشـى توقّــــــاه

 

ﻣﺮﺽ ﺍﻹ‌ﻣﺎﻡ ﺃﺣﻤﺪ رحمه الله ﺫﺍﺕ ﻳﻮﻡ ﻭﻻ‌ﺯﻡ ﺍﻟﻔﺮﺍﺵ، ﻓﺰﺍﺭﻩ ﺍﻹ‌ﻣﺎﻡ ﺍﻟﺸﺎﻓﻌﻲ رحمه الله ﻓﻠﻤﺎ ﺭﺃى ﻋﻠﻴﻪ ﻋﻼ‌ﻣﺎﺕ ﺍﻟﻤﺮﺽ ﺍﻟﺸﺪﻳﺪ أﺻﺎﺑﻪ اﻟﺤﺰﻥ، ﻓﻤﺮﺽ ﺍﻟﺸﺎﻓﻌﻲ ، ﻓﻠﻤﺎ ﻋﻠﻢ ﺍﻹ‌ﻣﺎﻡ ﺃﺣﻤﺪ ﺑﺬﻟﻚ ﺗﻤﺎﺳﻚ ﻧﻔﺴﻪ ﻭﺫﻫﺐ ﻟﺮﺅﻳﺔ ﺍﻟﺸﺎﻓﻌﻲ ﻓﻲ ﺑﻴﺘﻪ ﻓﻠﻤﺎ ﺭﺁﻩ ﺍﻟﺸﺎﻓﻌﻲ ﻗﺎﻝ :

 

ﻣﺮﺽ ﺍﻟﺤﺒﻴﺐ ﻓﺰﺭﺗﻪ  ﻓﻤﺮﺿﺖ ﻣﻦ أﺳﻔﻲ ﻋﻠﻴﻪ

 

ﺷُﻔﻲ ﺍﻟﺤﺒﻴﺐ ﻓﺰﺍﺭﻧﻲ  ﻓﺸُﻔﻴﺖ ﻣﻦ ﻧﻈﺮﻱ إليه

 

 فاتقوا الله عباد الله ، واختاروا لدينكم ودنياكم من الرفاق والأصحاب والخلان والجلساء من ترضون دينهم وأخلاقهم  وتأنسون  منهم الخير والصلاح .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

  

 

 

 

  

 

 

 

إتباع الهـوى

قال تعالى : ] يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله [ ص 26 . أخبر  الله أن  إتباع الهوى يضل عن سبيل الله ، وجاء النهي حتى لا نميل مع أحد لقرابة أو صداقة أو محبة أو بغض للآخر ، فيخرجنا الهوى عن الصراط المستقيم ، و إتباع الهوى فتنة المنافقين وأهل البدع ، وقد تنشأ عن فهم فاسد أو نقلٍ كاذب ، أو من غرضٍ فاسد وهوىً متبع ،وإن الذين يأكلون لحوم الناس لم يتجردوا لله وإنما دفعهم الهوى، للوقوع في أعراضهم وإتباع الهوى لا يؤدي إلى خير ، قال تعالى : ] وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [  ص 26  .  وصاحب الهوى يعميه الهوى ويصمه ، وكان السلف يقولون: "احذروا من الناس صنفين: صاحب هوى قد فتنه هواه ، وصاحب دنيا أعمته دنياه ". وقد تسمع بعض الناس يقع في عرض أخيه المسلم ، فتسأله: هل استمعت إليه  ؟ فيقول: لا والله ، فتقول: إذن كيف علمت من حاله وأقواله كذا وكذا ؟ فيقول: قاله لي فلان ، فهو   يطعن في الناس  تقليدا لفلان ، غير مراع لحرمة المسلم  وقد قال ابن مسعود: " ألا لا يقلدن أحدكم دينه رجلا  إن آمن آمن، وإن كفر كفر، فإنه لا أسوة في الشر". وقال الإمام أحمد: "من قلة علم الرجل أن يقلد دينه الرجال " ، وقد يكون التعصب من أبرز أسباب ذلك حتى صدق على بعضهم قول الشاعر:

وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد

فتجد من إذا ضل ضلَّ من يتعصبون له معه ، وإذا اهتدى للصواب اهتدوا معه ، فهذا التعصب مخالف للمنهج الصحيح ، الذي يدعونا إلى أن نأخذ بالحق مهما كان قائله ؛ ولهذا قال أبو حامد الغزالي في ذم التعصب: "وهذه عادة ضعفاء العقول ؛ يعرفون الحق بالرجال ، لا الرجال بالحق ".  فكان من لوازم الحكم على الآخرين :التجرد من الهوى ، وإن محاولة تقويم أي رجل من الرجال لا يكون بالتغاضي عن محاسنه ، ولا  بذكر الهفوات وإعطائها أكثر مما تستحق من النقد والتجريح ، لأن التجرد في التقويم من الأسباب المهمة التي تجعل الحكم صوابًا أو قريبًا من الصواب قال الله تعالى: ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ [ النساء 135 . فحين يرجح إنسان الباطل ، فالمرجح هو هوى النفس ، وهو يفسد  ويشوش على العدل ، والمثل العربي يقول " آفة الرأي الهوى " . فإياكم وإتباع الهوى في إصدار الأحكام على الناس ، يروي التاريخ حكاية رجل ذهب إلى الخليفة وقال له : أعفني من القضاء فقال الخليفة : ومن يكون للقضاء إذن وأنت العادل الذي شهد له الناس بذلك  فقال القاضي : والله يا أمير المؤمنين لقد عرف الناس عني أني أحب الرطب ، وبينما أنا في بيتي ، وإذا بالخادم قد دخل ومعه طبق من رطب ، وكنا في بواكير الرطب   ومن الطبيعي أن تكون النفس في لهفةٍ عليه ما دامت تحبه   فقلت للخادم من جاء به ؟ فقال رجلٌ صفته كذا وكذا  فتذكرت أن من أرسل الرطب هو واحدٌ من المتقاضين أمامي ، فرددت عليه الرطب ، ولما كان يوم الفصل في قضية صاحب الرطب ، دخل الرجل علي فعرفته ، والله يا أمير المؤمنين ما استويا في نظري هو وخصمه ، على الرغم من أني رددت الطبق ، وهكذا استقال القاضي من منصب القضاء .   

فعلى الإنسان أن يتجرد من هوى العداوة والبغضاء في النقد وأن يتجرد من هوى الحب في المدح, وكما لا يجوز التحامل فإنه لا تجوز المحاباة ، إذ لا ينبغي أن تكون المحبة لشخص أو البغضاء له دافعًا إلى إهمال العدل: ] وَلا يَجْرمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [ والقلب إن لم يسلم من التأثر بهذه العواطف القلبية فلابد من الخطأ في التقويم . فمجرد نفور النافرين   أو محبة الموافقين ، لا يدل على صحة قول ولا فساده   إلا إذا كان ذلك بهدى من الله , بل إن الاستدلال بذلك استدلال بإتباع الهوى بغير هدى من الله ؛ لأن إتباع الإنسان لما يهواه هو أخذ القول والفعل الذي يحبه، وردّ القول والفعل الذي يبغضه بلا هدى من الله ، وصاحب الهوى يعميه الهوى ويصمه ، فلا يستحضر ما لله ورسوله في ذلك , ولا يطلبه , ولا يرضى لرضا الله ورسوله ، ولا يغضب لغضب الله ورسوله , بل يرضى إذا حصل ما يرضاه بهواه , ويغضب إذا حصل ما يغضب له بهواه  فالتجرد في القول والعمل وسلامة المقصد أصل مهم في تقويم الرجال وأعمالهم ، وحتى لو كان رأي الإنسان صحيحًا , لكنه لم يقصد به وجه الله تعالى والنصح للمسلمين ؛ فإن عمله مردود غير مقبول , وهو مأزور غير مأجور إذا لم يتجاوز عنه ربه ؛ قال الله تعالى: ] وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ [ .

وقد يهجر الرجلُ الرجلَ عقوبةً وتعزيزًا ، والمقصود بقصد ردعه وردع أمثاله للرحمة والإحسان ، لا للتشفي والانتقام , كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه الثلاثة الذين خلّفوا في غزوة تبوك .

فعلى الإنسان المسلم أن يفتش في قلبه ويطهّره من جميع آثار الهوى قبل أن يبدأ في تقويم شخص من الأشخاص ؛ لكي يكون منصفًا, بعيدًا عن الجور والظلم المذموم شرعً ا، ومثل هذا يُلقى له القبول بين الناس حتى وهو يرد على الأخطاء والانحرافات ؛ فإنه يصاحبه في ذلك شعور بالشفقة وحب الهداية للغير ، لا مجرد الرد والخصومة والجدال ، كما هو الحال في كثير ممن يتصدى للمخالفين له ، وصاحب القلب السليم لا يؤذي المسلمين ولو آذوه، ولا ينتقم لنفسه ، قال الإمام ابن ناصر الدين الدمشقي: " إن في مجال الكلام في الرجال عقبات مرتقيها على خطر، ومرتقيها هوىً لا منجى له من الإثم ولا الوزر، فلو حاسب نفسَه الرامي أخاه ما السبب الذي أهاج ذلك؟ لتحقق أنه الهوى الذي صاحبه هالك "   فقد يصف البغض أحداً من الناس ، بأوصاف يعلم يقينًا أنه بريء منها، ولكنّ حبّ الذات والانتصار للنفس يذكي فيه روح الغيرة والاعتداء ، فنرى الكثيرين إذا رأوا غيرهم قد أخطأ فإنهم يفرحون بذلك , وهمهم الوحيد هو تتبع العثرات ، والفرح باصطيادها , في الوقت الذي لو وجدوا خلاف ذلك ـ من إصابة غيرهم للحق ـ فإنهم يحزنون لهذه الإصابة، وهذا هو الظلم والحقد والحسد بعينه ، والذي لا يلتقي مع الإخلاص والعدل وحب الخير للناس، وما أحسن الحكاية التي ذكرها ابن رجب رحمه الله حول هذا الأمر؛ حيث قال: "وقد استحسن الإمام أحمد ما حكي عن حاتم الأصم أنه قيل له: " أنت رجل أعجمي لا تفصح، وما ناظرك أحد إلا قطعته  فبأي شيء تغلب خصمك؟ فقال: بثلاث؛ أفرح إذا أصاب خصمي، وأحزن إذا أخطأ، وأحفظ لساني عنه أن أقول له ما يسوؤه ، فقال أحمد: ما أعقله من رجل " .

 والتعصب صفة ذميمة بل إن التعصب بلا هدى من الله  هو من عمل الجاهلية ، ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله ، فالمتعصب وإن كان بصره صحيحاً  فبصيرته عمياء ، وأذنه عن سماع الحق صماء ، يدفع الحق غفلة منه وجهلاً بما أوجبه الله عليه من النظر الصحيح  ومن استحكم في قلبه هذا الداء ، لو أوردت عليه كل حجة ، وأقمت عليه كل برهان ، لما أعارك إلا أذناً صماء   وعيناً عمياء وصدق الله ]  إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [    القصص  56 . وما درى هذا أن الكلمة إذا احتملت الكفر من تسعة وتسعين وجهاً ، ثم احتملت الإيمان من وجه واحد   حملت على أحسن المحامل ، وهو الإيمان ، ولكنهم جهلوا هذا الأدب الإسلامي العظيم الذي يحفظ الوحدة  ويحمي الأخوة ، ويظهر الإسلام بصورته الحسنة ، ووجهه الجميل من السماحة واليسر ، واتساعه لكافة الاختلافات الفكرية ، والمنازع المذهبية والمصالح البشرية ، ما دامت معتصمة بالكتاب والسنة ، على وجه من الوجوه الصحيحة التي يحتملها النظر السديد ، والتأويل الرشيد   وإن من البلاء ؛ أن يقوم غير مختص ليعترض على مختص   فيُخَطِّئه ويُغَلِّطه ، وإن كثيراً من الحوارات العقيمة مردُّها إلى عدم التكافؤ بين المتحاورين ، ولقد قال الشافعي رحمه الله : " ما جادلت عالماً إلا وغلبته ، وما جادلني جاهل إلا غلبني " وهذا التهكم من الشافعي رحمه الله يشير إلى الجدال العقيم ؛ الذي يجري بين غير المتكافئين .

وأخيرا سمعت تعليقات بان خطبي موجهة إلى أناس معينين   ناسين أن ما تتضمنه هو علاج لحالات يتصف بها كثير من البشر ، ولكن المعنيين منهم قد وصلوا إلى درجة من الإعراض والاستكبار قد يوردهم دار البوار وإني أتمثل قول الله تعالى : ] وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا [ نوح 7. فالداعي لا يمل من التذكير بالحق ، ولو قوبل بالاستكبار قال تعالى ] فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم [ الحديد 16 . والإصرار على العناد والاستكبار ، يورث التمادي على الضلال حتى يرى قبيح الفعال مستحسنا ، فإذا رآه مستحسناً يستكبر ، ولا يقبل بعد ذلك النصح وقديماً قيل في هؤلاء : " الإصرار على الذنب يورث الاستكبار ، والاستكبار يورث الجهل   والجهل يورث التمادي في الباطل ، وذلك يورث فساداً في القلب ، وهذا يورث النفاق ، والنفاق يورث الكفر "   فالقسوة أولها خطرة ، فإن لم تتدارك صارت فكرة ، فإن لم تتدارك صارت عزيمة ، فإن لم تتدارك صارت مخالفة  فإن لم تتدارك صارت قسوة ، وبعد ذلك طبع ودين  وحينئذٍ لا ينفع الوعظ والتذكير كما قال الشاعر :

إذا قسا القلب لم تنفعه موعظةٌ      كالأرض إن سبخت لم ينفع المطر

وروي أن عيسى بن مريم قال: داويت المرضى فشفيتهم بإذن الله، وأبرأت الأكمه والأبرص بإذن الله، وعالجت الموتى فأحييتهم بإذن الله، وعالجت الأحمق فلم أقدر على إصلاحه ، فقيل: يا روح الله وما الأحمق؟ قال : المعجب برأيه ونفسه، الذي يرى الفضل كله له لا عليه، ويوجب الحق كله لنفسه ، ولا يوجب عليها حقاً، فذلك الأحمق الذي لا حيلة في مداواته .

 

 

 

 

 

الأحقاد والعلاج

 روى البُخاري ومُسلم عن أنس بنِ مالكٍ أن رسولِ الله  صلى الله عليه وسلم  قال : ( لا يُؤمِنُ أحَدُكُمْ حتى يُحِبَّ لأخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسه )  في هذا الحديث يبين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الإيمان لا ترسخ جذوره في النفس، ولا يتمكن من القلب، ولا يكمل في صدر المسلم ، إلا إذا أصبح إنسان خير، بعيداً عن الأنانية والحقد، والكراهية والحسد ، جميلٌ منا أن  نسعى إلى تزكية أنفسنا بالسؤال عن طرائق البعد عن الحقد والكراهية ،  وأن نعلم أن منشأ الحقد والكراهية عادة ، هو موقف غضب ، يدفعنا للانتقام  لرد اعتبار أو مكانه  نعتقد أنها تأثرت  وحتى ندفع ذلك عن أنفسنا وقلوبنا  يجب أن ننظر إلى الأمور من حولنا نظرة الواثق الكبير في نفسه ، تقول العرب : " وليس كبير القوم من يحمل الحقدا"  نعم فالعظماء لا يبالون بأقاويل السفهاء ، ولا يلقون لها بالاً ، لأن المسلم يعفو ابتداءً ، ويتغافل عما لا يعجبه ، ويتأسى بقوله تعالى : ] ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [ فصلت:34   .  
إن علينا أن  ننظر للأمور بميزان من يعرف الدنيا      وأنها لا تخلو من الأكدار ، لتطمئن نفوسنا ، وتستريح قلوبنا ، ونجرب الإحسان إلى من يعادينا ، فإن أصرّوا على عداوتهم ، فأمثال هؤلاء لا يستحقون أن نشغل أنفسنا بهم.

أعاتب من يحلو بقلبي عتابه        وأترك من لا أشتهي أن أعاتبه
 والمتأمل في أحوالهم يجد تناقضًا ظاهرًا بين ما أوصاهم به ربهم من رعاية حقوقه وحقوق عباده   وبين ما هم عليه من تفريط في جنب الله ، وعدم رعاية حقوق عباد الله. بل إنهم  يظنون أن التقوى هي القيام بحقوق الله تعالى دون حقوق عباده ، وأن الدين قاصر على معاملة الخالق دون المخلوق  فيهملون حقوق العباد أو يقصرون فيها، ويستهينون بظلم الناس وبخسهم حقوقهم .

 ومن العجيب أنهم يحرصون على أداء الشعائر التعبدية، ويلتزمون بالمظاهر الشرعية، ويجتهدون في نوافل العبادات من صلاة وصيام وتلاوة وذكر   ولكنهم لا يولون جانب المعاملة للخلق اهتمامًا يذكر   فتجد عندهم  من الحقد والحسد، والعجب والكبر والظلم والبغضاء والشحناء، والتهاجر والتدابر والكذب والتدليس، والغش والمخادعة  وإخلاف الوعود، ونقض العهود  والقطيعة والعقوق      والولوغ في أعراض الناس، والسعي بالنميمة والإفساد، وتتبُّع العورات، والتدخل فيما لا يعني، ما يتنافى وكمال الإيمان ويتناقض مع ما هم عليه من مظاهر الصلاح والديانة!! وكأن معاملة الخلق ليست من الدين ، أو كأن ظلم الناس والتحريض عليهم ، لا حرج فيه ولا بأس ، والحقيقة أن هؤلاء يهدمون ما يبنون، ويفسدون ما يعملون، ويحبطون حسناتهم من حيث لا يشعرون، فهم يجتهدون في أداء الفرائض والنوافل نهارهم وليلهم ، وقد يصبح الواحد منهم ولا حسنة له، ويجمعون حسنات كأمثال الجبال من صلاة وصيام وصدقة وذكر وغيرها ، ثم يذهبونها بأنواع من الكبائر المتعلقة بظلم الخلق ، وسوء الظن بهم  وسوء معاملتهم . وربما عند المعادلة لا تقوم أجور صلواتهم وطاعاتهم بإثم ظلمهم للعباد ، إنها والله الخسارة الفادحة، والغبن الفاحش، والإفلاس الذي ليس بعده إفلاس!! وفي مقابل هؤلاء طائفة أخرى ليسوا في منزلتهم من الالتزام بالمظاهر الشرعية  والحرص على أداء الشعائر التعبدية لكنهم حريصون على معاملة الناس بالحسنى، ومعاشرتهم بالمعروف، من أجل كسب مودتهم، والحظوة عندهم، واتقاء شرهم، فهم يفعلون ذلك من أجل الدنيا، ولا يحتسبون الأجر فيه من الله تعالى. وينسى هؤلاء وأولئك أو يجهلون أن الخلق الحسن عبادة من أجل العبادات، وقربة من أعظم القربات، وعمل من أحب الأعمال إلى الله، وأزكاها عنده،  وأن الواجب على كل مسلم أن يحرص عليها، ويجتهد في التخلق بها ، ومن تأمل النصوص الواردة في الحث على حسن الخلق، فإنه يفاجئ بكثرة ما رتب عليه من الأجر والثواب، وما لصاحبه من المدح والثناء ورفعة المنزلة، وحسن العاقبة في الدنيا والآخرة. كما أنه يعجب من غفلة كثير من الناس عن هذا الخير، وتفريطهم فيه، وحرمانهم إياه، مع أنه لا يكلفهم شيئًا يذكر، وبه يحصِّلون خيري الدنيا والآخرة.

ويا ليت هؤلاء إذ قصَّروا في القيام بحقوق العباد  ومخالقة الناس بخلق حسن، كفوا أذاهم عنهم  وطهروا أيديهم وألسنتهم من الاستطالة عليهم وبخسهم أشياءهم ، ولكنهم ـ لسوء حظهم وقلة توفيقهم ـ لا يتورعون عن ظلمهم، والتعدي على مصالحهم ، فجمعوا بين سيئتين، واحتملوا جرمين عظيمين ووقعوا في ظلم العباد من جهتين: جهة إيذائهم والعدوان عليهم وجهة التقصير في حقوقهم وما يجب لهم. ويغفلون عما يستوجبه ذلك من الإثم  والعقوبات العاجلة والآجلة، وما ورد فيه من الوعيد الشديد الذي تقشعر له الأبدان ، وترتجف له القلوب خشيةً ورهبةً. ومن هنا تظهر الحاجة الماسة لبيان كيفية معاملة الناس، وحقوق بعضهم على بعض وابتلاء بعضهم ببعض، وأن كل إنسان مبتلى بمن يقابله ويعامله من الأقربين والأبعدين، هل يتقي الله تعالى فيهم، وينصح لهم، ويقوم بحقوقهم، ويتورع عن ظلمهم والإساءة إليهم، فيفوز بمحبة الله تعالى ورضوانه، ومحبة الناس وتقديرهم أم يكون على الضد من ذلك، فيخسر الدنيا والآخرة، ويكون منبوذًا عند الله وعند الناس.

كما أن معاشرة الناس بالمعروف ومخالقتهم بخلق حسن من أعظم وسائل الدعوة إلى الله ، فما استجلبت محبة الناس بمثل الإحسان إليهم، والرفق والرحمة بهم، ولين الجانب في التعامل معهم فالمعاملة الطيبة المخلصة أوقع في النفوس من ألف خطبة ومحاضرة والأفعال هي التي تصدق الأقوال، وتكشف عن معادن الرجال، ولذلك اهتم الإسلام  بإضعافَ رُوح الحقد، وكراهيةَ الغِلِّ في الإنسان والعمل على مَلْءِ القلوب بالمَحَبَّة فقال تعالى  في وصف نعيم المؤمنين  ]ونَزَعْنَامَافِيصُدُورِهِمْمِنْغِلٍّإِخْوَانًاعَلَىسُرُرٍمُتَقَابِلينَ [  الحجر  47.  

وليكن لسان حالنا ومقالنا: ] رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [ وإن قلت: فما الحيلة مع أصحاب العداوات: ولا يخلو إنسان من عدو وإن كان على رأس جبل؟ فالجواب: ذكر الله العلاج في أمرين: الأول: العفو عن المخطئ قال تعالى: ]  وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [ . نعلم أيها الأخوة أننا جميعاً صنعة الله والخلق كلهم عيال الله ، وما دمنا كلنا عيال الله  فعندما يسيء واحدٌ لآخر ، فإن الله يقف في صف الذي أسيء إليه ، ويعطيه من رحمته وعفوه الشيء الكثير ، وبهذا يكون المساء إليه قد كسب .
الثاني: الإحسان إليه قال تعالى: ] وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [ وهذه لا يستطيعها إلا من وطن نفسه على الصبر ولسان حاله   

 إذا كنت تغضب من غير ذنب     وتعتب من غير جرم عليَّا

طلبت رضاك فان عزَّني      عددتك ميتا وان كنت حياً

هذا هو الحاقد والحاسد الذي امتلأ قلبه حقداً أو حسداً.. لا يمكن إن يرضى عنك وسيحقد عليك دون سبب وسيزداد حقده عليك كلما تجاهلته ولكن دعه في حقده الذي سيأكله:
اصبر على حقد الحقود فان صبرك قاتله      كالنار تأكل بعضها ان لم تجد ما تأكله

ومن الناس من ينقصونك إذا زدتهم ، وتهون عندهم إذا خاصصتهم ليس لرضاهم موضع تعرفه ، ولا لسخطهم موضع تحذره ، مصداقاً لقول القائل :

لو قطعت البلاد طولا إليه      ثم من بعد طولها سرت عرضاً

لرأى ما فعلت غير كثير       واشتهى أن يزيد في الأرض أرضا

 لا أشك أن كل واحد منا  يطلب الجنة ، ولا تنال الجنة بشيء أعظم من سلامة القلب قال تعالى : ] إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ  [ الشعراء : 89  .

 

 

 

 

 

 

الاعتصام بحبل الله

قال تعالى: } يا أيُّهَا الَّذين آمَنوا اتَّقُوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ ولا تَموتُنَّ إلاَّ وأنتُم مسلِمُونَ واعتَصِموا بحَبْلِ الله جميعاً ولا تَفَرَّقُوا { 103 آل عمران . إنها دعوة للمؤمنين كي يجاهدوا أنفسهم ، ويستسلموا للإيمان بالله، ويواصلوا العمل بما يقتضيه هذا الإيمان ، بالسير على نهجه  الذي يجعل منهم إخواناً متحابِّين ، والله يأمر المؤمنين أن يستسلموا استسلاماً كاملاً لشريعة الله ، ويناديهم الله تعالى بهذا النداء المحبَّب : } ياأيُّها الَّذين آمنوا { ليتلقَّوا أوامره ونواهيه ، بأن يُطاعَ الله فلا يُعصى، وأن يُذكرَ فلا يُنسى، وأن يُشكرَ فلا يُكفر، وهذه المنزلة لا يصل إليها إلا من اتقى المحارم والشُّبُهات، واقتصد في الشهوات والملذَّات، وجاهد نفسه وتجافى عن دنيا الملذات  ؛ فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن الدنيا حلوةٌ خضِرةٌ وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون فاتَّقوا الدنيا ) رواه مسلم  
 كما تؤكِّد الآية على ضرورة تمسُّك المؤمنين بالتَّقوى، وأن يبقوا على تسليمهم المطلق لله تعالى في جميع الأوقات ، وقد قيل في معنى حق تقاته ، أي لا تأخذك في الله لومة لائم ، أو أن تقول الحق ولو على نفسك ، هذا ما يقال عنه حق التقى ، قال العلماء : عندما نزلت هذه الآية وسمعها الصحابة استضعفوا نفوسهم أمام مطلوبها ، ويقال أن الله أنزل بعدها } فاتقوا الله ما استطعتم { أي ساعة تكون غير مستطيع فهو الذي يخفف .

والله سبحانه إنما دعا الناس إلى الإسلام لأنه يجمع القلب إلى القلب، ويضمُّ الصفَّ إلى الصفِّ، هادياً لإقامة كيان موحَّد، ونبذ عوامل الفرقة والضعف وأسباب الفشل والهزيمة؛ ليكون لهذا الكيان القدرة على تحقيق الغايات السامية، والمقاصد النبيلة، الَّتي جاءت بها رسالته العظمى. فهو يكوِّن روابط و صِلات بين أفراد المجتمع لتُوجِد هذا الكيان وتُدعِّمه، وهذه الروابط تقوم على الأخوَّة المعتصمة بحبل الله ، أي المتمسكة بالقرآن وبدين الله وطاعته ، والتمسك بمنهجه حلالاً وحراما ، واجتماع كلمة المسلمين من أجل صون الحرمات والبلاد من عدوان المعتدين ، وهم الآن مع الأسف أبعد الناس عن اجتماع الكلمة ووحدة الصف والغاية والنهج والأخوة المعتصمة بالله نعمة يمنُّ الله بها على المجتمع، ويهبها لمن يحبُّ من عباده ويحبُّونه، فما من شيء يجمع القلوب مثلُ الأخوَّة في الله ، حيث تتلاشى إلى جانبها الأحقاد القديمة  والأطماع الشخصية،   قال تعالى: } وَمَن يَعْتَصِمْ بالله فَقد هُدِيَ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ { آل عمران آية 101 .
وإذا كانت وحدة الكلمة هي القوَّة الَّتي تحمي دين الله  وتحرس دنيا المسلمين، فإن الفرقة هي الَّتي تقضي على دينهم ودنياهم معاً. ولن يصل المجتمع إلى تماسكه إلا إذا بذل له كلُّ فرد من ذات نفسه، وكان عوناً له في كلِّ أمر، ليصبح أفراده كما وصفهم النبي r في حديثه الَّذي رواه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله r : ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضه بعضاً وشبَّك بين أصابعه )  متفق عليه . وخير مثال على هذا الأمَّة العربية الَّتي كانت في بدء أمرها فرقاً متعادية وقبائل ممزَّقة، ثمَّ هبَّت عليها نفحة الإسلام فجمعت شتاتها ووحَّدت كلمتها، فانطلقت إلى غايتها الكبرى في توحيد العالم تحت راية الهداية والعلم والأخلاق الفاضلة، بعد أن عرفت طريقها، وأحكمت خطَّتها  فجنت أطيب الثمرات من وراء وحدتها وأدركت عملياً أن الوحدة قوَّة وأن التفرُّق ضعف، وأنه ما من شدَّة تعرَّضت لها إلا كان سبَبُها الاختلاف والانقسام، لذلك كان همُّ أعدائها أن يتَّبعوا معها سياسة (فرِّق تَسُدْ)، وأوجدوا بذلك الثغرات الَّتي نفذوا من خلالها إلى مآربهم.   وقد صوَّر النصُّ القرآني حال القوم حين كانوا متفرِّقين مختلفين، في مشهدٍ حيٍّ متحرِّك تضطرب له القلوب } وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها {  فمثَلُهم في التفرقة كمثل قوم أشرفوا على هوَّةٍ بركانية ملتهبة وبينما هم على وشك السقوط في النار إذا بيد العناية الإلهية تمتَدُّ إليهم فتتدارك هلاكهم وتنقذهم، وإذا بحبل الله يؤلِّف بينهم  ويجمع شملهم. فما أجملها من نعمة قد تفضَّل الله بها عليهم، فأكرمهم بالنجاة والخلاص  روي أن أعرابياً سمع ابن عباس يقرأ هذه الآية فقال : والله ما أنقذهم منها وهو يريد أن يوقعهم فيها فقال ابن عباس خذوها من غير فقيه

إنّ أعداء الإسلام يحاربون المسلمين بكافة السبل والوسائل المتاحة لهم  عسكرياً واقتصادياً وفكريّاً وإنهم لن يكفوا عن حربهم لهم ، ولن يفرطوا في أي فرصة تسنح لهم ليصيبوا بعض مرادهم ويحققوا مخططاتهم   ولهم أتباع من أبناء المسلمين يسيرون على نهجهم ، وينفذون مطالبهم  غايتهم إبعاد المسلمين عن دينهم ، وبثّ الفرقة والخلاف بين المسلمين ، وبذر الشقاق والعداء بينهم ، ومحاولة إشغالهم عن قضاياهم المصيرية بخلافات جانبية بينهم  حتى ينسوا عدوهم وينصرفوا عنه  . 

إنّ أعداء الإسلام ، لن يقصروا في اتّباع كل وسيلة تؤدي إلى تأجيج النزاعات والخلافات بين المسلمين ، عن طريق عملائهم ووسائل إعلامهم   من أجل إطالة أمد الخلاف والنزاع ، ولا يشك عاقل أنَّ الفرقةَ في الدين من أعظم مصائب الأمَّة؛ لأنَّ في الافتراق إضعافٌ للأمة، وجماعة الحق إن ضعفت عجزت عن تحقيق الكثير من مصالحها  وأمورها قال تعالى :}  وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ { أي تذهب قوتكم وهيبتكم عند خلافكم؛ فما يتنازع الناس إلا حين تتعدد جهات القيادة والتوجيه  وحين يكون الهوى المطاع هو الذي يوجه الآراء والأفكار واعلموا أن الأمة الإسلامية لن تستطيع أن تؤدي دورها التاريخي إلا يوم أن ترجع إلى القرآن الذي شرّفها الله به   وجعلها أرقى أمم الأرض على الإطلاق  .   

 

 

الإخـلاص

الإخلاص هو حقيقة الدين ، ومفتاح دعوة المرسلين ، إنه مسك القلوب وماء حياتها ، بل إن مدار الفلاح عليه قال تعالى : ) وَما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين (البينة 5 . وقديماً قيل : الإخلاص نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الخالق . قال تعالى ) فاعبد الله مخلصاً له الدين ( الزمر 302 .

وروى الحاكم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل : ( أخلص دينك يكفك القليل من العمل ) وعن أبي هريرة أن رسول الله  صلى الله عليه وسلم قال : ( قال تعالى:أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، من عمل عملاً أشرك معيَ فيه غيري تركته وشركه ) رواه مسلم .

وفي الترغيب والترهيب عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا كان يوم القيامة جاءت الملائكة بصحف مختمة ، فيقول الله عز وجل ألقوا هذا ، واقبلوا هذا  فتقول الملائكة : وعزتك ما كتبنا إلا ما كان ، فيقول إن هذا كان لغيري  ولا اقبل اليوم إلا ما كان لي ) .  ويروى عن الحسن قال : " كانت شجرةٌ تعبد من دون الله ، فجاء إليها رجلٌ فقال : لأقطعن هذه الشجرة ، فجاء إليها ليقطعها غضباً لله ، فلقيه الشيطان في صورة إنسان فقال : ما تريد ؟ قال أريد أن أقطع هذه الشجرة التي تُعْبَدُ من دون الله ، قال : إذا أنت لم تعْبدها فما يضرك من عبدها ؟ قال لأقطعنها ، فقال له الشيطان : هل لك فيما هو خيرٌ لك من ذلك لا تقطعها ولك ديناران إذا أصبحت عند وسادتك ، قال فمن لي بذلك ؟ قال : أنا لك ، فرجع فأصبح فوجد عند وسادته دينارين ، ثم أصبح فلم يجد شيئا فقام غضبان ليقطعها ، فتمثل له الشيطان في صورته فقال ما تريد ؟ قال اريد أن أقطع هذه الشجرة التي تعبد من دون الله ، قال كذبت ، ما لك إلى قطعها من سبيل فذهب ليقطعها ، فضرب به الأرض وخنقه حتى كاد يقتله ، ثم قال له : أتدري من أنا ؟ فأخبره أنه الشيطان وقال : جئت أول مرّة غضباً لله ، فلم يكن لي عليك سبيل ، فخدعتك بالدينارين فتركتها  فلما فقدتهما جئت غضباً للدينارين فسُلِطت عليك " . وقيل أن رجلاً كان يخرج في زيّ النساء ، فيحضر حيث يحضرن من عرس ، فاتفق أنه حضر يوماً موضعاً فيه مجتمع النساء ، فسُرِقت دُرّة فصاحوا : أغلقوا الباب حتى نفتش   ففتشوا واحدة واحدة ، حتى بلغت النوبة إلى الرجل وإلى امرأة معه ، فدعا الله بإخلاص وقال : إن نجوت من هذه الفضيحة لا أعود إلى مثل هذا ، فوجدت الدرة مع تلك المرأة فصاحوا : أطلقوا الحرّة فقد وجدنا الدرّة .  

 إن الذي يعمل بغير إخلاص ولا اقتداء ، كمسافر يملأ جرابه رملاً ينقله ولا ينفعه ، ولهذا سيأتي أقوام يوم القيامة بأعمال كالجبال لكنها لا تنفعهم لأنها فقدت أهم شروط قبولها :(وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً )  فما هو الإخلاص ؟ وما هو الفرق بين الإخلاص والرياء ؟

 الإخلاص :  أن يكون قصد الإنسان في سكناته وحركاته وعباداته الظاهرة والباطنة خالصة لوجه الله تعالى ، بأن يعمل عمل الخير ابتغاء مرضاة الله تعالى لا يريد بها شيئاً من حطام الدنيا أو ثناء الناس ، وعرفه ابن القيم بأنه : إفراد الحق سبحانه بالقصد في الطاعة أن تقصده وحده لا شريك له . فالعمل الخالص لوجه الله تعالى سبب للثواب ، أما العمل الذي لا يريد به إلا الرياء فإنه سبب للعقاب أما العمل المشوب بثوب الرياء وحظوظ لنفس ، أي فيمن انبعث لقصد التقرب ولكن امتزج بهذا الباعث باعث آخر ، إما من الرياء ، أو من غيره من حظوظ النفس ، كمن يصوم لينتفع بالحمية الحاصلة بالصوم مع قصد التقرب ، أو يتعلم العلم ليسهل عليه طلب ما يكفيه من المال ، أو كمن خرج حاجاً يبتغي التجارة صح حجه   هنا الباعث هو التقرب إلى الله ، ولكنه انضاف إليه خاطر من الخواطر التي ذكرنا  ، مما يجعل العمل أخف عليه بسببها ، وهذا مما يخرج العمل عن حد الإخلاص   أما من ناحية استحقاق الثواب ، فقد نظر العلماء إلى قدر قوة الباعث ، فإن كان الباعث الديني مساوياً للباعث النفسي   صار العمل لا له ولا عليه ، وإن كان باعث الرياء أقوى   استحق العقاب ، لكن عقابه دون عقاب من تجرد للرياء  وإن كان الباعث الديني أقوى فله الثواب بقدر الزيادة في الباعث ، والرياء : هو الذي يعمل أيُ عمل من أعمال الخير والبر من أجل أن يمدحه الناس ، فهذا الإنسان ليس له ثواب عند الله في هذا العمل ، وعليه ذنب من الكبائر  ومن يتصدق بنية التقرب إلى الله ، وإخلاص العمل له  ليس كمن يتصدق ليقال عنه: أبو الفقراء ، أو فلان معين الأرامل والمساكين فإن تصدق بهذه النية فلا ثواب له  ولو وزع جبالاً من ذهب ، بل ويخرج من العمل وعليه ذنب من الكبائر الذي هو ذنب الرياء .

إن المسلم الحق أبعد ما يكون عن الرياء ، لأن الرياء يحبط الأجر ، ويبطل العمل  ويجلب الخزي لصاحبه يوم يقوم الناس لرب العالمين ، والإخلاص لله في القول والعمل هو لب لباب هذا الدين ، وعبادة الله لا تكون مقبولة إلا إذا كانت خالصة لوجه الله الكريم لقوله تعالى : ) مخلصين له الدين ( البينة 5 . ومتى شابت العبادة شائبة من رياء أو سمعة أو حب ظهور ، بطَلَتْ ومُحِق ثوابها ، ومن هنا كانت صدقة السرّ أعظم ثوابا ، وفاعلها من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ، كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم : ( ورجلٌ تصدق بصدقةٍ فأخفاها  حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ) . وقد عمل بهذا الهدي سلفنا الصالح   فهذا   علي بن الحسين كان يحمل جراب الخبز على ظهره بالليل فيتصدق به ويقـول : " إن صدقة السرّ تطفىء غضب الرب عز وجل " وقد كان ناس من المدينة يعيشون ، لا يدرون من أين كان معاشهم ، فلما مات علي بن الحسين فقدوا ما كانوا يؤتَوْنَ به في الليل . كانت بينهم وبين الله أسرار ، لو أقسم منهم على الله أحد لأبرَّه ، لإخلاصهم وصدقهم مع الله تبارك وتعالى .

 قال أبو حازم : " لا يحسن عبدٌ فيما بينه وبين ربه ، إلا أحسن الله ما بينه وبين العباد ، ولا يعوِّر ما بينه وبين الله   إلا أعوَّر الله ما بينه وبين العباد ، ولمصانعة وجه واحد  أيسر من مصانعة الوجوه كلها " .

وهذا داود ابن أبي هند يصوم أربعين سنة لا يعلم به أهله  كان له دكَّان يأخذ طعامه في الصباح فيتصدق به ، فإذا جاء الغداء أخذ غداءه فتصدق به ، فإذا جاء العشاء تعشى مع أهله ، أربعين سنة وهم لا يدرون بصيامه  وكان رحمه الله يقوم الليل أكثر من عشرين سنة ، ولم تعلم به زوجته .

 أي إخفاء للعمل كهذا ! ، وأي إخلاص كهذا !، وأي أسرار كانت بينهم وبين الله !. وأين بعض المسلمين اليوم ؟! الذي يحدِّث عن جميع أعماله ، ولو قام ليلة من الدهر لعلم بها الأقارب والجيران والأصدقاء ، ولو تصدَّق بصدقة أو أهدى هدية أو تبَّرع بمال أو غير ذلك لعلم الناس به    فهل هؤلاء ! أكمل إيماناً وأقوى إخلاصاً من أؤلئك السلف ، وهل كانوا يخفون أعمالهم لضعف إيمانهم ، وهؤلاء يظهرونها لكمال إيمانهم ؟ عجباً والله .  

 قال تعالى: ) فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ( وقال عليه الصلاة والسلام : ( إن الله يحب أحدكم إذا عمل عملاً أن يتقنه   قيل: وما إتقانه يا رسول الله ؟ قال: يخلصه من الرياء والبدعة ) .

 وسئل النبي  صلى الله عليه وسلم كما روى الحاكم في المستدرك عن الإنسان الذي يقاتل يبتغي الأجر والذكر ما له ؟ أي يبتغي الأجر من الله والذكر من الناس أن يقولوا عنه فلانٌ بطل مقدام في الحرب ، فسألوا الرسول ما له ؟ قال: ( لا شيء له ) فاستعظم ذلك الناس ، فقالوا للرجل لعلك لم تفهم المسألة ، أعد المسألة على النبي صلى الله عليه وسلم   فرجع للرسول وسأله ثانية فقال: ( لا شي له ) لأن هذا العمل لم يكن خالصاً لوجه الله ، ولا بد من لفت الأنظار إلى أن الذي يقوم بعمل البر لأجل الثواب ولأجل محمدة الناس لا أجر له ، ومن يقول أن له نصف الأجر فإنه هذا يخالف الشريعة بدليل هذا الحديث ، فالإخلاص إذاً هو روح العمل ، فإذا فقد فلا ثواب على العمل ، وفاعله عليه ذنب من الكبائر ، وعليه معصية كبيرة ويستحق العذاب في الآخرة . وإنما تحفظ الأمة وتنصر بإخلاص رجالها روى النسائي وغيره أن رسول الله  صلى الله عليه وسلم قال : ( إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها  بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم )   قيل لحمدون بن أحمد ما بال كلام السلف أنفع من كلامنا ؟ قال : " لأتهم تكلموا لعز الإسلام ونجاة النفوس ورضا الرحمن   ونحن نتكلم لعز النفوس وطلب الدنيا ورضا الخلق " . وقد كان عمل الخلوة أحب إلى السلف من عمل الجلوة ، فإياكم وبكاء الرياء قال النووي : " البكاء عشرة أجزاء ، تسعة لغير الله وواحد لله ، فإذا جاء الذي لله مرّة في السنة فهو كثير " . وقال سفيان الثوري : " إذا استكمل العبد الفجور ملك عينيه ، يبكي بهما متى يشاء " وفي حلقة الحسن لبصري جعل رجلٌ يبكي وارتفع صوته ، فقال الحسن : " إن الشيطان ليُبْكي هذا الآن " . وقال سفيان بن عيينة : " أصابتني ذات يومٍ رِقَّةٌ فبكيت ، فقلت في نفسي ، لو كان بعض أصحابنا لرق معي ، ثم غفوت ، فأتاني آت في منامي فرفسني وقال : يا سفيان خذ أجرك ممن أحببت أن يراك ".

وقد أمرنا الله تعالى بالإخلاص وحذرنا من الرياء قال تعالى: ) فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ( أي فليعمل عمل البر والخير والطاعة مبتغياً بذلك وجه الله ، لا يريد محمدة الناس لأن ما عند الناس يزول وما عند الله باق لا يزول ، وما عند الله خير وأبقى   ولذلك كان حال السلف رضي الله عنهم هو: إذا أصلحت ما بينك وبين ربك فلا تبالي بالناس . 

  وقد يكون الرياء من الصغار للكبار ابتغاء عرض الدنيا  وقد يكون من الكبار للصغار ابتغاء تأليف الأتباع   ليزرعوا في القلوب هيبتهم ، وليجعلوا لجاههم في الأرض دعائم مكينة ، فيفعلون الخير لا لوجه الله ولا لحب الخير  بل ليلتف الناس حولهم ، فيكون ريائهم امتداداً لكبريائهم وتصحيح النية في نظر الإسلام هو معيار ما في العمل من كمال وفضيلة ، فلا يعتبر العطاء نبلاً ولا الجهاد فضلاً إلا إذا صدر عن صاحبه خالصاٍ لوجه الله ، والوعيد الذي يسوقه الإسلام للفضائل التي خالطها الرياء ، وعيدٌ يتطاير منه الشرر ، ويتفجر منه المقت ، بل إنه وعيدُ أنكى مما سبق من عقاب على كثير من الرذائل ، وهذا ما يدعو للغرابة عن أبي هريرة : ( حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله سبحانه إذا كان يوم القيامة ينـزل إلى العباد ليقضى بينهم ، فأول من يدعى به رجل جمع القرآن ، ورجل قتل في سبيل الله ، ورجلٌ كثير المال ، فيقول الله عز وجل للقارئ  ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي قال : بلى يا رب قال : فماذا عملت فيما علمت ؟ قال :  كنت أقوم به آناء الليل وأطراف النهار فيقول الله عز وجل له كذبت ، وتقول له الملائكة كذبت ، ويقول الله تبارك وتعالى : بل أردت أن يقال : فلان قارئ وقد قيل ذلك . ويؤتى بصاحب المال فيقول عز وجل : ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد قال : بلى يا رب قال : فماذا عملت فيما آتيتك  قال : كنت أصل الرحم وأتصدق ، فيقول الله له كذبت وتقول له الملائكة : كذبت ويقول الله تبارك وتعالى : بل أردت أن يقال فلانٌ جواد وقد قيل ذلك ، ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله فيقول الله له في ماذا قتلت ؟ فيقول إي وربي ، أمرت بالجهاد في سبيلك ، فقاتلت حتى قتلت ، فيقول الله له : كذبت وتقول له الملائكة كذبت ، ويقول الله بل أردت أن يقال فلان جريء وقد قيل ذلك قال أبو هريرة ثم ضرب رسول الله  صلى الله عليه وسلم على ركبتي فقال : يا أبا هريرة أولئك الثلاثة   أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة ) رواه الترمذي .  في هذا دليل على فساد النوايا   ودليل على أن الإخلاص هو الذي يجعل للأعمال قيمة عند الله تبارك وتعالى ، فلا إنفاق، ولا استشهاد ، ولا قراءة قرآن ، إلا بالإخلاص لله ربِّ العالمين ، والعاقل هو الذي يخلص النية لله تبارك وتعالى لأنّ الناس لا ينفعوه بشيء إذا راءى لهم ، بل هو الخاسر يوم لقيامة . وعلاج هذا كما قال أحد العلماء : نظر الأكياس في تفسير الإخلاص ، فلم يجدوا غير أن تكون حركته وسكونه في سره وعلانيته لله تعالى لا يمازجه نفسٌ ولا هوىً ولا دنيا  

 وأن يدعو الله : اللهم إني أستغفرك مما زعمت أني أريد به وجهك ، فخالط قلبي منه ما قد علمت ) يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ( .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الحث على البذل والعطاء

المال مال الله عز وجل، وقد استخلف الله عباده فيه ليرى كيف يعملون ، ثم هو سائلهم عنه إذا قدموا بين يديه من أين جمعوه ؟ وفيمَ أنفقوه ؟ فمن جمعه من حله وأحسن الاستخلاف فيه ، فصرفه في طاعة الله ومرضاته ، أثيب على حسن تصرفه ، وكان ذلك من أسباب سعادته ، ومن جمعه من حرام أو أساء الاستخلاف فيه ، فصرفه فيما لا يحل عوقب ، وكان ذلك من أسباب شقاوته إلا أن يتغمده الله برحمته .

ومن حكمة الله تعالى أن فاوت بين عباده في أخلاقهم وأرزاقهم   فبسط لبعضهم الرزق ، ووسع عليه وابتلى البعض بالقلة قال تعالى : ﴿ قُلْ إِنَّ رَبّى يَبْسُطُ ٱلرّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ سبأ 36 .  وغرس في النفوس حب المال قال تعالى : ﴿ وَتُحِبُّونَ ٱلْمَالَ حُبّاً جَمّاً ﴾ الفجر 20 .  فكان نعمة في حق من أخذ المال بحقه وصرفه في حقه ، وبلاء على قوم منعوا حق الله الواجب في المال، فلم يؤدوا حقه ، أما لمن يؤدى هذا الحق إنه للفقير ، والفقيرَ هو: المتعفّف الذي لا شيءَ له ولا يسألُ الناسَ شيئًا، والمسكينَ هو: الذي له بعضُ ما يكفيه ويسأل الناسَ ويطوفُ ويتبعهم، لذلك قدّم الفقراء على بقية المستحقّين في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ﴾ التوبة 60  .  لأنهم أحوج من غيرهم وأسوأُ حالاً  وقد تكون لهم موانعُ تحولُ دونَ تكسُّبِهم أو لا يَقدِرون على التكسّب لأسباب خاصّةٍ ، بحيث يظنُّهم من لا يعرفهم مكفيّين ما يحتاجون إليه ، وسبب هذا الظن هو تركهم للمسألة ، وإذا كان التعفف هو ترك المسألة فالله يقول : ﴿لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾ البقرة 273 . فالآية تدل على أن المنفي هو مطلق السؤال ، وسيماهم العلامة المميزة التي ندل على حال صاحبها ، وما دامت حالته تدل على الحاجة ، فكان يجب أن يجد ما يكفيه من السؤال ، وإذا ما سأل مجرد سؤال فكأنه ألحف أي ألح في المسألة ، بينما المسكين الذي له شيء لكنه لا يكفيه ويسأل الناسَ ويطوف بهم، لقوله تعالى : ( لَيْسَ المِسْكِينُ الَّذِي يَطُوفُ عَلَى النَّاسِ، تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ، وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ، وَلَكِنَّ المِسْكِينَ الَّذِي لاَ يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ، وَلاَ يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقْ عَلَيْهِ وَلاَ يَقُومُ فَيَسْأَلُ النَّاسَ ) أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي .  والحديث يبيّن الأَوْلى منه بالصدقة وهو من لا يسأل الناسَ ولا يُفطن له بالصدقة، ولا يجد ما يغنيه ، أمّا المسكين فهو واجِدٌ ما يغنيه طالَمَا سألَ الناسَ وفطن له بالصدقة، ويؤيّده قوله تعالى: ﴿أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ في البحر ﴾ الكهف 79 . فسمّاهم مساكينَ مع أنّ لهم سفينة يعملون فيها.  فابحث عن الفقير و لا تنتظره ليبحث عنك ، ولا تحتقره وتنقص من شأنه نكسب ثواب الصدقة و ثواب البحث عنه . فالله يريد من المؤمن أن تكون له فراسة نافذة بحيث يتبين حال أخيه المؤمن بالنظرة إليه ولا يدعه يسال   ولنا العبرة في تلك الواقعة ، فلقد دق أحدهم الباب على أحد العارفين فخرج ثم دخل وخرج ومعه شيء ، فأعطاه للطارق ثم عاد باكيا ، فقالت له امرأته : ما يبكيك ؟ قال : إن فلاناً طرق بابي قلت : وقد أعطيته فما الذي أبكاك ؟ قال لأني تركته إلى أن يسألني . فالعارف بكى ، لأنه أحس بمسئولية ما كان يجب عليه أن يعرفه بفراسته . 

روى ابن ماجة  عن سهل بن سعد الساعدي قال : (مر على رسول الله  صلى الله عليه وسلم رجل فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما تقولون في هذا الرجل ؟ قالوا رأيك في هذا نقول هذا من أشرف الناس ، هذا حري إن خطب أن يخطب ، وإن شفع أن يشفع وإن قال أن يسمع لقوله ، فسكت النبي  صلى الله عليه وسلم ، ومر رجل آخر فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما تقولون في هذا ؟ قالوا نقول والله يا رسول الله هذا من فقراء المسلمين هذا حري إن خطب لم ينكح ، وإن شفع لا يشفع ، وإن قال لا يسمع لقوله  فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهذا خير من مل الأرض مثل هذا ) .

والتصدق والإنفاق على الفقراء والمحتاجين ثوابه عظيم عند الله   فالله يضاعف الصدقة أضعافًا كثيرة قال تعالى :﴿ إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خيرٌ لكم  ﴾البقرة 270 . وقال تعالى:﴿ الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرًّا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾ البقرة 274. في الآيات ما يدل على أن الصدقة الواجبة ، والإنفاق في المصالح العامة كبناء المدارس والدعوة إلى الدين والجهاد ونفقة التطوع بقصد ترغيب الآخرين في التصدق ينبغي إعلانها ، وهو أفضل من الإخفاء ، وأما الصدقة على الفقراء لسد حاجاتهم فإسرارها أفضل من إعلانها ، ستراً لحالهم وحفظاً لكرامتهم ، والصدقة من أفضل الأعمال وأحبها إلى الله عز وجل؛ ودليل ذلك ما روي عن ابن عمر مرفوعاً : ( وإن أحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مؤمن، تكشف عنه كرباً، أو تقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعاً ) . والصدقة تدفع المصائب والكروب والشدائد ، وترفع البلايا والآفات والأمراض . قرأت قصة لرجلٍ كان له ابن يبلغ من العمر خمس سنوات وفي أحد الأيام مرض الطفل مرضاً شديداً ، فأخذه الأب للطبيب كي يعرف سبب  مرضه ، فقال له الطبيب بأن طفله يعاني من مرضٍ خبيث ، ولا يمكن شفاؤه ومصيره الموت المؤكد بعد فترة ، حزن الرجل حزناً شديداً ، ولكنه تذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ( داوو مرضاكم بالصدقة ) وكان الرجل يتهجد ليلا ، فلما استيقظ كعادته للتهجد والدعاء قرر أن يخرج للشارع وأن يبحث عن إنسان فقير يتصدق عليه  ولكنه لم يجد ، لكنه رأى  قطة جميلة بيضاء ترضع أولادها   وقد كانت جائعة جداً ، فرجع إلى منـزله فوراً وأحضر لها كمية من اللحم على نية الصدقة لوجه الله ، وذهب إلى المسجد ليصلي الفجر ، ولما رجع إلى بيته نام نومة رأى فيها حلماً غريباً رأى غراباً كبيراً أسود اللون ينقض على ابنه ، وهو يبكي طالباً المساعدة ، وإذا بقطة جميلة بيضاء تهجم على الغراب وتمزقه استيقظ الرجل صباحاً لا يعرف معنىً لهذا الحلم الغريب ، ولما ذهب بالطفل إلى الطبيب كي يجري له بعض الفحوص والتحاليل ، استغرب الطبيب عندما اكتشف بأن الطفل لا يشكو من أية علة . فتذكر الرجل الحلم الذي رآه والصدقة التي أنفقها سراً في ظلمات الليل ، وحمد الله على ذلك  وصدق رسول الله  صلى الله عليه وسلم عندما قال : ( صنائع المعروف تقي مصارع السوء والآفات والهلكات ) .

 

 

 

 

 

 

 

 حقيقة البر

يظن بعض الناس خطأ أن البر هو العبادة وحدها ، وهذا غير صحيح لأن البر يشمل العقيدة والعبادة والأخلاق وتنظيم العلاقات الاجتماعية ، وقد أنزل الله آية جمعت أصول البر كلها ، ذكر فيها بعض أركان الدين وهي الإيمان والإسلام ، وذكر فيها قواعد الإيمان وبعض قواعد الإسلام وهي الصلاة والزكاة وحددت صفة الصادقين المتقين قال تعالى:) ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله  واليوم الآخر والملائكة والكتابِ والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابنَ السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقامَ الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون(البقرة 177 

ليس المطلوب من العبد أن يتوجه إلى الله بجهة مخصوصة   ولكن البر المطلوب أن يعتقد بقلبه هذه الأشياء وأن يظهر على جوارحه ما يصدّق صحة اعتقادها ، وذلك كالاتصاف بالسخاء والكرم فيعطي المال على محبته له وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الصدقة افضل ؟ ( فقال أن تتصدّق وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر ) . فقوله :) آتى المال على حبه ( يعطينا إما منـزلة إخراجه من الملك وإما منـزلة إخراجه من القلب الذي يحبه ، ولذلك يعيب الله على جماعة من الناس يريدون العمل على طاعة الله ، لكنهم لا ينفقون لله إلا مما يكرهون فيقول في حقهم ) ويجعلون لله ما يكرهون ( .

ولكن لمن يكون ذلك المال الذي ينطبق عليه القول إنه لذوي القربى ، مع أن المفروض في الإنسان المؤمن أن يجعل كل الناس قرباه ، نذكر في هذا المقام قصة معاوية عندما كان أميراً للمؤمنين ودخل عليه الحاجب وهو يقول: يا أمير المؤمنين رجلٌ بالباب يدّعي أنه أخوك ، فقال معاوية : أبلغ بك الأمر ألا تعرف إخوتي ؟ أدخله ، فلما دخل الرجل قال له معاوية : أي إخوتي أنت ؟ قال أخوك من آدم ، فقال معاوية رحمٌ مقطوعة ، والله لأكونن أول من وصلها  وأكرمه . فإذا كان الإنسان لا يستطيع أن يصل قرباه من الناس كافة ، ألا يستطيع أن يصل خاصة أقاربه ؟ ولأن الحث على البر أول ما جاء فيه هو إيتاء ذوي القربى  لأن لهم مكانة خاصة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( صدقتك على المساكين صدقة وعلى ذوي القربى إثنتان صدقةٌ وصلة )   وعندما يعطي كل منا أقاربه ويحملهم على فائض ماله فلن يوجد محتاج ، وإذا وجد فسيكون قليلا تتسع له الزكاة الواجبة  

وفيها حضٌ على إعطاء اليتامى لإهمالهم ، والمساكين الذين أسكنهم الفقر في بيوتهم ، وابن السبيل المسافر الغريب أو الضيف ، والسائلين الذين يضعون أنفسهم موضع السؤال وفي الحديث ( أعط السائل ولو على فرسه ) وعنه صلى الله عليه وسلم : ( هدية الله إلى المؤمن السائلُ على بابه ) لأنك لا تعرف لماذا يسأل ، بعض الناس يبررون الشح فيقولون : إن كثيراً من السائلين هم قوم محترفون للسؤال ، نقول لهم : ما دام قد سأل انتهت المسألة ، وما دام قد عرض نفسه للسؤال فأعطه ولا تتردد ، ولن تخسر شيئا من عطائه ، فلأن تخطىء في العطاء خيرٌ من أن تصيب في المنع .

ومن أوجه البر إقامة الصلاة في أوقاتها على الوجه المطلوب شرعا وإيتاء الزكاة ، وذلك لمن أراد أن يدخل في مقام الإحسان ، وهو أن تلزم نفسك بشيء لم يفرضه الله عليك ، ولذلك عندما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم هل في المال حقٌ غير الزكاة ؟ ذكر رسول الله  صلى الله عليه وسلم هذه الآية ليس البر .. هذه أوجه البر المطلوبة ، والزكاة أيضاً مطلوبة ، وفي مصرف الزكاة لا يوجد ذوو القربى ولا اليتامى ، ففي البر هناك أشياء غير موجودة في الزكاة ، وكأن لسان الحال إذا أردت أن تفتح لنفسك باب البر مع الله فوسع دائرة الإنفاق ، وستجد أن البر قد أخذ حيزاً كبيرا من الإنفاق   لأن المنفق مستخلف عن الله ، والله هو الذي خلق الإنسان   وما دام خلقه فهو مكلفٌ بإطعامه ، فإذا أنفقت على المحتاج من خلقه ، فإنك تتودد إلى الله بمساعدة المحتاجين من خلقه دون أن يلزمك به ، ولذلك يقول الله )من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسنا فيضاعفه له أضعافاً كثيرة(البقرة 245 ، إذا كان هو الذي أعطى المال فكيف يقول أقرضني ؟ ذلك لأنه سبحانه لا يرجع فيما وهبه لك من نعمة المال ، فمالك هبة من الله ، لكن إن احتاجه أخ لك مسلم ، لا يقول لك أعطه من عندك أو أقرضه ، إنما يقول لك أقرضني أنا ، لأني خلقته ورزقه مطلوب مني ، وكأنك حين تعطيه تقرض الله ، وهذا معنى الآية فهو سبحانه متفضلٌ بالنعمة ثم يسألك أن تقرضه . ولنا عبرة وعظة من السيدة فاطمة عندما دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآها ممسكة بدرهم والدرهم يعلوه الصدأ وأخذت تجلوه ، فسألها : ما تصنعين يا فاطمة ؟ قالت أجلو درهماً قال : لماذا ؟ قالت : لأني نويت أن أتصدق به قال وما دمت تتصدقين به فلماذا تجلينه ؟ قالت : لأني أعلم أنه يقع في يد الله قبل أن يقع في يد المحتاج .

وأخيراً يتبع الله قوله عن البر كلمة التقوى ، فكل حكم يعقبه السبب من تشريعه هو التقوى ،  ومعناها أن تتقي معضلات الحياة ومشكلاتها بأن تلتزم منهج الله وتطبقه فتكون اتقيت المشكلات ، أما من يعرض عن تقوى الله   فإن الله يخبر عن مصيره بأن له معيشة ضنكا قال تعالى :

) ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ( طه 144 . وليست التقوى هي اتقاء النار كما يظن ، إنها أعم وشمل ، إنها اتقاء المشكلات التي تنشأ عن مخالفة منهج الله

 

 

الرجال الذين يحبهم الله

الرجولة وصف اتفق العقلاء على مدحه والثناء عليه، ويكفيك إن كنت مادحا أن تصف إنسانا بالرجولة ، أو أن تنفيها عنه لتبلغ الغاية في الذم . ومع أنك ترى العجب من أخلاق الناس وطباعهم ، وترى مالا يخطر لك على بال، لكنك لا ترى أبدا من يرضى بأن تنفى عنه الرجولة .

لنا اليوم وقفة مع الرجال الذين يحبهم الله  وهل لهم صفات معينة ؟ أم أن الذكورة في الرجال تكفي لأن يقف الإنسان موقفاً مشرفاً ؟ ولكن ليس كل ذكر رجل ، لان الذكورية تخصيص نوع ، والمرجلة تخصيص أفعال ،  وهناك فرق بين الرجولية والذكورة قال تعالى : } مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً { الأحزاب 23. و هنا تبين الآية أن هناك رجالاً  وليس كل المؤمنين، لأن من هنا للتبعيض وقد حددت الآية صفات للرجال ، ولم تقل الآية من المؤمنين ذكور، وليس كل ذكر رجلاً، وليس كل المؤمنين رجالاً، ولا كل أصحاب العضلات المفتولة رجالاً، فوصف الرجال في القرآن منح لصنف معين من الناس ، وهم الذين صدقوا ولم يغيروا ولم يبدلوا، ولم يهادنوا ولم يداهنوا ولم ينافقوا، ولم يتنازلوا عن حكم  من الأحكام الشرعية قال تعالى : } رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ { النور 37 . فالالتزام بشرع الله هو للرجال بالنسبه لنا كمسلمين  قال تعالى :  } وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ { يس 20.

 وقال تعالى : } وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَامُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ { القصص 20 . فالنصح للرجال قال تعالى : } وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ { غافر 28 . هذا الرجل الذي لم يخشَ فرعون تمثلت فيه الرجولية الحقة ، هؤلاء الرجال الذين ذكرهم الله سبحانه وتعالى في الآيات لهم صفات معينة ، هذه الصفات هي مقومات الرجولة ، وجاء في الأحاديث الشريفة : ( ورجل تصدق بصدقة فأخفاها، ورجل ذكر الله خالياً، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، ورجلان تحابا في الله ) هذه هي الرجولية الحقيقية التي تحمل هذه الصفات ، وقد ورد عن سيدنا علي أنه قال: " أحمد ربي على خصال خص بها سادة الرجال: لزوم صبر، وترك كبر، وصون عرض، وبذل مال " فالرجولية الحقيقية الصحيحة عند المسلمين هي الالتزام بالشرع الإسلامي، وانعدام الرجولية تعني ضعف الإيمان .

وفي الآية الكريمة: } أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ {الشعراء 165 .  فلم يقل الرجال؛ لأن الرجال لا تفعل مثل هذه الأفعال، فالآية تبين هنا الفعل ، فهؤلاء أشباه الرجال وليسوا رجالاً، هم ذكور وهي صفة خَلقية ، وعندما سمعت تلك المرأة حديث قومها والذين لم يقفوا الموقف الصحيح ، فخرجت إليهم فعابوا عليها خروجها فقالت :

ما كانت الحسناء لترفع سترها   لو أن في هذي الجموع رجالا

وقال الشاعر:

فكم من رجل يعد بألف رجل    وكم من ألف تمر بلا عداد

فموقف هذه المرأة موقف رجال

والرجال هم أصحاب المبادئ الملتزمين بها، أصحاب القناعات والمفاهيم الصحيحة ، هم الذين جاء وصفهم بالآيات ، فإذا وجدت هذه الصفات فيك ، فأنت رجل وإلا فأنت ذكر فقط   فأصحاب المصالح الشخصية والمواقف المخزية ليسوا رجالاً  فكثرة الأموال وكبر الحجم وطول الشنب لا وزن له في مقياس الرجولية ، وفي الحديث الشريف: ( يأتي الرجل السمين العظيم   عند الله لا يزن جناح بعوضة ) .   

وعند الحديث عن المواقف في وقتنا الحالي، فإن الانسان يشعر بالمرارة والأسى من الفرق الكبير بيننا وبين أسلافنا من اختلاف في المواقف . صحيح أن الأمة لا تخلو من بذرة الخير ، ولا من المواقف البطولية ، ولكنها قليلة إذا قورنت بمن سبقنا في الدعوة إلى الله ، فالأمر محرج أن نبقى نتغنى بالأمجاد ونفتخر بها ، لقد أصابنا الوهن وأصبحنا غثاء كغثاء السيل ، لا قيمة لنا سوى أننا حطب لنيران يشعلها أعداؤنا، إنهم يصولون ويجولون في أرض الإسلام ، ولا يجدون من يمنعهم ويقف أمامهم ، فانتعش الظالمون وتعطلت أحكام الشرع ، والتاريخ سوف يكتب ويسجل ويربط الأحداث بالأشخاص تبعاً لمواقفهم ، فإذا عرف الموقف عرف الرجل ، ولقد صنعت الأمة الإسلامية تاريخها بيدها، فسطرت أروع الصور ، وسجلت أفضل المواقف  وشهد على ذلك العدو قبل الصديق، فكانوا إذا ذكرت الحادثة ذكر الشخص ، وإذا ذكر الشخص ذكرت الحادثة؛ لأنهم وقفوا مواقف رجولية ، خوفاٍ من ربهم والتزاماً بدينهم لا يخافون في الله لومة لائم ، كانوا يقولون الحق مهما كانت النتائج ، فلا يقفون على الحياد ، لأن الساكت عن الحق شيطان أخرس ، فهذا عمر بن الخطاب ارتبط اسمه بفتح بيت المقدس والعهدة العمرية ، إذا ذكر هذا الحدث العظيم ذكر عمر، وهذا خالد بن الوليد وأبو عبيدة ، يذكِّرانا بفتح الشام والقضاء على الروم ، وهذا محمد الفاتح ارتبط اسمه بالقسطنطينية ، وهذا موسى بن نصير وطارق بن زياد ، ارتبط اسمهما بفتح الأندلس وهذا صلاح الدين ، ارتبط اسمه بتحرير القدس ودحر الصليبيين   وهذا المعتصم يذكِّرنا بوامعتصماه، وهذا العز بن عبد السلام ارتبط اسمه بمحاسبة الحكام وبلقب بائع الملوك، وإذا ذكر هؤلاء لا تذكر أموالهم ولا أولادهم ولا تجارتهم، وإنما يذكرون بمواقفهم البطولية التي خلدت أسماءهم .

وهذا خيلفة المسلمين السلطان عبد الحميد قد وصل الى سمعه أن مؤلفًا غربيًا ألف رواية يطعن فيها برسول الله r على زواجه من زينب بنت جحش ، بعد أن طلقها زيد بن حارثة,كما وتعرض المؤلف لبعض الصحابة وعزمه على عرضها في أحد المسارح الفرنسية فأرسل رسالة احتجاج على عرضها للحكومة الفرنسية فامتنعت عن عرضها ,وانتقل المؤلف إلى بريطانيا وسمحت له بعرضها ولم تأخذ برسالة الاحتجاج لفرنسا وقالت إن بريطانيا ليست فرنسا ، وأنها تحترم حرية الرأي وبيعت التذاكر...فماذا تتوقعون أن فعل السلطان  _رحمه الله_ إزاء هذه الفعلة النكرة لحكومة بريطانيا ، هل شجب واستنكر ؟وهل استجدى واستعطف دول الغرب ...لا والله ، لقد بعث برسالة إلى حكومة بريطانيا مهددًا بإعلان الجهاد , فما كان من الحكومة البريطانية إلا أن أوقفت العرض  علينا أن نحرص على أن نقف الموقف الصحيحة ؛ لأن الرجل موقف كما قيل ، فقد يكون الموقف كلمة حق تقال ، أو عملاً جليلاً يقوم به الإنسان يخلد اسمه ، ويصبح مثلاً يحتذى به وسنة حسنة إلى يوم القيامة .  

وهذا يتطلب من المسلم أن يكون عالماً بدينه واعياً سياسياً وعلى دراية بما يجري حوله من أحداث ، وأن يعلم أن صراعنا مع غيرنا هو صراع حضاري عقائدي ، وأن ملة الكفر واحدة  وأن يعلم أن أمة الإسلام ليس مكتوباً عليها أن تظل تحت نير الاحتلال إلى الأبد ؛ وأن يبادر للتضحية والبذل والعطاء لخدمة دينه وأمته ، فنحن بحاجة إلى جيل قادر على الوقوف مواقف تخلد أسماءهم ، ووضع آليات لإعداد الرجال إعداداً طبيعياً من خلال التزامنا بديننا ، فالذي يسمع قول رسول الله  صلى الله عليه وسلم : (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ) وقوله صلى الله عليه وسلم : ( ومن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم ) .  فالذي يفهم ذلك ويطبقه وتكون هجرته لله ويعلم أن الرزق بيد الله ، ويخشى الله ولا يخشى الناس ، ويتحمل مسؤوليته ، يكون ممن  وقف مواقف الرجال ، وقديماً قيل "إنما الرجال مواقف" هذا مثل عربي ينم عن مدى إحترام العربي لرجولته وذلك من خلال المواقف التي يتخذها إزاء أمور تحدث معه في حياته, وكما يدل على أن الرجل_وليس الذكر_ يُعرف من مواقفه وليس من موقعه أو شكله أو هندامه ، فليست الرجولية بقصر الثوب ولا بكثافة الشعر ، ولكنها بتطبيق المنهج ، وما علم من يتشبه بالنبي  صلى الله عليه وسلم في ظاهره فقط ، بأنه مصدرًا من مصادر الصد عن سبيل الله ، لأنه لابد من التشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم ظاهرًا وباطنًا، وسيرة وسريرة ، وهم يجهلون أن أفعاله  صلى الله عليه وسلم الجارية على وفق العادات  كلباسه وطول شعره ونحو ذلك ، هذه الأفعال لا يقال إن متابعته  صلى الله عليه وسلم فيها سنة ، لأنه لم يقصد بفعلها التشريع ولم يتعبد بها ، وموافقته صلى الله عليه وسلم  في هذه الأفعال بنية التأسي به يثاب عليها فاعلها ، ولا يعاقب تاركها . ثم إن الرجولة مضمون قبل أن تكون مظهرًا ، فابحث عن الجوهر ودع عنك المظهر؛ فإن أكثر الناس تأسرهم المظاهر ويسحرهم بريقها ، فمن يُجلّونه ويقدرونه ليس بالضرورة أهلا للإجلال والتوقير، ومن يحتقرونه ويزدرونه قد يكون من أولياء الله وعباده الصالحين ، وقد ثبت عن سهل بن سعد رضي الله عنه أنه قال : مر رجل على رسول الله  صلى الله عليه وسلم  فقال: (ما تقولون في هذا؟) قالوا : حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع، وإن قال أن يسمع . قال: ثم سكت، فمر رجل من فقراء المسلمين، فقال: (ما تقولون في هذا؟) قالوا: حري إن خطب أن لا ينكح، وإن شفع أن لا يشفع ، وإن قال أن لا يسمع . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (هذا خير من ملء الأرض مثل هذا ) رواه البخاري . وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره ) رواه مسلم . فلا يغرّك من الرجل ما يفعل من صلاة وصوم وصدقة ، إنما الرجل الذي يراعي شيئين : حفظ الحدود وإخلاص العمل ، فكم رأينا متعبداٍ يخرق الحدود بالغيبة والنميمة ، وفعل ما لا يجوز مما يوافق هواه ، فالرجل هو الذي يراعي حدود الله ، فيكون عمله وقوله خالصاً لله ، لا يريد به الخلق ولا تعظيمهم له ، فرب خاشع ليقال ناسك ، وتارك للدنيا ليقال زاهد ، ولقد كانت الرجولة إرثا يتوارثه الناس لا تعدو أن تكون بحاجة إلا إلى مجرد التهذيب والتوجيه ، أما اليوم فقد أفسدت المدنية الناس، وقضت على معالم الرجولة في حياتهم ، فنشكو إلى الله زمانا صرنا فيه بحاجة إلى التذكير بالشيم والمكارم وأخلاق الرجال ، الذين وجدوا لذة العيش مع الله والأنس في قربه ، والأمن في إتباعه ، والنجاة في امتثال أمره  والغنى في الاقتداء به ، فاستجابوا لله ورسوله ، تلبية لقوله تعالى : } استجيبوا لله وللرسول { .

 

 

الرجولة الحقيقية

ليس كل الذكور رجالاً ، ولا كل المؤمنين رجالاً  وبالرغم من كثرة المسلمين في هذا الزمان فإن أكبر أزمة تعانيها الأمة الآن - بعد أزمة الإيمان - هي أزمة رجولة وقلة رجال ، والرجولة وصف لم يمنحه الحق تبارك وتعالى إلى كل الذكور، ولم يخص به إلا نوعًا معينًا من المؤمنين لقد منحه لمن صدق منهم العهد معه ، فلم يغير ولم يبدل   ولم يهادن ، ولم يداهن ، ولم ينافق ، ولم يتنازل عن دينه ومبادئه ، وقدم روحه شهيدًا في سبيل الله ، نفهم هذا من قول الله عز وجل: ] مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً [ الأحزاب 23 . فقد بين سبحانه صفات الرجولة بعد أن أكد أنه من المؤمنين رجال وليس كل المؤمنين رجالاً.

فالرجولة وقوف في وجه الباطل، وصدع بكلمة الحق  ودعوة مخلصة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، واستعلاء على الكافرين، وشدة على المنحرفين ، وابتعاد عن النفاق والتملق واستعداد للتضحية بالغالي والنفيس من أجل نصرة الحق وإزالة المنكر وتغييره ، وهذا يفهم من موقف مؤمن آل فرعون الذي كان يكتم إيمانه ، لكنه لم يستطع السكوت عندما علم بعزم فرعون على قتل نبي الله موسى - عليه السلام -وقرر الوقوف في وجه الظلم ، ومناصرة الحق ، ولم يخش على حياته التي توقع أن يدفعها ثمنًا لموقفه ، ولم يخش على منصبه الكبير عند فرعون ، فنهاه عن قتل موسى - عليه السلام -  وتوجه إلى موسى وأخبره بما يخطط له فرعون  ونصحه بالخروج من مصر  فاستحق هذا المؤمن وصف الله له بالرجولة فقال سبحانه: ] وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ [ غافر 28 .  وأكد على وصفه بالرجولة في موضع آخر فقال تعالى: ] وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ [ القصص20. كما يفهم من موقف الرجل الصالح (حبيب النجار) الذي سمع أن قومه قد كذبوا المرسلين ، وهموا بقتلهم جميعً  فلم يسكت عن هذا المنكر والظلم الذي سيقع على المرسلين   وقرر نصرتهم ، فجاء مسرعًا من أقصى المدينة، ودعاهم إلى الحق، ونهاهم عن المنكر.

وقد فعل هذا وهو يعلم أن موقفه سيكلفه حياته، فحقق صفة الرجولة  واستحقها من الله تعالى، إذ قال سبحانه : ] وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ [ يس20. ودفع هذا المؤمن الرجل ثمن موقفه كما توقع ، فقتلوه ، وقد استحق بسبب رجولته وغضبته لله أن يغضب الله له وينتقم من أعدائه ويدمرهم: ] وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ إِنْ كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ [ يـس 28 . والرجولة ثبات على الحق ، ومحافظة على العبودية لله ، وصمود أمام مغريات الدنيا وشهواتها، وكل ما يلهي عن ذكر الله تعالى وطاعته والتقرب إليه ، وفي هذا النوع من الرجال يقول الله تعالى :] رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ [ النور37.

والرجولة القوامة على النساء ، ومن لا يملك هذه القوامة  ويرضى بأن تكون المرأة قوامة عليه حاكمة له  ، ويدعها تفعل ما تمليه عليها أهواؤها فهو لا يستحق وصف الرجولة، وإنما وصف الذكورة فقط ، لأن الحق جل وعلا أكد أن الذي يملك القوامة هم أصحاب الرجولة حيث قال:  ] الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ [ النساء 34.

والرجولة تحريض على الجهاد، وتشجيع على مواجهة الباطل، وابتعاد عن التثبيط والتعويق للصف المؤمن - ولو بالكلمة - نفهم هذا من قصة موسى عليه السلام عندما بعث نفرًا من قومه لاستطلاع أحوال الجبابرة قبل خوض القتال معهم ، فرجعوا يروون لبني إسرائيل ما رأوه من قوتهم فأخافوهم ، بينما كتم اثنان منهم أخبار قوة الجبابرة، ولم يخبرا إلا موسى - عليه السلام - وأخذا يشجعان قومهما على الجهاد في سبيل الله ، وقد استحق هذان المؤمنان على موقفهما هذا صفة الرجولة من الله تعالى الذي قال: ] قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ [  المائدة 23.

وعند التأمل في واقع المسلمين اليوم على ضوء مفهوم الرجولة في القرآن الكريم ، يتبين لنا أن الأمة تعاني فعلاً من أزمة رجولة؛ فالسكوت عن المقدسات التي تدنس   والدماء التي تنزف ، والكرامات التي تمتهن والأعراض التي تنتهك، والأرضي التي تحتل، والثروات التي تسرق، ناتج عن انعدام الرجولة أو ضعفها ، فضلاً عن ضعف الإيمان, لأن الرجل الحقيقي لا يستطيع أن يلتزم الصمت وهو يرى ما يحل بالمسلمين ، لقد كان العرب في الجاهلية رجالاً بالرغم من كفرهم ، فتجدهم يموتون دفاعًا عن أعراضهم وكرامتهم وشرفهم وأموالهم ، وقديمًا قال أحد شعرائهم زهير بن أبي سلمى:

ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه  يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم

وقال عنترة بن شداد:

لا تسقني ماء الحياة بذلة   بل فاسقني بالعز كأس الحنظل

 والرجال هم الذين وهبوا النقص للفضل، والإساءة للإحسان ، فصفت سرائرهم، ونصعت سيرهم، وسلمت صدورهم ، كان يقال لأحدهم: إن فلانا من الناس يقع فيك فيقول:  ] وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ[ وكان يقال له  وقد ظُلم وبُهِت وسُبَّ وشتم : ألا تدعو على من ظلمك وسبك وشتمك؟ فيقول: من دعا على ظالمه فقد انتصر، إن رسول الله  صلى الله عليه وسلم يقول:( اصبروا حتى تلقوني على الحوض ) ، يُسبُّ أحدهم ويشتم بما ليس فيه فيقول : إن كنت صادقًا فغفر الله لي، وإن كنت كاذبًا فغفر الله لك ، ويقال للثالث: إن فلانًا يقع فيك ويقول فيك كذا وكذا، ويذكرك بسوء، فيقول: رجل صالح ابتلي فينا فماذا نعمل؟ من تعدى حدود الله فينا لم نتعد حدود الله فيه، العفو أفضل ، ما ينفعك إن يعذب أخوك المسلم بسببك؟ لكن تعفو وتصفح وتغفر فيغفر الله لك  فمكانة المؤمن أعز من أن يتساوى في الظاهر مع ظالمه بل يرى أن من الدين والمروءة أن يدعى إلى أن يشمخ ويترفع على من يبدي الإسفاف ، أو يتخذ أخاه هدفًا يجمع الجموع ليرجموه معه ، فيجرح ويعدل ويشي .

وليس مَلامِي عَلَى مَنْ وشَى   ولكنْ ملامي عَلَى مَنْ وَعَى

اللوم على من يمنح الآذان الصاغية للوشاة ، فليس من  الدين أن يسود عرف التفاضح، وتسترخى أيدي التصافح ، وليس من الدين أن تنال لقبًا بتجريح إخوانك إنما الدين أن تحب لغيرك ما تحبه لنفسك ، فلا حقد ولا حسد لخلق الله ، ولم لا نكن كسلفنا الذين كانوا   يعلِّمون الجاهل، ويُنبِّهون الغافل .

فهذا أبو الدرداء يمر بجماعة تجمهروا على رجل يضربونه ويشتمونه، فقال لهم : ما الخبر؟ قالوا: وقع في ذنب كبير، قال: أرأيتم لو وقع في بئر أفلم تكونوا تستخرجونه منه؟ قالوا: بلى، قال: فلا تسبوه ولا تضربوه، لكن عِظُوه وبصِّروه، واحمدوا الله الذي عافاكم من الوقوع في مثل ذنبه، قالوا: أفلا تبغضه؟ قال: إنما أبغض فعله، فإذا تركه فهو أخي، فأخذ الرجل ينتحب ويعلن توبته وأوبته ليكون في ميزان أبي الدرداء يوم يقف بين يدي الله ] وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ [ إنها الرجولة الحقيقية بمعناها العميق العظيم والتي يتصف بها المؤمنون وهي : إيقاظ القلب وتحريك الجوارح ، لإعلاء دين الله رغم أنوف الكافرين والمنافقين والجاحدين والمعاندين من أجل كلمة الحق ، من أجل (الله أكبر)، من أجل (لا إله إلا الله) ، هذه هي الرجولة التي يجب أن نتربى عليها وأن نتعلمها من صحابة رسول الله  صلى الله عليه وسلم الذين اجتمعوا يومًا من الأيام فقال عمررضى الله عنه: تمنوا ، فقال عثمان رضى الله عنه: أتمنى لو أن لي مثل هذه الدار مملوءة ذهبًا ولؤلؤا وزبرجدًا وجوهرًا أنفقه في سبيل الله وأتصدق به.

وأما علي رضي الله عنه فقال: أتمنى أن أضرب بالسيف  والصوم بالصيف، وإكرام الضيف.

وأما خالد رضى الله عنه فقال : أتمنى ليلة شديدة البرد  كثيرة الجليد يصبِّح منها العدو ليجاهد في سبيل الله .

وأما عمر رضي الله عنه فيقول: أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة برجال مثل أبي عبيدة أستعملهم في طاعة الله   يتمنى عمر هذه الأمنية في وقت امتلأت فيه الساحة الإسلامية برجال عز نظيرهم، وقل مثيلهم

فكم نحن بحاجة إلى أمين كأبي عبيدة بعد أن استشرت الخيانة ، كم هي حاجتنا ماسة إلى رجل كأبي عبيدة يرفع لواء الجهاد بعد أن استنوق الجمل، وعاثت في الأرض الغربان ، واستنسر في سماء الأمة بغاث الطير ، كم نحن بحاجة لأمين كأبي عبيدة في غيبة الأمناء، حتى صارت الأمة أضيع من الأيتام على مأدبة اللئام ، تداعت علينا الأمم، وتداعى الأكلة على قصعتها، لا من قلة والله ولكن غثاء كغثاء السيل، أحببنا الدنيا، وكرهنا الموت، فكان ما كان ، أن يُذهب الله تبارك وتعالى النصر والعز والتمكين ويورث الأمة الذل والخسارة والضياع ، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم :( إذا تركتم الجهاد وتبايعتم بالعينة وأخذتم بأذناب البقر، سلط الله عليكم ذلاً لا يرفعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم ) وهذا هو الوهن الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم وهو حب الدنيا وكراهية الموت .

 

بين قساوة القلوب وقوتها

 إن الاهتمام بإصلاح القلب من أهم ما يجب أن يعتني به المسلم ، خاصة في أيامنا التي كثرت فيها أسباب القسوة والغفلة ، فلم يبق للعبد إلا توفيق الله تعالى إلى العمل بأسباب صلاح القلوب واستقامتها، وقد كان المسلمون من قبل يعتنون بذلك عناية بالغة، ويخافون من أن تقسو قلوبهم ، فتجترئ على المعاصي، وتهلك مع من هلك! وشتان بين القلب القاسي والقلب اللين لأن القلب القاسي مصدره التطرف والاستكبار والغرور ، والثاني  مصدره الاعتدال والتواضع واللين ، الأول : غير قابل للمراجعة والتراجع ، المؤدي إلى الفرقة والجهل والتخلف والضعف ، والثاني : قابل للمراجعة والتراجع المؤدي إلى الإيمان ، الأول: خزي وندامة في الدنيا والآخرة ، لأنه نقمة ولعنة من الله على من سخط من عباده والثاني: علو وسعادة في الدنيا والآخرة لأنه نعمة ورحمة من الله .

 وقد أوضح القرآن الكريم الفارق الكبير بن قسوة القلب وقوته ، فقد وصف الله تعالى الذين لم يؤمنوا بأنبيائه ورسله بالقسوة قال تعالى ] ويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله [ الزمر 22. ويل ، عذاب ونكال لقلوب قست عن ذكر الله ، بينما النعيم والرحمة والسعادة والفوز لقلوب انكسرت وخشعت لله .

ومن أبعد القلوب عن الله القلب القاسي ، ومن أعظم أسباب القسوة : الركون إلى الدنيا والغرور بأهلها  وكثرة الاشتغال بفضول أحاديثها، فإذا اشتغل العبد بالفتن الزائلة والمحن الحائلة، سرعان ما يقسو قلبه . كما يقسو القلب من أربعة أشياء إذا جاوزت قدر الحاجة : الأكل والنوم والكلام والمخالطة ، ومنها الجلوس مع الفساق ومن لا خير في معاشرتهم ، لذلك ينبغي للإنسان إذا عاشر الأشرار أن يعاشرهم بحذر .  

وبما أن القلب منبع اليقين ومصب الإيمان ،  وبما أن الإيمان في القلب ، والقسوة في القلب ، فإن القلب إذا قسا خرج منه الإيمان ، وبالتالي تخرج منه الرحمة   فيرتكب المعاصي والمخالفات ، لذا جاء في الحديث لا ( يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ) .

وفرق بين القلوب القاسية  والقلوب القوية ، نفهم  ذلك من  الآية التي وصف الله من خلالها القلب القوي الذي وهبه لمحمد  صلى الله عليه وسلم  حيث يقول تعالى : ] فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك [ آل عمران 159. فصاحب القلب القوي هو الذي   يستطيع أن يتغلب على نفسه التي جبلت على حب امتلاك كل شيء بأية وسيلة ، ولن يتمكن القلب القوي من التغلب على الذات ، إلا إذا كان قلبا لينا لا قاسيا لأن القلب اللين وحده فقط القابل للمراجعة والتراجع من الخطأ إلى الصواب ، ومن الباطل إلى الحق ، ومن الظلم إلى العدل ، وأصحاب هذه القلوب ، أكثر الناس دفئاً بعقيدتهم ، وأخلصهم في العمل من أجلها ، و أشدهم التزاماً بأوامرها و نواهيها ،  وهم في الغالب مواظبون على مستحباتها ، بعيدون عن مكروهاتها ، يبحثون عن ثواب الله ورضاه ، كما يتميزون بالوقار و الهدوء والأمانة والخلق الكريم ، البسمة على محياهم ( فالمؤمن هشٌ بش )  والطيب سمة قلوبهم والعفو والصفح  والتجاوز عن أخطاء الآخرين ديدنهم ، وقد نفى الله  صفة الغل عن قلوبهم فقال تعالى : ] ونزعنا ما صدورهم من غل [ الأعرا ف  43 . بخلاف أصحاب القلوب المريضة التي أتعبها النفاق ، وأتعبها التنافر مع من حولها ، والوقوع في المعاصي ،  قال أنس بن مالك للإمام الشافعي:" إن الله عز وجل ألقى على قلبك نوراً فلا تطفئه بالمعاصي" لأن كثرة الذنوب والمعاصي ، عندما تتغلب على قلب الإنسان  وتحيط به يصاب بالران ، والذنوب إذا تكاثرت طبع على قلب صاحبها ، وكان من الغافلين ، وأصل هذا أن القلب يصدأ من المعصية ، وفي الحديث ( إن القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد وجلاؤها كثرة تلاوة كتاب الله تعالى وكثرة الذكر لله عز وجل ) رواه ابن شاهين في الترغيب  

وقال  صلى الله عليه وسلم : ( إن العبد إذا أذنب ذنبًا كانت نكتة سوداء في قلبه فإن هو تاب ونزع صقل قلبه فإن عاد عادت حتى يسود قلبه فذلك الران الذي قال الله عنه: ]كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [ المطففين 14 أخرجه النسائي والترمذي وقال حديث حسن صحيح.

ويستفاد مما تقدم أن ذكر الموت يجلو القلب ففي الحديث ( أكثروا ذكر هاذم اللذات الموت فإنه ما ذكر في قليل إلا كثّره ولا في كثير إلا قلله) رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه والحاكم وابن حبان والبيهقي ، فالغني إذا ذكر الموت زهد في ماله والفقير إذا ذكر الموت قنع بما رزقه الله , ومما يجلو القلب تلاوة القرآن الكريم المشتمل على الوعد والوعيد والترغيب والترهيب والقصص والأمثال والعظات والتبشير والإنذار, وكذلك التوبة إلى الله والاستغفار وطلب المغفرة من الله في جميع الأوقات من جميع الذنوب والسيئات ، وكذلك الاكثار من ذكر الله تعالى ] أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [ الرعد 28 . والدعاء بقولك يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ويا مصرَّف القلوب صرَّف قلوبنا إلى طاعتك وطاعة رسولك . والقرآن فيه شفاء للقلوب لقوله تعالى ] وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين [ الإسراء 82 . فالقرآن الكريم كله شفاء من داء الجهل والشك والريب، ولم ينزل الله تعالي دواء أعظم وأنفع وأنجح منه لشفاء القلوب ، كما أنه  عز وجل هو الذي يشفي صدور المؤمنين بنصرهم ومؤازرتهم وهزيمة أعدائهم قال تعالى: ] ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين [ التوبة 14.

أما كيف ترق القلوب ؟ إن رقة القلوب وخشوعها وانكسارها لخالقها وبارئها منحة من الرحمن تستوجب العفو والغفران ، وتكون حصنا حصينا من الغي والعصيان فما رق قلب لله عز وجل إلا كان صاحبه سابقا إلى الخيرات ، أحرص ما يكون على الطاعات ، فما ذُكّر إلا تذكر، ولا بُصّر إلا تبصر ، فحياة القلوب مادة كل خير

 وسعادة ، وموتها مادة كل شرٍّ وشقاء ، لأن القلب هو ملك الأعضاء ومصدر سعادتها أو شقائها ، ومصدر صلاحها أو فسادها ، مصداقاً لقول رسول الله  صلى الله عليه وسلم : ( ألا وإن في الجسد مضغةً إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب ) ففي هذا الحديث دليل على أن صلاح أعمال العبد بحسب صلاح قلبه ، وأن فساد أعمال العبد بحسب فساد قلبه  فالقلب الصالح هو القلب السليم الذي لا ينفع عند الله غيره قال تعالى: ] يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سليم [  وقال عبد الله ابن مسعود : " أتدرون من ميت القلب ، إنه الذي قيل فيه :                                                           ليس من مات فاستراح بميت    إنما الميت ميت الأحياء

قالوا ومن هو ؟ قال : الذي لا يعرف  معروفاً ولا ينكر منكراً " .

أما القلب المريض : فهو الذي الذي بين داعيين داع يدعوه إلى الله ورسوله وداع يدعوه إلى المعاصي والذنوب   

رأيت الذنوب تميت القلوب    وقد يروض الذل إدمانها

وترك الذنوب حياة القلوب    وخيرٌ لنفسك عصيانها

 فشفاء القلب المريض بالتوبة ، وأنفع الأغذية له غذاء الإيمان ، وأنفع الأدوية له دواء القرآن ، قال بعض العلماء : دواء القلب خمسة أشياء: قراءة القرآن بالتدبر , وخلاء البطن ، وقيام الليل, والتضرع بالأسحار, ومجالسة الصالحين وقد انشدوا :

دواء القلب خمس عند قسوته   فدم عليها تفز بالخير والظفر

خلاء بطن  وقرآن تدبره      كذا تضرع لله ساعة السحر

كذا قيامك جنح الليل أوسطه  وأن تجالس أهل الخير والخبر

أخي المسلم ! إنه لاشفاء لأمراض القلوب إلا بالدواء الذي أنزله الله في كتابه وسنة نبيه قال تعالى : ] يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ [ وقال تعالى: ] وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [ وقال : ] قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ [  فأقبلوا على كتاب الله وسنة رسوله لتداووا قلوبكم ،  ففيهما الشفاء والرحمة وفيهما النور والهداية ، وفيهما الروح والحياة ، وفيهما العصمة من الشيطان ووساوسه ، وليأخذ كل منا بنفسه فيبعدها عن مواطن الفتن ويقطع عنها وسائل الشر ، وأبعدوا أولادكم وبيوتكم عن وسائل الشر ودواعي الفساد ، إن كنتم تريدون الشفاء لقلوبكم والخير لمجتمعكم ، وأكثروا من هذا الدعاء الذي كان يدعو به النبي  صلى الله عليه وسلم : ( يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك ) ومن علامات صحة القلب العمل للدنيا والآخرة ، لحديث عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل وعدّ نفسك من أهل القبور )  أسأل الله أن يثبت قلوبنا وأن ينوِّر بصائرنا  . 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

النهي عن الغلو والتشدد

الغلو أو المغالاة هو الزيادة والمبالغة ، والمغالاة في التدين : هو التشدد والتصلب في مجاوزة الحد المطلوب والمقدر شرعا ، فالله تعالى أنزل الدين وحدد فيه الوسائل والغايات ، وتعبد الناس بالوسائل كما تعبدهم بالغايات  وبين لهم طريق العبادة وكيفية الأداء ، ومنهج السلوك في التعامل والتشريع ، ونصت الشريعة على أن أفضل وسيلة لعبادة الله تعالى هي الكيفية التي أمر الله تعالى بها  وشرعها لعباده لتحقيق مصالحهم في الدنيا والآخرة  والخروج عن هذه الكيفية انحراف عن الدين ، والمغالاة في التدين حياد عن جادة الصواب ، ومجاوزة للحد الذي قدره الشارع الحكيم ،  وقد جاء في النهي عن التشدد والغلو والتنطع في قوله  صلى الله عليه وسلم : ( هلكالمتنطعون ) وهم الذين يتمسكون بالشكليات والجزئيات والمسائل الخلافية ، ويثيرون الجدل حولها وينشروها على الناس ويهيمونهم أنها أساس الدين، وقد جاء النهي عن عدم الغلو في الدين فقال  صلى الله عليه وسلم  :  ( إياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من قبلكم بالغلو في الدين )  ليس في الإسلام كما أنزله الله تعالى نصّ واحد من النصوص يمكن الاعتماد عليه لتبرير شكل من أشكال التشدّد والغلوّ ، والتنطّع والتطرّف في الفكر أو التطبيق في العبادات أو المعاملات، أو في مختلف ضروب التعبير. وعلى النقيض من ذلك نجد في الإسلام كما أنزله الله تعالى عشرات النصوص التي تنهى عن التشدّد والغلوّ والتنطّع والتطرّف، وتدعو إلى التيسير والتبشير والتسامح والاعتدال والوسطية.
لقد وصل الانحراف عن الإسلام المعتدل عند المتشدّدين والمتنطّعين إلى درجة انغلقت معها الأفهام عن استيعاب ما يوجد من نصوص معروفة على عدم صحّة ما يصنعون  فاليسر والتيسير في العبادات مفروض، وفي المعاملات مفروض، وفي التفكير والحوار مفروض، وحتى في المواجهة والقتال مفروض، بل هو في المقدّمة –روحا ونصا- من القواعد التشريعية الأصولية ، التي تعتبر مناط الاجتهادات ومعيارا لصحّتها أو بطلانها واستقرارها أو شذوذها، فأين نضع سلوك من يجعلون بزعمهم الإسلام "الأصحّ أو الأفضل" هو ذاك الذي يُبتكر له من الأحكام والتوجيهات ما يتجاوز ما قرّره، ويخالف قواعده الأصولية التشريعية  .  

ليس التشدّد الذي أعني أن يختار إنسانٌ لنفسه الاستزادة من العبادات مثلا، أو أن يختار لنفسه التزام مباح من المباحات ، ولكنّ المقصود أن يجد فيما يراه هو لنفسه نهجا يطالب به الآخرين، ويمضي بذلك درجة أبعد فيعتبره هو  الإسلام الحق  الملزم للمسلمين، وأنّ ما سواه "باطل ، ومن يشدّد على نفسه في مباح أو مفروض فأمره إلى الله، وقد يكون شأنه في ذلك –على صعيد العبادات مثلا- كشأن الصحابي الذي ألحّ على رسول الله   صلى الله عليه وسلم  بكلامه عن صيام يتجاوز الفريضة والمندوب، حتى  أجاز  له الرسول صلى الله عليه وسلم أن يلزم نفسه بصيام داوود، فيصوم يوما ويفطر يوما، ففعل ثمّ ندم على فعلته عند شيخوخته. أو كشأن الصحابة الذي رأوا ألا يأخذوا برخصة الإفطار في السفر، فذهب المفطرون بأجر الصائمين حين أخذ منهم التعب مأخذه فعجزوا عن العمل.
إنّ هؤلاء لم يضعهم الإسلام في موضع القدوة والأسوة  أمّا أن يختار المسلم أحكاما يعتبرها ملزمة لعامّة المسلمين رافضا أن يأخذ سواه من المسلمين بما قال به علماء كثيرون آخرون، فذاك ما لا يتّفق مع منهج الإسلام  مهما مضى المتشدّدون في التأويل، وإن رأوا ما رأوه فليكن لأنفسهم، وليس لإلزام سواهم به  إنّ الإسلام الذي يحظر تحليل حرام بيّن، هو الإسلام الذي يحظر تحريم حلال بيّن، سواء بسواء ، وإنّ الذي يفتري على الله الكذب فيقول: هذا حلال، عن المحرّمات كالذي يفتري على الله الكذب فيقول: هذا حرام عمّا أحلّ الله، مع تثبيت أنّ الأصل هو الإباحة، وأنّ من يحرّم اجتهادا عليه هو أن يأتي بدليل قطعي على التحريم، كيلا يسري عليه ما نعاه الله تعالى على من ] حرّم زينة الله التي أحلّ لعباده [ فقد حرّموا على أنفسهم ما أحلّ الله لهم   فلم يكن التشدّد والتنطّع ولن يكون هو الإسلام، ولن يكون أحد بعد رسول الله  صلى الله عليه وسلم  أشدّ حرصا منه على الإسلام والمسلمين، ومن ظنّ ذلك، فهو يزايد على خاتم النبيّين فكرا أو قولا أو عملا، ويسري عليه ما قاله   صلى الله عليه وسلم : ( فمن رغب عن سنتي فليس منّي ) وسنّته  صلى الله عليه وسلم ، هي الإسلام الذي يبشّر ولا ينفّر، وييسّر ولا يعسّر.
ولم يكن التشدّد والتنطّع ولن يكون سبيلا أصلح لنشر الدعوة إلى الإسلام وتمكينه في الحياة ، فمسلك الإسلام الأصح هو الذي يقول: لا حرج في الدين، إنّ مع العسر يسرا، بشّروا ولا تنفّروا، يسّروا ولا تعسّروا، ما شادّ الدينَ أحدٌ إلاّ غلبه، هلك المتنطّعون، ما جعل عليكم في الدين من حرج، رُفع عن أمّتي الخطأ والنسيان وما استُكرهوا عليه، إنّ الله يحبّ أن تؤتى رخصه كما يحبّ تؤتى عزائمه.

فالإسلام الصحيح هو الانطلاق من النصوص البيّنة الظاهرة، وما أجمع عليه الجمهور، وهو ما يجعل الإسلام محبّبا إلى النفوس، ميسّرا في التطبيق مريحا في العبادة، هيّنا في المعاملة، البسمةُ فيه صدقة، والكلمة فيه حسنة والمعشر فيه طيّب، والمظهر فيه جميل، يفتح أبواب الجنّة لمن يريد الاكتفاء بالفرائض، ولا يفرض النوافل إلاّ على من يفرضها على نفسه، وخير له فيها أن يخلو بها بينه وبين ربّه. الإسلام الصحيح هو الإسلام الذي أنزله الله تعالى على قلب محمّد صلى الله عليه وسلم  فانتشر ، وليس هو ذاك الذي بات عن طريق الغلاة المتنطّعين المتشدّدين سببا من أسباب تخويف المسلمين منه، وتنفير سواهم عنه، وتبريرا يستغلّه من يشكّكون في صلاحيّته لكلّ زمان ومكان.

 إن من وسائل الغلو في الأحكام أن يتشدد الإنسان في تطبيقها وأن يلتزم جانب الشدة والقسوة في عبادته وسلوكه ، ويزيد فيها على ما بينه الشرع الحكيم  ويخترع وسائل جديدة للعبادة لم يرد لها أصل في كتاب ولا سنة كما أن من وسائل الغلو أيضا أن يتوهم الإنسان أنه وحده على الصراط المستقيم ، وأن غيره من الناس ليسوا على شيء   فتراه يُكَفِّرُ وَيُفَسق   ويلتجئ إلى الطعن والتضليل ، وسوء الظن بالناس والإعجاب بالنفس . وهذا ما حذر منه الرسول  صلى الله عليه وسلم في قوله:( إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق ، إن المُنبَتَّ لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى). كما جاء التحذير من التكلف في الحديث الذي رواه البخاري عن    مسروق قال دخلنا على عبد اللَّه بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فقال: يا أيها الناس من علم شيئاً فليقل به، ومن لم يعلم فليقل اللَّه أعلم؛ فإن من العلم أن يقول لما لا تعلم اللَّه أعلم؛ قال اللَّه تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم  ] قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين [ ص 86   

وقال  صلى الله عليه وسلم: ( أنا وأتقياء أمتي برآءُ من التكلف [ وقد تحدث ابن الجوزي عن نوع من أنواع التكلف فقال : " إذا صح قصد العالم استراح من كلف التكلف ، فإن كثيراً من العلماء يأنفون من قول لا أدري فيحفظون بالفتوى جاههم عند الناس لئلا يقال : جهلوا الجواب وإن كانوا على غير يقين مما قالوا ، وهذه نهاية الخذلان   وقد روي عن مالك بن انس أن رجلاً سأله عن مسألة فقال : لا أدري ، فقال سافرت البلدان إليك فقال : ارجع إلى بلدك وقل : سألت مالكاً فقال لا ادري " فانظر إلى دين هذا الشخص وعقله كيف استراح من الكلفة وسلم عند الله عز وجل ، ولقد رأيت من يكثر الصلاة والصوم والصمت ويتخشّع في نفسه ولباسه   والقلوب تنبو عنه ، وقدره في النفوس ليس بذلك  ورأيت من يلبس فاخر الثياب ، وليس له كبير نقل ولا تخشع  والقلوب تتهافت على محبته ، فتدبرت السبب فوجدته السريرة . كما روي عن انس أنه لم يكن له كبير صلاة وصوم ، وإنما كانت له سريرة بمعنى التقوى والورع   فمن أصلح سريرته فاح عبير فضله ، وعبقت القلوب بنشر طيبه ، فالله الله في السرائر ، فإنه ما ينفع مع فسادها صلاح ظاهر  . 

 إن الغلو والتطرف يشكل ظاهرة خطيرة تؤدي إلى انحراف الناس عن مسار الإسلام الصحيح، وبعدهم عن الصراط المستقيم  الذي لا نجاة للمسلم من العذاب يوم القيامة إلا بالهداية به، ولا وصول للسعادة إلا به  فمن فاته هذا الهدي فهو إما من المغضوب عليهم ، أو من الضالين ، ولذلك كان السلف يقولون : " احذروا من الناس صنفين : صاحب هوى فتنه، وصاحب دنيا أعجبته دنياه" وكانوا يقولون : " احذروا فتنة العالم الفاجر  والعابد الجاهل، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون"  والهوى هو عن الخير صاد، وللعقل مضاد، لأنه ينتج من الأخلاق قبائحها، ويظهر من الأفعال فضائحها ، ويجعل ستر المروءة مهتوكاً ومدخل الشر مسلوكاً.

 

 

 

 

 

تصيّد أخطاء المسلمين

إن الله توعد الذين يسعون في نشر عورات الناس ، وتتبع عثراتهم واتهامهم بالعيوب في المجالس فقال سبحانه: ] إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب اليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون [ النور 19.

ويقابل هذا الوعيد ، بشارة للذين يكتمون عيوب إخوانهم   بستر الله لهم في الدنيا والآخرة ، ففي الحديث الذي رواه مسلم أن النبي  صلى الله عليه وسلم قال : ( ومن سترمسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة ) وفي رواية البخاري: ( ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة ) وروي بإسناد صحيح أن النبي  صلى الله عليه وسلم ( لا يستر عبد عبداً في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة )  .

لقد نهى الإسلام عن تتبع عيوب الناس ، وترصد عوراتهم ، لأن ذلك يفضي إلى العداوة والبغضاء فيما بينهم ، ومن كرامة المسلم عند الله ، انه سبحانه يتولى الدفاع عنه والانتقام له من المسيء إليه ، وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( يا معشر من اسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه ، لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم ولا تتبعوا عوراتهم ، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم ، تتبع الله عورته ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله ) أخرجه الترمذي وقال: حسن صحيح . فليحفظ الإنسان لسانه ، من نشر عيوب إخوانه ، وتتبع عوراتهم ، وليستر عليهم ما استطاع ، فإنه لا طاقة للعبد بحرب الله ، القادر على كشف عيوبه ، وفضح ذنوبه ، التي لا يعلمها الناس عنه . لأن الواجب على المسلم ، إن يصون لسانه عن الخوض في الأعراض ، وتتبع العورات ، وإفساد سيرة الإخوان وإساءة سمعتهم ، لأن النفوس المريضة ، شغوفة بسماع العيوب وتتبع السقطات لتجريح الناس ، والطعن فيهم ، وهو ما نهى الله عنه بقوله : ] ولا تقف ما ليس لك  به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا [ الإسراء 36 .

وقد حث الإسلام على التجاوز عن العثرات ، والتغاض عن الهفوات ، والعفو عن الزلات إن وجدت . فقال تعالى : ] وأن تعفوا أقرب للتقوى [ البقرة 237 وقال سبحانه : ] وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم [النور 22.

كما قرن الإسلام بين الحياء والستر ، لأن الإنسان الذي ينشر عيوب إخوانه ، لا يقدم على ذلك إلا بعد أن يهتك كل حجب الحياء ، الذي يمكن أن تردعه ، ولا يستر تلك العيوب إلا صاحب الحياء ، والستر حياة للمستور ، الذي يتعامل مع الناس ، وربما كان هذا بعض ما أراده النبي  صلى الله عليه وسلم بقوله : ( من رأى عورة فسترها كان كمن أحيا موءودة ) أخرجه أحمد وأبو داود . ووجه الشبه أن الساتر ، دفع عن المستور الفضيحة بين الناس ، التي هي كالموت ، فكأنه أحياه حين ستره . بل لقد بلغ من حرص النبي صلى الله عليه وسلم على كرامة المسلم  وسلامة نفسه ، كما ورد في صحيح البخاري أنه حين جاءه رجل يقول له : ( يا رسول الله إني أصبت حداً فأقمه علي ، قال أنس ولم يسأله عنه ، وبعد الصلاة كرر عليه الرجل مقالته ، فقال رسول الله  صلى الله عليه وسلم : ( أليس قد صليت معنا ؟ قال نعم قال : ( فإن الله قد غفر ذنبك ؟ ) . إن نظرة إلى  واقعنا اليوم تجعل الإنسان يرى انصرافاً وإعراضاً من كثير من الناس ، عن هذا الهدي النبوي ، في التعامل مع أهل الذنوب والمعاصي  والمرتكبين لها ، بل يرى أناساً لا هم لهم ، إلا تصيد العثرات  والبحث عن العيوب والزلات ، فيتهمون بالظن ، ويشيعون بلا بينة ، ويفترون على البريء ، ويفضحون المذنب ، ويُشوهون صورة الفضلاء ، بإبراز أخطائهم وعثراتهم أمام الناس ، وكثيراً ما نرى هذه العادة منتشرة بين صغار النفوس ، وسخفاء العقول وسفهاء الأحلام ، الذين يحبون إشاعة الفاحشة بين الناس 

وقد كان الأولى أن ينشغلوا بذنوبهم وعيوبهم ، بدلاً من التجسس على العباد ، الذي اعتبره الإسلام من شعب النفاق  كما اعتبر حسن الظن من شعب الإيمان ، والعاقل من يُحسن الظن بإخوانه ، وينفرد بغمومه وأحزانه ، وإن الجاهل من يُسيء الظن بإخوانه ، ولا يفكر في جناياته وأشجانه .

فاتقوا الله أيها المسلمون ، وتذكروا قول الله لكم : ] يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً ، أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه ، واتقوا الله إن الله تواب رحيم [ الحجرات .  أرى من الناس من فرقت بينهم أمواج الفتن ، وتعالت هتافاتهم بالفراق ونبذ الود والإخاء ، وأصبحت الشحناء تدور بينهم ، ونسوا ما كان ينبغي أن يكون من عهد الإخوة ، وميثاق المودة ، كما أرى من يتقاذفون سهام السباب بينهم ، محاولين الإيقاع ببعضهم ، وأرى من بذروا بذور الإفساد ، وسقوها بماء الشائعات حتى نمت ، وفتحوا الباب على مصراعيه لكل ناعق وساقط ، وأصبحوا يعتمدون على وكالة قالوا ويقولون ، في معرفة أخبار الناس ، وترديد ما قيل ويقال ، حتى وصلوا إلى شاطئ الظنون ، وتجاهلوا قوله تعالى : ] إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا [ وقوله  صلى الله عليه وسلم : ( إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ) وأصبحت أقوالهم واتهاماتهم ، مبنية على الزعم وبئس مطية الرجل زعموا ، كما أرى من يتصيد أخطاء وعثرات أخيه المسلم ، فيراقب أفعاله ويترصد أقواله ، ويتمنى أن يظفر بسقطة أو كبوة منه ، ليفرح قلبه العليل ، الذي فعل فيه الشيطان فعلته ، وما علم أن هذا التصيد داء خبيث ، متى ما تمكن من نفس ، أطفأ ما فيها من نور الإيمان ، وصير القلب خراباً ، يستقبل الأهواء والشهوات ، وقد يمر الإنسان على مجلس من مجالس هؤلاء ، فلا يكاد يتخطاه ، حتى تغمز العيون   وتشير الأصابع وتهمس الشفاه ، ويتبادلون الغمز المريب    أولئك الذين أعماهم الشيطان عن عيوب أنفسهم ، ونسي هؤلاء أو تناسوا ، قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن من شرار الناس الذين لا يقيلون عثرة ولا يقبلون معذرة ولا يغفرون ذنباً )  .

قال الشافعي رحمه الله : " من علامات الصادق في أخوة أخيه  

أن يقبل علله ويسد خلله ويغفر ذنبه " ، لكني أرى من قد خاصم أخاه ، لأنه خالفه في وجهة نظره وطريقة عمله  وتجاهل أن الاختلاف لا يفسد للود قضية ، ويا ليته وقف عند هذا الحد   لكنه استحل غيبة أخيه ، وكلما نصحه ناصح بالكف عن ذلك  كابر وقال بل هو فيه كذا وكذا ، وما علم أن حرمة الإنسان عند الله عظيمة ، وكرامته جسيمة ، وعرضه مصونٌ محفوظ   لا ينبغي لأحدٍ أن يغتابه ، ولا إن يسيء إليه ، ولا أن يذكره بعيب أو قبيح ، حتى وإن كان ذلك فيه ، وكأنه ما قرأ حديث الغيبة عندما سُئل  صلى الله عليه وسلم  عن الغيبة قال ( ذكرك أخاك بما يكره )  وعندما قيل : إن كان فيه ما أقول ؟ قال (أن كان فيه فقد اغتبته وان لم يكن فيه فقد بهته) وتجاهلوا عقوبة المغتاب ، التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه : ( مررت ليلة أسري بي على قوم يخمشون وجوههم بأظافرهم ، فقلت يا جبريل من هؤلاء ؟ قال هؤلاء الذين يغتابون الناس ويقعون في أعراضهم ) يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى : " فمن الناس من يغتاب موافقة لجلسائه وأصحابه وعشائره ، مع علمه أن المغتاب بريء مما يقولون ، أو فيه بعض ما يقولون ؛ لكن يرى أنه لو أنكر عليهم قطع المجلس  واستثقله أهل المجلس ونفروا عنه ، فيرى موافقتهم من حسن المعاشرة وطيب المصاحبة ، وقد يغضب لغضبهم فيخوض معهم . ومنهم من يخرج الغيبة في قوالب شتى . تارة في قالب ديانة وصلاح ، فيقول : ليس لي عادة أن أذكر أحداً إلا بخير ، ولا أحب الغيبة ولا الكذب ، وإنما أخبركم بأحواله . ويقول : والله إنه مسكين ، أو رجل جيد ؛ ولكن فيه كيت وكيت . وربما يقول : دعونا منه ، الله يغفر لنا وله ؛ وإنما قصده استنقاصه وهضماً لجنابه . ويخرجون الغيبة في قوالب صلاح وديانة ، يخادعون الله بذلك ، كما يخادعون مخلوقاً ، ومنهم من يحمله الحسد على الغيبة ، فيجمع بين أمرين قبيحين: الغيبة والحسد . ومنهم من يخرج الغيبة في قالب تمسخر ولعب  ليضحك غيره باستهزائه ، ومحاكاته واستصغار المستهزأ به . ومنهم من يخرج الغيبة في قالب التعجب ، فيقول تعجبت من فلان كيف لا يفعل كيت وكيت ؟ ومن فلان كيف وقع منه كيت وكيت ، وكيف فعل كيت وكيت ، فيخرج اسمه في معرض تعجبه . ومنهم من يخرج الاغتمام ، فيقول مسكين فلان ، غمني ما جرى له وما تم له ، فيظن من يسمعه أنه يغتم له ويتأسف ، وقلبه منطو على التشفي به ، ولو قدر لزاد على ما به ، وربما يذكره عند أعدائه ليتشفوا به . وهذا وغيره من أعظم أمراض القلوب ، والمخادعات لله ولخلقه ، والله المستعان)    

 ورأيت من يجيز الهجر لمن خالفه في الرأي ، على غير وجه الشرع الذي قال به العلماء وتخلقوا به ، فهذا ابن تيمية يقول : " لو كان كل ما اختلف مسلمان في شيء تهاجرا ، لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة " وقال يونس الصدفي "  ما رأيت أعقل من الشافعي ، ناظرته يوماً في مسألة ثم افترقنا ، ولقيني فأخذ بيدي ثم قال : يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون أخواناً و إن لم نتفق في مسألة " . فمن الناس من أجازوا الهجر لأنفسهم لأنهم لم يفرقوا بين الهجر لحق الله ، وبين الهجر لحق النفس  فالأول مأمور به والثاني منهي عنه ، لان المؤمنين أخوة ، وقد قال النبي  صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : ( لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخواناً ، المسلم أخو المسلم ) والمؤمن عليه أن يعادي في الله ، ويوالي في الله ، فإن كان هناك مؤمن ، فعليه أن يواليه وإن ظلمه ، فإن الظلم لا يقطع الموالاة الإيمانية  ،  يقول  الشيخ محمد صالح المنجد في كتابه ( محرمات استهان بها الناس ) تحت عنوان هجر المسلم فوق ثلاث أيام دون سبب شرعي " من خطوات الشيطان إحداث القطيعة بين المسلمين ، وكثيرون أولئك الذين يتبعون خطوات الشيطان فيهجرون إخوانهم المسلمين ، لأسباب غير شرعية ، إما لخلاف مادي أو موقف سخيف ، وتستمر القطيعة دهراً ، وقد يحلف ألا يكلمه ، وينذر ألا يدخل بيته ، وإذا رآه في طريق أعرض عنه ، وإذا لقيه في مجلس ، صافح من قبله ومن بعده وتخطاه  وهذا من أسباب الوهن في المجتمع الإسلامي ، لذا كان الحكم الشرعي حاسماً ، والوعيد شديداً ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً ( لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال فمن هجر فوق ثلاث ليال دخل النار ) . فكن يا أخي ناصحاً ولا تكن فاضحاً ، ومسدداً لا مندداً ، وانظر لأخيك بعين الرضا ، فعين الرضا عن كل عيب كليلة ، وإياك وعين السخط فإنها تبدي لك المساويا ، ولا تتبع عثرات المسلمين قال تعالى : ] وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ [ أي لا يطعن بعضكم على بعض ، ولا يتتبع بعضكم عثرات بعض ، فإذا تتبع عثرات أخاه ومعايبه ، وأسقطه من عين الآخرين ، فكأنه أسقط نفسه وأعابها . والآية تتحدث على أن جماعة المسلمين على اختلاف مذاهبهم ، كنفس واحدة فمن يطعن في واحد من تلك الجماعة فقد طعن في نفسه . ولقد أحسن الشافعي عندما أنشد :

إذا شئت أن تحيا سليماً من الردى    ودينك محفوظ وعرضك صيّن

لسانك لا تشتم به عورة امرئ       فكلك عورات وللناس ألسن

وعيناك إن أبدت إليك مساوئا       فدعها وقل يا عين للناس أعين

وعاشر بمعروف وسامح من اعتدى  وفارق ولكن بالتي هي أحسن

اللهم إنك القادر على أن تجمع أرواحنا على الحب ، وتؤلف قلوبنا على الود ، فاجمع بين أرواحنا ، وألف بين قلوبنا يا أرحم الراحمين . 

 

 

 

  

 

 

 

 

النهي عن الأحقاد

ليس أطرد لهموم الإنسان ، ولا أقر لعينه من أن يعيش سليم القلب ، مبرأً من وساوس الضغينة ، وثوران الأحقاد ، إذا رأى نعمة تنساق إلى أحد رضي بها ، وأحس فضل الله فيها ، وذكر قول رسول الله  صلى الله عليه وسلم : ( اللهم ما أصبح بي من نعم أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك ، فلك الحمد ولك الشكر ) وإذا رأى أذى يلحق أحداً من خلق الله ، رجا الله أن يفرج كربه ويغفر ذنبه ، بذلك يحيا المسلم ، راضياً عن الله وعن الحياة ، مستريحَ النفس من نزعات الحقد الأعمى ،  وما أسرع أن يتسرب الإيمان من القلب الحاقد ، كما يتسرب السائل من الإناء المثلوم !. أضف إلى أن الحقد يفسد الأعمال الصالحة ويعكرُ صفوها.

كما أن الخصومة إذا نمت وغارت جذورها، وتفرعت أشواكها، شَلَّتْ زهرات الإيمان ، وعندئذ لا يكون في أداء العبادات المفروضة خير ، وكثيراً ما تطيش الخصومة بألباب ذويها، فتتدلى بهم إلى اقتراف الصغائر المسقطة للمروءة  والكبائر الموجبة للَّعنة ، وعين السخط تنظر من زاوية سوداء   فتعمى عن الفضائل ، وتضخِّم الرذائل ، وقد يذهب بها الحقد إلى التخيل وافتراض الأكاذيب ، وذلك كله مما يمقته الإسلام ويحاذر وقوعه ويرى الابتعاد عنه من أفضل القربات ، قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم  : ( ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة ؟ قالوا: بلى قال: إصلاح ذات البين   فإن فساد ذات البين هو الحالقة ، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين ) .

ربما عجز الشيطان أن يجعل من الرجل العاقل عابد صنم  ولكنه   لن يعجز عن المباعدة بينه وبين ربه ، وهو يحتال لذلك بإيقاد نيران العداوة في القلوب ، فإذا اشتعلت استمتع الشيطان برؤيتها ، وهي تحرق حاضر الناس ومستقبلهم ، قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم : ( إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ، ولكنه لم ييأس من التحريش بينهم)  ذلك أن الشر إذا تمكن من الأفئدة فتنافر ودُّها، وانكسرت زجاجتها، ارتد الناس إلى حال من القسوة والعناد ، يقطعون فيها ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض .

وقد تيقظ الإسلام لبوادر الجفاء ، فَلاَحَقَها بالعلاج ، قبل أن تستفحل وتستحيل إلى عداوة فاجرة ، خصوصاً وأن البشر متفاوتون في أمزجتهم وأفهامهم، وأن التقاءهم في ميادين الحياة قد يتولد عنه ضيق وانحراف ، إن لم يكن صدام وتباعد . ولذلك شرع الإسلام من المبادئ ما يرد عن المسلمين عوداي الانقسام والفتنة ، وما يمسك قلوبهم على مشاعر الولاء والمودة   فنهى عن التقاطع والتدابر .

والإنسان في كل نزاع ينشب ، هو أحد رجلين: إما أن يكون ظالماً ، وإما أن يكون مظلوماً ، فإن كان عادياً على غيره  ناقصاً لحقه ن فينبغي أن يُقلعَ عن غيه ، وأن يُصْلحَ سيرته . وليعلم أنه لن يستل الضغينة من قلب خصمه ، إلا إذا عاد عليه بما يطمئنه ويرضيه . لذا أمر الإسلام المرء أن يستصلح صاحبه ويطيب خاطره قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم : ( من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرض أو من شيء فليتحلله منه اليوم ، من قبل ألا يكون دينار ولا درهم ، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته ، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه ) هذا نصح الإسلام لمن عليه الحق .

أما من له الحق فقد رغب إليه أن يلين ويسمح ، وأن يمسح أخطاء الأمس بقبول المعذرة ، عندما يجيء له أخوه معتذراً ومستغفراً ، ورفض الاعتذار خطأ كبير ولا يكون إلا من صاحب قلب عليل مريض ، وفي الحديث : (من اعتذر إلى أخيه المسلم فلم يقبل منه كان عليه مثل خطيئة صاحب مكس) وفي رواية : (من تُنُصِّل إليه فلم يقبل ، لم يرد على الحوض ) بهذا الإرشاد يحارب الإسلام الأحقاد ، ويرتقي بالإنسان المؤمن إلى مستوى رفيع ، من الصداقات المتبادلة ، أو المعاملات العادلة .

وقد اعتبر الإسلام من دلائل الصغار والخسّة ، أن يرسب الغل في أعماق النفس فلا يخرج منها ، بل يظل يموج في جوانبها كما يموج البركان المكتوم ، وكثير من أولئك الذين يحتبس الغل في أفئدتهم ، يتلمسون متنفساً له في وجوه من يقع معهم ، فلا يستريحون إلا إذا أرغوا وأزبدوا ، وآذوا وأفسدوا : روي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ألا أنبئكم بشراركم ؟ قالوا : بلى ، إن شئت يا رسول الله ! قال : إن شراركم الذي ينـزل وحده ، ويجلد عبده ، ويمنع رفده ، أفلا أنبئكم بشر من ذلك ؟ قالوا : بلى ، إن شئت يا رسول الله ، قال : من يبغض الناس ويبغضونه ، قال : أفلا أنبئكم بشر من ذلك ؟ قالوا : بلى ، إن شئت يا رسول الله ، قال : الذين لا يقيلون عثرة ، ولا يقبلون معذرة ، ولا يغفرون ذنباً . قال : أفلا أنبئكم بشر من ذلك ؟ قالوا : بلى  يا رسول الله ، قال: من لا يرجى خيره ولا يؤمن شره ) والأصناف التي أحصاها هذا الحديث أمثلة لأطوار الحقد عندما تتضاعف علته وتفتضح سوأته ، وقديماً أحس الناس ، حتى في جاهليتهم ، أن الحقد صفة الطبقات الدنيا من الخلق وأن ذوي المروءات يتنـزهون عن الحقد قال عنترة :

  ولا ينالُ العلا من طبعهُ الغضبُ    ولا يحملُ الحقدَ من تَعْلو به الرُّتَبُ

وهناك رذائل رهب الإسلام منها ، وليس يفوت النظر القريب أن تعرف مصدرها الدفين . إنها على اختلاف مظاهرها ، تعود إلى علة واحدة إنها الحقد .

فالافتراء على الأبرياء جريمة ، يدفع إليها الكره الشديد . ولما كان أثرها شديداً في تشويه الحقائق ، وجرح المستورين ، عدها الإسلام من أقبح الزور ، روت عائشة أن رسول الله قال لأصحابه : (أتدرون أربى الربا عند الله ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : فإن أربى الربا عند الله استحلال عرض امرئ مسلم ثم قرأ رسول الله  صلى الله عليه وسلم : ] والذين يؤذونَ المؤْمِنِينَ والمؤْمِنَاتِ بِغَيْر ما اكتسَبُوا فَقَد احتَمَلُوا بُهْتَاناً وإثماً مُبِيناً [ .

ولا شك أن تلمس العيوب للناس ، وإلصاقها بهم عن تعمد يدل على خبث ودناءة ، وتربية وضيعة بل وقلة دين ،  ولذلك رتب الإسلام عقوباتٍ عاجلة لبعض جرائم الافتراء . وما أعدّه الله في الآخرة لصنوف الافتراء أشد وأنكى . قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم  : ( من ذكر امرأ بشيء ليس فيه ، ليعيبه به ، حبسه الله في نار جهنم حتى يأتي بنفاد ما قال فيه ) . وفي رواية : ( أيما رجل أشاع على رجل مسلم كلمة ، وهو منها بريء   يشينه بها في الدنيا ، كان حقاً على الله أن يذيبه يوم القيامة في النار   حتى يأتي بنفاد ما قال ) . وما دام الذي قاله بهتاناً ، فكيف يستطيع أن يثبت عند الله باطلاً ؟ وكيف يتنصل من تبعته؟  إن سلامة الصدر تفرض على المؤمن أن يتمنى الخير للناس ، إن عجز عن سوقه إليهم بيده . أما الذي لا يجد بالناس شراً فينتحله لهم انتحالاً ، ويزوره عليهم تزويراً فهو أفّاك صفيق عند الله وخلقه قال الله عزل وجل : ] إنَّ الَّذِينَ يُحبُّونَ أن تَشيعَ الفاحشَةُ في الَّذين آمَنُوا لهمْ عَذابٌ أليمٌ في الدُّنيا والآخرةِ واللهُ يَعلمُ وأنتمْ لا تعلمونَ [.

ومن فضل الله على العباد أنه استحب ستر عيوب الخلق ، ولو   اتصفوا بها ، وما يجوز لمسلم أن يتشفى بالتشنيع على مسلم ولو ذكره بما فيه ، فصاحب الصدر السليم يأسى لآلام العباد   ويشتهي لهم العافية . أما التلهي بسرد الفضائح والأكاذيب  وكشف الستور ، وإبداء العورات ، فليس مسلك المسلم الحق  

لذا حرَّم الإسلام الغيبة ، لأنها متنفس حقدٍ مكظومٍ ، وصدرٍ فقيرٍ إلى الرحمة والصفاء عن أبي هريرة أن رسول الله  صلى الله عليه وسلم قال : ( أتدرون ما الغيبة ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ! قال : ذكرك أخاك بما يكره . قيل : أرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال : إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتَّه ) .

ومن آداب الإسلام التي شرعها لحفظ المودات ، واتقاء الفرقة   تحريم النميمة  لأنها ذريعة إلى تكدير الصفو وتغيير القلوب .

وقد كان النبي ينهى أن يبلغ عن أصحابه ما يسوؤه ، قال : ( لا يبلغني أحد منكم عن أحد من أصحابي شيئاً ، فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر)  ومن لوازم الحقد سوء الظن ، وتتبع العورات ، واللمز ، وتعيير الناس بعاهاتهم ، أو خصائصهم البدنية والنفسية ، وقد كره الإسلام ذلك كله كراهية شديدة . قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم: ( من علم من أخيه سيئة فسترها ، ستر الله عليه يوم القيامة ) .

 

رمي المسلم بالكفر والفسق

قال تعالى : ] ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا  قال بئسما خَلَفْتُمُوني من بعدي ، أعًجِلْتُم أمر ربكم  وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجرّهُُ [ الأعراف 150 . الألواح فيها المنهج ، فكيف يلقي موسى الألواح وفيها المنهج ، فقد ظهر هذا من موسى حين غضب على أخيه   فكان أول عمل قام به ، ألقى الألواح ، وأول ما ذهب عنه الغضب أخذ الألواح ، وهذا أمرٌ منطقي ، فالغضب جعله يلقي الألواح ، ويأخذ برأس أخيه ، ثم فهم ما فعله أخوه واعتذر ، فقبل عذره ، وطلب من الله أن يغفر له وأن يغفر لأخيه وانتهى الغضب ، وكانت الألواح ملقاة فأخذها قال تعالى : ] ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة [ . فقد روي أن التوراة كانت سبعة أسفار في سبعة ألواح ، فلما ألقاها انكسرت ، فرفع ستة أسباعها ، وكان فيها تفصيل كل شيء ، وبقي سبعٌ كان فيه المواعظ والأحكام .     

فلنفرض جدلاً أن إنساناً رمى بالمصحف على الطاولة  فهل من المنطق أن تقام الدنيا ولا تقعد لهذا ، لتلوكه الألسنة الحاقده ، فتعتبره مأخذاً لايُغُفَر ، وإذا كان خالق الخلق قد غفر مثل هذا الفعل ،  فمن هم في ميزان خلق الخالق ، ومن هم حتى يقسقوا  ويكفروا خلق الله . 

كان جماعة في أيام النبي r منتسبون إلى صحبته وملته   وهم في الباطن من مردة المنافقين ، قد لا يعرفهم نبي الله r ولا يعلم بهم فقال تعالى فيهم : ] ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين [ سورة التوبة 101 .

فإذا جاز على سيد البشر أن لا يعلم ببعض المنافقين وهم معه في المدينة سنوات ، فبالأولى أن يخفى حال جماعة من المنافقين الفارغين عن دين الإسلام بعده عليه السلام  وعلى العلماء من أمته ، فما ينبغي لأحد أن يبادر إلى تكفير المسلم إلا ببرهان قطعي ،  وأن من تضلله طائفة من الأمة ولا تتورع من الحط عليه ،  فهو ممن ينبغي أن يفوض أمره إلى الله ، وان يستغفر له في الجملة ، وبهذا يستريح ويصفو قلبه من الغل للمؤمنين .

وليعلم كلٌّ منا أن أهل القبلة كلهم ، مؤمنهم  وفاسقهم   وسنيهم و مبتدعهم – سوى الصحابة لم يجمعوا على مسلم بأنه سعيد ناج ، ولم يجمعوا على مسلم بأنه شقي هالك  ،  وعليه لا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله ولا بخطأ أخطأ فيه ،  ها هم الخوارج المارقون الذين أمر النبي r بقتالهم فقاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب    واتفق على قتالهم أئمة الدين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، لم يكفرهم علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وغيرهما من الصحابة، بل جعلوهم مسلمين مع قتالهم، ولم يقاتلهم علي حتى سفكوا الدم الحرام  وأغاروا على أموال المسلمين، فقاتلهم لدفع ظلمهم وبغيهم لا لأنهم كفار ، ولهذا لم يسب   حريمهم ولم يغنم أموالهم .
وإذا كان هؤلاء الذين ثبت ضلالهم بالنص والإجماع لم يكفروا مع أمر الله ورسوله r  بقتالهم، فكيف بالطوائف المختلفين الذين اشتبه عليهم الحق في مسائل غلط فيها من هو أعلم منهم؟ فلا يحل لأحد من هذه الطوائف أن تكفر الأخرى، ولا تستحل دمها ومالها، وإن كانت فيها بدعة محققة، فكيف إذا كانت المكفرة لها مبتدعة أيضا؟ وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ ، والغالب أنهم جميعا جهال بحقائق ما يختلفون فيه .
والأصل أن دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم محرمة من بعضهم على بعض لا تحل إلا بإذن الله ورسوله، قال النبي  r قال في حجة الوداع : ( إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا ) وقال r : ( كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه )  وقال : ( إذا قال المسلم لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما ) وقد ثبت في الصحيحين عن أسامة بن زيد أنه قتل رجلا بعد ما قال لا إله إلا الله فأنكر النبي r  ذلك لما أخبره وقال: ( يا أسامة أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟ ) وكرر ذلك عليه حتى قال أسامة: تمنيت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ! ومع هذا لم يوجب عليه قودا، ولا دية، ولا كفارة، لأنه كان متأولا ظن جواز قتل ذلك القائل لظنه أنه قالها تعوذا  وقد قاتل السلف بعضهم بعضا من أهل الجمل وصفين ونحوهم، وكلهم مسلمون مؤمنون كما قال تعالى  :    ] وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما [ الحجرات9. وقد بين الله تعالى أنهم مع اقتتالهم، وبغي بعضهم على بعض إخوة مؤمنون، وأمر بالإصلاح بينهم بالعدل. ولهذا كان السلف مع الاقتتال يوالي بعضهم بعضا موالاة الدين، لا يعادون كمعاداة الكفار، فيقبل بعضهم شهادة بعض، ويأخذ بعضهم العلم عن بعض ويتوارثون ويتناكحون ويتعاملون بمعاملة المسلمين بعضهم مع بعض  مع ما كان بينهم من القتال والتلاعن وغير ذلك.
هذا مع أن الله أمر بالجماعة والائتلاف، ونهى عن البدعة والاختلاف، وقال: ] إن الذين فرقوا دينهم، وكانوا شيعا لست منهم في شيء [   فالواجب على المسلم  أن يوالي المؤمنين ولا يعاديهم، وإن رأى بعضهم ضالا أو غاويا وأمكن أن يهديه ويرشده فعل ذلك، وإلا فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها، وقد قرر شيخ الإسلام ابن تيمية بوضوح، وأنكر أشد الإنكار على من يكفرون الناس أو يفسقونهم بذنب أو خطأ داعيا إلى التزام الجماعة وعدم الشذوذ عنها، ومجوزا الصلاة وراء المبتدع .
ومع هذا نجد  من يجهل هذه الحقائق كلها، لأن الحقد عمى بصيرته ، والجهل سيطر عليه ، فراح يشهر سيف التكفير والتفسيق في وجه كل من يخالفه في رأي يرى أنه الحق ، علماً بان معتقد أهل السنة والجماعة، أنه لا يُكَفر أحدٌ من أهل القبلة، وأهل القبلة : هم الذين استقبلوا القبلة في الصلاة والذبح والتزموا بالإسلام، ولم يفعلوا شيئا من نواقض الإسلام  ، لا نكفر أحدا منهم، ولو فعل ذنبا ولو زنا أو سرق، إذا لم يستحله، لا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله، يعني إذا فعل المسلم  كبيرة  فزنا أو سرق أو شرب الخمر أو تعامل بالربا، أو عق والديه، أو قطع الرحم، نقول: هذا عاصٍ، عاصٍ مرتكب لكبيرة، ضعيف الإيمان ناقص الإيمان، إلا إذا استحلها، فقال الزنا حلال أو الخمر حلال أو الربا حلال فهذا كفر؛ لأنه مكذب لله في التحريم ، ولا بد أن يكون هذا الذي استحله أمر قطعي، لم يختلف فيه أهل العلم  كأن ينكر وجوب الصلاة  أو وجوب الزكاة ، أو الحج  أو أنكر تحريم أمر معلوم من الدين بالضرورة، كتحريم الزنا أو الخمر ، أما إذا فعله لغلبه الشهوة أو طاعة للشيطان ، فنقول هذا عاص ضعيف الإيمان، مرتكب لكبيرة. لقد ضل الكثير من الناس قديماً وحديثاً ، عندما ركبوا عقولهم ولم يلتزموا سبيل المؤمنين ، واتبعوا أهوائهم في تفسير الكتاب والسنة ، ثم بنوا على ذلك نتائج خطيرة ، وما ورد في قصة ذلك الصحابي الذي بارز مشركاً  فلما رأى المشرك أنه صار تحت ضربة سيف المسلم الصحابي قال : أشهد أن لا إله إلا الله ، فقتله الصحابي  فلما بلغ خبره النبي صلى  r أنكر عليه ذلك أشد الإنكار ، فاعتذر الرجل أنه ما قالها إلا خوفاً من القتل   فكان جوابه : " هل شَقَقتَ عن قلبه ؟ ! "

أما إذا كانوا لا يحرمون ما حرم الله ورسوله عقيدة ، فإنهم بهذا يكونوا قد كفروا كفرَ ردة  فالكفر الإعتقادي ليس له علاقة بالعمل له علاقة بالقلب، ونحن لا نستطيع أن نقول بأننا نعلم ما في قلب الفاسق أو الفاجر أو السارق او المرابي  إلا إذا عبر عما في قلبه بلسانه ، أما عمله فعمله ينبىء أنه خالف الشرع مخالفة عملية .
 وهنا يمكن أن نقول خالفتَ فسقتَ وفجرت ، لكن ما نقول : كفرت وارتددت عن دينك ، حتى يَظهرَ منه شيءٌ يكون لنا عذرٌ عند الله عزوجل أنْ نحكمَ بردَّته . 

إن الذين يرمون عباد الله بالفسق هم ممن اتصفوا ببعض خصال وصفات المنافقين ومنها إذا حدثوا كذبوا ، وإذا وعدوا أخلفوا ، وإذا خاصموا فجروا ، فلقد حاولت معهم التفاهم فوجدتهم أقرب إلى  الكذب والفجور في الخصومة،  يدعون إلى العدل والاستقامة ؛ وهم أول من أخلف وخالفها .

إن رمي الناس بالفسق أصبح عندهم موضة العصر ، وهذا لا يصدر إلا من  ضعاف النفوس  وممن اتصف بالجهل والحقد والغباء وقلة العلم  .

وأود أن أقول لمن يقول هذا فاسق وهذا صاحب بدعة وهذا ضال : هل ولاك الله أمور المسلمين حتى تفسق هذا وتلعن هذا ، فهذا الذي يطلق العنان للسانه ويهرف بما لا يعرف  أما علم بأن  الدعوة إلى الله تعالى لا تكون بالفظاظة ولا بالغلظة ، ولا بسيف الجاهلية ن ولا بالعصا ولا بالجهل ،  وإنما الدعوة إلى الله تكون بالأخلاق الحسنة وبالعلم والفهم لكتاب الله ، أم هل يريد هذا أن يكون رباً آخر ، أما علم أن كل إنسان ينطق بالشهادتين   ويصلي ويصوم ويزكي ويحج إلى بيت الله لا يجوز أن يرمى بالكفر ، وعند  الإعراض  وعدم الاستجابة فإني أتمثل قول القائل :

فما بالي وإن كنتم ذوي رحمي   أن لا أحبكم إذا لم تحبوني

والله يأمرنا أن نثبت على هذه الكلمة في قوله تعالى  :
 ] فإن تولـّوا فقولوا اشهدوا بأنـّـا مسلمون [ .

 

 

 

ظاهرة النفاق

 لو تداعى المصلحون المخلصون من الدعاة وطلبة العلم إلى عقد مؤتمر يتدارسون فيه أخطر ظاهرة مُني بها المسلمون في تاريخهم   لما وجدوا ظاهرة أشد خبثاً وأسوأ أثراً من النفاق والمنافقين .

علماً بأنه لا فارق بين نفاق الأمس ونفاق اليوم من حيث الجوهر ، أما الظروف فقد اختلفت ، فالنفاق بالأمس البعيد أيام الحكم بما أنزل الله ، كان يمكّن المؤمنين من جهادهم باليد واللسان والقلب وبإقامة الحدود ، فلا يُرى أحدهم إلاّ وهو محاصر مكدود ، أو محدود مجلود ، أما اليوم فالنفاق صرح ممرد وقواعد تتحرك ، إنه  دولة بل دول ذات هيئات وأركان ، إنه أحلاف وتكتلات وكيانات ،  ذات قوة وسلطان سياسي واقتصادي وإعلامي وثقافي ، يمارس الضرار في كل مضمار   بقيادة تخطط وتنظم حركتهم ، هذه القيادة يسميها القرآن بالشياطين } وَإِذَا لَقُواْ ٱلّلَذِينَ آمَنُواْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَـٰطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ { البقرة 14 .  وقد أثبت التاريخ يوماً بعد يوم أن نكبة الأمة بالمنافقين ، تسبق كل النكبات وأن نكايتهم فيها وجنايتهم عليها ، تزيد على كل النكايات والجنايات ، وقد ربى قادة الكفر أشخاصاً على النفاق ، ليعملوا في صفوف المسلمين في كل المجالات ، إنهم فئة تظهر الإسلام وتصلي في المناسبات ، وتؤدي بعض الشعائر ثم تظهر بمظهر الحريص على هذا الدين ، فيثق بهم الغافلون والبسطاء ، ويعمل هؤلاء المنافقين معلمين ومربين وموجهين وسياسيين وصحفيين وكتاب ومؤلفين ، ورجال فكر ورجال علم ، ثم تصنع لهم الأمجاد الزائفة عن طريق الإعلام ، ويُلمّع هؤلاء ليتخذهم العامة منارات يستقى منها التوجيه والتحليل ، من وسائل الإعلام المسموعة والمرئية ، تتكلم باسم العلم والفتوى ، فتمرر قضايا خطيرة جداً ، فيها من التلبيس على عقول الناس ، تصب في تحقيق أهداف أشخاص يخدمونهم باسم الدين ، كما أصبح لكل رمز ديني أو سياسي أو وطني بطانةٌ يمارسون معه لعبة التضليل والتَّملّق والتّزلّف والمديح المزيف ، فترى بعض الشيوخ لهم أتباع من المحبِّين والمعجبين ، يخلعون عليه صفات الكمال ويوهمونه بأنه بركة العصر، ووحيد الدهر ، وأن الله نفع بعلمه العباد والبلاد ، وأن كتبه وفتاويه ودروسه شرّقت وغرّبت  فيصدّق المسكين ويقع في الفخ ، ويصاب بداء العجب والتيه   وهي أخطر ظاهرة يتعرض لها المسلمون ، فبعض الدعاة عندما يكون في حاجة إلى مساعدة أو خدمة من أحد ، توددوا  وتقربوا إليه بشتى الوسائل ، وقد يكون لهم أتباعا ومعجبين يكيدون ويوجهون القدح والذم ، لمن ليسوا من الأتباع لمثلهم الأعلى ، الأمر الذي يدفع إلى المواجهة أحيانا ، والصبر والإعراض أحيانا تمثلاً بقول القائل :                          تعودت مس الضرّ حتى ألفته    وأسلمني حسن العـزاء إلى الصبر

وصيرني يأسي من الناس واثقاً   بحسن صنيع الله من حيث لا أدري

ومن الناس من يخفون في أنفسهم ما لا يبدون ، ناسين أن هذا من اكبر الذنوب ، ومن أعظم خصال النفاق ، التي ذمها الله ورسوله فيما روى عن عبد الله بن عمر أن النبي  قال : ( أربع من كن فيه كان منافقاً خالصا ، ومن كانت فيه خصلةٌ  صلى الله عليه وسلم منهن كانت فيه خصلةٌ من النفاق حتى يدعها : إذا اؤتمن خان ، وإذا حدث كذب ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر ) البخاري . اقتصر الحديث على هذه الثلاث ، لأن أصل الدين منحصرٌ في القول والعمل والنية ، فنبه على فساد القول بالكذب ، وعلى فساد الفعل بالخيانة ، وعلى فساد النية بالحلف ، فالكذب يغضب الله ورسوله ، لأنه يوقع في معصيته ومخالفة أمره ، وما رأيت أخزى من الكذاب ، وما هتكت الأستار بغير النميمة والكذب ، التي شاعت بين الناس ، فكم من ظلمٍ حاق بمظلومين ، من بشرٍ كاذبين على بني الإنسان محسوبين ، ذمهم الله بقوله } ويلٌ لكل همزة لمزة { .

ولا فرق بين كذب الأقوال وكذب الأفعال ، لأنه في الحالتين يضلل العقول ويعمي الأبصار ، فقد يلجأ الكاذب إلى حمل مسبحة يتمتم على حباتها تمتمة مضللة ، فتفصح مسبحته بما لم يفصح عنه قلبه من المكر والخداع ، وكذاب الأقوال إن خدعك مرّة ، يخدعك كاذب الأفعال ألف مرّة ، لقد أصبح الصادقون عملةً نادرة بين من لا يحافظون على العهود والمواثيق   والهمازين المشائين بنميم ، فمن أدعياء يحرفون الكلم عن مواضعه ، إلى من بعقول الناس يتجرون ، وإلى تجارٍ لسلعهم يغشون وفي أيمانهم يحنثون ، هؤلاء وغيرهم ممن ارتضوا الكذب منهاجا لهم وعليه يعيشون ، فويلٌ لهم يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون   لا يعرفون الوفاء بالعهد ، لأن البر من الوفاء ، وهم لا يعرفون للوفاء طريق ولقد أحسن القائل فيهم :

إن الوفاء على الكريم فريضةٌ   واللؤم مقرونٌ بذي الإخلاف

وترى الكريم لمن يعاشر منصفاً  وترى اللئيم مجانب الإنصاف

قال الحسن بن علي : " المسئول حر ٌّ حتى يَعِد ، ومسترقٌّ بالوعد حتى ينجز ، فأوف بعهد الله إذا عاهدت ، واحذر الغدر بالعهد فإنه دليل اللؤم ، وبرهانُ الدناءة والخسة ، واعلم أن الوعد دينٌ على الحر واجبٌ أداؤه ، فلا تخلف وعدك ، ولا تعد أحداً بما لا تقدر على وفائه ، فإن من أخلف الوعد فقد عصى الله " . وما فقدت أمةٌ الوفاء إلا حل بها العقاب الإلهي وأحاط بها الفقر والهوان ، والله يشهِّر بالغادرين يوم الحساب ، فيؤتى بكلٍّ ومعه فعلته الشنعاء ، وينادي منادً من قبل العرش " هذه غدرةُ فلان "  والغدر مذموم لأنه يبيح لصاحبه ارتكاب كل سفالة من السفالات ، ولو أن الغدر اقتصر على الأفراد لهان الأمر ، فقد تخلقت بعض الدول بهذه النقيصة ، فأصبحت تغدر بغيرها أفراداً وجماعات ، وما حل بفلسطين والعراق والشيشان ليس ببعيد .

 وهناك نوعٌ من النفاق ذكره الله فقال : } ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد { . إنه نموذج للمنافق الشرير ، ذلك اللسان الذي يعجبك منه منظره ويسوؤك مخبره   يتحدث كأنه خلاصة الطهر والنقاء ، والإخلاص والخير  يسعى لإهلاك كل ما في الحياة من خير ، وأعجب ما فيه أنه عندما يفسد يزعم أنه يصلح } وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون { . بل إنهم يتظاهرون أمام الناس بأنهم على حق ، وأن غيرهم من المؤمنين على باطل ، وإذا أتيتَهم تريد المكاشفة والصدق والوضوح ، ضاع صوتك بين الأصوات ، وصرت ثقيلاً وأصبحت نشازاً ، وهذا دليل جهلٍ وقصر نظر ، أما حاور الأعرابي عمر وناقشه وهو على المنبر؟ أما طلب عمر من الناس تيسير المهر وعدم المغالاة في الصداق فقامت امرأة من آخر المسجد فقالت لعمر: يا عمر كيف تريد تقليل المهر والله تعالى يقول : } وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا { فصاح عمر: أصابت امرأة وأخطأ عمر . نحن لا نطلب من الناس سوء الأدب مع الرموز الدينية والسياسية والوطنية وسائر الناس ، ولا التجريح ولا التشهير ولكن نطالب الجميع بالكف عن هذا النفاق ، وحجب الحقائق وإدخال هذه الرموز في نفق مظلم من الوهم ، يقول الحسن البصري: «تولّى الحجاج العراق وهو عاقل كيّس، فما زال الناس يمدحونه حتى صار أحمق طائشاً سفيهاً» فلما ضعف الوازع الديني عند الأمة وقلَّ الصدق ، أكثرتْ من ألقاب المديح وصفات التّزلّف ، إن تمويه الحقائق على الرموز وصنّاع القرار ، وضياع البلاد والعباد ، لأن المتملِّقين همهم أنفسهم وهم الذين يحملون شعار (كل شيء على ما يرام)، فتجد الشيخ مثلاً عنده أخطاء كبرى ومغالطات عظمى لكن بطانته يصوّبون قوله وفعله ، حتى يوصلوه إلى درجة العصمة ، فيبقى على خطئه ، ويستمر على أوهامه ، وكذلك السياسي الذي تُحجب عنه الحقائق من البطانة التي تحفّ به ، والعالم والوجيه والرمز؛ فلا يصورون الأمور كما هي، لتتضح له الأشياء على حقيقتها، ويتخذ القرار المناسب والقول المناسب والرأي المناسب في الوقت المناسب ، وإلا كيف يمكن  للغرب التدخل المباشر في الأحوال الداخلية لكثير من الدول في صوغ مناهجها والتحكم في إعلامها ، وتوجيه الرأي العام بها ومحاصرة الدعوة والإصلاح فيها ؟ ومن للغرب أن يجعل البلدان الإسلامية أرضاً مستباحة للأغراض العسكرية والاقتصادية والثقافية والمخابراتية وغيرها. إنهم المنافقون ، نسأل الله تعالى أن يجنبنا شرورهم وخداعهم } يخادعون الله وهو خادعهم { .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

طريق الإصلاح

قال تعالى : )  أفمن يمشي مكباً على وجهه أهدى أمن يمشي سوياً على صراط مستقيم ( الملك2    .      

 تصور لنا الآية القرآنية حال الشقي التائه في الضلال الغارق في الكفر ، وقد انتكس قلبه ، فصار الحق عنده باطلا ، والباطل حقا ، الضال عن طريق الله ، المحروم من هداه من أصحاب العقليات الفاسدة ، والنفسيات المريضة  التي لها أهداف التدمير والتخريب والإفساد وغايات الاستعلاء والاستكبار ، والاحتكار وحب السيادة والسلطان ، بخلاف من كان عالماً بالحق ، مؤثراً له ، عاملاً به ، يمشي على الصراط المستقيم ، في أقواله وأعماله وجميع أحواله ، من أصحاب النفسيات الطيبة التي تسلك طريق الإيمان والحمد ، وتسعى وراء تحصيل رضوان الله ، وتعمل من أجل الإصلاح والبناء والتعمير ، والتخلص من العبودية   وبسبب هذا الاختلاف في الطبائع ينشأ الاختلاف على المصالح مما يؤدي إلى المشاحنات والصراع ، الذي يصل أحياناً إلى سفك الدماء  

وما نريده ليس التأكيد على وجود هذا الصراع إنما النظر لبعض المواقف داخل حلبة هذا الصراع ، مثل المروءة والرجولة والشجاعة والجرأة أو عكس ذلك ، مثل الجبن والخوف والتخاذل ، ثم ما هي حقيقة وزن الرجال ؟ حتى نعرف مواقفهم في هذا الواقع المرّ  الذي يحتاج إلى علاج و إصلاح ، ولهذا اتجه الإسلام في جميع محاولاته الإصلاحية إلى النفس ، مستهدفاً تقويمها وتهذيبها ، وإن قول الله تعالى : ) قد أفلح من زكاها (  مصدراً هاماً من مصادر العطاء في هذا المجال ، لأن الآية تشير إلى من طهر نفسه من الذنوب ، ونقاها من العيوب ، ورقّاها بطاعة الله   وعلاّها بالعلم النافع والعمل الصالح ، ولذلك خاطب الله فرعون فقال : ) هل لك إلى أن تزكى ( هل لك في خصلة حميدة ، ومحمدة جميلة ، يتنافس فيها أولو الألباب بأن تزكي نفسك وتطهرها من دنس الكفر والطغيان إلى الإيمان والعمل الصالح ، فبصلاح النفس يصلح الإنسان  وللنفس مسميات جاء ذكرها في النصوص ، فتسمى أحيانا النفس  وأحيانا القلب ، وهي جوهر الإنسان قال صلى الله عليه وسلم ( ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب ) .

وقد تعهد النبي صلى الله عليه وسلم بناء نفوس أصحابه لحمل الرسالة الخالدة ، لتبليغها ، ولأنه صلى الله عليه وسلم يعلم جيدا أن فاقد الشيء لا يعطيه ، فقد أخذ في بناء هذه النفوس ، وإصلاحها  وتزكيتها ، وترسيخ أصول العقيدة وقواعد الفضيلة ومكارم الأخلاق فيها ، حتى إذا ما بنيت الدولة ، انطلقت هذه النفوس المطمئنة ، التي امتلأت بخشية الله ، والتي انتصرت على أهوائها ، في عمارة الكون ، وإصلاح الدنيا   وقيادة أهلها وشئونها ، إلى كل خير وفضيلة ونجاح لقد واجهوا ظلم الجاهلية وطغيانها ، وقسوة الحياة وشظفها  بعزائم من حديد ، وأعلنوا الجهاد على المادية وأدواتها وأنصارها ، ورفعوا راية الإسلام ، ونشروا هدي هذا الدين في أغلب أنحاء العالم ، وجعلوا كلمة الذين كفروا السفلي وكلمة الله هي العليا ، وقد تعهدوا أنفسهم بالإصلاح الدائم ، والرعاية المتتابعة على نفس المنهج الذي رباهم عليه محمد صلى الله عليه وسلم  وترك لهم أصوله ، فكانوا صالحين في أنفسهم ، كما كانوا قدوة صالحة لتابعيهم ، ولمن جاء بعدهم ، بل لكل من اهتدى بكتاب الله تعالى ، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وسيرة صحابته رضوان الله عليهم ، أما اليوم فقد صار هذا الإصلاح لهذه الأمة غاية عزيزة المنال ، غالية الثمن  تحتاج إلى صدق العزم ، وشد الرحال ، وبذل الجهود .

بل صار أمام هذا الإصلاح عقبات وعقبات . يصور لنا الإمام الغزالي بعضاً منها حيث يقول : خلق الله الخلق على أقسام ثلاثة .. قسم ركب فيه العقل فقط ، وهم الملائكة    فهم : ) لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ( التحريم . وقسم ثان : ركب فيه الشهوة فقط ، وهم الحيوانات ، وقسم ثالث : ركب فيه العقل والشهوة معا وهو الإنسان ، ولذا فهو يعيش في صراع بين ما يمليه عليه عقله ، وما تجره إليه شهواته ، فمن غلب عقله على شهواته .. فهو إلى الملائكة أقرب . ومن غلبت شهواته على عقله .. فهو إلى الحيوانات أقرب .

ولهذا : فالإنسان في صراع دائم بين النفس الأمارة بالسوء   وإصلاح حالها ، بين الخطأ والنقصان المركب في طبيعته والصواب الذي يحبه ، والكمال الذي ينشده ، بين ما يمليه عليه عقله ، وما تجره إليه شهواته  .

 إن هذا التردي الذي تعانيه الأمة اليوم راجع إلى التقصير في إصلاح النفس وتعهدها بالرعاية والتزكية ، فتبعت هواها ، وضلت السبيل ، وفقدت صلاح حالها   ومقومات نجاحها ، وضاعت منها مؤهلات الخيرية  وعوملت من الأعداء بلا اكتراث ، وتعرضت حقوقها للافتراس ، إلى غير ذلك من ألوان الخسف والانتقاص.  ولعلاج النفس وتعهدها بالرعاية ، كان الربيع بن خثيم   قد حفر قبرا لنفسه بداره ، وكان يدخله كلما شغلته الدنيا   ويجلس فيه فترة ، حتى إذا ما خشع قلبه ، ورق فؤاده  خرج ، ثم يقول لنفسه يا ربيع ..! لقد خرجت هذه المرة   فاحذر مرة لا تخرج بعدها أبدا ، وإذا كان ذلك عهده مع نفسه ومشارطته إياها إجمالا : فعليه أن يزيد في العهد معها تفصيلا ، بأن يعاهد العين والأذن واللسان والبطن والفرج واليد والرجل ، فهي التي  تقود النفس إلى الخير أو إلى الشر ، إذ هي رعايا خادمة لها  وبها يتم أعمالها وتحقيق مأربها . ثم يستأنف معاهدة نفسه فيما يخص العقيدة وصفاءها ومداخل الشيطان إليها  فيكون على ذكر دائم لله  وتوحيد صادق له سبحانه   في أسمائه وصفاته وأفعاله  يقظا لإبعاد الشيطان ووساوسه وهواجسه ، والانقياد له عن نفسه . وفيما يخص الأخلاق والسلوكيات : يعاهد نفسه على دوام التحلي بفضائل الصفات وكريم العادات ومحاسن الآداب ، والاهتمام بأمور المسلمين جلبا للخير لهم  ودفعا للشر عنهم فيفرح لفرحهم ، ويبذل قصارى جهده في دفع أحزانهم وآلامهم   والانشغال بأمور الدعوة إلى الله  والحرص الدائم على رفع شأن الإسلام وإعلاء كلمته .  ويعاهدها كذلك على التخلي عن مساوئ الصفات ودنيء الفعال ، طاعة لله  وامتثالا لهدي رسوله صلى الله عليه وسلم . وكذلك فيما يخص العبادات والمعاملات .

وهذه المعاهدة مع النفس حقيقة : يحتاج إليها الإنسان  ليحاسب نفسه قبل أن يحاسب ، لأن من طال حسابه لنفسه في الدنيا نجا من أهوال الحساب يوم الحساب  وكلما كثرت محاسبة الإنسان لنفسه : قلت عيوبه  وكثرت ميزاته ، ونجحت خطته في إصلاح نفسه  ولذلك كان عمر رضي الله عنه يقول : " حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوها قبل أن توزنوا ، وتهيؤا للعرض الأكبر )يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية (  

والقرآن الكريم نبه إلى ضرورة هذه المحاسبة للنفس في الدنيا من باب نشدان الكمال ، وإصلاح النفس  وللتدريب على مواجهة مشقات الحساب قبل يوم الحساب ، حيث يقول سبحانه : ) يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد ( .

  فمجاهدة النفس وبذل غاية الاستطاعة في الوصول إلى إصلاح حالها ، تخلصا من العيوب ، واكتسابا للفضائل  وبلوغ أقصى الدرجات في تحقيق ذلك عبر عنه الشاعر بقوله  

يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته       أتطلب الربح مما فيه خسران  

أقبِل على النفس واستكمل فضائلها    فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان

 وهذا أبو الطيب المتنبي يقول :

وإذا كانت النفوس كبارا    تعبت في مرادها الأجسام

ففي النفوس نفوس كبيرة ، ونفوس صغيرة ، نفوس منحطة ونفوس عالية ، نفوس كريمة ونفوس لئيمة ، وهي 

 نفوس أهل الباطل والظلم وهم في استعلاء ظاهرين فوق العباد بظلمهم وجبروتهم ، وتخاذل أهل الاستقامة والصلاح نتيجة الوهن الذي حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : ( الوهن هو حب الدنيا وكراهية الموت ) والخوف والجبن الذي يسيطر عليهم ويأخذ مأخذه فيهم فيتراجعوا عن القيام بالواجب لصالح أصحاب الباطل ، لأن الجبن ما اتصفت به أمة إلا وأفقدها النخوة والرجولة والعزة والكرامة ، وفتح لعدوها سبل الظلم والفساد والعبث بحياة الناس ومصالحهم   فيتلاعبون بها كيفما أرادوا دون معارضة ، بسبب الجبن الذي أفقد الأمة العزة والشهامة وقتل فيها الإحساس بالكرامة ، فوجد الأعداء حظهم فيها ولم نجد من يأخذ على أيدي الظالمين نتيجة الجبن والوهن الذي أمات القلوب   وهو ما حذر الله منه بقوله ) ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون ( هود 113 .

فنحن بحاجة إذن إلى قدر من الحماس نصبه على البرود القاتل الذي ابتلينا به ، في مواجهة القضايا والمصائب التي تحيق بالأمة وتهدد مصيرها ، والأوبئة التي تفتك بها والانحرافات السياسية والاقتصادية التي تهزّ كيانها   والتيارات الثقافية التي غزتها في عقر دارها ، إننا بحاجة إلى صرخات المخلصين لتوقظ النائمين وتحذر الغافلين وترهب المتلاعبين ، نعم نحن بحاجة إلى هؤلاء وأولئك ما دام المعروف ضائعاً والمنكر شائعاً ، وما دام الإسلام يعيش غريباً في أوطانه مضطهداً بين أهله ، وما دامت شريعته معطلة ، وقرآنه مهجوراً ودعاته معزولون عن مواطن التأثير والتوجيه . إننا بحاجة إلى عمل بالإسلام وعمل للإسلام  وذلك بتحمل عبء الدعوة إليه عقيدة وشريعة   ودنيا ودولة ، وحضارة وأمة ، وثقافة وسياسة ، والجهاد في سبيل تمكينه في حياة المسلمين ، حتى يتفق واقع المسلم مع عقيدته ، ويلتقي سلوكه مع ضميره ، وألا نكتفي بالتدين التقليدي : وهو التدين الجزئي الفردي المعزول عن قضايا الأمة الكبرى ، وعن رسالتها في الحياة ومكانتها في  

الوجود ، وإن الذين يقتصرون على ذلك ويحسبون الإيمان والتقوى والاستقامة والصلاح مجرد أداء للشعائر  والإكثار من التسبيح والتهليل والتكبير ، والامتناع عن المحرمات المعروفة من الزنا والسكر ونحو ذلك ، مع تغييب العقل وإهمال العلم وإغفال العمل ، ومجافاة السنن ، وانتظار البركة من السماء ، وقد علموا كما قال عمر بن الخطاب : أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة ، ولو رجعوا إلى ما كان عليه المسلمون الأوائل ، الذين أورثهم الله الأرض ، ومكن لهم فيها وجعلهم أئمة وبدّلهم من بعد خوفهم أمنا ، لعرفوا أنهم لم يحققوا ذلك إلا بالجهد والعلم ، والفكر الدءوب والجهاد الصبور ، هكذا فهموا الإيمان والتقى والاستقامة والصلاح ، فقد وازنوا بين العمل للدنيا والعمل للآخرة ، وجمعوا بين حظ النفس من الحياة   وحق الرب في العبادة  فخدموا الدين بالدنيا ، وأصلحوا الدنيا بالدين) فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة (آل عمران 148 .

إن من السطحية أن نحسب  أننا بمجرد  أن ننادي بالإسلام شعاراً أو نغيِّر بعض المواد القانونية بمواد إسلامية يطلع علينا الصباح وقد حلّت مشكلاتنا ، وشفينا من كل أدوائنا غافلين أن لله في خلقه سننا لا تحابي ، فالله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ، وإن التغيير يحتاج إلى عمل طويل النفس ، وتوجيه متعدد الجوانب متنوع الوسائل ، وإن الإصلاح يحتاج إلى تخطيط مدروس   ورجال يجمعون بين القوة والأمانة ، ويقودون سفينة التغيير إلى بر الأمان  وذلك ليس بالمستحيل إذا صدقت النيات وصحت العزائم   وفي ذلك يكون طريق النجاة والخلاص قال تعالى : ) ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم ( .            

 

      

 

            

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ولا تنازعوا فتفشلوا

  التنازع : التخالف والاختلاف والتخاصُمُ. والفشل: الوهن والإعياء والجبن وانحطاط القوة، مادية كانت أو معنوية .  

وقوله تعالى: ) ولا تنازعوا فتفشلوا ( إخبار واضح ، ونهي جازم ، وسنة ثابتة يدل على أن الفشل والتراجع إنما مرجعه إلى التنازع والاختلاف ؛ والنهي عن التنازع يقتضي الأمر بمنع أسبابه وموجباته ، من شقاق واختلاف وافتراق  والأمر بتحصيل أسباب التفاهم ومحصلاته ، من تشاور وتعاون ووفاق  

ولما كان التنازع من شأنه أن ينشأ عن اختلاف الآراء والتوجهات ، وهو أمر مركوز في الفطرة والجِبِلِّة البشرية  بسط القرآن القول فيه ببيان سيئ آثاره ومغبة مآله ، ورتب عليه في الآية هنا أمرين: الفشل ) فتفشلوا ( وذهاب القوة ) وتذهب ريحكم ( والفشل في الآية هنا على حقيقته، إذ يعني الفشل في مواجهة العدو ومدافعته ؛ وذهاب الريح في الآية ، كناية عن ذهاب القوة  والدخول في حالة الضعف والوهن .

وإنما كان التنازع مفضيًا إلى الفشل، لأنه يُثير التباغض والشحناء ، ويُزيل التعاون والألفة بين النفوس ، ويدفع بها إلى أن يتربص بعضها ببعض ، ويمكر كل طرف بالآخر ، مما يُطْمِع الأعداء فيها ، ويشجعهم على النيل منها ، ويجرئهم على خرق حرماتها ، واختراق محارمها . وكم أُتيت أمة الإسلام على مر تاريخها  من جهة التنازع والتباغض ، مع وضوح النص وصراحته في النهي عن هذا .

ومن ثَمَّ ، جاء صدر الآية آمرًا بطاعة الله ورسوله ، إذ بطاعتهما تُتلاشى أسباب التنازع والاختلاف ، وبالتزام أمرهما تتجمع أسباب النصر المادي والمعنوي ؛ فما يتنازع الناس إلا حين تتعدد جهات القيادة والتوجيه، وحين يكون الهوى المطاع هو الموجِّه الأساس للآراء والأفكار ، فإذا استسلم الناس لأمر الله ورسوله وجعلوا أهواءهم على وَفْق ما يحب الله ورسوله ، انتفى النـزاع والتنازع بينهم وسارت الأمور على سَنَنِ الشرع الحنيف، وضُبطت بأحكامه وتوجيهاته .

على أنَّه من المهم هنا حمل ( الفشل ) في الآية على معنى أعم وأوسع ، بحيث يشمل الفشل في أمور الحياة كافة ، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ، بحيث لا يقتصر الفشل على ساحات الوغى والقتال فحسب - كما هو السبب الذي وردت لأجله الآية الكريمة - وهو معنى لا تأباه اللغة ، ولا يمنعه الشرع  وهذا أولى بفهم الآية ، كما يُعلم ذلك مِن تتبُّع مقاصد القرآن ، وكلياته الأساسية .

وحاصل القول في الآية : أن الاختلاف والتنازع عاقبته الفشل والخسران، وأن التعاون والوفاق سبب للفوز والنجاح في الدنيا والآخرة ؛ والقارئ لتاريخ الأمم والشعوب لا يعجزه أن يقف على العديد من الأحداث والشواهد والمشاهد التي تصدق ما أخبر به القرآن الكريم. وصدق الله إذ يقول: ) واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا ( آل عمران103 . فهل يعمل المسلمون بهذا الأمر الإلهي، أم ما زالوا عنه غافلين ؟ . علماً بأن الحكمة الإلهية اقتضت بأن يكون الخلاف سنة في الأرض فلابد أن يقع لقوله تعالى : ) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ( . وكلما سمعت نبأ اعتداء المسلم على المسلم ، بغض النظر عن طبيعة هذا الاعتداء سواءٌ تَعَلَّق بالدم أم بالعرض أم بالمال ، تذكرت حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يرويه الإمام مسلم : ( المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه  لا يخذله ، لا يُسلِمه ، لا يَحقِره  كل المسلم على المسلم حرام : دمه وماله وعرضه ) . تمنيت على المستهينين بدماء المسلمين وبأعراضهم وبأموالهم أن يتقوا الله ، لأننا بهذا نستجيب لما يريده أعداء الله منا ، بأن يقتل بعضنا بعضاً ، وأن ينتهك بعضنا حرمات بعض   فهذا يقول عن ذاك لا أقر بإسلامه ، نقول له : ألا يقول آمنت بالله رباً  وبالإسلام ديناً ، وبمحمد نبياً ، وبالقرآن كتاباً ؟! فيقول متحدياً حتى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا أقر بإسلام هذا ، لماذا ؟ لأنه حليق  تخرجه من ربقة الإسلام لأنه حليق ؟ با سبحان الله ! وإني أسأل من يَدَّعي لنفسه الأحقية في أن يكون موجِّهاً ومعلماً أفيجوز هذا ؟ وهل يجوز أن يتعادى المسلمون ويُكفِّر بعضهم بعضاً ، ويستحلون الغيبة والنميمة والعداوة والبغضاء  ويقتل المسلم أخاه بسبب وبغير سبب ، متجاهلاً  توجيهات رسولنا ومنهج ربنا ؟ لماذا لا نوحِّد أنفسنا ونحن أمة التوحيد ؟ نحن نوحد ربنا ليوحدنا توحيد ربنا   وإذا لم يوحدنا توحيد ربنا فلا قيمة لنا ولا وجود لنا ، لماذا لا نفوت الفرصة على عدونا ، فنتحد ونجتمع تحت راية الإسلام ، تحت راية القرآن ، في الوقت الذي أصبح ارتباط المسلمين لا يعدو أن يكون ارتباط إنسان اعتاد على أمر ما بعادة ، فارتباط المسلمين بالإسلام عادة وليست عبادة ، ولو أن المسلمين ارتبطوا بدينهم ارتباط عبادة ، لوجدت المسلمين على حال غير هذه الحال التي هم فيها وعليها ، حيث يواجهون الأخطار التي تتهددهم ، وذلك يتمثل في التنازع بينهم   بغير حق.. فترى أناساً يزنون الأمور بما يقع في نفوسهم ، ويبنون على ما يزنون مواقف لا تمثل إلا نفوسهم ، وينسبونها إلى الشرع ، ويحكمون وفقها ، فيضللون ويجزمون بهلاك من لم يكن مثلهم.. ومن قال: هلك الناس؛ فهو أهلكهم.. وما بني على باطل فهو باطل..وما البلاء إلا من عاطفة لا يحكمها عقل، وفي عقل لا تخالطه عاطفة   وماذا سيقولوا لربهم حينما يقول لهم : ما فعلتم بقولي لكم :   ) واعتصموا بحبل الله ( وما فعلتم بقول رسولكم صلى الله عليه وسلم:      ( وكونوا عباد الله إخواناً  ) وماذا فعلتم بقولي لكم          ) وتعاونوا على البر والتقوى ( وماذا فعلتم بقولي لكم       ) ولا تنازعوا فتفشلوا ( ولماذا نجعل للشيطان في أنفسنا على إخواننا مدخلاً   فمرة بسوء الظن فيما فعلوا أو قالوا ، ومرة بالحسد على نعم الله عليهم ، ومرة ببغضهم لخطأ قد وقعوا فيه   ومرة بالشماتة على مصيبة حلت بهم ،  ثم متى نقف وقفة جادة مع القلوب لنطهرها من دنس التحاسد والتباغض   لتصفو لنا الحياة ، ويبارك الله لنا في الأرزاق والنماء ، ومتى نستلذ بطعم العفو  وننعم بكرم الصفح ، ومتى نؤمن بأن علاقة المسلم بالإسلام تعني الحب  والنصيحة والفداء ، ولا تعني التدابر والتباغض ، وكيف نبرر ما يفعله    المسلمون ببعضهم ؟ إني لأسأل الله عز وجل أن يوفقنا من أجل أن نَتِّحد في مواجهة عدو يريد أن يرسمنا على طريقته ، يريد أن يجعل من إسرائيل ، دولة شريكة لنا في هذه المنطقة ، نعم ليست دولة شريكة فحسب ، ولكن دولة ذات سيادة على سائر دول المنطقة ، أما آن لنا أن نفيق من غفلتنا ، فنحقن دمائنا  لأننا إن أسلنا دمائنا بأيدينا فسيسيل العدو دماءنا بأيديه ، والجزاء من جنس العمل ، وأي نجاح لنا أمام أعدائنا إذا تركنا طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ثم  تفرقنا وتنازعنا  وتركنا التوجيه الرباني : ) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ( .

فطاعة الله تتمثل في تنفيذ ما أمر به في المنهج ، وطاعة الرسول طاعة تطبيقية في السلوك ، وهي طاعة لله أيضا ، لأن الرسول مبلغٌ عن ربه ، ولا بد للطائع أن يبتعد عن التنازع مع إخوته المؤمنين ، لأن التنازع هو تعاند القوى ، والقوى المتعاندة تهدر طاقة بعضها البعض ، فتصبح قوة ضعيفة وغير مؤثرة .

 ومن الحقائق المرة التي ربما ثقلت على أنفسنا هو أننا قد وضعنا أنفسنا جميعًا موضع النقاد لهذه الأمة ، وموضع الأطباء لها  ولكننا نسينا أو تناسينا من هو المريض الذي ينبغي أن يتلقى العلاج !! لنبدأ علاج الأمة في فرقتها من أنفسنا ، فكم مرة عفونا ، وكم مرة صفحنا ؟ وكم مرة حاولنا أن نعيد المياه لمجاريها ، وكم مرة تنازلنا عن بعض حقوقنا لإخواننا في سبيل ألفتنا معهم ، ومحبتنا لهم !! لماذا نجعل للشيطان في أنفسنا على إخواننا مدخلاً ، فمرة بسوء الظن فيما فعلوا أو قالوا ، ومرة بالحسد على نعم الله عليهم ، ومرة ببغضهم لخطأ قد وقعوا فيه   ومرة بالشماتة على مصيبة حلت بهم ،  فمتى نقف وقفة جادة مع القلوب لنطهرها من دنس التحاسد والتباغض  لتصفو لنا الحياة ، ويبارك الله لنا في الأرزاق والنماء ، متى نستلذ بطعم العفو  وننعم بكرم الصفح .

 هل نالنا من الأذى حتى نتشاحن كما نال النبي صلى الله عليه وسلممن أهله وعشيرته ، لقد طردوه من أحب البقاع إليه ، وحاربوا دينه ودعوته ، وعذبوا أصحابه ، وأغروا به الأطفال والمجانين والسفهاء ، غير أنهم حينما اصطفوا أمامه بعد أن انتصر عليهم في فتح مكة قام فيهم خطيبًا فقال : ( يا معشر قريش ، ما ترون أني صانع بكم ؟ قالوا خيرا ، أخ كريم وابن أخ كريم  قال : فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته : ) لا تثريب عليكم اليوم ( اذهبوا فأنتم الطلقاء ).

 وما أروع قول الشاعر حينما قال :

إن الذي بيني وبـين بني أبـي     وبـين بني عمي لمختلف جدا

إذا أكلوا لحمي وفرت لحومهم    وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا

ولا أحمل الحقد الدفين عليهم      وليس كريم القوم من يحمل الحقدا

حري بنا أن نجدد مع الله طهارة قلوبنا بالإيمان ، وغسلها من درن الحقد والحسد   وأن نفتح صفحة جديدة مع أهلينا وإخواننا المسلمين ، مملوءة بالمحبة الخالصة لوجه الله ، وأن نجد لإخواننا الأعذار في تقصيرهم وأخطائهم  حتى نكون صفًا واحدًا أمام أعدائنا ، كالبنيان المرصوص قال تعالى: ) إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفًا كأنهم بنيان مرصوص (  .

ولنعلم أنه لا اختلاف في الأصول الثابتة بالأدلة القطعية الثبوت القطعية الدلالة  وأنه ما وقع الخلاف إلا في الفروع ، التي هي محل اجتهاد ، والنصوص تحتمله  وأنه يجوز النقد والرد بالتي هي أحسن، وأن لا يتنازع المتخالفون مع بعضهم البعض، لأن التنازع يؤدي إلى الفشل، والمعاداة والعدوان وتسليط اللسان، واتهام النيات، والحكم بالهلاك ، وهذا كله جور وظلم ونقص في الحكمة وضيق في الرؤية، وفي مثل هذا يقول الله تعالى: ) ولاتنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين ( . ويقول : ) ولاتكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعدما ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم ( . وبعد هذا النهي الرباني إذا وجدت أحدا يعادي في مسائل الخلاف، ويقاطع ويدابر، فاعلم أنه: إما جاهل لا يدري ولا يفرق بين ما يسوغ وما لا يسوغ فيه الخلاف  ومثل هذا كثير، وهؤلاء أصحاب نيات حسنة في الدين، لكن آفتهم عدم البصيرة والعلم.. ودواؤهم التعليم والتبصير.. وإما صاحب هوى، يريد فتنة، ومثل هؤلاء موجودون، ويهمهم الإيقاع بين المؤمنين ، يتخذون من مسائل الخلاف والمشتبهات دخلا لإفساد ذات بين المؤمنين، وتفريق كلمتهم، وحصول التنازع والفشل، متسترين بحب الدين والحرص عليه ، وما أضر على الدين منهم ، فعلى المؤمنين الحذر منهم ، ولن ينجيهم إلا التقوى والبصيرة قال تعالى: ) يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لايألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون ( آل عمران . ومن هنا نرى أن مفهوم الوحدة الإسلامية لا يقوم على صهر المذاهب في مذهب واحد ، إنما يقوم على احترام المذاهب كطريقة لفهم الإسلام ، ودون الغوص في مسألة التقييم ، ودون الدعوة إلى قيام مذهب جديد ، والدعوة إلى تعاون أبناء الأمة جمعاء على اختلاف مذاهبهم وعقائدهم ونبذ الاختلاف ، بل جعله طريقاً للتنافس لا للتنازع على أساس الانتماء للأمة.

وحتى إذا وقع الاختلاف فالقرآن يقول: ) فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم (    الأنفال1 . وإن الشعور بإصلاح ذات البين ضعيف بين المسلمين ، وهو نقص في إسلامهم، لأن الإسلام علم وعمل، وليس مجرد قولٍ وادِّعاء قال تعالى ) وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ( .

 

 

 

 

الاعتذار و التسامح

 قال صلى الله عليه وسلم  : ( من اعتذر إليه أخوه المسلم فليقبل عذره  مالم يعلم كذبه) الاعتذار خلق اجتماعي جميل يدعو للتفاهم ، ويمحو التوتر والتشاحن بين الناس وينفي عن صاحبه صفة التعالي والكبر ،كما أنه يُزيل الأحقاد  ويقضي على الحسد ، ويدفع عن صاحبه سوء الظن به  وهو علامة من علامات الثقة بالنفس ، ودليل القدرة على مواجهة الآخرين .

الاعتذار من شيم كبار النفوس ، لأنه يعني الاعتراف بالخطأ ، وقلما تجد إنساناً يستطيع أن يواجه الآخرين بخطئه أو يعترف  به ، على العكس من صغار النفوس  الذين لا يعتذرون عن أخطائهم ، ويعتبرون الاعتذار نقيصة يتهربون منها ، مع أن كبار النفوس يعتبرونه خلقاً يتقربون به إلى الله ، وسلوكاً إيجابياً يُزينون به أخلاقهم ولقد أحسن القائل :

إذا اعتذر الجاني محا العذر ذنبه    وكان الذي لا يقبل العذر جانيا

وصغار النفوس ، بدلاً من السعي لتصحيح أخطائهم ومراجعة أنفسهم ، وإصلاح ما أفسدته تصرفاتهم ، فإنهم يحاولون تبرير هذه الأخطاء  والتملص من تحمل المسئولية   أما كبار النفوس فإنهم يسارعون إلى الاعتذار عند وقوع الخطأ ، بل إنهم يحاولون اجتناب الوقوع فيما يُوجب الاعتذار ، مسترشدين في ذلك بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم الجامعة لأبي أيوب الأنصاري ( إذا قمت في صلاتك فصل صلاة مودع و لا تكلم بكلام تعتذر منه و اجمع  الإياس مما في أيدي الناس ) فإن زلت قدمك مرة فإنه ( لَا حَلِيمَ إِلَّا ذُو عَثْرَةٍ وَلَا حَكِيمَ إِلَّا ذُو تَجْرِبَةٍ ) رواه أحمد وابن ماجه وحسنه الألباني .

 وقال بعض الحكماء : إياك وما يسبق للقلوب إنكاره   وإن كان عندك اعتذاره .

فكبار النفوس يقبلون الأعذار من المخطئين في حقهم بالعفو عنهم ، لأنهم فقهوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم  : ( مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ ) ولقد أحسن القائل :

اقبل معاذير من يأتيك معتـذراً  إن برّ عندك فيما قال أو فجرا

فقد أطاعك من يرضيك ظاهره وقد أجلك من يعصيك مستترا

إن الاعتذار أدب اجتماعي في التعامل الإسلامي، ينفي الشعور بالكبرياء والحقد والبغضاء ، بل إن الاعتذار والاعتراف بالخطأ أطيب للقلب  وأدعى إلى العفو ، وإن صاحب خلق (الاعتذار) ليستحيي من افتضاح تقصيره حين يظن من نفسه التقصير ، فابن عمر يروي أنه كان في سرية فانهزموا ، ومن حيائهم رجعوا إلى المدينة خفية في الليل ، واختفوا في المدينة ، ثم قالوا : ( لو خرجنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واعتذرنا إليه ) فخرجوا لبيان عذرهم  وقالوا له : ( نحن الفرّارون يا رسول الله! قال : بل أنتم العكَّارون، وأنا فئتكم ) رواه أحمد وأبو داود والترمذي . فهوَّن عليهم ووصفهم بالعكّارين، الذين يغزون كرة بعد كرة، ولا يتوقفون عن الغزو.

 وتلقي الأعذار بطيب نفس، وبالعفو والصفح ، يحض الناس على الاعتذار ، أما سوء المقابلة للمعتذر وتشديد اللائمة عليه فإنه يجعل النفوس تصر على الخطأ، وتأبى الاعتراف بالزلل، وترفض تقديم المعاذير ، فإن بادر المسيء بالاعتذار ، فبادر أنت بقبول العذر ، والعفو عما مضى ، وتلك فضيلة تستحق الاحترام ، وهي مدخل لصفاء القلوب وليست فرصة للهجوم على المعتذر والانتقاص منه قال الشاعر :

قيل لي قد أسا إلـيك فـلانٌ    وقعود الفتى على الضّيم عار

قلت : قد جاءنا فأحدث عذراً    فدية الذنب عندنا الاعتذار              إن الاعتذار كفيل بخلق نوع من الرضا بين الطرفين  دون أن يشعر أحدهما بالانتصار على الآخر ، بل ويرفع من قدر المعتذر ، فهاهو أبو ذر يقول : إني كنت ساببت (شتمت) بلالاً، وعيرته بأمه ؛ فقلت له : يا ابن السوداء فشكاني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي النبي : (يا أبا ذر  أعيرته بأمه ؟ إنك امرؤ فيك جاهلية ، فوضعت رأسي على الأرض ، وقلت لبلال : ضع قدمك على رقبتي حتى يغفر الله لي، فقال لي بلال : إني سامحتك غفر الله لك .

إن التسامح صفة عجز الكثيرون عن الوصول إليها  فلماذا أصبح من الصعب علينا العفو والتسامح ، ولماذا أصبح من الصعب الاعتراف بالخطأ ، ولماذا ينظر لمن يعتذر بأنه ضعيف وأن الاعتذار ذل و أهانه ، وإذا الرحمن الرحيم يصفح ويسامح فمن نكون نحن ، والبشر ليسوا ملائكة  فلا بد أن يخطئوا  ( وخير الخطائين التوابون ) والتوبة من هذا المنطلق هي الخطوة الأولى لتطهير النفس من الخطأ   ولذلك وعد الله - من يلجأ إليه معتذرا معلنا توبته - بالمغفرة ، وإذا كان الله يغفر ويصفح ، فمن هو العبد الذي يقابل الاعتذار بالصد والاستنكار .

 والسؤل من منا لم يخطي بحق غيرة ؟ في أحيان كثيرة لا نصدق أننا كنا بهذه القسوة أو الانفعال و لا نصدق أننا أذينا من أمامنا بتلك القسوة ، و نظل نبحث في داخلنا عن مبرر لنرتاح من تأنيب الضمير ، فلا نجد حلاً سوى الاعتذار ، قد تكون كلمة " أسف " غير كافية ولا تفي بالمطلوب لأن لاعتذار فن ، ولا يقدر علية أي شخص فلا بد من الاعتراف بالمسؤولية عن الخطأ لكي تستطيع استرجاع ثقة من أمامك ، لأن المخطئ مريض ضعيف  

والمسامح طبيب ، فإما أن يكون الطبيب كريما ً فيسامح  ليكون له عونا ًعلى الشفاء بإذن الله ، و إما أن يكون لئيما ًفلا يسامح ليزيد جراحه ، وإذا كان الناس يخطئون في حق ربهم فيغفر لهم بمجرد استغفارهم قال صلى الله عليه وسلم :

 ( والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقومٍ آخرين يذنبون، فيستغفرون الله فيغفر لهم ) فإذا كان مكتوبا ً أن يخطئ الناس في حق الخالق العظيم ، أفلا يكون من باب أولى أن يخطؤوا بحق الخلق الأذلاء ؟ وإذا كان الخالق بعظمته و جبروته و قوته يغفر للمخطئ و يكون سبحانه أشد فرحا ًبتوبة عبده من التائب نفسه  أفلا نغفر لبعضنا و نسامح ونحن الضعفاء الأذلاء ولا نملك لأنفسنا حولاً ولا قوة ؟ فمن علّمنا أن الاعتذار ضعفٌ وإهانةٌ ومنقصة ؟ ومن علّمنا أن في الاعتذار جرحٌ للكرامة والكبرياء ؟ فليتنا نكون متسامحين مع أنفسنا ابتداءً  ومع الآخرين انتهاءً  ، فسامحوا و تسامحوا  واعتذروا واعذروا ، وتأسفوا واقبلوا الأسف ، فإننا بشر لم نزل بعد في الحياة الدنيا ، حيث لا ملائكة ، فاغفروا للخلق خطأهم ، ليغفر لكم الخالق خطاياكم ، وقد نتقاسم الأخطاء ، ولكن خيرنا من يبدأ بالسلام ،  ومن أكرمك  فأكرمه ، ومن استخفّ بك فأكرم نفسك عنه .

   

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الصلاح في علو الهمة
الهمة في اللغة : ما هم به من الأمر ليفعل ، وفي الاصطلاح : الباعث على الفعل ، والهمم العالية : هي التي لا تقف دون الله تعالى، ولا تطلب سواه، ولا تسعى إلا لرضاه، ولا ترضى بغيره بدلا منه، ولا تبيع حظها من الله وقربه والأنس به بشيء من أعراض الدنيا وحظوظها  وحطامها الفاني ، كيف والله أعلى مطلوب وأفضل مرغوب ، لأن صاحب الهمة العالية لا يرضى بالأشياء الدنيئة ،  قال عمر بن عبد العزيز : إن لي نفساً تواقة ، ما نالت شيئاً إلا تاقت إلى ما هو أفضل منه ، وإنها لما نالت هذه المنزلة يعني الخلافة ، وليس في الدنيا منزلةً أعلى منها ، تاقت إلى ما هو أعلى منها يعني الآخرة  وجاءت مولاة لعمر بن عبد العزيز ، فقصت أنها رأت في المنام ، كأن الصراط قد نصب على جهنم  وهي تزفر على أهلها ، وذكرت أنها رات رجالاً مرّوا على الصراط فأخذتهم النار ، ورأيتك يا أمير المؤمنين وقد جيء بك ، فوقع مغشياً عليه وبقي زماناً وهي تصيح في اذنه رايتك وقد نجوت  .

إن سقوط الهمم هو أصل ما وصلنا إليه من ذل وهوان ، وما من أمة يرضى أهلها بالأمر الواقع  ولا تبلغ همم أبنائها أن يغيروه إلا كان لهم الخزي والعار والذلة والصغار.

لقد رأينا أصحاب رسول الله رضي الله عنهم كيف أسقطوا أكبر إمبراطوريتين وأعظم دوليتين في زمنهم (فارس والروم) وفتحوا بلاد السند والهند والمغرب والأندلس في فترة وجيزة هي كالحلم في عمر الزمان.

وقد رأينا في زمان العز وعلو الهمم كيف كان المسلم في عهد صلاح الدين يربط عشرات الأسرى في عمود الخيمة.. ولقد باع مسلم أسيرا نصرانيا بنعل ، فلما سألوه لماذا؟ قال: أردت أن يخلد التاريخ هوانهم وذلهم ، وأن رجلا منهم بيع بنعل  فخلدها له التاريخ ، ثم مرت الأيام وقعدت الهمم ورأينا كيف كان الجندي من التتار يأمر المسلمين قعيدي الهمة ، أن يجلسوا مكانهم حتى يذهب فيأتي بالسيف ليقتلهم ، فيمنعهم الخوف أن يتحركوا حتى يعود إليهم فيقتلهم أجمعين ، ثم مرت الأيام ورأينا كيف احتلت فلسطين ، وضاعت القدس، وسلب المسجد الأقصى.

ورأينا كيف ضاعت العراق ورأينا كيف يركع الجندي العراقي أمام نعل الجندي الأمريكي طالبا منه العفو والصفح، وطالعتنا الأخبار بصورة رجل هناك يقبل يدي جندي أمريكي شكرا له على تحرير البلاد!! ومرت الأيام ورأينا في عصرنا شبابا ينتسبون إلى الإسلام تصاغرت هممهم ، إلا عن السفاسف ومحقرات الأعمال، يمعنون في التشبه بالكفار في قصات الشعور ، وفي أزياء الملابس، وبعضهم يعلق على سيارته أعلام الدول التي أذلت كبرياءهم وطأطأت أعناقهم وأهدرت كرامتهم واستعبدت أمتهم .

إن هذه الأمة إن أرادت أن  تستعيد هيبتها وكرامتها وأن تعيد مجدها وعزتها ، فلابد لها أولا من أن تعلي همتها وتحيي عزيمتها.. وإنما تعلو الهمم بأمور خلاصتها تخلية وتحلية..

إن مما يدركه الإنسان البصير ، حكمة الله في تفاوت رغبات الناس ، وتباين هممهم ومراداتهم  . 

 أيها الإخوة : إن الإنسان بطبيعته التي خلقه الله عليها ضعيف في بدنه ضعيف في إدراكه وتصوراته ، فهو يريد كل شيء ولا يستطيع أن يدرك إلا بعضاً من شيء ، ثم هذا الشيء الذي أدركه لم يدركه على أتم صفة فيه وأعلى درجة منه ، فهي إذن سنة إلاهية  تنبه لها الصحابة رضي الله عنهم ، فسألوا عن أفضل الأعمال وعن أحبها إلى الله وأقربها إليه .

ثم تبع هذا تفاوت الناس في أخذهم من هذه الأعمال فمن الناس من فتح الله له باباً من الأعمال الصالحة فهي ديدنه ،  ومنهم من فتح له بابان وثلاثة وأكثر فهو ينقل نفسه بين رياض هذه الأعمال وفي كل واحد من هؤلاء خير يقول النبي صلى الله عليه وسلم (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير) فقوي الإيمان على خير وهو في علية الناس وكتابه في عليين ، وضعيف الإيمان هو الآخر على خير بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم (ولعبد مؤمن خير من مشرك) ومع ذلك هو مطالب أن يزيد في إيمانه ، وأن ينشط في نفسه ، وأن يلحق بالسابقين من إخوانه (احرص على ما ينفعك واستعن بالله)

 } والسابقون السابقون أولئك المقربون { فمن سابق في هذه الدنيا وسبق إلى الخير ، كان من السابقين إلى الكرامة ، والجزاء من جنس العمل ، وكما تدين تدان ولهذا قال تعالى : } أولئك المقربون في جنات النعيم { والأبرار المقربون من علت همتهم وأعمالهم ، والمسلم حينما يدرك أنه لن يستوعب كل أبواب الخير وإن حصَّل جملة منها ، فإنه يستمسك بالباب الذي فتح له على حدِّ ما يروى عن عمر رضي الله عنه (من بورك له في شيء فليلزمه)

 كتب عبد الله العُمري العابد إلى الإمام مالك : يحضُّه على العُزلةِ والعمَل المنفرد، فكتب إليه الإمام مالك : "إنَّ الله قسم الأعمالَ كما قسم الأرزاق، فرُبّ رجلٍ فُتِح له في الصلاة ولم يفتَح له في الصوم  وآخر فُتح له في الصدقةِ ولم يفتَح له في الصوم"، ثم يقول الإمام مالك : "ونشرُ العلم من أفضلِ أعمال البرّ، وقد رضيتُ بما فُتح لي فيه ، وما أظنّ ما أنا فيه بدون ما أنت فيه ، وأرجو أن يكونَ كلانا على برٍّ وخير" وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( المؤمن حارث وهمام فهو حارث بفعله يباشر أعماله ، وما لا يستطيعه فهو همَّام به ) أي : له نية حسنة فيه لو استطاعه لعمله .

فالتاجر في عمله والموظف في وظيفته والمعلم بين طلابه صاحب الرأي برأيه ومشورته ، كل بحسبه وحيث يضعها يجدها ، ولا تزال دائرة الخير والعمل تتسع حتى لا تدع لأحد عذراً ،  وتأمل جيداً ما رواه أبو ذرّ رضي الله عنه قال: يا رسول الله، أيّ الأعمال أفضل؟ قال: (إيمانٌ بالله، وجهاد في سبيله)  قال: فأيّ الرِّقاب أفضل؟ قال: (أغلاها ثمنًا وأنفسها عند أهلها ، قال: أرأيتَ إن لم أفعل؟ قال: تعين صانعًا أو تصنَع لأخرَق ، قال: أرأيت إن ضعفتُ عن بعض العمل ؟ قال: تكف شرَّك عن الناس ، فإنّه صدقة تصدَّقُ بها على نفسك) متفق عليه .

فاعرف يا أخي : أين تضع نفسك في ميدان العمل وفي حياة المسارعة والمسابقة  } وسارعوا إلى مغفرة من ربكم {  } سابقوا إلى مغفرة من ربكم { ثم تنبه أنَّ هناك من أبواب الخير ما تمليه الظروف على طائفة من المسلمين دون طائفة فمن كانوا من المسلمين في البلاد التي جثم فيها الاحتلال  وصارت جيوش الظالمين تجوس خلال ديارهم لا ترحم صغيرهم ولا تؤوي كبيرهم اعتادت أسماعهم دوي الانفجارات ، وألفت أنظارهم صور القتلى   جاورهم من لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة ، فهؤلاء عندهم من أبواب العمل ما نرجو الله لهم أن يكون سبباً في تفريج كربتهم وفك غربتهم في ديارهم فهم يعبدون الله في انتظار الفرج ومن أفضل العبادات انتظار الفرج ، ذُكر عن ابن الجوزي أنه قال :"وإنما تقصر بعض الهمم في بعض الأوقات، بسبب عجز أو كسل أو ركون إلى وسوسة الشيطان والهوى، وتسويل النفس الأمارة بالسوء، فهنا تحتاج الهمة عنده إلى إيقاظ وتنبيه وتذكير، بأن يذكرها ويسألها: رضا من تطلب؟ وفي أي نعيم ترغب؟ ومن أي عقاب ترهب؟ كما فعل ذلك البطل الذي لا نعرف اسمه، لكن حسبه أن الله سبحانه وتعالى يعلمه، وهو وحده الذي يثيبه فعن عبد الله بن قيس أبي أمية الغفاري قال: كنا في غزاة ، فحضر العدو، فصيح في الناس -يعني: نودي بالجهاد- فوثبوا إلى مصافهم، وكان هناك رجل أمامي، رأس فرسي عند عجز فرسه. وكان هذا الرجل واقفاً، ولا يشعر بأن هذا يقف ويسمعه، وكان يخاطب نفسه ويقول: ألم أشهد مشهد كذا وكذا، فقلتِ لي: أهلك وعيالك، فأطعتك ورجعت؟ ألم أشهد مشهد كذا وكذا، فقلت لي: أهلك وعيالك، فأطعتك ورجعت؟ والله لأعرضنك اليوم على الله، أخذك أو تركك. فقلت: لأرمقنه اليوم -أي: سأراقب هذا الرجل إلى ما ينتهي أمره- قال: فرمقته، فحمل الناس على عدوهم، فكان في أوائلهم، ثم إن العدو حمل على الناس ، فانكشفوا -يعني: انهزموا- فكان في حماتهم أي كان مع الطائفة التي تحميهم وتدافع عنهم، ثم إن الناس حملوا مرة ثانية، فكان في أوائلهم، ثم حمل العدو وانكشف الناس، فكان في حماتهم، قال: فوالله ما زال ذلك دأبه حتى رأيته صريعاً، فعددت به وبدابته ستين أو أكثر من ستين طعنة. رحمه الله تعالى. فلابد لكل من يسلك الطريق إلى الله سبحانه وتعالى من هذين الجناحين؛ ليطير بهما، ولا يستقيم حال المرء إذا اقتصر على واحد منهما. فالمرء لابد له من همة تحمله، وعلم يبصره ويهديه، فالقوة العلمية مع القوة العملية لا بد منهما، فمثلاً: من يريد أن يسافر إلى بلد معين لا شك أنه يحتاج إلى خريطة بالموقع والمكان الذي يريد أن يقصده، وفي نفس الوقت يحتاج إلى  سيارة، وهذه السيارة لابد لها من وقود، فالخريطة هي القوة العلمية التي تدله لكي يصل إلى هذا المكان، والوقود هذا هو القوة العملية أو قوة الإرادة التي تمكنه من الحركة والانبعاث لتحصيل هذا المقصود.

ومن خصائص كبير الهمة: أنه يعلم تماماً أنه بقدر ما يتعنى ينال ما يتمنى، يعني: أن ثمن الهدف العالي الذي يطلبه أن يكون هناك جهد جهيد يبذله؛ كي يصل إلى هذا الهدف، فلا يغرق في أحلام اليقظة والأماني الكاذبة، ولا يغتر بالأماني وهو لا يسعى في تحصيلها؛ فلابد لكل سلعة من ثمن يليق بها، لأن عالي الهمة يجود بالنفس والنفيس في سبيل تحصيل غايته، وتحقيق بغيته؛ لأنه يعلم أن المكارم منوطة بالمكاره، وأن المصالح والخيرات واللذات والكمالات كلها لا تنال إلا بحظ من المشقة، ولا يعبر عليها إلا على جسر من التعب ، وقد أجمع عقلاء كل أمة على أن النعيم لا يدرك بالنعيم، وأن من آثر الراحة فاتته الراحة ، فلا فرحة لمن لا هم له، ولا لذة لمن لا صبر له، ولا نعيم لمن لا شقاء له، ولا راحة لمن لا تعب له، بل إذا تعب العبد قليلاً استراح طويلاً، ومن تحمل مشقة الصبر ساعة قاده لحياة الأبد، وكل ما فيه أهل النعيم المقيم فهو صبر ساعة ، قال أحمد بن داود أبو سعيد الواسطي : دخلت على أحمد بن حنبل الحبس قبل الضرب، فقلت له في بعض كلامي: يا أبا عبد الله ! عليك عيال، ولك صبيان، وأنت معذور؛ كأني أسهل عليه الإجابة، فقال لي : إن كان هذا عقلك يا أبا سعيد ! فقد استرحت. لكن هل هذه الراحة ممدوحة؟ الجواب: لا ، وقد قيل للإمام أحمد : متى يجد العبد طعم الراحة؟ فقال: عند أول قدم في الجنة ، إنها همة ابن حنبل  والهمم  تتفاوت،  وكل حي عنده همة، لكن من الناس من همته في الدنيا ، وهمم الدنيا كثيرة ، لكن العاقل من يجعل همته في الآخرة، فإذا وصل إلى مستوى طمع إلى ما هو أعلى منه ، فهل ترغب يا أخي أن تكون عالي الهمة ، فقلبه لا يعرف الغفلة ولا الراحة ولا الترف ، فعباد الله ليسوا بالمنعمين  

وإن دنت همتك فخف من عقوبة ربك ، وإن علت قليلاً فارغب في معاملته ، وإن تناهت فتعلق بمحبته   قال بعض السلف : لقيت رجلاً في برية فقلت من أين ؟ فقال من عند قومٍ } لا تلههم تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكر الله { فقلت وإلى أين ؟ فقال : إلى قوم } تتجافى جنوبهم عن المضاجع { فلله درُّ العارفين ما أقل ما تعبوا وما أيسر ما نصبوا ، وما زالوا حتى نالوا ما طلبوا .  

 

الحاقدون من البشر

قال تعالى : ] أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء [  إن تحقير الشيء الذي لا يستطاع إدراكه سمة الحاقدين ،  أصحاب النفوس الصغيرة ، ومن يظن انه يستطع هدم الآخرين فإنه يجانب الصواب ، بل ستبقى علته ، ويخسر معركته وتذهب جهوده هباء ، لأن الحقد حمل ثقيل يُتعب حامله  إذ تشقى به نفسه ، ويفسد به فكره وينشغل به باله   ويكثر به همه وغمه ، وأنني أستغرب ممن يكونوا رهينة لهذا الداء ، ليجعلوا فلان من الناس أمام عيونهم ، يبحثون كيف يكيدوا له بالمكائد ، ويتربصوا به بالمصائب التي من صنع أيديهم ، يبحثون عن كل ما يؤذيه ، فيقعوا في كثير من الرذائل التي رهَّب منها الإسلام ، كالافتراء على الأبرياء ، كما اتهمت من الحاقدين من قبل ، تحت عنوان المطالبة بإخراج الفاسق حسن السباتين ، من الإمامة في مساجد جبل الزهور ، فاتهمت بالفسق والظلم والفساد وعدم الخوف من الله ، وبرروا فشلهم يومها عن تحقيق مطلبهم بأني مخابرات ، وما علموا أننا نعيش في بلد تمتاز بوجود العين الساهرة ، والرقابة الدقيقة ، واليقظة الحادة  والسلطان المهيب ، بلد يتمتع بإنصاف المظلوم ، وقطع دابر الدعوة إلى الفرقة ، وتلك هي سياسة جلالة ملك البلاد ، بوضع حد لضغائن الحاقدين ، وسخف المتنطعين  وسفاسف الجاهلين ، الذين لا يعلمون من الدين سوى كلمات سمعوها ، أو عبارات حفظوها ، وها هم اليوم يعيدوا الكرة ،  فيشكون إلى الأوقاف زوراً وبهتانا بأني عاجز ، ولا أستطيع القيام بعملي ، حتى إذا تبين كذبهم   عادت الأوقاف عن قرارها ، إحقاقاً للحق ، وإبطالاً للباطل ، عملاً بتأكيد جلالة الملك في أكثر من مناسبة بأن جميع الأردنيين أسرة واحدة ، يتساوى أفرادها في الحقوق والواجبات ، بغض النظر عن أصولهم ومنابتهم  كما أكد جلالته على محاربة الفساد والواسطة والمحسوبية   وان القانون والنظام سيطبق على الجميع ، وهذا يحقق العدل والمساواة للجميع ، كما أكد جلالته في أكثر من مناسبة على ضرورة تضافر جهود الجميع ، من أجل القضاء على الفساد الإداري والمالي في بعض المؤسسات  من أجل أن يبقى الأردن في قلوب وعقول وحياة المواطنين جوهرة ثمينة لا تمس بسوء
 وقد اعتبر الإسلام الحقد من أقبح الزور ، لأن من لوازمه سوء الظن واللمز ، وتعيير الناس بعاهاتهم ، أو خصائصهم البدنية أو النفسية ، وقد كره الإسلام ذلك كله كراهيةً شديدةً ، لأنه لا أروح للمرء ولا أطرد لهمومه، ولا أقر لعينه من أن يعيش سليم القلب، مُبرَّأ من وساوس الضغينة، وثوران الأحقاد، إذا رأى نعمةً تنساق لأحدٍ رضيَ بها وأحسَّ فضل الله فيها، وفقرَ عبادهِ إليها وإذا رأى أذى يلحق أحداً من خلق الله رَثَى له ، ورجا الله أن يفرج ويغفر ذنبه، وبذلك يحيا المسلم ناصع الصفحة راضياً عن الله وعن الحياة ، مستريح النفس من نزعات الحقد الذي لا يمكن أن يكون في امة صادقة ومخلصة لربها   لكنه يظهر في أقوام باعت دينها بدنياها .   

إن الحقد سهم في خاصرة الإنسانية ، وخلق ذميم وصفات شيطانية ، يقتل المبادئ والقيم ، ويعزز روح الفرقة والكراهية والأحقاد ، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يدع باباً من أبواب الخير إلا دلنا عليه ، ولم يدع باباً للشر إلا أغلقه وحذرنا منه ، ولنا فيه الأسوة الحسنة في عمل الخير والتحلي بالأخلاق الكريمة ، فجاء النهي عن التباغض والتحاسد فقال صلى الله عليه وسلم : ( لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تقاطعوا وكونوا عباد الله إخواناً، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ) وقال حاثاً على المحبة والألفة : ( والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا) مسلم . فسلامة الصدر نعمة من النعم التي توهب لأهل الجنة حينما يدخلونها :        ] وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ [ الحجر 47. وهي راحة في الدنيا وغنيمة في الآخرة   وهي من أسباب دخول الجنة ، فلماذا نتنصل من هذا الهدي الرباني ، ونقتل روح الإخوة والإنسانية المغروسة فينا ، وننهج منهج الشيطان ونسلك طريقه ونتصف بصفاته ، وأخلاقه ونستكين لنفثه ؟ ولماذا يضمر المسلم لأخيه الحقد والضغينة ، وهو يرى كيف امتدح الله المؤمنين ، الذين صفت نفوسهم ، وطهرت قلوبهم فلم تحمل حقدًا على أحد من المؤمنين: ] وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [ الحشر 8 .

إن الحقد يحتاج إلى مجاهدة النفس ، والزهد في الدنيا والحذر من عاقبة الانتقام ، لأن قدرة الله عليه أعظم من قدرته ، وأنه سبحانه بيده الأمر والنهي لا رادّ لقضائه ولا معقب لحكمه ،  وقد جاءت النصوص في معالجة هذا الداء فقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه البُخاري ومُسلم عن أنس بنِ مالكٍ  قال : ( لا يُؤمِنُ أحَدُكُمْ حتى يُحِبَّ لأخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسه )  في هذا الحديث يبين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الإيمان لا ترسخ جذوره في النفس ، ولا يتمكن من القلب ، ولا يكمل في صدر المسلم ، إلا إذا أصبح إنسان خير ، بعيداً عن الأنانية والحقد، والكراهية والحسد .

جميلٌ منا أن  نسعى إلى تزكية أنفسنا بالسؤال عن طرائق البعد عن الحقد والكراهية ،  وأن نعلم أن منشأ الحقد والكراهية عادة ، هو موقف غضب ، يدفعنا للانتقام  لرد اعتبار أو مكانه ، وحتى ندفع ذلك عن أنفسنا وقلوبنا  يجب أن ننظر إلى الأمور من حولنا نظرة الواثق الكبير في نفسه ، تقول العرب : " وليس كبير القوم من يحمل الحقدا"  نعم فالعظماء لا يبالون بأقاويل السفهاء ، ولا يلقون لها بالاً ، لأن المسلم يعفو ابتداءً ، ويتغافل عما لا يعجبه ويتأسى بقوله تعالى : ] ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [ فصلت 34     

إن علينا أن ننظر للأمور بميزان من يعرف الدنيا ، وأنها لا تخلو من الأكدار ، لتطمئن نفوسنا ، وتستريح قلوبنا  ونجرب الإحسان إلى من يعادينا ، فإن أصرّوا على عداوتهم ، فأمثال هؤلاء لا يستحقون أن نشغل أنفسنا بهم  

أعاتب من يحلو بقلبي عتابه    وأترك من لا أشتهي أن أعاتبه

والمتأمل في أحوال الحاقدين ، يجد تناقضًا ظاهرًا بين ما أوصاهم به ربهم من رعاية حقوقه وحقوق عباده ، وبين ما هم عليه من تفريط في جنب الله ، وعدم رعاية حقوق عباد الله ، بل إنهم  يظنون أن التقوى هي القيام بحقوق الله تعالى دون حقوق عباده ، وأن الدين قاصر على معاملة الخالق دون المخلوق  فيهملون حقوق العباد أو يقصرون فيها ، ويستهينون بظلم الناس وبخسهم حقوقهم  

 ومن العجيب أنهم يحرصون على أداء الشعائر التعبدية ويلتزمون بالمظاهر الشرعية، ويجتهدون في نوافل العبادات من صلاة وصيام وتلاوة وذكر ، ولكنهم لا يولون جانب المعاملة للخلق اهتمامًا يذكر ، فتجد عندهم  من الحقد والحسد، والعجب والكبر والظلم والبغضاء والشحناء والتهاجر والتدابر والكذب والتدليس، والغش والمخادعة  وإخلاف الوعود، ونقض العهود ، والقطيعة والعقوق   والولوغ في أعراض الناس، والسعي بالغيبة والنميمة والإفساد ، وتتبُّع العورات، والتدخل فيما لا يعني، ما يتنافى وكمال الإيمان ، ويتناقض مع ما هم عليه من مظاهر الصلاح والديانة!! وكأن معاملة الخلق ليست من الدين ، أو كأن ظلم الناس والتحريض عليهم ، لا حرج فيه ولا بأس ، والحقيقة أن هؤلاء يهدمون ما يبنون ويفسدون ما يعملون، ويحبطون حسناتهم من حيث لا يشعرون، فهم يجتهدون في أداء الفرائض والنوافل نهارهم وليلهم ، وقد يصبح الواحد منهم ولا حسنة له   ويجمعون حسنات كأمثال الجبال ، من صلاة وصيام وصدقة وذكر وغيرها ، ثم يذهبونها بأنواع من الكبائر المتعلقة بظلم الخلق ، وسوء الظن بهم  وسوء معاملتهم . وربما عند المعادلة لا تقوم أجور صلواتهم وطاعاتهم بإثم ظلمهم للعباد ، إنها والله الخسارة الفادحة، والغبن الفاحش، والإفلاس الذي ليس بعده إفلاس!! وفي مقابل هؤلاء طائفة أخرى ليسوا في منزلتهم من الالتزام بالمظاهر الشرعية ، والحرص على أداء الشعائر التعبدية لكنهم حريصون على معاملة الناس بالحسنى، ومعاشرتهم بالمعروف ، من أجل كسب مودتهم  والحظوة عندهم واتقاء شرهم ، فهم يفعلون ذلك من أجل الدنيا، ولا يحتسبون الأجر فيه من الله تعالى ، وينسى هؤلاء وأولئك أو يجهلون أن الخلق الحسن عبادة ، من أجل العبادات وقربة من أعظم القربات ، وعمل من أحب الأعمال إلى الله ، وأزكاها عنده ،  وأن الواجب على كل مسلم أن يحرص عليها، ويجتهد في التخلق بها ، ومن تأمل النصوص الواردة في الحث على حسن الخلق ، فإنه يفاجئ بكثرة ما رتب عليه من الأجر والثواب، وما لصاحبه من المدح والثناء ورفعة المنزلة وحسن العاقبة في الدنيا والآخرة  كما أنه يعجب من غفلة كثير من الناس عن هذا الخير وتفريطهم فيه، وحرمانهم إياه، مع أنه لا يكلفهم شيئًا يذكر، وبه يحصِّلون خيري الدنيا والآخرة.

ويا ليت هؤلاء إذ قصَّروا في القيام بحقوق العباد  ومخالقة الناس بخلق حسن، كفوا أذاهم عنهم ، وطهروا أيديهم وألسنتهم من الاستطالة عليهم ، وبخسهم أشياءهم  ولكنهم ـ لسوء حظهم وقلة توفيقهم ـ لا يتورعون عن ظلمهم، والتعدي على مصالحهم ، فجمعوا بين سيئتين ، واحتملوا جرمين عظيمين ، ووقعوا في ظلم العباد من جهتين : جهة إيذائهم والعدوان عليهم ، وجهة التقصير في حقوقهم وما يجب لهم ويغفلون عما يستوجبه ذلك من الإثم ، والعقوبات العاجلة والآجلة، وما ورد فيه من الوعيد الشديد ، الذي تقشعر له الأبدان ، وترتجف له القلوب خشيةً ورهبةً ، ومن هنا تظهر الحاجة الماسة لبيان كيفية معاملة الناس ، وحقوق بعضهم على بعض وابتلاء بعضهم ببعض ، وأن كل إنسان مبتلى بمن يقابله ويعامله من الأقربين والأبعدين ، هل يتقي الله تعالى فيهم وينصح لهم ، ويقوم بحقوقهم ، ويتورع عن ظلمهم والإساءة إليهم فيفوز بمحبة الله تعالى ورضوانه ، ومحبة الناس وتقديرهم ، أم يكون على الضد من ذلك ،  فيخسر الدنيا والآخرة ويكون منبوذًا عند الله وعند الناس.

وليكن لسان حالنا ومقالنا: ] رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [ وكقول القائل :

اصبر على حقد الحقود فان صبرك قاتله  كالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله

 

 

 

الشدة والفرج

قال الله تعالى في وصف حال بعضٍ العباد : ﴿ وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً. أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً. أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفا مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً ﴾ الإسراء 67 . المشهد الذي تعرضه الآية   نموذجاً للحظات الشدّة والفرج  الذي يشعر الناس أن يد الله تدفع لهم الفلك في البحر ليبتغوا من فضله ، فيتوجهون إليه في لحظة الخطر ، لا يدْعون أحداً سواه  إنه وصف للإنسان إذا أحاطت به الأخطار فلا يلجأ إلا إلى الله   حتى وإن كان كافرا ، لأنه وحده القادر على تفريج الكروب وإغاثة الملهوف ، وإن دعوه سمع لهم وأجابهم على كفرهم وعنادهم ، فما أرحمه حتى بمن كفر به ، لذلك قال الله في الحديث القدسي : ( قالت الأرض : يا رب إئذن لي أن اخسف بابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك ، وقالت السماء : يا رب إئذن لي أن أسقط كسفاً على ابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك ، وقالت الجبال : يا رب إئذن لي أن أخر على ابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك ، وقالت البحار : يا رب إئذن لي أن أُغرق ابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك فقال تعالى : دعوني وما خلقت ، لو خلقتموهم لرحمتموهم ، أنهم عبادي فإن تابوا إلي فأنا حبيبهم ، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم ) .

بعض العباد إذا فوجئ بالمصيبة فإنه لا يراها إلا في الحالة التي فاجأته ، وشعر من جرائها بالضر والألم ، فإذا ما ابتلي بمرض يستقر في ذهنه أن البلاء إنما هو نابع من هذا المرض الذي ابتُلِيَ به، وإذا عُوفِيَ من آلامه استطاع أن يضمن لنفسه الأمن والرغد من العيش ، هذا التصور الخاطئ يُنَبِّهُنَا الله سبحانه إلى خطورته  فالله الذي شاء أن يبتليك بفقر ، ربما ابتلاك بالغنى ، فكان الغنى أشد بلاءً من الفقر الذي كنت تعاني منه.

والله الذي يبتليك بمرض أفقدك الراحة ، ربما عافاك بعد ذلك ففجَّر من العافية التي تتمتع بها بلاءً ومصيبة أشد ، وهذا معنى كلام الله تعالى : ﴿ أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً ﴾ الإسراء 68. هذا المعنى ذاته يلفت نظرنا إلى البيان الإلهي عندما يقول: ﴿ أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ. أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ ﴾ الملك 16 . فما أكثر ما يتصور الإنسان أن الأرض مهدٌ جعلها الله سبباً للسعادة والرخاء ، لكنه ينسى أن الله الذي جعل من الأرض مهداً - إن شاء - جعل منها سبباً للدمار  لأن البشر في قبضة الله في البر ، كما هم في قبضته في البحر  فكيف يأمنون أن يخسف بهم جانب البر بزلزال أو بركان يقذفهم بالحمم ، فلا يجدوا لهم من دون الله من يحميهم  وكيف يأمنون الغرق بالماء الذي جعله الله سراً للحياة ، فأهلك به كثيراً من العباد ، ولو أن الإنسان تدبر الوصية التي أوصى بها رسولُ الله صلى الله عليه وسلن عبدَ الله بن عباس إذ قال فيها : (تعرَّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة).  إعلم أن الساعة التي يتمتع فيها بالعافية والصحة ، لربما تحولت في لحظة واحدة إلى سبب للشقاء ، فكثيرٌ من الناس يلتجئون إلى الله عز وجل عند الشدة فراراً منها ، حتى إذا ما زالت الشدة نسي الله ونسي الالتجاء إليه .

روي أن احد الحكماء ابتلي بمصيبة ،فدخل عليه إخوانه يعزونه في المصاب   فقال : إني عملت دواء من ستة أخلاط . قالوا : ما هي ؟ قال الخلط الأول : الثقة بالله والثاني : علمي بأن كل مقدور كائن والثالث : الصبر خير ما استعمله الممتحنون والرابع : إن لم أصبر أنا فأي شيء أعمل ؟ ولم أكن أعين علي نفسي بالجزع والخامس : قد يمكن أن أكون في شر مما أنا فيه والسادس: من ساعة إلي ساعة فرج. وذكروا عن الفضل بن سهل: " أنَّه كان يتميَّز بسَعة العلم والكرم وكان قد أكرمه الله أن برِئَ من علَّة كان فيها، فجلس للنَّاس وهنَّؤوه بالعافية فلمَّا فرغ الناس من كلامِهم قال : "إنَّ في العلل لنعمًا لا ينبغي لعاقِلٍ أن يَجهلها: تمحيص للذنب، وتعرُّض لثواب الصبر، وإيقاظٌ من الغفلة، وإذْكار بنعمة الله في حالة الصحَّة، واستدعاءٌ للمثوبة وحضٌّ على الصدقة، وفي قضاء الله وقدرِه بعدُ الخيار " .  وقد أحسن القائل :

قَدْ يُنْعِمُ اللَّهُ بِالبَلْوَى وَإِنْ عَظُمَتْ   وَيَبْتَلِي اللَّهُ بَعْضَ القَوْمِ  بِالنِّعَم

فالابتلاء في هذه الدنيا لا ينجو منه احد ، وهنا قد يتساءل البعض : لماذا خلق الله البلاء ؟ ولماذا يتألم البعض بينما لا يحس به الغير ؟ قال تعالى : ﴿ أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون* ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله  الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ﴾ العنكبوت2-3 . ففي هاتين الآيتين بين الله سبحانه ، الهدف من وجود الإنسان على الأرض   آلا وهو الابتلاء أي الاختبار والامتحان ، ليظهر في عالم الشهادة من يستحق نعيم الجنة ممن يستحق جحيم النار ، وهذا الابتلاء هو وسيلة التمييز بين العبد الصالح والعبد الطالح .  وقد جعل الله تعالى لهذا الابتلاء بابين : باب الشدة وباب الرخاء قال تعالى :  ﴿ كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة والينا ترجعون ﴾ الأنبياء 35 . ومن هنا يمكن قسمة الابتلاء إلى قسمين: الابتلاء بالشر وهو النوع الذي دعا رسول الله صلى الله عليه وسلن إلى التعوذ منه ، فعن ابي هريرة رضي الله عنه قال  :    ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلن يتعوذ من جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء ) .  وسبب تعوذ الرسول صلى الله عليه وسلن من شدة البلاء وسؤال الله العافية يعود إلى أن البلاء أمره شديد على النفس ، لا يطيقه كل الناس مهما ادعوا القوة والقدرة حتى الإيمان نفسه ، يخشى عليه من الضعف أمام شدة البلاء لهذا كان النبي صلى الله عليه وسلن  ينصح أصحابه ، بان لا يسالوا الله البلاء بل يسألوه العافية ، وإذا وقع البلاء فلا دواء له إلا بالصبر والرضا ، لأن الله مع الصابرين  والصبر مفتاح الفرج ، وإذا لم يأتي الفرج فالآخرة خير وأبقى قال الله تعالى : ﴿ إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ﴾ .

قال الشافعي :

ولرب نازلة يضيق بها الفتى      ذرعاً وعند الله منها المخرج

ضاقت فلما استحكمت حلقاتها  فرجت وكنت أظنها لا تفرج

فالبلاء أمر لا يقوى عليه كل الناس ، وقد يشتد مع اشتداد إيمان العبد وفي ذلك تطهيرٌ له من الذنوب ، حتى يلقى الله وليس عليه خطيئة سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أي الناس اشد بلاء ؟ قال: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل  فيبتلى الرجل على حسب دينه فان كان دينه صلبا اشتد بلاؤه وان كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه منخطيئة ) . وهنا قد يتساءل الناس عن سبب كون حال الكافر في هذه الحياة الدنيا أفضل من حال المؤمن يتمتع بنعيم المال والجاه بينما يتخبط المؤمن في الفقر والجوع ؟ إن هذا الكلام لا يمكن الأخذ به بشكل مطلق لسببين:  إن إعطاء الله المال والغنى والصحة للكافر أمور لا يمكن أن نجزم بها في كل الأحوال ، إذ انه كما يوجد كافر غني يوجد أيضا مؤمن غني فعطاء الله في هذه الحالة لا يتعلق بالمحبة   وإنما يتعلق بحكمته سبحانه وتعالى وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلن :  ( إن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب ولا يعطي الدين إلا لمن أحب )   ثم إن اشتداد البلاء على المؤمن لا ينفي وجود المدد والعون من الله تعالى في حين ينتفي هذا الأمر تماما بالنسبة للكافر ، والواقع يشهد أن ما يصيب المؤمنين من الشرور والمحن والأذى ، دون ما يصيب الكفار ، وقد أكد القران الكريم على حقيقة شدة بلاء الكافر ، خاصة انه لا يعرف معنى الصبر الذي يعرفه المؤمن كما انه لا يؤمن بالجزاء الذي ينتظره المؤمن ، فأي البلاءين اشد؟ قال تعالى:﴿ ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله مالا يرجون وكان الله عليما حكيما ﴾ النساء 104. ومن هنا من المفيد ذكر قصة ذكرها الإمام الغزالي في كتابه " إحياء علوم الدين " تُلَخِصْ الفرق بين بلاء المؤمن وبلاء الكافر ، وهذه القصة تروى عن ابن عباس حيث قال : " شكا نبي من أنبياء الله إلى ربه فقال: يا رب العبد المؤمن يطيعك ويجتنب معاصيك تزوي عنه الدنيا وتعرض له البلاء ، والكافر لا يطيعك ويجترىء عليك وعلى معاصيك فتزوي عنه البلاء ، وتبسط له الدنيا فأوحى الله تعالى إليه :  أن العباد لي والبلاء لي ، والكل يسبح بحمدي   فيكون المؤمن عليه من الذنوب ، فأزوي عنه الدنيا وأعرض له البلاء ، فيكون كفارة لذنوبه ، حتى يلقاني فأجزيه بحسناته  ويكون الكافر له حسنات، فأبسط له في الرزق وأزوي عنه البلاء ، فأجزيه حسناته في الدنيا حتى يلقاني فأجزيه بسيئاته " .

فالمؤمنون يجزون بحسناتهم في الدنيا والآخرة، ويُزاد في بلائهم في الدنيا ليكفر الله عنهم من خطاياهم ، فلا يُعاقبون عليها هناك  وحتى تسلم لهم حسناتهم في الآخرة. وأما الكفار فيُجزون بحسناتهم كلها في الدنيا، فيكون ما يستمتعون به في دنياهم – مما يُرى أنه قدر زائد على ما أعْطيه المؤمنون- يكون هذا في مقابلة ما يكون لهم من حسنات ، وفي الآخرة لا يقام لأعمالهم وزنا قال تعالى : ﴿ وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثورا  ﴾ .

 

 

 

 

 

 

  

ذم التعصب

التعصب ظاهرة مرضية يمزق الشمل ويشتت الصف ويفرق المسلمين إلى جماعات متنابذة ، وفرق متناحرة ، كلٌ يد!عي أنه على حق ، فيطعن بغيره ويتهم سلوكه ، ويعرّض بسمعته ، وقد استغل أعداء الدين هذه الخلافات لغرس سمومهم بين المسلمين مطبقين قاعدة فرق تسد ، لذا فإن العلماء قديماً حذّروا من التعصب الأعمى ، لبغض المذاهب أو الأئمة وكان لسان حالهم " إذا صح الحديث فهو مذهبي " واعتمدوا قاعدة "اعرف الحق تعرف أهله"  فالحق لا يعرف بالرجال ، ولكن الرجال هم الذين يعرفون بالحق ، وبما أن العقيدة واحدة ، والحق واحد ، لذا ينبغي أن بكون رائد المسلم هو التمسك بالحق ، وان يوزن الرجال على ضوء هذا الحق ، وأن لا يكون تقديس الأشخاص أو البلدان فوق الحق والمبدأ ، لأنها دعوى الجاهلية التي حذّر منها القرآن فقال تعالى : ] أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون [ المائدة 50 .

قال الشاطبي في كتابه الإعتصام : " ولقد زل أقوام بسبب الإعراض عن الدليل والاعتماد على الرجال وخرجوا بسبب ذلك عن المنهج الحق ، واتبعوا أهواءهم بغير علم ، فضلوا عن سواء السبيل " .  فليس لأحد أن ينصب للأمة شخص يدعو إلى طريقته ويوالي ويعادي عليها ، وليس لأحد أن ينصب للأمة كلاما يوالي ويعادي عليه ، ويتعصب له لأن التعصب الأعمى ، يصم الآذان عن سماع الحق   ويعمي الأبصار عن رؤية الدليل ، ويبذر بذور الخلاف والشقاق والبغضاء والنزاع بين أبناء الأمة  فالله تعالى ما ذكر الخلاف في القرآن إلا وحذر الأمة منه ، قال الله تعالى : ] وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [ آل عمران 105 . وقال تعالى : ] وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ     [ الأنفال 46. وقال تعالى : ] وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ [ هود 119. إلا من رحم ربك لا يقعون في مرض الخلاف الذي يؤدي إلى حد النزاع والشقاق.

وإني لأعجب ممن استشهد بحديث : ( خلاف أمتي رحمة ) وهو حديث باطل موضوع لا أصل له مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم . فكيف يكون صحيحاً وهو يخالف صحيح وصريح القرآن .

إن التعصب مرض خطير يجعل الإنسان أسيراً لواقعه وإن كان فاسداً ، ويجعله خاضعاً لأفكاره وإن كانت باطلة ؛ والتعصب هو الذي يمنع الإنسان من اكتشاف الحقائق ، ومن الأخذ بها ، ويمزق المجتمع شمل الأمة ويزرع العداوة بينها .   

ومن التعصب ما هو محمود ، وهو الانحياز إلى الشيء على أساس الدليل والبرهان ، ومنه ما هو مذموم وهو الانحياز إلى الشيء ، تحت تأثير الانفعالات والعواطف ، دون استخدام العقل والفكر والمنطق ، ويؤيد هذا الحديث المروى عن زين العابدين  (ليس من العصبية أن يحب الرجل قومه ولكن العصبية أن يعين قومه على الظلم ) .

والقرآن الكريم لم يستخدم لفظة تعصب لكنه أطلق على التعصب لفظة مرادفة وهي الحميّة ] إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية [ حمية الجاهلية تعني التعصب والإصرار على موقف والاستنكاف عن شيء من دون دليل ومن دون برهان أنفةً واستكبارا .  

والتعصب المذموم آفة خطيرة تفسد العلاقات    وتهدد بالقضاء على آمال وحدة الأمة الإسلامية والمتأمل في أحوال الدعاة ، يرى كثيراً من مظاهر التمزق والتآكل بين معظم الاتجاهات والتيارات   والتي ترجع إلى أسباب متعددة من أخطرها: التعصب المذموم ، الذي لا تقتصر نتائجه على حدوث الفرقة والنزاع فحسب ، بل تتعدى إلى ما هو أخطر من ذلك بحيث يقتل في الأمة روح التواضع والتسامح والذلة على المؤمنين، فتتباغض القلوب ، بسبب الجهل لأسباب التعصب المذموم، كالجهل بأقوال العلماء   أو بمقاصد الشريعة، أو بالأعذار والرخص الشرعية وأحكام الضرورات، أو بمراتب المنكرات والمخالفات ، أو الجهل بتقدير المصالح والمفاسد، ولا يقف خطر الجهل عند هذا الحد فالجهل بالواقع وأحوال الناس وأعرافهم قد يؤدي إلى الخطأ في تقدير الأحكام واتخاذ القرارات ، لذا فمن الخير أن يتروّى الإنسان ويتأنى ويتثبت قبل أن يتصرف بناء على مفهومات غير موثقة لديه أو معلومات ناقصة أو أقوال قد يتبين له فيما بعد أن هناك ما هو أرجح منها ، وليفسح المجال لاحتمال صحة الاجتهادات والأقوال الأخرى ، بدلاً من تبني رأي واحد ، والتعصب له بصورة مذمومة تتجاوز حدود الشرع، ليكتشف في النهاية أنه تعصب لرأي خطأ، ارتكب من أجله أخطاء في معاملة المسلمين ، قد تصل إلى حد فتنتهم ، وإيقاع الفرقة بينهم، أو ظلمهم .     

 إن للهوى له دور كبير في تكوين صفة التعصب المذموم، فقد يعلم بعض المتعصبين تعصباً مذموماً في نفسه أنه على باطل وأن الآخرين على حق، لكنه يصر على رأيه الخطأ لأنه يتوافق مع ميوله، ولا يلقي بالاً للنصح أو الوعظ.

وإن أول علامات التعصب المذموم ضيق الصدر بآراء الآخرين، والإعراض عن سماعها، والنظر فيها، ولو كان تعصبه لحق يعلمه ويثق به ، لما ضاق بالآخرين وتأفف من سماع آرائهم، لأن صاحب الحق لا يخشى من الجدال والحوار، بخلاف المتعصب للباطل.

ومن علامات التعصب المذموم أن يسعى صاحبه للتشهير بالمخالفين له ولآرائه ، دون سبب مشروع أو حجة واضحة، لذا يسعى للبحث عن سقطة هنا أو هناك لمخالفيه، فيذيعها بين الناس ويضخمها   وقد يتهمهم في أخلاقهم ، أو سيرتهم ، ويترك موضوع الخلاف أو النقاش .

ومن علامات التعصب المذموم الاستهانة بحقوق الأخوّة الإسلامية، علماً بأن الخطأ أو التقصير لا يُخرج المسلم من نطاق أخوّة الإسلام، ولا يسقط حقوقه الشرعية ، إلا في نطاق حدود الشرع من إنكار أو تعزير أو حد أو عقوبة شرعية، فيأتي هذا المتعصب فيهدم بتعصبه المذموم بناء الأخوّة الإسلامية وحقوقها ، ويتجاوز الحدود الشرعية في التعصب للحق الذي يحوِّله إلى تعصب مذموم، ومع أن النقد الموضوعي ، والتنبيه على الأخطاء ، والتحذير من المخالفات ، أمر مطلوب ومهم، فإن هناك من يتعدى أدب النقد والنصح، مع أنه قد يكون محقاً حيث بتجاوز حدود الشرع في تعصبه للحق، أو في أسلوب التبليغ أو النصح، أو في التطبيق، أو في الإنكار على المخالفين، حتى يفسد أكثر مما يصلح كمن يدعو الناس إلى سنّة ثابتة غير واجبة، لكنّه يجعلها أساساً يصنّف الناس عليها، ويفرّق في المعاملة بينهم بسببها أو كمن يدعو إلى اتباع منهجه في الدعوة ، فيتعصب له إلى درجة تسفيه المناهج الدعوية الأخرى ، حتى إن كانت صحيحة وسليمة من البدع أو المخالفات ، علماً بأن الصادقين المخلصين ، لا نراهم إلا باحثين عن الحق، مجتهدين في الوصول إليه ،  وسواء عرف الحق عن طريقهم أو عن طريق غيرهم أو كان معهم أو مع غيرهم، لأنهم يتخذون ذلك عبادة، وليس لهم في ذلك مآرب أخرى، ولذا تجد تعصبهم للحق تعصباً محموداً منضبطاً بأحكام الشريعة وآدابها، محافظاً على أواصر الأخوّة وحقوقها ، فهذا الإمام الشافعي كان يقول: "ما كلّمتُ أحداً إلا أحببتُ أن يُوفق ويُسدد ويُعان وما كلمتُ أحداً قط إلا ولم أبال بيّن الله الحق على لساني أو لسانه" وهذا دليل على حرصه على بقاء روابط الأخوة بينه وبين من يخالفه، وقد امتدحه يونس الصدفي قال : "ما رأيت أعقل من الشافعي ناظرته يوماً في مسألة ثم افترقنا، ولقيني فأخذ بيدي ثم قال: يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق!". فالمسلم همه الحق وبغيته رضا الله وسيره عَلَى منهج يحكمه الدليل لا الهوى ، أما التعصب للأشخاص أو الجماعات أو الأفكار أو الأحزاب  فإنه لا محالة سيورد صاحبه التطرف ، بَيْنَ إفراط وتفريط ، والمؤمن مطالب أن ينتصف من نفسه للحق ، وكما قَالَ عمار بن ياسر : " ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان : الإنصاف من نفسك  وبذل السلام للعالم  والإنفاق من الإقتار " رواه البخاري معلقاً ، وعلى هَذَا كَانَ أصحاب رسول الله وقَّافين عِنْدَ كتاب الله وسنة نبيه ، وجمهور الأمة متفق عَلَى أن العصمة للرسول وللأمة في مجموعها وَمَا عدا ذَلِكَ فيؤخذ مِنْهُ  ويرد بقدر قربه وبعده عن الحق ، وَمَا اختلف فِيهِ الأئمة والناس من بعدهم فمرجعه الكتاب والسنة  لا آراء الرجال ومناهج الأحزاب ومصالحهم .

إن الأمة مدعوة للتمسك بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ونبذ كل ما من شأنه أن يشق عصا الأمة ، ونبذ كل أنواع التعصب المذموم ، والذي قد يجر إلى ويلات لا يحمد عقباها ، ولنذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( دعوها فإنها منتنة ) وقال : ( ليس منا من دعا إلى عصبية ، وليس منا من قاتل على عصبية ، وليس منا من مات على عصبية ) مسلم .

فلا يجوز أن نتخلى عن أخوتنا ، وحبنا لبعضنا من أجل حوادث فردية ،  ولنغرس رابطة العقيدة ورابطة الولاء والبراء والحب في الله والبغض في الله لأنها أعظم رابطة تجمع القلوب وتؤلف النفوس والخلق كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كلهم عيال الله فأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله ) أبو داود . 

 

 

 

مفهوم الحُبّ والبغض

الحب لا ينكره الدين ، ولا تمنعه الشريعة  وأفضله محبة المتحابين في الله ، قال صلى الله عليه وسلم: ( أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله ) وفي حديث آخر قال صلى الله عليه وسلم: ( من أحب في الله وأبغض في الله وأعطى لله ومنع لله؛ فقد استكمل الإيمان) أبي داود ، فالمؤمن يحبّ في الله، ويوالي في الله ، ولا يوالي من خالف الله ورسوله ، قال تعالى:﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ﴾ فمحبة الله , لا تجتمع مع محبة   الكفار وموالاتهم ، وقد أساء الناس هذا الفهم، فنرى من يتحابون ويتباغضون من أجل المال ، ومن أجل القبيلة والعشيرة  وربما حصل الحب من أجل التصاحب والمعرفة ، أو من أجل الطمع في جاه المحبوب ، وهذا ليس صحيحاً ، لأن الحب في الله ، والبغض في الله ، الذي لا يُبتغى به وجه الله ، لا قيمة له عند الله ، وقد أشار إلى هذا ابن عباس فقال : "من أحب في الله وأبغض في الله، ووالى في الله ، وعادى في الله؛ فإنما تُنال ولاية الله بذلك  ولن يجد أحدٌ طعمَ الإيمان إلا بذلك" أما البغض في الله, فهو لمن عصى الله وخالفه ، ورد عن عيسى عليه السلام:"تحبّبوا إلى الله ببغض أهل المعاصي, وتقرّبوا إلى الله بالتباعد عنهم" .

ومن لوازم الحب في الله ، النصح للمسلمين، والإشفاق عليهم، والدعاء لهم  وزيارة مريضهم، وتشييع جنائزهم، وتفقد أحوالهم ، وأما لوازم البغض في الله ، ألا نبتدئهم بالسلام، ولا نتشبه بهم ، ولا نشاركهم في أعيادهم ، قد يقال بأن بغضهم ومعاداتهم يُؤدي إلى نفورهم وبغضهم للإسلام ، وها نحن نرى من والاهم وأحبهم ، فما أسلموا  بل ازدادوا عتوّاً ونفوراً عن الإسلام وأهله. وتجاهل القائلون أن عقيدة الولاء والبراء ، التي تعني محبة المؤمنين وموالاتهم ، وبغض الكافرين ومعاداتهم ، والبراءة منهم ومن دينهم  تجاهلوا أنها أكبر ضمان ، لحفظ الأمة من الانجراف في تيار الأمم الكافرة ، ألا نرى أن أصحاب عقيدة الولاء ، هم من أعظم الناس إيمانا ، إذ لا يمكن لهم بأي حال من الأحوال ، التشبه بالكفار ، أو الإعجاب بأخلاقهم وأفكارهم ، بخلاف الموالين لهم  الذين ينظرون إليهم بكل استحسان وإكبار    مع أن الأصل أن يكون الحب كله لله، ولا يحب معه سواه ، ومن أحب الله, وأطاع المخلوق وعصى ربه, فهو كاذب , لأنه لو أحبه لأطاعه :

تعصي الإله وأنت تظهر حبه     ذاك لعمري في القياس شنيع

لو كان حبـك صادقاً لأطعته  إن المــحب لمن يحب مطيع   في كلّ يومٍ يبتديك بنعمةٍ منه   وأنت لشكر ذلك الحب مضيع  

وحب الله يكون باتباع منهج الله ، فقال سبحانه : ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ﴾ آل عمران31. 

لقد مُسِخ مفهوم الحب عند الناس   فاعتبروه يدل على ميل الذكر للأنثى ، بينما هو في الإسلام ، يتغنى بذكره العابدون ويوصي به الأطباء والمصلحون ، ويسعى إلى ترسيخه الدعاة المخلصون ، لأن التقصير في حق الله، ومخالفة منهج الله ، يؤدي إلى العداوة والبغضاء بين الناس ، قال تعالى:﴿فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِروا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾ المائدة 14. إننا بحاجة إلى التفقه في الحب   الذي عمت به البلوى, وشغل به من يعيشون للهوى ، وأحلام اليقظة, وشتان بين قلب امتلأ حباً للرحمن, وقلوب اشتغلت حباً للأخدان قال تعالى: ﴿ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ للهِ وَالّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُباً لله ﴾البقرة 165، لكن كثيراً من الناس خرجوا بالحب عما ينبغي أن يكون عليه ، من معانٍ نبيلة  إلى معانٍ مبتذلة محرّمة ، حيث انتهكت الحرمات, وارتكبت المحرمات, ولا أدلَّ على تعلق البعض بالحب المحرّم ، عندما نقرأ ما يكتبون, ونسمع ما ينطقون ، نجدهم وقد ذهبت أيامهم في المغازلات والمطاردات فوصفهم القائل :

تولَّعَ بالعشق حتى عشق فلما استقلَّ به لم يطق

رأى لُجَةً ظنها موجةً      فلما تمكَّن منها غرق

وشطَّ البعض في الحب ، غلواً أخرجه عن الحد, فأوجب لهم الإثم, وعَظُمَ منهم الجرم وربما أخرج أناساً من الملة والدين ، وحياض المسلمين ، ولئن اقتصر إثم أهل الجاهلية على حب الرجال للنساء, فإن فتنة أهل زماننا بالحب ، أشد وأفظع, فقد شغلوا  فيما تعارف الناس على تسميته بالعشق أو الإعجاب, والسبب خواء قلوبهم من حب الله, لأن النفس البشرية ، لو شغلت بما يرضي الخالق, لما أحبت ما يغضبه , فكيف طابت نفوس عشاق القَدِّ والخد ، أن يجعلوا في قلوبهم الدُّونَ من الحب لله ، وما تعلق قلب بغير الله ، إلا أذله الله ، لأن الله تعالى هو المستحق لكمال المحبة, قال الله عز وجل:﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُباً لله ﴾البقرة 165 فأطعم حبه تعالى من جوع ،  وكسا من عُريِّ, وآمن من خوف, وأغنى من بعد فقر حبٌ يورث سعادة الدنيا ونعيم الآخرة، قال تعالى في الحديث القدسي: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب, وما تقرب إليَّ عبدي بشيءٍ أحبَ إِليَّ مما افترضته عليه  وما يزال يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه, فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به, وبصره الذي يبصر به, ويده التي يبطش بها, ورجله التي يمشي بها, وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذ بي لأعيذنه ) رواه البخاري. ومن أحبَّ اللهَ, أحبَّ لقاء اللهِ, ومن أحبَّ لقاء اللهِ  أحبَّ اللهُ لقاءَه، وقد جعل الله حبه أساساً في الإيمان وأصلاً, فلا يتم الإيمان إلا بحبه وحب رسوله صلى الله عليه وسلم .   

إن من روابط المحبة ، الأخوَّة الإسلامية، بين المسلمين, فمَثلُهُم في التوَّاد والتراحم ،كمثل الجسد الواحد, وهم لبعضٍ كالبنيان يشد بعضه بعضاً، ومحبة المسلمين فيما بينهم يجب أن تكون لله وفي الله, لا تبنى على عوارض الدنيا وأغراضها, ففي الحديث أن من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله (رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وعليه تفرقا ) لأنه الإخاء عندما خالصاً لله, والوُد قائماً على الإيمان بالله والترابط يَشُدُ عراه حبل الإيمان, يكون من ثماره مثل قول النبي عليه السلام:(إن من عباد الله أناساً ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء بمكانهم من الله قالوا: يا رسول الله أخبرنا من هم؟ قال:هم قوم تحابوا في الله علي غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها ) رواه أبو داود. وكل محبة في الدنيا لم تكن لله ، تنقلب في الآخرة إلى عداوة وبغضاء قال سبحانه:﴿الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ ﴾الزخرف 67 فليراعى في المحبة ، وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل: (أحبب حبيبك هوناً ما عسي أن يكون بغيضك يوماً وأبغض بغيضك هوناً ما عسي أن يكون حبيبك يوماً ما ) رواه البخاري في الأدب .

إن من البدع ، الاحتفال بما يعرف بعيد الحب, الذي يتبادلون فيه التهاني, والورود الحمراء, وما علموا أن عيد الحب أو الفالنتاين ، ما هو إلا احتفال ديني خاص لدى النصارى, وتخليد لذكرى إحدى الشخصيات النصرانية وهو القس فالنتاين الذي كان له دور بارز في دين النصارى في القرن الثالث الميلادي، وأياً ما كان فمالنا ولأعيادهم؟ فقد آن الأوان أن يدرك المسلمون أن عليهم العيش قادة لا منقادين, ومتبوعين لا تابعين, لأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ، ولكن أكثرهم لا يعلمون.

 

  

 

 

 

 

 

الرجولة وعلو الهمة

الهمة العالية هي السر وراء وصول بعض الناس دون غيرهم إلى مرتبة الرجولة، فالرجال لا تحملهم الأقدام وإنما تحملهم الهمم ، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ( لا تصغرن هممكم، فإني لم أر شيئاً أقعد بالرجل من سقوط همته)التذكرة الحمدونية 1/142 . ويقول ابن عيينة :" لا تتم الرئاسة للرجال إلا بأربع : علم جامع، وورع تام ، وحلم كامل، وحسن تدبير   فإن لم تكن هذه الأربع : فمائدة منصوبة، وكف مبسوطة، وبذل مبذول ، وحسن المعاشرة مع الناس  فإن لم تكن هذه الأربع : فبضرب السيف، وطعن الرمح، وشجاعة القلب ، وتدبير العساكر ، فإن لم يكن فيه من هذه الخصال شيء ، فلا ينبغي أن يصل إلى الرئاسة " . ما أحوج امتنا إلى رجال تتوفر فيهم هذه الخصال ، كما توفرت عند أسلافنا الذين ضربوا أروع الأمثلة في الرجولة والهمة العالية ، فهذا عنترة يقول :

لا تسقني ماء الحياة بذلة   بل فاسقني بالعز كأس الحنظل

وهذا الإمام الشافعي رحمه الله يقول :

أنا إن عشتُ لست أُعدمُ قوتاً   ولئن متُّ لستُ أعدمُ قبراً

همتي همةُ الملوكِ ونفسي      نفسُ حر ترى المذَّلةَ كُفْرا

فإذا ما قَنَعْتُ بالزادِ يوماً    فلماذا أخاف زيداً وعَمَرا

 وقد ُأثر عن الإمام علي كرم الله وجهه :"علو الهمة من الإيمان " .

جلس عمر  إلى جماعة من أصحابه فقال لهم:"  تمنوا ؛ فقال أحدهم: أتمنى لو أن هذه الدار مملوءةٌ ذهباً أنفقه في سبيل الله ، ثم قال عمر: تمنوا، فقال رجل آخر: أتمنى لو أنها مملوءة لؤلؤاً وزبرجداً وجوهراً أنفقه في سبيل الله وأتصدق به ،  ثم قال: تمنوا، فقالوا: ما ندري ما نقول يا أمير المؤمنين؟ فقال عمر  : ولكني أتمنى رجالاً مثلَ أبي عبيدة بنِ الجراح، ومعاذِ بنِ جبلٍ، وسالمٍ مولى أبي حذيفة فأستعين بهم على إعلاء كلمة الله " .

رحم الله عمر ، لقد كان خبيراً بما تنهض وتحيا به الأمم ، فهي كما يرى بحاجة إلى الرؤوس المفكرة التي تستغلها، والقلوب الكبيرة التي ترعاها ، إنها تحتاج إلى الرجال ، فقد تمنى رجالا لأن الناس على كثرتهم لا تتوفر فيهم شروط الرجولة الكاملة ، لذا فإن وجود الرجل ، عزيزاً في دنيا الناس، حتى قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم : (إنما الناس كإبل مائة، لا تكاد تجد فيها راحلة) رواه البخاري . فالناس على كثرتهم قد لا تتوفر فيهم شروط الرجولة الكاملة ، كما أن مائة من الإبل ، قد لا تجد فيها مطية تتوفر فيها شروط الارتحال ، لذا فنحن بحاجة إلى الرجولة لبناء النفوس  وطبع أبنائها على خلق الرجولة ، لأن الرجل سر حياة الأمم ، ومصدر نهضتها ، وإن تاريخ الأمم   هو في الواقع تاريخ ما ظهر بها من الرجال الأقوياء  لأن قوة الأمم أو ضعفها إنما يقاس بالرجال الذين تتوفر فيهم شروط الرجولة ، فقد يستطيع الرجل إذا صحت رجولته ، أن يبني أمة أو يهدمها ، لذا كان الرجل الكفء عماد الرسالات، وروح النهضات  ومحور الإصلاح ، فيمكن إعداد معامل السلاح والذخيرة، ولكن الأسلحة لا تقتل إلا بالرجل المحارب ، لأن القوة ليست بحد السلاح ، بقدر ما هي في قلب الجندي ، فلله ما أحكم عمر بن الخطاب ، حين لم يتمن فضة ولا ذهباً، ولا لؤلؤاً ولا جوهراً ، ولكنه تمنى رجالاً ، لأن رجلاً واحداً قد يساوي مائة، ورجلاً قد يوازي ألفاً، ورجلاً قد يزن شعباً بأسره ، ولذلك قيل: رجل ذو همة يحيي الله به  أمة . حاصر خالد بن الوليد  ( الحيرة ) فطلب من أبي بكر مدداً، فما أمده إلا برجل واحد هو القعقاع بن عمرو ، وقال : لا يهزم جيش فيه مثله، وكان يقول: لصوت القعقاع في الجيش خير من ألف مقاتل! ولما طلب عمرو بن العاص  المدد من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب  في فتح مصر كتب إليه : (أما بعد : فإني أمددتك بأربعة آلاف رجل، على كل ألف : رجل منهم مقام الألف : الزبير بن العوام، والمقداد بن عمرو، وعبادة بن الصامت ومسلمة بن مخلد ) . فقد فهم عمر ما عناه رسول الله g بقوله : ( ليس شيء أحب من ألف مثله إلا الإنسان ) مجمع الزوائد .

وما أجمل قول من قال :

إذا كان في ألف من القوم فارس  مطاعٌ فإن القوم في ألف فارس

وقال بعض الحكماء : " ألف ثعلب يقودها أسد خيرٌ من ألف أسد يقودها ثعلب "

فليست الرجولة بالسن المتقدمة، فكم من شيخ في سن السبعين وقلبه في سن السابعة، يفرح بالتافه ويبكي على الحقير، وكم من غلام في مقتبل العمر ولكنك ترى الرجولة المبكرة في قوله وعمله وتفكيره وخلقه ، مر عمر رضي الله عنه على صبيان يلعبون فهربوا  وبقي صبي في مكانه، هو عبد الله بن الزبير فسأله عمر: لِمَ لَمْ تعدُ مع أصحابك؟ فقال: يا أمير المؤمنين لم أقترف ذنباً فأخافك، ولم تكن الطريق ضيقةً فأوسعها لك! ، ودخل غلام على خليفة أموي يتحدث باسم قومه، فقال له: ليتقدم من هو أسن منك، فقال: يا أمير المؤمنين، لو كان التقدم بالسن لكان في الأمة من هو أولى منك بالخلافة .

عاشوا في زمن هم الصغار الكبار، بينما نعيش في  دنيا ما أكثر الكبار الصغار؟ لأن الرجولة ليست ببسطة الجسم، وطولِ القامة، وقوةِ البنية، فقد قال الله عن طائفة من المنافقين:  ﴿ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَـٰمُهُمْالمنافقون4. ومع هذا فهم ﴿ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ﴾ المنافقون4.وقال صلى الله عليه وسلم : (يأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة فلا يزن عند الله جناح بعوضة) اقرءوا إن شئتم قول الله تعالى: ﴿ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ وَزْناً ﴾ الكهف105.

كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه  نحيفاً نحيلاً، فانكشفت ساقاه يوماً - وهما دقيقتان هزيلتان - فضحك بعض الصحابة: فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : (أتضحكون من دقة ساقيه؟ والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من جبل أحد) . فليست الرجولة بالسن ولا بالجسم ولا بالمال ولا بالجاه، وإنما الرجولة قوة نفسية تحمل صاحبها على معالي الأمور، وتبعده عن سفسافها  قوةٌ تجعله كبيراً في صغره، غنياً في فقره  قوياً في ضعفه، قوةٌ تحمله على أن يعطي قبل أن يأخذ، وأن يؤدي واجبه قبل أن يطلب حقه ، يعرف واجبه نحو نفسه، ونحو ربه، ونحو بيته، ودينه، وأمته.

 إن خير ما تقوم به دولة لشعبها، وأفضل ما تتعاون عليه أدوات التوجيه كلها من صحافة وإذاعة،ومسجد ومدرسة، هو صناعة الرجولة ، ولن يتربى الرجال الصالحون، إلا في ظلال العقائد الراسخة، والفضائل الثابتة، والمعايير الأصيلة والتقاليد المرعية، والحقوق المكفولة. أما في ظلام   الإلحاد الكافر والانحلال السافر والحرمان القاتل، فلا ولن توجد الرجولة الصحيحة .

ولم تر الدنيا الرجولة في أجلى صورها وأكمل معانيها كما رأتها في تلك النماذج الكريمة التي صنعها الإسلام على يد الرسول صلى الله عليه وسلم ، رجال يكثرون عند الفزع، ويقلون عند الطمع، لا يغرهم النصر، ولا تحطمهم الهزيمة . أما اليوم فأصبحت ترى أشباه الرجال ولا رجال , وكم أعجبني وآلمني ما قاله  رجل درس تعاليم الإسلام السمحة ، فقال في إعجاب مرير: " يا له من دين لو كان له رجال "!!

وهذا الدين الذي يشكو قلة الرجال يضم ما يزيد على آلاف الملايين من المسلمين ، الذين ينتسبون إليه، ويحسبون عليه ولكنهم كما قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم (غثاء كغثاء السيل ) ، فماذا يغني عن الإسلام رجال أهمتهم أنفسهم وحكمتهم شهواتهم     فما وثقوا بأنفسهم، ولا اعتمدوا على ربهم ، رجال يجمعهم الطمع، ويفرقهم الخوف، أو كما قيل: يجمعهم مزمار وتفرقهم عصا!

أما والله لو ظفر الإسلام في كل ألف من أبنائه برجل واحد فيه خصائص الرجولة، لكان ذلك خيراً له وأجدى عليه من الكثرة التي لا يهابها عدو، ولا ينتصر بها صديق:

فليت لي بهمُ قوماً إذا ركبوا      شنوا الإغارة فرساناً وركبانا

لا يسألون أخاهم حين يندبهم    في النائبات على ما قال برهانا

كم نتمنى أن يكون هناك رجالا همهم العمل على إعلاء كلمة الله ونصر  دينه ، رجالاً يخدمون أمتهم بإخلاص ويقودونها إلى طريق الخلاص. لأن الله يريد للدين الصادقين في أقوالهم، المؤمنين بعهودهم البعيدين عن العبث والهزل واللهو، الذين لا يغرهم ثناء شاكر ، ولا إطراء مادح، يريد رجالا يغضبون لله ولا تأخذهم في الله لومة لائم.

ولهذا فقد ربى الإسلام أبناءه على الشجاعة والعزة والحمية، وهذب معانيها في نفوس أتباعه وضبطها فلم تعد عندهم مجرد ميدان للفخر والخيلاء، بل هي ميدان لنصر الدين والذب عن حياضه. واعتبار الجبن والهوان من شر ما ينقص الرجال كما قال g :( شر ما في رجل شح هالع وجبن خالع ) رواه أبو داود.  

فالرجولة إذا اكتملت في أمة فبشرها بالخير وتمام المنة، وإذا انتشرت في شعب نال حقه المغصوب وأصبح ذا جانب مرهوب، وإذا سرت معاني الرجولة في مجتمع عاش عالي الهمة، مرفوع الرأس، وأصبح ذا قوة وبأس، فبالرجولة تقاس قيمة الأمة بين الأمم وعلى قدر وزنها توزن ، فلنتق الله ونتمسك بديننا ونعمل بكتاب ربنا ، ونقتد بنبينا g وبأصحابه الكرام، ولنكن رجالاً كما أراد نبينا g ، فعسى أن ينصر بنا ديننا، ويعلي بنا كلمتنا، ويعيد إلينا أمجادنا وما ذلك على الله بعزيز ﴿ يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ﴾ .  

 

 

 

الغيرة المطلوبة

لقد عرف الإنسان معنى الامتلاك وشهوته ، وعرف معنى الحرص ، ومن هنا جاءت الغيرة ، وهي :  صون العرض عما يشين ويعيب ، ومن فقد الغيرة فهو الديوث : الذي يقر الخبث في أهله ، سواء في زوجته أو أخته أو ابنته ، والمقصود بالخبث الزنا  وبواعثه ودواعيه وأسبابه من خلوة ونحوها ، كما ورد بذلك الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، عن عبد الله بن عمر أن رسول الله  صلى الله عليه وسلم قال : ( ثلاثةٌ قد حَرّمَ اللهُ عليهم الجنةَ : مُدْمِنُ الخمر ، والعاقّ ، والدّيّوثُ الذي يُقِرُّ في أَهْلِهِ الخُبْثَ ). رواه أحمد والنسائي . وفي لسان العرب : الديوث القواد على أهله .

والغيرة من الإيمان ، فكلما زاد الإيمان زادت الغيرة  وكلما نقص نقصت، وإذا انعدم انعدمت ، وانعدام   الغيرة من علامات النفاق فقال  صلى الله عليه وسلم : ( الغيرة من الإيمان والبذاء من النفاق )  لذلك فإن المنافقين دوما يحبون أن تشيع الفاحشة في الأمة ، ويسعون لهدم الغيرة من قلوب المؤمنين قال تعالى: ﴿ إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة، والله يعلم وأنتم لا تعلمون ﴾ النور. وعندما امتدح الإسلام الغيرة أراد لها أن تنطلق إلى مفهوم أوسع ، لتشمل كل ما هو ذا قيمة وقدسية في الحياة ، لذا وُصف الله بها على لسان نبيه عليه السلام في قوله : ( ما من أحد أغير من الله ، من أجل ذلك حرّم الفواحش ) البخاري . فكان تحريم الفواحش غيرة من الله ، على كل ما هو طاهر نقي يمكن أن تدنسه تلك الفواحش .

فكل رجل مؤمن غيور، ينبغي عليه صون عرضه وعرض غيره من المؤمنين، من كل أنواع الاعتداء والتهم ، وإلا تعرض للعقوبة ، قال تعالى: ﴿ والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ﴾ قال سعد بن معاذ: " يا رسول الله! إن وجدت مع امرأتي رجلا أمهله حتى آتي بأربعة؟ والله لأضربنه بالسيف غير مُصْفِح ، فقال النبي  صلى الله عليه وسلم : ( أتعجبون من غيرة سعد؟، لأنا أغير منه، والله أغير مني ) أصله في صحيح البخاري . ثم نزلت آية الملاعنة بين الزوجين. وقال  صلى الله عليه وسلم : ( إن الله تعالى يغار وإن المؤمن يغار وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرّم الله عليه ) رواه أحمد  ولولا غيرة الله على محارم عباده ، لعاش الناس حياة البهائم، ولربما كانت البهائم أكرم منهم! وإن من غيرته سبحانه أنه أذن لعبده أن يموت دون عرضه ولو قتل فإنه شهيد فقال رسول الله  صلى الله عليه وسلم  : ( من قتل دون عرضه فهو شهيد) وقد كان عمر بن الخطاب شديد الغيرة ، فقد روي عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم  : ( بينما أنا نائم رأيتني في الجنة، فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر، فقلت: لمن هذا؟ قال: هذا لعمر فذكرت غيرته فوليت مدبرا، فبكى عمر وهو في المجلس، ثم قال: أوعليك يا رسول الله أغار؟) البخاري ومن لا يغار فمثله كمثل رأس النفاق عبدالله بن أبي بن سلول الذي كان يُكْرِه فتياته على البغاء لأجل أضيافه، فقال تعالى فيه : ﴿ ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا، ومن يكرهن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم ﴾ ومن يتأمل في أحوال الصحابة – رضي الله عنهم – يجد عجباً ، فقد كانوا يغارون أشدّ الغيرة  وكان رسول الله  صلى الله عليه وسلم  أشد منهم غيرة ، ففي الصحيحين من حديث الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ : قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ : لَوْ رَأَيْتُ رَجُلاً مَعَ امْرَأَتِي لَضَرَبْتُهُ بِالسّيْفِ غَيْرُ مُصْفِحٍ عَنْهُ ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللّهِ  صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ ؟ فَوَ الله لأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ ، وَالله أَغْيَرُ مِنّي ، مِنْ أَجْلِ غَيْرَةِ الله حَرّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ، وَلاَ شَخْصَ أَغْيَرُ مِنَ الله ، وَلاَ شَخْصَ أَحَبّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ الله ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ بَعَثُ الله الْمُرْسَلِينَ مُبَشّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَلاَ شَخْصَ أَحَبّ إِلَيْهِ الْمِدْحَةُ مِنَ الله ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَعَدَ الله الْجَنّةَ ) قال ابن القيم : " فَجَمَعَ هذا الحديثُ بين الغيرةِ التي أصلُها كراهةُ القبائح وبُغضُها ، وبين محبةِ العُذرِ الذي يوجبُ كمالَ العدلِ والرحمةِ والإحسانِ ، فالغيورُ قد وافقَ ربَّهُ سبحانه في صفةٍ من صِفاتِه  ومَنْ وافقَ الله في صفه من صفاتِه ، قادته تلك الصفة إليه بزمامه ، وأدخلته على ربِّه ، وأدنته منه وقربته من رحمته ، وصيّرته محبوباً له " . إذاً فالغيرةُ صفةٌ من صفات الرب جل وعلا ، وصفاته صفاتُ كمالٍ ومدح ، والغَيْرةُ لا يتّصفُ بـها سوى أفذاذ الرّجال الذين قاموا بحقِّ القَوامَـة ، والمرأة إذا علِمت من زوجها أو وليّها الغيرة عليها ، راعت ذلك وجعلته في حُسبانها ، فهذه أسماءُ بنت أبي بكر تقول : تَزَوّجَني الزّبَير وما له في الأرضِ مِنْ مالٍ ولا مَمْلوكٍ ولا شيءٍ غيرِ ناضحٍ وغير فَرَسِهِ ، فكنتُ أعلِفُ فرسَهُ وأستقي الماءَ وأخرِزُ غَربَهُ وأعجِن ، ولم أكن أُحسِنُ أخبزُ ، وكان يَخبزُ جاراتٌ لي من الأنصار  وكن نِسوَةَ صِدق  وكنتُ أنقل النّوَى من أرض الزّبير التي أقطَعَهُ رسولُ  صلى الله عليه وسلم  على رأسي ، وهي مِنِّي على ثُلثَي فَرسَخ ،  فجِئتُ يوماً والنّوَى على رأسي  فلقيتُ رسولَ  صلى الله عليه وسلم ، ومعهُ نَفَرٌ من الأنصار ، فدَعاني ثم قال : إخْ إخ  ليحمِلَني خَلفَه ، فاستحيَيتُ أن أسيرَ معَ الرّجال ، وذكرتُ الزّبيرَ وغَيرَتَه ، وكان أغيَرَ الناس ، فَعَرَفَ رسولُ اللّهِ  صلى الله عليه وسلم  أني قد استحييتُ فمضى ، فجئتُ الزّبيرَ فقلتُ : لَقيَني رسولُ الله  صلى الله عليه وسلم وعلى رأسي النّوَى ، ومعهُ نفرٌ من أصحابه  فأناخَ لأركبَ ، فاستَحييتُ منه ، وعرَفتُ غَيرتَك  فقال : والله لَحملُكِ النّوى ،كان أشدّ عليّ من ركوبِك معَه  قالت : حتى أرسلَ إليّ أبو بكرٍ بعدَ ذلك بخادمٍ تَكفيني سِياسةَ الفَرَس ، فكأنما أعتَقَني ) متفق عليه ، وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري أنه قال : كان فتى منـّا حديثُ عهد بعُرس قال : فخرجنا مع رسول الله  صلى الله عليه وسلم  إلى الخندق ، فكان ذلك الفتى يستأذنُ رسولَ الله  صلى الله عليه وسلم  بأنصاف النهار فيرجعُ إلى أهله  فاستأذنه يوماً ، فقال له رسولُ الله  صلى الله عليه وسلم : خذ عليك سلاحك ، فإني أخشى عليك قريظة ، فأخذ الرجلُ سلاحَه ، ثم رجع ، فإذا امرأتُهُ بين البابين قائمةً  فأهوى إليها الرُّمحَ ليطعنها به ، وأصابته غَيْرَةٌ  فقالت له : اكفف عليك رُمْحَكَ ، وادخل البيتَ حتى تنظـرَ ما الذي أخرجني ، فدخل فإذا بِحَيّةٍ عظيمةٍ منطويةٍ على الفراش فأهوى إليها بالرمح فانتظمَها به ... ) الحديث .

ولهذا فإن الإسلام يحرِّم على الرجل أن يسيء الظن بأهله ويتخونهم ، حتى أن الرسول  صلى الله عليه وسلم  نهى أن يعود الرجل إلى بيته ليلا ، بعد سفر طويل ليفاجيء زوجته أو يتلمس عثراتها فيقول  صلى الله عليه وسلم  : ( إذا أطال أحدكم الغيبة فلا يطرقن أهله ليلا ) البخاري . وروى أحمد عن جابر قال : ( نهى رسول الله  صلى الله عليه وسلم أن يطرق الرجل أهله ليلا يتخونهم أو يطلب عثراتهم ) وقد نصح سليمان بن داود ولده قائلا : " يا بني لا تكثر الغيرة على أهلك ، فترمى بالسوء من أجلك وهي بريئة " . وبالمقابل فإن المرأة إذا عرفتْ أن وليَّها لا يهتمُّ بـها  ولا يرفعُ بالغيرة رأساً ، سَهُل عليها التماديَ في الباطل ، والوقوعَ في وحلِ الخطيئة  ومستنقعات الرذيلة . ويذكر عن الزبير أنه تزوج امرأة فكانت تخرج إلى الصلاة في المسجد ، فيرغب إليها ألا تخرج، فتلح عليه لأجل الصلاة، فخرجت مرة فكمن لها في الطريق ، فلما مرت قرص عجيزتها فرجعت من فورها إلى بيتها ، وهي تسترجع وتستغفر فامتنعت من الخروج بعد ذلك، فسألها الزبير عن سبب ذلك، فقالت: كنا نخرج يوم كان الناس ناسا فلما تغيرت قلوبهم تركنا الخروج".. ويذكر عن علي رضي الله عنه أنه كان يغار على فاطمة من السواك ، فقال متغزلاً بصفة الغيور:  

حظيت يا عود الأراك بثغرها أما خشيت يا عود الأراك أراكا

لو كنت من أهل القتال قتلتكا  ما فاز مني يا سواك سواكا

والغيرة تنمو بالرعاية، وتموت بالإهمال والتهاون في الصغائر ، التي تقود إلى الوقوع في الكبائر ، وإذا رأيت ضعيف الغيرة فاعلم أنه أُصيب في مَـقْـتَـل  وأن ذلك بسبب الذنوب ، قال ابنُ القيّمِ :" ومن عقوباتِ الذنوب أنـها تُطفئ من القلب نارَ الغير وأشرفُ الناسِ وأجدُّهم وأعلاهم هِمَّةً أشدَّهم غيْرةً على نفسه وخاصته وعموم الناس ، ولهذا كان النبي  صلى الله عليه وسلم أغيرَ الخلقِ على الأُمّة ، والله سبحانه أشدُّ غيرةً منه . والمقصودُ أنه كلما اشتدّت ملابسة العبد للذنوب أخرجت من قلبه الغيْرةَ على نفسه وأهله وعموم الناس ، وقد تضعفُ في القلب ، حتى لا يستقبح بعدَ ذلك القبيح لا من نفسه ولا من غيرِه   وإذا وصَلَ إلى هذا الحدِّ فقد دخل في باب الهلاك   وكثيرٌ من هؤلاء لا يقتصر على عدم الاستقباح ، بل يُحسِّنُ الفواحشَ والظُلمَ لغيرِه ، ويُزيِّنهُ له ، ويدعوه إليه ويحُثُّه عليه ، ويسعى له في تحصيله ، ولهذا كان الديوثُ أخبثَ خلقِ الله ، والجنـةُ عليه حرام وكذلك محللُ الظلم والبغي لغيره ، ومزيِّـنَـه له .

وقد كانت الغيرة محل اهتمام أهل الجاهلية الأولى الذين كانوا يرفضون الزنا ، ويرونه عارا ، ولم يزِد الإسلام ذلك إلا شِدّة ، إلا أن الإسلام تمم مكارم الأخلاق ، وضبطها بضوابط الشريعة .

فالرجل الجاهلي كانت تحمله الغيرة على دفن ابنته وهي حيّـة ، فجاء الإسلام وأقرّ الغيرة ، وحرّم وأد البنات ، وقد كانت الغيرة خُلُـقـاً يُمدح به الرجال والنساء ، فيقول شاعرهم مُفتخراً بالغيرة :

ألسنا قد عَلِمَتْ معـدٌ   غداةَ الرّوعِ أجدرُ أن نَغارا

وكان ضعف الغيرة علامة على سقوط الرجولة ولذا ذم شاعرهم ضعيف الغيرة فقال :

إذ لا تَغارُ على النساءِ قبائلُ يوم الحفاظِ ولا يَفُون لجـارِ

وكانت العرب تقول : تموت الحُـرّة ولا تأكل بثدييها ، وقالت هند بنت عتبة , وقد جاءت تُبايع النبي  صلى الله عليه وسلم فكان أن أخذ عليها في البيعة ( وألاّ تزنين ) قالت : أوَ تزني الحُـــرّة ؟ . مستغربه كيف الحرة تزني ، لأن العربية تفتخر بشرفها. وجاء الإسلامُ مُتمِّماً لمكارمِ الأخلاق ، فجعل الغيرةَ من ركائزِ الإيمان ، بل جعلها علامة على قوّة الإيمان  وفاقِدُها هو الدّيوث . الذي يُقرُّ الخبثَ في أهله والجنةُ عليه حرام ، والغيرةُ غيرتان : فغيرةٌ يُحِبُّها الله  وغيرةٌ يُبغضها الله ، فعن جابر بن عتيك أن نبيَّ رسول الله  صلى الله عليه وسلم كانَ يَقُولُ : ( مِنَ الغَيْرَةِ مَا يُحِبّ الله ، ومِنْهَا مَا يُبْغِضُ الله ، فَأَمّا الّتِي يُحِبّهَا الله عَزّ وَ جَلّ فَالغَيْرَةُ في الرّيبَةِ ، وَأَمّا الّتِي يَبْغَضُهَا الله فالْغَيْرَةُ في غَيْرِ رِيبَةٍ ). رواه أحمد وأبو داود والنسائي ، وهو حديث صحيح . وواجبُ المؤمنُ أن يُحبَّ ما يُحبُّه الله ، وأن يكره ما يكرهه الله ، قال ابن القيم : وإنما الممدوح اقترانُ الغيرةِ بالعذر ، فيغارُ في محل الغيرة ، ويعذرُ في موضع العذر ، ومن كان هكذا فهو الممدوحُ حقّـاً .

يروى أن أعرابياً رأى امرأته تنظر إلى الرجال فطلّقها ، فعُوتِب في ذلك ، فقال :

وأتركُ حُبَّها من غـيرِ بغضٍ   وذاك لكثرةِ الشركـاءِ فيـه

إذا وقع الذباب على طعـامٍ    رفعـت يدي ونفسي تشتهيـه

وتجتنبُ الأسودُ ورودَ مـاءِ  إذا كنَّ الكلاب وَلَـغْـنَ فيه

وهذا يدُلُّكَ على أن أصل الدينِ الغيرة ، ومن لا غيرة له لا دين له .

ومن أقوى ما قيل في الغيرة :

أصون عرضي بمالي لا أدنسه    لا بارك الله بعد العرض بالمالِ

تقدمت امرأة إلى مجلس القاضي موسى بن إسحاق   فادعى وكيلها بأن لموكلته على زوجها خمسمائة دينار (مهرها)، فأنكر الزوج، فقال القاضي لوكيل الزوجة: شهودك. قال: أحضرتهم. فطلب بعض الشهود أن ينظر إلى المرأة؛ ليشير إليها في شهادته فقام الشاهد وقال للمرأة: قومي. فقال الزوج: تفعلون ماذا ؟ قال الوكيل: ينظرون إلى امرأتك وهي مسفرة؛ لتصح عندهم معرفتها. قال الزوج: إني أشهد القاضي أن لها عليّ هذا المهر الذي تدعيه ولا تسفر عن وجهها. فقالت المرأة: فإني أُشهِد القاضي أني وهبت له هذا المهر وأبرأتُ ذمته في الدنيا والآخرة ، فقال القاضي وقد أعجب بغيرتهما: يُكتب هذا في مكارم الأخلاق.

من المؤسف أن نجد معنى الغيرة قد تقلص عند الكثيرين ، فتجده لا يحرك لهم ساكنا ، وهم يرون حدود الله تنتهك ، وما دروا أن الله عز وجل يغار على كتابه الذي أنزله للناس ، ليكون لهم منهجاً  يتحاكمون إليه في كل صغيرة وكبيرة في حياتهم ، إذا ما انصرفوا إلى مناهج أرضية ،تراضوها بينهم ، فمتى ما أعرض العبيد عن كتاب الله ، وحكموا القوانين الوضعية ، غار الله تعالى لكتابه ، فكتب الشقاء والاضطراب على ذلك المجتمع ، فلا راحة ، ولا أمن ولا استقرار ﴿  ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى ﴾ . 

 

 

 

 

المواقف الناطقة بالوفاء

الوفاء أن يلتزم الإنسان بما عليه من عهود ووعود وواجبات، وقد أوجب الإسلام على معتنقيه الوفاء بالعهد والالتزام به واحترام المواثيق، وجاءت النصوص تدل على ذلك قال تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا﴾ النحل91 وقال ﴿وَأوْفُوْا بِالْعَهْدِ إنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُوْلاً﴾ والوفاء بالعهد قيام المسلم بما التزم به؛ سواء كان قولاً أم كتابة. فالتزامه بدين الله واتباعه لشرع الله ومنهج رسوله  صلى الله عليه وسلم  وفاء ، فقد جاء في الحديث ( ولا دين لمن لا عهد ) رواه أحمد . الإسراء34 ويرتفع الإسلام بالوفاء بالعهد؛ فيجعله من خلال البر، ويمدح المتصفين بهذه الخلال بأنهم هم الصادقون وهم المتقون، يقول تعالى: ﴿ وَالْمُوْفُوْنَ بِعَهْدِهِمْ إذَا عَاهَدُوْا وَالصَّابِرِيْنَ فِيْ الْبَأسَاءِ والضَّرَّاءِ وَحِيْنَ الْبَأسِ أوْلئِكَ الَّذِيْنَ صَدَقُوْا وَأوْلـٰـئِكَ هم الْمُتَّقُوْنَ﴾ البقرة 177 ثم يجعل الوفاء من الصفات التي تؤهل المتصف بها إلى الفوز بالفردوس والخلود في النعيم المقيم قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ، أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ ، الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ المؤمنون 8 .  ولن يترقى المسلم في مراتب الإيمان إلا إذا كان وفيًّا. يقول الله عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ﴾المائدة  والوفاء من أعظم الصفات الإنسانية وقد ضُرب به المثل في العزة فقالت العرب: هو أعز من الوفاء ومن الوفاء ما يكون بالوعد أو العهد، أو العقْد ، وهناك الوفاء لله ولرسوله  صلى الله عليه وسلم ، والوفاء للناس وهو موضوعنا ، فكم من الناس من وعَدَ ثم أخلف، و عاهد ثم غدر ، مع أنه ينبغي لمن وعد بالخير أن يفي ومن أوعد بالشر أن يخلف لقوله تعالى ‏:‏ ‏﴿ ‏وَإِن يَك صادِقا يُصِبكُم بَعضَ الَّذي يَعِدُكُم‏ ﴾‏ ، قال الحسن البصري " فضل الفعال على المقال مكرمة وفضل المقال على الفعال منقصة " وقال عمر بن هبيرة ‏:‏" اللهم لا تجعل قولي فوق عملي ولا تجعل أسوأ عملي ما قرب من أجلي " وأنشدوا وفي ذم الاخلاف بالوعد : 

كانَت مَواعيدُ عَرقوبَ لَها مَثلاً  وَما مواعيدُها إِلاّ الأَباطِيلَ

وعرقوب هذا كان رجلا من العماليق ، وكان من خبره أنه أتاه أخ له يسأله شيئا  فقال إذا أطلع نخلي فلما أطلع أتاه ، قال إذا أبلح ، فلما أبلح أتاه ، قال إذا أزهى ، فلما أزهى أتاه ، قال إذا أرطب ، فلما أرطب أتاه ، قال إذا صار تمرا فلما صار تمرا ، فجذه بالليل ولم يعطه شيئا ، فصار المثل يضرب به في الإخلاف فيقال أخلف من عرقوب‏.‏

الوفاء بالعهد فضيلة من الفضائل التي أكدها الإسلام وحث عليها ورغب فيها، وحقيقة الوفاء أن تؤدي ما التزمت به نحو الله تعالى ونحو نفسك ونحو أهلك وعشيرتك؛ بل نحو الناس أجمعين أداءً كاملاً غير منقوص

أما فضله: فإن الوفاء وليد الأمانة وعنوان الصدق ودليل الشجاعة والصبر وقوة الاحتمال، وإن الوفاء لا يوجد إلا حيث توجد الجرأة والصراحة والشجاعة والصبر على ما يكلف به؛ فربما كلفك الوفاء بالعهد أعز ما تملك ، إن الوفاء خلق عظيم لا يتصف به إلا عظيم؛ ولذلك وصف الحق تبارك وتعالى به نفسه أنه تعالى يخبر بأنه لا يظلم مثقال ذرَّة، قال تعالى: ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ﴾ الأحقاف19 ، وقد اتصف به المسلمون السابقون ، وفي التاريخ الإسلامي وقائع لا تحصى من وفاء المسلمين بعهودهم، والتي تعتبر بحق   صفحات مجد وفخار تشهد بحرصهم على الوفاء امتثالاً لأمر ربهم واتباعًا لسنة نبيهم ، وتشهد بأنهم   أول من وضع هذه القاعدة الأخلاقية الرفيعة موضع التطبيق؛ لأن دينهم علمهم أن الوفاء بالعهد شهامة وقوة، به يأمن الناس جانب الاعتداء ، وبه تتوفر الطمأنينة والاستقرار ، ومن أروع ما سجله التاريخ في صفحاته ، هذه الصورة الرائعة الناطقة بالوفاء حتى في أحرج المواقف  فقد جيء بالهرمزان زعيم الفرس أسيرًا إلى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه؛ فلما كان بين يديه عرض عليه الإسلام فأبى  وقال يا أمير المؤمنين: إنما أعتقد ما أنا عليه، فقال له عمر: إذاً تُقْتَلُ. فلما جيء بالسيف قال يا أمير المؤمنين: شربة ماء خير من قتلي على ظمأ ، فسمح له عمر بشربة الماء  فلما جاءه الماء تناوله وقال: أأنا آمن حتى أشرب الماء؟ قال: نعم لك الأمان حتى تشرب الماء ، فأخذ الماء وسكبه على الأرض، وقال: يا أمير المؤمنين: الوفاء نور أبلج ، قال عمر: نعم ولك التوقف عن قتلك والنظر في أمرك ، وعرف الرجل يقينًا أن دين عمر هو الذي ألزمه الوفاء ، في مثل هذا الموقف فقال: الآن أعلن إسلامي طائعًا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول لله، وأسلم بصدق؛ فقال عمر: ويحك لقد أسلمت خير إسلام ، فما الذي أخرك؟ قال يا أمير المؤمنين: أحببت ألا يُقال إني أسلمت جزعًا .

ومن صور الوفاء الرائعة ، ما كان سبباً في دخول أهل حمص دين الإسلام ، يروي التاريخ أنهم لما دعوا إلى الإسلام ، أبوا وقبلوا الجزية، وفي مقابل دفعهم الجزية يلتزم المسلمون حمايتهم والدفاع عنهم ، ولما طُلب من الجيش الإسلامي الذي كان في حمص أن يخرج منها للانضمام إلى الجيوش الإسلامية في بلاد الشام لحرب الروم ، قام المسلمون برد الأموال التي سبق لهم قبضها منهم ، فتعجب أهل حمص وسألوا المسلمين: لماذا رددتم لنا أموال الجزية؟ فأجابهم المسلمون بأنهم غير قادرين على حمايتهم وهم إنما أخذوا هذه الأموال بشرط حمايتهم  استشعر أهل حمص عظمة هذا الدين،  فدخلوا في دين الله، وبقيت قوات المسلمين معهم تدفع عن أهل حمص أذى الرومان . 

وللوفاء بالعهد درجاتٍ أعلاها: وفاؤ العبد بما التزمه   بمقتضى إيمانه بربه ، والذي لا يتحقق إلا بامتثال جميع أوامره واجتناب جميع نواهيه والجهاد لإعلاء كلمته والمسارعة إلى مرضاته، وإنما كان أعلى الدرجات لأنه قد يكلف الروح والمال في سبيل محبة الله ورضاه ، وهذه منزلة النبيين والشهداء والصديقين والصالحين ، ومن الوفاء وفاؤك للغير من الناس، ولا يكون ذلك  إلا بأداء ما وجب عليك نحوهم بأن تعطي كل ذي حق حقه وأن ترشد الحائر وتهدي الضال وتعين المحتاج وتغيث الملهوف وتواسي المنكوب وتفرج كربة المكروب؛ ومن رزق الوفاء فقد رزق الخير كله، بل إنه يثمر الكثير من  خصال الخير فهو يثمر قوة الثقة، وإذا ما أنست من وفاء إنسان قويت ثقتك فيه وارتاحت نفسك إليه، إنه يثمر الاطمئنان والأمانة، ويثمر النجدة والشهامة والمروءة، والمجتمع الذي يسوده الوفاء مجتمع متين البناء، تظلّله روح المودة والصفاء ويشدّ أزره التعاون البناء، ومن ثمراته أن الوفاء قد ينجي من الهلاك: ويبدو ذلك فيما سجّله التاريخ من قصة الرجل الطائي مع النعمان بن المنذر، وكان ملكاً على الحيرة بالعراق، وملخصها: أن النعمان بن المنذر كان له يومان، يوم بؤس لا يلقى فيه أحدًا إلا قتله، ويوم سرور لا يلقى فيه احدًا إلا منحه الكثير من عطاياه، وذات يوم خرج رجل من طيئ يصطاد ليطعم أولاده؛ فأكرمه الله في آخر النهار بأرنب وأثناء عودته لقيه النعمانُ بن المنذر وكان في يوم بؤسه؛ فقال لابد من قتلك؛ فقال الرجل الطائي أصلح الله الملك لقد تركت أولادي يكاد الجوع يقتلهم؛ فلو أذنت لي حتى أعود إليهم فأطعمهم فأوصي بهم ثم آتيك لتفعل بي ما تشاء، فرقّ الملك لحاله وقال: لا آذن لك حتى يضمنك ضامن فنظر الرجل فيمن حوله فوقعت عينه على رجل يعرفه فقال له: يا شريك بن عمرو: هل من الموت محالة؟ اضمني عند الملك حتى أطعم أولادي وآتي في اليوم التالي ، فقال شريك: أصلح الله الملك، هو عليّ، وانطلق الرجل إلى أهله وجاء اليوم التالي وأحضر الملك شريك بن عمرو وقال له: أنت ضامن والضامن غارم، وإذا أخل الطائي بوعده فلابد من قتلك ، فقال له شريك: ليس لك عليَّ من سبيل حتى يمضي النهار، وفي آخر ذلك اليوم هيأه للقتل، فقال شريك: أمهلني قليلاً فإنى أرى شبحًا من بعيد لعله صاحبي، ثم أسفر الشبح عن ذلك الرجل الطائي وقد حضر، فتعجب الملك لذلك، ووجه إليهما هذين السؤالين فقال: يا شريك بن عمرو ما الذي حملك على أن تضمن الرجل وربما أخلف وعده فتقتل به؟ قال شريك: إنما فعلت ذلك حتى لا يقال ضاعت المروءة من الناس، قال الملك: وأنت أيها الطائي: لقد نجوت بنفسك فما الذي دعاك إلى أن تحضر لتقتل وفي ذلك إتلاف حياتك؟ قال الطائي: أصلح الله الملك إنما جئت أسلم رقبتي للقتل حتى لا يقال ضاع الوفاء من الناس؛ فقال الملك في دهشة وعجب: والله لا أكون ألأم الثلاثة قد عفوت عنك حتى لا يقال: ضاع العفو من الناس .

ومن القصص الإسلامي ، قصة السجين الذي كان في ديوان المأمون ، فأمر أن يحمل مقيداً إلى منزل رئيس الشرطة ، ليكون تحت إشرافه حتى لا يهرب وفي البيت سأله ، من أنت أيها الرجل ؟ قال له أنا دمشقي ، قال له أتعرف سعيد بن رباح ، أجاب السجين وهو خافض الرأس ، وهل تعرفه ؟ قال أعرفه ، فقد وقعت لي معه قضية اسدى لي فيها من المعروف ما لم أنمكن من مجازاته حتى اليوم ، وقص له عما تعرض له ، عندما ثار أهل دمشق ، وطاردوه ليقتلوه ، وكيف خبأه سعيد في بيته ، حتى أمن شرهم ، وكيف أكرمه وهيأ له السفر مع قافلة تجارية إلى بغداد ، وعندما سأله لعلك تعرفه ؟ أجابه السجين ها أنذا مقيداً بين يديك أنتظر القتل ، فقام إليه وقبله في دهشة ، وسأله متألماً لماذا قبض عليك ؟ أجابه ، قد هاجت في دمشق فتنة ، وقبض على بعض القوم وأنا منهم  فتذكر رئيس الشرطة في نفسه ، أن حياته كانت رهن إشارة بسيطة من هذا الرجل ، ولكن الوفاء فرض عليه التعرض هو وأهله فداء لشخص لا يعرفه  فلماذا لا أكون مثله وأبادله وفاء بوفاء ، ثم قام وفك وثاقه ، وهيأ له فرصة للهرب ، رفضها سعيد بن رباح ، فقال إذن أخبئك في مكان لا يعرفه غيري  ولما ذهب إلى مجلس المأمون بدون السجين هدده قائلاً : عهد الله لئن ادعيت هروبه لأضربن عنقك الساعة ، قال له : يا أمير المؤمنين ! ما هرب الرجل ولا حاول  وأرجو أن تسمع قصتي ثم احكم بعدها بما ترى  قص قصته وكيف ضحى من أجله ، وها أنا على استعداد للتضحية ، فإما أن تصفح عني ، وإما أن تقتلني بهذا الرجل ، فأكون قد وفيت له حقه ، فما كان من الخليفة إلا أن قال له وبلك ، لا جزاك الله عنه خيرا ، إن الرجل فداك من غير معرفة بك مجبولاً بما جبل عليه من الوفاء ، فهلا عرفتني خبره قبل أن أكافئه بما هو أهله ، فقال له إنه هنا وقد أقسم ألا يغادر بغداد حتى يعرف ما يكون من أمري فقال الخليفة : وهذه منه منّة أخرى أعظم من الأولى  أسرع به الينا فقد اشتقنا لرؤيته ، ثم جاء به إلى مجلس الخليفة واجلسه بجواره ، فأكرمه وأمر له بالصلات والهدايا ، وظل في ضيافة الخليفة أياما ، ثم عاد إلى بلده بعد أن اعتذر عما عرضه عليه .    

هذه بعض ثمراته في الدنيا، أما في الآخرة ، فأجر عظيم ، وعد به الرب العظيم، والعظيم إذا وعد بعظيم ، فإنه لا  يقدر عظمة الأجر العظيم ، إلا العظيم قال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ الفتح 10.

 

 

نهجُ الأحرار

كان حتى عهد قريب اعتقاد ، أن رهبة السلطان لا يقمعها تمرد ، لكننا فوجئنا بشباب شذَّ عن هذا الاعتقاد ، إنهم كالجبال التي تقف مد السيل والأشجار التي لا تنثني مع هبوب العاصفة  يتعرضون لكل خطأ لم يعجبهم بالنقد ، فثاروا على الظلم الذي يعاني منه الناس ،  وضحى الكثير بأرواحهم ، حتى تنجو البلاد والعباد من قيود العبودية وآثار الفساد ، إنهم الذين يعتز بهم الإيمان وتستقيم بهم الحياة .

وإذا كان الله صان العمران البشري بالجبال فقال تعالى: ] وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ [ الأنبياء31  فقد اقتضت حكمة الله أن يصان بهؤلاء الشباب المجتمع الإنساني ، فكانوا الأمل لحمل راية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقد يكون عشق الحق فطرة فيهم ، فطرهم الله عليها كما قال تعالى:] وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [الأعراف181.

وعشق الحق يترتب عليه أعباء مرهقة ، أولها الصبر على تثبيط الخاذلين، وكيد المعوقين والمخالفين   وإهمال خوف الخائفين ، لأن طبيعة هذه الطائفة لا تعيرهم اهتماما ،  ففي الحديث الصحيح ( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة- أو حتى يأتي أمر الله- وهم على ذلك)  وأكثر الناس يعرف الحق معرفة حسنة، غير أنه لا يأسى لهزيمتة ، ولا يأسف لضياعه!  وقد يشعر  بالضيق عند خذلان الحق، إلا أن هذا الشعور يصطدم بمصالح النفس، وضرورات العيش، ومطالب الأولاد، فيتراجع عن هذا الشعور ، ويؤثر الاستسلام على المقاومة، والاستكانة عن تغيير الواقع وإنكاره  وفي هذا جاء قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الأولاد مبخلة مجبنة ) إضافةً إلى أن هذا السلوك لا يتفق مع طبيعة الإيمان ، ويستحيل أن تتقبله نفس ثائرة لله ، لأن الغاضب لله ورسوله ، لا يرضى عما يحرص عليه الجبناء من الحياة ومتاعها ، ولا يرى أمامه إلا نصرة الحق ورفع لوائه ، مهما كان الثمن ، عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يؤمن عبد حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين ) .  إننا لا نتوقع التفاني في الحق من عبيد الأهواء وصرعى الشهوات ، لأن الأمر يحتاج إلى تربية حتى يكون مذاق الإيمان ، أحلى في فم الإنسان من كل لذة عاجلة ، عندها يشعر بالسعادة؛ لأنه واسى محروماً، أو نصر ضعيفاً ، أو أحصن عرضاً، أو حقن دماً ، ومثله يفتدى عناصر الإيمان بالنفس والنفيس .

إن الثائرين ضد الظلم  والناقمين من أعوانه رجال من ذلك المعدن الذي يحرص على الإصلاح للحياة والأحياء قال تعالى : ] وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ [ البقرة251.

وما نشهده من الثورات على الاستبداد الأعمى التي  جعلت كلمة التوحيد عنوانها ، ورفضاً لأية عبودية في الأرض، وتدعيماً للحرية التي طبع الله الناس عليها   لقد بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس وفي قلوبهم وجل من سطوة الجبابرة الأولين ، فلما جيء بأعرابي يوماً في حضرته صلى الله عليه وسلم أخذته رعدة - يحسب نفسه قريباً من أحد الجبابرة - فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم : (هوِّن عليك إني لست بملك ، أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد) . فقد وقر في الأذهان أن الملوك ليسوا من عبيد الله المألوفين ، فإن الأبراج التي يحيون فيها قطعت نسبتهم من الأرض، ووصلتهم بالسماء فزعموا أنهم من  نسل الآلهة ، أو عاشوا كذلك   وإن لم يقولوا بألسنتهم ما يقولون بأفعالهم! فأراد صلى الله عليه وسلم أن يعرف العرب ، أنه بشر مثلهم ، لا ملك فوقهم  ثم انتسب إلى أمه ، لا إلى العظماء من أجداده  ليزداد لله تواضعاً، ومن الناس قرباً ، وجاء الحكام الراشدون بعده فمشوا في أثره ، وربطوا نسبهم بالأمة التي نبتوا منها ، فما تنكروا لها، ولا تكبروا عليها، ولا حسب أحدهم نفسه من دم أنقى أو عنصر أزكى .

فهذا أبو بكر بعد ما ولي الخلافة يقول : " أما بعد فإني قد وليت عليكم ، ولست بخيركم ، فإن رأيتموني على حق فأعينوني ، وإن رأيتموني على باطل فسددوني ، أطيعوني ما أطعت الله فيكم ، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم ، ألا إن أقواكم عندي الضعيف ، حتى آخذ الحق له ، وأضعفكم عندي القوي حتى آخذ الحق منه " . وجاء في خطبة لعمر بن الخطاب : " اعلموا أن شدتي التي كنتم ترونها ، ازدادت أضعافاً على الظالم والمعتدي ، والأخذ لضعيف المسلمين من قويهم فاتقوا الله وأعينوني على نفسي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وإحضاري النصيحة فيما ولاني الله من أمركم ، أيها الناس : إنه لم يبلغ ذو حق في حقه أن يطاع في معصية الله " .  هذا هو وضع الحاكم المسلم ، في الدولة المسلمة رجل من صميم الأمة ، يطلب أن يعان على الحق وأن يمنع من الباطل، ويرى السلطة المخولة له سياجاً للمصالح العامة ، لا مصيدة للمنافع الخاصة ، ولا باباً إلى البطر والطغيان ، ذلك هو دأب الإسلام الذي خطَّ مصارع الجبابرة في الدنيا، وحطَّ منازلهم في الآخرة ] تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [ القصص 83 . فحيث يكون العسف والخسف ، لابد أن يكون الإسلام ديناً ثائراً يطلب النصفة والرحمة .

وحيث يكون الاستعلاء والاستعباد ، لابد أن يكون المسلمون ثواراً ، ينشدون العزة الكرامة ، وقد تكون عقبى الجهاد موتاً في غربة، أو قتلاً في معركة  والثائرون ضد الباطل أدنى الناس إلى البلاء ، وماذا في ذالك ؟ إن ما يحذره غيرهم هو الذي ينشدونه لأنفسهم! وتلك طبيعة الثائرين، إما أن يحيوا كما يريدون ، أو يموتوا كما يريدون ، إنهم عزيمة تؤثر في الحياة سلباً وإيجاباً، وليسوا عربات تشد إلى جياد الآخرين ، وقد أعجبني قول الشاعر الذي كان يسعى في مناكب الأرض طلباً للعزة :

فيا رب إن حانت وفاتي فلا تكن   على شَرْجَعٍ يُعلى بِخُضْر المطارفِ

- أي على نعش ملفوف بالأقمشة المطرزة -

وآسى شهيداً ثاوياً في عصابةٍ    يصابون في فجٍ من الأرضِ خائفِ

والمسلمون اليوم لن ينجحوا في حرب الأعداء ، إلا إذا استهتروا بالموت ، وأحبوه في ذات الله .

 لقد كان سلفنا يتمنون من أعماق قلوبهم أن يموتوا في ساحات الجهاد ، لا بين أحضان الأهل الباكين   ولسان حال الواحد منهم ، وهو يجود بأنفاسه :

وذلك في ذاتِ الإله وإن يشأ     يبارك على أوصالِ شلوٍ ممزَّعِ

هكذا مضت سنة الإيمان منذ أبرم عقد الجنة  فوصفت آيات الله من وقَّعوا عليه بأنهم ] يَقتلون ويُقتلون [ التوبة111. إنها سنة الرجولة التي اعتبرت موت الرجل بين أهله معرة ، لأن هذا شأن النساء والعبيد ، وبهذا المعنى هتف الشاعر :

وإنا لقومٌ ما نرى القتل سبةً     إذا ما رأته عامرٌ وسلولُ

وما مات منا سيدٌ حتف أنفه     ولا طل منا حيث كان قتيلُ

إنها شارات السيادة، ألَّا يموت الرجل حتف أنفه ولكن يموت في ساحات الجهاد .

خطب أبو حمزة الخارجي يصف رجاله وكيف جند لهم المنايا، واستهلكهم صدق الجهاد ، فكان من كلامه في لقائهم الموت- : " استخفُّوا بوعيد الكتيبة لوعيد الله، ومضى الشباب منهم قُدماً حتى اختلفت رجلاه على عنق فرسه وتخضَّبت بالدماء محاسن وجهه، فأسرعت إليه سباع الأرض، وانحطت إليه طير السماء ، فكم من عين في مناقير طائر، طالما بكى صاحبها في جوف الليل من خوف الله ، وكم من كفٍّ زالت عن معصمها طالما اعتمد عليها صاحبها في جوف الليل بالسجود لله " .

تلك هي مصاير أولئك الشباب كيف خطَّها القدر؟

وكيف تُذكر في سياق الدلالة على حب الله والتفاني فيه ؟ إن أولئك الشهداء الذين استماتوا في محاربة البغي ، ورضوا أن تُدقَّ أعناقهم ، قبل أن تَدِقَّ على أبواب الإسلام يد آثمة، وأن تُمزق أعضاؤهم قبل أن يتمكن من الكيد لدين الله كافر أو منافق .

إن أولئك الشباب المبعثرة أحشاؤهم هنا وهناك سوف تجمعهم القدرة العليا بكلمة واحدة، فإذا الجبين المشجوج ناصع مشرق، وإذا العين المفقودة حوراء- أي عين- مبصرة، وإذا الجثة الممزعة بشر سوي يقول لله : آمنت بك وتحملت فيك ما ترى ، تلك هي سنة المؤمنين الأحرار    الذين لا يدعون المنكر يمرّ سالما ، ويأبون إلا كشف زيفه ، وهدم صنمه  ومقاومة العاكفين عليه .

أما من انقطع للعبادة في المساجد ، وهو ضرب من اللذات الروحية ، يوفر له الجو النفسي السعيد ، فإنا نسأله : هل يتغير الباطل بذلك ؟ كلا والله ، لأنه فرق كبير بين الصلاح الذي يزكي النفس   والإصلاح الذي يزكي المجتمع ، والمسلم الحقيقي هو الذي يتعهد نفسه بالتقوى ، ويقبل في الوقت نفسه على المجتمع ، ليؤازر الحق ، ويعوق الباطل ، ويحب في الله ، ويبغض في الله ، ويكثر سواد المؤمنين  ويوهن كيد الكافرين .   

 

 

 

الحث على التعاون

التعاون : هو مساعدة الناس بعضهم بعضًا في الحاجات وفعل الخيرات ، وهو عمل إنساني يتشارك فيه مجموعة من الناس من أجل تحقيق أهداف معينة ويجمعهم رابط مشترك .

وإذا كان العون أو الإعانة أو المساعدة تتم من طرف نحو طرف آخر بموافقتهما ، فإن التعاون هو الاتحاد والتكامل في العمل ، وذلك بتكميل كل ما هو ناقص على أساس من التراحم والترابط ، كما إن التعاون ، ارتباط مجموعة من الأفراد ، على أساس من الحقوق والالتزامات المتساوية ، لمواجهة ما قد يعترضهم من المشاكل الاقتصادية أو الاجتماعية ذات الارتباط الوثيق المباشر بمعيشتهم ، لذلك يعتبر ضرورة إنسانية ، لأن الإنسان قليلٌ بنفسهِ  كثيرٌ بإخوانِه الذين يَشُدُّونَ أزرَهُ، ويَحمون ظَهرَه، فيقوَى بهم ، والتعاون  مشروع  لقوله تعالى : ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ﴾ المائدة2 . بل إنه أمر رباني لكل جماعة أن تتعاون على الخير ، وليعلم كل إنسان أن الدين طلب منا أن تكون كل حياتنا للخير ، لذلك جاء النهي عن التعاون على الإثم والعدوان مع أي فرد أو جماعة ، وجاءت النصوص النبوية تحث عليه وترغب فيه فقال g فيما رواه أبو هريرة : ( من نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ؛ ومن يسّر على معسر يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة   ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة ، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ) رواه مسلم ، ولما سُئل رسول الله  صلى الله عليه وسلم : من أحب الناس ؟ قال : ( أنفع الناس للناس ) .

 ونحن أحوج ما يكون إلى تنمية روح المبادرة بين أهلنا ، وأن يبادر كل واحد منا في تأسيس مشروع خيري، أو المساهمة في حل المشكلات الاجتماعية، قال الله تبارك وتعالى : ﴿ وافعلوا الخير لعلكم تفلحون ﴾ سورة الحج ‏77.

والبنود التي تحث عليها هذه الوثيقة هي :

1-           القتل

الأصل أن دية الخطأ وشبه العمد تكون على العاقلة ، وأما دية العمد فقد أجمع أهل العلم على أنها تجب في مال القاتل ، ولا تتحملها العاقلة ، لأن بدل المتلف، يجب على المتلف، وأرش الجناية على الجاني، وإنما خولف هذا الأصل في القتل المعذور فيه، لكثرة الواجب، وعجز الجاني في الغالب عن تحمله، مع وجوب الكفارة عليه، وقيام عذره، تخفيفا عنه، ورفقا به، والعامد لا عذر له، فلا يستحق التخفيف، ولا يوجد فيه المعنى المقتضي للمواساة في الخطأ   وهذا من حيث أصل وجوب الدية ، ولكن إذا تطوع الناس بمساعدة القاتل عمدا في الدية التي لزمته ، فلا حرج في ذلك، بل هو من المواساة والمعروف الذي يؤجر الإنسان عليه، إذا قصد به وجه الله لقوله تعالى: ﴿ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ البقرة 215، ولكن هذا التطوع ينبغي أن لا يكون في بند ملزم بذلك ، لأنه لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب من نفسه، كما في الحديث الشريف.

2-           قضية الشرف

3-           الظلم

4-           مساعدة الفقير  

 

 

الحِلم سيد الأخلاق

الحُلْمُ : ما يراه النائم في نومه ، أما الحِلْمُ فهو العقْل ، والحِلم موضوعنا ، وهو خُلُقٌ عظيم من أخلاق الإسلام، والحِلم : ضبطُ النفس عند الغضب، وكفُّها عن مقابلة الإساءة بالإساءة، مع تحكيم المسلم دينَه وعقله عند إيذاء الآخرين له، مع قدرته على ردِّ الإيذاء بمثله، إنه ثباتك أمام من ينهرك , وثقتك بنفسك قِبَلَ من يستصغرك , وسلاحك لمن أرد أن يقتلك ، والحِلم هو كظمك الغيظ   وعفوك عن المخطئ , وصبرك على الإساءة   قال تعالى : ﴿  والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين ﴾ آل عمران134 . بل هو عنوان الصفح والعفو قال تعالى : ﴿ خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ﴾ الأعراف 119. وهو سيّد الأخلاق ، وعلامة الصابرين المحتسبين , وصفةٌ محبوبةٌ لرب العالمين ، وهو أساس الرفق , قال صلى الله عليه وسلم : ( إن الرفق لا يكون في شيءٍ إلاّ زانه , ولا يُنـزع من شيءٍ إلاّ شانه ) رواه مسلم . وهو أصل الرفعة والأنفة قال الشافعي : " ولو لم تكن نفسي عليَّ عزيزةٌ  لمكّنتها من كل نذلٍ تحاربه " إنه طبع الكرماء ، وترجمان الأوفياء ، وقد قيل : من عادة الكريم إذا قَدِرَ غفر , وإذا رأى زلةً ستر ، والحليم هو الذي لا يعشق الانتقام   ولا يحمل في قلبه الحقد والضغينة , ولا يأبه بهفوات الساقطين من الناس ، وقد قيل : ليس من عادة الكرماء الغضب والانتقام ، وقيل " الحليم عليم  والسفيه كليم " وقال  الشافعي :

يخاطبني السفيه بكل قبحٍ   فأكره أن أكون له مجيبا

يزيد سفاهةً فأزيد حلماً كعودٍ زاده الإحراق  طيبا

وهذا لا يعني أن يرضى الإنسان بالذل أو يقبل الهوان ، وإنما هو الترفع عن شتم الناس  وتنـزيه النفس عن سبهم ، والحلم عمود الأخلاق وذروة سنامها،به تستكمل الفضائل،وتحصل المعالي ، وما أحوجنا اليوم إلى دخول مدرسة الحلم ، بعد أن أصبح الغضب ، يعكر صفو الحياة ، وغاب صوت العقل عن المجتمعات الإسلامية، وكان الرسول  صلى الله عليه وسلم أحلم الناس، فلا يضيق صدره بما يصدر عن بعض المسلمين من أخطاء ، فقد كان صلى الله عليه وسلم يغضب للحق إذا انتهكت حرماته ، وإذا غضب فلا يقوم لغضبه شيء ، حتى يهدم الباطل وينتهي ، وفيما عدا ذلك فهو أحلم الناس عن جاهل لا يعرف أدب الخطاب ، أو مسيء يمكن إصلاحه ، أو منافق يتظاهر بغير ما يبطن ، قال صلى الله عليه وسلم  لأحد الصحابة : ( إِنَّ فِيكَ خَلَّتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ الْحِلْمُ وَالأَنَاةُ ) وفي الأثر: إنما العلم بالتعلم و إنما الحلم بالتحلم و من يتحر الخير يعطه ومن يتق الشر يوقه "  يُحْكَى أن رجلا آذى أبا بكر الصديق  بكلام في أثناء جلوسه مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فصمت أبو بكر ، ثم شتمه الرجل مرة ثانية ، فسكت أبو بكر، ولما شتمه للمرة الثالثة ، رد عليه أبو بكر ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم من المجلس ، فأدركه أبو بكر وقال له: أغضبتَ على يا رسول الله؟ فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أن ملكًا من السماء نزل يرد عنه، ويدافع عنه، فلما رد هو انصرف الملك وقعد الشيطان. ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم ليجلس في مجلس فيه الشيطان "، وما أحسن توطين النفس على لزوم الحلم ، والعفو عن الناس   إذ لا سبب لتسكين الإساءة ، أحسن من الإحسان، ولا سبب لنماء الإساءة وتهييجها أشد من الاستعمال بمثلها ، وأغنى الناس عن الحقد ، من عظم عن المجازاة، وأجل الناس مرتبة ، من صد الجهل بالحلم، وما الفضل إلا لمن يحسن إلى من أساء إليه ، فأما مجازاة الإحسان إحساناً ، فهو المساواة في الأخلاق   وهناك فرق بين حلم الذل والعجز والمهانة  وبين حلم الاقتدار والعزة والشرف.

كُلُّ حِلمٍ أَتى بِغَيرِ اِقتِدارٍ  حُجَّةٌ لاجِئٌ إِلَيها اللِئامُ

بلغ عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أن جماعة من رعيته اشتكوا من عماله؛ فأمرهم أن يوافوه ، فلما أتوه ، قام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، أيتها الرعية، إن لنا عليكم حقاً: النصيحة بالغيب ، والمعاونة على الخير، أيتها الرعاة ، إن للرعية عليكم حقاً فاعلموا أنه لا شيء أحب إلى الله ، ولا أعز من حلم إمام ورِفْقه، وليس جهل أبغض إلى الله ، ولا أغم ، من جهل إمام وخرقه ". وقال رضي الله عنه: " تعلموا العلم وتعلموا للعلم السكينة والحلم " ، قد يكثر مالك وولدك ، ولكن الخير أن يكثر علمك   ويعظم حلمك ، وأن لا تباهي الناس بعبادة الله، وإذا أحسنت حمدت الله تعالى  وإذا أسأت استغفرت الله تعالى.

 وقال معاوية بن أبي سفيان : لا يبلغ العبد مبلغ الرأي ، حتى يغلب حلمه جهله، وصبره شهوته، ولا يبلغ ذلك إلا بقوة العلم ، وسأل عمرو بن الأهتم: أي الرجال أشجع؟ قال: من رد جهله بحلمه، قال فأي الرجال أسخى؟ قال من بذل دنياه لصالح دينه.

 وقال أكثم بن صيفي: دعامة العقل الحلم  وجماع الأمر الصبر. وقيل : ليس الحليم من ظلم فحلم ـ حتى إذا قدر انتقم، ولكن الحليم ، من ظلم فحلم ، حتى إذا قدر عفا.

قال أبو الدرداء :  لرجل أسمعه كلاما: يا هذا لا تغرقن في سبنا، ودع للصلح موضعا، فإنا لا نكافئ من عصى الله فينا ، بأكثر من أن نطيع الله عز وجل فيه.  حكي عن الأحنف بن قيس أنه قال: ما عاداني أحد قط ، إلا أخذت في أمره بإحدى ثلاث خصال: إن كان أعلى مني عرفت له قدره، وإن كان دوني رفعت قدري عنه، وإن كان نظيري تفضلت عليه . وأنشدوا :   

وللكف عن شتم اللئيم تكرماً  أضر له من شتمه حين يشتم

والحلم صفة تكسب المرء محبة الله ورضوانه، ودليل كمال العقل وسعة الصدر  وامتلاك النفس، وفيه إعانة الناس لصاحبه ووقوفهم في صفه، وفي الحلم تآلف القلوب ونشر المحبة بين الناس ، ولقد أحسن  

متاركة اللئيم بلا جواب   أشد عَلَيْهِ من مر العذاب

اشتهر رجال على مر التاريخ بالحلم حتى عجب الناس من حلمهم، كان من مشاهيرهم معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه ، وهو الذي كان يقول:" لا يبلغ العبد مبلغ الرأي حتى يغلب حلمه جهله، وصبره شهوته، ولا يبلغ ذلك ، إلا بقوة العلم " كان لعبد الله بن الزبير مزرعة في المدينة ، مجاورة لمزرعة يملكها معاوية بن أبي سفيان , وفي ذات يوم دخل عمّال مزرعة معاوية ، إلى مزرعة ابن الزبير  فغضب ابن الزبير وكتب لمعاوية في دمشق  وقد كان بينهما عداوة : "من عبد الله ابن الزبير ، إلى معاوية ابن هند آكلة الأكباد ، أما بعد :" فإن عمالك دخلوا إلى مزرعتي  فأمرهم بالخروج منها , أو فو الذي لا إله إلا هو ليكوننّ لي معك شأن ، فوصلت الرسالة لمعاوية وكان من أحلم الناس فقرأها , ثم قال لإبنه يزيد :  ما رأيك في ابن الزبير أرسل لي يهددني ؟   فقال له ابنه يزيد : أرسل له جيشاً أوله عنده وآخره عندك يأتيك برأسه ، فقال معاوية:  بل خيرٌ من ذلك زكاة وأقرب رحما ، فكتب رسالة إلى عبد الله بن الزبير يقول فيها : من معاوية بن أبي سفيان إلى عبد الله بن الزبير ابن أسماء ذات النطاقين أما بعد : فو الله لو كانت الدنيا بيني وبينك لسلمتها إليك ، ولو كانت مزرعتي من المدينة إلى دمشق ، لدفعتها إليك ، فإذا وصلك كتابي هذا فخذ مزرعتي إلى مزرعتك ، وعمالي إلى عمالك ، فإن جنّة الله عرضها السموات والأرض " فلما قرأ ابن الزبير الرسالة بكى حتى بلها بالدموع   وسافر إلى معاوية في دمشق وقبّل رأسه وقال له : "لا أعدمك الله حلماً , أحلك في قريش هذا المحل". هذه هي مواطن ضبط النفس ، إزاء مثيرات الغضب  وهي من أشرف السجايا ، وأعز الخصال ودليل سمو النفس، وكرم الأخلاق، وسبب المودة والإعزاز   وقد مدح الله الحكماء والكاظمين الغيظ، وأثنى عليهم في محكم كتابه الكريم ، وخص الله بالحلم الكرماء  الذين جعلهم أهلها، فخفف عليهم حملها وسوغهم فضلها، وحظرها على السفلة  لصغر أقدارهم عنها، وبعد طباعهم منها ونفورها منهم. قال علي -رضي الله عنه-: ليس الخير أن يكثر مالك وولدك  ولكن الخير أن يكثر علمك ويعظم حلمك"

 

 

ذم الحقد

الحقد لا يتمسك به إلا كل صغير ووضيع قال تعالى :﴿ إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ﴾ آل عمران ، الحقد آفة أخلاقية عديدة المساوئ، عظيمة الأثر في الفساد والدّمار للفرد

والمجتمع ، مع أن هذا الشعار اذا رُفع في عمل جماعي ، دُمر هذا العمل ، وجَلَبَ الفشل والفساد والدمار ، أما لماذا يحقد هذا الصنف من الناس ، لانهم جُبلوا على كره أنفسهم ، قبل أن يكرهوا الاخرين ، فلا يروق لهم أن يروا أحدا يعتلي سلم النجاح  فيحاولون أن يضعوا له العراقيل  لأن الحاقد حاسد ، ومن صفاته أنه من أراذل الناس ، فقد قال علي رضي الله عنه : رَأسُ الرَّذائِلِ اَلحَسَدُ ، ومن صفات الحاسد والحاقد ، أنهم يكرهون كل خير للناجح ، وهذه من صفات المنافقين ، قال الله تعالى فيهم ﴿ إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوا وَهُمْ فَرِحُونَ﴾ 50 التوبة، ولعل أبشع ما في الحاقد ، أنه عدو لنعمة الله  كلما رأى نعمة على إنسان أحس بداخله باحتراق أعصابه  وعندما يري الناجحين ، يزداد حقداً لهم ، وتشتعل في قلبه نار الغيظ والحسد ، وإن تُرك دون أن ينفس من غيظه ، حرق غيظه كبده ، وتآكلت أجزاء بدنه من لهيب مكره، وصدق الامام الشافعي حين قال   :

فإن كلمته فرجت عنه    وإن خليته كمداً يموت

ومن صفات الحاقد ، أنه شخصٌ ضعيف الإيمان، فاقد البصيرة  ضعيف الشخصية ، لأنه لا يستطيع أن يُظهر حقده أمام من يخالفه ، فيلجأ إلي أساليب حقيرة ورخيصة ، لا ترجى اماتتها : كل العداوات قد ترجى إماتتها

  إلا عداوة من عاداك عن حسد ، فعداوة الحاسد ، لا يمكن ان تنتهي ، ولا يمكن ان تقف عند حد ، لأنه لا يرضيه إلا زوال ما حسد من اجله ، وربما يستمر حسده حتى إذا زال ما حسدك من أجله  ، فالحاقد في شقاء دائم وعذاب لنفسه الدنيئة ، يتضاعف أضعافاً مضاعفة ، خاصة عندما يرى الناجح في نعمة من الله سبحانه فيموت بغيظه، لأن حقده لا يجلب له الا الذل في الدنيا ، والنار في الآخرة قال تعالى : ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَام ﴾ فكل داء له دواء إلا الحقد ، ولذا قالوا : "الحقود لا يقود " لأنه غير أمين على من يقود؛ ولا يُؤمن مكره؛ قنّاص يقتنص الفرص ليؤذي غيره ، لذا لا يصلح أن يقود ؟ لأن الحقد غليان شيطاني ، لا يحمله إلا جهولٌ ، مليءُ النفس بالعلل  عاجز لا تدوم له مسرة ، ولا يهنأ له عيش ، وقد قيل: ثلاثة لا يهنأ لصاحبها عيش، الحقد والحسد وسوء الخلق، هذه النماذج من البشر، لا يمكن قطع دابرها إلا بتجاهلها ، ولندع الحاقد لنار حقده ، التي لا شك ستأكله في نهاية المطاف؛ فالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله وكل الجرائم تعقبها عقوبتها؛ إلاّ جريمة الحقد تسبقها عقوبتها  لأن كل فعل سيئ يصدر منه  سينقلب سلباً عليه ، فيؤذيه ويقتل قلبه دون أن يشعر، ويا ليته يتذكر قول الله تعالى : ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ ﴾  والعجيب والغريب ان في مجتمعنا أناساً يحقدون على شخص آخر بدون أي سبب ، وهذا هو الحسد والحقد الجديد في هذا الزمان ، يتقاطع الناس ويتدابرون ويتحاسدون دون سبب ، بل ان بعضهم يغتاب بعضاً ، ويشتم البعض الآخر دون سبب  ولحاجة في نفس يعقوب ، مثل هذه النماذج القميئة في مجتمعنا  لا يمكن قطع دابرها إلا بتجاهلها  فالحاقد الحاسد ستأكله نار حقده وحسده ، ولقد أحسن القائل :

أصبر على حسد الحسود  فان صبرك قاتله

كالنار تأكل بعضها      ان لم تجد ما تأكله

إن الحقد حمل ثقيل يُتعب حامله  إذ تشقى به نفسه ، ويفسد به فكره ، وينشغل به باله ، ويكثر به همه وغمه ، ولقد أحسن القائل :

الحقد داءٌ دفينٌ ليس يحمله    إلا جهولٌ ملـيءُ النفس بالعلل

مالي وللحقد يُشقيني وأحمله     إني إذن لغبيٌ فاقدُ الحِيَل؟

 ومن عجبٍ أن الجاهل الأحمق يظل يحمل هذا الحمل الخبيث حتى يشفي حقده بالانتقام ممن حقد عليه . إن الحقد في نفوس الحاقدين يأكل كثيراً من فضائل هذه النفوس ، فيربو على حسابها  وإذا نظرنا إلى الحقد وجدناه يتألف من: بُغض شديد، ورغبة في الانتقام مضمرة في نفس الحاقد ، حتى يحين وقت النَّيْل ممن حقد عليه. فالحقد إذاً هو إضمار العداوة في القلب والتربص لفرصة الانتقام ممن حقد عليه ، بخلاف المؤمنين الذين صفت نفوسهم ، وطهرت قلوبهم ، فلم تحمل حقدًا على أحد من المؤمنين ، وقد تضعف النفس أحيانًا فتبغض أو تكره  لكن لا تستقر هذه البغضاء في نفوس المؤمنين حتى تصير حقداً  بل إنها تكون عابرة سبيل  سرعان ما تزول ؛ إذ المؤمن يرتبط مع المؤمنين برباط الأخوة الإيمانية الوثيق ؛ فتتدفق عاطفته نحو إخوانه المؤمنين بالمحبة والرحمة  فهل يتصور بعد هذا أن يجد الغل والحقد إلى قلبه سبيلاً ؟بالطبع لا   لقد عد بعض العلماء الحقد من كبائر الذنوب التي   ينبغي على المؤمن أن يتنزه عنها ، وأن يتوب إلى الله   منها ، لذا فعلاج الحقد يكون بالقضاء على سببه الأصلي وهو الغضب ، فإذا حدث ذلك الغضب ، ولم تتمكن من قمعه بالحلم ، قتذكر فضيلة كظم الغيظ ، قال بعض العلماء: " إن فساد القلب بالضغائن داءٌ عُضالٌ وما أسرع أن يتسرب الإيمان من القلب المغشوش، كما يتسرب السائلُ من الإناء المثلوم " إن الشيطان ربما عجز أن يجعل من الرجل العاقل عابد صنمٍ ، ولكنه لن يعجز عن المباعدة بينه وبين ربه ، وهو يحتال لذلك بإيقاد نار العداوة في القلوب، فإذا اشتعلت استمتع الشيطان برؤيتها وهي تحرق حاضرَ الناس ومستقبلهم  وتلتهم علائقهم وفضائلهم  ذلك أن الشر إذا تمكن من الأفئدة الحاقدة ، تنافر ودها وارتد الناس إلى حالٍ من القسوة والعناد يقطعون فيها ما أمر الله به أن يوصل ، ويفسدون في الأرض  إن الحقد مصدرٌ دفين لكثير من الرذائل التي رهَّب منها الإسلام  فالافتراء على الأبرياء جريمة يدفع إليها الحقد ، وقد عدها الإسلام من أقبح الزور، أما الغيبة فهي متنفَّسُ حقدٍ مكظوم ، وصدر فقير إلى الرحمة والصفاء  ومن لوازم الحقد ، سوء الظن وتتبع العورات  واللمز ، وتعيير الناس بعاهاتهم ، أو خصائصهم البدنية أو النفسية ، وقد كره الإسلام ذلك كله كراهيةً شديدةً.

إن جمهور الحاقدين ، تغلي مراجل الحقد في أنفسهم ، لأنهم ينظرون إلى الدنيا فيجدون ما تمنوه لأنفسهم قد فاتهم  وامتلأت به أكفٌّ أخرى ، وهذه هي الطامة التي لا تدع لهم قرارًا  وهم بذلك يكونون خلفاء إبليس الذي ينفث في نفوس الحاقدين  فيفسد قلوبهم ، ويصبحون واهني العزم، كليلي اليد ، وكان الأجدر بهم أن يتحولوا إلى ربهم يسألونه من فضله ، وأن يجتهدوا حتى ينالوا ما ناله غيرهم ، إذ خزائنه سبحانه ليست حِكراً على أحد  والتطلع إلى فضل الله عز وجل مع الأخذ بالأسباب  وهي العمل الوحيد المشروع  عندما يرى أحدٌ فضل الله ينزلُ بشخصٍ معين ، وشتان ما بين الحسد والغبطة وما بين الطموح والحقد ﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ  ﴾ .

 

 

 

 

بر الوالدين

 

جعل الله طاعة الوالدين وبرّهما من أفضل القربات إلى الله تعالى فقال سبحانه :﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّل مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً﴾ الإسراء 23   وجعل منزلة الوالدين لا تعدلها منزلة ، لأنها توجب الإحسان إليهما والترفق بهما ، والعطف عليهما في حياتهما ، والترحم عليهما والدعاء لهما بعد موتهما    وقد قرن الله ذكرهما بذكره وشكرهما بشكره ، في قوله سبحانه وتعالى:﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِير﴾ لقمان 14، والشّكر لله سبحانه وتعالى يكون على نعمة الإيمان وأمّا شكر الوالدين فيكون على نعمة التّربية الصّالحة، وقد رفعَ الله الأمر بالإحسان إلى الوالدين إلى مستوى عبادته ، وقرن برّ الوالدين بذلك، وجاءت كلمة القضاء في قوله تعالى:﴿ وقضى ربك ﴾ بمعنى الوجوب، والإلزام والأمر،عن عبد الله بن مسعود قال:( سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ  الأْعْمَال أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَل؟ قَال: الصَّلاَةُ عَلَى وَقْتِهَا قَال: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَال: بِرُّ الْوَالِدَيْنِ قَال: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَال: الْجِهَادُ فِي سَبِيل اللَّهِ ) صحيح البخاري، فعلى من يعاصر  الوالدين أو أحدهما أن يحرص على برهم ورعايتهم ، وأداء الحق إليهم ، فقد يطول العمر ويكون لهم ولد ، فما يرجون من أبنائهم غداً ، فاصنعوه مع الوالدين فإنه دَيْنٌ ، ولا بد للدين من وفاء ، وإياكم والعقوق لأنه من الكبائر ، فقد قرن النّبي صلّى الله عليه وسلّم عقوقهما بالشّرك بالله عزّ وجلّ، فعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال النّبي صلّى الله عليه وسلّم:( ألا أنبّئكم بأكبر الكبائر؟ ثلاثاً. قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وجلس وكان متكئاً، فقال: ألا وقول الزّور فما زال يكرّرها حتّى قلنا: ليته سكت "رواه البخاري . ومن العقوق الذنوب التي لا نشعر بها  والتي لو وضعت في ميزان الله لكانت كذنوب ملئ الأرض آثاماً، وهي التي قال الله فيها : ﴿ ولا تقل لهما أُفٍّ﴾  ويُفسرها علي بن أبي طالب رضي الله عنه بأنّه لو كان هناك أصغر من هذه الكلمة لقالها سبحانه ، ولا يختصّ بِرُّ الوالدين بأنْ يكونا مسلمين ، روى البخاري عن أسماء قالت : قدمت عليّ أمي وهي مشركة ، في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت وهي راغبة : أفأصل أمي ؟ قال : نعم صلي أمك) وقد دعا على من لم يقم ببرّ والديه عند كبرهما، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (رغم أنفه. ثمّ رغم أنفُه. ثمّ رغم أنفُه. قيل: من؟ يا رسولَ اللهِ! قال: من أدرك والديه عند الكبرِ أحدَهما أو كليهما، ثمّ لم يدخلِ الجنّةَ) مسلم. ويمكن للإنسان أن يبرّ والديه بعد موتهما وذلك  بالاستغفار لقوله تعالى :﴿ رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ﴾ إبراهيم 40  والتصدق والدّعاء لهما لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال:( إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقةٍ جارية، أو علمٍ يُنتفع به  أو ولدٍ صالح يدعو له ) ، رواه الألباني وقضاء الدّين عنهم لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:( نفس المؤمن مُعَلّقة بدَيْنِه حتى يُقْضى عنه) رواه الترمذي  وقضاء النّذور عنهم ، مثل نذر الصّيام، أو نذر الحج، أو غير ذلك ممّا يمكن النّيابة فيه. وقضاء الكفّارات عن الوالدين مثل كفّارة اليمين، وتنفيذ وصيّتهم والإسراع بتنفيذها ، وإكرام أصدقاء الوالدين بعد موتهما  لحديث ابن عمر رضي الله عنهما، عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال:( إنّ أبرّ البرّ صلةُ الولدِ أهلَ وُدِّ أبيه ) رواه مسلم  والإنفاق عليهما عند الحاجة  قال تعالى:﴿ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ﴾ البقرة 215، وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما : أن رجلاً قال : يا رسول الله إن لي مالاً وولدًا  وإن أبي يريد أن يجتاح مالي فقال:(أنت ومالك لأبيك )رواه أبو داود وابن ماجه، وفي رواية:(إن أولادكم من أطيب كسبكم، فكلوا من كسب أولادكم )إرواء الغليل للألباني  وللأب أن يأخذ من مال ولده  إذا احتاج بشرط أن لا يجحف به، ولا يأخذ شيئاً تعلقت به حاجة الولد. ولا يأخذ من مال ولده ، فيعطيه للولد الآخر ،وإذا تعارض حق الأب وحق الأم  فحق الأم مقدم لحديث:( أمك ثم أمك ثم أمك ثم أباك)رواه الشيخان، وفي بر الوالدين منجاة من مصائب الدنيا بل هو سبب تفريج الكروب وذهاب الهم والحزن ،كما ورد في شأن نجاة أصحاب الغار وكان أحدهم باراً بوالديه يقدمهما على زوجته وأولاده   فاحذر يا أخي المسلم أن تجعل الإساءةَ إلى الوالدين مكانَ الإحسان، وعقوقهما مكان البِرِّ والإيمان، والجفوة والغِلْظة ،مكان العَطْف والشَّفَقة ، والقول السيئ الأليم ، مكان القول اللين الكريم، والكُفْر بَدَل الشكر والمعصية بدل الطاعة  وأن تُبدِّل الأب بالصديق، والأم بالزوجة ، إن كنتَ تُريد العونَ من الله تعالى ، والعِتْق من النيران والفوز بالجنان، فإن رضا الله تعالى برضا الوالدين، وسخط الله تعالى بسخط الوالدين، والنظر إليهما طاعة، فما بالك بسائر البِرِّ والصِّلة وحُسْن الصُّحبة التي فضَّلها الرسول صلى الله عليه وسلم على الجهاد في سبيل الله    والشيء الخطير ، ما رواه البيهقي عن أبي بكْرة أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم قال ( كلُّ الذُّنُوبِ يَغْفرُ الله منها ما شاء إلا عُقوق الوالدين ، فإنَّه يُعَجِّل لِصَاحبِهِ في الحياة قبل الممات ) ، ومِنْ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ صِلَةَ الإِخْوَةِ والأَخَوَاتِ ولأن الأَخَوَات أَضْعَفُ مِنَ الإِخْوَةِ، فَلَهُنَّ مِنَ الْحُقُوقِ عَلَى إِخْوَانِهِنَّ ،مَا يُقَوِّي ضَعْفَهُنَّ ويُزِيلُ عَجْزَهُنَّ، وَيُوَفِّرُ الرِّعَايَةَ والْحِمَايَةَ لَهُنَّ؛ سَوَاءٌ كُنَّ أَخَوَاتٍ شَقِيقَاتٍ، أَمْ أَخَوَاتٍ لأَبٍ، أَمْ أَخَوَاتٍ لأُمٍّ، فَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ حُقُوقٌ عَلَى أَخِيهَا، والأَصْلُ أنَّ الأُخْتَ تُحِبُّ أَخَاهَا وَتَعْتَزُّ بِهِ وَتَشْعُرُ بالأَمْنِ مَعَهُ، تَرْفَعُ بِهِ رَأْسَهَا، وَتُقَوِّي بِهِ رُكْنَهَا، تَفْرَحُ لِفَرَحِهِ، وَتَحْزَنُ لِمُصَابِهِ، وَتَبْكِي لِفِرَاقِهِ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْأَخِ وَأُخْتِهِ مِنْ رِبَاطٍ إلَّا أَنَّهُمَا مِنْ صُلْبٍ وَاحِدٍ، أَوْ حَوَاهُمَا رَحِمٌ وَاحِدٌ، أَوْ رَضَعَا مِنْ ثَدْيٍ وَاحِدٍ لَكَانَ ذَلِكً حَقِيقًا بِحِفْظِ حَقِّهَا وَدَوَامِ مَوَدَّتِهَا، وَرُسُوخِ مَكَانَتِهَا فَكَيْفَ إِذَا اجْتَمَعَ ذَلِكَ كُلُّهُ وَوَاللهِ لَا يَنْسَى حَقُّ الأُخْتِ إلَّا مَنْ بَاعَدَ عَنِ الْوَفَاءِ، وَتَنَكَّرَ لِأَوْثَقِ رَوَابِطِ الْإِخَاء ، َفكَمْ مِنْ أَخٍ أَحْسَنَ إِلَى أَخَوَاتِهِ، فَرَفَعَ اللهُ تَعَالَى ذِكْرَهُ، وَأَعْلَى شَأْنَهُ، وَكَمْ مِنْ فَقِيرٍ أَغْنَاهُ اللهُ تَعَالَى بِسَبَبِ قِيَامِهِ عَلَى أَخَوَاتِهِ بَعْدَ أَبِيهِنَّ وَإِعَالَتِهِ لَهُنَّ، وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِنَّ.

 

عن أبي سعيد قال: قال رسول الله:( لا يكون لأحدٍ ثلاثُ بنات، أو ثلاث أَخَوات، أو ابنتان أو أختان، فيتقي الله فيهن ويُحسن إليهنَّ، إلا دخَلَ الجنة) رواه أحمد.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

النهي عن الضحك والمزاح وكثرة الكلام

  قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه :

من كثر ضحكه قلت هيبته، ومن مزح استخف به، ومن أكثر من شيء عرف به ومن كثر كلامه كثر سقطه – خطئه- ومن كثر سقطه قل حياؤه، ومن قل حياؤه قل ورعه، ومن قل ورعه مات قلبه.

لقد رغب الرسول صلى الله عليه وسلم في الابتسامة لما صح عنه :( تبسُّمك في وجه أخيك لك صدقة ) الترمذي  وابن ماجه  وقوله : ( لا تحقِرَنَّ من المعروفِ شيئاً ولو أن تلقى أخاكَ بوجه طَلق ) ولا شك بأن الإنسان المبتسم قريب من قلوب الناس، وصدق من قال : "عندما يبتسم الإنسان لنفسه فمن السهل أن يبتسم للآخرين " ولقد أحسن القائل:

إذا كان الكريمُ عَبوسَ وجهٍ  فما أَحلى البشاشَـةَ في البخيلِ

 إن للضحكة فعل سحريّ في شفاء الناس وكشف الغمّ ، وإعادة الحياة والنشاط للروح والبدن ، وهي جالبة للمحبة في قلوب الناس، ومُظْهرة للتواضع ، وعدم الترفع  بخلاف الضحك ، الذي يصاحبه قهقهة   فإنه مذموم إن كان كثيرا ، لما صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أوصى بعض أصحابه، فقال:(لا تكثروا الضحك، فإن كثرة الضحك تميت القلب ) صحيح مسلم  ولأن الإكثار منه مُذهب للهيبة ، ومخالف للمروءة ، وقد قيل :كثرة الضحك تقلل الهيبة، وكثرة الكلام يقلل الوقار، وكثرة الزيارة تقلل القدر، وكثرة التواصل تقلل الشوق ، أما المزاح فلا بأس به ، ما لم يكن سفها ، فهو خُلق ، وسلوك بشري له ضوابطه وحدوده ، يشتمل على المداعبة والمضاحكة والمفاكهة ، بقصد الترويح عن النفوس ، وإدخال السرور والبهجة إليها حتى لا تمل ولا تكل ، وتجنب الإكثار من المزاح ، لأنه يُسقط الهيبة ، ويُزيل المحبة والاحترام من قبل الآخرين ، ويخل بالمروءة ويجرئ السفهاء والأنذال، وكان يقال:" لكل شيء بدء وبدء العداوة المزاح" وأنشدوا :

                                               مازحْ صديقك ما أحبَّ مزاحا   وتوقَّ منه في المزاح جماحا

     فلربما مزح الصديق بمزحةٍ      كانت لِبـابِ عداوة مفتاحـا

ومن أكثر من شيء عرف به ، فإن الرجال يُعرفون بالدين ، ولا يُعرف الدين بالرجال    ولا يُعرف الحق بالرجال ، بل الرجال يُعرفون بالحق، لأن الحق متبوع لا تابع ، قال تعالى :  ﴿ ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات واﻷرض ومن فيهن﴾ ولا يصح الاستدلال بالرجال على الحق ، والاحتجاج عليه بفعل فلان وفلان ، لأن الواجب أن يُنظر إلى القول لا إلى القائل، وإلى الدليل لا إلى الفكرة ، والقاعدة : "يُعرف الرجال بالحق  ولا يُعرف الحق بالرجال" ومن كثر كلامه كثر سقطه ، ومن كثر سقطه ، ومن كثرت ذنوبه كانت النار أولى به ، قال الغزالي : " لا تبسطن لسانك فيفسد عليك شأنك " وفي المثل السائر " رب كلمة تقول لصاحبها دعني دعني " فالكلام حسنه حسن   وقبيحه قبيح ، واللسان إنما هو آلة يستخدمها صاحبها ويسيرها، فإن سار بها طريق الخير ، أفلح ونجح، وإن سار بها طريق الشر ، خسر وخاب، ومن ملَك لسانه  فقد ملك أبواب الخير، وقد أحسن القائل :

يموت الفتى من عثرة بلسانه   وليس يموت المرء من عثرة الرِّجْلِ

فعثرته بالقول تُذهب رأسه   وعثرته في الرجْل تبرا على مهلِ

ومن كثر سقطه قل حياؤه ، ومن قل حياؤه  جاهر بالذُّنوب والمعاصي ، وعدم الخوف مِن الله ، وسوء الأدب في الأقوال والأفعال فلا يجد البعض حياءً يمنعه ، ولا دينا يردعه ويرده إلى الصواب ، لأن الحياء خُلُقٌ يبعث على فعل كل مليح ، وترك كل قبيح ، وهو دليل على الخير والاستقامة ، ومُخْبِـرٌ عن المدح والسلامة ، ومُجِـيرٌ من الذم والملامة ، فهو من صفات النفس المحمودة ، التي يحبها الله تعالى  ولا يأتي إلا بخير، بل هو خير كله ، لقوله صلى الله عليه و سلم في الحديث المتفق على صحته :( الحياء لا يأتي إلا بخير) ولم يكن في شيءٍ إلا زانه ، وهو شعبة الإيمان وخلق الإسلام ، كما روى الإمام مالك في الموطإ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (إن لكل دين خلقا وخلق الإسلام الحياء) ، وقد قيل:" من كساه الحياءُ ثوبَه لم يرَ الناسُ عيبَه "، وقال  أحد شعراء العباسيين :

حيـاؤك فاحفظه عليك فإنما   يدلُّ على فضل الكريم حياؤه

إذا قلَّ ماء الوجه قلَّ حيـاؤه   ولا خير في وجهٍ إذا قلَّ ماؤه

وقيل: خمسٌ مِن علامات الشَّقاوة :" القسوة في القلب ، وجمود العين ، وقلَّة الحَيَاء   والرَّغبة في الدُّنْيا ، وطول الأمل " وهو الباعث على فعل المأمور ، وترك المحظور ، فهنيئاً لمن كان الحياء خلقاً له ، ولا خير في المرء إذا ذهب منه الحياء .

إذا لم تخش عاقبة الليالي   ولم تستحي فاصنع ما تشاء

فلا والله ما في العيش خير   ولا الدنيا إذا ذهب الحياء

يعيش المرء ما أستحيا بخير   ويبقى العود ما بقي اللحاء

ومن قل حياؤه قل ورعه ، بأن يُطهَّر القلب من الدنس ،كما يُطهِرُ الماء دنس الثوب  أو ترك ما يريب، ونفي ما يعيب، قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " تمام الورع أن يعلم الإنسان خير الخيرين ، وشر الشرين ، ويعلم أن الشريعة ، مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها  وتعطيل المفاسد وتقليلها ، قال صلى الله عليه وسلم: (كن ورعًا تكن أعبد الناس ، وكن قنعًا تكن أشكرَ الناسِ ، وأحب للناسِ ما تحب لنفسك تكن مؤمنًا ، وأحسِنْ جوار من جاورَك تكن مسلمًا، وأقِل الضحكَ فإن كثرةَ الضحك تميت القلبَ ) وأحسن من قال :

تَوَرَّعْ وَدَعْ مَـا إِنْ يَرِيبُـكَ كُلَّـهُ    جَمِيعًا إِلَى مَـا لا يَرِيبُـكَ تَسْلَمِ

الورع نوعان : واجب ، وهو اتقاء ما يكون سببا للذنب والعذاب ، بترك المحرمات  ومستحب ، باتقاء ما يمكن أن يؤدي إلى محرم أو ترك ما يكون سببا للذم والعذاب ، سأل الحسن غلاما فقال له: "ما ملاك الدين قال: الورع ، قال: فما آفتة قال: الطمع ، فعجب منه الحسن" إن الإنسان ليخجل من قلة زهده وورعه ، وخوفه وحياءِه من الله عز وجل ، وكم نتجرأ على الله ، بارتكاب المعاصي والذنوب  التي نستصغرها ، وكم هي الفتن التي حولنا   ولا نستطيع أن نحمي أنفسنا منها ، من قلة ورعنا ، وكثرة حبنا للدنيا ، وترك ما عند الله  فمتى نتوب إلى الله توبة نصوح ، ونأخذ بأيدينا إلى طريق السلامة ، وأين أهل الآخرة ، الذين نشد أيدينا على أيديهم ، حتى ندرك سبيل النجاة في الدنيا والآخرة ، ومتى ندرك أن الورع هو ملازمة الأدب ، وملازمة الأعمال الحميدة بموافقة الشرع ، واجتناب الشبهات  خوفاً من الوقوع في المحرمات ، ومحاسبة النفس ، ومن كان حاسب نفسه حساباً عسيراً  كان حسابه يوم القيامة يسيراً   ومن حاسب نفسه حساباً يسيراً ، في الدنيا كان حسابه يوم القيامة حساباً عسيراً ، ومن الوُرع : هو حجز اللسان عن قول الزور ، والخوض في أعراض الناس وعدم سوء الظن بالآخرين أو ظلمهم، أو إلحاق الضرر بهم  وأنْ يَجْعَلَ الإنسانُ بينْهُ وبينَ الحَرَامِ حَاجِزا . قَالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ : (كُنْ وَرِعًا تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ ، وَكُنْ قَنِعًا تَكُنْ أَشْكَرَ النَّاسِ  وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا  وَأَحْسِنْ جِوَارَ مَنْ جَاوَرَكَ تَكُنْ مُسْلِمًا ، وَأَقِلَّ الضَّحِكَ ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ ) رَوَاهُ الإمامُ أحمدُ والترمذيُّ وابنُ ماجَه والبيهقيُّ في الشُعبِ  وصَحَّحَهُ الألبانيُّ  

 

 

لماذا التعصب في الاختلاف

الاختلاف لا يضر ، إذا اتفق على الأصول الأساسية والمقاصد الكلية ، على أن لا يؤدي الاختلاف في الجزئيات إلى تفرّق أو عداوة  ويجب على الأمة أن تنسى كل الخلافات الفرعية  لتقف صفاً واحد أمام قوى الشرِّ المعادية لها  ويجب أن تكون الشدائد دافعاً من دوافع لم الشمل وتوحيد الصفوف ، وهو ما يحبه الله لعباده المؤمنين . قال تعالى :)إن لله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص( الصف 4 .

ويجب أن لا يكون الخلاف حائلاً دون ارتباط القلوب ، وتبادل الحب والتعاون على الخير  وأن نحب لإخواننا ما نحب لأنفسنا . فقد كان الصحابة يخالف بعضهم بعضا في الإفتاء  ولكنهم كانوا على قلب رجل وحد .

وكان الأئمة وهم أعلم الناس بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اختلف بعضهم بعضا ، فلم لا يسعنا ما وسعهم ، إن أعداء الإسلام يتمنون أن يغرق المسلمون في بعض القضايا التي لا تؤثِّر على جوهر الدين ، كلبس المرأة أو مصافحتها ، والتي يريدون للمسلمين أن يهتموا بها أكثر من اهتمامهم بأساسيات الدين ، حتى شاعت أراء وأقوال كثيرة ، فيها من التزمت والقسوة على من خالفهم الرأي . قرأت في كتاب يقول مؤلفه : إن كشف الوجه ذريعة للزنا وهو حرام لما ينشأ عنه من عصيان ، فإذا كان هذا حراماً فما القول إذاً بوجوب كشف الوجه في الحج ، وما ألفه الإسلام من كشفه في الصلوات كلها ، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى الوجوه سافرة في المواسم والمساجد والأسواق ، فما روى عنه قط أنه أمر بتغطيتها ، وهل الذين يتعصبون لذلك بأغير على الدين والشرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأما الحجاب الذي ورد ذكره في الإسلام ، فهو تنظيم للتردد على البيت النبوي دون سبب ، وبعد ما لوحظ أن أحد أجلاف البدو قال في صفاقة غريبة ، لو مات محمدصلى الله عليه وسلم تزوجت فلانة من نسائه ، فلم يكن بد من تشريع صارم يمنع هذه الهنات ، ويقمع أصحاب هذه التطلعات ، وليس في الإسلام زيٌ معين ، وحسب اللباس أن يستر العورة ويزيّن صاحبه ، ولكن المصيبة آتية من أناس يقعون على أحاديث في الجزئيات ، لا تمت إلى الأساسيات بصلة ، ثم يعتبرونها مقياساً لصلاح الفرد وعدمه ، وغاب عن تصورهم أنه يستحيل أن تنجح رسالة حملتها يكونون على هذا المستوى ، لأن امتلاك الحياة الدنيا عن قدرة وخبرة ، هو السبيل الأوحد لنصرة المبادئ والمذاهب . وهل من العدل أن يُطعن أو يُساء الظن فيمن خالف مسلماً في رأيٍ أو سلوك لم يرد القطع بتحريمه .

هناك من يقول أن مصافحة المرأة من الكبائر هذا رأيهم وهذه قناعاتهم ، وأنا لا أطالبهم بالتخلي عن قناعاتهم هذه ، والذي لا يليق بهم فرض ذلك على الناس ، فقناعتي لا تتوافق مع هؤلاء  لأني رجعت إلى كتب السنن فلم أجد حديثاً ذكر أن المصافحة كبيرة من الكبائر ، مما جعلني أعتقد بأن المصافحة حتى لو كانت مع ريبة ، فإنها تعتبر مما تسعه المغفرة ، فكيف والريبة لا موضع لها البتة . قرأت في كتب السنن حديثاً أن النبيصلى الله عليه وسلم قال :(لأن يطعن أحدكم بمخيط من حديد خيرٌ له من أن يمس امرأةً لا تحل له ) . لا علاقة لهذا الحديث بالمصافحة ، لأن اللفظ أن يمس وليس أن يصافح ، والمس لم يذكره القرآن إلا وهو يريد الاتصال الجنسي لقوله تعالى :)يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهنّ من قبل أن تمسوهنّ فما لكم عليهن من عدة تعتدونها( البقرة 230 . وقال في كفارة الظهار )فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا(المجادلة 4

وقد يطلق المس على التحكك السافل أو المزاحمة الخسيسة التي يفعلها البعض ، أما الدليل على أن المصافحة تعتبر لمما ، أي من صغائر الذنوب تسعها المغفرة ، قوله تعالى :
)إن الحسنات يذهبن السيئات( .

ذهب جمهور المتأولين من الصحابة والتابعين ، إلى أن الحسنات هنا هي الصلوات الخمس  وسبب نزول الآية يعضد قول الجمهور ، نزلت الآية في رجل من الأنصار خلا بامرأة فقبّلها وتلذذ بها فيما دون الفرج ، فقد روى الترمذي بإسناد حسن صحيح عن عبدالله قال : " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني عالجت امرأة في أقصى المدينة وإني أصبت منها ما دون أن أمسها ، وأنا هذا فاقض فيّ ما شئت ، فقال له عمر : لقد سترك الله لو سترت على نفسك ، فلم يردّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ، فانطلق الرجل فأتبعه رسول اللهصلى الله عليه وسلم رجلاً فدعاه ، فتلا عليه)أقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين ... ( . فقال رجل من القوم : هذه له خاصة ؟ قال : لا بل للناس كافة ". والمصافحة ليست بذي بال إذا ما قيست بمناسبة الآية .

 إنه من التشديد على الناس ، محاسبتهم على النوافل والسنن كأنها فرائض ، وعلى المكروهات كأنها محرمات ، ومن المفروض ألا نلزم الناس إلا بما ألزمهم الله تعالى به جزما ، وما زاد على ذلك فهم مخيرون فيه ، إن شاءوا فعلوا وإن شاءوا تركوا ، وحسبنا حديث طلحة بن عبد الله في الصحيح في قصة ذلك الأعرابي ، الذي سأل النبي  صلى الله عليه وسلم عما عليه من فرائض ، فاخبره بالصلوات الخمس وبالزكاة وبصوم رمضان ، فقال هل علي غيرها ؟ فقال لا إلا أن تطوع   فلما أدبر الرجل قال والله لا أزيد على هذا ولا انقص فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( أفلح إن صدق أو دخل الجنة إن صدق )  أولى بنا أن نجعل أكبر همنا ينصب إلى الدعوة إلى توحيد الله وعبادته . وألا تشغلنا الأمور الجانبية عن القضايا الكبرى التي تتعلق بمصير الأمة ، فترى من يقيم الدنيا ويقعدها من اجل حلق اللحية أو إسبال الثوب أو تحريك الأصبع في التشهد أو اقتناء الصور الفوتغرافية وغير ذلك من المسائل التي طال الجدل حولها ، في الوقت الذي تزحف فيه العلمانية اللادينية وترسخ الصهيونية أقدامها وتكيد الصليبية كيدها ، وتتعرض الكثير من الأقطار الإسلامية للغارات التنصيرية  وفي نفس الوقت يُذبح المسلمون في أنحاء متفرقة من العالم .

إن المعاصي والكبائر معروفة في ديننا ، والبعد عنها شيمة المؤمنين عامتهم وخاصتهم  وثبوت حرمتها قائم على القطع والتحريم ، ليس هوى فرد أو توافق مجتمع ، إنه خطاب الله سبحانه بالكف عن كذا أو كذا ، ولا بد من نص يستند إليه التحريم . وإن للرأي الفقهي مكانته ، ولمن شاء أن يأخذ به ، وأن يدعو إليه غيره ، وقد يؤثر الإنسان رأياً لأن اقتناعه به أكثر من اقتناعه بغيره . أما أن يحسب أحد الناس أن الرأي الذي تبناه دين ومخالفة خروج عن الدين ، فهذا من وجهة نظري قصورٌ ومثار للشغب والفوضى  وقد يجد البعض متعه في قضايا الخلاف ، ليثور ويفور وظاهر أمره الغضب للدين وهو في الحقيقة ينفس عن تربية ناقصة أو مفقودة  وهل الحكم في مسألة تُعدُّ من القشور تنسي الدعائم وتشغل الناس عن أعمدة الإسلام التي انهارت أو تكاد   إن الخلافات الجزئية واقع لا بد منه ، وتجاوزها لما هو أهم منها واقع لا بد منه كذلك ، ونظرة إلى الاجتهادات المذهبية ، فإن المفتي يقول أرى كذا أو الحكم عندنا كذا أو صح الدليل لدينا بكذا ويترك مجالاً للرأي الآخر .

ولا يجوز لإنسان كائناً من كان ، أن يظن أن الإسلام حكراً على قناعته وحدها ، فإذا تعصب الإنسان لرأي فليعمل به إن شاء ، ولا تثور ثائرته إذا رأى غيره يعمل بما يخالفه في أمر لا يعد خروجاً عن الإسلام ، لأن التعصب الشديد لمسألة ثانوية ، يتم على حساب الدماء والأموال والأعراض وكرامة الأمة وحياتها . فلا يتمسك الإنسان ببعض الأفكار والفتاوى ، ويتعامى عن عظائم الأمور ويتقعّر في التوافه ،كهذا الذي سأل الحسن البصري عن الصلاة في قميص به دم البعوض فقال له الحسن : ممن أنت ؟ قال : من العراق ، قال : تسألون عن دم البعوض وتستبيحون دم ابن بنت رسول الله ؟ ، وقد صور أبو الطيب المتنبي هذا الاعوجاج النفسي في فهم الدين بقوله :

أغاية الدين أن تحفوا  شواربكم         يا أمة ضحكت من جهلها الأمم

وذلك في قوم يحسبون قمة التدين إزالة شعر واستبقاء شعر . فالخلاف في حكم كثير من المسائل لا بد منه ، أما التعصب على أن هذا الرأي أو الحكم هو الدين وما عداه ليس بدين  فهذا شيء لا معنى له ولا تسليم به . وبعد :

فإني أرحب بالنقد الذي يحمل روح النصيحة في الدين ، والحوار بالحسنى حتى يزول اللبس ، لأن من واجبي وواجب كل مسلم العمل على تكوين وعي إسلامي رشيد يقوم على فقه مستنير لأحكام الإسلام ، فقه يهتم باللباب قبل الاهتمام بالقشور ، ولا يعنيني تشديد المرء على نفسه في سلوكه الشخصي ، لأنه يحتمل ويقبل   والذي لا يقبل ، أن يفرض ذلك على المجتمع كله .

إن الاختلاف في الأحكام الفرعية العملية والظنية  لا ضرر فيه ولا خطر منه ، إذا كان مبنياً على اجتهاد شرعي صحيح ، وهو رحمة بالأمة ومرونة في الشريعة وسعة في الفقه  وقد اختلف فيها أصحاب رسول اللهصلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان  فما ضرهم ذلك شيئاً ، وما نال من أخوتهم ووحدتهم كثيراً ولا قليلا .

) ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم( .

    

 

 

 

الخلاف المذموم

إن تراثنا  الذي قاد العالم دهرا ،ً يجب أن ينهض من كبوته ويتمسك برسالته ، ليغسل الأرض من أدرانها ، ولو أن انظمة الحكم أهدى والحق أقوى ما كنا نسقط في براثن الاستعمار الذي اجتاحنا ويعمل جاداً على محو وجودنا ورسالتنا ، ومع ذلك نسمع من هنا وهناك من يتكلم عن النهضة التي لا قيمة لها ، ما دامت لا تعرف أسباب هزائمها وكبوتها .

وما دامت هناك خلافات علمية تشغل الكثير من ابنائها ، والتي تسرُّ أعداء الأمة والموالين لهم في بلاد المسلمين ، ويتمنون لو غرق جمهور المسلمين في هذه القضايا ولم يخرج منها ، في الوقت الذي يشعر بقلق شديد إذا ما ساد شعور بين أفراد الأمة عن التفكير في واجبات الدولة ، وهل وجدت لخدمة الأفراد أو المبادئ ؟ وعن المال ولماذا يكون دولة بين البعض من الناس ؟ وعن الناس وهل ولدوا أحراراً أم ولدوا لتستعبدهم سياط الفراعنة حيناً ، والبحث عن لقمة العيش حيناً آخر ؟

كان سلفنا الصالح ملتزماً بالمنهج وإن الذي خاطب الفرس يوماً قائلاً : "جئنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله ، كان بفطرته الصادقة يعلم ما هي الحقائق الكبرى في المنهاج الإسلامي فيفتح البصائر عليها .

آلمتي جداً أن هناك من يهتم بمسائل لا يؤئر تركها على مستقبل الأمة كمسألة لمس المرأة هل ينقض الوضؤ أم لا ؟ وقد لمست الاهتمام الأشد والأحدّ بمثل هذه المسائل عند بعض فئات المسلمين   وغير ذلك من القضايا الثانوية التي استحوذت على الأفكار   لحساب فئة عرفت من الإسلام قشوره وليست جذوره ، فاعتمدت على مرويات لا تعرف مكانها من الكيان الإسلامي المستوعب لشؤون الحياة ، فأرسلوا الفتاوى التي تزيد الأمة بلبلة وحيرة ناسين أنه لا فقه بلا سنة ولا سنة بلا فقه ، ثم لماذا لا نتدبر القرآن أولاً وقبل كل شيء حتى نعرف أبعاد التكاليف التي ناطها الإسلام باعناقنا ؟ ولماذا لا نعرف طبيعة الدنيا التي نعيش فيها والاساليب التي يتبعها خصومناً لكسب معاركهم ضدنا ؟ ولماذا لا نختار للناس أقرب الأحكام إلى تقاليدهم إذا اختلفت وجهات نظر الفقهاء المسلمين في تقرير حكم ما .

فمن الناس من يهتم بقضية التراص اثناء الصف للصلاة أكثر مما يهتم بتوفير الخشوع والقنوت بين يدي الله ، ومن الناس من يهتم بمسألة النقاب مع أن ذلك رأي لم يقل به كثرة من المفسرين والمحدثين والفقهاء ، فماذا عليهم ترك الترجيح الذي اعتمدوا لمصلحةٍٍٍ أهمّ تخدم الإسلام والمسلمين ، ولماذا يصرُّ هؤلاء على رأيهم بأنه الأصح ولا حياة لرأي آخر ولا مكان له ، إن أعداء الإسلام يعلمون تماماً بأن أهل الوعي والفقه إذا اتيح لهم المجال فهم لا بد منتصرون ، ولذلك يفتحون الف طريق لأولئك الغلاة الذين يركزون على القشور التي يضيع معها اللباب. ونصيحتي لهؤلاء أن يتقوا الله في أنفسهم وامتهم ، وأن يجمعوا ولا يفرقوا وأن يمهِّدوا الطريق لعودة الإسلام بدل أن يضعوا أمامه العوائق والعقبات  ويجعلوا الأحكام الفرعية المختلف فيها حجر عثرة أمام عقائد الإسلام وأركانه الكبرى ، وإني على يقين لو بذل هؤلاء في محاربة اعداء الإسلام والمبطلين ، عشر ما يبذلونه في الدفاع عن رأيهم الذي يتبنون ، لانتصر الإسلام ولكان الحال غير الحال ، ثم لحساب من يعلو صوتهم في قضايا هامشية ولا يسمع أبداً في قضايا أساسية ؟ ولحساب من يرى بعضهم رأياً أو يحترم تقليداً ثم يزعم أن الإسلام هو رأيه ؟ مع أنهم في الحقيقة يعلمون ويكرهون من يعلم ولا يعملون ويكرهون من يعمل ، بل ويشكلون سداً أمام تيار الإسلام  يعكرون صفوه ويمنعون ورده ويصدّون الأمم عنه   إنهم من أبناء المسلمين ولكنهم في الحقيقة أخطر على دين الله من الأعداء الحاقدين .

وليعلم كل ذي علم بأن الحفاظ على ديننا وأمتنا   يحتاج إلى العقل المؤمن أو الإيمان العاقل ولا يصلح له أنصاف المتعلمين ، الذين يحسنون الهياج ولا يستطيعون الإنتاج .

وإن القضايا التي يثيرونها ويشددون على التمسك بها لا تتصل بعقائد الإسلام ولا بعباداته وإن أعداء الإسلام لهم مكرٌ سيء في استغلال أقوال هؤلاء من أدعياء الفقه الذين لا شغل لهم إلا الاهتمام بأمور جانبية ، لا وزن لها ولا خير فيها إذا ما قورنت بمصاب الأمة وما وصلت اليه. كقول القائل أن صوت المرأة عورة ناسياً أن النساء كانت على عهد رسول الله (ص) كانت تروي الأحاديث وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، ولمن يزعمون أن صوت المرأة عورة نقول بأن العورة قد تكون في اصوات النساء والرجال عندما يكون الكلام مريباً مثيراً له رنين رديء   مع العلم بأنه لا يوجد بين رجال الفقه من قال : صوت المرأة عورة ، وإن ذلك اشاعة كاذبة .

ومما يؤسف له أن بعض الناس يتحدث عن الإسلام وهو قاصر النظر ويتطاول على أهل العلم  والفضل ، وإن مصيبة الإسلام في هذا العصر من أولئك الأدعياء مما يدعوا لمعرفة طبيعة شريعتنا   حتى يكون وعينا بأحكامها فيه صوناً لحياتنا الخاصة والعامة ، وليعلم هؤلاء أن التحليل والتحريم ليسا إلى أهواء الناس وفتاواهم قال تعالى : ]ولا تقولوا لما نصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب [ .

فالتتضافر الجهود إلى إنهاض الأمة التي تعاني من الهزائم العلمية والخلقية والصناعية والتجارية حتى تصحوا من الخدر الذي جمد الأفكار وألقى بالأمة وراء قوافل الأمم السائرة .

ولنبتعد بالأمة عن المجادلات الفارغة والاهتمام بالفروع التافهة ، والاقتصار على تلاوة آيات البر وأحاديث الرحمة ، فذلك لا يغني ولا يسمن من جوع على مستوى الأمة ، لأنه لا بد من جهاد جماعي مكثَّف متصل ، حتى نتمكن من  إغاثة الملهوفين وتأمين حياتهم وحماية عقائدهم وإننا نشكوا إلى الله المتدينين الذين قست قلوبهم على عباد الله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .

                

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

التفرُّق المذموم

 قال تعالى : ] قل هذه سبيلي أدعوا الى الله على بصيرة أنا ومن اتبعنى [  يوسف 108 .

إن الدعوة لا تقوم على من يعتنقونها لأنها غالية أو يقودوا بها الأتباع أو يحققوا بها الأطماع أو يتاجروا بها في أسواق الدعوات لتشترى منهم وتباع ، ولكنَّ الدعوة تقوم بالقلوب التي تتجه الى الله تبتغي وجهه وترجو رضاه ، لذا أمر الإسلام بتطهير الصفوف من دعاة الفتنة حتى يكون المسلمون ذا عقيدة واحدة لا عقائد شتى  

فقال تعالى في حق مثبطي العزائم ومؤججي الجدل ومروجي الظنون والاتهامات التي تلهي الأمة عن الجهاد في سبيل الله : ] لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ، ولأَوْضَعوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الفتنة وفيكم سمّاعون لهم [ 47 التوبة . 

إن الظنون والاتهامات التي يوجهها بعض القاصرين ممن لا سهم له في معرفة الإسلام ، لا لشيء إلا لأنه يشك أنَّ فلاناً من الناس محسوبٌ على الجهة الفلانية . وهي اتهامات لا يساندها دليل ولا يؤيدها واقع ، لأنها تصدر من أناس لا يعرفون حقيقة النبوة ولا يفقهون معنى الرسالة المحمدية ، إنها آفة المتعصبين الذين يعملون لمرضاة جهاتٍ يعيشون في دائرتهم ويندفعون مع تيارهم .

وليس غريباً من أناس هذا حالهم لا يعرفون إخلاصاً لله أو تضحيةً في سبيله أو تقديراً للحق أو احتراماً لرجاله أن يسارعوا إلى التشهير وكأن وظيفة المسلم أن يتتبع العثرات ويتعافى عن الحسنات ناسين أن إصدار الأحكام جزافا من أفواه البعض يكون مرُّ المذاق ، لأنهم يضيفون إليه من نفوسهم المعتلة ما تعافه الطباع السليمة .

 وإذا كان  بعض المنسوبين إلى الدين رديء النظر عليل الفطرة ، فما ذنب الدين إذ تُحَمَّلُ لهولاء أو يتحمله الجّهال وأنصاف العلماء الذين يقومون على مجرد التعصب الممزوج بالجهل ، ثم لماذا لا يفهم هؤلاء أن التدين ليس تعصُّباً ولا تحزُّباً وإنما هو دعوة حق .

ولماذا نجد بين صفوفنا من لا يأخذ من الدين إلا ما يناسبه ويلائمه  ويهمل ما عدا ذلك .

 إن القضية ليست قضية مَنْ يتبع مَنْ ، ومَنْ محسوب على مَنْ ، إنها قبل كل شيء قضية الأمة التي تعاني ، وليس أن فلاناً في موقفه يتبع مَنْ وفي رأيه يمثل مَنْ ، وعليه يُسْمَعُ له أو يُعْرَضُ عنه علماً بأن حوافز الحقد والضغينة وتوجيه الإتهامات والظنون تتنافى مع سماحة الإسلام وكرامة الإنسان ، لذلك يجب أن يكون هدف الداعين إلى الإسلام والعاملين لله ، الأتحاد والألفة واجتماع القلوب والتئام الصفوف والبعد عن الاختلاف والفرقة ، وكل ما يميِّزُ الجماعة أو ينفرِّ من الكلمة من العداوة الظاهرة أو البغضاء الباطنة وكل يؤدي إلى فساد ذات البين ، مما يوهن دين الأمة ودنياها جميعاً قال تعالى : ]ولا تكونوا كالذين تفرقوا وأختلفوا من بعد ما جاءهم البيانات وأولئك لهم عذاب عظيم [ .

وفي الحديث الذي رواه الترمذي أن رسول الله r قال (عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الأثنين أبعد من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة) .

إنه لا خلاص لنا مما نحن فيه إلا بالتحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله  r  وأن نستصحب سيرة الخلفاء الراشدين والفقهاء الأئمة لأن الحق قلّما يفوتُ هؤلاء الكبار في مجالس السياسة والثقافة .

ثم إن الفقه الإسلامي لم ينشأ من فراغ ، فله أصولاً محترمه مَنْ جهلها وجب الحذر منه بل هو في نظري ليس أهلاً للعمل في ميادين الدعوة .

وإني لأعجب من الجدل في مسألة فقهية   واحتدام الجدل حولها مما يفرق الكلمة ويشق الصفوف ، في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى جمع الكلمة في مواجهة التحديات الخطيرة من أعداء الإسلام ، وبدلاً من الخوض في هذه النقاشات التي تفرق ولا حاجة لنا بها ، لأن لكل من الفقهاء وجهته وأدلته التي يستند إليها    والكل يغترف من بحر الشريعة ما وسعه .

من أجل ذلك أكد العلماء فيما أكدوه أن وجوب العلم باختلاف الفقهاء كوجوب العلم بما أجمعوا عليه ، وإن اختلافهم رحمة واتفاقهم حجة وفي هذا قالوا : من لم يعرف اختلاف العلماء فليس بعالم ومن لم يعرف اختلاف الفقهاء لم يشم رائحة الجنة ، وحتى هؤلاء الذين لا يعرفون إلا رأياَ واحداً ووجهة واحدة أخذوا من شيخ واحد أو انحصروا في مدرسة واحدة ، ولم يتيحوا لأنفسهم أن يسمعوا رأياً آخر أو يناقشوا وجهة نظر مخالفة ، والعجيب في أمرهم أنهم يحاربون التقليد وينهون عنه وهم في الواقع مقلدون . رفضوا تقليد الأئمة القدامى وقلدوا المعاصرين  فهم ينكرون المذاهب وما دروا أنهم جعلوا من آرائهم مذهباً خامساً يتعصبون له وينكرون على من خالفه .

وإذا كان التعصب للمذاهب كما تجلى ذلك في عصور التقليد والعصبية المذهبية مذموماً فمثله في الذم وأشد من يتعصب ضد المذاهب والأئمة بصورة مطلقة ، ويوجه إليها سهام نقده وطعنه بدعوى إنها مخالفة للسنة .

وكيف يقبل هؤلاء أن يُعْرِضوا عن الهموم الضخمة التي تعاني منها الأمة ، وترى الواحد منهم يقوم ويقعد ويبرق ويرعد من أجل جزيئات لا تدخل في دائرة الضروريات ولا الحاجيات  وإنما كلها في نطاق التحسينات والكماليات   وفي سبيل هذه الفرعيات لا يبالي إن يُمَزِّقَ الشمل ويوقظ الفتن النائمة ويُحركَ العصبيات الساكنة . والتركيزُ على الأمور الخلافية والشدةُ على المخالفين فيما يجوز التساهل فيه على خلاف ما كان عليه سلف الأمة .

إن أي مراقب لأوضاع الأمة الإسلامية اليوم  يوقن تمام اليقين أن مشكلتها ليست في ترجيح أحد الرأيين أو الآراء في القضايا المختلف فيها بناء على اجتهاد أو تقليد ، لأن الخطأ في هذه القضايا يدور بين الأجر والأجرين لمن تحرى وأجتهد كما هو معروف ، وليست فيمن يجهر بالبسملة أو يخفضها ، ولكن المشكلة فيمن لا ينحني يوماً لله راكعاً ، ومشكلة المسلمين ليست في مصافحة المرأة وعدم تغطية الوجه بالنقاب واليدين بالقفازين بل في تعرية الرؤوس والنحور والظهور ولبس القصير الفاضح الذي يندي له الجبين ومشكلة المشاكل هي في وهن العقيدة وتعطيل الشريعة واتباع الشهوات وشيوع الفاحشة وانتشار الرشوة والربا وخراب الذمم وسوء الإدارة وترك الفرائض الأصلية وارتكاب المحرمات القطعية وموالاة أعداء الله .

إن مشكلة المسلمين تتمثل في إلغاء العقل وتجميد الفكر وتخدير الإرادة وإماتة الحقوق ونسيان الواجبات وإضاعة أركان الإسلام ودعائم الإيمان وقواعد الإحسان .

 إن من الخيانة لأمتنا أن نغرقها في بحر من الجدل حول مسائل في فروع الفقه أو على هامش العقيدة اختلف فيها السابقون و تنازع فيها اللاحقون ، ولا أمل في أن يتفق عليها المعاصرون في حين ننسى مشكلات الأمة ومآسيها ومصائبها سأل رجل من أهل العراق ابن عمر عن دم البعوض في حالة الإحرام فقال : عجباً يسألون عن دم البعوض وقد سفكوا دم ابن بنت رسول الله .

إنه من الخيانة لدين الله أن يتقاذف الناس بكلمات أشدّ من الحجارة وأنكى من السهام من اجل مسائل تحتمل أكثر من وجه وتقبل أكثر من تفسير ، وإن من واجب الدعاة والمفكرين أن يشغلوا المسلمين بهموم أمتهم الكبرى ، ويلفتوا أنظارهم وعقولهم وقلوبهم إلى ضرورة التركيز عليها والتنبيه لها. أنا لا أنكر أن الدين أطال الحديث عن الدارة الآخرة ، وبث في النفوس الأشواق إلى نعيم الجنة كما بث فيها المخاوف من عذاب النار ، لكن هذا الإسهاب في الوعد والوعيد هو لتهذيب الغرائز وكبح جماحها ومنع طغيان العاجلة على الآجلة .

أما القصور في فهم الدنيا والعجز عن امتلاك زمام الحياة ، فهذا كله لا يدل على تقوى بل يدل على طفولة فكرية يُضْارُّ بها الدين وتتقهقر بها تعاليمه  والدين ليس شقشقة لسان ، إنه قبل كل شيء قلب سليم وفكر مستقيم ينشأ عنه مجتمع كريم  وليس في تبادل الاتهامات تصديقاً لقول القائل :

إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحاً    عني وما سمعوا من صالح دفنوا

جهلاً علينا وجبناً عن عدوٍ همو    لبئست الخلتان الجهل والجبن

إن تبادل الاتهامات لا يجرُّ على الأمة إلاّ الويلات   حتى طمع بنا الأعداء وأصبحنا غنائم باردة لمن هبَّ ودب ، اسمعوا إلى أخبار المذابح والمطاردة التي تتم ضد المسلمين هنا وهتاك ، والتي تعتبر جزأً من معركة الكفر مع الإسلام في الوقت الذي تركنا فيه الإسلام وراء ظهورنا ، وهجرنا القرآن والسنة الأمر الذي يوجب علينا أن نُغَيِّرَ من سلوكنا ونحسن الأدب مع الله ومع أنفسنا ، لأن جمع الشمل أولى والتلاقي على أركان الإسلام أهم من التخاصم على سفاسف الأمور .

وقد نعى القرآن الأمة التي يصبح هذا حالها قال تعالى : ]  ولا يكونوا كالذين أُوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثيرٌ منهم فاسقون  [ الحديد 16 . 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

كظم الغيظ

قال تعالى : ) وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ( آل عمران   134 .أخي المسلم إنّ جرعة غيظ تتجرعها في سبيل الله لها ما لها عند الله من الأجر والرفعة .

فعَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: )مَنْ كَظَمَ غَيْظًا - وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ - دَعَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رُؤوسِ الْخَلاَئِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ اللَّهُ مِنَ الْحُورِ مَا شَاءَ ( . كلنا نواجه هذا اللون من الاستفزاز الذي هو اختبار لقدرة الإنسان على الانضباط ، وعدم مجاراة الآخر في ميدانه   وهناك ثلاث منازل للسابقين في هذا الميدان : المنـزلة الأولي: من أسيء إليه فليكظم  وهذه درجة المقصرين من أمثالنا من المسلمين أن يكظم غيظه ولا يتشفى لنفسه في المجالس  

المنـزلة الثانية:) وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ( يذهب إلي من أساء إليه ويقول له عفا الله عنك . المنـزلة الثالثة : ) وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين ( يذهب بهدية أو بزيارة إلي من أساء إليه ويصافحه ويقبله . وكظم الغيظ وضبط النفس ينتج عنه الرحمة بالمخطئ والشفقة عليه   واللين معه والرفق به . قال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ) فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْر ( آل عمران 159 .

وفي هذه الآية فائدة عظيمة وهي: أن الناس يجتمعون على الرفق واللين ولا يجتمعون على الشدة والعنف ؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: ) وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ( آل عمران 159 . وهؤلاء هم أصحاب رسول الله  صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار   والسابقين الأولين  فكيف بمن بعدهم؟! وكيف بمن ليس له مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من الناس ؛ سواء كان من العلماء أو الدعاة أو ممن لهم رياسة أو وجاهة؟!فلا يمكن أن يجتمع الناس إلا على أساس الرحمة والرفق . َقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه لِرَجُلٍ شَتَمَه: "يَا هَذَا لَا تُغْرِقَنَّ فِي سَبِّنَا وَدَعْ لِلصُّلْحِ مَوْضِعًا فَإِنَّا لَا نُكَافِئُ مَنْ عَصَى اللَّهَ فِينَا بِأَكْثَرَ مِنْ أَنْ نُطِيعَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ". وَشَتَمَ رَجُلٌ الشَّعْبِيَّ فَقَالَ له : "إنْ كُنْتُ كمَا قُلْتَ فَغَفَرَ اللَّهُ لِي وَإِنْ لَمْ أَكُنْ كَمَا قُلْتَ فَغَفَرَ اللَّهُ لَكَ". وشتم رجل معاوية شتيمة في نفسه؛ فدعا له وأمر له بجائزة.  فلا بد من تربية النفس على الرضا والصبر واللين والمسامحة ؛ وعليك أن تنظر أخي المسلم في نفسك وتضع الأمور مواضعها قبل أن تؤاخذ الآخرين ، عن عمار رضي الله عنه قال:" ثَلاَثٌ مَنْ جَمَعَهُنَّ فَقَدْ جَمَعَ الإِيمَانَ: الإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِكَ، وَبَذْلُ السَّلاَمِ لِلْعَالَمِ  وَالإِنْفَاقُ مِنَ الإِقْتَارِ" ولبذل السلام معان ففيها معنى السلام: أن تسلم من لساني ومن قلبي ومن يدي ، فلا أعتدي عليك بقول ولا  فعل   وفيها الدعاء بالسلامة ، وفيها الدعاء بالرحمة   وفيها الدعاء بالبركة ، هذه المعاني الراقية التي نقولها بألسنتنا علينا أن نحولها إلى منهج في حياتنا، وعلاقتنا مع الآخرين .

 جاء خادم هارون الرشيد بماء حار ليسكب عليه ، فسقط الإبريق بالماء الحار علي رأسه   فغضب الخليفة ، والتفت إلي الخادم ، فقال الخادم - وكان ذكياً - والكاظمين الغيظ! قال الخليفة : كظمت غيظي..

قال : والعافين عن الناس! قال: عفوت عنك..

 قال : والله يحب المحسنين   قال : اذهب فقد أعتقتك لوجه الله!!  انظروا إلي الصفاء والنقاء ، وانظروا إلي الروعة! لقد وصل ذلك الجيل المبارك في بذل الأعراض والأموال في سبيل الله ، إلي أن يقوم أحدهم وهو أبو ضمضم يصلي في الليل ثم يتوجه إلي الله تعالي بالدعاء قائلاً : "اللهم إنه ليس لي مال أتصدق به في سبيلك ، ولا جسم أجاهد به في ذاتك ، ولكني أتصدق بعرضي على المسلمين.. اللهم من شتمني ، أو سبني ، أو ظلمني ، أو اغتابني ، فاجعلها له كفارة " ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم حث على الصدقة ذات يوم ، فقام علّية ابن زيد فقال : " يا رسول الله! حثثت على الصدقة وما عندي إلا عرضي ،  فقد تصدقت به على من ظلمني  قال : فأعرض عنه رسول صلى الله عليه وسلم . ولما كان في اليوم الثاني قال صلى الله عليه وسلم : ( أين علية ابن زيد ، أو أين المتصدق بعرضه ، فإن الله تعالى قد قبل ذلك منه)  . ذكر الغزالي في الإحياء أن الحسن البصري جاءه رجل فقال: "يا أبا سعيد ، اغتابك فلان! قال: تعال ! فلما أتى إليه أعطاه طبقاً من رطب ، وقال له اذهب إليه وقل له : أعطيتنا حسناتك وأعطيناك رطباًً ! فذهب بالرطب إليه ". ما المقصود من هذا ؟ المقصود أن الدنيا أمرها سهل وهين وأن بعض الناس يتصدق بحسناته ، فلا عليك مهما نالك حاسد ، أو ناقم أو مخالف أو منحرف! أن تعتبر ذلك في ميزان حسناتك   واعلم أن ذلك رفعة لك . يروى أن موسى عليه السلام قال : " يا رب   أريد منك أمراً ! قال: ما هو يا موسى ؟ ـ والله أعلم به ـ قال: أسالك أن تكف ألسنة الناس عني! قال الله عز وجل : يا موسى ؟ وعزتي وجلالي ، ما اتخذت ذلك لنفسي ، إني اخلقهم وأرزقهم وإنهم يسبونني ويشتمونني" . وروى الإمام احمد في كتاب الزهد أن الله تعالى يقول : ( عجباً لك يا ابن آدم ، خلقتك وتعبد غيري! ورزقتك وتشكر سواي! أتحبب إليك بالنعم  وأنا غني عنك وتتبغض إلي بالمعاصي ، وأنت فقير إلي! خيري إليك نازل ، وشرك إلي صاعد ) فما دام أن الواحد الأحد سبحانه وتعالى  يسبه ويشتمه بعض الأشرار من خلقه  فكيف بنا نحن ونحن أهل التقصير؟!

إن في حياة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خير دليل على المُثُل العليا التي حملوها فقد كانوا يختلفوا كما يختلف البشر ، ويتراضوا إذا تنافروا في يومٍ من الأيام ، وعادوا إلى حياة الصفاء والمحبة ، لأن المبدأ الذي يحملونه مبدأٌ واحد  لا مبادئ متعددة ، فمبدؤهم : لا إله إلا الله محمد رسول الله . وما حصل بينهم دليل على أنهم لم يخرجوا عن بشريتهم ، ولم يكونوا ملائكة ولم يخرجوا من عموم قوله صلى الله عليه وسلم:( كل بني آدم خطاء) . ولم يكونوا صفحات بيضاء لا أثر فيها ،كلا ما كانوا كذلك! كانوا بشراً تعتمل في نفوسهم دوافع الشر  ويتحركون في الأرض بدوافع البشر ، ولكنها دوافع البشر في اصفي حالاتها وأعلاها . جاء في سيرة أبي بكر أن رجلاً قال لأبي بكر: "والله يا أبا بكر لأسبنك سباً يدخل معك في قبرك ، فقال أبو بكر: بل يدخل معك قبرك أنت لا معي" ، صدق أبو بكر فإن المسبوب لا يدخل معه السب ، ولكن يدخل السب مع الساب الذي سلط لسانه علي عباد الله . أفيظن هذا الجاهل أنه إذا سب أو شتم أو نال من أبي بكر أن شتمه هذا سوف يدخل مع أبي يكر القبر؟ فهذا جهل وأي جهل ثم انظر وتأمل جواب أبي بكر عليه " بل يدخل معك قبرك ولا يدخل معي" فقط كان هذا جوابه  ولم يقل له : بل سأسبك سباً يدخلك قبرك ! وسأفعل بك كذا وكذا وسأريك كذا ، لا بل " يدخل معك قبرك"! وقول أبي بكر وتصرفه هو الصحيح ، فإن الكلمة الآثمة والكلمة الجارحة ، تكون وبالاً وحسرة وندامة ، علي من تجرأ وجرح ونال بها من أخيه .  قال رجل لعمرو بن العاص:" والله لأ تفرغن لك! قال عمرو: إذن تقع في الشغل"!

وهذا هو الحق ، فإن الذي يتفرغ لينال من الناس، ويشتم الناس ، ويكيد للناس ، هذا لا يكون فارغاً أبدا ً! وإنما يشغله الله بالناس ! وهذا يضيع عمره في الترهات والتفاهات وما لا ينفع ! وقول عمرو بن العاص هو الصواب   وهو الحكمة ) وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ( البقرة 269 . ويروي أهل الحديث أن عامر الشعبي وهو من علماء التابعين المشهورين قام أمامه رجل وقال له كذبت يا عامر! فقال عامر: " إن كنت صادقاً فغفر الله لي ، وإن كنت كاذباً فغفر الله لك ، فماذا قال الرجل بعدها يا تري؟ سكت "  لأن من استطاع أن ينهي الخصام ، وأن يجعل للصلح موضعاً ، وألا يستعدي الناس خاصة أهل الفضل ، وأهل المنـزلة وأهل الصدارة والمكانة ، كان محسناً على نفسه وعلى الإسلام وعلى المسلمين .

 وفي سيرة سالم بن عبد الله بن عمر أن رجلاً زاحمه في مني ، فالتفت الرجل إلي سالم  وهو علاّمة التابعين ، فقال له : "إني لظنك رجل سوء . فقال سالم : ما عرفني إلا أنت! لأن سالماً يشعر في نفسه انه رجل سوء " .

وهذا صواب لأن المؤمن يرمي نفسه بالتقصير كلما رآها تعالت أو تطاولت أو نسيت   كما أنه يلوم نفسه ويحاسبها ، لكن الفاجر والمنافق يزكي نفسه أمام الناس! وكان سعيد بن المسيب يقوم وسط الليل ويقول لنفسه :" قومي يا مأوي كل شر"!  سعيد بن المسيب يقول لنفسه هذا الكلام!! ونحن ماذا نقول لأنفسنا؟ اللهم استرنا بسترك 

وفي قصة ثابتة بأسانيد صحيحة ، قام رجل في الحرم أمام ابن عباس فسبه أمام الناس  وابن عباس يحني-رأسه!! أعرابي يسب علامة الدنيا ولا يرد عليه.. وواصل الأعرابي الشتم فرفع ابن عباس رأسه وقال: " أتسبني وفيّ ثلاث خصال؟! قال: ما هي يا ابن عباس؟ قال: والله ما نزل المطر بأرض إلا سررت وحمدت الله علي ذلك ، وليس لي بها ناقة ولا شاة!!قال: والثانية؟ قال: ولا سمعت بقاض عادل إلا دعوت الله له بظهر الغيب وليس لي عنده قضية!! قال: والثالثة؟ قال: ولا فهمت آية من كتاب الله إلا تمنيت أن المسلمين يفهمون كما أفهم منها هذه" لابد أن تعوِّد نفسك على أن تسمع الشتيمة ، وتقابلها بابتسامة عريضة وأن تدرِّب نفسك تدريبًا عمليًّا على كيفية كظم الغيظ ، ولقد أحسن القائل :

وَإِنَّ الـذِي بَيْنِي وَبَيْنَ بَنِي أَبِـي   وَبَيَن بَنِي عَمِّي لَمُخْتَلِـفٌ جِـدَا

فَإِنْ أَكَلُوا لحَمْي وَفَرْتُ لُحُومَهُم   وَإِنْ هَدَمُوا مَجْدِي بَنَيْتُ لَهُمْ مَجْدَا

وَلَا أَحْمِلُ الْحِقْدَ الْقَدِيم عَلَيهِم   ولَيْسَ رَئِيسُ الْقَوْمِ مَنْ يَحْمِلُ الْحِقْدَا

 إنها المثل العليا التي حملها أصحابه عليه الصلاة والسلام ، وهو الذي رباهم أصلاً علي أسس العقيدة وأخلاق الإيمان ، لكنه بناهم شيئاً فشيئاً ، واعتنى بهم حتى أصبحوا قادة الأمم والقدوة الحسنة لها ! . قالوا في المثل: " من لك بأخيك كله" تريد أخاً مهذباً كله ؟ لا ، هذا لا يكون.. خذ بعضه خذ نصفه ، خذ ثلثه  خذ ثلثيه ، كله ، فهل تجد في المجتمع المسلم شخصاً مهما بلغ من الرقي وحسن الخلق أن يكون كاملاً كله ، لا حيف فيه ولا نقص؟! كلا  هذا لا يكون . ) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ (    تجد هذا كريماً لكنه غضوب! وتجد ذاك حليماً لكنه بخيل وتجد آخر طيباً لكنه عجول لأن الله وزع المناقب والمثالب على الناس.

من ذا الذي ترضي سجاياه كلها    كفي المـرء نبلاً أن تعد معايبه

فإذا عددت معايب الإنسان فاعلم أنه صالح   ولكن بعض الناس لا تستطيع أن تعد معايبه أبداً مهما حاولت!! وبعضهم لخيره وصلاحه   تقول : ليس فيه إلا كذا ، وهذا هو الخير  ومن غلبت محاسنه مساوئه فهو العدل في الإسلام . ومن غلبت مساوئه محاسنه ، فهو المنحرف عن منهج الله ، وإن الله يزن الناس يوم القيامة بميزان آية الأحقاق يقول تعالي:  ) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (الاحقاف 16 .

بين الله في الآية أن لهم مساوئ ، وأنه يتجاوز عنهم وأن لهم خطايا ، وأن لهم ذنوباً ولكنهم كما يقول الحديث: ( إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث) فبعض الناس ماؤه قليل.. أي شيء يؤثر فيه ، قطرة تؤثر فيه! ولكن بعضهم لمحاسنه ومناقبه بلغ قلتين فمهما وضعت فيه لا يتغير أبداً لكرمه ، وبذله ، وعطائه  وعلمه وسخائه ، وفضله ، ودعوته وخيره  وصلاحه   وصدق نيته إلي غير ذلك من الصفات . وهذا تأتيه أحياناً نزغات من نزغات الشيطان   لكنها لا تؤثر فيه . ولذلك يقول ابن تيميه نقلاً عن ابن القيم في مدارج السالكين : " أما موسى عليه السلام فإنه أتى بالألواح فيها كلام الله فألقاها في الأرض ، وأخذ برأس أخيه يجره إليه ". يقول ابن تيمية : " أخوة كان نبياً مثله ، ومع ذلك جره بلحيته أمام الناس  ولكن الله عفا عنه " . قال ابن القيم :

وإذا الحبيب أتي بذنب واحد   جاءت محاسنه بألف شفيع

وفي حديث رواه البهقي بسند حسن قال :

( أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم ) . قال ابن القيم :" إلا الحدود ، فإن الناس متساوون في الحدود ، لكن في المسائل التي ليس فيها حدود ، فعلينا أن نقيل صاحب العثرة - من أهل الهيئات- عثرته " وأهل الهيئات هم الذين لهم قدم صدق في الإسلام وفي الدعوة   وفي الخير وفي الكرم ، وفي التوجيه وفي التأثير، وهم وجهاء الناس وأهل الفضل  فهؤلاء إذا بدرت منهم بادرة فعلينا أن نتحملها جميعاً وعلينا أن ننظر إلي سجل حسناتهم ، وإلي دواوين كرمهم  ومنازلهم عند الله وعند خلقه . يقول بشار بن برد:

إذا كنت في كل الأمور معاتباً   صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه

ويقول في بيت آخر:

إذا أنت لم تشرب مراراً علي القذى   ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه

فصاحب أخاك ، وتحمل منه الزلة ، واغفر له العثرة ، وتجاوز عن خطئه .  كان ابن المبارك إذا ذُكر له أصحابه قال :" مثل فلان فيه كذا وكذا من المحاسن ويسكت عن المساوئ ". وليتنا نتذكر حسنات الناس ، فما أعلم أحداً من المسلمين مهما قصر إلا وله حسناته ، ولو لم يكن من حسناته إلا انه يحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم لكفي . أُوتي برجل يشرب الخمر إلي رسول صلى الله عليه وسلم فأمر به فجلد ، وكان قد أُتي به كثيرا ً. فقال رجل من القوم : اللهم العنه ما أكثر ما يؤتي به . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تلعنوه فوالله ما علمت أن يحب الله ورسوله)   وفي لفظ : قال رجل: ما له أخزاه الله . فقال رسول  صلى الله عليه وسلم (لا تكونوا عوناً للشيطان علي أخيكم) . فاثبت له النبي صلى الله عليه وسلم  أصل الحب   وهي حسنة واثبت له بقاءه في دائرة الأخوة الإسلامية ، وهذه من أعظم الحسنات  فلماذا لا نتذكر للناس محاسنهم ؟! فإنك لا تجد شريراً خالصاً إلا رجلاً كفر بالله ، أو تعدى علي حدوده  أو أعلن الفجور، أو خلع ثوب الحياء ، ونبذ الإسلام وراءه ظهرياً .

 كان لمعاوية مزرعة في المدينة ، وله عمال  وكان لابن الزبير مزرعة بجانبها ، ومعاوية آنذاك خليفة المسلمين ، وابن الزبير راع من رعيته ، وكان بينهما حزازات قديمة ، فأتى عمال معاوية ودخلوا في مزرعة ابن الزبير  فكتب ابن الزبير لمعاوية كتاباً وكان رضي الله عنه غضوباً، فقال له : بسم الله الرحمن الرحيم ، من عبد الله بن الزبير ابن حواري الرسول صلى الله عليه وسلم ، وابن ذات النطاقين ، إلي معاوية بن هند بن آكلة الأكباد ! أما بعد : فقد دخل عمالك مزرعتي ، فو الذي لا إله إلا هو إن لم تمنعهم ليكون ، لي معك شأن!! فقرأ معاوية الرسالة - وكان حليماً - فاستدعى ابنه يزيد ، وكان يزيد متهوراً  فعرض عليه معاوية الرسالة ، وقال : ماذا تري أن نجيبه؟ قال : أرى أن ترسل له جيشاً أوله في المدينة وآخره عندك في دمشق يأتونك برأسه!! فقال معاوية : لا ، فهناك ما هو خيرٌ من ذلك وأقرب رحماً ، فكتب معاوية : بسم الله الرحمن الرحيم ، من معاوية بن أبي سفيان ، إلي عبد الله بن الزبير بن حواري الرسول ، وابن ذات النطاقين  السلام عليكم ورحمة الله وبركاته   وبعد : فلو كانت الدنيا بيني وبينك ، ثم سألتها لسلمتها لك ، فإذا أتاك كتابي هذا  فضم مزرعتي إلي مزرعتك ، وعمالي إلي عمالك فهي لك  والسلام "!! وصلت الرسالة إلي ابن الزبير فقرأها وبلها بدموعه وذهب إلي معاوية في دمشق وقبل رأسه وقال له : لا أعدمك الله عقلاً فأنزلك هذا المنـزل من قريش " . إن ما يجري بين الأحبة من خلاف لا يفسد للود قضية ، ولا يغير ما في النفوس   وأرجو الله أن لا يكون بيننا وبين أحد من الناس كره لأسباب دنيوية ، لأن الواجب أن يسعى العبد لمصلحة هذا الدين ، ولمصلحة الأمة والبلاد والعباد ، وأن يسعى لجمع الصف ونبذ الفرقة ، ودرء الفتن عن الأمة حتى تكون الأمة تحت مظلة : ) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( الأنفال 63. فقطع السباب وإنهاؤه مع من يصدر منهم ، لا شك أنه من الحزم . حُكِيَ أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِضِرَارِ بْنِ الْقَعْقَاعِ : وَاَللَّهِ لَوْ قُلْت وَاحِدَةً؛ لَسَمِعْت عَشْرًا !فَقَالَ لَهُ ضِرَارٌ: وَاَللَّهِ لَوْ قُلْت عَشْرًا؛ لَمْ تَسْمَعْ وَاحِدَةً !

قُلْ مَا بَدَا لَك مِنْ زُورٍ وَمِنْ كَذِبِ   حِلْمِي أَصَمُّ وَأُذْنِي غَيْرُ صَمَّاءِ

وبالخبرة وبالمشاهدة فإن الجهد الذي تبذله في الرد على من يسبك ، لن يعطي نتيجة مثل النتيجة التي يعطيها الصمت، فبالصمت حفظت لسانك ووقتك وقلبك ؛ ولهذا قال الله سبحانه وتعالى لمريم : ) فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (مريم26 .

والكلام والأخذ والعطاء، والرد والمجادلة تنعكس أحيانًا على قلبك، وتضر أكثر مما تنفع  ، والصبر والسماحة والتدرب عليهما من الإيمان ، وقد قال بعض الحكماء: "احْتِمَالُ السَّفِيهِ خَيْرٌ مِنْ التَّحَلِّي بِصُورَتِهِ وَالْإِغْضَاءُ عَنْ الْجَاهِلِ خَيْرٌ مِنْ مُشَاكَلَتِه". وقال بعض الأدباء: "مَا أَفْحَشَ حَلِيمٌ وَلَا أَوْحَشَ كَرِيمٌ".

ولقد صدق القائل :

سَأُلْزِمُ نَفْسِي الصَّفْحَ عَنْ كُلِّ مُذْنِبٍ   وَإِنْ كَثُرَتْ مِنْهُ إلَيَّ الْجَرَائِمُ

فاغسل يا أخي قلبك يوميًّا وتعاهده ؛ لئلا تتراكم فيه الأحقاد والكراهية والبغضاء والذكريات المريرة ، اغسله لأنه محل نظر ا لله -سبحانه وتعالى- فقلبك الذي ينظر إليه الرب سبحانه وتعالى من فوق سبع سموات احرص ألا يرى فيه إلا المعاني الشريفة والنوايا الطيبة . !عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ) أخرجه مسلم.

 

 

 

 

 

زاد الصالحين

زاد الصالحين تقوى الله ، فأين تقوى الله في القلوب ؟  تأملت في هذه الكلمات "أين تقوى الله في قلوبنا؟" ووقفت معها وفكرت وسألت نفسي كثيراً : هل نحن نعظم الله حق التعظيم ؟ وكيف تكون عظمته  في قلوبنا ؟ لقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو يصف الصالحين "عَظُمَ الخالقُ في قلوبهم ، فصغُر ما دونه في أعينهم " أنظروا إلى هذا التعظيم الذي جعلهم ينشغلون بعظمته وحده عن عظمة من سواه كائنا من كان ، فصاروا لا يخافون إلا منه ، ولا يسكنون ولا يطمئنون ولا يلجئون إلا إليه  ولا يرون رقابة أحد سواه حتى تعلقت به قلوبهم   واستحوذ جلاله على نفوسهم ، فصار هو سبحانه وتعالى حسبهم ووكيلهم  يوافيهم بالعطايا والهبات ويؤيدهم بالمعاني ويثبتهم بالكرامات وصاروا هم أهله وأحبابه وخاصة أوليائه .

 أين نحن من حب الله ؟ وكيف هي علاقتنا برسوله صلى الله عليه وسلم ؟ وهل نحن حريصون على تصحيح  مساراتنا على خطاه ؟ بمعنى هل نحب أن يكون الله كما نريد منه جل جلاله ؟ أم نحب ونجتهد أن نكون نحن كما يريد الله منا ؟  ثم نقف بعدها على عتبة العبودية؟! اسمعوا نداء ربكم لداود عليه السلام : " يا داود.. أنت تريد وأنا أريد ، إن أطعتني فيما أريد أرحتك فيما تريد ، وإن عصيتني فيما أريد أتعبتك فيما تريد ولا يكون إلا ما أريد "  وفي الخبر الإلهي أيضا : " إذا أطاعني عبدي رضيت عنه ، وإذا رضيت عنه باركته ، وليس لبركتي نهاية ، وإن عصاني عبدي غضبت عليه ، وإن غضبت عليه لعنته...".

يا إخواني إن الله لا يحب أن تزاحمه أعراض الدنيا في قلب عبده وحبيبه  فحين يزاحم حب الولد محبة الله في قلب الخليل يأمره الله بذبح ابنه ، وعندما تصدق المحبة يخلص قلب الخليل لربه العظيم ، وحينما يكون لتعظيم البيت الحرام مكان في قلب الرسول صلى الله عليه وسلم وقلوب الصحابة يأخذ الله عز وجل منهم القبلة التي استأثرت بقلوبهم ويأمرهم بالصلاة جهة بيت المقدس حتى يرى هل حبه أعظم وأقوى وأكبر من حبهم وتعظيمهم للبيت الحرام ؟ وحين تكون الإجابة نعم يرد إليهم البيت بأمره كما أخذه منهم بأمره . وفي الخبر الإلهي "من آثرني على من سواي آثرته على من سواه". أوقات القرب الإلهي أين الله في قلوبنا ؟ هل نفرح بالقرب منه ؟ هل نحرص على أن يكون معنا دائما ؟ إذن فما مدى فرحنا بالصلاة التي نقابله فيها ونناجيه ؟ وما مدى حبنا للسجود الذي نكون فيه أقرب إلى الله ؟ وما مدى دوامنا على الذكر الذي يوجب معيته لنا ؟  ففي الخبر الإلهي  ( وأنا مع عبدي متى ذكرني وتحركت بي شفتاه  ) .

 وهل لنا نصيب من وقت القرب الإلهي في ثلث الليل الأخير وربنا ينادي علينا (هل من تائب فأتوب عليه، هل من مستغفر فأغفر له، هل من سائل فأعطيه )   يا إخوتي أليس المحب يتمنى الخلوة مع حبيبه فأين قلوبنا من الخلوة بالله ؟! أوليس المحب يضحي من أجل حبيبه ؟! فأين تضحيتنا من أجل الله ومن أجل إعلاء كلمته ودينه ؟! أليس المحب يسعى في رضا حبيبه ويتحمل من أجل رضاه ما قد يشق على نفسه ؟ فهل نحن نراقب مواضع رضا مولانا وحبيبنا لنسرع إليها ؟ وهل نراقب مواضع سخطه لنفر إليه منها ؟ ونرتمي في ساحات رحمته ونشكو إليه بثنا وأحزاننا وضعفنا ، ونطرق بابه لعله يتكرم ويفتح لنا ونحن المذنبين المقصرين ؟!! . أذكر موقفاًً لشابٍ أراد أن يتلمس موضعا من مواضع رضا ربه وحبيبه في غزوة بدر ، يسأل عوف بن الحارث الرسول صلى الله عليه وسلم يا رسول الله ما يضحك الرب من عبده ؟! فيقول لـه : ( غمسه يده في العدو حاسرا ) - يعني دخول القتال بدون درع – فنـزع عوف درعا كانت عليه فألقاها ثم أخذ سيفه فقام فقاتل القوم حتى قُتل! فمن منا يسأل نفسه عما يضحك الرب ؟ أو عما يفرح الرب فيسارع إليه؟!! ومن منا يتساءل عما يغضب الرب فيفر منه ويبتعد عنه حتى لا يغضبه ؟!!  فكم مرة شاهدنا الله في نعمة أنعمها علينا فشكرناها وأدينا الذي علينا فيها ؟ هل شكرنا الله على نعمة الهداية والإسلام ؟ هل شكرنا الله على نعمة الصحة ؟ هل شكرنا الله على نعمة المال ، على نعمة الولد على نعمة الأبوين ، على نعمة الزوجة الصالحة على نعمة التوفيق... إلخ ؟ أم تأتي النعمة فننسى المنعم وننسب النعمة إلى غيره ، ونصرف كثيرا من نعمه فيما يغضبه وليس فيما يرضيه عنا  ؟ وتأملوا معي هذا العتاب الإلهي ( إني والأنس والجن لفي نبأ عظيم : أخلق ويُعبد غيري ، وأرزق ويُشكر سواي  خيري إلى العباد نازل وشرهم إلي صاعد   أتودد إليهم بالنعم وأنا الغني عنهم  ويتبغضون إلي بالمعاصي وهم أحوج شيء إليّ...)  وما أجمل كلام ابن القيم حين قال : " ليس العجب من عبد يتملق سيده ولكن العجب كل العجب من سيد يتودد إلى عبيده وهم يفرون عنه "!! يا سبحان الله على هذا الإنسان العجيب!! . أين حب الله في البلاء والقدر ، فكثيرا ما تأتي الأقدار بما لا يوافق أهواءنا ، وتكون الابتلاءات التي تستلزم منا الصبر الجميل   فهل نتساءل عند البلاء والمحنة أين الله في قلوبنا ؟ وهل نشاهد رحمة الله بنا في البلاء ؟ وهل نستشعر حب الله لنا عند الابتلاء ؟ قال صلى الله عليه وسلم : ( إذا أحب الله عبدا ابتلاه...)  وهل نعيش معاني الصبر الجميل الذي ليس فيه شكوى ؟! حقا ما أعجب كلام ابن القيم وهو يصف ناسا نظروا إلى المصائب نظرة أخرى فاستقبلوا مصائبهم كما يستقبلون النعم لأن مصدرهما واحد وهو الله ، ولنتوقف مع كلامه حين يقول : " وكل ما يصدر عن الله جميل وإذا كنا لا نرى الجمال في المصيبة فلا بد أن نتأمل قصص موسى عليه السلام مع الخضر في سورة الكهف   ونتأمل كيف كان خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار في قرية السوء شرا محضا من وجهة نظر سيدنا موسى وكيف ظهرت له مواطن الجمال في أفعال الله بعد معرفة الحقائق والحِكَم التي وراء الابتلاء!! " .

وهناك من الناس من يعترض على قدر الله وقضائه ، وقد تبدو منهم علامات السخط على القدر أو عدم الرضا بالقضاء ، فهل سألوا أنفسهم أين الله في قلوبنا ؟ ، وهناك من يترك أحكام القرآن والسنة ويحكمون أهواءً أو أشخاصاً أو قوانين غير قوانين الله! وهناك من يعرضون أنفسهم لغضب الله بالمعاصي فيحجبهم الله عن كل خير! وكل هذا لأنهم لم يقفوا يوما ليسألوا أنفسهم أين الله في قلوبنا؟! ، فقد تأخذنا الحياة وقد تلهينا الدنيا وقد تشغلنا الأنفس والأموال والأولاد ولكن لا بد أن نتوقف في كل حين لنسأل أنفسنا : أين الله في قلوبنا؟!   وإذا هممت أن تقع في المعصية فقل لنفسك : أين الله في قلبي ؟ الله أحب إلي أم المعصية ؟ هل استهنت إلى هذا الحد بنظر الله إليك ؟! كيف ستقابل الله لو مت وأنت على هذه المعصية ؟  ] قُلْ أَرَأَيْتَكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ* بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ [ هكذا يظهر عند الشدة أنك لا تثق في أحد إلا في الله ، فأين الله في قلبك عند الرخاء؟! وإذا تكاسلت عن طاعة فقل : أين الله في قلبي ؟ وهل حبي للراحة والكسل أكثر من حبي لله ؟! وتذكر قول الله لرسوله  صلى الله عليه وسلم في القرآن : ] فإذا فرغت فانصب وإلى ربك ارغب[ فبعد الفراغ من متاعب السعي على الحياة لا يرتاح ، بل يتعب ويتقرب إلى ربه ويرغب لأن راحة المؤمن في رضا الله .  وهكذا أيها الأخوة تعالوا ندرِّب أنفسنا على أن يكون الله ملء قلوبنا ولا شيء معه  ويكون لنا في كل صغيرة وكبيرة وقفة لنتساءل : أين الله في قلوبنا؟! تعالوا ندرب أنفسنا على استصغار العمل واستعظام الذنب  فالذنب إذا كبُر في عين الإنسان قلَّ في ميزان الرحمن ، وروى البخاري في أن النبي صلى الله عليه وسلم  قال : (إنَّ المؤمنَ يرى ذنوبه كأنَّه قاعدٌ تحت جبلٍ يخاف أن يقع عليه   وإنَّ الفاجر يرى ذنوبه كذباب مرَّ على أنفه  فقال به هكذا ) . وإنَّ الرضا عن العمل قد يُحبط العمل كله ، فأين هو العمل الذي يليق بجلال ربِّ العزَّة ويساوى نقطةً في بحر نعمه علينا ؟ أين هو العمل الذي يوفّيه حقَّه وقَدْرَه ؟ . إنَّ من الملائكة مَن هو ساجدٌ لله منذ خَلَقَه  فإذا أتى يوم القيامة ارتعد وقال: " سُبحَانك ما عبدناك حقَّ عبادتك " فإذا كان هذا هو حال الملائكة ، فما بالك بنا نحن البشر ؟!!. لذا فالعاقل هو الذي يعمل ويعرف أنَّه إن نجا ورضي الله عنه فبرحمة الله وعِلْمه بمن خلق . روى البخاري في أن أَبا هريرة رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله  صلى الله عليه وسلم يقول : (  لن يُدخِل أحدًا عملُه الجنة"، قالوا: ولا أنت يا رسول الله ؟ قال: لا، ولا أنا ، إلا أن يتغمَّدني الله بفضلٍ ورحمة، فسدِّدوا وقاربوا...) .

إنَّ الإيمان بالله هو مزيجٌ من الحبِّ والخوف والرجاء ، وقد نصح السلفُ الشبابَ أن يُغلِّبوا الخوفَ على الرجاء ، اتقاءً للفتن من ناحية ، ولأنَّ الشباب يرون الدنيا أمامهم غضَّةً نضرة ، فربما تصدهم بجمالها عن سواء السبيل ، أو تحيد بهم عن طريق الله عز وجل ، ولو غلَّبوا الرجاء لدخل عليهم الشيطان من باب التسويف والتأجيل ، كما نصحوا الشيوخ بتغليب الرجاء على الخوف ؛ لأنَّ الدنيا منهم في إدبار، والزمن لم يعد في صالحهم فلو كان الخوف هو الأغلب فلربما تسلل الشيطان لهم من باب اليأس   روى البخاري أن النبي   قال:  ( يأتي الشيطان أحدكم فيقول: مَن خلق كذا، مَن خلق كذا، حتى يقول: مَن خلق ربك ؟ فإذا بَلَغَه فليستعذْ بالله ولينتهِ )    

إنَّ الشيطان يعزُّ عليه أن يجد مؤمنًا مخلصًا لله يتقرَّب إليه بالفرائض تارة وبالنوافل تارة يخاف عقابه ويرجو ثوابه ، فيجعل مِن صدِّه عن سبيل الله هدفه وشغله الشاغل ، ويظل المؤمن يحاربه بالاستعاذة والذِّكر حتى ييأس عدو الله منه ، ويعرف ألا سلطان له عليه فينصرف عنه باحثًا عن غيره ، أو متحيِّنًا لحظة ضعفٍ تحين منه في وقت آخر . 

واعلم يا أخي أنَّ خير الأعمال أدومها وإن قل ، وأنَّ مِن أحب العبادات لله تعالى بعد فرائضه الذِّكْر ، يروي الترمذي بسندٍ صحيح عن عبد الله بن بسر رَضِيَ الله عنه أنَّ رجلاً قال: يا رسول الله إنَّ شرائع الإسلام قد كثرت عليّ فأخبرني بشيءٍ أتشبَّث به، قال: ( لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله ) . 

 

الاختلاف ليس معناه التدابر

الاختلاف ليس معناه التدابر ، الاختلاف أو الخلاف في الرأي ، سنة من سنن الله عز وجل في الحياة والكون  والاختلاف بين الناس في أصله رحمة ونعمة روي عن عمر بن عبد العزيز قوله : " ما كان يسرني أن يتفق الصحابة على رأي وما أحب أن أصحاب رسول الله لم يختلفوا لأنه لو كان قولاً واحداً لكان الناس في ضيق ، ولأنهم أئمة يقتدى بهم فلو أخذ أحد بقول رجل منهم كان في سعة " ، وعن يحيى بن سعيد أنه قال: "اختلاف أهل العلم توسعة ، وما برح المفتون يختلفون   فيحلل هذا ويحرم هذا ، فلا يعيب هذا على هذا ولا هذا على هذا  . وقال ابن عابـدين : " الاختــلاف بـين المجتهديـن في الفــروع ـ لا مطلق الاختلاف ـ من آثار الرحمة ؛ فإن اختلافهم توسعة للناس . ومهما كان الاختلاف أكثر كانت الرحمة أوفر" .

وهذا يعني ، أن الاختلاف في الرأي   ضرورة لا يمكن دفعها عن البشر ، وهو لا يستدعي الصراع والخصام والسباب ، ما دام أصحابه يسيرون ضمن نطاق أو حدود الاجتهاد المشروع ، ثم لماذا التخاصم والتدابر والتحذير من فلان والدفاع عن فلان والتشفي بفلان والطعن فيه ، وهو ما حذّر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم وشبه المؤمنين بالجسد الواحد. ولم يكن شيء أبغض إليه بعد الكفر باللّه من الاختلاف والتنازع ، ولو في الأمور العادية . إن الخلاف حول المسائل الجزئية  لا يضر ، إذا اتفق على الأصول الأساسية والمقاصد الكلية  فلماذا يؤدي الاختلاف في هذه الجزئيات إلى تفرّق أو عداوة ، في الوقت الذي يطلب من الأمة أن تنسى كل الخلافات الفرعية  لتقف صفاً واحداً أمام قوى الشرِّ المعادية لها ، ولماذا لا تكون الشدائد دافعاً من دوافع لم الشمل وتوحيد الصفوف ، وهو ما يحبه الله لعباده المؤمنين قال تعالى : ﴿ إن لله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص ﴾ الصف 4 .

ولماذا يكون الخلاف حائلاً دون ارتباط القلوب  وتبادل الحب والتعاون على الخير   وأن نحب لإخواننا ما نحب لأنفسنا . ولماذا لا نقتدي  بصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين كانوا  يخالف بعضهم بعضا في الإفتاء ، ولكنهم كانوا على قلب رجل واحد . وكان الأئمة وهم أعلم الناس بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اختلف بعضهم بعضا  فلم لا يسعنا ما وسعهم . إن أعداء الإسلام يتمنون أن يغرق المسلمون في بعض القضايا التي لا تؤثِّر على جوهر الدين والتي يريدون للمسلمين أن يهتموا بها أكثر من اهتمامهم بأساسيات الدين ، حتى شاعت أراء وأقوال كثيرة ، فيها من التزمت والقسوة على من خالفهم الرأي ، قرأت في كتاب يقول مؤلفه : إن كشف الوجه ذريعة للزنا وهو حرام لما ينشأ عنه من عصيان ، فإذا كان هذا حراماً فما القول إذاً بوجوب كشف الوجه في الحج ، وما ألفه الإسلام من كشفه في الصلوات كلها ، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى الوجوه سافرة في المواسم والمساجد والأسواق ، فما روى عنه قط أنه أمر بتغطيتها ، وهل الذين يتعصبون لذلك بأغير على الدين والشرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأما الحجاب الذي ورد ذكره في الإسلام ، فهو تنظيم للتردد على البيت النبوي دون سبب ، وبعد ما لوحظ أن أحد أجلاف البدو قال في صفاقة غريبة ، لو مات محمد صلى الله عليه وسلم تزوجت فلانة من نسائه ، فلم يكن بد من تشريع صارم يمنع هذه الهنات ، ويقمع أصحاب هذه التطلعات ، وليس في الإسلام زيٌ معين ، وحسب اللباس أن يستر العورة ويزيّن صاحبه ، ولكن المصيبة آتية من أناس يقعون على أحاديث في الجزئيات ، لا تمت إلى الأساسيات بصلة ، ثم يعتبرونها مقياساً لصلاح الفرد وعدمه ، وغاب عن تصورهم أنه يستحيل أن تنجح رسالة حملتها يكونون على هذا المستوى ، لأن امتلاك الحياة الدنيا عن قدرة وخبرة ، هو السبيل الأوحد لنصرة المبادئ والمذاهب . وهل من العدل أن يُطعن أو يُساء الظن فيمن خالف مسلماً في رأيٍ أو سلوك لم يرد القطع بتحريمه .

هناك من يقول بأن إعفاء اللحية فرض  هذا رأيهم وهذه قناعاتهم ، وأنا لا أطالبهم بالتخلي عن قناعاتهم هذه ، والذي لا يليق بهم فرض ذلك على الناس ، فقناعتي لا تتوافق مع هؤلاء لقناعتي بأنها سنة يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها ، وهي من المسائل الخلافية بحثها يكون علميا لترجيح احد الآراء من أهل الاختصاص من العلماء الجامعين بين الفقه والورع والاعتدال ، أعجبني ما أورده شلتوت في فتاويه حيث قال : "لو تمشينا مع القائلين بالتحريم لمجرد المشابهة بالكفار في كل ما عرف عنهم من العادات والمظاهر الزمنية لوجب علينا الآن تحريم إعفاء اللحى   لأنها من شأن الرهبان في سائر الأمم التي تخالف في الدين "وإنه من التشديد على الناس ، محاسبتهم على النوافل والسنن كأنها فرائض ، وعلى المكروهات كأنها محرمات   ومن المفروض ألا نلزم الناس إلا بما ألزمهم الله تعالى به جزما ، وما زاد على ذلك فهم مخيرون فيه ، إن شاءوا فعلوا وإن شاءوا تركوا ، وحسبنا حديث طلحة بن عبد الله في الصحيح في قصة ذلك الأعرابي   الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عما عليه من فرائض  فاخبره بالصلوات الخمس وبالزكاة وبصوم رمضان  فقال هل علي غيرها ؟ فقال لا إلا أن تطوع ، فلما أدبر الرجل قال والله لا أزيد على هذا ولا انقص فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( أفلح إن صدق أو دخل الجنة إن صدق )  أولى بنا أن نجعل أكبر همنا ينصب إلى الدعوة إلى توحيد الله وعبادته . وألا تشغلنا الأمور الجانبية عن القضايا الكبرى التي تتعلق بمصير الأمة ، فترى من يقيم الدنيا ويقعدها من اجل حلق اللحية أو إسبال الثوب أو تحريك الأصبع في التشهد أو اقتناء الصور الفوتغرافية وغير ذلك من المسائل التي طال الجدل حولها ، في الوقت الذي تزحف فيه العلمانية اللادينية وترسخ الصهيونية أقدامها وتكيد الصليبية كيدها  وتتعرض الكثير من الأقطار الإسلامية للغارات التنصيرية  وفي نفس الوقت يُذبح المسلمون في أنحاء متفرقة من العالم .

إن المعاصي والكبائر معروفة في ديننا ، والبعد عنها شيمة المؤمنين عامتهم وخاصتهم  وثبوت حرمتها قائم على القطع والتحريم ، ليس هوى فرد أو توافق مجتمع ، إنه خطاب الله سبحانه بالكف عن كذا أو كذا ، ولا بد من نص يستند إليه التحريم . وإن للرأي الفقهي مكانته ، ولمن شاء أن يأخذ به ، وأن يدعو إليه غيره ، وقد يؤثر الإنسان رأياً لأن اقتناعه به أكثر من اقتناعه بغيره . أما أن يحسب أحد الناس أن الرأي الذي تبناه دين ومخالفتة خروج عن الدين ، فهذا من وجهة نظري قصورٌ ومثار للشغب والفوضى  وقد يجد البعض متعه في قضايا الخلاف ، ليثور ويفور وظاهر أمره الغضب للدين وهو في الحقيقة ينفس عن تربية ناقصة أو مفقودة  وهل الحكم في مسألة تُعدُّ من القشور تنسي الدعائم وتشغل الناس عن أعمدة الإسلام التي انهارت أو تكاد ، إن الخلافات الجزئية واقع لا بد منه ، وتجاوزها لما هو أهم منها واقع لا بد منه كذلك ، ونظرة إلى الاجتهادات المذهبية ، فإن المفتي يقول أرى كذا أو الحكم عندنا كذا أو صح الدليل لدينا بكذا ويترك مجالاً للرأي الآخر .

ولا يجوز لإنسان كائناً من كان ، أن يظن أن الإسلام حكراً على قناعته وحدها ، فإذا تعصب الإنسان لرأي فليعمل به إن شاء  ولا تثور ثائرته إذا رأى غيره يعمل بما يخالفه في أمر لا يعد خروجاً عن الإسلام ، لأن التعصب الشديد لمسألة ثانوية ، يتم على حساب الدماء والأموال والأعراض وكرامة الأمة وحياتها . فلا يتمسك الإنسان ببعض الأفكار والفتاوى ، ويتعامى عن عظائم الأمور ويتقعّر في التوافه ،كهذا الذي سأل الحسن البصري عن الصلاة في قميص به دم البعوض فقال له الحسن : ممن أنت ؟ قال : من العراق ، قال : تسألون عن دم البعوض وتستبيحون دم ابن بنت رسول الله ؟ ، وقد صور أبو الطيب المتنبي هذا الاعوجاج النفسي في فهم الدين بقوله :             

أغاية الدين أن تحفوا  شواربكم  يا أمة ضحكت من جهلها الأمم

وذلك في قوم يحسبون قمة التدين إزالة شعر واستبقاء شعر . فالخلاف في حكم كثير من المسائل لا بد منه ، أما التعصب على أن هذا الرأي أو الحكم هو الدين وما عداه ليس بدين  فهذا شيء لا معنى له ولا تسليم به . وبعد : فإني أرحب بالنقد الذي يحمل روح النصيحة في الدين والحوار بالحسنى حتى يزول اللبس ، لأن من واجبي وواجب كل مسلم العمل على تكوين وعي إسلامي رشيد يقوم على فقه مستنير لأحكام الإسلام ، فقه يهتم باللباب قبل الاهتمام بالقشور ، ولا يعنيني تشديد المرء على نفسه في سلوكه الشخصي   لأنه يحتمل ويقبل والذي لا يقبل ، أن يفرض ذلك على المجتمع كله .

إن الاختلاف في الأحكام الفرعية العملية والظنية  لا ضرر فيه ولا خطر منه ، إذا كان مبنياً على اجتهاد شرعي صحيح ، وهو رحمة بالأمة ومرونة في الشريعة وسعة في الفقه ، وقد اختلف فيها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان  فما ضرهم ذلك شيئاً ، وما نال من أخوتهم ووحدتهم كثيراً ولا قليلا ، : ﴿ ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم ﴾ .

   

 

سـوء الـظن

 من المبادئ الأخلاقية المهمة في التعامل إحسان الظن بالآخرين قال تعالى : ) يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ( . كثير من الظن هنا تعني الظنون السيئة، التي يجب اجتنابها ، وكأن مضمون الآية الكريمة يفصح عن أن الظنون التي تساور الإنسان تجاه الآخرين ، إما أن تكون حسنة وإما سيئة ، ولكن أكثرها سيئة لذا ينبغي اجتنابها ، لذا يجب اجتنابها لأنها داخلة في دائرة الإثم ، أما الظنون الحسنة فلا بأس بها    لأنها توطد العلاقة بالآخرين.

فالانطباعات التي نحملها عن بعضنا البعض ينبغي أن تكون منسجمة وتوجيهات قيم الإسلام  التي تدعونا إلى اجتناب الظن . والآية الكريمة تحذرنا من تشكيل قناعاتنا ومواقفنا من الآخرين ، من خلال سوء الظن  وفي الجانب المقابل نلتمس المعاذير لإخواننا  ونقول ما قال بعض السلف الصالح : " ألتمس لأخي من عذر إلى سبعين ، ثم أقول : لعل له عذرًا آخر لا أعرفه! " وإن من أعظم شعب الإيمان حسن الظن بالله ، وحسن الظن بالناس ، وفي المقابل يتنافى مع الإيمان ، سوء الظن بالله ، وسوء الظن بعباد الله .

 لأن سوء الظن من خصال الشر الذي ورد النهي عنه في القرآن والسنة ، وأن لا نظن بعباد الله إلا خيرا ، وأن نحمل ما يصدر عنهم على أحسن الوجوه قال صلى الله عليه وسلم : ( إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث..) . وما أصدق ما قيل  

تأنّ ولا تعجل بلومك صاحبًا      لعل له عـذرًا وأنت تلـوم!

 وينبغي أن نقدم دائمًا حسن الظن ولا نتبع ظن السوء ، فإنه لا يغني من الحق شيئا.  

ويشتد الخطر حينما يجتمع إتباع الظن  وإتباع الهوى ،كالذي ذم الله به المشركين في قوله: )إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ( النجم 28 . وقد دلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرشدنا إلى خير ما يعلمه لنا ، وحذرنا وأنذرنا من شر ما يعلمه لنا ؛ جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله ) إذاً فحسن الظن بالله  يجب أن يكون صفة المؤمن طيلة حياته ، ويتأكد أكثر عند مماته وهو محب للقاء الله ؛ وفي الحديث الصحيح: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه) . وهو يرتبط ارتباطاً كبيراً بالتوكل على الله والثقة به ؛ حيث إنك لا تتوكل إلا على من تحسن الظن به ؛ ولذا قال ابن القيم :" بأن حسن الظن بالله يدعو إلى التوكل عليه ؛ إذ لا يتصور التوكل على من ساء ظنك به ولا التوكل على من لا ترجوه " وكذا الاستعانة بالله والاعتصام به واللجوء إليه ،فهذه كلها تستلزم أن يحسن العبد الظن بربه ، وحَسُن الظن بالله يجب أن يقترن بالخوف منه ، حتى لا يفضي إلى الغرور وترك العمل ، ومن الناس من اتكل على حسن ظنه بربه  واعتمد عليه مع إقامته على المعاصي ، متناسياً ما توعد الله به ، من وقع في المعاصي  وغفل عن الخوف من الله حتى وقع في الغرور    وعلى المؤمن أن يتحرى معرفة المنهج الصحيح في حسن الظن بالله ، حتى لا يقع فيما نهى الله عنه من الغرور أو سوء الظن بالله . والمؤمن حين يحسن الظن بربه ، فإن قلبه لا يزال مطمئناً ونفسه آمنه تغمرها سعادة الرضى بقضاء الله وقدره وخضوعه لربه ، فالقلب المؤمن حَسَنُ الظن بربه يَتوقّع منه الخير في السراء والضراء ، ويؤمن بأن الله يريد به الخير في الحالين ، ومن أثرِ حسن الظن بالله على المؤمن أنه عندما يسمع ما يخبر به الله عن نفسه من أنه عفو غفور وتواب رحيم ، ويسمع قول نبيه صلى الله عليه وسلم : ( إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل ، حتى تطلع الشمس من مغربها)  فإنه عندما يسمع ذلك يطمع بعفو الله ،  فيطرق بابه راجياً مغفرته ، بأن يتوب عن المعاصي .

 ولما كان السلف هم أقرب الناس إلى منهج الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، أدركوا أهمية حسن الظن بالله ، ومدى أثره على المؤمن ؛ فكانوا أحرص الناس عليه ، وأكثرهم دعوة إليه وحثاً على التمسك به ، فهذا سعيد بن جبير  كان يدعو: " اللهم إني أسألك صدق التوكل عليك وحسن الظن بك " . وقال عبد الله بن مسعود : " والذي لا إله غيره ما أُعطي عبد مؤمن شيئاً خير من حسن الظن بالله ، والذي لا إله غيره لا يحسن عبد بالله  الظن إلا أعطاه اللـه ظنه " ، وحيث جاء الأمر بحسن الظن   فإن بعض الناس قد أساء في هذا الأمر وغلا فيه ، حتى سقط في الغرور ، جاهلاً بكيفية إحسان الظن بالله ، ناسياً  عقاب الله الأليم   وغافلاً عن شدة عذابه ، ومحاسبته لعباده عما اقترفت أيديهم . ذكر الإمام ابن القيم شيئاً من أحوال المغترّين وجهلهم بالله فقال: " وكثير من الناس يظن أنه لو فعل ما فعل ، ثم قال : أستغفر الله ، زال الذنب وراح هذا بهذا " . وسمعت من يقول أنا أفعل ما أفعل ثم أقول : سبحان الله وبحمده مائة مرة ، فإن الله يغفر ذلك كله  كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قال في يوم : سبحان الله وبحمده مائة مرة حُطّتْ خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر) . مما يدل على أن لي رباً يغفر الذنب ويأخذ به.   هذا الصنف من الناس قد تعلق بنصوص من الرجاء واتكل عليها ، وإذا عوتب على الخطايا والانهماك فيها ، سرد لك ما يحفظه من نصوص الرجاء وسعة رحمة الله ومغفرته   كقول القائل :   

وكثّر ما استطعت من الخطايا     إذا كـان القدوم على كريم

 متجاهلاً أن على المؤمن مع إحسانه الظن بربه ، أن لا يغفل عن محاسبة الله لعباده بعدله وحكمته ، ومجازاته لهم بما كانوا يعملون  وأن يجتهد في القيام بما عليه موقنًا بأن الله يقبله ويغفر له ; لأنه وعد بذلك وهو لا يخلف الميعاد ، فإن ظن أن الله لا يقبله ، أو أن التوبة لا تنفعه ، فهذا هو اليأس من رحمة الله وهو من كبائر الذنوب .   

 إن حسن الظن بالله يؤدي إلى سلامة الصدر وتدعيم روابط الألفة والمحبة بين الناس ، فلا تحمل الصدور غلاًّ ولا حقدًا ، امتثالاً لقوله  صلى الله عليه وسلم :( إياكم والظن  فإن الظن أكذب الحديث ، ولا تحسسوا ، ولا تجسسوا ، ولا تنافسوا ، ولا تحاسدوا ، ولا تباغضوا ، ولا تدابروا ، وكونوا عباد الله إخوانًا). وإذا كان أبناء المجتمع بهذه الصورة المشرقة فإن أعداءهم لا يطمعون فيهم أبدًا ، ولن يستطيعوا أن يتبعوا معهم سياسة فرِّق تَسُد ؛ لأن القلوب متآلفة والنفوس صافية . فلو أن كل واحد منا عند صدور فعل أو قول من أخيه وضع نفسه مكانه لحمله ذلك على إحسان الظن به وقد وجه الله عباده لهذا المعنى حين قـال سبحانه :) لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً ( النور 12. وأشعر الله عباده المؤمنين أنهم كيان واحد ، حتى إن الواحد حين يلقى أخاه ويسلم عليه فكأنما يسلم على نفسه: )فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ (النور 61  

 وكان السلف يحملون الكلام على أحسن المحامل . قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لا تظن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن شرًّا ، وأنت تجد لها في الخير محملاً ". وانظر إلى الإمام الشافعي رحمه الله حين مرض وأتاه بعض إخوانه يعوده   فقال للشافعي : " قوى الله ضعفك ، قال الشافعي: لو قوى ضعفي لقتلني ، قال: والله ما أردت إلا الخير . فقال الإمام : أعلم أنك لو سببتني ما أردت إلا الخير"   هكذا تكون الأخوة الحقيقية  بإحسان الظن حتى فيما يظهر أنه لا يحتمل وجها من أوجه الخير   وكان الصالحون إذا صدر من أحدهم ما يسبب ضيقاً أو حزنا  يحسنون به الظن  ويلتمسون له المعاذير حتى قالوا : " التمس لأخيك سبعين عذراً "، وقال ابن سيرين رحمه الله :"إذا بلغك عن أخيك شيء فالتمس له عذرًا ، فإن لم تجد فقل:لعل له عذرًا لا أعرفه ". إنك حين تجتهد في التماس الأعذار ستريح نفسك من عناء الظن السيئ ، وستتجنب الإكثار من اللوم لإخوانك :

تأن ولا تعجل بلومك صاحبًا    لعـل له عـذرًا وأنت تلوم

 ومن آفات سوء الظن أنه يحمل صاحبه على اتهام الآخرين ، مع إحسان الظن بنفسه  وهو نوع من تزكية النفس التي نهى الله عنها في كتابه :) فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ( النجم 32 . ولذلك نجد أن التوجيهات الإسلامية تحثنا على حسن الظن واحترام  الآخر ، شخصاً وفكراً ووجداناً ، حيث جاء في التوجيه الإسلامي (ضع أمر أخيك على أحسنه ، حتى يجيء ما يغلبك منه ولا تظنن بكلمة خرجت من فم أخيك المسلم سوءا وأنت تجد لها في الخير محملا) . ويقول الغزالي : " ليس لك أن تعتقد في غيرك سوءًا إلا إذا انكشف لك بعيان لا يقبل التأويل". وإذا انحدر الظان إلى مزلق آخر وهو إشاعة ظنه وقع في الحرام " وإن تكلم بذلك الظن وأبداه أثم " كما نقل الشوكاني   وحكى القرطبي عن أكثر العلماء : " أن الظن القبيح بمن ظاهره الخير لا يجوز ". وقال الغزالي: " اعلم أن سوء الظن حرام مثل سوء القول ، فلا يستباح ظن السوء إلا بما يستباح به المال ، وهو بعين مشاهدة أو بينة عادلة ". ويقول ابن قدامة رحمه الله : " فليس لك أن تظن بالمسلم شرًا إلا إذا انكشف أمر لا يحتمل التأويل ، فإن أخبرك بذلك عدل فمال قلبك إلى تصديقه ، كنت معذورًا " وأشار إلى قيد مهم فقال :" بل ينبغي أن تبحث هل بينهما عداوة وحسد ؟." ويروى أن سليمان بن عبد الملك قال لرجل: " بلغني أنك وقعت فيَّ وقلت كذا وكذا. فقال الرجل: ما فعلت. فقال سليمان: إن الذي أخبرني صادق . فقال الرجل: لا يكون النمام صادقًا . فقال سليمان: صدقت اذهب بسلام". وجاء في النصوص النهي عن الاستماع إلى النمام قال صلى الله عليه وسلم : ( لا يبلغني أحدٌ عن أحد من أصحابي شيئًا   فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر ) أحمد في مسنده . فلا تجعلوا بطانتكم من النمّامين   فإن من وشى إليكم اليوم يشي بكم غدًا  ومثله ليس أهلاً للثقة – لفسقه بالنميمة – وفي ذلك يقول ابن قدامة المقدسي: " لا تصدّق الناقل لأن النمام فاسق ، والفاسق مردود الشهادة . فإن ركنتم إلى النمامين وأصبتم إخوانكم بجهالة فلا تنسوا أن تصبحوا على ما فعلتم نادمين ".                                                                                                                                               

والفطن من يفرق بين خبرٍ دافعه التقوى  وخبر غرضه الفضيحة أو التشهير . والذي لم يتخلق بخلق (التثبت) تجده مبتلى بالحكم على المقاصد والنوايا والقلوب   وذلك مخالف لأصول التثبت. يقول الشافعي – ووافقه البخاري -: " الحكم بين الناس يقع على ما يُسمع من الخصمين ، بما لفظوا به ، وإن كان يمكن أن يكون في قلوبهم غير ذلك ".

ومن أخطر المزالق لعدم التثبت ، أن يحسن الأمير الظن برجل من الناس ليس أهلاً للثقة  ثم يكون أسيرًا لأخباره ، أُذنًا لأقواله ، يصغي إليه ويصدقه . يقول ابن حجر: " المصيبة إنما تدخل على الحاكم المأمون من قبوله قول من لا يوثق به ، إذا كان هو حسن الظن به ، فيجب عليه أن يتثبت في مثل ذلك " . 

 ومن أهم أصول التثبت فيما يُنقل من أخبار: السماع من الطرفين ، فقد أخرج أبو داود والنسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل عليًّا رضي الله عنه إلى اليمن قاضيًا فأوصاه : ( فإذا جلس بين يديك الخصمان ، فلا تقضين حتى تسمع من الآخر ، كما سمعت من الأول ، فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء ) . يقول علي رضي الله عنه: "ما شككت في قضاء بعد" ، فكان الصواب حليفة بالتثبت ، وكم زلّت أقدام ، ووقعت فتن بسبب عدم التثبت والظن يقول الشوكاني:" الخطأ ممن لم يتبين الأمر، ولم يتثبت فيه هو الغالب، وهو جهالة ". وكم تجد من الناس من يسارع للشهادة على أمر لم يفقهه   في حق امرئ لا يعرفه!! ولذلك أفتى الحسن البصري تحريًا للتثبت: " لا تشهد على وصية حتى تُقرأ عليك ، ولا تشهد على من لا تعرف "    وليس من خلق المتثبت التسرع والعجلة وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أرسل خالدًا رضي الله عنه للتحقق من عداوة بني المصطلق أمره أن يتثبت ولا يعجل . ولما أرسله إلى بني جذيمة للتحقق من إسلامهم فتعجل في القتل. قال  صلى الله عليه وسلم : ( اللهم إني أبرا إليك مما صنع خالد) رواه البخاري . إن كل مسلم ظاهره الصلاح صادق ولا نقول له إلا خيرًا ، وإلا فإن الاتهام بغير تثبت سبب في كثير من المظالم ، ولذلك كتب عمر بن عبد العزيز إلى أمير البصرة في قتيل وُجد عند بيت ولم يُعرف قاتله : "إن وجد أصحابه بينة وإلا فلا تظلم الناس  فإن هذا لا يقضى فيه إلى يوم القيامة". بل جاء في الحديث: ( لو يعطى الناس بدعواهم ، لادعى الناس دماء رجال وأموالهم ) .

وإن الواحد من الصحابة على عدالته كان يُطالب - في الخصومات-بإحضار شهود أو الإدلاء ببينات ، أو القسم ، ولم تكن عدالته لتشفع له في استقطاع شيء من حقوق الناس أو مس أعراضهم . وقد اشترط الشرع البينة دفعًا للاتهامات الرخيصة ، لئلا يبادر أحد إلى اتهام أحد إلا عن يقين ؛ ولذلك حين قُتل صحابي وجد بين بيوت اليهود في خيبر ، اتهم أصحابه اليهود في قتله  فطالبهم رسول صلى الله عليه وسلم بالبينة : قالوا : مالنا بينة . قال: فيحلفون . قال: لا نرضى بأيمان اليهود . فاضطر رسول الله  صلى الله عليه وسلم أن يدفع ديته مائة من الإبل، ولم يتهم اليهود بلا بينة .

 ما أحوجنا اليوم إلى الأخذ بحسن الظن سواء على المستوى الفردي أو بين الجماعات لأننا نواجه مشكلة في العلاقة بين الجماعات ، كل جماعة تسيء تفسير تصرف الجماعة الأخرى   ولعل تصرفاً فردياً يصدر من أحد الأفراد يحسب على الجماعة بأكملها وهذا غير صحيح ، لأنه ينبغي على كل إنسان مؤمن عاقل ، أن يتجاوز ذلك وينظر إلى الآخرين نظرة إيجابية ، ولو تصور في خاطره تصوراً خاطئاً على شخص ما ، فعليه أن لا يبنيَ عليه موقفاً قد يضر أو يسيء به إلى إليه ، فذاك إثم وظلم نهى الشرع عنه ، ويرفضه العقل السليم  

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الكذب والنفاق قرينان

الكذب ركنٌ من أركان الكفر ، وإذا ذُكر الكذب في القرآن ذُكر معه النفاق   وإذا ذكر النفاق ذكر معه الكذب قال تعالى : ) والله يشهد إن المنافقين لكاذبون ( المنافقون 1 . والكذب علامة واضحةٌ تشهد على صاحبها بالنفاق جاء في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( آية المنافق ثلاث ذكر منها .. إذا حدَّث كذب ) والكذّاب ملعون سواء كان جاداً أو مازحاً وهو ما يتساهل الناس فيه روى أحمد بسندٍ جيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :  ( ويلٌ للذي يحدّث القوم ثم يكذب ليضحكهم ويلٌ له وويلٌ له   وقد نفى الله عن المؤمنين النفاق بذكرهم لله ، ووصف المنافقين بقلة ذكرهم له قال تعالى:) ولا يذكرون الله إلا قليلا (النساء 142  إن الكذب في حياة الإنسان خلقٌ قابلٌ للاكتساب ، وبتكرار ممارسته يتحوّل إلى خلقٍ راسخ ، وعندئذٍ يكتب عند الله كذّابا جاء في الحديث ( وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذّابا ) . وهذه ليست من صفات المؤمن لما روى مالك في الموطأ أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أيكون المؤمن جباناً ؟ قال : نعم فقيل له : أيكون المؤمن بخيلاً ؟ قال نعم   فقيل أيكون المؤمن كذّابا ؟ قال : لا ) . فافتراء الكذب محصور بالذين لا يؤمنون لقوله تعالى : ) إنما بفترى الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون ( النحل  105 . قال في آخر الآية الكاذبون ليدل على شناعة الكذب ، وأنه صفة لا تليق بالمؤمن ، ولذلك حينما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أيسرق المؤمن قال : نعم لأن الله قال : ) والسارق والسارقة ( فما دام قد شرع حكماً وجعل عليه عقوبة فقد أصبح الأمر واردا . وسئل أيزني المؤمن ؟ قال : نعم لأن الله قال : ) الزانية والزاني ( . وسئل أيكذب المؤمن ؟ قال : لا ) . وهذا يوضح فظاعة الكذب وأنه أعظم من هذه المنكرات   فقد جعل الله لكل منها عقوبة معلومة في حين ترك عقوبة الكذب ليدل على أنها جريمة أعلى من العقوبة وأعظم ، إذن الكذب صفةٌ لا تليق بالمؤمن ، ولا يكون المؤمن كذّابا ، بأن يكون خلقه الكذب ،  أما الكذبات العارضات في حياة الإنسان التي لا تكون افتراءً مدّبرا مقصودا   والتي لا تكون عن خلق أصيل ثابت فليس في الحديث ما يدل على أنها لا تكون من المؤمن .

وقد يكون الكذب خيانة كبيرة وذلك عندما تحدِّث أخاك حديثاً هو لك مصدِّق وأنت به كاذب لما روى أبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( كبرت خيانةً أن تحدُث أخاك حديثاً هو لك به مصدِّق وأنت به كاذب ) .

ومن الكذب أن يحدّث الإنسان بكل ما يسمع من أحاديث وأخبار دون تحريرٍ لها وتنقيح حتى لا يساهم في نشر الأكاذيب وإشاعتها لما روى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع ) .

وهناك حالات يجوز فيها الكذب تحقيقاً لمصلحةٍ هي اعظم مما في الكذب من مضرّة  وهي الكذب على العدو في حالة الحرب   وللإصلاح بين فريقين متخاصمين وإزالة ما بينهم من عداوات لما روى البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرا أو يقول خيرا ) .

كما يجوز في حديث الرجل لامرأته وحديث المرأة لزوجها لتوثيق روابط الأسرة والمودة بين الزوجين لما روى مسلم وأحمد عن أم كلثوم بنت عقبة قالت : (لم أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يرخص في شيءٍ من الكذب مما تقول الناس إلا في الحرب ، والإصلاح بين الناس  وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها ) . قال الإمام الغزالي : " الكلام وسيلةٌ إلى المقاصد فكل مقصودٍ محمودٍ يمكن التوصل إليه بالصدق والكذب جميعاً ، فإن الكذب فيه حرام   وإن أمكن التوصل إليه بالكذب دون الصدق ، فالكذب فيه مباح إن كان تحصيل ذلك القصد مباحاً ، وواجب إن المقصود واجبا .. إلا أنه ينبغي أن يحترز منه ما أمكن " .    

 

 

العفو عند المقدرة

أمر الله بالعفو وامتدح العافين عن الناس ، وذلك لما في العفو من الآثار الحسنة على النفوس, ولما تسببه من محبة وإخوة بين المؤمنين, قال سبحانه : ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾ 199 الأعراف. وقال عز وجل:﴿ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ آل عمران 134، ومن أعظم الأخلاق العفو عند المقدرة على الأخذ بالذنب والصفح عن مرتكب الإساءة ومسببها دون محاسبته ومعاقبته عليها ، ألا ما أحلى عفو الاقتدار ، وعن عدم نكران الجميل وكان العفو من شيم العرب وأخلاقهم ، فقد روى التاريخ أن صاحب شرطة المأمون ، العباس بن المُسيّب قال : دخلتُ يومًا مجلسَ أميرِ المؤمنين ببغداد ، وبين يديه رجلٌ مُكبَّلٌ بالحديد : فلمَّا رآني ، قال لي : يا عباس!! قلت : لبّيك يا أمير المؤمنين!! قال : خُذ هذا إليك ، واحتفظ به ، وبكّر به إلىّ في غد!! . فدعوتُ جماعةً فحملوه ولم يقدر أن يتحرك!! فقلت في نفسي : مع هذه الوصية التي أوصاني بها أمير المؤمنين من الاحتفاظ به ما يجبُ أن يكون معي في بيتي ، فأمرتهم فتركوه في مجلسٍ لي في داري . ثم أخدتُ اسأله عن قضيّته وعن حاله ، ومن أين هو ؟ فقال : أنا من دمشق ، فقلت : جزى الله دمشق وأهلها خيراً ، فمن أنت من أهلها ؟ قال : وعمّن تسأل ؟ قلت : أتعرف فلاناً ؟ قال : ومن أين تعرفُ ذلك الرجل ؟ قلت : وقعت لي قضيّة معه ، فقال : ما كنت بالذي أعرّفُك خبره حتى تعرّفني قضيّتك معه!! ، فقلت : كنت مع بعض الولاة بدمشق فبغى أهلها وخرجوا علينا حتى إن الوالي تدلّى في زنبيل " قـُفة " من قصر الحجاج ، وهرب هو وجميع أصحابه ، وهربت في جملة القوم . فبينما أنا هاربٌ في بعض الدروب إذا جماعة يعدون خلفي ، فما زلت أعدو أمامهم ، حتى فُتُّهُم ، فمررت بهذا الرجل الذي ذكرته لك ، وهو جالس على باب داره ، فقلت : أغثني أغاثك الله!! فقال : لا بأس عليك!! ادخل الدار ، فدخلت ، فقالت لي امرأته : ادخل الحجلة فدخلتها ، - الحجلة : غرفة تعد للعروس في جوف البيت - ووقف الرجل على باب الدار فما شعرتُ إلا وقد دخل ، والرجالُ معه يقولون : هو والله عندك!! فقال : دونكم الدار ، فتشوها ، ففتَّوشها حتى لم يبقَ إلا البيت الذي كنت فيه ، فقالوا : هاهنا ، فصاحت بهم المرأة وانتهرتهم ، فانصرفوا . وخرج الرجل وجلس على باب داره ساعةً ، وأنا قائم في الحجلة أرجُف ، ما تحملني رجلاي من شدَّة الخوف ، فقالت المرأة : اجلس لا بأس عليك ، فجلست ، فلم ألبث أن دخل الرجل وقال : لا تخف ، فقد صرت إلى الأمن والدعة إن شاء الله تعالى . فقلت له : جزاك الله عني خيراً!! ثم ما زال يعاشرني أحسن المعاشرة وأجملها ، وأفردَ لي مكانًا في داره ، ولم يفتـُر عن تفقُّد أحوالي . فأقمتُ عنده أربعة أشهر في أرغدِ عيش وأهنئه إلى أن سكنت الفتنة وهدأت ، وزال أثَرها ، فقلت له : أتأذن لي في الخروج حتى أتفقّدَ خبر غلماني ، فلعلي أن أقفُ لهم على أثر أو خبر ، فأخذ عليّ المواثيق بالرجوع إليه ، فخرجتُ وطلبتُ غِلماني ، فلم أرَ لهم أثراً ، فرجعت إليه وأعلمته الخبر . وهو مع هذا كله لا يعرفُني ولا يسألني ، ولا يعرف اسمي ، ولا يُخاطبني بغير الكُنية . ثم قال : علام تعزم ؟!! فقلت : عزمت على التوجه إلى بغداد ، فقال : القافلة تخرج بعد ثلاثة أيام ، وها أنذا قد أعلمتك!! فقلت له : إنك تفضّلت عليّ هذه المدة ، ولك عليّ عهدٌ ألا أنسى لك هذا الفضل ولأُكافئنّك ما استطعت . ثم دعا غلامًا له أسود وقال له : أسرِج الفرس ، ثم جهّز آلةَ السفر ، فقلت في نفسي : ما أظنُّ إلا أنه يريدُ أن يخرجَ إلى ضيعةٍ له أو ناحية من النواحي ، فأقاموا يومهم ذلك في تعبٍ وكدّ ، فلما كان يوم خروج القافلة جاءني في السحَر وقال : يا أبا فلان قم فإن القافلة تخرج الساعة ، وأكره أن تنفرد عنها ، فقلت في نفسي : كيف أصنعُ ، وليس معي ما أتزوّد به ، ولا ما أكثري به مركوبًا!! ثم قمت ، فإذا هو وامرأته يحملان أفخرَ الثياب ، وخفّين جديدين ، وآلة السفر . ثم جاءني بسيف ومِنطقة فشدهما في وسطي ، ثم قدّم البغل فحمل عليه الصناديق وفوقها مفرشان ، ودفع إليّ نسخةً بما في الصناديق وفيها خمسة آلاف درهم ، وقدّم إلي الفرس الذي كان أنعله بسرجه ولجامه وقال لي : اركب ، وهذا الغلام الأسود يخدمك ويسوس مركوبك . وأقبل هو وامرأته يعتذران إليّ من التقصير في أمري ، وركب معي فشيعني ، وانصرفت إلى بغداد وأنا أتوقّعُ خبره ، لأفي بعهدي له في مجازاته ومكافأته ، واشتغلتُ مع أمير المؤمنين ، فلم أتفرّغ أن أُرسل إليه من يكشفُ خبره ، فلهذا اسألُ عنه!! . فلما سمع الرجل الحديث قال : لقد أمكنك الله عز وجل من الوفاء له ، ومكافأته على فعله ومجازاتِه على صنيعه بلا كُلفةٍ عليك ، ولا مؤونةٍ تَلزمُك . فقلت : وكيف ذلك ؟!! قال : أنا والله ذلك الرجل!! وإنما الضّرُّ الذي أنا فيه غيّرَ عليك حالي ، وما كنتَ تعرفُه منّي . وأقبل يذكرني بأشياء يتعرف بها إليّ حتى أثبته وعرفته فما تمالكت أن قمت إليه فقبّلت رأسه ، وقلت له : ما الذي أصارك إلى ما أرى ؟ فقال : هاجت فتنة بدمشق مثل الفتنة التي كانت في أيامك ، فنُسِبت إليّ وبعث أمير المؤمنين بجيوش ، فأصلحوا البلد ، وحُملت إليه وقد ضُرِبتُ إلى أن أشرفتُ على الموت!! وأمري عنده عظيم ، وخَطبي لديه جسيم     وهو قاتلي لا محالة ، وقد أُخرِجتُ من عند أهلي بلا وصيّةٍ ، وقد تبعني من غِلماني من ينصرف إلى أهلي بخبري ، وهو نازل عند فلان ، فإن رأيت أن تجعل مكافأتك لي أن تبعث إليه حتى يحضر فأوصيه بما أريد ، فإذا أنت فعلت ذلك فقد جاوزت حدَّ المكافأة لي ، وقمتَ لي بوفاء عهدك!! قلت : يصنعُ الله خيرًا . ثم أحضر العباس : حدّادًا في الليل فكّ قيوده ، وأزال ما كان فيه من الأنكال ، وأدخله حمّام داره ، وألبسه من الثياب ما احتاج إليه  ثم سيَّر مَن أحضَرَ إليه غلامه . فلما رآه جعلَ يبكي ويوصيه ، فاستدعى العباسُ نائبه ، وقال عليّ بالأفراس والهدايا ، ثم أمره أن يشيّعه إلى حَدَّ الأنبار!! فقال له : إن ذنبي عند أمير المؤمنين عظيمٌ ، وخطبي جسيم ، وإن أنتَ أحتججت بأني هربتُ ، بعثَ في طلبي كلّ من على بابه ، فأُردّ وأقتل . فقال العباس : انجُ بنفسك ودَعني أدبّر أمري!! فقال : والله لا أبرحُ بغداد حتى أعلمَ ما يكون من خبرك!! فإن احتجتَ إلى حضوري حضرت . فقال  العباس : إن كان الأمرُ على ما تقول ، فلتكن في موضع كذا ، فإن أنا سَلِمتُ في غداة غدٍ أعلمتـُك ، وإن أنا قـُتِلتُ فقد وَقَيتـُكَ بنفسي كما وقيتني!! ثم تفرّغ العباس لنفسه ، وتحنّظ وجهّز له كفنًا . قال العباس : فلم أفرغ من صلاة الصبح إلا ورسلُ المأمون في طلبي ، وهم يقولون : هاتِ الرجل معك وقُم!! فتوجّهتُ إلى دار أمير المؤمنين ، فإذا هو جالسٌ ينتظر . فقال : أين الرجل ؟ فسكتُّ!! فقال : ويحك! أين الرجل ؟ فقلت : يا أمير المؤمنين ، اسمع مني . فقال : لله عليّ عهدٌ لئن ذكرتَ أنه هرب لأضرِبنَّ عُنقك!! فقلت : لا والله يا أمير المؤمنين ما هرب ، ولاكن اسمع حديثي ، ثم شأنك وما تريد أن تفعله في أمري!! قال : قل . فقلت : يا أمير المؤمنين ، كان من حديثي كيت وكيت ، وقصصتُ عليه القصة جميعها ، وعرّفتـُه أني أريدُ أن أفيّ له ، وأكافئه على فعله معي ، وقلت : أنا وسيدي ومولاي أمير المؤمنين بين أمرين : إما أن يصفحَ عني ، فأكون قد وفيتُ وكافأتُ وإما أن يقتلني فأقيَه نفسي ، وقد تحنّطت ، وها هو ذا كفني يا أمير المؤمنين!! . فلما سمع المأمون الحديث قال : ويلك!! لا جزاك الله عن نفسك خيرًا ، إنه فعل بك ما فعل من غير معرفةٍ ، وتكافئُه بعد المعرفة بهذا ؟ هلا عرّفتني خبرَه ، فكنا نكافئُه عنك ، ولا نقصّر في وفائك له!! فقلت : يا أمير المؤمنين ، إنه هاهنا وقد حلف ألا يبرحَ حتى يعرفَ سلامتي ، فإن احتجت إلى حضوره حضر . فقال المأمون : وهذه منّةٌ أعظمُ من الأولى لله دركم!! اذهب إليه الآن ، فطيّب نفسه وسكّن روعه ، وائتني به حتى أتولّى مكافأته . فأتيتُ إليه وقلت له : ليزُل خوفُك ، إن أمير المؤمنين قال كذا وكذا ! فلما مَثَلَ بين يدي أمير المؤمنين أقبل عليه ، وأدناه من مجلسه وحدّثه ، حتى حضر الغداء فأكل معه  وخلع عليه ، وعرض عليه أعمال دمشق  فاستعفى!  فأمر له بصلةٍ عظيمة ووضع الخراج عن أرضه وكتب إلى عامله بدمشق بالوصيّةِ به .

من منا لا يخطئ ، لكن من يخطئ ويعترف بخطئه  فإنه يستحق أن ينال المغفرة والصفح عنه ، وهكذا كان الأكرمون عبر التاريخ يتحلون بصفات العدالة والرحمة، وكانوا يصفحون عمن يسيء إليهم وإلى مجتمعهم .   

 

 

من صفات النفاق النميمة وذي الوجهين

إنك لتجد هذه الصفات عند الذين يلقون الناس بوجه  وأصحاب الجاه بوجه ، وتجدها عند ضعاف النفوس ، الذين باعوا آخرتهم بدنياهم الفانية ، بل إن من يتصف بهذه الصفات هو من أبغض خلق الله إلى الله لبشاعة جرمه ، والنمام شريك وأخ في هذا الجرم الشنيع لذي الوجهين ، بل هو شرٌّ من النمام   لأنه يتردد بأكاذيبه بين المتخاصمين ، فينقل الكلام الذي يوافق هواه ، ليوغر الصدور والأنفس ، ويملأها كراهية وحقداً على الآخرين ، وحتى ينجح في مهمته لا بد من تلفيق الأكاذيب  ولذلك وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه شرّ عباد الله ، ومما يروى في كتب التراث عن الخطر الذي يسببه من يتصف بهذه الصفات على الناس هذه القصة " أن رجلا باع غلاما عنده فقال للمشتري: ليس فيه عيب إلا أنه نمام ، فقال : رضيت ، واشتراه على ذلك العيب ، فمكث الغلام عنده أياما ، ثم قال لزوجة سيده : إن زوجك لا يحبك ، وهو يريد أن يتزوج عليك ، فإذا نام خذي الموس واحلقي من رأسه شعرات ، حتى أسحره عليها فيحبك ، ثم خلا بالزوج ، وقال له : إن امرأتك اتخذت عشيقاً لها وتريد أن تقتلك ، فتظاهر لها بالنوم حتى تتأكد من ذلك ، فتظاهر الرجل بالنوم بجوار زوجته ، فجاءت امرأته بالموس لتحلق الشعرات، فظن الزوج أنها تريد قتله ، فأخذ منها الموس وقتلها فجاء أولياؤها فقتلوه، وجاء أولياء الرجل ووقع القتال بين الفريقين " وذلك بسبب نميمة ذي الوجهين ، أرأيتم ما تصنع النميمة وكيف أودت بحياة رجل وزوجته وأوقعت المقتلة بين أقاربهما بسبب ذي الوجهين دائما.

قال كعب الأحبار‏:‏ أصاب بني إسرائيل قحط ، فخرج بهم موسى عليه السلام ثلاث مرات فلم يستسقوا‏ .‏ فقال موسى‏:‏ ‏(‏إلهي عبادك‏)‏ فأوحى الله إليه‏:‏ ‏(‏إني لا أستجيب لك ولا لمن معك ، لأن فيهم رجلا نماما، قد أصر على النميمة‏)‏‏.‏ فقال موسى‏:‏ ‏(‏يا رب من هو حتى نخرجه من بيننا‏) ‏‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏يا موسى أنهاك عن النميمة وأكون نماما‏)‏ قال‏ :‏ فتابوا بأجمعهم  فسقوا .  وقال الفضيل بن عياض‏:‏ ثلاث تهد العمل الصالح ويفطرن الصائم  وينقضن الوضوء :‏ الغيبة، والنميمة  والكذب‏ ،‏ وقال عطاء بن السائب‏:‏ ذكرت للشعبي قول النبي صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏لا يدخل الجنة سافك دم  ولا مشاء بنميمة ، ولا تاجر يرابي‏ )‏ فقلت ‏:‏ يا أبا عمرو، قرن النمام بالقاتل وآكل الربا‏ ؟‏ فقال‏:‏ وهل تسفك الدماء ، وتنتهب الأموال ، وتهيج الأمور العظام  إلا من أجل النميمة‏ .‏ فالنمام إنسان ذو وجهين يقابل كل من يعاملهم بوجه ، فهو كالحرباء يتلون بحسب الموقف الذي يريده   هذا التلون القائم على المداهنة والمخادعة وهو الذي حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ذو الوجهين لا يكون وجيها عند الله) وفي حديث آخر: (من كان ذا وجهين في الدنيا كان له يوم القيامة لسانان من نار) رواه البخاري في الأدب المفرد ، إن شر الناس يوم القيامة ذي الوجهين  والإسلام يمقت الوجوه التي تسري عليها الألوان الممقوتة  وتسعى بين الناس بالفساد  ، والمسلم الحق ليس له إلا وجه واحد حيثما كان ، ولسان واحد لا ينطق إلا بما يرضي ربه عز وجل  وقد روي أن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان ) قال المناوي في فيض القدير : " عليم اللسان ، أي عالم للعلم منطلق اللسان به ، لكنه جاهل القلب والعمل ، فاسد العقيدة ، يغرّ الناس بشقشقة لسانه ، فيقع بسببه خلق كثير في الزلل " . ولا أخطر على الأمة من نفاق قرّائها وعلمائها الذين لا يعملون بما يقرأون ، ونرى بعض المحطات الفضائية تقوم بهذه المهمة الخطيرة بدون حسيب 

وهناك من يعتمد لغة الخطاب اللفظية لا لغة التطبيق والتنفيذ جاهل بمقاصد الدين عاجز عن استقبال الحقائق بقلب نقى   ولا عجب فقلوبهم مريضة ، وعقولهم مشبعة بمعاداة الحق   قصور في العقل ، وقسوة في القلب ، وتهوين العظائم ، وتعظيم التوافه، وإثارة الجدل والخلافات في أي مكان حلوا فيه  والاعتماد على تفريق الناس لا تجميعهم ، وتصيد الشبهات ولا عجب فهذا ميدانهم حيث يحسنون الغمز واللمز فيه والتعريض بالآخرين في كل ميدان يمكن أن يصلوا إليه ، ينتصرون للأشخاص لا للحق ، والحق أحق أن يتبع . 

يتحدثون في الدين تحدث العالم الخبير ولو ساءلت أحدهم عن علوم الحديث وأصول الفقه والناسخ والمنسوخ في الحديث والقرآن وغيرها من أدوات البحث الفقهي ، ما وجدت لديهم بضاعة تذكر . إنهم يتحصّلون على ثقافتهم من بعض الكتيبات  يتعامون عن رؤية البرامج التي طرحها مفكرو الإسلام لرؤية الإسلام لمناحي الحياة ، في حين لم يقدم جلهم  وأتباعهم حلولا يمكن أن ننظر إليها بإكبار ، وحين تعرضها عليهم يتعامون عن رؤيتها ، ويدعون إلى الأخذ بما يتفق مع مزاجهم قائلين هذا ما نقتنع به ، أو يقولون بأنك تفسر النصوص بما يتوافق مع أهوائك ، وهى دعوة صادرة من أناس مشهود لهم بإثارة الخلافات ، ومعاداة من يخالفهم ، يحاكمون النيات بطريقة تثير القرف من منطقهم ، فأي أحد يتحدث في الدين غيرهم يعنى أنه يتطلع إلى الحكم والمتاجرة بالدين ، لأنهم لا يفهمون إلا ما لديهم من أفكار مسبقة ، يتحدثون فى الشكل ويتركون المضمون ، ومن هذا حالهم لا يجدي معهم الكلام .

وذو الوجهين منافق ، والمنافق جبان يعجبك قوله ويقنعك منطقه ، لأنه يتظاهر بأنه يحب الخير للآخرين ، وهو يخفي في نفسه ما لا يبطن ، ومتى ما تمكّن هذا الصنف من الناس  انكشفت حقيقته ، وأظهر ما كان يضمره ويخفيه من سوء .

قال بعض الحكماء : احذروا أعداء العقول ولصوص المودات إنهم السعاة والنمامون، إذا سرق اللصوص المتاع سرقوا هم المودات .

دفع إنسان رقعة إلى الصاحب بن عباد يحثه فيها على أخذ مال يتيم وكان مالاً كثيراً ، فكتب إليه على ظهرها : والنميمة قبيحة وإن كانت صحيحة ، فإن كنت أجريتها مجرى النصح فالخسارة فيها أفضل من الربح ، ومعاذ الله أن نقبل مهتوكًا في مستور ، والله أعلم بالغيب والميت رحمه الله ، والمال ثمره الله  واليتيم صبره الله ، والساعي لعنه الله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله . زار بعض السلف أخوة ، فنم له عن صديقه فقال له : يا أخي أطلت الغيبة ، وجئتني بثلاث جنايات  : بغضت إليّ أخي   وشغلت قلبي بسببه ، واتهمت نفسك الأمينة.  لذلك فإن الإسلام يكره هذا الخلق أشد الكراهية ، لأنه يخالف المروءة ويخالف أدب النفس ، ويخالف الأدب في معاملة الناس وحفظ كراماتهم ، ويقطع صلاتهم ويذهب بموداتهم ، والنميمة خلق ذميم ومهين ، لا يقدم عليه إنسانٌ يحترم نفسه ، أو يرجو لنفسه احتراماً عند الآخرين ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى أن ينقل إليه أحدٌ ما يغير قلبه على صاحب من أصحابه وكان يقول : ( لا يبلغني أحد عن أحد من أصحابي شيئاً فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر ) أبو داود والترمذي .

وأينما رأيت إنساناً يمشي بالنميمة ، وعنده غلٌ وحقد فاحكم بأن إيمانه ناقص ، لأن هذه الصفات والإيمان لا يجتمعان في قلب واحد ، لأن عاطفة المؤمن نحو إخوانه ، تتدفق بالمحبة فكيف تجد هذه الأخلاق إلى هذه العاطفة سبيلا ، قد ينال المؤمن من أخيه أذى  فيكرهه لذلك أو يعاديه انتصاراً لنفسه ، ولكن هذه العوارض لا تستمر في قلب المؤمن ، ولا تتحول إلى عداوة دفينة في القلب   وحقدٍ وغلٍ متغلغل في الصدر ، يتربص الدوائر بأخيه المؤمن ، بل يجد المسامحة والعفو أهنأ له ، وإن ناله من أخيه ما يكره من ضرٍّ وأذى ، بهذه الفضائل تتحول العداوات إلى مودات قال تعالى: { ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم } .

 

 

من أخلاق رجال أهل الجنة الوفاء

قال تعالى : { بلى من اوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين} ال عمران . إنها صفة المؤمنين الأخيار الأبرار ، والوفاء : يعني العهد وإكمال الشرط ن وفي الحديث الشريف : (أوفى الله ذمتك) أي أتمها 

ولعل اشرف مكانة للوفاء في القرآن الكريم هي أن يصف الله تبارك وتعالى ذاته القدسية بالوفاء فيقول عز من قائل في سورة التوبة : { ومن أوفى بعهده من الله } أنه لا أحد أوفى بعهده ولا اصدق في انجازه وعده من الله ، وقد نوه القرآن المجيد بسمو فضيلة الوفاء حين جعلها صفة للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فقال تعالى في سورة النجم } وإبراهيم الذي وفىّ } والقرآن الكريم يخبرنا أن الوفاء أنواع.. فهناك الوفاء بالعهد ، قال تعالى :{ والموفون بعهدهم إذا عاهدوا } الفتح10، وقال النبي صلى الله عليه وسلم (لا دين لمن لا عهد له) رواه احمد. والطبراني .

وهناك نوع من الوفاء هو الوفاء بالوعد قال تعالى :{ انه كان صادق الوعد } وهناك الوفاء بالنذر قال تعالى : { يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شره مستطيرا} . وهناك الوفاء بالكيل قال تعالى : { أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين } . وهناك الوفاء بالعقود قال تعالى :{ يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } المائدة .

وإذا انتقلنا إلى السنة المطهرة وجدنا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمجد فضيلة الوفاء ويرفع قدرها.. فهو يقول (المسلمون على شروطهم ) .  وهذا تعبير وجيز بليغ يصور ارتباط المسلمين بعهودهم.. ووقوفهم عند كلمتهم.. ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم  (عدة المؤمن دين والعدة هي الوعد). وقد روى مسلم في صحيحه أن حذيفة بن اليمان كان في مكة عقب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ثم أراد حذيفة أن يهاجر مع أبيه إلى المدينة فقبض عليهما المشركون وقالوا لهما: إنكما تريدان محمداً فقالا: ما نريد إلا المدينة. ثم أخذ المشركون عليهما  العهود والمواثيق حتى لا يقاتلا مع النبي.. وأعطى حذيفة ووالده على ذلك عهد الله وميثاقه ثم هاجرا.. وجاءت غزوة بدر فأرادا أن يشاركا فيها.. وأخبرا النبي بما أعطياه للمشركين من عهد وميثاق.. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهما (انصرفا، نفي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم) ولذلك فان احترام الكلمة والوعد هي من صفة المؤمنين لأن المنافق ليس له كلمة أو وعد يحترمه ومن لا يحترم وعده وكلمته فانه لا يستحق الاحترام ، وما أجمل أن يكون الإنسان صادق الوعد غبر كاذب .  أتى شابّان إلى الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان في المجلس وهما يقودان رجلاً من البادية وأوقفوه أمامه ، قال عمر: ما هذا قالوا : يا أمير المؤمنين ، هذا قتل أبانا قال: أقتلت أباهم ؟ قال: نعم قتلته ! قال : كيف قتلتَه ؟ قال : دخل بجمله في أرضي ، فزجرته ، فلم ينـزجر  فأرسلت عليه حجراً ، فوقع على رأسه فمات ، قال عمر : القصاص  الإعدام ، قرار لم يكتب ، وحكم سديد لا يحتاج إلى مناقشة ، لم يسأل عمر عن أسرة هذا الرجل ، هل هو من قبيلة شريفة ؟ هل هو من أسرة قوية ؟ ما مركزه في المجتمع ؟ كل هذا لا يهم عمر - رضي الله عنه - لأنه لا يحابي أحداً في دين الله ، ولا يجامل أحدا ًعلى حساب شرع الله  ولو كان ابنه القاتل ، لاقتص منه  قال الرجل : يا أمير المؤمنين : أسألك بالذي قامت به السماوات والأرض أن تتركني ليلة ، لأذهب إلى زوجتي وأطفالي في البادية  فأُخبِرُهم بأنك سوف تقتلني ، ثم أعود إليك ، والله ليس لهم عائل إلا الله ثم أنا ، قال عمر : من يكفلك أن تذهب إلى البادية   ثم تعود إليَّ؟ فسكت الناس جميعا ً، إنهم لا يعرفون اسمه ، ولا خيمته  ولا داره ولا قبيلته ولا منـزله ، فكيف يكفلونه ، وهي كفالة ليست على  ذمة مالية أو أرض ، إنها كفالة على الرقبة أن تُقطع بالسيف ، ومن يعترض على عمر في تطبيق شرع الله ؟ ومن يشفع عنده ؟ومن يمكن أن يُفكر في وساطة لديه ؟ فسكت الصحابة ، وعمر مُتأثر ، لأنه وقع في حيرة ، هل يُقدم على قتل هذا الرجل ، وأطفاله يموتون جوعاً هناك أو يتركه فيذهب بلا كفالة ، فيضيع دم المقتول ، وسكت الناس ، ونكّس عمر رأسه ، والتفت إلى الشابين : أتعفوان عنه ؟ قالا : لا ، من قتل أبانا لا بد أن يُقتل يا أمير المؤمنين قال عمر : من يكفل هذا أيها الناس ؟  فقام أبو ذر الغفاريّ بشيبته وزهده  وصدقه وقال: يا أمير المؤمنين ، أنا أكفله قال عمر : هو قَتْل ، قال : ولو كان قاتلا! قال: أتعرفه ؟ قال: ما أعرفه ، قال : كيف تكفله ؟ قال: رأيت فيه سِمات المؤمنين  فعلمت أنه لا يكذب ، وسيأتي إن شاء الله قال عمر : يا أبا ذرّ ، أتظن أنه لو تأخر بعد ثلاث أني تاركك! قال: الله المستعان يا أمير المؤمنين  فذهب الرجل ، وأعطاه عمر ثلاث ليال ٍ، يُهيئ فيها نفسه، ويُودع  أطفاله وأهله ، وينظر في أمرهم بعده ،ثم يأتي ، ليقتص منه لأنه قتل  وبعد ثلاث ليالٍ لم ينس عمر الموعد ، وفي العصر نادى في المدينة : الصلاة جامعة ، فجاء الشابان ، واجتمع الناس ، وأتى أبو ذر وجلس أمام عمر  قال عمر: أين الرجل ؟ قال : ما أدري يا أمير المؤمنين! وتلفَّت أبو ذر إلى الشمس ، وكأنها تمر سريعة على غير عادتها ، وسكت الصحابة واجمين   عليهم من التأثر مالا يعلمه إلا الله . صحيح أن أبا ذرّ يسكن في قلب عمر ، ولكن هذه شريعة الله  وهذا منهجه ، إنها الأحكام الربانية ، لا مجال أن يلعب بها اللاعبون ، ولا مجال في مناقشة صلاحيتها ، أو تنفيذها بحق أناس دون الآخرين ، وقبل الغروب بلحظات ، وإذا بالرجل يأتي  فكبّر عمر وكبّر المسلمون معه ، فقال عمر : أيها الرجل أما إنك لو بقيت في باديتك ، ما شعرنا بك وما عرفنا مكانك !! قال : يا أمير المؤمنين ، والله ما عليَّ منك ولكن عليَّ من الذي يعلم السرَّ وأخفى !! ها أنا يا أمير المؤمنين ، تركت أطفالي كفراخ الطير لا ماء ولا شجر في البادية ،وجئتُ لأُقتل ، وخشيت أن يقال لقد ذهب الوفاء بالعهد من الناس ، فسأل عمر بن الخطاب أبو ذر لماذا ضمنته ؟ فقال أبو ذر : خشيت أن يقال لقد ذهب الخير من الناس ، فوقف عمر وقال للشابين : ماذا تريان ؟ قالا وهما يبكيان : عفونا عنه يا أمير المؤمنين لصدقه ، وقالوا نخشى أن يقال لقد ذهب العفو من الناس ! فقال عمر : الله أكبر  ودموعه تسيل على لحيته ، جزاكما الله خيراً أيها الشابان على عفوكما وجزاك الله خيراً يا أبا ذرّ يوم فرّجت عن هذا الرجل كربته ، ، وجزاك الله خيراً أيها الرجل لصدقك ووفائك ، وجزاك الله خيراً يا أمير المؤمنين لعدلك و رحمتك .

والذي نفسي بيده ، لقد دُفِنت سعادة الإيمان والإسلام في أكفان عمر!!. أرأيتم ما أجمل العفو عند المقدرة ، إنه من أعظم الأخلاق رفعة , وهذه عبادة مهجورة , وهي من صفات الله وأسمائه الحسنى فهو سبحانه العفو القدير , أي يعفو بعد مقدرته على الأخذ بالذنب والعقوبة على المعصية . فالعفو بدون مقدرة قد يكون عجزاً وقهراً , ولكن العفو مع المقدرة والانتقام فلا شك أنه صفة عظيمة لله فيها الكمال , فهو سبحانه يحب العفو , ويحب أن يرى عبده يعفو عن الناس , وقد ربى رسوله صلى الله عليه وسلم على ذلك الخلق العظيم فقال الله لرسوله : { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} الأعراف 199 ويقول سبحانه وتعالى :{ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ }  الشورى  40 .

 

               واجب الآباء تجاه الأبناء                                

 إن الأبناء بحاجة إلى تربية وتوجيه ، على أساس الإيمان بالله ، والتمسك بتعاليم الدين وقيمه  وذلك لا  يتحقق بكثرة الكلام ، ولا بشدَّة التحذير والإنذار ، إنما بالقدوة الصالحة المؤمنة  التي تقرن القول بالعمل ، لأن الناشئ يقلد الكبار ببراعة وإتقان . وأنشدوا :

وينشئ ناشئ الفتيان فينا   على ما كان عوده أبوه

وذكر ابن القيم في تحفة الودود بهذا الصدد فقال:  "من أهمل تعليم ولده ما ينفعه ، وتركه سُدى فقد أساء إليه غاية الإساءة ، وأكثر الأولاد ، إنما جاء فسادهم من قبل الآباء ، وإهمالهم لهم ، وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه ، فأضاعوهم صغارا  فلم ينتفعوا هم بأنفسهم ، ولم ينفعوا آبائهم كبارا " . 

إن محاسبة الأبوين للأولاد على تصرفاتهم الخاطئة  ضروري للغاية ، وعليهم أن يحاسبا أولادهم على تصرفاتهم الشاذة ، أو السهر خارج البيت إلى وقت متأخر من الليل ، في أماكن مشبوهة أو مع رفاق السوء . وعليهم وضع الأمور في نصابها  وإلا يعتبران مقصران في صميم واجباتهما .

إن التربية السليمة ، تؤدي إلى يناء مجتمع قوي سليم معافى ، مما جعلها بالنسبة لنا قضية حياة أو ممات في وقتٍ شاع فيه الفساد والانحلال الخلفي والترف .

أما أن يكون الأبوان بواد ، وتعاليم الدين بواد  ومسؤولية توجيه الأبناء في واد آخر ، بحيث لا يؤدون واجباتهم كما ينبغي ، في التربية والتوجيه  فإن ذلك يتنافى مع تعاليم ديننا . وصدق رسول الله بقوله صلى الله عليه وسلم : (من خاف على عقبه وعقب عقبه فليتق الله) . إن الآباء الذين يريدون أن يفرضوا سيطرتهم على أولادهم ، بعد أن شبوا عن الطوق ، دون أن يكلفوا أنفسهم عناء تربيتهم تربية صالحة   فأخفقوا منذ طفولتهم ، في فرض سيطرتهم عليهم كل الإخفاق ، كما نسمع ونشاهد هذه الأيام  حتى أصبحت السيطرة بيد الأولاد على الأبوين  لا بيد الأبوين على الأولاد ، مما أدى إلى تصدع بناء الأسرة ، وحلول الكوارث الأخلاقية  وإرخاء العنان طوعاً أو كرها .

إن ولد اليوم هو رجل المستقبل ، فيجب أن يكون الهدف من تربيته ، بناء المثل العليا في نفسه حتى يتسنى له عند ما يحين الوقت المناسب ، أن يؤثر في الآخرين إلى ما فيه الخير .  وإن غرس المثل العليا في الطفل ، يجب أن يتم في البيت ، وإن التربية الأساسية ، يجب أن تبدأ هناك ، وما نسميه اليوم من انحرافات الأحداث ، سببه إهمال الأبوين تربية الطفل ، الذي يجب أن يربى تربية ، تجعله يميز بين الخطأ والصواب ، ويتجلى ذلك بالصدق والاستقامة وحب الخير ، وطاعة الوالدين والاستماع لتوجيهاتهما ، والإحسان لهما والبر بهما تقديراً لجهودهما .

ومن هنا جعل الله الإساءة إليهما من أكبر الكبائر  فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قلنا بلى يا رسول الله فقال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين) . وقال ( كلُّ الذنوب يؤخِّر الله ما شاء منها ، إلا عقوق الوالدين فإن الله يُعَجِّل لصاحبه في الحياة الدنيا قبل الممات ) إن تربية الأولاد الدينية والخلقية ، تعتمد على العقيدة السليمة ، وقد ضرب القرآن لذلك مثلا فقال تعالى في وصية لقمان : ﴿ يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ﴾ .

ثم الأمر والتدريب على العبادات , والأخلاق الفاضلة , والأعمال الصالحة ، ليشب عليها الأولاد فلا تشق عليهم إذا كبروا . قال تعالى: ﴿ وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها ﴾ . وقال عليه السلام (مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع ، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر  وفرقوا بينهم في المضاجع ) .

كما نبه الإسلام إلى مراعاة الأولاد في سن المراهقة . فقال عليه السلام ( إلزموا أولادكم وأحسنوا أدبهم ) رواه ابن ماجة . وقد يضيق صدر بعض الآباء من سلوك أبناءهم المراهقين ، فينهالون عليهم باللوم والتسفيه والتجريح ، أو العقاب البدني ، الذي ينهى عنه الدين ، ويأمر الآباء أن يتقوا الله في أفلاذ أكبادهم ، وأن يقوموا على تربيتهم بحسن الأدب والخلق الطيب ، والوقوف إلى جانبهم في هذه الفترة الحرجة ، ليأخذوا بأيديهم ، حتى يعبروها بسلام .

قال بعض الحكماء :" لاعب ولدك سبعاً وأدبه سبعاً ، وصاحبه سبعاً ، ثم اترك حبله على غاربه" ذلك تأكيداً لمصاحبه الأب لابنه ، وتأكيداً لمعنى حديث رسول الله إلزموا أولادكم .  ومن واجب الآباء العدل بين الأولاد ، لحديث النعمان بن بشير قال : أعطاني أبي عطية ولم ترض أمي حتى تُشهد عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فانطلق أبي إلى رسول الله وقال له : إني نحلت ابني هذا غلاما ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أكلهم له مثل هذا ؟ قال : لا فقال رسول الله : فلا تشهدني إذن ، فإني لا أشهد على جور ، يا بشير أتحب أن يكون لك في البر سواء ؟ قال : نعم قال : إذن فاذهب فارجعه ، إن لبنيك عليك من الحق ، أن تعدل بينهم ، كما أن لك من الحق عليهم ، أن يبروك ، ثم قال : اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم ) أخرجه البخاري وصححه  .

وقد يوسوس الشيطان للآباء ، بأنهم أحرار في مالهم ، وأن من حقهم أن يميِّزوا هذا عن ذاك من الأولاد ، وما دروا أن الله وضع لهذه الحرية حدودا ، ومن تعدّ حدود الله فقد ظلم نفسه .

إن التفرقة بين الأولاد ، هي مبدأ الفرقة والشقاق والعداوة بينهم ، وقد تمتد إلى ذرياتهم حتى أننا نلاحظ أن التفرقة حتى بالكلمة ، تزرع الحقد بين الأخوة ، فماذا يكون الحال حين تكون التفرقة بالمال . إن كثيراً من الأسر تتهدم ، ويتحول الأخوة الأحباء إلى أعداء ألداء ، فلو فكر الآباء فيما ينتظرون من عذاب الله نتيجة جورهم  وظلمهم لبعض أولادهم ، لما اشتروا عذاب الله ببعض مال يتمتع به ولد من الأولاد في دنياه  بينما يتلظى الأب بعد موته في جهنم . عن أبي هريرة قال: ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أعينوا أولادكم على البر بالإحسان إليهم ، وعدم التضييق عليهم والتسوية بينهم في العطية ، من شاء استخرج العقوق من ولده ) رواه الطبراني في الأوسط .

ومن أخطر أنواع التفرقة بين الذكور والإناث من الأولاد ، ما نراه من الجهلة من الآباء ، الذين يحرمون بناتهم حقهنَّ في الميراث ، ويفرقون في المعاملة بين الذكور والإناث ، وهذا ضلال مبين وعلى الآباء تعويد الأبناء ارتياد المساجد ، فهي دور العبادة ، يتعلم فيها المرء قواعد العقائد وفرائض العبادات ، ومكارم الأخلاق ، ومحاسن الآداب ، وطريق المعاملات . ففي الحديث القدسي ( إن بيوتي في أرضي المساجد ، وإن زواري فيها هم عُمّارها ، فطوبى لمن تطهر في بيته ، ثم زارني في بيتي فحق على المزور أن يكرم زائره ) .

وعلى الآباء أن يكونوا خير قدوة للأبناء ، وعند ما نشكوا من مظاهر الانحراف ، نلوم الأبناء بالزجر والوعيد ، وهيهات أن يجدي ذلك ، إذا افتقد الأبناء القدوة الصالحة ، في الآباء والموجهين  وعلى الآباء أن يُعَلِّموا أولادهم حسن اختيار الأصدقاء . قال عليه السلام ( المرء على دينه خليلة فلينظر أحدكم من يخالل ) . إن التهاون في اختيار الأصدقاء ، ومخالطة السفهاء وأصحاب الريب ، والمفرطين في حق الله الذين لا يؤدون ما فرضه الله عليهم من عبادات ، ولا يهمهم الخوض في إعراض الناس ، واكل الأموال بالباطل مما يؤدي إلى انحراف الأبناء ، حيث يسير على منهجهم وطريقهم ، ويكتسب صفاتهم .

 من أجل ذلك حذرنا الله من هؤلاء وامثالهم فقال تعالى :﴿ ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ، وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون هود 113 . وعلى الآباء أن ينهوا أبنائهم عن التقليد الأعمى  سواء على مستوى الأفراد أو الدول في كثير من مظاهر الحياة ، والعادات والتقاليد ، بدعوى التحضر والمدنية ، ناسين أن ذلك تبعية بغيضة ذمها الإسلام وسخر منها ، حتى أن الله شبه هؤلاء المقلدين بالحيوانات ، التي لا إرادة لها ولا إدراك .  قال تعالى : ﴿ وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آبائنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون . ومثل الذين كفروا كمثل الذي يَنْعقُ بما لا يسمع إلا دُعآءً وندآءً  صمٌ بكمٌ عميٌ فهم لا يعقلون البقرة 171 .  أما التقليد فيما برعوا من علوم وصناعة ، فهذا مأمورٌ به ، لما فيه صالح الأمة ، والرسول صلى الله عليه وسلم يوجهنا إلى أخذ العلم أينما وجد حيث يقول (الحكمة ضالة المؤمن ، أنى وجدها فهو أحق بها)  فاتقوا الله في أولادكم وأنفسكم ، فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته .       

 

 

 

 

 

 

 

                                                                 

خلق الوفاء

نتكلم عن الوفاء لتفشي وباءُ الجحود في قلوبِ الكثيرين ، الذين لا جميل عندَهم  يُذكَر ، ولا معروف لديهم يُحفَظ، ولا تواصُل معهم يستمر، نتكلم عن خصلة كريمة من خِصال الإيمان، وخُلُق عظيم من أخلاق الإسلام     إنه خُلق الوفاء بالعهد، في زمن عزَّ عند الناس صدق الوعود ، والوفاء بالعهود ، متناسين قول الله تعالى:﴿ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا ﴾الإسراء 34 فالوفاء بالعهد من صفات الأنبياء ، ومن علامات الصادقين المتَّقين ، إذ كيف يطمع في الجنة ، وصحبة الأنبياء والصادقين والمتقين ، من لم يتخلَّق بهذا الخُلق ، فكم من المسلمين من يحدِّث وهو كاذب! ومن يَعِد وهو خائن! ، لقد سجل التاريخ المواقف الخالدة التي تدل على صدق الالتزام بالوفاء   أتى شابَّان إلى الخليفة عمر بن الخطاب ، وهما يقودان رجلاً من البادية ، فأوقفوه أمامه، قال عمر: ما هذا؟ قالا: يا أمير المؤمنين، هذا قتل أبانا، قال: أقتلت أباهم؟ قال: نعم قتلته، قال: كيف قتلتَه؟ قال: دخل بجمله في أرضي  فزجرته فلم ينزجر، فأرسلت عليه ‏حجرًا وقع على رأسه فمات، قال عمر: النفس بالنفس  لا بد أن تُقتل ، كما قتلت أباهما، قال الرجل: يا أمير المؤمنين، أسألك بالذي رفع السماء بلا عمد ، ‏أن تتركني ليلة ، لأذهب إلى زوجتي وأطفالي في البادية، فأُخبِرُهم ‏بأنك ‏سوف تقتلني ثم أعود إليك، والله ليس لهم عائلٌ إلا الله ، ثم أنا، قال عمر: مَن يكفلك أن تذهب إلى البادية ثم تعود إليَّ؟ ونكَّس عمر ‏رأسه والتفت إلى الشابَّين: أتعفوان عنه؟ قالا: لا  مَن قتل أبانا ، لا بد أن يُقتل يا أمير المؤمنين  قال عمر: مَن يكفل هذا أيها الناس؟ فقام أبو ذر الغفاريّ ، وقال: يا أمير المؤمنين ! أنا أكفله، قال عمر: هو قَتْل، قال: ولو كان قاتلاً! قال: أتعرفه؟ قال: ما أعرفه، قال: كيف تكفله؟ قال: رأيت فيه سِمات المؤمنين   فعلمت أنه لا يكذب، وسَيَفِي بعهده إن شاء الله، قال عمر: يا أبا ذر، أتظن أنه لو تأخَّر بعد ثلاث أني تاركك؟ قال: الله المستعان يا أمير المؤمنين ، فذهب الرجل ، وأعطاه عمر ثلاث ليالٍ، يُهيِّئ فيها نفسه، ويُودع ‏أطفاله وأهله، وبعد ثلاث ليالٍ ،لم ينسَ عمر الموعد  وفي العصر ‏نادى ‏في المدينة: الصلاة جامعة  فجاء الشابَّان، واجتمع الناس، وأتى أبو ‏ذر ‏وجلس أمام عمر، قال عمر: أين الرجل؟ قال: ما أدري يا أمير المؤمنين! وتلفَّت أبو ذر إلى الشمس، وكأنها تمرُّ سريعة على غير عادتها  وقبل الغروب بلحظات، إذا بالرجل يأتي، فكبَّر عمر ، وكبَّر المسلمون‏ معه، فقال عمر: أيها الرجل ، أما إنك لو بقيت في باديتك ، ما شعرنا بك ، ‏وما عرفنا مكانك، قال: يا أمير المؤمنين، والله ما عليَّ منك ، ولكن عليَّ من الذي يعلم السرَّ وأخفى ، ها أنا يا أمير المؤمنين، تركت أطفالي كفراخ‏ الطير ، لا ماء ولا شجر في البادية، وجئتُ لأُقتل، وخشيت أن يُقال لقد ذهب الوفاء بالعهد من الناس  فسأل عمر بن الخطاب أبا ذر: لماذا ضمنته؟ فقال أبو ذر: خشيت أن يُقال: لقد ذهب الخير من الناس، فوقف عمر ، وقال للشابَّين: ماذا تَرَيَان؟ قالا : وهما يبكيان: عفونا عنه يا أمير المؤمنين ، لصدقه ووفائه بالعهد، وقالوا: نخشى أن يُقال: لقد ذهب العفو من الناس  قال عمر: الله أكبر، ودموعه تسيل على لحيته . ليت المسلمين اليوم يتخلَّقون بهذا الخلق ؛ كي يفوزوا بخير الدنيا والآخرة ، والعجيب أن ذلك في الناس قليل ، وبسبب قلته فيهم قال الله تعالى: ﴿وَما وَجَدْنَا لِأَكْثرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ ﴾ الأعراف 102 . إن الوفاء بالعهود من أعظم أخلاق أهل الإيمان. فعن أبي هريرة أن رسول الله ع   ذكر: ( أن رجلاً من بني إسرائيل ، سأل بعض بني إسرائيل ، أن يسلفه ألف دينار، قال: ائتني بشهداء أُشهِدهم، قال: كفى بالله شهيدًا قال: ائتني بكفيل، قال: كفى بالله كفيلاً  قال: صدقتَ، فدفعها إليه إلى أجل مسمًّى  فخرج في البحر ، فقضى حاجته، ثم التمس مَرْكبًا يَقْدَمُ عليه ، للأجَل الذي أجَّله، فلم يجد مركبًا، فأخذ خشبةً فنقرها، فأدخَلَ فيها ألف دينار، وصحيفةً معها إلى صاحبها، ثم زجج موضعها، ثم أتى بها البحر، ثم قال: اللهم إنك قد علمتَ ، أني استسلفت فلانًا ألف دينار  فسألني كفيلاً، فقلت: كفى بالله كفيلاً، فرضي بك، وسألني شهيدًا، فقلت: كفى بالله شهيدًا، فرضي بك، وإني قد جهدت أن أجد مركبًا ، أبعث إليه بالذي أعطاني، فلم أجد مركبًا، وإني استودعتكها، فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه، ثم انصرف، وهو في ذلك يطلب مركبًا يخرج إلى بلده، فخرج الرجل الذي كان أسلفه ، ينظر لعل مركبًا يجيئه بماله، فإذا بالخشبة التي فيها المال، فأخذها لأهله حطبًا  فلما كسرها ، وجد المال والصحيفة، ثم قدم الرجل ، الذي كان تسلف منه، فأتاه بألف دينار، وقال: والله ما زلت جاهدًا في طلب مركب لآتيك بمالك، فما وجدت مركبًا قبل الذي أتيت فيه، قال: هل كنت بعثت إليَّ بشيء؟ قال: ألم أخبرك أني لم أجد مركبًا قبل هذا الذي جئت فيه؟! قال: فإن الله قد أدى عنك الذي بعثت به في الخشبة، فانصرِفْ بألفك راشدًا ) رواه البخاري .  فلنكُن أوفياءَ لمن عرفْناهم، ولنتناسَ جراحَ مَن أخطؤوا في حقِّنا في يومٍ ما؛ تخليدًا لخُلق الوفاء  وتجديدًا لنيَّة الصَّفاء ، يقال ان ملكا أمر بتربية عشرة كلاب وحشية ، لكي يرمي لها كل وزير يخطئ ، فتنهشه وتأكله بشـراهة ، وفي احدى الأيام ، قام أحد الوزراء بإعطاء رأي خاطئ لم يعجب الملك، فامر برميه للكلاب ، فقال له الوزير ، خدمتك عشر سنوات ، وتعمل بي هكذا ، أمهلني عشرة أيام ، قبل تنفيذ هذا الحكم ، فقال له الملك ، لك ذلك ، فذهب الوزير الى حارس الكلاب ، وقال له أريد ان أخدم الكلاب ، مدة عشرة أيام ، فقال له الحارس : وماذا تستفيد ، فقال له الوزير سوف أخبرك بالأمر لاحقاً ، فقال له الحارس : لك ذلك ، فقام الوزير بالاعتناء بالكلاب  واطعامها وتغسيلها ، وتوفير جميع سبل الراحة لها ، وبعد مرور عشرة أيام ، جاء تنفيذ الحكم بالوزير ، وزج به في السجن مع الكلاب ، والحاشية والملك ينظرون اليه ، فاستغرب الملك     عندما جاءت الكلاب تنبح تحت قدميه ، فقال له الملك  ،ماذا فعلت للكلاب ، فقال له الوزير : خدمت هذه الكلاب عشرة أيام ، فلم تنس هذه الخدمة ، وخدمتك عشر سنوات فنسيتها ،فطأطأ الملك رأسه ، وأمر بالعفو عنه"  إذا كان هذا الوفاء من الحيوان، فلماذا لا يكون هذا الوفاء من الإنسان؟ مع مَن أحسن إليه   ومدّ إليه يدًا، وصنع إليه معروفًا، بهذا علمنا الوفاء ، ألا ننكر العشرة ، بسبب موقف عابر  ولا نمحوا الماضي الجميل ، مقابل موقف لم يعجب   حتى لا نفقد  أعز الناس و أحلى الذكريات .

إن الوفاء بالعهد يثمر الكثير من خصال الخير فهو يثمر قوة الثقة، وإذا ما أنست من وفاء إنسان ، قويت ثقتك فيه ، وارتاحت نفسك إليه، إن الوفاء يثمر الاطمئنان والأمانة، ويثمر النجدة والشهامة ، والمجتمع الذي يسوده الوفاء مجتمع متين البناء، تظلّله روح المودة والصفاء ويشدّ أزره التعاون البناء، ومن ثمراته أنه قد ينجي من الهلاك: ويبدو ذلك فيما سجّله التاريخ من قصة الرجل الطائي مع النعمان بن المنذر، وكان ملكاً على الحيرة بالعراق  وملخصها: أن النعمان بن المنذر  ،كان له يومان، يوم بؤس ، لا يلقى فيه أحدًا إلا قتله  ويوم سرور ، لا يلقى فيه احدًا إلا منحه الكثير من عطاياه، وذات يوم خرج رجل من طيئ يصطاد ، ليطعم أولاده؛ فأكرمه الله في آخر النهار بأرنب ، وأثناء عودته لقيه النعمانُ بن المنذر ، وكان في يوم بؤسه؛ فقال لابد من قتلك؛ فقال الطائي : أصلح الله الملك ، لقد تركت أولادي ، يكاد الجوع يقتلهم؛ فلو أذنت لي حتى أعود إليهم فأطعمهم ، فأوصي بهم ثم آتيك في اليوم الثالث ، لتفعل بي ما تشاء   فرقّ الملك لحاله وقال: لا آذن لك حتى يضمنك ضامن ، فنظر الرجل فيمن حوله فوقعت عينه على رجل يعرفه ، فقال له: يا شريك بن عمرو: هل من الموت محالة؟ اضمني عند الملك  ، حتى أطعم أولادي وآتيك في اليوم الثالث ، فقال شريك: أصلح الله الملك، هو عليّ، وانطلق الرجل إلى أهله   وجاء اليوم الثالث  وأحضر الملك شريك بن عمرو ، وقال له: أنت ضامن والضامن غارم  وإذا أخل الطائي بوعده ، فلابد من قتلك.

 فقال له شريك: ليس لك عليَّ من سبيل حتى يمضي النهار، وفي آخر ذلك اليوم الثالث   هيأه للقتل، فقال شريك: أمهلني قليلاً فإنى أرى شبحًا من بعيد ، لعله صاحبي، ثم أسفر الشبح عن الطائي ، وقد حضر، فتعجب الملك لذلك، ووجه إليهما هذين السؤالين فقال: يا شريك بن عمرو، ما الذي حملك على أن تضمن الرجل ، وربما أخلف وعده فتقتل به؟ قال شريك: إنما فعلت ذلك ، حتى لا يقال ضاعت المروءة من الناس، قال الملك: وأنت أيها الطائي: لقد نجوت بنفسك ، فما الذي دعاك إلى أن تحضر لتقتل ؟ قال الطائي: أصلح الله الملك ، إنما جئت أسلم رقبتي للقتل حتى لا يقال : ضاع الوفاء من الناس؛ فقال الملك في دهشة وعجب: والله لا أكون ألأم الثلاثة ، قد عفوت عنك ، حتى لا يقال: ضاع العفو من الناس . قال تعالى : ﴿ ومن عفا وأصلح فأجره على الله ﴾ .

 

 

 

 

 

الحِلم سيد الأخلاق

 الحُلْمُ : ما يراه النائم في نومه ، أما الحِلْمُ فهو العقْل ، والحِلم موضوعنا ، وهو خُلُقٌ عظيم من أخلاق الإسلام، والحِلم : ضبطُ النفس عند الغضب، وكفُّها عن مقابلة الإساءة بالإساءة، مع تحكيم المسلم دينَه وعقله عند إيذاء الآخرين له، مع قدرته على ردِّ الإيذاء بمثله، إنه ثباتك أمام من ينهرك , وثقتك بنفسك قِبَلَ من يستصغرك , وسلاحك لمن أرد أن يقتلك ، والحِلم هو كظمك الغيظ   وعفوك عن المخطئ , وصبرك على الإساءة   قال تعالى : ﴿  والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين ﴾ آل عمران134 . بل هو عنوان الصفح والعفو قال تعالى : ﴿ خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ﴾ الأعراف 119. وهو سيّد الأخلاق ، وعلامة الصابرين المحتسبين , وصفةٌ محبوبةٌ لرب العالمين ، وهو أساس الرفق , قال صلى الله عليه وسلم : ( إن الرفق لا يكون في شيءٍ إلاّ زانه , ولا يُنـزع من شيءٍ إلاّ شانه ) رواه مسلم . وهو أصل الرفعة والأنفة قال الشافعي : " ولو لم تكن نفسي عليَّ عزيزةٌ  لمكّنتها من كل نذلٍ تحاربه " إنه طبع الكرماء ، وترجمان الأوفياء ، وقد قيل : من عادة الكريم إذا قَدِرَ غفر , وإذا رأى زلةً ستر ، والحليم هو الذي لا يعشق الانتقام ، ولا يحمل في قلبه الحقد والضغينة , ولا يأبه بهفوات الساقطين من الناس ، وقد قيل : ليس من عادة الكرماء الغضب والانتقام ، وقيل " الحليم عليم  والسفيه كليم "وقال الشافعي :

يخاطبني السفيه بكل قبحٍ   فأكره أن أكون له مجيبا

يزيد سفاهةً فأزيد حلماً   كعودٍ زاده الإحراق  طيبا

وهذا لا يعني أن يرضى الإنسان بالذل أو يقبل الهوان ، وإنما هو الترفع عن شتم الناس  وتنـزيه النفس عن سبهم ، والحلم عمود الأخلاق وذروة سنامها،به تستكمل الفضائل،وتحصل المعالي ، وما أحوجنا اليوم إلى دخول مدرسة الحلم ، بعد أن أصبح الغضب ، يعكر صفو الحياة ، وغاب صوت العقل عن المجتمعات الإسلامية، وكان الرسول  صلى الله عليه وسلم أحلم الناس، فلا يضيق صدره بما يصدر عن بعض المسلمين من أخطاء ، فقد كان صلى الله عليه وسلم يغضب للحق إذا انتهكت حرماته ، وإذا غضب فلا يقوم لغضبه شيء ، حتى يهدم الباطل وينتهي ، وفيما عدا ذلك فهو أحلم الناس عن جاهل لا يعرف أدب الخطاب ، أو مسيء يمكن إصلاحه ، أو منافق يتظاهر بغير ما يبطن ، قال صلى الله عليه وسلم  لأحد الصحابة : ( إِنَّ فِيكَ خَلَّتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ الْحِلْمُ وَالأَنَاةُ ) وفي الأثر: إنما العلم بالتعلم و إنما الحلم بالتحلم و من يتحر الخير يعطه ومن يتق الشر يوقه "  يُحْكَى أن رجلا آذى أبا بكر الصديق  بكلام في أثناء جلوسه مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فصمت أبو بكر ، ثم شتمه الرجل مرة ثانية ، فسكت أبو بكر، ولما شتمه للمرة الثالثة ، رد عليه أبو بكر ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم من المجلس ، فأدركه أبو بكر وقال له: أغضبتَ على يا رسول الله؟ فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أن ملكًا من السماء نزل يرد عنه، ويدافع عنه، فلما رد هو انصرف الملك وقعد الشيطان. ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم ليجلس في مجلس فيه الشيطان "، وما أحسن توطين النفس على لزوم الحلم ، والعفو عن الناس   إذ لا سبب لتسكين الإساءة ، أحسن من الإحسان، ولا سبب لنماء الإساءة وتهييجها أشد من الاستعمال بمثلها ، وأغنى الناس عن الحقد ، من عظم عن المجازاة، وأجل الناس مرتبة ، من صد الجهل بالحلم، وما الفضل إلا لمن يحسن إلى من أساء إليه ، فأما مجازاة الإحسان إحساناً ، فهو المساواة في الأخلاق وهناك فرق بين حلم الذل والعجز والمهانة  وبين حلم الاقتدار والعزة والشرف :

كُلُّ حِلمٍ أَتى بِغَيرِ اِقتِدارٍ   حُجَّةٌ لاجِئٌ إِلَيها اللِئامُ

بلغ عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أن جماعة من رعيته اشتكوا من عماله؛ فأمرهم أن يوافوه ، فلما أتوه ، قام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، أيتها الرعية، إن لنا عليكم حقاً: النصيحة بالغيب ، والمعاونة على الخير، أيتها الرعاة ، إن للرعية عليكم حقاً فاعلموا أنه لا شيء أحب إلى الله ، ولا أعز من حلم إمام ورِفْقه، وليس جهل أبغض إلى الله ، ولا أغم ، من جهل إمام وخرقه ". وقال رضي الله عنه: " تعلموا العلم وتعلموا للعلم السكينة والحلم " ، قد يكثر مالك وولدك ، ولكن الخير أن يكثر علمك   ويعظم حلمك ، وأن لا تباهي الناس بعبادة الله، وإذا أحسنت حمدت الله تعالى  وإذا أسأت استغفرت الله تعالى.  وقال معاوية بن أبي سفيان : لا يبلغ العبد مبلغ الرأي ، حتى يغلب حلمه جهله، وصبره شهوته، ولا يبلغ ذلك إلا بقوة العلم ، وسأل عمرو بن الأهتم: أي الرجال أشجع؟ قال: من رد جهله بحلمه، قال فأي الرجال أسخى؟ قال من بذل دنياه لصالح دينه.  وقال أكثم بن صيفي: دعامة العقل الحلم  وجماع الأمر الصبر. وقيل : ليس الحليم من ظلم فحلم ـ حتى إذا قدر انتقم، ولكن الحليم ، من ظلم فحلم ، حتى إذا قدر عفا.  قال أبو الدرداء :  لرجل أسمعه كلاما: يا هذا لا تغرقن في سبنا، ودع للصلح موضعا، فإنا لا نكافئ من عصى الله فينا ، بأكثر من أن نطيع الله عز وجل فيه. حكي عن الأحنف بن قيس أنه قال: ما عاداني أحد قط ، إلا أخذت في أمره بإحدى ثلاث خصال: إن كان أعلى مني عرفت له قدره، وإن كان دوني رفعت قدري عنه، وإن كان نظيري تفضلت عليه . وأنشدوا :  

وللكف عن شتم اللئيم تكرماً    أضر له من شتمه حين يشتم

والحلم صفة تكسب المرء محبة الله ورضوانه، ودليل كمال العقل وسعة الصدر  وامتلاك النفس، وفيه إعانة الناس لصاحبه ووقوفهم في صفه، وفي الحلم تآلف القلوب ونشر المحبة بين الناس ، ولقد أحسن 

متاركة اللئيم بلا جواب    أشد عَلَيْهِ من مر العذاب

اشتهر رجال على مر التاريخ بالحلم حتى عجب الناس من حلمهم، كان من مشاهيرهم معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه ، وهو الذي كان يقول:" لا يبلغ العبد مبلغ الرأي حتى يغلب حلمه جهله، وصبره شهوته، ولا يبلغ ذلك ، إلا بقوة العلم " كان لعبد الله بن الزبير مزرعة في المدينة ، مجاورة لمزرعة يملكها معاوية بن أبي سفيان , وفي ذات يوم دخل عمّال مزرعة معاوية ، إلى مزرعة ابن الزبير  فغضب ابن الزبير وكتب لمعاوية في دمشق  وقد كان بينهما عداوة : "من عبد الله ابن الزبير ، إلى معاوية ابن هند آكلة الأكباد ، أما بعد :" فإن عمالك دخلوا إلى مزرعتي  فأمرهم بالخروج منها , أو فو الذي لا إله إلا هو ليكوننّ لي معك شأن ، فوصلت الرسالة لمعاوية وكان من أحلم الناس فقرأها , ثم قال لإبنه يزيد :  ما رأيك في ابن الزبير أرسل لي يهددني ؟   فقال له ابنه يزيد : أرسل له جيشاً أوله عنده وآخره عندك يأتيك برأسه ، فقال معاوية:  بل خيرٌ من ذلك زكاة وأقرب رحما ، فكتب رسالة إلى عبد الله بن الزبير يقول فيها : من معاوية بن أبي سفيان إلى عبد الله بن الزبير ابن أسماء ذات النطاقين أما بعد : فو الله لو كانت الدنيا بيني وبينك لسلمتها إليك ، ولو كانت مزرعتي من المدينة إلى دمشق ، لدفعتها إليك ، فإذا وصلك كتابي هذا فخذ مزرعتي إلى مزرعتك ، وعمالي إلى عمالك ، فإن جنّة الله عرضها السموات والأرض " فلما قرأ ابن الزبير الرسالة بكى حتى بلها بالدموع   وسافر إلى معاوية في دمشق وقبّل رأسه وقال له : "لا أعدمك الله حلماً , أحلك في قريش هذا المحل". هذه هي مواطن ضبط النفس ، إزاء مثيرات الغضب  وهي من أشرف السجايا ، وأعز الخصال ودليل سمو النفس، وكرم الأخلاق، وسبب المودة والإعزاز وقد مدح الله الحكماء والكاظمين الغيظ، وأثنى عليهم في محكم كتابه الكريم ، وخص الله بالحلم الكرماء  الذين جعلهم أهلها، فخفف عليهم حملها وسوغهم فضلها، وحظرها على السفلة  لصغر أقدارهم عنها، وبعد طباعهم منها ونفورها منهم. قال علي -رضي الله عنه-: ليس الخير أن يكثر مالك وولدك  ولكن الخير أن يكثر علمك ويعظم حلمك"

 

 

 

آداب المجالس

عندما يجلس الأهل والأصحاب والأصدقاء والأحباب ، يتكلمون ويستأنسون ، وقد كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يجلسون  للحديث والمؤانسة ، أخرج البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: ( إِيَاكُمْ وَالجُلُوسَ عَلَى الطُّرُقَاتِ، فَقَالُوا: مَا لَنَا بُدٌّ إِنَّمَا هِيَ مَجَالِسُنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا، قَالَ: فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلَّا المَجَالِسَ، فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهَا قَالُوا: وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ؟ قَالَ: غَضُّ البَصَرِ وَكَفُّ الأَذَى، وَرَدُّ السَّلاَمِ، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيٌ عَنِ المُنْكَرِ ) ، وإذا كان لا بد من مخالطة الناس في المجالس ، والاجتماع بهم فإنه ينبغي مراعاة آدابها ، التي شرعها الإسلام لتسلم من الآفات، وتكون غنمًا لا غرما ، قيل للإمام سفيان بن عيينة : " مَا ماء الْعَيْش؟ قَالَ لِقَاء الإخوان "وقال أكثم بن صيفي حكيم العرب : " لِقَاءُ الْأَحِبَّةِ مَسْلَاةٌ لِلْهَمِّ " وقال الإمام الشافعي  ":لَيْسَ سُرُورٌ يَعْدِلُ صُحْبَةَ الْإِخْوَانِ ، وَلَا غَمٌّ يَعْدِلُ فِرَاقَهُمْ " قد يكون الجلساء صالحين أو فاسدين ؛ أما مجالسة الصالحين فهي خير وبركة ، وأما الفاسدين ، فهي حسرة وندامة ؛ عن أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء ،كحامل المسك ، ونافخ الكير، فحامل المسك ، إما أن يحذيك أي يجود عليك وإما أن تبتاع منه ، وإما أن تجد منه ريحا طيبة ، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك  وإما أن تجد منه ريحا منتنة) ، فهنيئاً لمن كان جلساؤه صالحين مصلحين ، يستفيد منهم في دينه ودنياه؛ يعلمونه إذا جهل، ويذكرونه إذا نسي، ينبهونه إذا غفل، ويحثونه على كل خير، ويحذرونه من كل شر، وبعداً وسحقاً لمن كان جلساؤه فاسدين ، يأمرونه بالمنكر وينهونه عن المعروف ، يشجعونه على كل رذيلة، ويثبطونه عن كل فضيلة، إنها الخسارة لأولئك الجلساء ، يوم العرض على الله         ﴿ الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ﴾الزخرف 67، فلا  تُكْثِر من العتاب واللوم إذا أخطأ جليسك ، أو بدرت منه هفوة ، ومنْ مِنَّا لا تصدر منه زلة أو يقع في خطأ مع أصحابه ورفاقه، وما أحسن الصفح والتجاوز ، في مثل هذه الأمور، وما أجمل تناسيها وتغافلها ، وأكثروا من ذكر الله ،عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ما من قوم جلسوا مجلسا لم يذكروا الله فيه إلا رأوه حسرة يوم القيامة ) رواه أحمد ، واحرصوا على المصافحة في مجالسكم ، عن سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( إِنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا لَقِيَ أَخَاهُ فَأَخَذَ بِيَدِهِ تَحَاتَّتْ عَنْهُمَا ذُنُوبُهُمَا ، كَمَا يَتَحَاتُّ الْوَرَقُ الْيَابِسُ مِنَ الشَّجَرِ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ ، وَإِلا غُفِرَ لَهُمَا وَإِنْ كَانَتْ ذُنُوبُهُمَا مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ ) إسناده صحيح ورجاله كلهم ثقات كما جاء في التقريب . وإذا رأيت الرجل يحدث حديثًا عَلِمْتَه ، أو يخبر خبرًا قد سمعته ، فلا تشاركه فيه ، ولا تتعقبه عليه  فإن في ذلك خفة وشحا ، وسوء أدب وسخفًا ، ولا تتسمع على الجالسين ، عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( من استمع إلى حديث قوم ، وهم له كارهون أو يفرون منه ، صب في أذنه الآنُك يوم القيامة ، ومن صور صورة عذب ، وكلف أن ينفخ فيها ، وليس بنافخ ) رواه البخاري . 

وهذا يدل على أنَّ الاستماع لحديث الآخرين ، بغير رضاهم وإذنهم ، هو من التجسس المحرم ، الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم وحذَّر منه ، ومن صور التجسس ، التنصت على هواتف الناس ومكالماتهم، وعلى الجالس أن يحفظ لسانه ولا يقول ما يغضب الله ، ويحذر من كثرة الكلام ، إلا في الخير، عن أبي هريرة قال: قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم :( مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ ) وعلى الجالس أن الحذر من تتبع عورات الناس، عن ابْنِ عُمَرَ قَالَ صَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ  صلى الله عليه وسلم الْمِنْبَرَ فَنَادَى بِصَوْتٍ رَفِيعٍ فَقَالَ: ( يَا مَعْشَرَ مَنْ قَدْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُفْضِ الإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ لاَ تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ وَلاَ تُعَيِّرُوهُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ وَمَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ ) ، وإذا رأى أمرًا منكرًا، أو دار النقاش حول قضية تخالف الدين ، أو يستهزأ فيه بآيات الله؟ فليفارق المجلس، لقوله تعالى : ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ ولأن ذلك متقرر في قوله تعالى: ﴿ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً ﴾ النساء40، قال القرطبي عند قوله : ﴿ إِنَّكُمْ إِذاً مثْلُهُمْ ﴾ : فكل من جلس في مجلس معصية، ولم ينكر عليهم يكون معهم في الوزر سواء، وينبغي أن ينكر عليهم ؛ فإن لم يقدر على النكير عليهم فينبغي أن يقوم عنهم ، حتى لا يكون ممن عنتهم هذه الآية ، وقد عم في المجالس الاشتغال بالدنيا والحديث عنها ، حتى قست القلوب ، التي توعدها الله  فقال تعالى : ﴿ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ ﴾الزمر22، هذا إذا كان الكلام مباحا  فكيف إذا كانت المجالس مجالس غيبة ونميمة ونهش لأعراض الناس ، واكل لحومهم قال تعالى : ﴿ وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً ﴾  الحجرات 12   وكيف إذا كانت مجالس كذب وبهتان وسخرية ، وتنابز بالألقاب والله يقول : ﴿ لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ ﴾ الحجرات 11 ويقول : ﴿ ولا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ﴾الحجرات 11 ، وكيف إذا كانت مجالس مدح ومجاملات ، ونفاق ومداهنة والله يقول : ﴿ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ ﴾ النجم 32 ، أحيانا يدعوك إنسان إلى مجلس عنده ، ويدور في هذا  سر من الأسرار ، فلا يجوز تفشي هذا السر  لان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول : ( المجالس بالأمانة ) يلزم فيها الستر على ما يقال ، مادام لا يضر المسلمين ، قال المناوي : «أي أن المجالس الحسنة ، إنما هي المصحوبة بالأمانة ، أي كتمان ما يقع فيها من التفاوض في الأسرار ، فلا يحل لأحد من أهل المجلس أن يفشي على صاحبه ما يكره إفشاؤه ، فحُسْنُ المجَالسِ وشَرَفُها بأَمَانة حَاضِريها ، على ما يقع فيها من قَول وفعل، فيلزم الستر على ما يقال ، ويحدث في المجلس ، ما دام أنه لا يضر أحدًا من المسلمين ، في دم حرام أو فرج حرام أو اقتطاع مال بغير حق أو غير ذلك.

 وينبغي التفسح في المجلس إذا كان ضائقا  ليس فيه مكان لداخل  لقوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ ﴾المجادلة 11 . ومن العادات القبيحة في المجالس ، ظاهرة اللعب بالهاتف المحمول ، أثناء الجلوس مع الآخرين  ، فهي عادة سيئة ، تبعد الناس عن بعضهما البعض، وتثير في النفوس   مشاعر الألم والحزن والأسى ، وتشعر بالاشمئزاز، وإن كثيراً من المجالس اليوم يشوبها شيء من اللغط في القول، ويكتنفها بعض الزلل في الفِعال، ويخدشها كثرة القيل والقال فاحرصوا ولا تنسوا إذا قمتم منها أن تختموها بكفارة المجلس، لعل الله أن يتجاوز عما حدث، ويعفو عن التقصير والزلل، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( مَا مِنْ إِنْسَانٍ يَكُونُ فِي مَجْلِسٍ فَيَقُولُ حِينَ يُرِيدُ أَنْ يَقُومَ: سُبْحَانَكَ اللهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ، إِلَّا غُفِرَ لَهُ مَا كَانَ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ ) رواه أحمد . 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

أفات اللسان وحفظه

جعل الله اللسان وسيلة التخاطب وهو من نعم الله العظيمة ، إذ لا يستبين الكفر والإيمان إلا بشهادة اللسان ، وآفاته كثيرةٌ ومهلكة ، وإن أكثر خطابا الإنسان من حصائد اللسان ، إذ لا ينجو من شرّه إلا من قيده بلجام الشرع ، فلا يطلقه إلا فيما ينفعه في الدنيا والآخرة ، لأن خطره عظيم ، فكم من فرقة وعذاب وفوضى واضطراب وشرورٍ وآثام وفتنٍ وإجرام تأتي عن طريقه ، ولا نجاة من خطره إلا بالصمت ، لذلك مدح الشرع الصمت وحث عليه أخرج الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من صمت نجا ) . كما أخرج عن عبد الله بن سفيان عن أبيه قال : قلت يا رسول الله ! أخبرني عن الإسلام بأمر لا أسأل عنه أحدا بعدك قال : ( قل آمنت بالله ثم استقم   قلت فما أتقي ؟ فأومأ بيده إلى لسانه ) .  وقال الأوزاعي : كتب إلينا عمر بن عبد العزيز أما بعد : " فإن من أكثر ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير ، ومن عد كلامه من عمله قل كلامه إلا فبما يعنيه " . إن في حفظ اللسان السلامة من الشر ، والنجاة من لهلاك  ورحم الله امرأ قال خيراً فغنم  أو سكت عن شرٍّ فسلم ، وقد ورد أن استقامة اللسان من خصال الإيمان كما في مسند أحمد عن أنس أن الني صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يستقيم إيمان عبدٍ حتى يستقيم قلبه ، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه ) . وأول مراحل هذه الاستقامة ، أن ينفض يديه مما لا شأن له به وألا يقحم نفسه فيما لا يُسأل عنه روى الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ) رأى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء ثقباً صغيراً يخرج منه نورٌ كبير ويحاول الرجوع فلا يستطيع ، سأل عنه فقيل له : ( هذا مَثَلُ الكلمة تخرج من فم الإنسان فلا يستطيع ردها ، وإن الرجل ليتكلم بكلمةٍ لا يلقي لها بالا تكون عليه حسرة وندامة يوم القيامة ، وما خلق الله للإنسان لساناً وأذنين إلا ليسمع أكثر مما يقول ) وقد عد بعض العلماء للسان عشرين آفة وكلها من الكبائر والله يقول  :﴿ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفِّر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريما  ﴾ النساء .  إن من تمام الإيمان أن تقول خيراً أو تصمت ، فالخير أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر ، وتلاوة القرآن والذكر والدعاء , والشر كالكذب والنميمة والشتم واللعن روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات ، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقى لها بالاً يهوي بها في جهنم ) :

زيادةُ القولِ تحكي النقصَ في العملِ  ومنطقُ المـرءِ قد يهديهِ للَّزللِ

إن اللسان صغـيرٌ جُـرمُه ولـهُ      جرمٌ كبيرٌ كما قد قيل في المثل

وقد قيل إن اللسان يقول كل يومٍ للجوارح : كيف أنتن ؟ فيقلن له :" نحن بخيرٍ ما تركتنا" ومن الناس من يعجبه الكلام ولو كان فيه حتفه قوّال ثرثار : 

إحفظ لسانك لا تقولُ فتبتلى   إن البلاء موكّلٌ بالمنـطق

فالعاقل من حفظ نفسه وكف لسانه إلا عن حقٍ ينصره أو باطلٍ ينكره ، لأن من كثر كلامه قل احترامه ، ومن زاد لغطه فحش غلطه . والبعد عن اللغو من دلائل الاكتمال وقد يتكلم المرء بما يدمر مستقبله وقد قيل : " من كثر لغطه كثر غلطه " :

يموت الفتى من عثرةٍ بلسانه   وليس يموت المرءُ من عثرة الرِجْلِ

وقد قيل : " السكوت في وقته صفة الرجال ، كما أن النطق في موضعه أشرف الخصال " . جاء في كتب العجم : أن ملك فارس والهند والروم وملك الصين اجتمعوا فقال أحدهم : " إذا تكلمت بالكلمة ملكَتْني ولم أمْلِكْها ، وقال الآخر : ندمت على ما قلت ولم أندم على ما لم اقل ، وقال الآخر : أنا على ردِّ ما لم أقل أقدر مني على ما قلت ، وقال الأخير : ما حاجتي إلى أن أتكلم بكلمة ، إن وقعت عليَّ ضرتني ، وإن لم تقع عليَّ لم تنفعني "  ومن الضمانات التي اتخذها الإسلام لصيانة الكلام من الانحراف والهوى تحريمه الجدل وسده لأبوابه ،  لأن هناك أحوالاً تستبد بالنفس وتغري بالمغالبة ، فتجعل المرء يناوش غيره بالحديث ، ويتصيد الشبهات التي تدعم رأيه ، والعبارات التي تُروِّج حجته فيكون حب الانتصار عنده أهم من إظهار الحق ، وهذا ما يعده الإسلام خطراً على الدين والفضيلة روى أبو داود أن رسول لله صلى الله عليه وسلم قال : ( من ترك المراء وهو مبطل بُني له بيت في رَبَضِ الجنة ، ومن تركه وهو محق بُني له وسَطَها ، ومن حَسُنَ خُلُقُه بُني له في أعلاها ) .

هناك أناس تغريهم ألسنتهم بالاشتباك مع العالم والجاهل ، ويكون الكلام لديهم شهوة غالبة لا يَملّونه أبدا ، هذا الصنف من الناس إذا سَلَّطوا ألسنتهم على شئون الناس أساءوا ، وإذا سلطوها على حقائق الدين شوَّهوا جمالها وأضاعوا هيبتها ، وقد سخط الإسلام على هذا الفريق من الناس روى الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم ) . هذا الصنف من الناس لا يقف لسانه عند حد ،  إنه يريد الكلام فحسب  يريد أن يباهي ، وإذا ما جادل في الدين فسد به الدين ، وقس على ذلك الجدال في بقية العلوم والآداب والمجالس التي يتجاذب الناس فيها أطراف الحديث ، فإن الإسلام يكره مجالس القاعدين الذين يقضون أوقاتهم في تسقط الأخبار وتتبع العيوب  وكأنه لا شغل لهم إلا في التسلي بشئون الآخرين قال تعالى: ﴿ ويلٌ لكل همزةٍ لمزة الذي جمع مالاً وعدده يحسب أن ماله أخلده كلا لينبذنَّ في الحطمة ﴾ الهمزة . إنه تهديد لكل من يستهين بأقدار الناس ، فيندفع إلى الاستهانة بأقدارهم وكراماتهم  ولمزهم وهمزهم   يعيبهم بلسانه ويسخر منهم بحركاته ، بالقول والإشارة  وباللفتة الساخرة والحركة الهازئة . وقد دأب الناس على هذا في مجالسهم وهو من الخطايا العظيمة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أعظم الناس خطايا يوم القيامة أكثرهم خوضاً في الباطل ) وهو ما أشار إليه سبحانه بقوله : ﴿ وكنا نخوض مع الخائضين ﴾ . أوصى الله عز وجل عباده المؤمنين أن يتقوه فيما تنطق به الألسنة فقال تعالى آمراً العبادة وواعداً لهم بعظيم ما يكون من الخير في الدنيا والآخرة إذا اتقوا الله في اللسان : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ﴾ الأحزاب70-71 . من اتقى الله في لسانه، فإن الله وعده أن يصلح حاله، وأن يحسن عاقبته ومآله ، وأن يفوز فوزاً عظيماً . فقل خيرا تغنم وإلا فاعلم أنك ستندم واعلم أن قبل اللسان شفتان وأسنان فهل يحجزانك عن الكلام ؟ أرجو أن يكون كذلك اللهم انفعنا بما سمعنا ووفقنا لحسن القول ولزوم الصمت ولقد صدق من قال :

وجدت سكوتي متجرا فلزمته     وإذا لم أجد ربحا فلست بخاسر

وما الصمت إلا في الرجال متاجر  وتاجره يعلو على كل تاجـر

وقال :

الصمــت زيـن والسـكوت سـلامة   فإذا نطقت فلا تكــن مكثـاراً

فـإذا نــدمت على ســكوتك مـرة     فلتندمـن علـى الكلام مـراراً

وقال لقمان الحكيم لابنه:  يا بنيّ  من رحم يرحم ، ومن يصمت يسلم ، ومن يفعل الخير يغنم ، ومن يفعل الشر يأثم ، ومن لا يملك لسانه يندم .

يموت الفتى من عثرة بلسانه     وليس يموت المرء من عثرة الرِّجل

فعثرته بالقول تذهب رأسـه      وعثرتـه بالرجل تبرأ على مهل

أما حفظ اللّسان : فاحفظ اللسان عمّا لا يعنيك ، فإنّ أكثر خطايا ابن آدم لسانه ، وإنّ الصمت باب من أبواب الحكمة ، وقد ورد أنه لا يزال العبد المؤمن يُكتب محسناً ما دام ساكتاً   ومن أراد سلامة الدارين فليحفظ لسانه ، وإذا أراد الله تعالى بعبد خيراً أعانه على حفظ لسانه ، وشَغَله بُعيوبه عن عيوب غيره . ومَن قَلّ كلامه كَمل عقله وصفى قلبه ، ومن كثر كلامه قَلّ عقله وقسا قلبه ،  وإنّ  الصمت لا يورث الندم ، ورُب كلام يورث الندم في الدّنيا والآخرة ، وقد قيل : " إذا كان الكلام من فضّة فالسكوت من ذهب ".  نعم، قد يكون الكلام ذهباً لعارض والسكوت تراباً ، كالتكلّم بالفقه والوعظ والآداب الشرعية والأخلاق المرضية ، بل قد يكون السكوت سمّاً قتّالاً ، كالسكوت عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فاحفظوا ألسنتكم , ولا تطلقوا لها العنان فتهلككم وتوردكم البوار , وإذا أردتم الكلام في شيء فتذكروا كلام الله تعالى: ﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلّاَ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ  ﴾ ق:18  وتذكروا كلام الناصح الأمين محمد صلى الله عليه وسلم : ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت ) .

 

 

 

 

الإيـثار

الإيثار في أبسط معانيه هو أن تؤثر منافع غيرك على منافعك ، وأن تحب لأخيك كما تحب لنفسك ، بل وأكثر مما تحب لنفسك ، أن تعطي لأخيك مثل أو أكثر مما تعطي لنفسك ، وبتعبير آخر أن تفضل منافع الغير على منافع نفسك رغبة في رضا الله . وهو خلق وأدب رفيع ، من سمات المؤمنين وخصائصهم الكُبرى ، وصِفاتهِم العُظمى ، وقد أثنى الله على أهل الإيثار، وجعلهم من المفلحين  فقال تعالى :  ﴿ ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ﴾ الحشر 9 . وقال صلى الله عليه وسلم ( أيما امرئ اشتهى شهوه فرد شهوته وآثر على نفسه غفر له )  وقد مدح الله المؤثرين على أنفسهم تشجيعاً لهم  لأنه جوهرة فريدة ينشأ عن قوة اليقين ، وتوكيد المحبة والصبر على المشقة ، يجعل المسلم سعيدا طيبا رضيا ، وهو علامة الإيمان ، وسخاء النفس ، وبذل المعروف ، لا يصل إليه إلا مؤمن رفيع الأخلاق ، عالي الهمة ، واسع الأفق ، نقي السريرة ، طاهر القلب ، لا يرى له على أحد فضلاً ، ولا يرى له عند أحد حقاً ، به يزول الشح ، ويُعدم البخل  وينشرح الصدر ، وتزول القسوة والأنانية والتشفي وحب الذات ، به يقدم الإنسان حاجة غيره من الناس على حاجته  برغم احتياجه لما يبذله ، فقد يجوع ليشبع غيره ويعطش ليروي سواه ، قال صلى الله عليه وسلم : (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)  متفق عليه . وتقول السيدة عائشة  رضي الله عنها : " ما شبع رسول الله  صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام متوالية حتى فارق الدنيا، ولو شئنا لشبعنا، ولكننا كنا نؤثر على أنفسنا " . وما أجمل أن يتصف الإنسان بالإيثار وحب الآخرين ، انطلق حذيفة العدوي في معركة اليرموك يبحث عن ابن عم له ، ومعه شربة ماء ، وبعد أن وجده جريحًا قال له : أسقيك؟ فأشار إليه بالموافقة وقبل أن يسقيه سمعا رجلا يقول : آه فأشار ابن عم حذيفة إليه ؛ ليذهب بشربة الماء إلى الرجل الذي يتألم فذهب إليه حذيفة ، فوجده هشام بن العاص ، ولما أراد أن يسقيه سمعا رجلا آخر يقول : آه فأشار هشام لينطلق إليه حذيفة بالماء ، فذهب إليه حذيفة فوجده قد مات فرجع بالماء إلى هشام فوجده قد مات ، فرجع إلى ابن عمه فوجده قد مات ،  لقد فضَّل كلُّ واحد منهم أخاه على نفسه، وآثره بشربة ماء

 جاءت امرأة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأعطته بردة هدية ، فلبسها صلى الله عليه وسلم وكان محتاجًا إليها ، ورآه أحد أصحابه ، فطلبها منه وقال : يا رسول الله ! ما أحسن هذه ، اكْسُنِيها   فخلعها النبي صلى الله عليه وسلم وأعطاها إياه ، فقال الصحابة للرجل: ما أحسنتَ ، لبسها النبي  صلى الله عليه وسلم محتاجًا إليها، ثم سألتَه وعلمتَ أنه لا يرد أحدًا ، فقال الرجل: إني والله ما سألتُه لألبسها إنما سألتُه لتكون كفني ) البخاري . واحتفظ الرجل بها فكانت كفنه . وجاء رجل جائع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد ، وطلب منه طعامًا ، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم ليبحث عن طعام في بيته ، فلم يجد إلا الماء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (من يُضيِّف هذا الليلة رحمه الله)  فقال رجل من الأنصار : أنا يا رسول الله ، وأخذ الضيفَ إلى بيته ، ثم قال لامرأته : هل عندك شيء؟ فقالت: لا إلا قوت صبياني فلم يكن عندها إلا طعام قليل يكفي أولادها الصغار فأمرها أن تشغل أولادها عن الطعام وتنومهم ، وعندما يدخل الضيف تطفئ السراج ، وتقدم كل ما عندها من طعام للضيف ، ووضع الأنصاري الطعام للضيف  وجلس معه في الظلام حتى يشعره أنه يأكل معه ، وأكل الضيف حتى شبع ، وبات الرجل وزوجته وأولادهما جائعين  وفي الصباح ذهب الرجلُ وضيفه إلى النبي صلى الله عليه وسلم  فقال للرجل: (قد عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة) مسلم .   وفيهم قال الله تعالى : ﴿ ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ﴾ والخصاصة: شدة الحاجة . اجتمع عند أبي الحسن الأنطاكي أكثر من ثلاثين رجلا ومعهم أرغفة قليلة لا تكفيهم ، فقطعوا الأرغفة قطعًا صغيرة ، وأطفئوا المصباح ، وجلسوا للأكل ، فلما رفعت السفرة ، فإذا الأرغفة كما هي لم ينقص منها شيء ؛ لأن كل واحد منهم آثر أخاه بالطعام وفضله على نفسه ، فلم يأكلوا جميعًا .

  فانظر يا أخي إذا كنت ممن يسهل عليهم العطاء ولا يؤلمهم البذل فأنت سَخِي، وإن كنتَ ممن يعطون الأكثر ويُبقون لأنفسهم فأنت جواد ، أما إن كنت ممن يعطون الآخرين مع حاجتك إلى ما أعطيت ، لكنك قدمت غيرك على نفسك فقد وصلت إلى مرتبة الإيثار.

وكما أن الإيثار يطهر النفس من الشح والبخل ، فإنه يؤدي إلى السخاء والجود ، اللتان من اتصف بهما أحبه الله وأحبه الناس ، والإيثار والسخاء من أحسن الخصال وهما من أعلى المراتب ، لما فيهما من توكيد المحبة   والصبر على المشقة ، مع الرغبة في الأجر والثواب .

ومن مراتب الإيثار ، إيثارُ رضا الله على رضا غيره وإن عظمت فيه المحن ، وثقلت فيه المؤن ، وهو أن يفعل ما فيه مرضاته ، ولو أغضب الخلْق ، وهي درجة الأنبياء وأعلاها لِلرسل عليهم صلوات الله وسلامه. وأعلاها لأولي العزم منهم، وأعلاها لنبينا صلى الله عليه وسلم ، فإنه قاومَ العالم كُله وتجرد للدعوة إلى الله ، واحتمل عداوة البعيد والقريب في الله تعالى، وآثر رضا الله على رضا الخلق في كل حال  ولم يأخذه في إيثار رضاه لومةُ لائم ،  بل كان همُّه وعزْمُه وسعيه كله مقصورًا على إيثار مرضاة الله وتبليغ رسالته وإعلاء كلمته، وجهاد أعدائه؛ حتى ظهر دين الله على كل دين، وقامت حجته على العالمين، وتمت نعمتُهُ على المؤمنين، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة ، وجاهد في الله حق جهاد، وعبد الله حتى أتاه اليقين من ربه، فلم ينل أحدٌ من درجةِ هذا الإيثار ما نالَ ، صلوات الله وسلامه عليه .

وقد جرت سنة الله التي لا تبديل لها ، أن من آثر مرضاة الخلق على مرضاته : أن يُسخط عليه من آثر رضاه ويخذُله من جهته ، ويجعل محنته على يديه ، فيعود حامدُهُ ذامًّا، ومن آثر  مرضاته ساخطًا، فلا على مقصوده منهم حصل، ولا إلى ثواب مرضاة ربه وصل ، وهذا أعجز الخلقِ وأحمقهم . قال الشافعي رحمه الله : " رضا الناس غايةٌ لا تدرك فعليك بما فيه صلاحُ نفسك فالزمهُ"  ومعلومٌ أن لا صلاح للنفس إلا بإيثار رضا ربها ومولاها على غيره ولقد أحسن من قال :

فليتك تحلُو والحياةُ مريرَةٌ         وليتك ترضى والأنامُ غِضَابُ

وليت الذي بيني وبينك عامرٌ       وبيني وبين العـالمين خرابُ

إذا صحَّ منك الودُّ فالكّلُّ هينٌ   وكل الذي فوق التراب تراب

وقال بعض الحكماء : عامل سائر الناس بالإنصاف وعامل المؤمنين بالإيثار ، وقال بعضهم : بالإيثار تملك الرقاب ، وقيل من آثر على نفسه استحق الفضيلة ، وقال حكيم : من آثر على نفسه بالغ في المروءة ، وسئل بعض الحكماء : من أجود الناس ؟ قال : من جاء من قلة  وصان وجه السائل عن المذلة . وقال علي رضي الله عنه : الإيثار أعلى الإيمان ، ولو لم يكن من فوائده إلا أنه دليل كمال الإيمان وحسن الإسلام ، ورفعة الأخلاق لكفى  فكيف وهو طريق إلى محبة الله سبحانه ، وحصول الألفة بين الناس ، وطريق لجلب البركة والوقاية من الشُّحِّ 

فهو يحرك في النفس السلوك الإيجابي ، الذي يوطد المحبة بين المسلمين روى أن قيس بن سعد بن عبادة كان من الأجواد المعروفين ، حتى مرض مرّة ، فاستبطأ إخوانه في العيادة ، فسأل عنهم ، فقالوا إنهم يستحيون مما لك عليهم من الدين ، فقال أخزى الله مالاً يمنع الإخوان من الزيارة ، ثم أمر منادياً ينادي : من كان لقيس عليه مال فهو منه في حل ، فما أمسى حتى كُسرت عتبة بابه لكثرة من عاده . ما أجدر المسلمين أن يتخلقوا بخلق الإيثار رمز الأخوة الإسلامية ، وصورة من صور التكافل والتضامن الإسلامي : 

وأفضل الناس من بين الورى رجلٌ   تقضي على يده للناس حاجاتُ

قد مات قومٌ وما ماتت مكارمهم   وعاش قومٌ وهم في الناس أمواتُ

فمن عرف حق الله سعى لرضاه وآثر محبته على محبة ما سواه ،  ومن عرف حق رسوله صلى الله عليه وسلم آثر محبته وطاعته على كل ما يحب ، ومن عرف حق الوالدين آثر راحتهم وطاعتهم على راحته ، ومن عرف حقوق الإخوان آثر إسعادهم وقضاء حوائجهم على حوائج نفسه, ومن عرف حقوق المجتمع سعى ليكون لبنة صالحة فيه, وتعاون مع أفراده على البر والتقوى ، وهذه كلها لابد أن يكون دافعها الإيمان بالله عز وجل ، والرغبة في ثوابه وصدق المحبة والمودة ، فمتى صدق المرء في محبته وأخلص في مودته   فإنه يؤثر من أحبه بالخير على نفسه ، وهو ما عناه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) .

 

 

الحب في الله

قال تعالى : ﴿ قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم ﴾  آل عمران . فما هو الحب في الله : هو الحب الخالص الذي لا يراد به إلا وجهه الكريم ، حب خالٍ من أي غرض ، حب لا يقوم على الإعجاب بشخص لموهبة عظيمة أو حديث ممتع أو مصلحة قائمة ، بل يقوم على التقوى والصلاح ، ويولد ويكبر في طريق الإيمان والإحسان ، فبحب الله ورسوله نحب  وببغض الله ورسوله نبغض ، وإن من  يستحقون الموالاة والحب المطلق ؛ هم المؤمنون الخلص الذين آمنوا بالله تعالى رباً  وبرسوله نبياً ، وقاموا بشعائر الدين علماً وعملاً واعتقاداً قال الله تعالى: ﴿ إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ﴾ المائدة 55 . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضاً ) وقال: (المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه ) . وحتى عصاة المؤمنين ، يستحقون الموالاة والحب من جهة ، والمعاداة والبغض من جهة أخرى ، يُحَبون لما فيهم من الإيمان والطاعة ، ويُبغَضون لما فيهم من المعصية والفجور التي هي دون الكفر والشرك . أما الكفار الخلّص الذين يظهر كفرهم على اختلاف أجناسهم من اليهود والنصارى والمشركين والملحدين ، والوثنين  والمجوس  والمنافقين ، أو من تبعهم من أصحاب المذاهب الهدامة ، والأحزاب العلمانية فهم يستحقون المعاداة والبغض المطلق . يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:" فلا تزول الفتنة عن القلب إلا إذا كان دين العبد كله لله ـ عز وجل ـ، فيكون حبه لله ، ولما يحبه الله ، وبغضه لله ، ولما يبغضه الله ، وكذلك موالاته ومعاداته " ونحن في أمس الحاجة إلى أننا نحبُّ أن نُحِبَّ، وأن نُحَبَّ وبقدر ذلك نكون راضين عن أنفسنا أكثر  وإن أعظم حب في الوجود حبُّ الله للعبد ، وحبُّ العبد لله ؛ لأنه سر الحياة ، وينمو هذا الحب في القلب الصادق من خلال العبادات والطاعات  ومن خلال تنمية الحب لله تعالى   تنمو حدائق الحب الأخرى بدءاً بحب الرسول صلى الله عليه وسلم ، الذي هو الطريق إلى حب الله تعالى: ﴿ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ ﴾ آل عمران:3. والى حب الوالدين الذي منبعه حب الله تعالى: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴾ لقمان 14 . وحتى حب المؤمن للمؤمن مبنيّ على حب الله تعالى:  ﴿  فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ﴾ المائدة . وفي الحديث : ( ثلاثٌ من كُنّ فيه وجد حلاوة الإيمان؛ أن يكون الله ورسوله أحبّ إليه مما سواهما   وأن يحبَّ المرء لا يحبه إلا لله  وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يُقذف في النار) البخاري 16. فالعلاقة في الثلاث كلها علاقة حب وكره . والأصل في الحب أو البغض أن يكون لكل ما يحبه الله أو يبغضه الله ، فمن يحبه الله يستحق أن يُحَبَّ ، وما لا يحبه فهو المستحق للبغض والكره والهجران ؛ وقد جاءت المواقف الربانية لكثير من الأمور في حياة البشر بصيغة الحب والكره فالله تعالى : ﴿ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ﴾  و ﴿ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ و﴿ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ ﴾ ولكنه ﴿ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾ وبناء على كل تلك المحبات المعللة ، جاءت علاقتنا بالآخرين علاقة حب وعدم حب بحسب علاقتهم بنا  فكل من عقد الله بينك و بينه عقد الأخوة  في قوله تعالى :  ﴿ إِنَّمَا الْمٌؤمِنٌونَ إِخْوَة ﴾ يستحق مبادلته بلوازم الحب في الله ! وكل من يعاملك بالمحبة الإيمانية ، يستوجب عليك حقوق الأخوة الإسلامية ! وقد جعل الله عز وجل الحب في الله والبغض في الله من أوثق عرى الإيمان جاء في الحديث  : ( أوثق عرى الإيمان : الموالاة في الله ، والمعاداة في الله  والحب في الله ، والبغض في الله ! )  . والميزان الضابط لمفهوم الأخوة ، والذى لا يتم الإيمان إلا به  ما بينه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : ( والذي نفسي بيده ، لا يؤمن عبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير ) والإيمان لا يكمل إلا بصدق هذه العاطفة ، وإخلاص هذه الرابطة : ( من أحب لله ، وأبغض لله ، وأعطى لله  ومنع لله ، فقد استكمل الإيمان ) . وأنشدوا :

وأحبب لحبّ الله من كان مؤمنا   وأبغض لبغض الله أهل التّمرّد

 لقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم المفاضلة بين الأخوين المتحابين   بمدى حب كل منهما لأخيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما تحابَ اثنان في الله تعالى إلا كان أفضلهما أشدهما حباً لصاحبه )   وإن دخل الشيطان بينهما في يوم من الأيام فليراجع كل منهما قلبه ! وليحاسب نفسه ! لقوله صلى الله عليه وسلم : ( ما توادَّ اثنان في الله فيفرق بينهما إلا بذنب يحدثه أحدهما ). إن التحابب في الله تعالى والأخوة في دينه من أعظم القربات ، ولها شروط يلتحق بها المتصاحبون بالمتحابين في الله تعالى ، وبالقيام بحقوقها يُتقرب إلى الله زلفى  وبالمحافظة عليها تُنال الدرجات العلى قال تعالى: ﴿ وألّف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألّفت بين قلوبهم ولكنّ الله ألّف بينهم ﴾ الأنفال 63 .  وللأخوة في الله مكانة عظيمة عند الله عز وجل فبها تنُال محبته ورضاه يقول سبحانه في الحديث القدسي : ( وجبت محبتي للمتحابين فيًّ، والمتجالسين فيَّ والمتزاورين فيَّ ، والمتباذلين فيَّ ) رواه مسلم . وللمتحابين في الله مكانة يغبطهم عليها كل من خلق الله سبحانه فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن من عباد الله لأناسا ما هم أنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء بمكانتهم من الله فقالوا : يا رسول الله تخبرنا من هم ؟ قال: قوم تحابوا بينهم على غير أرحام بينهم ، ولا أموال يتعاطونها  فو الله إن وجوههم لنور، وإنهم لعلى نور، لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنوا إذا حزنوا، ثم قرأ : ﴿ أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ  ﴾ .  وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ينصب لطائفة من الناس كراسي حول العرش يوم القيامة، وجوههم كالقمر ليلة البدر ، يفزع الناس وهم لا يفزعون ويخاف الناس وهم لا يخافون وهم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، فقيل من هم يا رسول الله؟ قال: هم المتحابون في الله تعالى). وقال صلى الله عليه وسلم أيضا :( لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا ) رواه مسلم .والمتحابين يحميهم الله من حر يوم القيامة في ظله يوم لا ظل إلا ظله. قال صلى الله عليه وسلم : ( حقت محبتي للذين يتزاورون من أجلي   وحقت محبتي للذين يتناصرون من أجلي ) .  والاخوة تحقق محبة الله للعبد . قال صلى الله عليه وسلم : ( إن رجلا زار أخا له في الله ، فأوجد الله له ملكا فقال أين تريد.؟

قال: أريد أن أزور أخي فلانا.

فقال: لحاجة لك عنده؟

قال : لا

قال :  فيم .. قال : أحبه في الله .

قال : فإن الله أرسلني إليك أخبرك بأنه يحبك لحبك إياه  وقد أوجب لك الجنة ) والمحب لله هو كما جاء في الأثر : "من عامل الناس فلم يظلمهم ، وحدثهم فلم يكذبهم ، ووعدهم فلم يخلفهم ، فهم ممن كملت مروءته ، وظهرت عدالته  ووجبت أخوته". وكما ورد "حق المؤمن على أخيه أن يبين له الحق إذا احتاجه  ويشد عزمه إذا أصاب ، وأن يشكر له إذا أحسن  ويذكره إذا نسي ، ويرشده إذا ذل ، و يصحح له إذا أخطأ ، ولا يجامله في الحق ، ولا يسايره على الباطل  ويكون له هاديا ودليلا ومعينا وأمينا . وقد اثبتت التجارب ، أنه إذا نشأت صداقة لله فلن تبقى إلا بطاعته ، ولن تزكو إلا ببعد الصديقين معا عن النفاق والفساد ، فإذا تسربت المعصية إلى أحدهما تغيرت القلوب ، وذهب الحب . ففي الحديث (والذي نفسي بيده ما تواد اثنان فيفرق بينهما إلا بذنب يحدثه أحدهما ) . ومن دلالات الحب  سلامة صدر المؤمن تجاه إخوانه ، لأن الأخوة الحقة : هي التي تقوم على عواطف الحب والود والتعاون المتبادل والمجاملات الرقيقة ، بل هي كما وصفها القرآن : ﴿  وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾  .  فمن يحب في الله ويبغض في الله فإنه يحب الله ويمتلئ قلبه بالإيمان به ، فإذا وجد الإيمان كان الحب في الله والبغض فيه . وإن كان هناك حب في الله وجد المسلم حلاوة الإيمان في جوفه .  جاء في الخبر أن الله تعالى قال : " يا موسى هل عملت لي عملا قط ؟ قال: الهي صليت لك ، وصمت لك ، وتصدقت لأجلك  وسجدت لك ، وحمدت لك ، و قرأت كتابك ، وذكرتك ، قال الله تعالى: يا موسى ؛ أما الصلاة فلك برهان ، وإما الصوم فلك جنة ّ، وإما الصدقة فلك ظل  وأما التسبيح فلك أشجار في الجنة ، وأما قراءة كتابي فلك حور وقصور ، وأما الذكر فلك نور. فأيّ عمل عملت لي؟ قال موسى: دلني يا رب على عمل أعمله لك. قال: يا موسى ، هل واليت لي وليا قط ؟ وهل عاديت لي عدوا قط؟ فعلم موسى أن أفضل الاعمال الحبّ في الله والبغض في الله " 

والمحبة هي طريق إلى الجنة ، وهي من الأعمال الصالحة التي تستوجب حسن الثواب   ولها ثواب خاص ، روى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم ) . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الله يقول يوم القيامة : ( أين المتحابون بجلالي اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي ) .  اللهم أظلنا في ظلك يوم لا ظل إلا ظلك .  وهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول لابنه الحسن :" يا بني الغريب من ليس له حبيب ". وقال الحسن البصري : "إخواننا أحب إلينا من أهلينا ، إخواننا يذكروننا بالآخرة وأهلونا يذكروننا بالدنيا .

  وأختم بهذه الأبيات الرائعة للإمام الشافعي 

إذا المرء لا يرعـاك إلا تكلفـا         فدعه ولا تكثر عليه التأسفــــا

ففي الناس أبدال وفي الترك راحة   وفي القلب صبر للحبيب ولو جفـا

فما كل من تهـواه يهواك قلبـه        ولا كل من صافيته لك قد صفــا

إذا لم يكـن صـفو الود طبيعـة        فلا خيـر في ود يجيء تكلفـــا

ولا خير في خِل ٍ يخـون خليـله       ويلقـاه من بعـد المودة بالجـفـا

وينـكر عيشا ً قد تقـادم عهـده  ويظهـر سرا ًكان بالأمس قد خفا

سلام ٌ على الدنيا إذا لم يكـن بها   صديق ٌصدوق ٌصادق الوعد منصفا

وتقبلوا مني حبي لكم جميعا في الله .

 

 

 

 

صلة الرحم

  صلة الرحم خُلُق دعا الإسلام إليه وأمر به ورغّب فيه  وحذَّر من قطيعتة ، وبيَّن العقوبة المترتبة على قاطعه   في الدنيا والآخرة ، وأمر الله بصلة الرحم ، ورغب في ذلك فقال تعالى : ﴿ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَٱلأَرْحَامَ ﴾ النساء 1. أي: اتقوا الأرحامَ بصلتكم لها وقال تعالى: ﴿ وَٱلَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوء الحِسَابِ ﴾ الرعد 21 . والرحم هم أقاربَك من جهة أبيك وأمك، إخوانَك وأخواتِك، أعمامَك وعماتِك، أبناءَ أخيك وأبناءَ أخواتك، أبناءَ عمك، وأقاربَك من حيث الأب، أخوالَك وخالاتِك، أقرباءَ أمك، كلُّ أولئك رحم، أنت مدعوٌّ لصلتهم ، وصلتهم تكون بالإحسان إلى فقيرهم ومحتاجهم والوقوف معه في شدائد الأمور، وسؤالك عنهم  واهتمامك بشأنهم، والشفقة والرحمة بهم ، بل إن هذه  الصلة حق لكل من يمت إليك بصلة نسب أو قرابة وكلما كان أقرب كان حقه ألزم وأوجب ، وهم أولى بالرعاية  لأن صلتهم من واجبات الإيمان قال صلى الله عليه وسلم : ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه) بل إن أكمل الناس إيماناً من كان واصلاً لرحمه لما لها من مكانة قال صلى الله عليه وسلم : (خلق الله الخلق، فلما فرغ منهم قامت الرحم فقالت : هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: نعم  أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟! قالت: بلى، قال: فذلك لك) أخرجه البخاري ومسلم في البر ، وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من وصل رحمه وصله الله   ومن قطع رحمه قطعه الله) .

 قد تكون هناك أسباب لقطيعة الرحم  ، يتجاوزها المؤمن تقرباً إلى الله عملاً بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ليس الواصل بالمكافئ، إنما الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها) ليس الواصل الذي يقول: رحمي زارني سأزوره، رحمي دعاني سأدعوه، رحمي أهدى إلي سأهدي إليه وإلا لا   أما الواصل فإنه  يصل من قطعه ليدلَّ على أن تلك الصلة نابعة من إيمان صحيح ، فلا يرضى بقطيعة الرحم ، بل يصل من قطعه منهم ، ويحسن إلى من أساء إليه منهم  جاء رجل للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن لي رحماً أصلهم ويقطعونني وأحسنُ إليهم ويسيئون إليَّ، وأحلم عليهم ويجهلون عليَّ، فقال له النبي : ( إن كنت كما قلتَ فكأنَّما تسفّهم الملّ - وهو الرماد المحترق - ولا يزال معك من الله عليهم ظهير ما دمت على ذلك )  . ويمكن أن تكون صلةَ الرحم بصرف الصدقات والزكوات إلى المحتاج منهم ، فهم أولى بذلك من غيرهم ، جاء في الحديث ( وصدقتك على المسكين صدقة ، وعلى ذي الرحم اثنتان: صدقة وصلة)  وقد دلت النصوص على أن أفضل النفقة  النفقة على الأقارب قال تعالى : ﴿ يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين ﴾ البقرة 215 . وقد جعل الله لذي القربى حق في الأعناق يوفى بالإنفاق : ﴿ وآت ذا القربى حقه ﴾ الإسراء 26 . ليس تفضلا إنما هو الحق الذي فرضه الله  فقريبك منك إن أحسنت إليه فإنما تحسن إلى شخصك وإن بخلت عليه فإنما تبخل عن نفسك ،  وإذا لم يجد الإنسان  ما يؤدي به حق الأقربين ، فإن هناك مجالات واسعة لصلتهم والإحسان إليهم  كالبشاشة عند اللقاء وطيب القول وتفقدهم زياراتهم ، والمعنى الجامع لذلك كله إيصال ما أمكن من الخير ، ودفع ما أمكن من الشر ، بدون تعصب وهوى ورد للحق والهدى ، وبذلك تقوى المودة ، وتزيد المحبة ، وتتوثق عرى القرابة ، وتزول العداوة والشحناء . وإن أسرع الخير ثوابا البر وصلة الرحم ، وأسرع الشر عقوبة  البغي وقطيعة الرحم ، ولذلك حذرنا الله من قطيعة الرحم ، وبيَّن الوعيدَ الشديد المترتِّبَ على ذلك في الدنيا والآخرة ، قال تعالى : ﴿ وَٱلَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَـٰقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ في ٱلأرْضِ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ ٱللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوء ٱلدَّارِ﴾ الرعد 15 . ويقول تعالى : ﴿ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ  أَوْلَـئِكَ ٱلَّذِينَ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَـٰرَهُمْ ﴾ محمد 22 . وقد اعتبر الإسلام أساس التواصل هو التواد والتراحم  فإذا فقد ذلك تقطعت الأوصال قال تعالى : ﴿ والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار ﴾ الرعد 25 . ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( الرحم معلقة بالعرش تقول من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله) متفق عليه .

فاتقوا الله عباد الله وصلوا أرحامكم وقدموا لهم الخير ولو جفوا، وصلوهم وإن قطعوا، يدم الله عليكم بركاته ويبسط لكم في أرزاقكم ويبارك لكم في أعمالكم قال عز وجل  وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم  الأنفال 75 .

فرحمك إن دنوت منه داناك وإن بعدت عنه راعاك، وإن استعنت به أعانك ، مودة فعله أكثر من مودة قوله ، ولا فكاك لك عنه فعزه عز لك  وذله ذل لك ، فمعاداتهم شر وبلاء ، الرابح فيه خاسر، والمنتصر مهزوم 

 وإن قطيعة الرحم من ضعف اليقين ورقة الدين ، عقوبتها معجلة في الدنيا قبل الآخرة قال صلى الله عليه وسلم : ( ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم ) 

فاتقوا الله عباد الله وصلوا أرحامكم فحق القريب رحم موصولة، وحسنات مبذولة، وهفوات محمولة، وأعذار مقبولة قال صلى الله عليه وسلم : ( يأيها الناس أطعموا الطعام وأفشوا السلام وصِلوا الأرحام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام ) .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

سـوء الـظن

 من المبادئ الأخلاقية المهمة في التعامل إحسان الظن بالآخرين قال تعالى :

﴿ يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ﴾ . كثير من الظن هنا تعني الظنون السيئة، التي يجب اجتنابها ، وكأن مضمون الآية الكريمة يفصح عن أن الظنون التي تساور الإنسان تجاه الآخرين ، إما أن تكون حسنة وإما سيئة ، ولكن أكثرها سيئة لذا ينبغي اجتنابها ، لذا يجب اجتنابها لأنها داخلة في دائرة الإثم ، أما الظنون الحسنة فلا بأس بها ، لأنها توطد العلاقة بالآخرين.

فالانطباعات التي نحملها عن بعضنا البعض ينبغي أن تكون منسجمة وتوجيهات قيم الإسلام  التي تدعونا إلى اجتناب الظن . والآية الكريمة تحذرنا من تشكيل قناعاتنا ومواقفنا من الآخرين ، من خلال سوء الظن  وفي الجانب المقابل نلتمس المعاذير لإخواننا  ونقول ما قال بعض السلف الصالح : " ألتمس لأخي من عذر إلى سبعين ، ثم أقول : لعل له عذرًا آخر لا أعرفه! " وإن من أعظم شعب الإيمان حسن الظن بالله ، وحسن الظن بالناس ، وفي المقابل يتنافى مع الإيمان ، سوء الظن بالله ، وسوء الظن بعباد الله .

 لأن سوء الظن من خصال الشر الذي ورد النهي عنه في القرآن والسنة ، وأن لا نظن بعباد الله إلا خيرا ، وأن نحمل ما يصدر عنهم على أحسن الوجوه قال صلى الله صلى وسلم : ( إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث..) . وما أصدق ما قيل :

تأنّ ولا تعجل بلومك صاحبًا      لعل له عـذرًا وأنت تلـوم!

 وينبغي أن نقدم دائمًا حسن الظن ولا نتبع ظن السوء ، فإنه لا يغني من الحق شيئا.  ويشتد الخطر حينما يجتمع إتباع الظن  وإتباع الهوى ،كالذي ذم الله به المشركين في قوله: ﴿ إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ﴾ النجم 28 . وقد دلنا رسول الله صلى الله صلى وسلم وأرشدنا إلى خير ما يعلمه لنا ، وحذرنا وأنذرنا من شر ما يعلمه لنا ؛ جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله صلى وسلم قال: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله ) إذاً فحسن الظن بالله  يجب أن يكون صفة المؤمن طيلة حياته ، ويتأكد أكثر عند مماته وهو محب للقاء الله ؛ وفي الحديث الصحيح: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه) . وهو يرتبط ارتباطاً كبيراً بالتوكل على الله والثقة به ؛ حيث إنك لا تتوكل إلا على من تحسن الظن به ؛ ولذا قال ابن القيم :" بأن حسن الظن بالله يدعو إلى التوكل عليه ؛ إذ لا يتصور التوكل على من ساء ظنك به ولا التوكل على من لا ترجوه " وكذا الاستعانة بالله والاعتصام به واللجوء إليه ،فهذه كلها تستلزم أن يحسن العبد الظن بربه ، وحَسُن الظن بالله يجب أن يقترن بالخوف منه ، حتى لا يفضي إلى الغرور وترك العمل ، ومن الناس من اتكل على حسن ظنه بربه  واعتمد عليه مع إقامته على المعاصي ، متناسياً ما توعد الله به ، من وقع في المعاصي               وغفل عن الخوف من الله حتى وقع في الغرور ، وعلى المؤمن أن يتحرى معرفة المنهج الصحيح في حسن الظن بالله ، حتى لا يقع فيما نهى الله عنه من الغرور أو سوء الظن بالله . والمؤمن حين يحسن الظن بربه ، فإن قلبه لا يزال مطمئناً ونفسه آمنه تغمرها سعادة الرضى بقضاء الله وقدره وخضوعه لربه ، فالقلب المؤمن حَسَنُ الظن بربه يَتوقّع منه الخير في السراء والضراء ، ويؤمن بأن الله يريد به الخير في الحالين ، ومن أثرِ حسن الظن بالله على المؤمن أنه عندما يسمع ما يخبر به الله عن نفسه من أنه عفو غفور وتواب رحيم ، ويسمع قول نبيه صلى الله صلى وسلم : ( إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل ، حتى تطلع الشمس من مغربها)  فإنه عندما يسمع ذلك يطمع بعفو الله ،  فيطرق بابه راجياً مغفرته ، بأن يتوب عن المعاصي .

 ولما كان السلف هم أقرب الناس إلى منهج الله وسنة رسوله صلى الله صلى وسلم ، أدركوا أهمية حسن الظن بالله ، ومدى أثره على المؤمن ؛ فكانوا أحرص الناس عليه ، وأكثرهم دعوة إليه وحثاً على التمسك به ، فهذا سعيد بن جبير  كان يدعو: " اللهم إني أسألك صدق التوكل عليك وحسن الظن بك " . وقال عبد الله بن مسعود : " والذي لا إله غيره ما أُعطي عبد مؤمن شيئاً خير من حسن الظن بالله ، والذي لا إله غيره لا يحسن عبد بالله  الظن إلا أعطاه اللـه ظنه " ، وحيث جاء الأمر بحسن الظن   فإن بعض الناس قد أساء في هذا الأمر وغلا فيه ، حتى سقط في الغرور ، جاهلاً بكيفية إحسان الظن بالله ، ناسياً  عقاب الله الأليم   وغافلاً عن شدة عذابه ، ومحاسبته لعباده عما اقترفت أيديهم . ذكر الإمام ابن القيم شيئاً من أحوال المغترّين وجهلهم بالله فقال: " وكثير من الناس يظن أنه لو فعل ما فعل ، ثم قال : أستغفر الله ، زال الذنب وراح هذا بهذا " . وسمعت من يقول أنا أفعل ما أفعل ثم أقول : سبحان الله وبحمده مائة مرة ، فإن الله يغفر ذلك كله  كما صح عن النبي صلى الله صلى وسلم أنه قال: (من قال في يوم : سبحان الله وبحمده مائة مرة حُطّتْ خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر) . مما يدل على أن لي رباً يغفر الذنب ويأخذ به.

 هذا الصنف من الناس قد تعلق بنصوص من الرجاء واتكل عليها ، وإذا عوتب على الخطايا والانهماك فيها ، سرد لك ما يحفظه من نصوص الرجاء وسعة رحمة الله ومغفرته   كقول القائل :  

وكثّر ما استطعت من الخطايا     إذا كـان القدوم على كريم

 متجاهلاً أن على المؤمن مع إحسانه الظن بربه ، أن لا يغفل عن محاسبة الله لعباده بعدله وحكمته ، ومجازاته لهم بما كانوا يعملون  وأن يجتهد في القيام بما عليه موقنًا بأن الله يقبله ويغفر له ; لأنه وعد بذلك وهو لا يخلف الميعاد ، فإن ظن أن الله لا يقبله ، أو أن التوبة لا تنفعه ، فهذا هو اليأس من رحمة الله وهو من كبائر الذنوب .  إن حسن الظن بالله يؤدي إلى سلامة الصدر وتدعيم روابط الألفة والمحبة بين الناس ، فلا تحمل الصدور غلاًّ ولا حقدًا ، امتثالاً لقوله  صلى الله صلى وسلم :( إياكم والظن  فإن الظن أكذب الحديث ، ولا تحسسوا ، ولا تجسسوا ، ولا تنافسوا ، ولا تحاسدوا ، ولا تباغضوا ، ولا تدابروا ، وكونوا عباد الله إخوانًا). وإذا كان أبناء المجتمع بهذه الصورة المشرقة فإن أعداءهم لا يطمعون فيهم أبدًا ، ولن يستطيعوا أن يتبعوا معهم سياسة فرِّق تَسُد ؛ لأن القلوب متآلفة والنفوس صافية . فلو أن كل واحد منا عند صدور فعل أو قول من أخيه وضع نفسه مكانه لحمله ذلك على إحسان الظن به وقد وجه الله عباده لهذا المعنى حين قـال سبحانه : ﴿ لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً ﴾ النور 12. وأشعر الله عباده المؤمنين أنهم كيان واحد ، حتى إن الواحد حين يلقى أخاه ويسلم عليه فكأنما يسلم على نفسه: ﴿  فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ  ﴾ النور 61 .  وكان السلف يحملون الكلام على أحسن المحامل . قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لا تظن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن شرًّا ، وأنت تجد لها في الخير محملاً ". وانظر إلى الإمام الشافعي رحمه الله حين مرض وأتاه بعض إخوانه يعوده   فقال للشافعي : " قوى الله ضعفك ، قال الشافعي: لو قوى ضعفي لقتلني  قال: والله ما أردت إلا الخير . فقال الإمام : أعلم أنك لو سببتني ما أردت إلا الخير" هكذا تكون الأخوة الحقيقية  بإحسان الظن حتى فيما يظهر أنه لا يحتمل وجها من أوجه الخير ، وكان الصالحون إذا صدر من أحدهم ما يسبب ضيقاً أو حزنا  يحسنون به الظن  ويلتمسون له المعاذير حتى قالوا : " التمس لأخيك سبعين عذراً "، وقال ابن سيرين رحمه الله :"إذا بلغك عن أخيك شيء فالتمس له عذرًا ، فإن لم تجد فقل: لعل له عذرًا لا أعرفه ". إنك حين تجتهد في التماس الأعذار ستريح نفسك من عناء الظن السيئ ، وستتجنب الإكثار من اللوم لإخوانك :

تأن ولا تعجل بلومك صاحبًا    لعـل له عـذرًا وأنت تلوم

 ومن آفات سوء الظن أنه يحمل صاحبه على اتهام الآخرين ، مع إحسان الظن بنفسه  وهو نوع من تزكية النفس التي نهى الله عنها في كتابه : ﴿ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ﴾ النجم 32 . ولذلك نجد أن التوجيهات الإسلامية تحثنا على حسن الظن واحترام  الآخر ، شخصاً وفكراً ووجداناً  حيث جاء في التوجيه الإسلامي (ضع أمر أخيك على أحسنه ، حتى يجيء ما يغلبك منه ولا تظنن بكلمة خرجت من فم أخيك المسلم سوءا وأنت تجد لها في الخير محملا) . ويقول الغزالي : " ليس لك أن تعتقد في غيرك سوءًا إلا إذا انكشف لك بعيان لا يقبل التأويل ". وإذا انحدر الظان إلى مزلق آخر وهو إشاعة ظنه وقع في الحرام " وإن تكلم بذلك الظن وأبداه أثم " كما نقل الشوكاني   وحكى القرطبي عن أكثر العلماء : " إن الظن القبيح بمن ظاهره الخير لا يجوز ". وقال الغزالي: " اعلم أن سوء الظن حرام مثل سوء القول ، فلا يستباح ظن السوء إلا بما يستباح به المال ، وهو بعين مشاهدة أو بينة عادلة ". ويقول ابن قدامة رحمه الله : " فليس لك أن تظن بالمسلم شرًا إلا إذا انكشف أمر لا يحتمل التأويل ، فإن أخبرك بذلك عدل فمال قلبك إلى تصديقه ، كنت معذورًا " وأشار إلى قيد مهم فقال :" بل ينبغي أن تبحث هل بينهما عداوة وحسد ؟." ويروى أن سليمان بن عبد الملك قال لرجل: " بلغني أنك وقعت فيَّ وقلت كذا وكذا. فقال الرجل: ما فعلت. فقال سليمان: إن الذي أخبرني صادق . فقال الرجل: لا يكون النمام صادقًا . فقال سليمان: صدقت اذهب بسلام ". وجاء في النصوص النهي عن الاستماع إلى النمام قال صلى الله صلى وسلم : ( لا يبلغني أحدٌ عن أحد من أصحابي شيئًا   فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر ) أحمد في مسنده . فلا تجعلوا بطانتكم من النمّامين   فإن من وشى إليكم اليوم يشي بكم غدًا  ومثله ليس أهلاً للثقة – لفسقه بالنميمة – وفي ذلك يقول ابن قدامة المقدسي: " لا تصدّق الناقل لأن النمام فاسق ، والفاسق مردود الشهادة . فإن ركنتم إلى النمامين وأصبتم إخوانكم بجهالة فلا تنسوا أن تصبحوا على ما فعلتم نادمين ".                                                                                                                                              

والفطن من يفرق بين خبرٍ دافعه التقوى  وخبر غرضه الفضيحة أو التشهير . والذي لم يتخلق بخلق (التثبت) تجده مبتلى بالحكم على المقاصد والنوايا والقلوب   وذلك مخالف لأصول التثبت. يقول الشافعي – ووافقه البخاري -: " الحكم بين الناس يقع على ما يُسمع من الخصمين ، بما لفظوا به ، وإن كان يمكن أن يكون في قلوبهم غير ذلك ".  ومن أخطر المزالق لعدم التثبت ، أن يحسن الأمير الظن برجل من الناس ليس أهلاً للثقة  ثم يكون أسيرًا لأخباره ، أُذنًا لأقواله ، يصغي إليه ويصدقه . يقول ابن حجر: " المصيبة إنما تدخل على الحاكم المأمون من قبوله قول من لا يوثق به  إذا كان هو حسن الظن به ، فيجب عليه أن يتثبت في مثل ذلك " .  ومن أهم أصول التثبت فيما يُنقل من أخبار: السماع من الطرفين ، فقد أخرج أبو داود والنسائي أن النبي صلى الله صلى وسلم أرسل عليًّا رضي الله عنه إلى اليمن قاضيًا فأوصاه : ( فإذا جلس بين يديك الخصمان ، فلا تقضين حتى تسمع من الآخر ، كما سمعت من الأول ، فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء ) . يقول علي رضي الله عنه: "ما شككت في قضاء بعد" ، فكان الصواب حليفة بالتثبت ، وكم زلّت أقدام ، ووقعت فتن بسبب عدم التثبت والظن يقول الشوكاني:" الخطأ ممن لم يتبين الأمر، ولم يتثبت فيه هو الغالب، وهو جهالة ". وكم تجد من الناس من يسارع للشهادة على أمر لم يفقهه ، في حق امرئ لا يعرفه!! ولذلك أفتى الحسن البصري تحريًا للتثبت: " لا تشهد على وصية حتى تُقرأ عليك ، ولا تشهد على من لا تعرف " وليس من خلق المتثبت التسرع والعجلة وإن رسول الله صلى الله صلى وسلم حين أرسل خالدًا رضي الله عنه للتحقق من عداوة بني المصطلق أمره أن يتثبت ولا يعجل . ولما أرسله إلى بني جذيمة للتحقق من إسلامهم فتعجل في القتل . قال صلى الله صلى وسلم : ( اللهم إني أبرا إليك مما صنع خالد) رواه البخاري . إن كل مسلم ظاهره الصلاح صادق ولا نقول له إلا خيرًا ، وإلا فإن الاتهام بغير تثبت سبب في كثير من المظالم ، ولذلك كتب عمر بن عبد العزيز إلى أمير البصرة في قتيل وُجد عند بيت ولم يُعرف قاتله : "إن وجد أصحابه بينة وإلا فلا تظلم الناس  فإن هذا لا يقضى فيه إلى يوم القيامة". بل جاء في الحديث: ( لو يعطى الناس بدعواهم ، لادعى الناس دماء رجال وأموالهم ) . وإن الواحد من الصحابة على عدالته كان يُطالب - في الخصومات-بإحضار شهود أو الإدلاء ببينات ، أو القسم ، ولم تكن عدالته لتشفع له في استقطاع شيء من حقوق الناس أو مس أعراضهم . وقد اشترط الشرع البينة دفعًا للاتهامات الرخيصة ، لئلا يبادر أحد إلى اتهام أحد إلا عن يقين ؛ ولذلك حين قُتل صحابي وجد بين بيوت اليهود في خيبر ، اتهم أصحابه اليهود في قتله  فطالبهم رسول الله بالبينة : قالوا : مالنا بينة . قال: فيحلفون . قال: لا نرضى بأيمان اليهود . فاضطر رسول الله  أن يدفع ديته مائة من الإبل، ولم يتهم اليهود بلا بينة .

 ما أحوجنا اليوم إلى الأخذ بحسن الظن سواء على المستوى الفردي أو بين الجماعات لأننا نواجه مشكلة في العلاقة بين الجماعات ، كل جماعة تسيء تفسير تصرف الجماعة الأخرى   ولعل تصرفاً فردياً يصدر من أحد الأفراد يحسب على الجماعة بأكملها وهذا غير صحيح ، لأنه ينبغي على كل إنسان مؤمن عاقل ، أن يتجاوز ذلك وينظر إلى الآخرين نظرة إيجابية ، ولو تصور في خاطره تصوراً خاطئاً على شخص ما ، فعليه أن لا يبنيَ عليه موقفاً قد يضر أو يسيء به إلى إليه ، فذاك إثم وظلم نهى الشرع عنه ، ويرفضه العقل السليم 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

دعك من سلاح الشرّ

 من أراد أن يعيش سعيداً وأن يموت حميداً، فليلق سلاح العداوة وليجتث من نفسه شجرة الشَّر، ارفع رايتك البيضاء معلناً العفو والصفح وسوف تجد القلوب تشيِّعك، والأرواح تحفُ بك، والحب يحوطك أينما حللت وارتحلت: مَنْ سالَمَ النّاسَ يسلَمْ من غوائِلِهمْ - ونام وَهْوَ قَريرُ العَينِ جَذْلانُ ...كن من فصيلة هابيل، حينما أقدم على قتله أخوه قابيل فقال: «لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ»، دع الظالم يلقى حتفه أو يسلط الله عليه أظلم منه، واتركه للأيام والليالي، يقول المثل الصيني: «اترك عدوك وقف على شاطئ النهر، فسوف تشاهد جثته تمر بك»، لا تحاول فتح ملفات العداوات، لا تقم للناس محاكم تفتيش في صدرك، لا تُذهب حياتك الغالية في التربص بالآخرين والاقتصاص منهم،

كل دقيقة تصرفها في عداوة، إنما هي كأس من السم تتحساه، سوف تجد أن الحلم والعفو أقوى سلاح أمام أعدائك، قال الأحنف بن قيس: والله لقد نصرني الله بالحلم أعظم من نصر العشيرة، يقول أبو الطيب:

* وَأَحلُمُ عَن خِلّي وَأَعلَمُ أَنَّهُ - مَتى أَجزِهِ حِلماً عَلى الجَهلِ يَندَمِ.

* إذا سلَّ أخوك في وجهك سيفاً، فمد له وردة، إذا بات يخطط لاستئصالك فتوجه أنت بالدعاء له أن يصلح الله قلبه، ويطهر ضميره، وإذا نالك خصم في مجلس بكلام بذيء سافل فاثن عليه وادعُ له، إن منطق القرآن يخبرك أن العَظَمَة هي أن تحول العدو إلى صديق، لا أن تحول الصديق إلى عدو «ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ». قال رجل لحكيم: غداً نتحاسب فقال له: بل غداً نتسامح، فلا تستكثر ألف صديق ولا تستقل عدواً واحداً ولو كان ضعيفاً، فإن البعوضة تدمي مقلة الأسد، وإن فأراً صغيراً خرَّب سد مأرب. إن أعمارنا أقصر من أن نصرفها في القصاص والانتقام، وإن معارك داحس والغبراء التي يقيمها الشيطان في قلوب البعض، هي من مقررات مدرسة إبليس التي من أصولها: الظالم مهاب والمعتدي شجاع والحليم ذليل والمتسامح جبان، ولكن مدرسة الوحي تخبرنا بأصدق من ذلك «فمن عفا وأصلح فأجره على الله»، وفي الحديث: «صل من قطعك، وأعط من حرمك، واعف عمن ظلمك»،

إذا لقيت أحداً من الناس فابدأ بتصرفين جميلين: ببسمة وسلام، فالبسمة عنوان لكتابك، وهي دلالة على رجاحة العقل وسلامة الطبع وكرم المعشر، والسلام عليكم ميثاق شرف وعهد وفاء معناه مصالحة لا حرب، ومسامحة لا عداوة.

هل سمعت أن غضوباً شرساً حاداً كسب حباً أو بنى صداقة أو حاز ثناءً جميلاً، إنما الحب الصادق والحفاوة البالغة والإجلال الكبير للسمح الحليم والجواد الكريم، الذي جلس بحبه على عرش القلوب، فحفَّت به الأرواح وشيَّعته النفوس، وطوَّقته العيون، من أراد أن يكتب تاريخاً لنفسه من البر والإحسان فعليه بمسالمة الناس ومسامحة الآخرين وكظم الغيظ والتجافي عن الزلة والصفح الجميل عن الخطأ ودفن المعايب، فعليك أيها الإنسان السوي أن تنزع الغدد السامة من نفسك، وأن تضع السلاح من يدك، وأن تغمد سيف العدوان ونادي في الجميع:   أهلاً وسهلاً والسلام عليكم  ،  العالم سوف يكون جميلاً بلا عداوة، والكون سوف يصبح آماناً بلا كراهية، والأشرار وحدهم هم الذين عكَّروا صفو الحياة، ودمَّروا بناء الإخاء، ومزَّقوا ثوب المحبة «ويل لكل همزة لمزة»، «همَّازٍ مشاءٍ بنميم»، ويلٌ لكل حاقدٍ شرير من سوء الذكر وضيق الصدر، وظلمة القبر، وبشرى لكل كريم مفضال، ولكل ليّن سهلٍ رفيق، إن الرجل الفاضل يكتب تاريخه بنفسه لجميل سيرته وحسن تعامله، فلا ينتظر شكراً من أحد، وسوف يكون بعد موته قصة جميلة يتحدث بها الرواة في المجالس، وتُنقل أخباره الجميلة على ألسنة البشر، إن ألسنة الخلق أقلام الحق، فاحذر أن تذكرك هذه الألسن بسوء أو توقّع عليك هذه الأقلام بقبيح.

 

 

 

 

  

  

 

آفة التعصب

 قال تعالى : ﴿ قل هذه سبيلي أدعوا الى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني ﴾ يوسف 108 . إن الدعوة لا تقوم على من يعتنقونها لأنها غالية أو يقودوا بها الأتباع أو يحققوا بها الأطماع أو يتاجروا بها في أسواق الدعوات لتشتري منهم وتباع ، ولكنَّ الدعوة تقوم بالقلوب التي تتجه الى الله تبتغي وجهه وترجو رضاه ، لذا أمر الإسلام بتطهير الصفوف من دعاة الفتنة حتى يكون المسلمون ذا عقيدة واحدة لا عقائد شتى . فقال تعالى في حق مثبطي العزائم ومؤججي الجدل ومروجي الظنون والاتهامات التي تلهي الأمة عن الجهاد في سبيل الله : ﴿ لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا  ولأَوْضَعوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الفتنة وفيكم سمّاعون لهم ﴾ 47 التوبة . 

إن الظنون والاتهامات التي يوجهها بعض القاصرين ممن لا سهم له في معرفة الإسلام ، لا لشيء إلا لأنه يشك أنَّ فلاناً من الناس محسوبٌ على الجهة الفلانية . وهي اتهامات لا يساندها دليل ولا يؤيدها واقع ، لأنها تصدر من أناس لا يعرفون حقيقة النبوة ولا يفقهون معنى الرسالة المحمدية ، إنها آفة المتعصبين الذين يعملون لمرضاة جهاتٍ يعيشون في دائرتهم ويندفعون مع تيارهم . وليس غريباً من أناس هذا حالهم لا يعرفون إخلاصاً لله أو تضحيةً في سبيله أو تقديراً للحق أو احتراماً لرجاله أن يسارعوا إلى التشهير وكأن وظيفة المسلم أن يتتبع العثرات ويتعافى عن الحسنات ناسين أن إصدار الأحكام جزافا من أفواه البعض يكون مرُّ المذاق ، لأنهم يضيفون إليه من نفوسهم المعتلة ما تعافه الطباع السليمة . وإذا كان  بعض المنسوبين إلى الدين رديء النظر عليل الفطرة ، فما ذنب الدين إذ تُحَمَّلُ لهولاء أو يتحمله الجّهال وأنصاف العلماء الذين يقومون على مجرد التعصب الممزوج بالجهل ، ثم لماذا لا يفهم هؤلاء أن التدين ليس تعصُّباً ولا تحزُّباً وإنما هو دعوة حق . ولماذا نجد بين صفوفنا من لا يأخذ من الدين إلا ما يناسبه ويلائمه  ويهمل ما عدا ذلك . إن القضية ليست قضية مَنْ يتبع مَنْ ، ومَنْ محسوب على مَنْ ، إنها قبل كل شيء قضية الأمة التي تعاني ، وليس أن فلاناً في موقفه يتبع مَنْ وفي رأيه يمثل مَنْ ، وعليه يُسْمَعُ له أو يُعْرَضُ عنه علماً بأن حوافز الحقد والضغينة وتوجيه الاتهامات والظنون تتنافى مع سماحة الإسلام وكرامة الإنسان ، لذلك يجب أن يكون هدف الداعين إلى الإسلام والعاملين لله ، الاحاد والألفة واجتماع القلوب والتئام الصفوف والبعد عن الاختلاف والفرقة  وكل ما يميِّزُ الجماعة أو ينفرِّ من الكلمة من العداوة الظاهرة أو البغضاء الباطنة وكل يؤدي إلى فساد ذات البين ، مما يوهن دين الأمة ودنياها جميعاً قال تعالى : ﴿ ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البيانات وأولئك لهم عذاب عظيم ﴾ .  وفي الحديث الذي رواه الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الأثنين أبعد من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة ) . إنه لا خلاص لنا مما نحن فيه إلا بالتحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأن نستصحب سيرة الخلفاء الراشدين والفقهاء الأئمة لأن الحق قلّما يفوتُ هؤلاء الكبار في مجالس السياسة والثقافة . ثم إن الفقه الإسلامي لم ينشأ من فراغ ، فله أصولاً محترمه مَنْ جهلها وجب الحذر منه بل هو في نظري ليس أهلاً للعمل في ميادين الدعوة .  وإني لأعجب من الجدل في مسألة فقهية   واحتدام الجدل حولها مما يفرق الكلمة ويشق الصفوف ، في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى جمع الكلمة في مواجهة التحديات الخطيرة من أعداء الإسلام ، وبدلاً من الخوض في هذه النقاشات التي تفرق ولا حاجة لنا بها ، لأن لكل من الفقهاء وجهته وأدلته التي يستند إليها    والكل يغترف من بحر الشريعة ما وسعه .

من أجل ذلك أكد العلماء فيما أكدوه أن وجوب العلم باختلاف الفقهاء كوجوب العلم بما أجمعوا عليه ، وإن اختلافهم رحمة واتفاقهم حجة وفي هذا قالوا : من لم يعرف اختلاف العلماء فليس بعالم ومن لم يعرف اختلاف الفقهاء لم يشم رائحة الجنة ، وحتى هؤلاء الذين لا يعرفون إلا رأياَ واحداً ووجهة واحدة أخذوا من شيخ واحد أو انحصروا في مدرسة واحدة ، ولم يتيحوا لأنفسهم أن يسمعوا رأياً آخر أو يناقشوا وجهة نظر مخالفة ، والعجيب في أمرهم أنهم يحاربون التقليد وينهون عنه وهم في الواقع مقلدون . رفضوا تقليد الأئمة القدامى وقلدوا المعاصرين  فهم ينكرون المذاهب وما دروا أنهم جعلوا من آرائهم مذهباً خامساً يتعصبون له وينكرون على من خالفه .

وإذا كان التعصب للمذاهب كما تجلى ذلك في عصور التقليد والعصبية المذهبية مذموماً فمثله في الذم وأشد من يتعصب ضد المذاهب والأئمة بصورة مطلقة ، ويوجه إليها سهام نقده وطعنه بدعوى إنها مخالفة للسنة . وكيف يقبل هؤلاء أن يُعْرِضوا عن الهموم الضخمة التي تعاني منها الأمة ، وترى الواحد منهم يقوم ويقعد ويبرق ويرعد من أجل جزيئات لا تدخل في دائرة الضروريات ولا الحاجيات  وإنما كلها في نطاق التحسينات والكماليات ، وفي سبيل هذه الفرعيات لا يبالي إن يُمَزِّقَ الشمل ويوقظ الفتن النائمة ويُحركَ العصبيات الساكنة . والتركيزُ على الأمور الخلافية والشدةُ على المخالفين فيما يجوز التساهل فيه على خلاف ما كان عليه سلف الأمة . إن أي مراقب لأوضاع الأمة الإسلامية اليوم  يوقن تمام اليقين أن مشكلتها ليست في ترجيح أحد الرأيين أو الآراء في القضايا المختلف فيها بناء على اجتهاد أو تقليد ، لأن الخطأ في هذه القضايا يدور بين الأجر والأجرين لمن تحرى وأجتهد كما هو معروف ، وليست فيمن يجهر بالبسملة أو يخفضها ، ولكن المشكلة فيمن لا ينحني يوماً لله راكعاً ، ومشكلة المسلمين ليست في مصافحة المرأة وعدم تغطية الوجه بالنقاب واليدين بالقفازين بل في تعرية الرؤوس والنحور والظهور ولبس القصير الفاضح الذي يندي له الجبين ومشكلة المشاكل هي في وهن العقيدة وتعطيل الشريعة واتباع الشهوات وشيوع الفاحشة وانتشار الرشوة والربا وخراب الذمم وسوء الإدارة وترك الفرائض الأصلية وارتكاب المحرمات القطعية وموالاة أعداء الله .

إن مشكلة المسلمين تتمثل في إلغاء العقل وتجميد الفكر وتخدير الإرادة وإماتة الحقوق ونسيان الواجبات وإضاعة أركان الإسلام ودعائم الإيمان وقواعد الإحسان .

 إن من الخيانة لأمتنا أن نغرقها في بحر من الجدل حول مسائل في فروع الفقه أو على هامش العقيدة اختلف فيها السابقون و تنازع فيها اللاحقون ، ولا أمل في أن يتفق عليها المعاصرون في حين ننسى مشكلات الأمة ومآسيها ومصائبها

سأل رجل من أهل العراق ابن عمر عن دم البعوض في حالة الإحرام فقال : عجباً يسألون عن دم البعوض وقد سفكوا دم ابن بنت رسول الله . إنه من الخيانة لدين الله أن يتقاذف الناس بكلمات أشدّ من الحجارة وأنكى من السهام من اجل مسائل تحتمل أكثر من وجه وتقبل أكثر من تفسير ، وإن من واجب الدعاة والمفكرين أن يشغلوا المسلمين بهموم أمتهم الكبرى ، ويلفتوا أنظارهم وعقولهم وقلوبهم إلى ضرورة التركيز عليها والتنبيه لها. أنا لا أنكر أن الدين أطال الحديث عن الدارة الآخرة ، وبث في النفوس الأشواق إلى نعيم الجنة كما بث فيها المخاوف من عذاب النار  لكن هذا الإسهاب في الوعد والوعيد هو لتهذيب الغرائز وكبح جماحها ومنع طغيان العاجلة على الآجلة .

أما القصور في فهم الدنيا والعجز عن امتلاك زمام الحياة ، فهذا كله لا يدل على تقوى بل يدل على طفولة فكرية يُضْارُّ بها الدين وتتقهقر بها تعاليمه  والدين ليس شقشقة لسان ، إنه قبل كل شيء قلب سليم وفكر مستقيم ينشأ عنه مجتمع كريم  وليس في تبادل الاتهامات تصديقاً لقول القائل :

إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحاً    عني وما سمعوا من صالح دفنوا

جهلاً علينا وجبناً عن عدوٍ همو    لبئست الخلتان الجهل والجبن

إن تبادل الاتهامات لا يجرُّ على الأمة إلاّ الويلات   حتى طمع بنا الأعداء وأصبحنا غنائم باردة لمن هبَّ ودب ، اسمعوا إلى أخبار المذابح والمطاردة التي تتم ضد المسلمين هنا وهتاك ، والتي تعتبر جزأً من معركة الكفر مع الإسلام في الوقت الذي تركنا فيه الإسلام وراء ظهورنا ، وهجرنا القرآن والسنة الأمر الذي يوجب علينا أن نُغَيِّرَ من سلوكنا ونحسن الأدب مع الله ومع أنفسنا ، لأن جمع الشمل أولى والتلاقي على أركان الإسلام أهم من التخاصم على سفاسف الأمور . وقد نعى القرآن الأمة التي يصبح هذا حالها قال تعالى :﴿ ولا يكونوا كالذين أُوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثيرٌ منهم فاسقون ﴾ الحديد 16 . 

 

 

الحياة الطيبة في السعادة والرضا

إن السعادة والهناء ، والفرح والسرور ، لا يكون إلا بفضل الله وبرحمته ، من خلال التزام هذا الدين عقيدة وشريعة ومنهج حياة  وتأدية العبادات على الوجه المطلوب شرعاً  فتكون السعادة بنوال رضى الله سبحانه ، لا كما يرى البعض بأنها إشباع الجوع  والحصول على المتع المختلفة  في الحياة الدنيا ، وبهذا تكون السعادة مؤقتة ، بخلاف السعادة في نظر الإسلام ، التي يحرص على أن تكون أبدية   وقد قيل بأن الحياة الطيبة هي : حياة القناعة كما فسرها علي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهم ، وفي القناعة يقول عليه الصلاة والسلام : ( القناعة مال لا ينفذ ) وقيل هي : "الأياس مما في أيدي الناس وإياكم والطمع فإنه الفقر الحاضر " وكان عمر بن الخطاب يشتهي الشيء فيدافعه عن نفسه سنة كاملة لشدة قناعته .  وقال سعد بن أبي وقاص : " عليك باليأس من الرغبات والشهوات فإنك لم تيأس من شيء إلا أغناك الله عنه " وقال عيسى عليه السلام : " كلوا من بقل البرية واشربوا من الماء القراح واخرجوا من الدنيا بسلام " . أو ليست هي السعادة  والطمأنينة ؟ أي وربي ، فكل الباحثين عن السعادة   وكل من تكلم عن الحياة الطيبة ، لن يصلوا إليها إلا بالعمل الصالح    يقول إبراهيم بن ادهم : ( والله إننا لفي نعمة لو يعلم بها الملوك وأبناء الملوك لجالدونا عليها بالسيوف ) .  إذن : هي نعمة الإيمان والطمأنينة ، إنها السعادة الحقيقة التي لم يجدها الكثيرون من الناس  

 لهذا جعل الإسلام الحياة الطيبة السعيدة ، لكل من التزم بهدي الله وطاعته ،مصداقاً لقوله تعالى : ]من عمل صالحاً من ذكرٍ وأنثى وهو مؤمن ، فلنحيينه حياةً طيبة [ النحل 97 . دلت الآية على أنه لا بد للعمل الصالح ، من قاعدةٍ يرتكز عليها ، إنها قاعدة الإيمان ، لقوله تعالى وهو مؤمن ، فلا يكون بناء ، ولا تجتمع رابطةٌ  بغير الإيمان ، يصاحب ذلك العقيدة ، التي تجعل للعمل الصالح باعثاً وغايةً ، فلا يتزعزع ولا يميل ، مع الأهواء والشهوات ، مما يحقق السعادة ، التي تطيب بها الحياة ، وذلك بالاتصال بالله  والثقة والاطمئنان إلى رعايته ، وستره ورضاه   وعندما قيل لعبد الواحد بن زيد رحمه الله : " متى يكون العبد راضيا عن ربه ؟ قال : إذا قنع بما قسم الله له وسرته المصيبة كما تسره النعمة " فالقناعة هي التي تورث الرضا عن الله سبحانه وتعالى ، والرضا عن الله سبحانه ، هو الذي يجعل الحياة طيبة في الدنيا وطيبة في الآخرة  . 

كان عبد الله بن مرزوق من ندماء المهدي فسكر يوما ففاتته الصلاة فجاءته الجارية بجمرة فألقتها على رجله وهو نائم ، فانتبه مذعورا فقالت له : " إذا لم تصبر على نار الدنيا فكيف تصبر على نار الآخرة ؟ فقام فصلى وزهد في الدنيا ، وخرج من حاشية المهدي ، وراح يبيع البقل فدخل عليه الفضيل بن عياض رحمه الله فقال له : " لقد تركت الدنيا لله ، وما ترك أحد شيئا لله إلا عوضه الله عنه ، فما عوضك الله عما تركت ؟ قال : عوضني الرضا بما أنا فيه " . وإذا سألت اليوم مصريا طيبا كيف حالك ؟ فسيقول لك : رضا . وهذه أبلغ إجابة على وجه الأرض . فما من حال أحسن من حال الرضا ، لذا قال تعالى لحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم : ] ولسوف يعطيك ربك فترضى  [. وقيل : أوحى الله تعالى لموسى عليه السلام : " أتدري لم رزقت الأحمق : قال : لا يا رب . قال : ليعلم العاقل أن طلب الرزق ليس بالاحتيال "وقال بعض العرب :

ولا تجزع إذا عسرت يوما        فقد أيسرت في الزمن الطويل

ولا تظنن بربك ظن سوء          فإن اللـه أولـى بالجميل

ولو أن العقول تسوق رزقا        لكان المال عند ذوي العقول

دخل علي بن أبي طالب المسجد وقال لرجل كان واقفا على باب المسجد : "  أمسك بغلتي فأخذ الرجل لجامها ومضى   وترك البغلة فخرج علي وفي يده درهمان ليكافئ بها الرجل على إمساك البغلة ، فوجد البغلة واقفة بغير لجام ، فركبها ومضى إلى السوق ليشتري لجاما ، فوجد اللجام في السوق قد باعه السارق بدرهمين فقال علي رضي الله عنه : " إن العبد ليحرم نفسه الرزق الحلال بترك الصبر ، ويزداد على ما قدر له" . وقيل لراهب : " من أين تأكل ؟ فأشار إلى فيه ، وقال : إن الذي خلق هذه الطاحونة يأتيها بالطحين " . وصلى معروف الكرخي خلف إمام فلما فرغ من صلاته قال الإمام لمعروف : " من أين تأكل ؟ قال : أصبر حتى أعيد صلاتي التي صليتها خلفك . قال : ولم ؟ قال : لأن من شك في رزقه شك في خالقه ، وقال عمر بن أبي عمر اليوناني وقد ضاق رزقه في بغداد على زمانه :

غلا السعر في بغداد من بعد رخصة     وإني في الحـالين بالله واثق

فلست أخاف الضيق والله واسع       غناه ولا الحرمان والله رازق

وما من حياة أطيب من حياة الرضا بما أنت فيه ، قانعا بما أنت عليه ، متلهفا لما أنت صائر إليه ، ولولا الرضا لما استمرت الحياة   فالرضا هو الذي جعل الحائك سعيدا بمهنته وهي قليلة الرزق   والحلاق مسرورا بحرفته وهي عديمة الوجاهة ، والسياسي مزهوا بوظيفته وهي غير مأمونة العواقب ، والصحفي معجبا بعمله وهو لا يعرف النوم الهادئ ، إذن سر الحياة الطيبة القناعة بالزرق   والرضا بما قسم الله ، وهذا ما عبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا ) رواه الترمذي . وقال صلى الله عليه وسلم : ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ وَرُزِقَ كَفَافًا وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ ) رواه مسلم . ويكون الرضا بالفرح بالعمل الصالح ، وبانشراح الصدور وراحة الضمير ، وهو ما ينشده كل مسلم ، يؤمن بالله واليوم الآخر .  قال عليه الصلاة والسلام : ( إن الله عز وجل بقسطه جعل الفرح والروح في الرضا واليقين ، وجعل الغم والحزن في السخط والشك ) فبرضا الإنسان عن نفسه وربه ، يطمئن إلى يومه وحاضره ، وبيقينه بالله والآخرة والجزاء ، يطمئن إلى غده ومستقبله . وقد ربطت سنة الله ، الغم والحزن ، بالسخط والشك ، فالساخطون والشاكون ، لا يذوقون للسرور طعما  لأن حياتهم سوادٌ وظلام . والساخط إنسانٌ دائم الحزن ، دائم الكآبة ، ضيق الصدر ، لأنه يعيش في سخطٍ دائم ، وغضبٍ مستمر ، ساخطٌ على الناس ، وعلى نفسه بل على كلِّ شيء . وقد قيل : " من غضب على الدهر طال غضبه ، ولهذا تراه يندب حظه دائماً ، حزينٌ بتفكيره وسلوكه " .

وشعور الإنسان بالرضا ، من أول أسباب السكينة النفسية ، التي هي سرُّ السعادة . وفي الحديث الذي رواه البزار ( من سعادة المرء استخارته ربه ، ورضاه بما قضى ، ومن شقاء المرء تركه الاستخارة وعدم رضاه بالقضاء ) ، فكل أمرٍ مقدورٍ يكتنفه أمران : الاستخارة قبل وقوعه ، والرضا بعد وقوعه ، والسعيد من جمع بينهما ، وذلك هو المؤمن ، الذي يسأل الله ، قبل إقدامه على أمرٍ من الأمور ، أن يهديه إلى أرشد الأعمال وأهدى السبل  

ومن الأدعية التي علَّمها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خيرٌ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري  فيسره لي وبارك لي فيه ، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شرٌّ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري ، فاصرفه عني ، واقدر لي الخير حيث كان ، ثم رَضِّني به ) رواه البخاري .

والمؤمن السعيد ، هو الذي يحس تلك الحالة النفسية ، التي تجعله مستريح الفؤاد ، منشرح الصدر ، غير متبرِّمٍ ولا ضجر ، ولا ساخطٍ على نفسه ، ولا على الكون والحياة والأحياء ، ومنشأ ذلك الرضا الناتج عن الإيمان بالله رب العالمين .

إن الله قد قرن الفرح بالرضا ، كما قرن الغم بالسخط ، ومن رضي فله الرضا ، ومن سخط فله السخط ، والساخط تراه في أوج سعادته ، يقول إنه غير مسرور ، فإذا قلت له لماذا ؟ يقول لك لا أدري ، فهو في همٍ دائم وشقاء ملازم ، وما درى أن الرضا والقناعة ، هما سبيل الرشاد إلى سعادة الإنسان . قال صلى الله عليه وسلم : ( الزهدُ في الدنيا يُريح القلب والبدن ، والرغبة فيها تكثر الهم والحزن ) . وسنورد هذه القصة التي ترينا ما صنعه الإيمان بقلوب المؤمنين . ذكر ابن القيم في زاد المعاد عند ذكر الوفود " قدم وفد نجيب من اليمن ، وهم ثلاثة عشر رجلا مسلماً فسرَّ بهم النبي صلى الله عليه وسلم   وأكرم منـزلتهم ، وأمر بلالاً أن يحسن ضيافتهم ، وجلسوا يسألون النبي ويتعلمون منه ، وأقاموا أياماً ولم يطلبوا المكث  رغبةً في رجوعهم إلى قومهم ، ليعلموهم مما علمهم رسول الله  ثم جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يُودِعونه ، فأرسل إليهم بلالاً فأجازهم ، بأرفع ما كان يجيز به الوفود ، ثم قال : هل بقي منكم أحد ؟ قالوا : نعم _غلامٌ خلفناه على رحلنا ، هو أحدثنا سناً قال: أرسلوه إلينا .. فلما رجعوا إلى رحالهم .. قالوا للغلام : انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقض حاجتك منه ، فإنا قد قضينا حوائجنا منه وودعناه ، فأقبل الغلام حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله : إني من بني أبذى _ الرهط الذين أتوك آنفا  فقضيت حوائجهم ، فاقض حاجتي يا رسول الله ! قال: وما حاجتك ؟ قال: إن حاجتي ليست كحاجة أصحابي _ وإن كانوا قد قدموا راغبين في الإسلام _ وساقوا ما ساقوا من صدقاتهم . وإني _ والله _ ما أقدمني من بلادي ، إلا أن تسأل الله عز وجل ، أن يغفر لي ويرحمني ، وأن يجعل غناي في قلبي . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( اللهم اغفر له ، وارحمه واجعل غناه في قلبه ) . ثم أمر له بمثل ماأمر به لرجل من أصحابه ، فانطلقوا راجعين إلى أهلهم . ثم وافوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمِنَىًسنة عشر للهجرة فقالوا : نحن بنوا أبذى ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فعل الغلام الذي أتاني معكم ؟ قالوا : يا رسول الله : ما رأينا مثله قط   وما رأينا أقنع منه بما رزقه الله ، لو أن الناس اقتسموا الدنيا ما نظر نحوها ، ولا التفت إليها ، فقال الرسول : الحمد لله ، إني لأرجو أن يموت جميعا ، فقال رجلٌ منهم : أوَ ليس يموت الرجل جميعاً يا رسول الله ؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم مبيناً لهم أن من الناس من يموت مشتتاً موزعا _ تتشعب أهواؤه وهمومه في أودية الدنيا ، فلعل أجله أن يدركه في بعض تلك الأودية ، فلا يبالي الله عز وجل في أيها هلك )قليل من الناس ، بل أقل من القليل ، الذي يعيش لغاية واحدة  ويجمع همومه في هم واحد ، يحيا له ، ويموت عليه  ذلك هو المؤمن البصير ، الذي جعل غايته الفرار إلى الله ، وسبيل إتباع ما رسم الله وكل شيء فيه لله وبالله ، متمثلاً قول الله ] إن صلاتي ونسكى ومحياي ومماتي لله رب العلمين [ الأنعام .

 

 

 

 

 

 

منزلة الغفو والصفح

لا يوجد أحد إلا وله زلات وسقطات ، وعليه مظالم وحقوق للناس ، وحتى لا يطالبه الناس بها يوم القيامة ، لا بد أن يتجاوز الناس عنه في مظالمهم ويسامحوه ، وهو أحوج ما يكون إلى حسناته . وقد رغب الله تعالى في العفو عن الناس والصبر على أذاهم  فقال : ﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ آل عمران/ 134 . وإنَّ حث الشريعة على العفوِ والتجاوُز لم يكن مقتصِرًا على العفو في الظاهرِ دون الباطن، بل إنَّ الحث عمَّ الظاهر والباطنَ معًا، فأطلق على الظاهر لفظَ العفو، وأطلق على الباطنِ لفظ الصَّفح، وإنَّ الصفحَ أبلغ من العفو؛ لأنَّ الصفح تجاوزٌ عن الذنبِ بالكلية ، واعتباره كأن لم يكن، أمّا العفو فإنّه يقتضي إسقاطَ اللوم الظاهر دونَ الباطن، ولذا أمَر الله نبيَّه به في قولِه: ﴿فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ﴾ الحجر:85، وهو الذي لا عتاب معه ، وقد جاءتِ الآيات متضَافِرةً في ذكرِ الصفح والجمعِ بينه وبين العفو كما في قولِه تعالى: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ﴾ المائدة:13، فديننا دين عفو وصفح ومسامحة ، وليس دين حقد وتباغض ومقاطعة    كيف لا وربنا عفو كريم يحب العفو سبحانه ، أخرج الإمام أحمد بسنده عن عَائِشَةُ قَالَتْ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ وَافَقْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ مَا أَقُولُ قَالَ : (تَقُولِينَ اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي) ، لذا يجب على المسلمين أن يُسْدوا لبغضهم النصح ، وذلك خيرٌ للناس وأصلَح ، فبذلك تتبدَّد الظُّلمة، وتزول الفرقة، وتجتمع كلمةُ المسلمين على الحق قال ابن عباس رضي الله عنهما: "ما رأيتُ رجلًا أوليتُه معروفًا إلا أضاء ما بيني وبينه، ولا رأيتُ رجلًا أوليتُه سوءًا إلا أَظْلَمَ ما بيني وبينه". وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لا يحلُّ لامرئٍ مسلمٍ يسمع كلمةً مِن أخيه المسلم، أو عن أخيه المسلم - أنْ يَظُنَّ بها سوءًا وهو يجد لها في الخير محملًا". وما دامت الكلمةُ تَحمل طوايا الخيرِ في ثناياها، فلماذا نُسيء الظنَّ، ونحملها على غير ما ينبغي، وفرقٌ بين مَن يفعل ذلك للتشهير والأذى   وبين مَن يُبَيِّن العيبَ بهدف النصيحة، هناك فرقٌ بين مَن يبين الإساءاتِ لِيُسيء بها للناس ؛ وبين مَن يَنصح ببيانِ العيوبِ ، لا على سبيل التنقُّص والازدراء، وإنما لكشْف الحال وبيان المقام، لا حُبًّا في الظهور، ولا رغبةً في الانتقام ولا تَشَفِّيًا، وإنما نُصْحًا لله ولرسوله صلَّى الله عليه وسلَّم وللمؤمنين.

هناك رؤيةٌ قاصرةٌ ، وفي ضوء هذه الرؤية تنساق النفسُ إلى الجدل ، فتقع في المحظور الشرعي الذي تجنَّبَه علماء الأمة ، فليكُن شعارنا التسامُح والعفو والصفح، ومحبة الآخرين وعدم الخوض فيما لا ينفع؛ لِننالَ رضوانَ الله، ونكُون مِن السائرين على درب الصالحين فلا يُسوَّغ لمسلمٍ أنْ يَتَّهِم مسلمًا دون دليل، أو أن يَنْقُل عن أحد دُون تثبُّت أو أن يحمِّل الكلامَ غير ما يحتمِل، أو أن نحكم على الآخرين دون وقوف على أفعالهم أو سماعٍ أقوالهم لأن الله جل وعلا يحاسب الناسَ على أعمالهم؛ خيرها وشرها، فمَن ثقُل خيْرُه فله الثواب ومَن ثقُل شرُّه فعليه العقاب، لذا نحن بحاجة السكوت ، فلا نخوض فيما لا فائدة فيه لأننا سنُحاسَب على ما يصدر منا ، وخيرٌ لنا الأدبُ مع الآخرين ورعاية حقوقهم، لقد شبَّه الرسولُ صلَّى الله عليه وسلَّم المؤمنَ في تعاوُنه مع أخيه بالبُنيان فقال: (المؤمنُ للمؤمنِ كالبُنيان، يَشُدُّ بعضُه بعضًا) ، والبنيان لا يزال متماسكًا منيعًا ما دامَت أجزاؤه سليمةً مِن العطب، وإلا يلبث أن ينهار، عجيبٌ أمرُ البعض إذا أحبوا شخصًا أسرفوا في مدحه وبالغوا في رفع شأنه ، وتناسَوا عثراته، ولو كانت مثلَ الجبال، يَسِيرون على قاعدةِ عَيْنِ الرضا على حد قول القائل:وعَيْنُ الرِّضَا عن كُلِّ عَيْبٍ كَلِيلَةٌ ... وإذا قلتَ لهم: إن هذه أخطاء يجب أن نُبيِّنها للناس لئلا ينخدعوا، قالوا: هذه الأخطاء لا تساوي شيئًا في ميزان حسناتِه . لقد اختلَّت الموازينُ عند كثير من الناس، وغاب الوعي الشرعي عنهم؛ بسبب قشورِ الثقافةِ، وسطحية التفكير والولاء للمناهج والأشخاص.

 إن بيان العيوبِ، ونقْد الآخرين بما فيهم، وبيان عيوبِ المناهجِ والأشخاصِ، مِن الدِّين الذي يُؤْجَر المسلمُ عليه إن شاء اللهُ؛ ما دام لا يَستَهدف مِن وراء ذلك أذية أو انتقامًا أو تشفِّيًا، وهذا ما كان عليه حال سلَف الأمَّة، رَزَقَنا اللهُ حُسْن اتِّباعِهم، ووفَّقنا لسلوك طريقهم، وكفانا الله شرَّ أنفُسِنا والشيطان.

 

   كلنا قريب من الذنب والطاعة

مَنْ مِنا لا يقع في معصية الله؟! ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: ( كُلُّ بَني آدمَ خطَّاءٌ وخيرُ الخَطَّائينَ التَّوابونَ) رواه الترمذي وابن ماجة وأحمد وقال الألباني: حسن . فكيف بنا ونحن نعيش في عصر قد أُجلِبت الفتن والشهوات علينا ، وصرنا نرى بأعيننا ونسمع بآذاننا صباح مساء ما يدعونا إلى المعصية ويزيّنها بأعيننا، وما يؤخرنا عن الطاعة ويحجزنا عنها. أخرَجَ أهلُ السُّنَن و الطبراني عن ابن عباس رَضي اللّٰهُ عنهما أنَّ النَّبي  صَلَّى اللّٰهُ عليه وَ سَلَّم قال: ( ما من عبدٍ مؤمنٍ إلا و له ذنبٌ يعتادُه الفينةَ بعدَ الفينةِ ، أو ذنبٌ هو مقيمٌ عليه لا يُفارِقُه حتى يُفارِقَ الدنيا  إنَّ المؤمنَ خُلِقَ مفتَّنًا توابًا نسَّاءً ، إذا ذُكِّرَ ذكَرَ )والحديثُ بسَنَدٍ صحيح حَسَّنَه الألباني ، فالعَبدَ المؤمِن قريبٌ مِن الذنبِ كما هو قريبٌ مِن الطاعةِ ؛ ومن الذي لا يقع في معصية الله والرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقسم فيقول: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، فَيَسْتَغْفِرُونَ اللهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ) رواه مسلم . إذًا فكَون العَبد المؤمن مَخلوقٌ على تركيبٍ يقبل الذنب بطبيعته ؛ كما ذُكِر في حديث آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما مِن عَبدٍ مؤمنٍ  إلا وله ذنبٌ يعتادُه الفينةَ بعدَ الفينةِ ) يعني الحِين تلو الحِين والكَرَّة تلو الكَرَّة  ( أو ذنبٌ هو مقيمٌ عليه لا يُفارِقُه حتى يُفارِقَ الدنيا ) لماذا؟ لأنَّ المؤمن خُلِقَ بهذا التركيب كما قال : ( إنَّ المؤمنَ خُلِقَ مفتَّنًا توابًّا نسَّاءً  إذا ذُكِّرَ ذَكَر ) أي مُعَرَّض للفِتنةِ بتركيبه  ليس مَلَكًا نَورانيًّا ، بل فيه لَمَّة الشيطان وفيه لَمَّة الخَير ( مفتَّنًا توابًّا نسَّاء ) يعني يُصيب الذنب ويتوب مِنه ثم ينسى فيُعاوده ، وقد يكون النسيان نسيان الذاكرة ، وقد يكون النسيان نسيان الهَجر والترك     لأنَّ النسيان له هذا المعنى ( توابًّا ) أو له ذنب يُعاوده ، لماذا ؟ لأنَّه خُلِقَ بهذا التركيب ( إنَّ المؤمنَ خُلِقَ مفتَّنًا توابًّا نسَّاءً ، إذا ذُكِّرَ ذَكَر ) قال تعالى : ﴿ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ الذاريات 55، إذا ذُكِّر تَذَكَّر، قد تُلقي مَوعِظة على أصحابِ كثيري الذنوب فتَدمَع لهذه المَوعِظة أعيُنَهم  لأنَّ فيهم مِن الدِّينِ والإيمانِ ما إذا ذُكِّروا تذكَّروا ، لكن العبد إذا قُرِّب من الذنوب قد يقع ، إذًا العبد مخلوق على أن يكون مائلًا للذنبِ ، ومِنَّا مَن هو أسرع في المَيلِ إلى الذنبِ من غيره ، لذا فتح الله أبوابًا التوبة ، ليُداوي العَبد من هذا المَرَض  ، فأمرنا بأن نتوب قال تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ﴾ التحريم 8 وقال ﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ ثم بَيَّن فَضل التوبة    وقال سُبحانه: ﴿ إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ﴾ الفرقان 70 ، فهذا بيان لفضل التوبة وأنَّها تُكفّر الذنب وتُطهّر العَبد مِما سبق مِن ذنوب ، فما هي التوبة ؟! : التوبة عِلمٌ و حالٌ و عَمَلٌ . عِلم بما اقترف ، فحين يعلم العَبد أنَّ الذنب مُصيبة ، وأنَّه ليس مِن الأمورِ البسيطة يخاف ، وبقدر ما يعظم الذنب في نفسه ويكبر ، يزداد بُعْدَهُ عنه ويحاول الفكاك منه.

وقد صوّر عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه- المؤمن مع ذنبه تصويرًا دقيقًا فقال -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: ( إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ وَإِنَّ الْفَاجِرَ -العاصي والفاسق- يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ فَقَالَ بِهِ هَكَذَا ) رواه البخاري ، قَالَ أَبُو شِهَابٍ: بِيَدِهِ فَوْقَ أَنْفِهِ. وهذا كناية عن عدم اكتراثه بالذنب. قال أحد السلف معلقًا على كلام ابن مسعود: "إنما كانت هذه صفة المؤمن لشدة خوفه من الله ومن عقوبته؛ لأنه على يقين من الذنب، وليس على يقين من المغفرة والفاجر قليل المعرفة بالله فلذلك قل خوفه واستهان بالمعصية". فلماذا ضُرِبَ المَثَل بالجَبَل؟ لأنَّ كُلّ مُهلِك يُرجَى معه النجاة ، إلا هَدم الجبل فوق الرؤوس.. أمَّا حال المذنب : فهو النَّدَم بالبُكاءٌ على ما فات والحِرص على ما هو آت. وأما العَمَل : أن يعزم على ألا يعود وأن يُتبِع السيئة الحسنة ، ويدفع بالتي هي أحسن ﴿ إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سيئاتهم حسنات ﴾  لنقف مع أنفسنا وننظر رصيدنا اليومي من محقرات الذنوب. فكم كلمة أو رسالة في جوال أو تغريدة نطلقها لا نلقي لها بالاً.. ! فهذه سخرية بمسلم وهذه همز أو لمز له، وتلك وقوع في عرضه، وأخرى كلمة غير صادقة أو ما يسمى بالكذبة البيضاء ، التي  عمت وانتشرت ، وبسبب شؤم هذه المعاصي التي سادت وانتشرت بين المسلمين ، خربت البلاد وتعطلت المصالح، وإذا بالغلاء الفاحش يضرب بأطنابه في كل مكان، والناس يشكون من هذه الابتلاءات والمصائب المتتابعة عليهم، وما علموا أن الجزاء من جنس العمل  فالله لا ينزل مصيبة في الأرض ولا بلاءً من السماء إلا بسبب معصية أو فاحشة، وبسبب شيوع المنكرات والسيئات والمعاصي.

نعيب زماننا والعيب فينا         وما لزماننا عيب سوانا

ونهجو ذا الزمان بغير ذنب    ولو نطق الزمان لنا هجانا

وليس الذئب يأكل لحم ذئب  ويأكل بعضنا بعضاً عيانا

وهذه نظرة عابرة لما حرّم الله، حتى يجتمع على أحدنا من هذه الأعمال الصغيرة بأعيننا طودٌ عظيمٌ من محقرات الذنوب فتهلكه .

عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ؛ قَالَ: سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ تَخْرُبُ صُدُورُهُمْ مِنَ الْقُرْآنِ وَتَبْلَى كَمَا تَبْلَى ثِيَابُهُمْ، وَلا يَجِدُونَ لَهُ حَلاوَةً وَلا لَذَاذَةً، إِنْ قَصَّرُوا عَمَّا أُمِرُوا بِهِ؛ قَالُوا: ﴿ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ الممتحنة: 12، وَإِنْ عَمِلُوا مَا نُهُوا عَنْهُ؛ قَالُوا: ﴿ إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك ﴾ النساء: 48، أَمْرُهُمْ كُلُّهُ طَمَعٌ لَيْسَ مَعَهُ خَوْفٌ، لَبِسُوا جُلُودَ الضَّأْنِ عَلَى قُلُوبِ الذِّئَابِ، أَفْضَلُهُمْ فِي أَنْفُسِهِمُ الْمُدَاهِنُ.

 

 

  

 نداء القلوب

الى قلوب تبادلني المودة والإخاء ، إلى قلوب تسقيني أنهارا" من الوفاء

في الله أحببتكم .. وبالخير ذكرتكم.. وبالغيب دعوت لكم ، اللهم سق إلى أحبتي من رحماتك ما يغنيهم ... وأنزل عليهم من بركاتك ما يكفيهم ..وادفع عنهم كل ما يؤذيهم وهب لهم من العمل الصالح ما ينجيهم اللهم افتح لهم كنوزك .. وسخر لهم عبادك .. وابسط لهم رحمتك .. وسخر لهم أحبابك ..ويسر لهم أسبابك .. واجزهم خير ثوابك .. يا أرحم الراحمين اللهم آميين

يقول أحد الصالحين : إذا رأيت أن الله وفقك لإخوة تعينك على الخير .. فأعلم أن الله يريد بك خيراً !!وإذا وفقك الله للدعاء .. فأعلم أنه يريد أن يعطيك !! وإذا وفقك الله لذكره .. فأعلم أنه يحبك ..!! وإذا أحبك ( أعزك .. ونصرك .. وأيدك .. وأستجاب لدعائك ) جعلنا الله وإياكم من أحبابه.... اللهم ارزقنا صحبه طيبه صالحه .. تعيننا على الخير وتذكـرنا بك و تقربنا إليك يا الله

   من أمراض النفوس حب الظهور

حب الظهور والبحث عن الثناء مرض من أمراض النفوس، وآفة من آفاتها، فتجد الواحد يسعى للصدارة، والبحث عن المدح، والبحث عن المنزلة في نفوس الناس، يقول الثوري رحمه الله، هذا الإمام العالم العابد الزاهد، يقول: " تجد الصالح يزهد في كل شيء، يزهد في المال، ويزهد في الطعام، ويزهد في المسكن، فإذا نوزع الرئاسة حامى عليها وعادى"، ومن علامات وجود هذا المرض أن يكون الإنسان كثير التزكية لنفسه، الذي نهى الله عنه فقال ﴿ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ ﴾ سورة النجم: 32، فتجد من يمدح نفسه، ويزكي عمله، ويتحدث عن منجزاته ، ويتضايق إذا ذكرت منجزات الآخرين ، وكثيراً ما يستعجل في الأمور، لكي تكون له الصدارة، حتى لا يرضى أن يتكلم غيره ، وهذه صفة سلبية مذمومة ، جاء أبو ذر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ألا تستعملني؟ - يعني تجعلني مسئولاً عن عمل- فقال صلى الله عليه وسلم بعد أن ضرب بيده على منكب أبي ذر: ( يا أبا ذر، إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذ بحقها، وأدى الذي عليه فيها )  ومن ذلك ما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند ابن حبان والحاكم، قال عليه الصلاة والسلام: ( ويل للأمراء، ويل للعرفاء، ويل للأمناء، ليتمنين أقوام يوم القيامة أن ذوائبهم معلقة بالثريا - يعني أطراف شعورهم - يُدلدلون بين السماء والأرض، وإنهم لم يألوا عملاً ) وكم تكاثرت الأحاديث في ذم التقدم والتصدر، وتزكية النفس، لكن جاء في مدح هذا بعض النصوص الشرعية  

منها قول يوسف عليه السلام: ﴿ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ﴾ يوسف 55، ومنها دعاء المتقين الصالحين: ﴿ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً ﴾ الفرقان 74، فكيف نفهم هذا؟.

يوسف عليه السلام ما طلب الإمارة حتى اجتمعت فيه الكفاءة والأهلية ، وأما دعاء المتقين فهم إنما سألوا ربهم ولم يسألوا من يقدموهم ويصدروهم .

ومن أسباب هذا المرض: أن يظن أن الصدارة تشريف وليست تكليفاً، ويسعى لجمع وجوه الناس إليه، ونسي أنها المسئولية أمام الله قال عليه السلام : ( ما من رجل يلي أمر عشرة فما فوق ذلك، إلا أتى الله مغلولة يده إلى عنقه ) كل من تصدر سيأتي يوم القيامة على هذه الصفة ( مغلولة يده إلى عنقه فكه بره، أو أوثقه إثمه، أولها ملامة، وأوسطها ندامة، وآخرها خزي يوم القيامة ) ويقول صلى الله عليه وسلم كما عند الإمام أحمد من حديث أبي أمامة: ( إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة، فنعم المرضعة، وبئست الفاطمة! ).

والتصدر ليس فقط في أمور الدنيا، بل وأخطر من هذا التصدر في أمور الدين    ويا ويح من تقدم لها، ولم يكن لها بأهل قال تعالى : ﴿ لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ ﴾ النحل: 25.

ومن أسباب حب الظهور: أن تتكلم كلمة فيمدحك الناس، وتظن أن هذا من الحسنات، واللهِ كأنهم ذبحوك بسكين، أن تسعى نفسك للمدح، وتنسى الثناء من الله، وتريد مدح الناس وثناءهم ، لذا أمرنا عليه الصلاة والسلام، فقال: (إذا رأيتم المدّاحين ، فاحثوا في وجوههم التراب)، رواه مسلم عن المقداد رضي الله عنه، ومن آثار حب الظهور أن يُحرم العبد التوفيق ، فيوكله الله إلى نفسه؛ لأنه هو الذي أراد هذه المنزلة، فيتركه الله عز وجل، يقول صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة: ( يا عبد الرحمن، لا تسأل الإمارة، فإنك إن أُعطيتها عن مسألة، وُكلت إليها، وإن أُعطيتها عن غير مسألة، أُعنت عليها ) ومن آثار ذلك: وقوع الفتن بين الناس   فيتسلط بعضهم على بعض، ويحقد بعضهم على بعض، ويحسد بعضهم بعضاً، ويتنازعون على الدنيا، فيكثر بينهم السباب، والفرقة، والخلاف، ويضل الناس السبيل، ليس لأن الدين ليس بالواضح البين ، بل لأن هؤلاء ما زكوا أنفسهم، فكم سيكون عليهم من الإثم يوم القيامة؟. والسؤال ما العلاج ومن منا لا يسلم ؟

العلاج أن تربي نفسك على الطاعة، فلا تتحدث مع نفسك أنك مهم وكبير، لا، ﴿ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ ﴾، رحم الله أبا بكر الصديق، كان يخرج لسان نفسه، ويقول: " هذا الذي أوردني الموارد " رحم الله عمر كان يجر لحية نفسه، ويقول: " لتتقين الله يا عمر، أو ليعذّبنك الله "، رحم الله عثمان، كان يقول في نفسه: " لو أخبرت أن الناس دخلوا جميعاً الجنة إلا واحداً لخفت أن أكون أنا، ولو دخلت رجلي اليمنى الجنة، لخفت ألا تدخل اليُسرى، ومن لي بآدم، وهو نبي، كان في الجنة، ثم أخرج منها " ، فلا تزك نفسك، ربِ نفسك على طاعة الله، وطلب الثناء من الله سبحانه وتعالى ، وإذا أردت أن تنجو من هذا المرض، فاعلم أن الدنيا حقيرة في جنب الآخرة ( ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه في اليم، فلينظر بماذا يرجع؟! ) كم ستأخذ من البحر إذا وضعت إصبعك؟ قطرة، قطرتين، ما الدنيا في الآخرة بشيء، ومن الاغترار بالدُّنيا السعيُ خلف الشُّهرة وبريقها، فكثيرٌ من الناس تَتُوق نفسه إلى أن يُشار إليه بالبنان أو أن يكون هو حديثَ المَجالس، أو أن يُسمع قولُه، أو يُكتب؛ لذا قد يَسعى بعضُهم بكلِّ سبيلٍ إلى تحقيق ذلك، ولو على حساب مُخالفة الدِّين والأخلاق؛  

لذا؛ حذَّر الشَّرع من حبِّ الشُّهرة والظُّهور ، فقال تعالى معلِّمًا نبيَّه صلَّى الله عليه وسلَّم:﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ الأنعام: 16؛ "أي: إنَّ كل أعمالي ومَقاصدي محصورةٌ في طاعة الله ورِضْوانه، لذا؛ حذَّر  صلَّى الله عليه وسلَّم من سوء الأخلاق التي يكون عمَلُها وسعْيُها وقولُها لغير الله، فقال صلَّى الله عليه وسلَّم : (إنَّ أوَّل النَّاس يُقضَى يوم القيامة عليه: رجلٌ استُشهِد، فأُتِي به، فعرَّفه نِعَمه فعرَفها، قال: فما عَمِلتَ فيها؟ قال: قاتلتُ فيك حتَّى استُشهدت، قال: كذبتَ ولكنَّك قاتلتَ لأنْ يُقال: جريءٌ، فقد قيل، ثُمَّ أُمِر به فسُحِب على وجهه حتَّى أُلقِيَ في النَّار، ورجلٌ تعلَّم العلم وعلَّمه، وقرأ القرآن، فأُتِي به فعرَّفه نعمه، فعرفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: تعلَّمت العلم وعلَّمتُه، وقرأتُ فيك القرآن، قال: كذبتَ، ولكنَّك تعلَّمت العلم؛ لِيُقال: عالِمٌ، وقرأتَ القرآن ليقال: هو قارئٌ، فقد قيل، ثمَّ أمر به، فسُحِب على وجهه حتَّى ألقي في النَّار، ورجلٌ وسَّع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال كلِّه، فأُتِي به فعرَّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: ما تركتُ من سبيلٍ تحبُّ أن ينفق فيها إلاَّ أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنَّك فعلتَ لِيُقال: هو جوَادٌ، فقد قيل، ثُمَّ أُمِر به، فسُحب على وجهه، ثمَّ ألقي في النَّار . أحبَطوا ثوابَ عمَلِهم بسبب طلب الشُّهرة بين النَّاس، وحب الظُّهور الذي يَقْصِم الظُّهور، فكانوا أوَّل من تُسعَّرُ بهم جهنَّم، فهم حطَبُها الأوَّل؛ لأنَّهم أرادوا أن يَكونوا أوَّلَ الناس، وعلى رأسهم، فعاقبَهم الله بمِثْل قصدِهم، والجزاء من جنس العمل، ﴿ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [فصلت: 46].

 

 

 

 

 

 

التحذير من البحث عن الشهرة وحب الظهور

البحث عن الشُّهرة خلَلٌ في عقيدة التَّوحيد، فهو الصُّورة التطبيقيَّة للرِّياء المُحْبِط للأعمال في ميزان الشَّريعة. وإذا كان قولُ النبِيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم:(من لَبِس ثوب شُهرة ألبسَه الله يوم القيامة ثَوْب مَذَلَّة)؛ وعن شَهْرِ بن حَوْشب قال: "مَن ركب مشهورًا من الدوابِّ ولبس مشهورًا من الثياب، أعرض الله عنه، وإن كان كريمًا"- سِيَر الذَّهبي- 4/ 375. كما أن اللباس المعنويَّ للشُّهرة يمكن أن يشمله الحديثُ من باب أولى، ومن أيِّ نوع كان؛ سواء لباس التَّقوى، أو لباس العلم أو لباس الزُّهد، أو لباس الورَع، وأي لباس معنوي يتدثَّر به الإنسان بين الناس يسبِّب له الشهرة وهو يقصدها، ويتعمَّد أن يراه الناس بها، فقد قالَ البَيْهَقِيُّ: "كلُّ شيء صيَّر صاحبه شهرة، فحقُّه أن يُجْتَنَب" كما في عون المعبود 9/ 171. أمَّا من اشتهر بالعلم والزُّهد والورع، ونيَّتُه صالحة وعمَلُه خالصٌ لوجه الله، فإنه خارجٌ عن هذه الدائرة، ولكن الواجب عليه أن يتفقَّد حال قلبه بين الفينة والأخرى ، وقد كان الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - يفرُّون من الشُّهرة وعدم الإخلاص لله في الأقوال والأفعال، كما تفرُّ الفريسةُ من الأسد؛ فهذا بُريدة بن الحصيب يقول: "شهدتُ خيبر   وكنت فيمن صعد الثُّلْمة، فقاتلتُ حتَّى رُئِي مكاني، وعليَّ ثوبٌ أحمر فما أعلم أنِّي ركبتُ في الإسلام ذنبًا أعظم عليَّ منه"؛ أيِ: الشُّهرة سِيَر الذَّهبي 2/ 470. وهذا أبو عبيدةَ بنُ الجرَّاح لَمَّا ذهبَ مَددًا إلى عمرو بن العاص في غزوة ذات السَّلاسل قال عمرٌو لأبي عبيدة، والنَّفَر الذين معه: أنا أميرُكم، وأنا أرسلتُ إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم     أستمدُّه بكم، فقال المهاجرون: بل أنت أمير أصحابِك، وأبو عبيدة أمير المهاجرين، فقال عمرٌو: إنما أنتم مدد أمددته، فما كان من أبي عبيدة في هذا الموقف إلاَّ أن أخلَص لله، وترك الشُّهرة وراءَه ، وقال: والله يا عمرو إنَّك إن عصيتني لأُطِيعنَّك، وسلَّم إليه الإمارة ، -البداية والنهاية- 4/ 272. وهذا خالد بن الوليد عندما أمَرَه عمرُ بن الخطَّاب الخليفةُ أن يَترك قيادة الجيش لأبي عبيدةَ بن الجرَّاح، قال: سمعًا وطاعةً لأمير المؤمنين وهذا موقفٌ والله يُحسَد عليه، ولو تعرَّض له أحَدُ القُوَّاد في هذا العصر وبِشُهرة سيف الله المسلول، لمَا تركَ قيادة الجيش، ولما ترك هذه الشُّهرة بل انقلبَ على أميره وحاربَه، ولكنَّه الإخلاص لله ولدينه، والفرارُ من الشُّهرةِ وحبِّ الظهور. ولو كانت الشُّهرة مَنْقبةً تتشوَّق لها النُّفوس الكريمة، لأكرَم الله بها سادة الدُّنيا من الأنبياء والمرسَلين الذين بُعِث منهم ما يزيد على ثلاثمائة رسول، وأكثر من مائة ألف نبي، ورغم ذلك لم يَحْفظ لنا القرآنُ سوى أسماء خمسة وعشرين رسولاً لا غير.

وقد حذَّر سلَفُنا الصالِحُ من حُبِّ الظُّهور والشهرة بين الناس لِمَن يسعى إليها، ويجعلها هدفَه، وتضافرَتْ أقوالُهم المحذِّرة من هذا الخلُق الذَّميم   فهذا سفيانُ الثوريُّ يقول: "إيَّاك والشُّهرة؛ فما أتيتُ أحدًا إلاَّ وقد نَهى عن الشُّهرة" -سِيَر الذَّهبي- 7/ 260. . وقال إبراهيمُ بن أدهم: "ما صدَقَ اللهَ عبدٌ أحبَّ الشُّهرة" -لمنتظم 3/ 61-. كما تضافرَتْ أفعالُهم في البعد عن الشُّهرة؛ رغبةً في ثواب الله - عزَّ وجلَّ - وإخلاصًا له .  

هكذا مضى السَّلف الصالِح على هذا المنهاج، وكان هذا دِينَهم ودَيدنَهم فأين هذا من أقوامٍ غلبَهم حبُّ الشهرة، وظَنُّوا أنَّ التفاضل بكثرة المعلومات، وكثرة المَحْفوظات، وبالثَّناء، وبانتشار الذِّكر، فالشهرة حين تصير غايةً في ذاتها فمعنى ذلك تفَشِّي الكذب والنِّفاق، والخديعة والتصنُّع، ومعرفة الناس الشُّهرة تَعني سقوط النَّماذج الحقيقة؛ ليبرز مكانَها البالونات الكاذبة والسَّراب المضلل، فليس كلُّ مشهور ناجحًا أو ناجيًا عند الله تعالى، وليس كلُّ مغمور فاشلاً أو متأخِّرًا ، لذا؛ قال ابنُ خلدون: "قلَّما صادفَت الشُّهرةُ والصِّيت موضِعَها في أحدٍ من طبقات النَّاس في أحد مَجالاتهم على وجه العموم، وكثيرٌ مِمَّن اشتُهر بالشَّر وهو بخلافه   وكثير مِمَّن تجاوزَتْ عنه الشُّهرة، وهو أحَقُّ بها، وقد تُصادِف موضعها وتكون طبقًا على صاحبها، وإنَّ أثرَ الناس في إشهار شخصٍ ما يدخل الذُّهول والتعصُّب، والوهمَ والتشيُّع للمشهور، بل يدخله التصنُّع والتقرُّب لأصحاب الشهرة بالثَّناء والمدح، وتحسين الأحوال، وإشاعة الذِّكْر بذلك، والنُّفوسُ مولَعةٌ بحبِّ الثَّناء، والناس مُتطاوِلون إلى الدُّنيا وأسبابِها فتختل الشهرة عن أسبابها الحقيقة، فتكون غيرَ مطابقة للمشتهِر بها" -مقدمة ابن خلدون- 1: 150. والشهرة يجب ألاَّ تكون هدفًا في ذاتِها بل يمكن أن تكون نتيجةً للأعمال الصَّالحة أحيانًا، فعلى مَن ابتُلِي بها الصَّبرُ والمجاهدة، ومدافعَتُها قدر الإمكان دون الإخلال بوظيفته الصالحة في الحياة، فمن عمل صالحًا وعافاه الله، وكان مغمورًا، فلْيَعش في جنَّة الدُّنيا، ولْيَبق حُرًّا طليقًا، ولا يدخل إلى أقفاص المُراقَبة البشريَّة؛ ففي جنَّةِ الإحسان أن تَعْبد الله كأنَّك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك، وإذا رأيتَ مشهورًا فقل: الحمد لله الذي عافاني مِمَّا ابتلاك، وفضَّلَنا على كثيرٍ من عباده تفضيلاً.

  

 

   

 

 من يعيش الحب ومن لا يعيشه

حسب الحب من البهاء والحسن ، أنه يطهر النفوس، ويمحو صورة الرذيلة ، ويدعو إلى مكارم الأخلاق، ويحمل على كريم الطباع، وعظيم الشمائل ، وليس كالحب إذا لم يكن في حرام مطهراً للنفوس، ومصلحاً للأمم، وحافزاً للفضيلة   .  

قال أبو عبد الرحمن ابن عقيل: " الحب أحجية الوجود ، ليس في الناس من لم يعرف الحب، وليس فيهم من عرف ما هو الحب ، الحب مشكلة العقل التي لا تحل؛ ولكنه حقيقة القلب الكبرى ، الحب إشراقةٌ للنفس؛ وحياة للروح؛ فمن لم يحب فليس من الأحياء في شيءٍ؛ وإن كان حيّاً في جسده، وإن كان متحركاً ببدنه ، فَدِينُ الله يكون على القلب ، بالاعتقاد ، وبالحب وبالبغض ، ويكون على اللسان بالنطق ، وترك النطق بالكفر   ويكون على الجوارح ، بفعل أركان الإسلام ، وترك الأفعال التي تكفّر ، فإذا اختل واحدة من هذه الثلاث كفر وارتد " "الدررالسنية  " 10/87

وقد حث الإسلام أيضا على الحب بين الزوجين ، بل وأمر المسلمين به حيث ورد في القرآن: { وعاشروهن بالمعروف}

" سئل أحد الحكماء، ما الفرق بين من يتلفظ الحب وبين من يعيشه؟ قال الحكيم: سترون الآن، ودعاهم إلى وليِّمة وبدأ بالذين لم تتجاوز كلمة الحب شفاههم ، ولم ينزلوها بعد إلى قلوبهم، وجلس إلى المائدة ، وجلسوا بعده. ثم أحضر الحساء وسكبه لهم ، وأحضر لكل واحد منهم ملعقة بطول متر! وأشترط عليهم أن يحتسوه بهذه الملعقة العجيبة، وحاولوا جاهدين لكن لم يفلحوا ، فكل واحد منهم لم يقدر أن يوصل الحساء إلى فيه دون أن يسكبه على الأرض!! وقاموا جائعين في ذلك اليوم . قال الحكيم: حسنا، والآن أنظروا… ودعا الذين يحملون الحب داخل قلوبهم ، إلى نفس المائدة ، فأقبلوا والنور يتلألأ على وجوههم المضيئة، وقدم لهم نفس الملاعق الطويلة! فأخذ كل واحد منهم ملعقته وملأها بالحساء ، ثم مدها إلى الشخص الذي يقابله، وبذلك شبعوا جميعاً، ثم حمدوا الله

وقف الحكيم وقال: من يفكر على مائدة الحياة ، أن يشبع نفسه فقط؛ فسيبقى جائعاً، ومن يفكر أن يشبع أخاه ، سَيشْبع الاثنان معاً ". هذا يدل على أن الحياة ليست في الاكتفاء بالأخذ من الآخرين دون العطاء، وليست لمن لا ينظر إلا لنفسه ، ولا يهتم بمن حوله ممن هم بحاجة إلى عطائه ولطفه ،  فالحياة الحقيقية تتمثل بالبذل والعطاء ، لمن حولك ابتداء من القريب إلى البعيد. فبالعطاء يَشْبَع الجائع ، ويروى العطشان ، ويُكسى العريان وتُرسم البسمة على شفاة ، لطالما سلبتها ، ظروف الحياة وقسوتها، وبالعطاء يتحقق التكاتف والتعاون ، ليصبح الجميع جسدا واحدا تكسوه  المحبة والألفة، وبالعطاء ترتقي الأمم وتسمو الشعوب ، وتزدهر الأوطان ، وتتجسد أعلى مراتب الإنسانية ، فالعطاء سمة إنسانية ، يشعر بحلاوتها من يسخر نفسه للعطاء في أي مجال كان ، ومن يعطي للآخرين يتمتع بالفكر الحضاري وصفاء الروح ، فكلما أعطى ونظر إلى من حوله ليدخل عليهم البهجة والسرور ، وهذا يحفزه ويشجعه   لتقديم المزيد من العطاء ، لكي يعيش من حوله بهناء فينعم   بالرضا ، ويرتقي بارتقائهم ، ومن يعطي بإخلاص يتحرر من قيود الأنانية ، وحب الذات ، ويسعد كلما أضفى جوا من البهجة والسعادة في البيئة المحيطة به ، وعندما تعطي لاتكن انتقائيا في عطائك لمن تعرف فقط ، أومن بينك وبينه مصلحة ومنفعة أو تتوقع منه أو من أحد المقربين إليه شيئا من ذلك. وعندما تعطي لا تنتظر رد الجميل والجزاء والشكر والثناء.  حتى يكون العطاء قربة لوجه الله تعالى ، ولا تتبع عطاءك بالمن والأذى ، وإياك أن ترى الذل والانكسار على وجه من تعطي ، فالله خلقه وكرمه ، فاحفظ له كرامته وماء وجهه. قال الإمام الحسن :

نحن أناس نَوالنا خضل *** يرتع فيه الرجاء والأمل

تجود قبل السؤال أنفسنا *** خوفاً على ماء وجه من يسل معنى خضل : الخوف على ماء وجه السائل ومراعاة مشاعره  جميل أن يعطي الإنسان من يعطيه ويرد له الجميل، وجميل أن يعطي من يعرفه ، ولكن الأجمل والأعظم أن يعطي من حرمه ومن لم يعرفه.

يقول كارل مور في كتابه قاعدة للسعادة ص 18: " اعط بلا مقابل ولا تركز فقط على من تعرفه أو بينك وبينه قرابة أو صداقة ، ولا غرابة في ذلك وهو خلق سيدنا وقدوتنا صاحب الخلق العظيم حيث يقول ﷺ:“ألا أدلكم على خير أخلاق الدنيا والأخرة: تصل من قطعك وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك”. فلا تنتظر مبادرة الآخرين بالتواصل معك والعطاء والعفو ، بل كن أنت المبادر ، وابحث عمن لا يصلك وصله وعمن لا يعطيك واعطه ، فذلك سيكون له انعكاسات إيجابية تجعله يشعر بالخجل ، ويحذو حذوك في الاقتداء بالأخلاق المحمدية ، وإذا كنت معطيا فلا تعطي مالا تهواه ولا تحبه نفسك، ولا تعطي الأشياء التالفة والقديمة ، بدافع التخلص منها فالخير كل الخير في تقديم الأشياء المحببة إلى قلبك ، والتي تكون في صراع مع نفسك للتبرع بها ، كما قال الله جل وعلا: ﴿لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾. إنك حين تعطي فإن عطاءك لله أكرم الأكرمين فكن على ثقة بالله بأنك لن تفتقر أبدا ، بسبب عطائك في حب الله ، وأن الله حتما سيخلف عليك ، ويعوضك أضعاف ما صرفت ، فالله كريم لا بخل في ساحته. قال تعالى: ﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا﴾. وقال تعالى: ﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾.

التحذير من الفجور في الخصومات

 عباد الله: لقد اقتضت سنة الله -سبحانه وتعالى- عندما خلق البشر أن يكون بينهم اختلاف وتنوع وتباين في كثير من أمور حياتهم، في الأفكار والرؤى، والطبائع والسلوكيات، والأفهام والعقول، وغير ذلك، قال تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [هود: 118- 119].

وقال تعالى: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) [المائدة: 48].

وإن مما ينتج عن هذا الاختلاف والتباين: ظهور الخصومات والعداوات بين البشر، وذلك عندما تفسد الأخلاق والقيم في نفوسهم، وتغيب أوامر الدين وتوجيهاته من حياتهم واتباع الأهواء وتزيين إبليس وخطواته.

والإسلام عالج الخصومات والعداوات بين الناس إذا وقعت بينهم بالرجوع إلى الحق، ومراقبة الله، وتذكر الثواب والعقاب المترتب على ذلك في الدنيا والآخرة، والعفو والتسامح والصلح بين الناس، وإقامة العدل، وحذر من الفجور في الخصومة، وهي على نوعين:

أحدهما: أن يدَّعي ما ليس له.

والثاني: أن ينكر ما يجب عليه إلى جانب الميل عن الحق، والاحتيال في رده، وفعل كل السبل غير المشروعة ليحتال على خصمه، ويتمنى له الأذى في نفسه وماله، ويتعمد الكذب عليه وتشويه صورته.

والإسلام قد أمر بالعدل حتى في حال الخصومة والاختلاف، وعدم تجاوز الحق والشرع، قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) [المائدة: 8].

وقال سبحانه: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل: 90].

وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يسأل من ربه أن يوفقه للحق والعدل، حتى في حال الغضب لكي لا يظلم أحدا، وهو بذلك يعلم أمته ويربيها على هذه القيم والأخلاق، حتى لا تنحرف عن الصراط المستقيم، فكان يقول في دعائه: "اللهم إني أسألك خشيتك في السر والعلانية، وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، وأسألك القصد في الفقر والغنى" [صحيح الجامع، رقم (1301)].

  أيها المؤمنون -عباد الله-: كم من خصومة بلغت حد الفجور، وقعت بين الزوج وزوجته، والأخ وأخيه، والجار وجاره، والمدير وموظفيه، تحولت إلى فجور، فهُدمت أسر، وقطعت أرحام، وفقدت الثقة، وتعطل الإنتاج، واختفى الحق، وظهر الظلم، وكثر الجدال.

وكم من خصومة واختلاف بسبب آراء، أو وجهات نظر، أو موقف سياسي، بين أبناء الوطن الواحد، تحولت إلى أحقاد وضغائن، وكيد ومكر، من هذا وذاك، عصفت بالأوطان، وهدت من قواها، وسفكت الدماء، وذهب الأمن، وحل الخوف، وتعطل العمل والبناء والإنتاج.

وكم من خصومة بلغت حد الفجور تحولت إلى قطيعة وهجران، ليس لأيام، بل لسنوات طوال بين الزملاء والأصدقاء، والأهل والجيران، عن أبي أيوب -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام" [البخاري ومسلم].

ويقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين والخميس، فيغفر لكل عبد مسلم لا يشرك بالله شيئًا إلا رجل كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا" [رواه مسلم].

ونتج عن هذه الخصومات تحول العلاقات بين الناس إلى سب وشتم، وغيبة ونميمة، وبهتان واستغلال للفرص والأحداث، إلى جانب عدم ترك فرصة، أو طريق للصلح، وحل النزاع والخلاف، وهذه ليست من صفات المؤمنين، قال صلى الله عليه وسلم: "أَربعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنافِقاً، وإنْ كَانَتْ خَصلةٌ مِنهُنَّ فِيهِ كَانَتْ فِيهِ خَصلَةٌ مِنَ النِّفاقِ حتَّى يَدَعَها: مَنْ إذا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذا وَعَدَ أَخْلَفَ، وإذا خَاصم فَجَر، وإذا عَاهَد غَدَرَ" [البُخاريُّ: 2459].

إن سنة الله تقتضي أن تحدث بين الناس خصومات في هذه الدنيا بسبب أهوائهم ورغباتهم، ومشاكلهم ومعاملاتهم، لكن من غير المقبول شرعًا أن يتجاوز الفرد في خصومته الحق والعدل؛ فأنا مختلف مع أخي، وخاصمني في قضية ما، لكن هذا لا يجعلني أكذب عليه، أو أظلمه، أو أقول عليه ما ليس فيه، وإن كان له الحق تنازلت واعتذرت دون كبر أو عجب أو فجور في الخصومة، قال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ) [البقرة: 204].

وقال صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أبغضَ الرجال إلى الله الألدُّ الخَصِمُ" [البخاري: 2457].

وقال صلى الله عليه وآله وسلم: "مَنْ أَعَانَ عَلَى خُصُومَةٍ بِظُلْمٍ‏ ‏أَوْ يُعِينُ عَلَى ‏ظُلْمٍ، لَمْ يَزَلْ فِي سَخَطِ اللهِ حَتَّى يَنْزِعَ"[صحيح الجامع: 6049].

وقال تعالى: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) [الأنعام: 152].

 

 

 

 سوء الخاتمة

هي الطامة الكبرى والمصيبة العظمى، وهي الخسارة الفادحة والشقاء الأبدي ، وسوء الخاتمة : أن يموتَ العبد على حالةٍ سيئة لا تُرضِي الله عز وجل، فتُقبَض الروح على تلك الحال، فتكون حجابا بينه وبين الله تعالى أبدا، وبئس الخاتمة تلك التي طالما تخوَّف منها المتقون، وتضرَّعوا إلى ربهم سبحانه أن يُجنِّبهم إياها ، إنها لفتنة عظيمة يُثبِّت الله فيها قلوبَ المؤمنين الصادقين ، الذين استقاموا على دين الله تعالى، وتنتكسُ فيها قلوبُ المنافقين والمفرِّطين والظالمين، قال تعالى : ﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ﴾ إبراهيم: 27 ..

إن الإنسان إذا أَلِف المعصية ، ولم يتب منها؛ فإن الشيطان يستولي على تفكيره حتى في اللحظات الأخيرة من حياته، فإذا أراد أقرباؤه أن يلقنوه الشهادة ـ ليكون آخر كلامه لا إله إلا الله ـ؛ طغت هذه المعصية على تفكيره، فتكلم بما لا يفيد انشغاله بها، وخُتِم له بالسوء والعياذ بالله تعالى من ذلك ، أفلا يخشى الذين يتركون الصلاة ، ثم يوعظون فلا يستجيبون، ألا يخشى هؤلاء أن يختم لهم بالسوء؟! ألا يخشى الذين يتعاملون بالربا ثم لا يتوبون، ولا يذَّكَّرون ، أن يتخطفهم الموت وهم لهذا الجرم العظيم فاعلون ؟! ألا يعلمون أن طلب الدنيا، والحرص عليها، والرُّكون إلى شهواتها وزُخرفها، وتقديمُ محبتها على محبة الإقبال على الآخِرة، من أسباب سوء الخاتمة: قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ يونس: 7  فإذا عُرِف معنى سوء الخاتمة؛ فلم لا نحذر أسبابها ، ونحذر التسويف بالاستعداد ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون؛ فإن العمر قصير، والإنسان يموت على ما عاش عليه، ويحشر على ما مات عليه ، يقول ابن القيم -رحمه الله-: "وسوء الخاتمة لا تكون لمن استقام ظاهره وصلح باطنه، إنما تكون لمن له فساد في العقيدة، أو إصرار على الكبيرة، أو إقدام على العظائم، فربما غلب ذلك عليه حتى ينزلَ عليه الموت قبل التوبة، فيأخذَه قبل إصلاح الطوية، ويصطدمَ قبل الإنابة والعياذ بالله " ، اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم أحسن خاتمتنا، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن .

 

دروس وخطب

نقدم بين يديكم مجموعة من الدروس والخطب والمواعظ 

واسال الله ان يتقبل منا جميعا