لماذا التعصب في الاختلاف
الاختلاف لا يضر ، إذا اتفق على الأصول الأساسية والمقاصد الكلية ، على أن لا يؤدي الاختلاف في الجزئيات إلى تفرّق أو عداوة ويجب على الأمة أن تنسى كل الخلافات الفرعية لتقف صفاً واحد أمام قوى الشرِّ المعادية لها ويجب أن تكون الشدائد دافعاً من دوافع لم الشمل وتوحيد الصفوف ، وهو ما يحبه الله لعباده المؤمنين . قال تعالى :)إن لله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص( الصف 4 .
ويجب أن لا يكون الخلاف حائلاً دون ارتباط القلوب ، وتبادل الحب والتعاون على الخير وأن نحب لإخواننا ما نحب لأنفسنا . فقد كان الصحابة يخالف بعضهم بعضا في الإفتاء ولكنهم كانوا على قلب رجل وحد .
وكان الأئمة وهم أعلم الناس بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اختلف بعضهم بعضا ، فلم لا يسعنا ما وسعهم ، إن أعداء الإسلام يتمنون أن يغرق المسلمون في بعض القضايا التي لا تؤثِّر على جوهر الدين ، كلبس المرأة أو مصافحتها ، والتي يريدون للمسلمين أن يهتموا بها أكثر من اهتمامهم بأساسيات الدين ، حتى شاعت أراء وأقوال كثيرة ، فيها من التزمت والقسوة على من خالفهم الرأي . قرأت في كتاب يقول مؤلفه : إن كشف الوجه ذريعة للزنا وهو حرام لما ينشأ عنه من عصيان ، فإذا كان هذا حراماً فما القول إذاً بوجوب كشف الوجه في الحج ، وما ألفه الإسلام من كشفه في الصلوات كلها ، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى الوجوه سافرة في المواسم والمساجد والأسواق ، فما روى عنه قط أنه أمر بتغطيتها ، وهل الذين يتعصبون لذلك بأغير على الدين والشرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأما الحجاب الذي ورد ذكره في الإسلام ، فهو تنظيم للتردد على البيت النبوي دون سبب ، وبعد ما لوحظ أن أحد أجلاف البدو قال في صفاقة غريبة ، لو مات محمدصلى الله عليه وسلم تزوجت فلانة من نسائه ، فلم يكن بد من تشريع صارم يمنع هذه الهنات ، ويقمع أصحاب هذه التطلعات ، وليس في الإسلام زيٌ معين ، وحسب اللباس أن يستر العورة ويزيّن صاحبه ، ولكن المصيبة آتية من أناس يقعون على أحاديث في الجزئيات ، لا تمت إلى الأساسيات بصلة ، ثم يعتبرونها مقياساً لصلاح الفرد وعدمه ، وغاب عن تصورهم أنه يستحيل أن تنجح رسالة حملتها يكونون على هذا المستوى ، لأن امتلاك الحياة الدنيا عن قدرة وخبرة ، هو السبيل الأوحد لنصرة المبادئ والمذاهب . وهل من العدل أن يُطعن أو يُساء الظن فيمن خالف مسلماً في رأيٍ أو سلوك لم يرد القطع بتحريمه .
هناك من يقول أن مصافحة المرأة من الكبائر هذا رأيهم وهذه قناعاتهم ، وأنا لا أطالبهم بالتخلي عن قناعاتهم هذه ، والذي لا يليق بهم فرض ذلك على الناس ، فقناعتي لا تتوافق مع هؤلاء لأني رجعت إلى كتب السنن فلم أجد حديثاً ذكر أن المصافحة كبيرة من الكبائر ، مما جعلني أعتقد بأن المصافحة حتى لو كانت مع ريبة ، فإنها تعتبر مما تسعه المغفرة ، فكيف والريبة لا موضع لها البتة . قرأت في كتب السنن حديثاً أن النبيصلى الله عليه وسلم قال :(لأن يطعن أحدكم بمخيط من حديد خيرٌ له من أن يمس امرأةً لا تحل له ) . لا علاقة لهذا الحديث بالمصافحة ، لأن اللفظ أن يمس وليس أن يصافح ، والمس لم يذكره القرآن إلا وهو يريد الاتصال الجنسي لقوله تعالى :)يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهنّ من قبل أن تمسوهنّ فما لكم عليهن من عدة تعتدونها( البقرة 230 . وقال في كفارة الظهار )فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا(المجادلة 4
وقد يطلق المس على التحكك السافل أو المزاحمة الخسيسة التي يفعلها البعض ، أما الدليل على أن المصافحة تعتبر لمما ، أي من صغائر الذنوب تسعها المغفرة ، قوله تعالى :
)إن الحسنات يذهبن السيئات( .
ذهب جمهور المتأولين من الصحابة والتابعين ، إلى أن الحسنات هنا هي الصلوات الخمس وسبب نزول الآية يعضد قول الجمهور ، نزلت الآية في رجل من الأنصار خلا بامرأة فقبّلها وتلذذ بها فيما دون الفرج ، فقد روى الترمذي بإسناد حسن صحيح عن عبدالله قال : " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني عالجت امرأة في أقصى المدينة وإني أصبت منها ما دون أن أمسها ، وأنا هذا فاقض فيّ ما شئت ، فقال له عمر : لقد سترك الله لو سترت على نفسك ، فلم يردّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ، فانطلق الرجل فأتبعه رسول اللهصلى الله عليه وسلم رجلاً فدعاه ، فتلا عليه)أقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين ... ( . فقال رجل من القوم : هذه له خاصة ؟ قال : لا بل للناس كافة ". والمصافحة ليست بذي بال إذا ما قيست بمناسبة الآية .
إنه من التشديد على الناس ، محاسبتهم على النوافل والسنن كأنها فرائض ، وعلى المكروهات كأنها محرمات ، ومن المفروض ألا نلزم الناس إلا بما ألزمهم الله تعالى به جزما ، وما زاد على ذلك فهم مخيرون فيه ، إن شاءوا فعلوا وإن شاءوا تركوا ، وحسبنا حديث طلحة بن عبد الله في الصحيح في قصة ذلك الأعرابي ، الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عما عليه من فرائض ، فاخبره بالصلوات الخمس وبالزكاة وبصوم رمضان ، فقال هل علي غيرها ؟ فقال لا إلا أن تطوع فلما أدبر الرجل قال والله لا أزيد على هذا ولا انقص فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( أفلح إن صدق أو دخل الجنة إن صدق ) أولى بنا أن نجعل أكبر همنا ينصب إلى الدعوة إلى توحيد الله وعبادته . وألا تشغلنا الأمور الجانبية عن القضايا الكبرى التي تتعلق بمصير الأمة ، فترى من يقيم الدنيا ويقعدها من اجل حلق اللحية أو إسبال الثوب أو تحريك الأصبع في التشهد أو اقتناء الصور الفوتغرافية وغير ذلك من المسائل التي طال الجدل حولها ، في الوقت الذي تزحف فيه العلمانية اللادينية وترسخ الصهيونية أقدامها وتكيد الصليبية كيدها ، وتتعرض الكثير من الأقطار الإسلامية للغارات التنصيرية وفي نفس الوقت يُذبح المسلمون في أنحاء متفرقة من العالم .
إن المعاصي والكبائر معروفة في ديننا ، والبعد عنها شيمة المؤمنين عامتهم وخاصتهم وثبوت حرمتها قائم على القطع والتحريم ، ليس هوى فرد أو توافق مجتمع ، إنه خطاب الله سبحانه بالكف عن كذا أو كذا ، ولا بد من نص يستند إليه التحريم . وإن للرأي الفقهي مكانته ، ولمن شاء أن يأخذ به ، وأن يدعو إليه غيره ، وقد يؤثر الإنسان رأياً لأن اقتناعه به أكثر من اقتناعه بغيره . أما أن يحسب أحد الناس أن الرأي الذي تبناه دين ومخالفة خروج عن الدين ، فهذا من وجهة نظري قصورٌ ومثار للشغب والفوضى وقد يجد البعض متعه في قضايا الخلاف ، ليثور ويفور وظاهر أمره الغضب للدين وهو في الحقيقة ينفس عن تربية ناقصة أو مفقودة وهل الحكم في مسألة تُعدُّ من القشور تنسي الدعائم وتشغل الناس عن أعمدة الإسلام التي انهارت أو تكاد إن الخلافات الجزئية واقع لا بد منه ، وتجاوزها لما هو أهم منها واقع لا بد منه كذلك ، ونظرة إلى الاجتهادات المذهبية ، فإن المفتي يقول أرى كذا أو الحكم عندنا كذا أو صح الدليل لدينا بكذا ويترك مجالاً للرأي الآخر .
ولا يجوز لإنسان كائناً من كان ، أن يظن أن الإسلام حكراً على قناعته وحدها ، فإذا تعصب الإنسان لرأي فليعمل به إن شاء ، ولا تثور ثائرته إذا رأى غيره يعمل بما يخالفه في أمر لا يعد خروجاً عن الإسلام ، لأن التعصب الشديد لمسألة ثانوية ، يتم على حساب الدماء والأموال والأعراض وكرامة الأمة وحياتها . فلا يتمسك الإنسان ببعض الأفكار والفتاوى ، ويتعامى عن عظائم الأمور ويتقعّر في التوافه ،كهذا الذي سأل الحسن البصري عن الصلاة في قميص به دم البعوض فقال له الحسن : ممن أنت ؟ قال : من العراق ، قال : تسألون عن دم البعوض وتستبيحون دم ابن بنت رسول الله ؟ ، وقد صور أبو الطيب المتنبي هذا الاعوجاج النفسي في فهم الدين بقوله :
أغاية الدين أن تحفوا شواربكم يا أمة ضحكت من جهلها الأمم
وذلك في قوم يحسبون قمة التدين إزالة شعر واستبقاء شعر . فالخلاف في حكم كثير من المسائل لا بد منه ، أما التعصب على أن هذا الرأي أو الحكم هو الدين وما عداه ليس بدين فهذا شيء لا معنى له ولا تسليم به . وبعد :
فإني أرحب بالنقد الذي يحمل روح النصيحة في الدين ، والحوار بالحسنى حتى يزول اللبس ، لأن من واجبي وواجب كل مسلم العمل على تكوين وعي إسلامي رشيد يقوم على فقه مستنير لأحكام الإسلام ، فقه يهتم باللباب قبل الاهتمام بالقشور ، ولا يعنيني تشديد المرء على نفسه في سلوكه الشخصي ، لأنه يحتمل ويقبل والذي لا يقبل ، أن يفرض ذلك على المجتمع كله .
إن الاختلاف في الأحكام الفرعية العملية والظنية لا ضرر فيه ولا خطر منه ، إذا كان مبنياً على اجتهاد شرعي صحيح ، وهو رحمة بالأمة ومرونة في الشريعة وسعة في الفقه وقد اختلف فيها أصحاب رسول اللهصلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان فما ضرهم ذلك شيئاً ، وما نال من أخوتهم ووحدتهم كثيراً ولا قليلا .
) ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم( .
الخلاف المذموم
إن تراثنا الذي قاد العالم دهرا ،ً يجب أن ينهض من كبوته ويتمسك برسالته ، ليغسل الأرض من أدرانها ، ولو أن انظمة الحكم أهدى والحق أقوى ما كنا نسقط في براثن الاستعمار الذي اجتاحنا ويعمل جاداً على محو وجودنا ورسالتنا ، ومع ذلك نسمع من هنا وهناك من يتكلم عن النهضة التي لا قيمة لها ، ما دامت لا تعرف أسباب هزائمها وكبوتها .
وما دامت هناك خلافات علمية تشغل الكثير من ابنائها ، والتي تسرُّ أعداء الأمة والموالين لهم في بلاد المسلمين ، ويتمنون لو غرق جمهور المسلمين في هذه القضايا ولم يخرج منها ، في الوقت الذي يشعر بقلق شديد إذا ما ساد شعور بين أفراد الأمة عن التفكير في واجبات الدولة ، وهل وجدت لخدمة الأفراد أو المبادئ ؟ وعن المال ولماذا يكون دولة بين البعض من الناس ؟ وعن الناس وهل ولدوا أحراراً أم ولدوا لتستعبدهم سياط الفراعنة حيناً ، والبحث عن لقمة العيش حيناً آخر ؟
كان سلفنا الصالح ملتزماً بالمنهج وإن الذي خاطب الفرس يوماً قائلاً : "جئنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله ، كان بفطرته الصادقة يعلم ما هي الحقائق الكبرى في المنهاج الإسلامي فيفتح البصائر عليها .
آلمتي جداً أن هناك من يهتم بمسائل لا يؤئر تركها على مستقبل الأمة كمسألة لمس المرأة هل ينقض الوضؤ أم لا ؟ وقد لمست الاهتمام الأشد والأحدّ بمثل هذه المسائل عند بعض فئات المسلمين وغير ذلك من القضايا الثانوية التي استحوذت على الأفكار لحساب فئة عرفت من الإسلام قشوره وليست جذوره ، فاعتمدت على مرويات لا تعرف مكانها من الكيان الإسلامي المستوعب لشؤون الحياة ، فأرسلوا الفتاوى التي تزيد الأمة بلبلة وحيرة ناسين أنه لا فقه بلا سنة ولا سنة بلا فقه ، ثم لماذا لا نتدبر القرآن أولاً وقبل كل شيء حتى نعرف أبعاد التكاليف التي ناطها الإسلام باعناقنا ؟ ولماذا لا نعرف طبيعة الدنيا التي نعيش فيها والاساليب التي يتبعها خصومناً لكسب معاركهم ضدنا ؟ ولماذا لا نختار للناس أقرب الأحكام إلى تقاليدهم إذا اختلفت وجهات نظر الفقهاء المسلمين في تقرير حكم ما .
فمن الناس من يهتم بقضية التراص اثناء الصف للصلاة أكثر مما يهتم بتوفير الخشوع والقنوت بين يدي الله ، ومن الناس من يهتم بمسألة النقاب مع أن ذلك رأي لم يقل به كثرة من المفسرين والمحدثين والفقهاء ، فماذا عليهم ترك الترجيح الذي اعتمدوا لمصلحةٍٍٍ أهمّ تخدم الإسلام والمسلمين ، ولماذا يصرُّ هؤلاء على رأيهم بأنه الأصح ولا حياة لرأي آخر ولا مكان له ، إن أعداء الإسلام يعلمون تماماً بأن أهل الوعي والفقه إذا اتيح لهم المجال فهم لا بد منتصرون ، ولذلك يفتحون الف طريق لأولئك الغلاة الذين يركزون على القشور التي يضيع معها اللباب. ونصيحتي لهؤلاء أن يتقوا الله في أنفسهم وامتهم ، وأن يجمعوا ولا يفرقوا وأن يمهِّدوا الطريق لعودة الإسلام بدل أن يضعوا أمامه العوائق والعقبات ويجعلوا الأحكام الفرعية المختلف فيها حجر عثرة أمام عقائد الإسلام وأركانه الكبرى ، وإني على يقين لو بذل هؤلاء في محاربة اعداء الإسلام والمبطلين ، عشر ما يبذلونه في الدفاع عن رأيهم الذي يتبنون ، لانتصر الإسلام ولكان الحال غير الحال ، ثم لحساب من يعلو صوتهم في قضايا هامشية ولا يسمع أبداً في قضايا أساسية ؟ ولحساب من يرى بعضهم رأياً أو يحترم تقليداً ثم يزعم أن الإسلام هو رأيه ؟ مع أنهم في الحقيقة يعلمون ويكرهون من يعلم ولا يعملون ويكرهون من يعمل ، بل ويشكلون سداً أمام تيار الإسلام يعكرون صفوه ويمنعون ورده ويصدّون الأمم عنه إنهم من أبناء المسلمين ولكنهم في الحقيقة أخطر على دين الله من الأعداء الحاقدين .
وليعلم كل ذي علم بأن الحفاظ على ديننا وأمتنا يحتاج إلى العقل المؤمن أو الإيمان العاقل ولا يصلح له أنصاف المتعلمين ، الذين يحسنون الهياج ولا يستطيعون الإنتاج .
وإن القضايا التي يثيرونها ويشددون على التمسك بها لا تتصل بعقائد الإسلام ولا بعباداته وإن أعداء الإسلام لهم مكرٌ سيء في استغلال أقوال هؤلاء من أدعياء الفقه الذين لا شغل لهم إلا الاهتمام بأمور جانبية ، لا وزن لها ولا خير فيها إذا ما قورنت بمصاب الأمة وما وصلت اليه. كقول القائل أن صوت المرأة عورة ناسياً أن النساء كانت على عهد رسول الله (ص) كانت تروي الأحاديث وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، ولمن يزعمون أن صوت المرأة عورة نقول بأن العورة قد تكون في اصوات النساء والرجال عندما يكون الكلام مريباً مثيراً له رنين رديء مع العلم بأنه لا يوجد بين رجال الفقه من قال : صوت المرأة عورة ، وإن ذلك اشاعة كاذبة .
ومما يؤسف له أن بعض الناس يتحدث عن الإسلام وهو قاصر النظر ويتطاول على أهل العلم والفضل ، وإن مصيبة الإسلام في هذا العصر من أولئك الأدعياء مما يدعوا لمعرفة طبيعة شريعتنا حتى يكون وعينا بأحكامها فيه صوناً لحياتنا الخاصة والعامة ، وليعلم هؤلاء أن التحليل والتحريم ليسا إلى أهواء الناس وفتاواهم قال تعالى : ]ولا تقولوا لما نصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب [ .
فالتتضافر الجهود إلى إنهاض الأمة التي تعاني من الهزائم العلمية والخلقية والصناعية والتجارية حتى تصحوا من الخدر الذي جمد الأفكار وألقى بالأمة وراء قوافل الأمم السائرة .
ولنبتعد بالأمة عن المجادلات الفارغة والاهتمام بالفروع التافهة ، والاقتصار على تلاوة آيات البر وأحاديث الرحمة ، فذلك لا يغني ولا يسمن من جوع على مستوى الأمة ، لأنه لا بد من جهاد جماعي مكثَّف متصل ، حتى نتمكن من إغاثة الملهوفين وتأمين حياتهم وحماية عقائدهم وإننا نشكوا إلى الله المتدينين الذين قست قلوبهم على عباد الله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
التفرُّق المذموم
قال تعالى : ] قل هذه سبيلي أدعوا الى الله على بصيرة أنا ومن اتبعنى [ يوسف 108 .
إن الدعوة لا تقوم على من يعتنقونها لأنها غالية أو يقودوا بها الأتباع أو يحققوا بها الأطماع أو يتاجروا بها في أسواق الدعوات لتشترى منهم وتباع ، ولكنَّ الدعوة تقوم بالقلوب التي تتجه الى الله تبتغي وجهه وترجو رضاه ، لذا أمر الإسلام بتطهير الصفوف من دعاة الفتنة حتى يكون المسلمون ذا عقيدة واحدة لا عقائد شتى
فقال تعالى في حق مثبطي العزائم ومؤججي الجدل ومروجي الظنون والاتهامات التي تلهي الأمة عن الجهاد في سبيل الله : ] لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ، ولأَوْضَعوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الفتنة وفيكم سمّاعون لهم [ 47 التوبة .
إن الظنون والاتهامات التي يوجهها بعض القاصرين ممن لا سهم له في معرفة الإسلام ، لا لشيء إلا لأنه يشك أنَّ فلاناً من الناس محسوبٌ على الجهة الفلانية . وهي اتهامات لا يساندها دليل ولا يؤيدها واقع ، لأنها تصدر من أناس لا يعرفون حقيقة النبوة ولا يفقهون معنى الرسالة المحمدية ، إنها آفة المتعصبين الذين يعملون لمرضاة جهاتٍ يعيشون في دائرتهم ويندفعون مع تيارهم .
وليس غريباً من أناس هذا حالهم لا يعرفون إخلاصاً لله أو تضحيةً في سبيله أو تقديراً للحق أو احتراماً لرجاله أن يسارعوا إلى التشهير وكأن وظيفة المسلم أن يتتبع العثرات ويتعافى عن الحسنات ناسين أن إصدار الأحكام جزافا من أفواه البعض يكون مرُّ المذاق ، لأنهم يضيفون إليه من نفوسهم المعتلة ما تعافه الطباع السليمة .
وإذا كان بعض المنسوبين إلى الدين رديء النظر عليل الفطرة ، فما ذنب الدين إذ تُحَمَّلُ لهولاء أو يتحمله الجّهال وأنصاف العلماء الذين يقومون على مجرد التعصب الممزوج بالجهل ، ثم لماذا لا يفهم هؤلاء أن التدين ليس تعصُّباً ولا تحزُّباً وإنما هو دعوة حق .
ولماذا نجد بين صفوفنا من لا يأخذ من الدين إلا ما يناسبه ويلائمه ويهمل ما عدا ذلك .
إن القضية ليست قضية مَنْ يتبع مَنْ ، ومَنْ محسوب على مَنْ ، إنها قبل كل شيء قضية الأمة التي تعاني ، وليس أن فلاناً في موقفه يتبع مَنْ وفي رأيه يمثل مَنْ ، وعليه يُسْمَعُ له أو يُعْرَضُ عنه علماً بأن حوافز الحقد والضغينة وتوجيه الإتهامات والظنون تتنافى مع سماحة الإسلام وكرامة الإنسان ، لذلك يجب أن يكون هدف الداعين إلى الإسلام والعاملين لله ، الأتحاد والألفة واجتماع القلوب والتئام الصفوف والبعد عن الاختلاف والفرقة ، وكل ما يميِّزُ الجماعة أو ينفرِّ من الكلمة من العداوة الظاهرة أو البغضاء الباطنة وكل يؤدي إلى فساد ذات البين ، مما يوهن دين الأمة ودنياها جميعاً قال تعالى : ]ولا تكونوا كالذين تفرقوا وأختلفوا من بعد ما جاءهم البيانات وأولئك لهم عذاب عظيم [ .
وفي الحديث الذي رواه الترمذي أن رسول الله r قال (عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الأثنين أبعد من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة) .
إنه لا خلاص لنا مما نحن فيه إلا بالتحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله r وأن نستصحب سيرة الخلفاء الراشدين والفقهاء الأئمة لأن الحق قلّما يفوتُ هؤلاء الكبار في مجالس السياسة والثقافة .
ثم إن الفقه الإسلامي لم ينشأ من فراغ ، فله أصولاً محترمه مَنْ جهلها وجب الحذر منه بل هو في نظري ليس أهلاً للعمل في ميادين الدعوة .
وإني لأعجب من الجدل في مسألة فقهية واحتدام الجدل حولها مما يفرق الكلمة ويشق الصفوف ، في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى جمع الكلمة في مواجهة التحديات الخطيرة من أعداء الإسلام ، وبدلاً من الخوض في هذه النقاشات التي تفرق ولا حاجة لنا بها ، لأن لكل من الفقهاء وجهته وأدلته التي يستند إليها والكل يغترف من بحر الشريعة ما وسعه .
من أجل ذلك أكد العلماء فيما أكدوه أن وجوب العلم باختلاف الفقهاء كوجوب العلم بما أجمعوا عليه ، وإن اختلافهم رحمة واتفاقهم حجة وفي هذا قالوا : من لم يعرف اختلاف العلماء فليس بعالم ومن لم يعرف اختلاف الفقهاء لم يشم رائحة الجنة ، وحتى هؤلاء الذين لا يعرفون إلا رأياَ واحداً ووجهة واحدة أخذوا من شيخ واحد أو انحصروا في مدرسة واحدة ، ولم يتيحوا لأنفسهم أن يسمعوا رأياً آخر أو يناقشوا وجهة نظر مخالفة ، والعجيب في أمرهم أنهم يحاربون التقليد وينهون عنه وهم في الواقع مقلدون . رفضوا تقليد الأئمة القدامى وقلدوا المعاصرين فهم ينكرون المذاهب وما دروا أنهم جعلوا من آرائهم مذهباً خامساً يتعصبون له وينكرون على من خالفه .
وإذا كان التعصب للمذاهب كما تجلى ذلك في عصور التقليد والعصبية المذهبية مذموماً فمثله في الذم وأشد من يتعصب ضد المذاهب والأئمة بصورة مطلقة ، ويوجه إليها سهام نقده وطعنه بدعوى إنها مخالفة للسنة .
وكيف يقبل هؤلاء أن يُعْرِضوا عن الهموم الضخمة التي تعاني منها الأمة ، وترى الواحد منهم يقوم ويقعد ويبرق ويرعد من أجل جزيئات لا تدخل في دائرة الضروريات ولا الحاجيات وإنما كلها في نطاق التحسينات والكماليات وفي سبيل هذه الفرعيات لا يبالي إن يُمَزِّقَ الشمل ويوقظ الفتن النائمة ويُحركَ العصبيات الساكنة . والتركيزُ على الأمور الخلافية والشدةُ على المخالفين فيما يجوز التساهل فيه على خلاف ما كان عليه سلف الأمة .
إن أي مراقب لأوضاع الأمة الإسلامية اليوم يوقن تمام اليقين أن مشكلتها ليست في ترجيح أحد الرأيين أو الآراء في القضايا المختلف فيها بناء على اجتهاد أو تقليد ، لأن الخطأ في هذه القضايا يدور بين الأجر والأجرين لمن تحرى وأجتهد كما هو معروف ، وليست فيمن يجهر بالبسملة أو يخفضها ، ولكن المشكلة فيمن لا ينحني يوماً لله راكعاً ، ومشكلة المسلمين ليست في مصافحة المرأة وعدم تغطية الوجه بالنقاب واليدين بالقفازين بل في تعرية الرؤوس والنحور والظهور ولبس القصير الفاضح الذي يندي له الجبين ومشكلة المشاكل هي في وهن العقيدة وتعطيل الشريعة واتباع الشهوات وشيوع الفاحشة وانتشار الرشوة والربا وخراب الذمم وسوء الإدارة وترك الفرائض الأصلية وارتكاب المحرمات القطعية وموالاة أعداء الله .
إن مشكلة المسلمين تتمثل في إلغاء العقل وتجميد الفكر وتخدير الإرادة وإماتة الحقوق ونسيان الواجبات وإضاعة أركان الإسلام ودعائم الإيمان وقواعد الإحسان .
إن من الخيانة لأمتنا أن نغرقها في بحر من الجدل حول مسائل في فروع الفقه أو على هامش العقيدة اختلف فيها السابقون و تنازع فيها اللاحقون ، ولا أمل في أن يتفق عليها المعاصرون في حين ننسى مشكلات الأمة ومآسيها ومصائبها سأل رجل من أهل العراق ابن عمر عن دم البعوض في حالة الإحرام فقال : عجباً يسألون عن دم البعوض وقد سفكوا دم ابن بنت رسول الله .
إنه من الخيانة لدين الله أن يتقاذف الناس بكلمات أشدّ من الحجارة وأنكى من السهام من اجل مسائل تحتمل أكثر من وجه وتقبل أكثر من تفسير ، وإن من واجب الدعاة والمفكرين أن يشغلوا المسلمين بهموم أمتهم الكبرى ، ويلفتوا أنظارهم وعقولهم وقلوبهم إلى ضرورة التركيز عليها والتنبيه لها. أنا لا أنكر أن الدين أطال الحديث عن الدارة الآخرة ، وبث في النفوس الأشواق إلى نعيم الجنة كما بث فيها المخاوف من عذاب النار ، لكن هذا الإسهاب في الوعد والوعيد هو لتهذيب الغرائز وكبح جماحها ومنع طغيان العاجلة على الآجلة .
أما القصور في فهم الدنيا والعجز عن امتلاك زمام الحياة ، فهذا كله لا يدل على تقوى بل يدل على طفولة فكرية يُضْارُّ بها الدين وتتقهقر بها تعاليمه والدين ليس شقشقة لسان ، إنه قبل كل شيء قلب سليم وفكر مستقيم ينشأ عنه مجتمع كريم وليس في تبادل الاتهامات تصديقاً لقول القائل :
إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحاً عني وما سمعوا من صالح دفنوا
جهلاً علينا وجبناً عن عدوٍ همو لبئست الخلتان الجهل والجبن
إن تبادل الاتهامات لا يجرُّ على الأمة إلاّ الويلات حتى طمع بنا الأعداء وأصبحنا غنائم باردة لمن هبَّ ودب ، اسمعوا إلى أخبار المذابح والمطاردة التي تتم ضد المسلمين هنا وهتاك ، والتي تعتبر جزأً من معركة الكفر مع الإسلام في الوقت الذي تركنا فيه الإسلام وراء ظهورنا ، وهجرنا القرآن والسنة الأمر الذي يوجب علينا أن نُغَيِّرَ من سلوكنا ونحسن الأدب مع الله ومع أنفسنا ، لأن جمع الشمل أولى والتلاقي على أركان الإسلام أهم من التخاصم على سفاسف الأمور .
وقد نعى القرآن الأمة التي يصبح هذا حالها قال تعالى : ] ولا يكونوا كالذين أُوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثيرٌ منهم فاسقون [ الحديد 16 .