شهر رمضان

شهر رمضان

أصناف المستقبلين لرمضان

من سنة الله في خلقه ، حياة ثم ممات ، وحكمته في كونه  قدوم وفوات ، ومن البشر النقص والهفوات ، ولهذا شرع الله مواسم لجني الحسنات ، والتخفيف من السيئات ، ومسح الذنوب والآفات ، وغسل الزلات ، وإزالة العثرات ، ومن هذه المواسم  شهر رمضان المبارك ، الذي يستقبله البعض ويخرج منه ولا يتحرّك فيه ساكن ، ماضٍ في غيِّه مستمر في ضلاله ، وآخرون يصلحون أنفسهم صلاحاً مؤقتاً ، ومنهم من يتوب إلى الله ، يرجو رحمته ويخاف عذابه ، ومنهم من ينتظر قدومه ، لينهل من بركاته   ويغترف من خيراته ، لأنه فقه قوله  صلى الله عليه وسلم في محاورته مع جبريل عليه السلام ( من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له  فدخل النار ، فأبعده الله ، قل آمين ، فقلت آمين)أخرجه البخاري في الأدب المفرد وابن حبان والترمذي والطبراني بإسناد حسن ، فالذين لا يرحبون برمضان ، لا يحبونه لأنه يزجر عن المعاصي والذنوب والآثام ، أما من عودوا أنفسهم على الصيام فإنهم ، يفرحون بقدومه لأنهم تعودوا صيام النوافل ، كالإثنين والخميس وأيام البيض ، وغيرها من صيام النوافل ، التزاماً بسنة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لذا يعتبر صيام رمضان بالنسبة لهم أمراً طبيعياً ، لكن الذي لا يصوم النوافل ، فإنه يجد في صيام رمضان مشقة؛ لأنه لم يعود نفسه على الصيام ، روي عن السلف أن قوماً منهم ، باعوا جارية لهم فاشتراها رجل ، فلما أقبل رمضان بدأوا بتحضير المآكل والمشارب لاستقبال شهر رمضان، فقالت لهم: لماذا تصنعون هذا؟! قالوا: نصنعه لاستقبال رمضان قالت: وأنتم لا تصومون إلا في رمضان! والله لقد جئت من عند قومٍ  السنة عندهم كأنها رمضان ، لا حاجة لي إليكم ، ردوني إليهم. فرجعت إلى سيدها الأول، ويروى أن الحسن بن صالح الزاهد الورع  كان يقوم الليل ، هو وأخوه وأمه أثلاثاً،  يقوم ثلثاً ويقوم أخوه ثلثاً آخر، وتقوم أمه الثلث الباقي  فلما ماتت أمه تناصف هو وأخوه الليل ، فصار يقوم نصفه ، ويقوم أخوه النصف الآخر، فلما مات أخوه ، نقل عنه أنه كان يقوم الليل كله ، وقيل: بأنه باع أمةً له، فلما انتصف الليل عند سيدها الجديد، قامت في وسط الدار وصاحت: يا قوم الصلاة الصلاة، فقاموا فزعين، وقالوا: هل طلع الفجر؟! قالت: وأنتم لا تصلون إلا المكتوبة!! فلما أصبحت رجعت إلى سيدها وقالت: لقد بعتني على قومٍ لا يصلون إلا الفريضة، ولا يصومون إلا الفريضة، لا حاجة لي إليهم ردوني ردوني، فردها. إذاً: إذا اعتاد الإنسان على الصيام لا يجد في صيام رمضان مشقةً ، لهذا يفرح بقدومه ، لأنه يعرف أن الامتناع عن اللذات في هذه الدنيا سببٌ لحصولها في الدار الآخرة     لذلك يفرح بهذا الشهر الكريم والعكس بالعكس، فإن الذي يقبل على الملذات المحرمة في الدنيا يكون هذا سبباً في حرمانه منها يوم القيامة ، لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة)  عقاباً له على تمتعه بخمرة الدنيا، وفي حديث آخر: (من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة) ، ومن يعلمون أن الله عز وجل يجري في رمضان من الأجور ما لا يجري في غيره من الشهور، يفرحون بقدومه فرح الغائب بقدوم غائبه ، وهناك من يستعظمون نـزوله ، يعدون أيامه ولياليه ، ويفرحون بكل يومٍ يمضي ، لأنهم وجدوا في هذا الشهر ، مانعاً يحول بينهم وبين لذاتهم؛ فيستثقلونه ، لأنهم يلتزمون فيه ببعض الطاعات التي قصروا فيها في غيره ، يستثقلونه لأنهم سيفارقون فيه مألوفهم من الشهوات، ونسوا أو تناسوا   فضل هذا الشهر ، وعظمة الأجر    فيه ، هناك من لا يعرفون الله إلا في رمضان، ويهجرون العبادات في غيره ، وهناك من يصومون عما أحل الله ويفطرون على ما حرم الله، يصومون عن الأكل والشرب  لكنهم يرتكبون أشياء محرمةً، مثل الغيبة والنميمة  والكذب، والسب والشتم... وغيرها من المحرمات سواء أكانت قوليةً أم فعلية.  

 هناك من يركزون في حديثهم على الفوائد الدنيوية للصوم فيتكلمون عن أثر الصوم في حفظ الصحة، ويستشهدون بالحديث الضعيف : ( صوموا تصخوا )     وينسون ضرورة التنبيه إلى ثواب الصائم في الدار الآخرة، وهناك   من يسوء خلقه فيقسو على أهله  ويعاملهم بأسلوبٍ فظٍ غليظ متناسياً قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: (الصوم جنة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو شاتمه فليقل إني صائم) وهناك من يتخذ رمضان فرصةً للكسل والخمول ونوم نهاره ويحتج بأنه صائم   بالحديث الضعيف: (نوم الصائم عبادة)، وهناك من يبالغ في تناول الأطعمة ، ما يتنافى مع الحكمة الأساسية من مشروعية الصيام أعجبني من وصفهم فقال: "إنكم تأكلون الأرطال وتشربون الأسطال، وتنامون بالليل ولو طال، وتزعمون أنكم أبطال"، ومن الناس من لا يعرف لهذا الشهر إلا أنه شهر المسلسلات والتمثيليات ومسابقات القمار التي يعد لها أعداء الله ورسوله والمسلمين، وأخيرا ، ألا ليت المسلمين يستقبلون رمضان كما يجب ، أو يعاملونه كما ينبغي  فيعملوا الصالحات ويتوبوا عن المنكرات .

الانحرافات و البدع في رمضان

اقتضت حكمة الله ، أن يفرض الصوم على الأمة  التي حملت أمانة إقامة شريعة الله في الأرض ، وأن يكون الإيمان بالله وحده ، أساس عقيدتها  ومصدر منهجها ، و ضمانة سلوكها .

 إنه شهر القيام والاعتكاف وليلة القدر كما  وقعت فيه أهم الأحداث في تاريخنا ، وقد صامه أسلافنا ، فقهروا فيه كيان الباطل في بدر، وفتحوا مكة ، و استسلمت على أثرها ثقيف والطائف  و عبروا الأندلس ، وركبوا قمم جبال البرانس وقهروا الصليبيين في حطين ، وهزموا جحافل التتار في عين جالوت , حتى أحس العالم بمقدرة هؤلاء الصائمين ، الذين انسابوا في أقطار الأرض  يحملون النور و الهدى , فلم يمض عليهم سوى ثلاثة أرباع قرن من الزمان ، حتى تم لهم فتح ثلاثة أرباع  العالم ، طهروها من الظلم و الكفر  والاستبداد وملاؤها بالإيمان و الحق و العدل .

 مما كان مثار الإعجاب و التقدير ، فقد كان رمضان في نظرهم ، يرتبط ارتباطا وثيقا بالجهاد  وممارسة الشدائد ، ومجانبة الترف خلافاً لواقع مسلمي اليوم ، الذين تركوا الجهاد وهجروا العمل بكتاب الله ، حتى انتهى الأمر بهم إلى قراءة القرآن في المآتم ، لأرواح الأموات ، أو يستجدون به على أبواب المساجد ، أو يعلِّقونه تعاويذ وتمائم   وأحسنهم حالا من يقرؤه لحصول البركات  وتكثير الحسنات ، دون أن يكلف نفسه بشيءٍ من العمل بما فيه ، يشترون المصاحف و يهتمون بالمسابح ، ناسين أن العبرة ليست  بالأقوال وإنما بالأفعال ، وأن على من يقرأ القرآن ، أن يلتزم بتعاليمه و أحكامه ، حتى لا يكون ممن يقرأ القرآن والقرآن يلعنه ، كمن يقرأ آيات الربا     ويتعامل بالربا ، ويقرأ آيات الصدق و يكذب وآيات العدل ويظلم ، وآيات الحق وهو على الباطل  ، الأمر الذي يجعلنا بحاجة إلى الصدق في صيامنا  فننظر إلى شهر رمضان نظرة واعية  تختلف عن النظرة التي يظنها الناس هذه الأيام  على أنه شهر الأطعمة الشهية ، والمشارب اللذيذة  والسهرات التافهة ، ولا ينبغي أن تفهم و سائل الإعلام في بلادنا ، أن رمضان شهر المسلسلات والفوازير  هذه النظرة التي ضيعت القوة المؤثرة في الصيام  حتى  أصبحت هذه العبادة عند كثير من الناس ، لا تمثل إلا صوراً جوفاء ، خالية من الروح  وأصبحت العقيدة عندهم ، مشوهة بالبدع و الخرافات ، التي اتخذها الناس لهم طريقا  ومنهاجا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، وقد انعكست هذه الصورة على هذه العبادة النبيلة  فأصابها ما أصابها من البدع ، التي  صرفتها عن حقيقتها  إلى مظاهر و احتفالات ، أبعد ما تكون  عن حقيقة الصيام ، وأصبحت صورة هذا الشهر الكريم ، في أذهان كثير من الناس ، لا تمثل سوى مجموعة من الاحتفالات المتخمة بالأطعمة والأشربة ، والبرامج الهزيلة ، والسهر في أماكن الترفيه ، للاستزادة من ملذات الدنيا . .

إن طبيعة هذا الشهر ، لا تتحمل ذلك ولا تقره  لأنه ليس كما يظنه البعض ، شهر استرخاء ونوم  و تقصير في ممارسة واجبات الحياة ، بل إنه في الواقع حافزٌ على القوة ، ودافعٌ إلى الجهاد والعمل  وإن الأمم في أعقاب المتاعب التي تصيبها  تغِّيُر من سلوكها ، إذ يزهد الصغار والكبار ، عن كثير من المتع ، التي كانوا يألفونها ، وأنواع من المرح طالما ابتهجوا بها أيام الأمن والاستقرار .

 لقد كانت هذه عادة عربية قديمة ، فقد كانوا إذا نال منهم عدو ، أو حل بهم مكروه ، هجروا تقاليد الترف ، وصدوا عن أسباب اللهو والمجون   وما يسمح أحدهم لنفسه ، بسرور غامر أو ضحك عال ، إلا إذا نال  ثأره ، أو استرد ما فقده ، أو أوقع بخصمه مثل ما نزل به ، فإذا تم له ذلك قال وهو مستريح  

فساغ لي الشراب وكنت قبلاً         أكـادُ أغص بالماء الفرات

 وما زال هذا التقليد باقياً بين المسلمين . إذ يقول شاعرهم :

قوم إذ حاربوا شدوا مآزرهم      عن النساء و لو باتت بأطهار

ففي ساعات الجد ، لا يكترثون بهذه التوافه ، لان أيام الجهاد ، تفرض عليهم الاقتصاد في مظاهر الفرح والتسلية.  ما أحرانا مادامت هناك بلادٌ للمسلمين تُحتل ، وما دام جحد حقوقنا ظاهراً في أسلوب التبجح الذي نراه ونسمعه ، مما يحرمنا  الراحة والهدوء  أن نغِّير من أسلوبنا في هذا الشهر ، ولماذا التوسع في الإنفاق والبذل على المرفهات  عند عشاق البعثرة والترفيه ، وهل آن الأوان لنراجع سلوكنا العام والخاص ؟ فَنَحُدَ من الإقبال على أماكن الدعة والهزل ، والسمر والغناء  ونلتزم بالمقصود الحقيقي من فريضة الصيام  وهي التدريب على ضبط النفس .

لقد علَّم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه ، على أن الاستسلام للشهوات المادية ، والحرص على الملذات ، سقوط بالهمة ، وخورٌ في العزيمة ، واسترخاء مع الشيطان فقال صلى الله عليه وسلم : ( إن القوم لما شبعت بطونُهم   سمنت أبدانهم ، فضعفت قلوبهم ، وجمحت شهواتهم ) . وقال : ( إنما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم و فروجكم و مضلات الهوى ) وفي وصف عشاق الليونة والرخاوة ، والمظاهر الجوفاء قال : ( تعس عبد الدينار تعس عبد  الدرهم  تعس عبد القطيفة تعس عبد الخميصة)   والقطيفة والخميصة ، أنواع من الأقمشة التي كان يحرص عليها طلاب الراحة . إن ولع الكثيرين من المسلمين هذه الأيام ، باللهو واللعب ،  سيوردهم دار البوار ، ولا أدل على ذلك من موت القلوب ، وقبول الدنايا ، وعشق الدنيا ، وكراهية الموت .

 إن عبادة  الحياة ، و تكريس القوة لها ، علةٌ قديمة بين الناس ، وهي التي أرخصت القيم الرفيعة وألهبت الغرائز الوضيعة ، وصرفت القصد عن الله   وفي مثلهم يقول الله سبحانه :﴿ فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله و هو أعلم بالمهتدين ﴾ النجم 29  ، إن العلة تكمن في انتهاب الملذات من غير شبع  والبحث عنها دون اكتراث بحلٍ أو حرمة  فقد ضاعفت المدنية الحديثة ، الفرص لعبادة الحياة  والذي يدعوا للأسى ، أن المسلمين نافسوا الغرب  في التهاوي على هذه المتع ، لأنهم لم يفقهوا سرّ الصيام ، وسرَّ الحياة العفيفة المبنية عليه  وإلا لكان لهم موقف آخر ، إنهم لو أدركوا ، ما كانوا عليه وما صاروا إليه ، لكان لهم قبل الصيام صيام  وقبل القيام سهر يطير معه المنام .

 إن المسلمين كما نرى ، يستقبلون رمضان  على أنه شهرٌ لمشاهدة مسلسلات ، أقلها جادّ وأكثرها هازل ، تعرضها الإذاعات المسموعة والمرئية  وأغاني بعضها ديني  والآخر لا دين له  وفكاهاتٍ تخلق الأهواء الضاحكة ، و تسلي الناس التائهة .

أما البرامج الدينية ، فتقدم لنا مواعظ ، تقليدية ممجوجة ، لا يجد أكثر الناس رغبة في سماعها أو مشاهدتها. وكتابات إسلامية ، في موضوعات مختارة عن عمد ، لتخدير الفكر وتفتير الهمم   وأحفالٌ باهتة ، جرى رسمها وإخراجها ، بحيث تنعدم فيها الروح ، ويضعف التأثير ، مما يطمئن أعداء  الإسلام ، الذين لا يطلبون من أمة الإسلام أن تفعل بنفسها اكثر من ذلك .  روي أن امرؤ  القيس ، عندما تعرض لهزة قال  هذا الشاعر الماجن ، يصف ما سيفعل :"اليوم خمر وغداً أمر " . لقد جعل لسكره حداً ، انه اليوم وحسب ، ومات وهو يناضل لاستعادة مجده  ولكن لسان حال الناس هذه الأيام ، اليوم خمر وغداً خمر ، فمتى يكون الصحو على هذا الأمر . ونحن نتساءل ؟  ألا يستحق المسجد الأقصى  وقفة تدبر واستعبار ، يتلاوم فيها المفرِّطون ثم يغضبون لله ، غضبةً تمحو العار وتدرك الثأر  ولم لا نجعل من هذا الشهر ، بدايةً لتغير حياتنا ، لأن الصوم ليس امتناعا عن الأكل والشرب فحسب  لكنه جهادٌ وعطاء بالمال والروح ، إخلاصٌ ومحبةٌ وتقوى ، وقوةٌ وإرادةٌ ، وعبادةٌ واستغفار .

 يأتي رمضان ، وأخوه لنا في مناطق مختلفة من العالم ، تعصف بهم الفتن ، وتحيط بهم المؤامرات إلى جانب حملات الإبادة ، والقتل والتدمير والتشريد . حيث يموت آلاف المسلمين من نيران الأسلحة  أو الأمراض التي تفتك بهم ، نتيجة عدم توفر العناية الصحيةِ الكافية ، ومن سوء التغذية  وهم أحوج ما يكونون لمساعدتهم ، على مقاومة الظلم والهوان والاستبداد .

 تلك هي رسالة الصوم ، بذلٌ وعطاء ، وجهاد وتعاطف ، وقهرٌ للنفس ، لا الجلوس في المتنزهات والمقاهي على الأرجيلة ولعب الورق ، والجلسات المختلطة ، والتي تسميها الأجهزة الإعلامية بالليالي الرمضانية ، ورمضان منها براء ، يقولون ذلك ، في تحدٍ سافر ، لحقيقة هذا الشهر ، التي تتمثل في التوبة ، والرجوع إلى الله ، وقراءة القرآن ، ومعرفة أحكام الصيام .

إنها مدرسة الصوم  تعد المسلمين للانتصار لا للهزيمة ، للقوه لا للضعف ، للصمود والشجاعة لا للخوف والتردد ، فعلينا أن نغتنم هذه الفرصة  ونصطلح مع الله ﴿ إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون    ﴾ .

 

 

رمضان وما نحن فيه  

في شهر رمضان ينبغي أن نتوقف ، لنتأمل حالنا وما نحن فيه ، فلم نقم له بحق الضيافة   ولم نستعد له بما هو أهل له ، لأن القلوب غافلة ، والنفوس خاملة ، أثقلها حب الدنيا وشهواتها ، جاء والأقصى يئن تحت نير الاحتلال ، ويساوم عليه كل دجال ومحتال  فاختنق صوت الحق ، حتى أصبح الحليم حيران  في زمن خلت الساحة من الفرسان ، والأمة في غفلة عما يجري من ظلم وعدوان ، ولقد أحسن من قال :

نعم، واللهِ أخجل من خضوعي     ومن هذا التذلُّلِ والخُنوعِ

نعم، واللهِ أخجل من سكوتي      على ظُلْمٍ من الباغي فَظيعِ

وأخجل من بَني الإسلام لمَّا    أراهم في زماني كالقطيعِ

نرى في الأَسْر أُولى قبلتينا        ونسمع صرخةَ الطفلِ الرضيعِ

وتلعب بالقوانين الأعادي     وما للحقِّ فيها من شفيع

قوانينٌ تصون حقوق كلبٍ     وترفع قَدْرَ كذابٍ وضيعِ

جاء رمضان ، وطاقاتنا معطلة ، نستهلك ولا ننتج ، ونستورد ولا نصنع ، ونفتخر باقتناء أفخر السيارات والتجهيزات ، ولا نحسن أيَّ شيء من الصناعات ، جاء وقد اهتم المسلمون من الفقه بمسائل الطهارة والصلاة والطلاق   والتركيز على السنن والمندوبات ، وأهملوا كل ما يتعلق بمصير الأمة ورسالتها ، ولا يسألون عن تسلط الحكام المستبدين ، على شعوبهم المقهورة ، ولا يسألون عن ظلم الأقوياء للضعفاء ، ولا عن التنازل عن أرض الإسلام لمن اغتصبها ، ولا يسألون عن شعوبٍ إسلامية تُذْبَحْ ، لا تجد من يشدَّ أزرها في محنتها ، جاء وقد امتلأت الدنيا بالعدوان، وقد استشري الفساد، فأناس يفطرون علي ما لذ وطاب  وآخرون يفطرون على كثره المصاب، جاء رمضان وأعداء الإسلام ، يـُسيئون لرسولنا صلي الله عليه وسلم، ويدنسون قرآننا ويستبيحون شرائعنا وشعائرنا ، يزورن الحقائق ويصوَّرون الجهاد، والدفاع عن العقيدة  والنفس، والعقل والعرض، والمال، والوطن ، بأنه إرهاب. بينما غزوهم لبلاد المسلمين ، والتدخل في شؤونهم   عمل مشروع ، جاء وقد حيل بين الكثيرين وبين ما يتمنون ، يعتقل من يُعتقل، ويُغيب من يُغيب، ويفر من يفر، ويهاجر من يهاجر ويموت من يموت ، ويُحال بين الناس وأوطانهم  وأبنائهم وأحبتهم وأصدقائهم ، جاء والمسئولون عن أجهزة الإعلام ، يسرقون روحانية هذا الشهر، وفرص الأجر ، ويفتحون أبواباً الوزر   حيث يتأهب شياطين الإنس في التحضيرات الهائلة ، للأعمال الإعلامية ، التي توصف بأنها أعمال رمضانية ، ورمضان منها براء ، أعدوا هذه الأعمال ، تحت دعاوى الترفيه والمنافسة  وتحت مسميات الفوازير والمسلسلات والمسابقات ، وبرامج المنوعات ، لإشغال الناس باللهو والهزل ، وصرف قلوبهم عن العودة إلى الله ، والانصراف إلى الطاعة ، والتوبة والإنابة في شهر تفتح فيه أبواب الجنة ، وتغلق أبواب النار وتصفد الشياطين ، إلا شياطين المخذِّلين والمنافقين ، والمرائين والمعوقين ، وأشباه الرجال والمطبلين والمزمرين ، والمسبحين بحمد الطواغيت   الذين دمروا الأوطان ، وسرقوا الأموال  وشياطين كل من حارب شعبه ، وعاش لعرشه وباع وطنه. و كل من لا يعمل على التغيير ويقتل القادرين على التغيير ، خوفاً من أن يناله التغيير ، جاء رمضان والمسلمون يبكون ولا يضحكون ، لأنهم يعيشون في غمرة الذلِّ والاستعباد ، والفقر والإبعاد ، مما يدعو للتساؤل ؟ أين الصيام من أناس انطوت قلوبهم على الحقد والحسد ، وتفريق كلمة المسلمين  وإضعاف سلطانهم ؟ أين أدب الصيام ؟ من فئات تحب أهل الفساد ، وتنافق المسئولين .   

وهل صام من استغل مصالح المؤمنين   واستطال عليهم بلسانه ويده ؟ وكيف يعيشون لأمتهم ودينهم ، الذين تنهزم غرائزهم ، أمام جوع الصيام ومتطلباته ، وتقصير هؤلاء في صومهم ، شاهد على تقصيرهم في سائر فرائض دينهم ، وقضايا أمتهم ، ولهذا فإن المخالفات الفظيعة ، والجرائم الشنيعة ، إنما تقع ممن قلَّ دينهم ، وفسدت طباعهم ، وساءت أوضاعهم  

أوصى أبو ذرّ أصحابه يوماً فقال:"إن سفر القيامة طويل ، فخذوا ما يصلحكم ،صوموا يوماً شديد الحرِّ لحرِّ يوم النشور، وصلوا ركعتين في ظلمة الليل لظلمة القبور ، وتصدقوا بصدقة السرِّ ليومٍ عسير " ولما قيل للأحنف بن قيس : إنك شيخٌ كبير ، وإن الصوم يضعفك قال:"إني أعد لسفرٍ طويل   والصبر على طاعة الله  أهون من الصبر على عذاب الله " هكذا تبنى فيه الضمائر ، وتربى فيه العزائم ، فهو شهر دواء النفوس والأرواح ، شهر الأمن والإيمان  والمغفرة والرضوان ، الهداية ورشاد والإنفاق والعطاء ، والبرٍّ والإحسان ، شهر الطاعةٍ والعبادة ، والقيام والاستغفار والدعاء والرجاء   شهر التراحم والتعاطف ، والتزاور والتآلف  شهر الصبر والجهاد ، وقراءة القرآن ، والتوبة والغفران  إنه ربيع المؤمنين ، ومرتع الصالحين  فمرحباً برمضان ضيفاً كريماً على المسلمين ، إنه أكرم الشهور ، لأنه نزل فيه القرآن قال تعالى :﴿ شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدىً للناس وبيناتٍ من الهدى والفرقان﴾ البقرة 185 . ألا ليت المسلمين يستقبلونه كما يجب ، أو يعاملونه كما ينبغي ، ليتهم يعلمون أن الله يتجلى فيه على عباده بفضله وكرمه فيعملوا الصالحات ، ويتوبوا عن المنكرات ، ليتهم يرجعون فيه عن غيهم وضلالهم ، ويبتعدون عن كل منكر وقبيح ، وليت العصاة فيه  يطرقون باب التوبة والإنابة ، ويتحببون إليه بالطاعة والعبادة  ويسألون الله الصفح والغفران  ويتوددون إليه بكل برٍّ وإحسان ، ويتفانون في طلب رحمته ورضاه  ليتهم يُحيون فيه ما مات من كتاب الله وسنة نبيه ، ويتذكرون ما نسوه من دينه وشريعته .

فالنقبل على تلاوة القرآن في رمضان ، ونعطي التلاوة حقها ، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ، يكثر من تلاوة القرآن في رمضان قال تعالى: ﴿ الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوة أولئك يؤمنون به ﴾ البقرة 121 . فكأن من لم يعط القرآن حقه في الأداء ، لا يتمكن الإيمان وحلاوة القرآن من قلبه ، ويؤكد النبي صلى الله عليه وسلم هذه الحقيقة بقوله : (لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث) رواه أبو داود . أما كيف نعيش مع القرآن ونعطه حقه ليعطينا حلاوته ؟ فذلك يكون بمراعاة أمورٍ منها : التعرف على معانيه وما يريده الله من عباده قال الله تعالى :   ﴿ أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها﴾ محمد24 ولنقبل في شهر رمضان على الاستماع إلى المواعظ ، لأن النفوس إذا ما أصابتها القسوة والغفلة ، وابتعدت القلوب عن الله ، وتعلقت بالدنيا وما فيها ، واقترفت الذنوب والمعاصي  فإنها بحاجة إلى التذكير والوعظ ، وقد أخبر الله تعالى عن عباده المتقين ، أنهم بحاجة إلى تعاهد النفوس ورعايتها فقال :﴿ والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ، ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يُصرُّوا على ما فعلوا وهم يعلمون ﴾آل عمران 135 . إذا كانت هذه نفوس المتقين ، الذين بلغوا المنازل الرفيعة ،  فكيف بمن هم دون ذلك بكثير ؟ وكيف بنا اليوم ، ونحن نعيش عالماً مليئاً بالفساد والمنكرات ؟ ناهيك عن الاستغراق في فصول المباحات والوقوع في المشتبهات . عن أبي جعفر بن علي قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استهلَّ شهر رمضان استقبله بوجهه ثم يقول : اللهمَّ أهلَّه علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام ، والعافية المجللة ، ودفاع الأسقام  والعون على الصلاة والصيام وتلاوة القرآن ، اللم سلِّمنا لرمضان وسلِّمه لنا  وتسلَّمْه منا ، حتى يخرج رمضانُ وقد غفرت لنا ورحِمْتَنا وعفوت عنا ) .                           

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

  

 

 

وجاء رمضان

جاء الشهر الفضيل ولم نقم له بحق الضيافة ، ولم نستعد له بما هو أهل له ، لأن القلوب غافلة والنفوس خاملة ، أثقلها حب الدنيا وشهواتها .

جاء والأقصى يئن تحت نير الاحتلال ، ويساوم عليه كل دجال ومحتال ، والأمة في سهو ولهو وسبات ، في وقت نطق فيه الرويبضه ، وانطلق قيد الشهوات  واختنق صوت الحق ، حتى أصبح الحليم حيران ، في زمن خلت الساحة من الفرسان ، جاء وطاقاتنا معطلة ، وبلادنا من أهم البلاد موقعا ، وأطيبها بقعة  وأخصبها أرضا  وأغناها بالمعادن والثروات ، التي لم تستغل على  لا بل جُرنا على الأرض الحية الخضراء  بإقامة المباني عليها ، بدل الاهتمام بزراعتها .

جاء ونحن نستهلك ولا ننتج ، ونستورد ولا نصنع ، ونفتخر باقتناء أفخر السيارات والتجهيزات ، ولا نحسن أيَّ شيء من الصناعات جاء وقد اهتم المسلمون من الفقه بمسائل الطهارة والصلاة والطلاق ، والتركيز على السنن والمندوبات ، وأهملوا كل ما يتعلق بمصير الأمة وكيانها ورسالتها ، بل لا يسألون عن تسلط الحكام المستبدين على شعوبهم المقهورة ولا يسألون عن ظلم الأقوياء للضعفاء ، ولا عن التهاون في أرض الإسلام ، والتنازل عنها لمن اغتصبها بالقوة  ولا يسألون عن السكوت على شعوبٍ إسلامية تُذْبَحْ ، ولا تجد من يشدَّ أزرها في محنتها ، وإذا ما طُلب ذلك فإن الدنيا تقام وتقعد ، جاء والمسؤولون عن أجهزة الإعلام  يسرقون روحانية هذا الشهر، وفرص الأجر  ويفتحون أبواباً للوزر  حيث يتأهب شياطين الإنس في التحضيرات الهائلة ، للأعمال الإعلامية التي توصف بأنها أعمال رمضانية ، ورمضان منها براء ، فقد أعدوا هذه الأعمال  تحت دعاوى الترفيه والمنافسة ، وتحت مسميات الفوازير والمسلسلات والمسابقات وبرامج المنوعات  لإشغال الناس باللهو والهزل ، وصرف قلوبهم حتى في أرجى فرص العام ، للعودة إلى الله  والسمو بقلوبهم ونفوسهم ، وبصائرهم وأرواحهم ، والانصراف إلى الطاعة ، والتوبة والإنابة ، ليحرروا أنفسهم من ربقة هذه العبودية المادية ، لهذا وذاك ، فإن على المسلمين ، أن يبكوا ولا يضحكوا ، لأنهم يعيشون في غمرة الذلِّ والاستعباد ، والفقر والإبادة ، والإبعاد والتشريد ، مما يدعو للتساؤل ؟ أين الصيام من أناس انطوت قلوبهم على الحقد والحسد ، وتفريق كلمة المسلمين ، وإضعاف سلطانهم ؟ أين أدب الصيام ؟ من فئات تحب أهل الفساد وتأنس بمجالس الغاوين ، وتنافق المسؤولين .

وهل صام من استغل مصالح المؤمنين ، واستطال عليهم بلسانه ويده ؟ وكيف يعيشون لأمتهم ودينهم ، الذين تنهزم غرائزهم ، أمام جوع الصيام ومتطلباته  وتقصير هؤلاء في صومهم   نموذج شاهد على تقصيرهم في سائر فرائض دينهم  وقضايا أمتهم .

من أجل هذا فإن المخالفات الفظيعة ، والجرائم الشنيعة ، إنما تقع ممن قلَّ دينهم  وفسدت طباعهم ، وساءت أوضاعهم ، أوصى أبو ذرّ أصحابه يوماً فقال : "إن سفر القيامة طويل   فخذوا ما يصلحكم ،صوموا يوماً شديد الحرِّ لحرِّ يوم النشور، وصلوا ركعتين في ظلمة الليل لظلمة القبور ، وتصدقوا بصدقة السرِّ ليومٍ عسير " . ولما قيل للأحنف بن قيس إنك شيخٌ كبير وإن الصوم يضعفك قال : "إني أعد لسفرٍ طويل  والصبر على طاعة الله ، أهون من الصبر على عذاب الله" شهر تبنى فيه الضمائر ، وتربى فيه العزائم ،شهر دواء النفوس والأرواح ، شهر تربية الضمائر والتزود بالتقوى ، التي أخبر الله بأنها خير زاد فقال تعالى  :  ﴿ وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ﴾ البقرة 117 . إنه شهر نور وضياء وبركة ، شهر أمن وإيمان  ومغفرة ورضوان ، شهر هداية ورشاد وإنفاق وعطاء ، وبرٍّ وإحسان  شهر طاعةٍ وعبادة وصلوات وتسبيح ، شهر قيام وصيام واستغفار ودعاء ورجاء ، شهر تراحم وتعاطف  وتزاور وتآلف ، شهر الصبر والجهاد ، وقراءة القرآن والتوبة والغفران ، إنه ربيع المؤمنين   ومرتع الصالحين ، فمرحباً برمضان ضيفاً كريماً على المسلمين ، إنه أكرم الشهور ، لأنه نزل فيه القرآن قال تعالى :﴿ شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدىً للناس وبيناتٍ من الهدى والفرقان﴾ البقرة 185 . ألا ليت المسلمين يستقبلونه كما يجب   أو يعاملونه كما ينبغي ، ليتهم يعلمون أن الله يتجلى فيه على عباده بفضله وكرمه فيعملوا الصالحات ويتوبوا عن المنكرات ، ليتهم يرجعون فيه عن غيهم وضلالهم ، ويبتعدون عن كل منكر وقبيح   وليت العصاة فيه ، يطرقون باب التوبة والإنابة  ويسألون الله الصفح والغفران ، ويتحببون إليه بالطاعة والعبادة ، ويتوددون إليه بكل برٍّ وإحسان ، ويتفانون في طلب رحمته ورضاه  ليتهم يُحيون فيه ما مات من كتاب الله وسنة نبيه  ويتذكرون ما نسوه من دينه وشريعته .

ها هو رمضان يهل علينا بأجوائه العبقة بالإيمان  ففيه عبادة نحن في مسيس الحاجة إليها لتستريح فيها ضمائرنا ، ولتطمئن نفوسنا ولنقبل على تلاوة القرآن ، ونعطي التلاوة حقها ، فقد كان النبي  صلى الله عليه وسلم يكثر من تلاوة القرآن في رمضان قال تعالى: ﴿ الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوة أولئك يؤمنون به ﴾ البقرة 121 . فكأن من لم يعط القرآن حقه في الأداء ، لا يتمكن الإيمان وحلاوة القرآن من قلبه ، ويؤكد النبي  صلى الله عليه وسلم حقيقة إعطاء القرآن حقه في الأداء بقوله : (لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث)  رواه أبو داود .  أما كيف نعيش مع القرآن ونعطه حقه ليعطينا حلاوته ؟ فذلك يكون بمراعاة أمورٍ منها  التعرف على معانيه وما يريده الله من عباده قال تعالى :﴿ أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها﴾ محمد24 وعلينا أن نقبل في شهر رمضان على الاستماع إلى المواعظ ، لأن النفوس إذا ما أصابتها القسوة والغفلة ، وابتعدت القلوب عن الله ، وتعلقت بالدنيا وما فيها ، واقترفت الذنوب والمعاصي  فإنها بحاجة إلى التذكير والوعظ ، وقد أخبر الله تعالى عن عباده المتقين أنهم بحاجة إلى تعاهد النفوس ، ورعايتها فقال :﴿ والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ، ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يُصرُّوا على ما فعلوا وهم يعلمون ﴾آل عمران 135 . إذا كانت هكذا نفوس المتقين الذين بلغوا المنازل الرفيعة  فكيف بمن هم دون ذلك بكثير ؟ وكيف بنا اليوم ونحن نعيش عالماً مليئاً بالفساد والمنكرات ؟ ناهيك عن الاستغراق في فصول المباحات والوقوع في المشتبهات .

عن أبي جعفر بن علي قال : ( كان رسول الله  صلى الله عليه وسلم إذا استهلَّ شهر رمضان استقبله بوجهه ثم يقول : اللهمَّ أهلَّه علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام ، والعافية المجللة ، ودفاع الأسقام  والعون على الصلاة والصيام وتلاوة القرآن ، اللم سلِّمنا لرمضان وسلِّمه لنا  وتسلَّمْه منا ، حتى يخرج رمضانُ وقد غفرت لنا ورحِمْتَنا وعفوت عنا ) .                         

 

 

 

معاناة شعب في رمضان

إن ما يجري في فلسطين من تطورات خطيرة يتطلب من القائمين على أمر الأمة وقف المفاوضات مع اليهود ، لأنها ليست إلا صورة للاستسلام المذل والتفريط المستمر في حقوق الأمة العربية والإسلامية في المقدسات . لقد هب شعب فلسطين الأعزل لمواجهة العدو وسقط منهم من سقط شهيداً وجريحاً ، وبقي الواجب علينا كمسلمين شعوباً وحكومات أن نقدم الدعم والمساندة لتحرير قدسنا وأقصانا ، والثأر للدماء التي أُزهقت على يد اليهود ، وليس الاكتفاء بالشجب والاستنكار أو تقديم الشكاوى إلى مجلس الأمن .  وإذا كان المسلمون قد فاتتهم وحدة الصف  فلماذا لا يجتمعون على وحدة الهدف ، حتى يعملوا على وقف هذا الاعتداء المتواصل على المسلمين في فلسطين وغيرها ، يُنال منهم ولا ينالون ويُجار عليهم ولا يجيرون ، وذئاب الشرق والغرب تُغير عليهم فتفترس ما شاءت دون أن يحرَّك ساكنا ، وكيف يتوقع ذلك من أناس أيديهم هي السفلى  أليسوا مدينين لهم ؟ فكيف يريدون لنا خيراً ؟

إن الإسلام لا ينتصر بنا ، لأننا وصلنا إلى درجةٍ لسنا بعربٍ ولا مسلمين ، فإن كنا عرباً ، فإن العرب الأوائل كانوا يرفعون راية الإسلام ، أما هذه الأيام فهم يتنكرون لها ، بل انضموا إلى الأعداء يعاونونهم على وأد الإسلام وقتل شرائعه إنهم مسؤولون عما يقع الآن للإسلام والمسلمين من مصائب ، إن تفرقهم قديماً هو الذي فتح الطريق إلى بيت المقدس وجعل الجثث فيها أكواماً وهم يكررون الخطأ القديم بل زادوا إلى ذلك تقطيع الصفوف وتوهين العقيدة .

لقد أراد الله أن يكون العرب رؤوساً بالإسلام قادةً برسالته ، فإذا عادوا إلى جاهليتهم وآثروا الانتماء إلى قوميتهم فنحن ننذرهم بقول الحق :﴿ إن يشأ يذهبْكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا ﴾ النساء 133 .

وحتى العرب قبل الإسلام فقد كان الواحد منهم إذا أصابته هزيمة حرَّم على نفسه مباهج الحياة وأفراحها حتى يدرك ثأره ، وفي هذا يقول تأبط شرّاً وقد قُتل خاله ولم يستطع أن يدرك ثأره .

إن بالشِّعب الذي دون سَلْع      لقتيلاً دمه ما يـُـطَـلُّ

خلَّــف العبء علىَّ وَوَلي        أنا بالعـبء له مُسْتَقِـل

ووراء الثأر مني ابـنُ أخـتٍ        مَصِعٌ عُقْدَتُـه مـا تُحَلُّ

فلما أدرك ثأره قال :

حلَّت الخمْر وكانت حراما       وبلأيٍ ما ألمـــت تَحِلُّ

فاسقنيها يا سوادَ بنَ عمروٍ إن جسمي بعـد خالي لخلُّ

إنها نفسها الطبيعة العربية التي جعلت أبا سفيان يقول عند هزيمته في بدر : لا أغتسل من جنابة حتى أدرك ثأري من محمد ، وجعلت هند بنت عتبة تقول : لا يمس جلدي طيب حتى أدرك ثأري من محمد .

بينما نرى المسلمين مهزومون في فلسطين وفي أماكن لا حصر لها في أنحاء العالم وكأن الانتماء إلى الإسلام أصبح تستباح معه الدماء والأموال والأعراض ، وكأن الساسة والقادة يتآمرون على ديننا ، وإلا فما معنى الاكتفاء بالشجب والإدانة وجمع التبرعات ونيران اليهود تقتل وتجرح من المسلمين في كل يوم ، إن هذا لا ينبغي إن كنا عربا ً أما إذا كنا مسلمين ، فينبغي أن يكون لنا بصلاح الدين قدوة ، فقد رُئي وهو متجهم الوجه فقيل له : ما أحزنك ؟ قال : وكيف أبتسم والمسجد الأقصى أسير في أيدي الصليبيين ؟ وها هو أسير الآن والناس والمسئولون يضحكون ولا يكترثون .

إننا نرجو من الله أن تتخلص امتنا من اليهود وهذا الذل الذي وقعت فيه ، ولا يكون ذلك إلا بالإيمان الذي يملأ فراغها ويعمر خرابها .

وهنا أورد لكم مثالاً من قصص القرآن للإيمان الذي يفعل الأفاعيل ، سحرة فرعون لم يخطر ببالهم اتباع موسى ، فقد كانوا طلاب مال وأصحاب جشع ورغبة في المكافآت والجوائز يتملقون ملكهم ويحلفون بعزته قال تعالى : ﴿ فلما جاء السحرة قالوا لفرعون أئن لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين ؟ قال نعم وإنكم إذاً لمن المقربين ﴾ الشعراء 43 ، هكذا كان شأنهم شأن من يعبد الدنيا ، ويعبد فيها المال والوجاهة ، ولكن ذلك تغير عندما ألقى موسى عصاه قال تعالى:﴿  فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يؤفكون  فألقى السحرة ساجدين ، قالوا آمنا برب العالمين ، رب موسى وهارون ﴾ الشعراء 45 .

تصور يا أخي المسلم عندما شرح الله بالحق صدورهم وتلاقت أشعة الإيمان في نواصيهم إذا هم شيءٌ آخر ، إنه صنع الإيمان ، إن الإيمان يصنع العجائب ولكن الناس غفلوا عن وظيفته  وتعلقوا بالظواهر الفارغة والقشور التي لا تغَيِّر واقعا ، فهو الذي حوّل سحرة فرعون من أنانيين لا يفكرون إلا في أنفسهم إلى ربانيين يغضبون لله ويتحملون في ذات الله التقتيل والصلب وضياع الدنيا وفقدان كل شيء .

وهناك وقفة أخرى في قصة موسى مع فرعون  فقد خرج موسى بقومه فلحقهم فرعون بجيشه فسرت الشكوك عند البعض وتزلزلت أقدامهم وظنوا أنهم أدركوا و أُحيط بهم وهنا يختبر الإيمان  فمن كان متعلقاً بغير الله اضطربت نفسه وسرت الهواجس التي تخوفه ، أما من كان راكناً إلى الله فقد بقي ثابتاً مؤمناً أنه مع اشتداد الظلمة سيطلع الفجر ومع تضاعف الحرج سيجيء اليقين قال تعالى :  ﴿ فلما تراء الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون ، قال كلا إن معي ربي سيهدين  فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم وأزلفتا ثم الآخرين  وأنجينا موسى ومن معه أجمعين ثم أغرقنا الآخرين ﴾ الشعراء 66  . وبهذا انتهت قصة البطش وأسطورة الألوهية الكاذبة ، وكم سجل التاريخ من مآس لمن غالبوا الله فغلبهم وقاوموه فهزمهم فلنتدبر قصص القرآن الكريم ، إنها مصباح تنطلق أشعته منه ، لكي يعرف الناس الطريق الصحيح فلا يزيغوا ولا يضلوا ، ولا بد للناس أن تعلم أن المفاسد إذا استقرت في أمة فلن تكون أهلاً للنصر ، ولا بد حتى تستجمع أسباب السيادة والنصر أن تصطلح مع الله .

ذكر التاريخ أن هولاكو دخل بغداد وقتل نحو مليون من الناس ، حتى أن الفرات احمّرت مياهه من كثرة الدماء التي سفكت ، فقد كان المسلمون يومئذٍ أهلاً للهزيمة وكانوا جديرين بها كما هو حالهم هذه الأيام .

ثم جاء وقت على المسلمين كانوا يثأرون لأنفسهم مما نزل بهم ودخل المسلمون القسطنطينية وجعلوها عاصمة الإسلام . فقد انتصروا عندما صلحت أحوالهم واصطلحوا مع الله . وكان الفارق كبيراً بين الخليفة العربي الذي قتل مع قومه في بغداد  وبين الخليفة الذي انتصر على أعداء الإسلام وفتح القسطنطينية ، فقد روى أن محمد الفاتح كان رجلاً صواماً قواما ، وكان كثير القراءة للقرآن ، وقبل أن يموت جمع أولاده وأوصاهم بأن يظلوا مجاهدين لنصرة الإسلام   وأن لا يشغلهم شيء عن مرضاة الله .

إن العرب والمسلمين في هذه الأيام يلقون الويل والاحتقار والمذلة والإهانة لأنهم يحاولون الانسلاخ من الإسلام . الذي جاء رحمة  للناس وخروجاً بهم من الظلمات إلى النور قال تعالى : )كتاب أنزلناه لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد( إبراهيم 1 .

 

فرض الصيام

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة له آخر شعبان من السنة الثانية للهجرة : ( أيها الناس لقد أظلكم شهر عظيم مبارك ، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر ، جعل الله صيامه فريضة ، وقيام ليلة تطوعاً …؟!

لقد فُرِضَ الصيام في المدينة بعد هجرة المسلمين إليها، لأن العهد المكي كان عهد تأسيس العقائد  وترسيخ أصول التوحيد ، وتدعيم القيم الإيمانية والأخلاقية في العقول والقلوب ، وتطهيرها من رواسب الجاهلية ، في العقيدة والفكر والخلق والسلوك . أما بعد الهجرة إلى المدينة ، فقد أصبح للمسلمين كيان وجماعة متميزة ، تنادى بـ ﴿ يا أيها الذين أمنوا ﴾  فشرعت عندئذٍ الفرائض . وحدت الحدود ، وفصلت الأحكام ، ومنها الصيام ، ولم يُشرع في مكة إلا الصلوات الخمس ، لما لها من أهمية خاصة ، وكان ذلك في ليلة الإسراء والمعراج قبل الهجرة .

إن علينا أن نحافظ على هذه العبادات ، لأن الله سبحانه شرعها لتهذيب الأخلاق ، وترقيق العواطف لذا يمكن أن نقول ، بأن العبادات تغير عادات الإنسان ، من الأسوأ إلى الأحسن ، أي أنها تسمو بالإنسان ، وترقى به إلى مدارج الكمال ، وتنزله في الآخرة منازل الأبرار الصالحين .

وشهر رمضان له لون فريد ، يميزه عن بقية العبادات الأخرى ، وذلك لأن الصيام يقوي الإرادة كما أن الإنسان وهو صائم ، يستطيع أن يُغَيِّرَ من العادات السيئة ، التي تعود عليها في غير رمضان والصيام لم يُفْرضْ ليكون سبباً في عذاب النفس ، وإنما فرض لتكون أيامه خيراً  تسكن فيها ثائرة النفس ، ويهدأ توتر الأعصاب ، وينضم العبد مع جند الله الصالحين ، ليكون مع الأطهار الأبرار فيصلي صلاة القيام ، ويقرأ القرآن  ويخشع لله ، ويذكر لله ليذكره .

أما الصائم الذي يلوك بلسانه عرض المسلمين  ويتتبع بعيونه حرمات المؤمنين ، فهذا نذكره بقول الصادق الأمين: ( كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش ). إن الصيام مدرسة منهجها تقوية العزيمة ، وتغيير السلوك من السيئ إلى الأحسن ، وربط الإنسان بخالقه ، وحسن صلته بالناس ، لينعم بأجر الصائمين ، وبفوز برضا رب العالمين . والصوم فريضة لها قدر كبير بين الفرائض ، إنها العبادة الوحيدة التي يترك فيها الصائم حظوظ نفسه  وشهواتها الكثيرة التي جبلت عليها ، ولا يتحقق ذلك في عبادة أخرى . والأمل من الله أن يكون هذا الشهر مباركاً  بإحياء معاني الإسلام في النفوس ، وإعمار القلوب بالإيمان . وأن يكون منا سبة عظيمة لتحريك الهمم ، والشعور بالمسؤولية الملقاة على عاتق هذه الأمة  لتدفع عن هذا الدين ، ما أحاط به من الشرور والفتن . وتعمل على الدفاع  عن مبادئ الإسلام والمسلمين ، من المؤامرات التي تحاك خيوطها في ظلمه الليل ووضح النهار . قال تعال: ﴿ وما لكم لا تقاتلوا في سبيل الله ﴾ النساء 75 .

فلم لا ندافع عن مقدساتنا ومبادئنا الإسلامية  ولم لا نهب جميعاً للدفاع عن وجودنا وكرامتنا ومصادر رزقنا ، ولم لا يكون هذا الشهر شهر الجهاد ، عسى أن يشملنا الله برحمته ، ويحوطنا بعنايته وينقذنا مما ألم بنا من نكبات وويلات  ويتقبل منا ما نقدم من صوم وقيام ، وبذل وإحسان وعمل للخير في كل ميدان ، حتى نكون من الفائزين ، يلتقي المسلمون في شهر رمضان بثلاثة معالم  اختصهم الله تعالى بها ، وهذه المعالم هي : القرآن وليلة القدر وأمة القرآن .

أما القرآن : فإن الذين يتِّصلون به ، تلاوة أو استماعا في رمضان وغير رمضان ، هم في حالة ذكر وصلاةٍ ودعاء ، وليس شهر رمضان وحده المعنى بذلك ، بل إن تلاوة القرآن أو الاستماع إليه مطلوبٌ في أيِّ وقت ، بشرط التذكر والتدبر  لقوله تعالى : ﴿ كتابٌ أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته ، وليتذكر أولو الألباب ﴾ ص 29 . والذي يقرأ أو يستمع إلى القرآن ، بدون تدبر وتذكر ، ليس بقارئ وإن قرأ أو استمع ، قال تعالى {وإذا قُرئ القرآن فاستمعوا له وانصفوا لعلكم ترحمون}. فالرجاء في رحمة الله ، رهن بالاستماع والإنصات لما يتلى .

أما من يفتحون المذياع والتلفاز أو المسجل ، على قراءة القرآن ، ولا يجلسوا مجلس القرآن في الاستماع إليه ، فإن هؤلاء بخسوا القرآن حقه  وظلموا أنفسهم  ولو حوَّلوا مؤشر المذياع أو التلفاز إلى غير القرآن ، لكان ذلك على ما به  أصون لمقام القرآن واحفظ لجلاله .

أما ليلة القدر : وهي من ليالي هذا الشهر ، الذي أنزل فيه القرآن ، إنها ليلة العاملين الذين يصومون شهر رمضان ، فيمسكون ألسنتهم عن الفحش والسوء ، ويفطرون على الحلال الطيب ، مما كسبت أيديهم . إنها ليلة القرآن وأهل القرآن  وهي ليلة من ليالي شهر رمضان ، فمن طلبها فليطلبها فيه  صائماً نهاره  قائماً ليلة ، ومن فترت همته ، فليطلبها في العشر الأواخر من الشهر الكريم  حيث أشار إليها الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله " التمسوها في العشر الأواخر من رمضان ".  ومن ضعف عن ذلك ، فليقم لها في الليالي الفردية من العشر الأواخر ، حيث تظاهرت الأخيار بأنها واحدة من تلك الليالي ، فمن عجز عن هذا ، فليقم لها ليلة السابع والعشرين ، حيث وردت أحاديث كثيرة تشير إلى ذلك ، منها ما رواه ابن عباس عندما سئل عنها فقال ( إني أراها أي أظنها ليله السابع والعشرين. فقيل له : أعندك من خبر بهذا ؟ فقال : لا ، ولكن نظرت فوجدت أن الله تعالى خلق الإنسان من سبعة أطوار … ) .

وفي رمضان كان ميلاد دولة الإسلام ، وكان القرآن الكريم ، هو الروح السارية في كيانها  فكانت كما نوه الحق سبحانه وتعالى في كتابه الكريم بقوله تعالى : ﴿ كنتم خير أمةٍ أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر  وتؤمنون بالله ﴾ .  فيا أمة الإسلام هذا هو القرآن ، فكوني أمة القرآن ، تلاوةً وتدبراً وتذكراً وعملا . وهذا شهر رمضان ، فكوني أمة هذا الشهر  صياماً وقياماً واستقامة وإحسان .  وهذه ليلة القدر ، فكوني أمة ليلة القدر صفاء روح ، وطهارة نفس . إنها مسئولية كل مسلم عن نفسه وعن أمته  وعن كتاب ربه،  يأتمر بما أمر ، وينتهي عما نهى كما قال تعالى : ﴿ وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون ﴾ الزخرف 44. 

 

  عبادة الصوم      

  إن  أول حق على الإنسان ، هو حق ربه الذي خلقه , وأول ما يتمثل هذا الحق ، إنما هو في عبادته والسعي في مرضاته .

أما مفهوم العبادة الصحيح ، وسرُّ التكليف بها  فهو ما جاء به الإسلام من هداية وإصلاح .  والعبادة : اسم جامع لكل ما  يحبه الله ويرضاه  من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة .

 وهي حق الله على عباده . روى  البخاري عن معاذ قال ( كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا معاذ  أتدري ما حق الله على العباد ؟ قلت الله ورسوله أعلم قال : (حق الله على العباد ، أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا )  

إن إظهار  العبودية لله وامتثال أمره ، هو عمادُ العبادات كلها  وإن صلاح النفس واستقامة  الأخلاق والتقوى ، هي ثمرة لازمة للعبادة . لقوله تعالى : ( اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون ) البقرة 21 . وبين ثمرة ذلك في آخر الآية بقوله لعلكم تتقون .

والعبادات منها ما يتمثل في القول , كالدعاء وذكر الله , ومنها ما يتجلى في الفعل بدنياً كالصلاة أو مالياً كالزكاة ، أو جامعاً بينهما كالحج والجهاد في سبيل الله  ومنها ما ليس قولاً ولا فعلاً ، ولكنّه كف وامتناع كالصوم ، الذي هو : الامتناع عن الأكل والشرب ، ومباشرة النساء ، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس . والإمساك عن المفطرات ، عنوانٌ لإمساك حقيقي  عن كل عمل يتنافى مع مبادئ الإسلام , وإلا فأي غناء ؟ أن يدع المسلم طعامه وشرابه ، ويقعَ في المعاصي والمخالفات ، وإعداد أشهى المأكولات وكأنه شهر أكلٍ  وشرب , وكأنهم أهملوا أرواحهم ، واهتموا  بأجسادهم ، يعملون من أجلها لإشباع غرائزهم وبطونهم وفروجهم  ولسان حالهم قول القائل .

إنما الدنيا طعـام     وشراب  ومنـام

فإذا  فاتك  هذا      فعلى الدنيا السلام

وقد وصفهم الله بقوله :{إن هم إلا  كالأنعام بل هم أضل سبيلا}الفرقان 44     ، فرض الله الصوم ، ليحرر الإنسان من سلطان غرائزه ، وليتغلب الإنسان على نزعات شهوته  ويتحكم في مظاهر حيوانيته ، وفيه تقوية للإرادة والتعويد على الصبر . روى ابن ماجة أن رسول الله  صلى الله عليه وسلم قال : (لكل شيءٍ زكاه ، وزكاة الجسد الصوم ، والصوم نصف الصبر ) . لذا يعتبر شهر رمضان شهر الجهاد ، ومن لم ينتصر على نفسه ، فهيهات أن بصبر في ميدان المعارك .

وفي الصوم كذلك ، تعريف للمرء بقيمة نعم الله على الإنسان ، والتذكير بجوع الجائعين . روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (عرض عليّ ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذَهَبا ، قلت لا يا رب ، ولكن أشبع يوماً وأجوع يوما ، فإذا جعت تضرَّعت إليك وذكرتك ، وإذا شبعت شكرتك وحمدتك) رواه الترمذي

وفي الصوم تمام التسليم لله ، وكمال العبودية له  لذا  نسب الله الصوم إلى نفسه في معرض  الجزاء  فقال الحديث القدسي : (كل عمل ابن آدم له  إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به ، يدع طعامه من أجلي ، ويدع  شرابه من أجلي ، ويدع لذته من أجلي ، ويدع زوجته من أجلي ) . رواه ابن خزيمة  فكل  إنسان يمكنه أن يتظاهر بالصيام  لابساً لبوس العابد ، ولكن الله يعلم ذلك   فكانت نسبة الصوم إلى الله ، وعندما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام عن الإحسان   قال له ( أن تعبد الله كأنك تراه ، فان لم تكن تراه فانه يراك ) رواه البخاري .   إن الصيام طريق للشّعور بأمانة الرسالة ، التي يحملها المسلم ، فيستقبل رمضان ، مدركاً بأنه شهر القرآن والصبر والعبودية ، وأنه شهر الجهاد  وبناءً عليه فانه حرام على المسلمين ، أن يولوا ظهورهم ويطمئنوا لما هم عليه ، من ضياع وفرقة  وبعد عن الوعي الإسلامي ، فيهونوا على أنفسهم ويتبلد  منهم الحس ، وتتداعى عليهم الأمم  كما تداعى الأكلة على قصعتها .

 حرام على المسلمين أن يكون هذا موقفهم ، وقد خصهم الله بشهر رمضان ، يعاودهم مرة كل عام بحقيقته الشرعية , وهي لا تنحصر في الإمساك عن الطعام والشراب ، وإنما تشمل الإمساك  عن كل ما يتجافى مع دعوة الإسلام ، التي يتآمر عليها أعداء الأمة لما تحمل من روح المعرفة والعمل  والجهاد . والصيام طريق للشعور بأمانة الرسالة  التي يحملها المسلم للعمل الى عودة الحياة الإسلامية ، فما أحوجنا ونحن نعاني ما نعاني ، إلى روح جديده متوثبة ، تدفع بالقافلة المُؤمنة إلى الأمام غير عابئةٍ بعثرات الطريق .

إن علينا في هذا الشهر ، أن نذكر ما قد نغفل أو نتغافل عنه ، في كثيرٍ من الأحيان ، ولولا ذلك لكان لنا شأنٌ آخر ، من حيث علاقتنا بهذه العبادة ، إنه امتحانٌ للفرد ، من حيث  الإعراض عن الإثم ، دونما رقيبٌ ظاهري أو حارس قريب .

 وهنا سؤال : هل فقه المسلمون أسرار الصيام ؟ وهل نقتدي بأسلافنا الذين جنوا ثماره وتفيئوا ظلاله واستمدوا منه روح القوه ؟  لقد كان نهارهم نشاطاً وإنتاجاً واتقانا , وكان ليلهم تزاورا وتهجداً وقرآنا ، وكانت ألسنتهم صائمة  لا تلغو برفث أو جهل ، وآذانهم صائمة فلا تسمع لباطل   وأعينهم صائمة ، فلا تنظر إلى حرام أو فحش ، وقلوبهم صائمة ، فلا تعزم على خطيئة أو إثم وأيديهم صائمة ، فلا تمتد بسوء أو أذى ، لأنهم فقهوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رب صائم ليس له من صيامه إلا  الجوع  ورب قائم ليس له من قيامه إلا  السهر) : وقوله صلى الله عليه وسلم:( من لم يدع قول الزور والعمل به ، فلا حاجة لله في  أن يدع طعامه وشرابه ) .

أما حال كثير من الناس هذه الأيام مع رمضان فبئس الحال وموقفهم منه ، جعله الله  للقلب والروح فجعلوه للبطن والمعدة ، جعله الله للحلم والصبر ،  فجعلوه للغضب والبطش ، جعله الله للسكينة والوقار ، فجعلوه للسباب والشجار  جعله الله لنغيِّر فيه من صفات أنفسنا ، فما غيرنا إلا مواعيد أكلنا ، فهل آن لنا أن نُؤدَّي هذه الفريضة كما ينبغي ، لنفوز برضا الله ، اللهم آمين .  

استقبال شهر الرحمة

شرع الله مواسم لجني الحسنات ، والتخفيف من السيئات ، ومن هذه المواسم ، شهر رمضان المبارك  فكم من الناس من ينتظره بلهفة وشوق ، لينهل من بركاته ، ويغترف من خيراته ، فكان على كل مسلم منَّ الله عليه ببلوغ شهر رمضان ، أن يغتنم الفرصة  ليقطف ثمارة ، كيف لا وقد قال صلى الله عليه وسلم في محاورته مع جبريل عليه السلام : ( من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له ، فدخل النار ، فأبعده الله ، قل آمين   فقلت آمين ) أخرجه البخاري في الأدب المفرد وابن حبان والترمذي والطبراني بإسناد حسن . إن من الناس اليوم من لا يرحب برمضان ، لأنه يزجره عن المعاصي العظام ، ويحجزه عن الذنوب والآثام ، مع أن بلوغه كان أمنية رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يقول : ( اللهم بارك لنا في رجب وشعبان ، وبلغنا رمضان ) لقد كان السلف رحمهم الله يدعون ربهم ستة أشهر أن يتقبل منهم رمضان الماضي ، ويدعونه ستة أشهر أخرى أن يبلغهم رمضان الحالي ، فأين الامتثال والاتباع والاقتداء ، أم أن أكثر الناس في غواية وغفلة وجفاء ؟

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في استقبال رمضان : ( أتاكم رمضان سيد الشهور ، فمرحباً به وأهلاً ) أخرجه البيهقي . فيه تسمو النفوس ، وتصفو القلوب ، ويدع الناس ما يشتهون ، ويصبرون عما يرغبون ، استجابة لربهم  وامتثالاً لخالقهم ، فيه تعويد على التحمل والصبر  وتقبل للإساءة والزجر ، قال صلى الله عليه وسلم : ( إذا كانت أول ليلة من رمضان ، فُتحت أبواب الجنة ، فلم يُغلق منها باب ، وغُلقت أبواب جهنم ، فلم يُفتح منها باب ، وصُفدت الشياطين ، وينادي منادٍ : يا باغي الخير أقبل ، ويا باغي الشر أقصر ، ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة ) أخرجه البخاري ومسل

وفيه سنّ النبي صلى الله عليه وسلم القيام ( من صامه إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه ، ومن قامه إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه ، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه ) فجدير بشهر هذه بعض أسراره ، أن يفرح به المتعبدون .

من الناس من لا يعرف من رمضان إلا الموائد  وصنوف المطاعم ، وأشكال المشارب ، يقضي نهاره نائماً ، ويقطع ليله هائماً ، فجهلوا الحكمة التي من أجلها شُرع الصيام وهي التقوى ، قال تعالى : ] يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون [ فالإيمان والتقوى ميزان الأعمال ، يجوع الصائم وهو قادر على الطعام ، ويعطش وهو قادر على الشراب ، لا رقيب عليه إلا الله ، فيتحقق الإيمان ، وتظهر التقوى ، قال صلى الله عليه وسلم : قال الله عز وجل : ( كل عمل ابن آدم له إلا الصوم ، فإنه لي وأنا أجزي به ، والصيام جنة (حجاب) ، فإذا كان صوم يوم أحدكم ، فلا يرفث  ولا يصخب ، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل : إني صائم ، إني صائم ، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك ، للصائم فرحتان يفرحهما ، إذا أفطر فرح بفطره ، وإذا لقي ربه فرح بصومه ) البخاري ومسلم .

 فأي خسارة يخسرها المرء عندما يدخل عليه رمضان ثم يخرج ولم يزدد فيه حسنة ، ولم يتقرب فيه من الله درجة ، إنه الخسران المبين ، قال صلى الله عليه وسلم : ( إن في الجنة باباً يقال له الريان ، يدخل منه الصائمون يوم القيامة ، لا يدخل منه أحد غيرهم ، فإذا دخلوا أُغلق ، فلم يدخل منه أحد ) أخرجه البخاري ومسلم . ما أعظم رمضان ، وما أروع هباته وعطاياه ، أخرج ابن أبي الدنيا وغيره بسند حسن من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة ، يقول الصيام : أي رب منعته الطعام والشهوة ، فشفعني فيه ، ويقول القرآن : منعته النوم بالليل ، فشفعني فيه ، قال : فيُشفعان ) فاجتهدوا في تلاوة كتاب الله ، آناء الله وأطراف النهار ، فالقرآن إما شاهد لك أو عليك ، قال تعالى : ] وقال الرسول يارب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً [  واعلموا أن من أفطر يوماً من رمضان بلا عذر فقد تعرض للوعيد الشديد ، والعذاب الأكيد  فعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( بينما أنا نائم أتاني رجلان ، فأخذا بضبعي ،فأتيا بي جبلاً وعراً ، فقالا : اصعد ، فقلت : إني لا أطيقه ، فقال : إنا سنسهله لك ، فصعدت حتى إذا كنت في سواء الجبل إذا بأصوات شديدة ، قلت : ما هذه الأصوات ؟ قالوا : هذا عواء أهل النار ، ثم أُنطلق بي ، فإذا أنا بقوم معلقين بعراقيبهم ، مشققة أشداقهم ، تسيل أشداقهم دماً ، قلت : من هؤلاء ؟ قال : الذين يفطرون قبل تحلة صومهم ) أي الذين يفطرون قبل غروب الشمس . أخرجه النسائي وابن حبان وابن خزيمة وصححه الألباني . إن في الصومُ حِكَم وأسرار، أنّه حِرمان مشروع وتأدِيبٌ بالجوع وخُشوع لله وخضوع، يستثير الشَّفَقةَ ويحضُّ على الصّدقة، يكسِر الكِبر، ويعلِّم الصبر  ويسنُّ خِلالَ البرّ ، حتى إذا جاعَ مَن ألِفَ الشِّبَع وحُرِم المترَف أسبابَ المُتَع عرَف الحرمانَ كيف يقع والجوعَ كيفَ ألمُه إذا لذع .

وقد جهل البعض هذه الحقيقة ؛ فقصروا الصيام على الإمساك عن الطعام والشراب ؛ فترى من لا يمنعه صومه من إطلاق الكذب والبهتان ، ويطلقون للأعين والآذان الحبل والعنان ؛ لتقع في الذنوب والعصيان   وقد قال : ( من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)  رواه البخاري . ولله درّ القائل :

إذا لم يكن في السّمع مني تصاون   وفي بصري غضّ وفي منطقي صمت

فحظي إذن من صومي الجوعُ والظمأ   فإن قلتُ إني صُمتُ يوماً فما صُمتُ

يأتي رمَضانَ والأمة مثخَنَة بالجراح مثقَلَة بالآلام ، يأتي ومسرَى رسولِ الله بيد الاحتلال ، يأتي والمؤمنين يقتَلون ويشرَّدون وتهدَم منازلهم وتجرَف أراضيهم وتبَادُ جماعتهم من قبل أهل الظلم والطغيان ، يأتي ليدع الأمة لأن تجعل من هذا الشهر نقطة تحوُّل ، من حياة الفرقة والاختلاف ، إلى الاجتماع على كلمة التوحيد والائتلاف ، وأن يكون هذا الشهر مرحلة تغيّر في المناهج والأفكار والسير على منهج سيد الأبرار . يأتي وأمّتنا الإسلامية لا زالت تعاني جراحات ومصائب عُظمى . فبأي حال يعيش المبعدون المشرّدون عن ديارهم وأهليهم وأموالهم؟! وبأي حال يستقبل المسلمون في أماكن كثيرة من العالم هذا الشهر الكريم ، وهم يعانون أبشع حرب الإبادة التي في التاريخ المعاصر؟! أضف إلى المعاناة من حياة الجوع والتقتيل والتشريد؟!

إن شهر رمضان ، شهر الخير والبر ، شهر الجود والكرم والعطاء والنماء ، فلا تنسوا إخوانكم الفقراء والمساكين ، والأرامل والمعوزين ، والأيتام والمحتاجين   فمنهم من تمر عليه الليالي لا يجد لقمة يفطر عليها ، أو شربة يمسك بها ، وأنتم تتقلبون في نعم وخيرات  وعطاياً وهبات ، فأروا الله من أنفسكم خيراً ، آتوهم من مال الله الذي آتاكم ، ولا تبخلوا ، فإنه من يبخل فإنما يبخل عن نفسه ، والله الغني وأنتم الفقراء ، يأتي رمضان ليزكي النفوس وليزودها بالإيمان والتقوى والاستعداد للدار الأخرى ] والدار الآخرة خير للذين يتقون [الأعراف 169 .

يأتي رمضان ليروض النفوس على الصبر والمصابرة  والخضوع والخشوع وترك المكابرة ، فيه يزيد عفو الرحمن ، فيفتح أبواب الجنان ، ويغلق أبواب النيران ويصفد الشياطين ومردة الجان .

أتى رمضان مزرعة العباد    لتطهير القلوب من الفساد

فأد حقوقـه قولا وفعلا     وزادك فاتخذه للمعاد

فمن زرع الحبوب وما سقاها   تأوه نادماً يوم الحصاد

روى ابن ماجه أن رجلين قَدِما على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان إسلامهما جميعا فكان أحدهما أشد اجتهادا من الآخر، فغزا المجتهد منهما فاستشهد، ثم مكث الآخر بعده سنة ثم توفى ، قال طلحة : فرأيت في المنام بينا أنا عند باب الجنة إذا أنا بهما ، فخرج خارج من الجنة فأذن للذي توفى الآخِر منهما، ثم خرج فأذن للذي استشهد ، ثم رجع إلي فقال : ارجع فإنك لم يأْنِ لك بعد ، فأصبح طلحة يحدث به الناس، فعجبوا لذلك فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وحدثوه الحديث، فقال:( من أي ذلك تعجبون ؟ ) فقالوا : يا رسول الله هذا كان أشد الرجلين اجتهادا ثم استشهد، ودخل هذا الآخِر الجنةَ قبله ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أليس قد مكث هذا بعده سنة ؟ " قالوا : بلى قال : ( وأدرك رمضان فصام وصلى كذا وكذا من سجدة في السنة ؟ ( قالوا : بلى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( فما بينهما أبعد مما بين السماء والأرض ) صحيح كما قال الألباني عن طلحة بن عبيد الله 

أخي المسلم ! بادر في الصيام على تربيةُ النّفس على طاعةِ الله وتزكيتُها بالصّبر واستعلاؤها على الشّهوات   وكما يُمنع الجسَد عن بعض المباحات حالَ الصيام   فمن باب أولى منعُ الجوارح عن الحرام  ، وإنّ وقتَ رمضان أثمن مِن أن يضيعَ أمام مشاهدَ هابطة ، لو لم يكن فيها إلاّ إضاعةُ الوقت لكان ذلك كافيًا في ذمّها   كيف وقنواتها في سِباق محمومٍ مع الشّيطان في نشرِ الفساد والفتنة والصّدِّ عن ذكر الله وعن الصلاة؟! فهل أنتم منتهون؟! .

 

رمضان شهر القوة والجهاد

إن معظم المسلمين لا يذكرون رمضان إلا قبيل حلوله ، ومعظمهم يتناسونه بمجرد انقضاء أيامه .. حتى الكتابات والدراسات والأحاديث  والبرامج الخاصة برمضان ، لا تكاد تظهر في الصحف ووسائل الإعلام ، إلا مع قدوم هذا الشهر ، وكأنه أصبح مجرد مناسبة فحسب ، مع أنه يمثل جزءاً مهماً من الدراسات الإسلامية  وجانباً أكثر أهمية في حياة الأمة ، لأنه من الأركان التي قام عليها الإسلام    

لقد اقتضت حكمة الله أن يُفرض الصوم على الأمة ، التي فرض عليها الجهاد في سبيل الله   الذي هو عطاء المال والأرواح ، إنه عزم يستعلي على كل المغريات ، وإن الأمة التي كلفت به ، لا بد لها بالإضافة إلى العقيدة الراسخة ، من تربية وعناية مستمرة ، حتى يتناسب تكوينها مع المهمة التي وضعت على عاتقها ، لذا أوجب علينا القرآن الذي أُنزل في شهر رمضان ، أن نصحح العقيدة ونهذب النفس ، وأن نُعِدَ القوة من الناحية المادية إلى أقصى ما نستطيع ، وأن نهتم بالقوة المعنوية اهتمامنا بالقوة المادية ، فكان سبيل ذلك هو شهر رمضان .  والصيام فيه الجمع بين القوتين ، المادية والمعنوية  حيث يعطي المسلم ثلاثة قوى معنوية هي :

الصبر _ إنه من أهم ما ينتصر به الجيش على أعدائه ، سمعنا عن الجيوش في هذا العصر تصطحب معها النساء الساقطات ، ليقمن بمهمة الترفيه عن الجنود في ميدان القتال ، بينما يروي التاريخ أن جيوش المسلمين ، كانوا يرفهون عن أنفسهم ، ويتقوون على قتال الأعداء ، بالعبادة والتهجد وقراءة القرآن في أعقاب الليل ، هل تعلموا يا اخوتي أن السبب في جمع القرآن في عهد عثمان ، راجعٌ إلى ما كان يسمعه حذيفة بن اليمان أحد قواد الجيش الإسلامي ، الذي كان يغزو أذربيجان ، من اختلاف قراءة المجاهدين في الليل ، حين كان يطوف بخيامهم قبيل صلاة الفجر ، وكان لهم بالقرآن دويٌ كدوي النحل ؟! هذا هو سرُّ تلك الانتصارات ، التي ما روى التاريخ لها مثيلا , وذلك هو سرُّ تلك الهزائم المنكرة المتلاحقة ، التي منيت بها يومئذٍ جيوش فارس والروم ، إذ كانت معنوياتها المنهارة لا تضمن لها الاستمرار في القتال ، وعندما تركنا ديننا ، ورثنا عنهم تلك المعنويات المنهارة  فأصابنا ما نرى ونسمع ، من الهزيمة النفسية والذل والهوان وهيمنة الأعداء .

أما ثاني تلك القوى فهي الطاعة - إن المسلم لا يبالي في سبيلها ، أن يقع ذلك من نفسه موقع الارتياح أو الشدَّة ، فحسبه أنه آمن بالله رباً وبرسوله نبياً وقائداً ، ، وعاهد الله في إسلامه على السمع والطاعة في كل الأحوال ، لذا كان الجندي المسلم الحق ، مثلاً أعلى للطاعة التي تنبعث من النفس رغبة وإيمانا .

فهل كان خالد يصل إلى المثل الأعلى في القائد الذي يُعْزَل وهو في قلب المعركة ، فيسلِّم القيادة إلي غيره ، تم ينخرط جندياً يقاتل بنفس الروح العالية ، التي كان يقاتل بها وهو قائد ، ثم يقول قولته المشهورة : " إني إنما أحارب لرب عمر لا لعمر " ؟ وهل كان يتأتى ذلك لخالد ، لولا أن الإسلام غرس في نفسه هذه الطاعة بالصلاة والصيام من عبادات الإسلام ؟ . وهل كانت تتم تلك الأمثلة الرائعة ، في تاريخ أبي بكر وعمر وخالد وسعد وغيرهم من أبطال الإسلام ، لولا أن الصيام طبع هذه النفوس بطابع الطاعة الواعية ، حتى خضع بعضهم لبعض  ومشى بعضهم وراء بعض ؟ .

وماذا عن جيش أسامة ؟ الذي جهزه الرسول قبيل وفاته ، وجعل فيه شيوخ المهاجرين والأنصار ، كأبي بكر وعمر وعثمان وخالد تحت أمرة الفتى أسامة بن زيد ، وهو لما يبلغ العشرين من عمره ؟ .

وماذا ترون في قول أبي بكر لعمر بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم في أن يلي عليهم من هو أكبر سناً وحنكةً من أسامة ، يقول أبو بكر لعمر : يولّيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعزله أنا ؟ لا أبا لك ؟ فماذا ترون في هذه الطاعة العجيبة لرسول الله  صلى الله عليه وسلم حياً وميتاً ؟ أليس في ذلك كله أثرٌ من آثار الصيام ؟ وتربية المسلمين على خلق الطاعة لله ورسوله ؟ بلى والله ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍.

أما ثالث تلك القوى فهو النظام -إن المجتمع الإسلامي في رمضان ، يتجلى فيه النظام بأروع مظاهره ، جوعٌ واحد ، وإفطار واحد ، وصلاةٌ واحدة .. نظامٌ يستوي فيه الناس جميعا ، فيا لها من روعة ‍ وما أجلّها في أعين الباحثين عن أجدى الوسائل لتربية الأمم على الطاعة والنظام . وقد اقتضت إرادة الله ، أن يفرض الصوم على الأمة ، التي حملت أمانة إقامة الشريعة في الأرض واقتضت إرادة الله ، أن يُفْرَض الصوم على الأمة التي كان الإيمان بالله وحده ، أساس عقيدتها ومصدر منهجها ، وضمانة سلوكها .

كما اقتضت إرادة الله أن يفرض الصوم على الأمة الإسلامية ، التي ميزها بالتمرد على عبودية البشر للبشر ، وعلى سلطان الشهوة في الجسد   وسلطان الكبر والغرور في النفس .

 إنه شهر العطف والمحبة والمشاركة العلمية مع الضعفاء ، شهر القيام والاعتكاف ، شهر التوبة والغفران ، شهر الاستجابة والدعاء ، شهر الاستقامة والنصر . إنه شهر التقوى : وهي اتقاء كل ما يوصل إلى غضب الله ، ولا تتحقق إلا باجتناب كل ما نهى عنه ، وتنفيذ كل ما أمر به  ولا تتحقق في صاحب هوى لا يرجوا الله .

ليكن أول ما نستقبل ونودع به هذا الشهر ، أن تتذكر تقصيرنا ، ونتذكر المهمة الكبيرة التي كلفنا الله القيام بها ، وهي حمل الدعوة ، لإحقاق الحق ونشر دين الله ، وعقد العزم على أن نكون أخوة أحباء ، نتناسى الأحقاد ونكون في الله أخوة متحابين ، نتصف بالصفح والعفو والتوبة الخالصة والقلب المنيب ، والنفس المتواضعة . إنه يعلمنا مقومات الأخلاق الفاضلة ، وقيم الإسلام الخالدة من وفاء وصبر ، وطاعة وقوة إرادة ، وجهاد للنفس ومقاومة للذائد الحياة ، إنه يعلمنا الرحمة والتوادد .

إنه شهر الأمجاد التي سطرها المسلمون في كل زمان ، وهم يبنون الحياة الإسلامية ويرفعون قيم الجهاد  وينتصرون لإحقاق الحق ، وترسيخ العدالة والمساواة والعلم ، حتى أينعت لهم حضارة وازدهرت لهم مدنية ، فحققوا مضمون الآية الكريمة {كنتم خير أمةٍ أخرجت للناس }.

 جدير بنا في هذا الشهر أن نصحح أخطاءنا  ونربي نفوسنا على الجد ، ونطرح عنا الكسل والضعف ، ونوحد صفوفنا ، ونعاهد الله على الاستقامة والتقوى ، وحسن العمل لتحقيق مجتمع التقوى ، التي هي هدف وثمرة الصوم وغايته  والله لا يضيع أجر من أحسن عملا      

 

    رمضان شهر التقوى والإيمان

  لقد عوّض الله المسلم ، في عمره المحدود   وأيامه القصيرة في الحياة ، بمواسم الخير ، وأعطاه من شرف الزمان والمكان ، ما يستطيع أن يعوِّض أي تقصير في حياته ، إذا وفِّق لاستغلالها والعمل فيها  ، ومن تلك المواسم ، شهر رمضان ، الذي يُعِدُ القلوبَ للتقوى ،حتى تُؤدَى هذه الفريضة ، طاعة لله وإيثاراً لرضاه .  سُئل الحسن البصري ، كيف يَطْلُبُ مني الإيمان أن أُحسن إلى من أساءَ إليّ  ؟ قال الحسن لسائله أولست صنعة الله  ؟ قال السائل : نعم   قال السائل : أو ليس الذي أساء إليك وآذاك معتدياً على صنعة الله  ؟ . وحين يعتدي أحد على صنعة الصانع ، فمن يغار على صنعته ؟ قال : انه الصانع . وغيرته تكون بإصلاح الصنعة ، قال :  أفلا أحسن لمن جعل الله في جانبي . .؟   هكذا نرى أن الله حين يُصِّعدُ الإيمان في رمضان  فإنه يُكَلِّفُ المؤمن ، أمراً بالحرمان ، في وقتٍ مُعّيَنْ ، من أشياء كانت مُحلَلَةً كلَّ الوقت في غير رمضان ، والله حين يَخْرُجُ بالمؤمن ، من دائرة العادة إلى شرف العبادة ، فانه يؤكْدُ حرارة التكليف الإيمانيّ ، وما دام العبد في قمة التصميم  فان الله اصطفى رمضان ، ليكون الشهر الذي نزل فيه منهجه إلى الناس . قال تعالى : {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن }البقرة .   وما دام أنزل فيه ، فيجب أن يكون أيضاً الوقت الذي يتم فيه تصعيد الإيمان ، تصعيداً يُديمُ على المُؤمن حلاوة العبادة ، ويخرج فيه من أسر العادة   والعبادات التي أمرنا الله بها ، فيها أمورٌ للتعبد  وأمورٌ خالصةً لله تعالى ، والصوم من الأمور الخالصةِ لله تعالى .جاء في الحديث القدسي (كل عمل ابن آدم له ، إلا الصيام فانه لي وأنا أجزي به)  وكل العبادات لها جزاء عند الله ، الحسنة بعشر أمثالها ، وقد تصل إلى سبعمائة ضعف ، إلا الصيام فانه يخرج من هذه الدائرة ، لأن تقدير الجزاء فيه لله تعالى .

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( للصائم فرحتان فرحةٌ عند فطره ، وفرحةٌ عند لقاء ربه ) .  فرحةٌ عند الإفطار ، لأنه نجح في الالتزام التعبدي  الذي يَصْعَدُ به إلى درجة أعلى من الإيمان . أما المفطر بدون سبب شرّعي ، ويتظاهر بالصوم  فانه يدرك مدى الإحساس بالخسارة والهوان  ويحكم على نفسه بأنه دون سواه .  لذا فان الصوم يكون سرّاً بين الله وبين الخلق ، فيحرِّمُ الإنسان على نفسه في وقت محدود ، ما كان حلالا ، إيماناً منه في تنفيذ مشيئة الله تعالى .

 وما أحوجنا إلى وقفة محاسبه ، نراجع أحوالنا   لا سيما من أفرط وأسرف في جنب الله ، ومن قصَّرَ  في حق أهله ، أو حق من ولاه الله رعايته  ومن فرَّط في حق المسلمين . إنها فرصةٌ لنتساءل حتى متى نعود إلى الله ؟ ونسيُر على طريق الحق  ونترك ما الفته النفس من لهوٍ ومجون ؟ .

 إننا حكاماً ومحكومين ، يجب علينا أن نغتنم الفرصة في هذا الشهر ، لنصطلح مع الله ، لان البعض يحارب الله ورسوله ، جهاراً نهارا ، فأنى له أن يوفَّقْ أو يُخْتَمَ له بخير . وعلى ولاة الأمور أن يعلنوا حقيقة إسلامهم ، وليحكِّموا شريعة الله .

إننا نرى من يزعمون أنهم من الداعين إلى الإسلام  بينما هم في الحقيقة منحرفون ، وعن السنة زائفون ، وعن منهج الإسلام  وعقيدته متخلّون .

 إن  النسب والحسب لا ينفع الإنسان ، ولكن ينفعه عمله ، وتقربه إلى الله ، بالأعمال الصالحة وتطبيق منهج الله . قال تعالى:{فإذا نُفِخَ في الصور فلا أنساب بينهم ، ولا يتساءلون}المؤمنون 101.   

إن في الصيام تحرير للإرادة الإنسانية ، التي جعلها تبعاً لأْوامر الله ، لا لرغائب النفس  . وإن الأمة الإسلامية ، قد جهلت من الدنيا ، بمقدار ما جهلت من الدين ، ونسيت من عالم الشهادة  بمقدار ما نسيت من عالم الغيب ، وما صاحب ذلك من الشهوات الطائشة ، والنيات الرديئة  ومن هنا كان اتجاه الدين الإسلامي أولاً إلى النفس ، يريد تزكيتِها وتهذيبِ نوازعها ، وإعلاء غرائزها ، وكبت ما يحد من ضراوتها وقساوتها  والصوم العبادة التي يمكن أن تساهم في التدريب على ذلك

 

رمضان واستقبال المودعين

إذا عمل الإنسان عملاً ، أو زار مكاناً ، أو اجتمع إلى شخص ، واستشعر أثناء ذلك أنه لن يعود إليه مرة أخرى ، فإن هذا الشعور يضاعِفُ في نفسه شعوراً آخر ، بضرورة اغتنام تلك الفرصة التي قد لا تتكرر؛ ولهذا فإن الصحابة رضوان الله عليهم . لما استمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم  إلى موعظة ذرفت منها العيون ، ووجلت منها القلوب ، قالوا : (كأنها موعظة مودع ) أخرجه الترمذي . ومن هنا نستطيع أن ندرك السرَّ في نصيحته صلى الله عليه وسلم لأحد أصحابه عندما قال له :  ( إذا قمت في صلاتك فصلِّ صلاة مودع ) أخرجه ابن ماجة . تعالوا نتصور رجلاً مخلصاً يصلي ركعات ، يعلم أنه يودع بها الدنيا .. كيف ستكون في تمامها .. في خشوعها.. في شدَّةِ إخلاصها وصدق دعاءها ، إن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلمنا بهذا الهدي والله أعلم . كيف نتخلص من آفة تحوُّل العبادة إلى عادة ؟ ولماذا لا نستحضر روح الوداع في عبادتنا كلها .. خاصة وأننا إلى وداع في كل حال.. ؟  وخاصةً أن صلاتنا ليست مهددة وحدها بالتحول من عبادة إلى عادة ؟  إن رمضان يحل علينا ضيفاً مضيافاً ، يكرمنا إذا أكرمناه ، فتحل بحلوله البركات والخيرات ، يُقدِم علينا ، فيقدِّم هو إلينا أصنافاً من الإتحافات والنفحات .. فينعش نفوس المسلمين ويجدد نشاطهم  ويفجر طاقاتهم ، ويصلهم بأجمل ذكرياتهم ، ويدفع بهم إلى العمل الصالح  ويتسامى بنفوسهم إلى أبهج صورها وأسمى كمالاتها ، يشير إلى ذلك ما ورد في الحديث من أنه لو علم المسلمون ، ما لهم من الفضل والكرامة في رمضان ، لتمنوا أن تكون السنة كلها رمضان

إنه ضيف ، وربما يكون الواحد منا في ضيافته للمرة الأخيرة .. فلماذا لا نخرج بصيامنا من إلف العادة إلى روح العبادة ، في شهرٍ يعتبر فرصةً للخطائين ، يتطهرون فيه من ذنوبهم ، وللطائعين يرتفعون إلى أعلى الدرجات بطاعتهم ، شهرٌ تكثر فيه الخيرات ، وتزداد الطاعات ، إنه شهر صومٍ وصلاةٍ وعبادة ، وذكرٍ ودعاء ، وأملٍ في الله في أن يُعْطي المحروم ، ويتوب على العاصي  ويملأ حياتنا بالخير والبركة ، يستيقظ فيه النائمون  ويتنبه الغافلون ، ويعودُ الآبقون 

شهرٌ نصومه وهم أكثرنا ، أن يبريء الذمة ويؤدي الفريضة ، فلم لا يكن صومنا إيماناً واحتسابا ، ليغفر الله لنا ذنوبنا وهي كثيرة . شهرٌ يحرص الكثيرون فيه على ختم القرآن مراتٍ عديدة ، فلم لا يكون ختمه بتدبرٍ وتأمل  وتجديد العزم على إقامة حدوده ، والتزام منهجه ، قبل قراءته . نسعى فيه إلى اختيار الصوت الأجمل في قراءة الإمام ، والحرص على الجماعة ، فلم لا يكن سعينا إلى الصلاة الأكمل .  نخصُ رمضان بالتوسعة على النفس والأهل بأطيب الأطعمة والألبسة ، فلم لا تشمل هذه التوسعة الأسر المحتاجة ؟ لعظم فضلها في هذا الشهر . لحديث انس قال : سُئلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الصدقة أفضل ؟ قال:(صدقةٌ في رمضان) رواه الترمذي ، وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إكثار النفقة والتوسعة على الفقراء ، وأخبر أن ثوابها كثواب النفقة في سبيل الله ، من حيث تكثير الأجر وتكفير الوزر روى ابن أبي الدنيا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :  (انبسطوا في النفقة في شهر رمضان ) فإن النفقة فيه كالنفقة في سبيل الله )   لقد جعل الله لبغض الأزمنة حرمةً ، كما جعل لبعض الأماكن حرمةً ، وكما ينبغي ألا تهتك حرمةٌ المكان ، فكذلك حرمةُ الزمان ، ولرمضان حرمةٌ ، ولأيامه منزلة ، وللياليه قدسيةٌ ، فمن أخلَّ بتلك الحرمة ، والمنزلة القدسية ، في الزمان المحرم كرمضان ، كان كمن أخلَّ بها في المكان المحرَّم كالمسجد الحرام ، قال عليه السلام :  (رمضان شهر الله الحرام ) أخرجه مسلم . فلرمضان حرّمةً في ليله ونهاره  ولكنَّ  كثيراً من الغافلين المحرومين ، يصومون عن المباح في نهاره  ويسهرون على الحرام في لياليه . وأبرز الأمثلة على ذلك الحرمان ، من يُضيِّعون صلاة القيام في هذا الشهر المبارك  حتى لا تضيع عليهم الحلقات ، والمسلسلات التلفزيونية  كغيرهم من الغافلين والغافلات ، فلا يكتفون بفقدان الثواب ، بل يفقدون معه المروءة يلتهون عن التشمر للشهر ، بالتسمر أمام ما يبث من أنواع الخلاعة والعهر ، التي يُخَصُّ بها هذا الشهر الكريم ، وكأن الشياطين تنتهي من حشد تلك المسلسلات قبل أن تسلسل في رمضان  فتنصرف إلى محابسها ، تاركةً لشركائها من شياطين الإنس ، أن يُضَيِّعوا على الناس فضيلة هذا الشهر ، والثواب الذي أعده الله لمن صامه وقامه ، ومن حرم فضيلة هذا الشهر ، فقد حرم الخير والأجر ، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم:(لا يُحْرَمُ خيرها إلا محروم) رواه ابن ماجة .

 

 

 

ثمرة الصيام

كما فضل الله بعض البشر على بعض وبعض الأماكن على بعض فضّل بعض الزمان على بعض، وقد فضل الله شهر رمضان وجعله موسماً من مواسم الآخرة ، يتنافس فيه بعبادة الله المتنافسون  ويتسابق فيه لتحصيل الفوز عند الله المتسابقون، يتقربون فيه إلى ربهم بصيام النهار  وقيام الليل ، وتلاوة القرآن ، ويتقربون إلى الله بالطاعات ، والبعد عن المعاصي والمخالفات ، فيه يختبر الصائم نفسه ، هل اكتسب من صومه تقوى ربه .  

في الصيام إعداد القلوب للتقوى ومراقبة الله وخشيته ، فالصوم يوقظ القلوب، بل من أعظم ثمار الصيام، تربية القلوب على مراقبة الله وتعويدها على الخوف والحياء منه ، يقول القسطلاني : معدداً ثمرات الصوم "ومنها رقة القلب وغزارة الدمع، وذلك من أسباب السعادة  فإن الشبع يذهب نور العرفان، ويقضى بالقسوة والحرمان" ، أما علاقة الشرب والأكل بالتقوى؟ فالأكل والشرب للبطن ، والتقوى مكانها القلب ، وقد دلت الأبحاث على أن كثرة الطعام والشراب لها أثر كبير على فساد القلب وغفلته  وكما يقال : البطنة تذهب الفطنة ، والشبع يقسي القلب ويعميه، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( ما ملأ أبن آدم وعاء شراً من بطنه ) كما في الترمذي وحسنه، وقال عمرو بن قيس: "إياكم والبطنة فإنها تقسي القلب"  وقال الحارث بن كلدة؛ وهو الطبيب العربي المشهور: "الحمية رأس الدواء والبطنة رأس الداء"، وقال سفيان الثوري: "إن أردت أن يصح جسمك ويقل نومك فأقلل من الأكل".. ولذلك فان تقليل الطعام والشراب ومباشرة النساء ينور القلب ويوجب رقته، ويزيل قسوته، فالصيام فيه كسب للنفس وتحلية القلب للذكر والفكر.

والصيام يضيق مجارى الدم التي هي مجارى الشيطان من ابن آدم  فإن الشيطان يجرى من ابن آدم مجرى الدم في العروق ، فتسكن بالصيام وساوس الشيطان، وتنكسر ثورة الشهوة والغضب.

واسمع لأهل التجارب والخبرات ممن عاشوا في عالم الروحانيات    فقد روى عن ذي النون المصري ، وهو العبد الصالح أنه قال: "تجوّع بالنهار وقم بالأسحار، ترى عجبا من الملك الجبار"، وقال يحي بن معاذ: "من شبع من الطعام عجز عن القيام " .

والإمساك عن الطعام والشراب في رمضان ليس هدفاً في ذاته، بل هو وسيلة لرقة القلب وانكساره وخشيته لله، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : ( من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجه في أن يدع طعامه وشرابه ) البخاري، وقال : ( ليس الصيام من الطعام والشراب إنما الصيام من اللغو والرفث ) رواه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم .

هذه هي حقيقة الصيام ؛ فإذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك ، فلا غش ولا كذب ولا غيبته ولا نميمة ولا سب ولا لعان ، وجماع ذلك خوف القلب من الله ومراقبته، وإلا دخلت في قول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( ربَّ صائم حظه من صيامه الجوع والعطش ورب قائم حظه من قيامه السهر ) أخرجه النسائي وابن ماجة وابن خزيمة وابن حبان وقال الحاكم صحيح على شرط البخاري . وصدق من قال:

إذا لم يكن في السمع منى تصامم       وفى العين غض وفي منطقي صمتُ

فحظي إذا من صومي الجوع والظمأ  فإن قلت إني صمت يومي فما صمت ُ

أف لنفوس لم يهذبها الجوع ، ولم يربها السجود والركوع، ولم يدربها الصيام ويعودها على الصبر وترك الشهوات.

قال ابن رجب : "كل قيام لا ينهى عن الفحشاء والمنكر، لا يزيد صاحبه إلا بعداً، وكل صيام لا يصان عن قول الزور والعمل به، لا يورث صاحبه إلا مقتاً ورداً، يا قوم أين آثار الصيام!! أين أنوار القيام!! أين شواهد الأحزان!! أجفانك للدموع أم أجفاني، لا تقبل دعوى بلا برهان"  فليس الصيام في الإسلام لتعذيب النفوس، بل هو لتربيتها وتزكيتها ولينها ورقتها، فالقرآن يعلمنا أن الصوم إنما فرض لنذوق طعم الإيمان ، ونشعر براحة القلب وسعادة النفس ولذة الحياة ، وكل ذلك في مراقبة الله والخوف منه، فتقوى الله أعظم كنز يملكه العبد في الدنيا، وليس أشقى والله على وجه الأرض ، ممن يحرمون طمأنينة الأنس بتقوى الله ، التي هي ثمرة الصيام ، لأن الصوم أمر موكول إلى نفس الصائم ، لا رقيب عليه إلا الله  فهو سر بين العبد وربه، ولولا استشعاره لرقابة الله وانه يراه ، لما صبر عن الشهوات ، وصدق بشر بن الحارث بقوله: "ولا تجد حلاوة العبادة   حتى تجعل بينك وبين الشهوات سداً"، هذا السد هو خوف الله ومراقبته في السر والعلن .  

وقد بين الله سبحانه أن القرآن لا ينتفع به ويهتدي بهداه إلا المتقون، والصيام من أهم العبادات التي تكسب المؤمن تقوى الله كما قال تعالى: ﴿ يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ﴾ البقرة 183 .

 

 

 

 

 

 

                                                             الصوم والتعويد على الصبر والطاعة والنظام 

إن من أهم ما ينطوي عليه الصوم ، من تربية اجتماعية في نفوس الصائمين ، إنه يثبِّتُ فيها الإيمان بالحق ، والثبات عليه ، والدعوة إليه والتخلق به .

 ومن أهم أهدافه تذكِّرِ العبودية لله ، ومن الباطل أن ينسى الإنسان عبوديته ، وسلطان الله عليه  وما يتأله المتألهون من البشر ، ولا يطغى الطغاة  ولا يظلم الظالمون ، إلا حين ينسون عبوديتهم لله  فيستبيحون تعذيب الأبرياء ، وسفك الدماء  والتكبر في الأرض ، والإفساد فيها ، واستعباد الأمة وإذلالها .

وفي الصوم تذكير للرؤساء ، والأقوياء والأغنياء  وكُلِّ ذي سلطان ، أنهم كالفقراء ، في حاجة إلى رزق الله وطعامه وشرابه .انه حق على الإنسان إن يَذْكُرَ صلته بأمته ، وأن يعيش معها بقلبه وروحه يفرح لفرحها ، ويأسى لأساها ، وما يتحكّمُ الطاغيةُ في رقاب أمته ، إلا حين ينسى هذه الحقيقة فيزعم أن له من القوة ، ما يتحتم على الناس أن يعترفوا أمامه بالعجز ، ويسيروا وراءه في الرأي ، فان قال أحدهم لا ، قالت للطاغية نفسه ، أُقتل واسجن ، بلا شفقة ولا رحمه .

إن الصوم عبادة مستورة ، وهو سرّ بين الإنسان وربه ، لا رياء ولا خداع ، وأن يلتزم الصدق والوفاء ، ويجتنب الكذب والغش ، والسرقة والغيبة والإيذاء ، والعدوان على الناس ، في أعراضهم وأموالهم .وقد ورد نهي الصائم ، عن مقابلة الإساءة بالإساءة ، وأن يرد على البذاءة بالبذاءة ، وقد ورد في الحديث قوله عليه السلام : ( فان شاتمه أحدٌ أو خاصمه فليقل إني صائم)   .

 هذا بعض ما  يُثبِتُهُ الصوم في النفوس ، من معاني الحق ، مما يدعو للتساؤل أين مكان هذا الحق في المجتمع الذي نعيش فيه ؟ وهل من الحق أن يُحْكَمَ الناسُ في كثيرٍ من بلاد المسلمين بالحديد والنار؟ ويعيشوا بالبؤس والشقاء ؟ بينما يستأثرُ بالثروات نفر من الأغنياء ، وهل من الحق أن تكون السياسة كذباً وخداعاً وتضليلا ؟ وهل من الحق قيادة الناس إلى منحدر الفساد والانحلال ؟ أم من الحق أن يكون الدين تجارة ، والحكم أداة للإذلال والاستغلال ، عند السفاحين والجهلاء ؟

إنه ليس من الحق أن يقف المسلمون ، إزاء هذا وذاك ، موقف المتفرج ، وليس من الحق أن يسكت المسلمون ، على منع الفكر الإسلامي أن ينتشر ، ومنع منهج الله من أن يطبق ، لتسعد الأمة في ظلاله وحتى يضع الإسلام المسلمين   أمام حقيقة ناصعة ، ويواجههم بواقعٍ ، قامت دعائمه على الحق ، جاء القرآن بالقول الفصل في ذلك ، فقال تعالى : { لا إكراه في الدين ، قد تبين الرشد من الغي ، فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله ، فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميعٌ عليم}البقرة 256   إن الصيام يغرس في النفس  الأخلاق الرئيسية  كالصبر والطاعة والنظام ، واتباع المنهج الرباني . إن مجتمعاً تسوده هذه الأخلاق ، ويخضع لهذا النظام ، لا يتطرق الفساد إلى صفوفه أبدا .  

 

رمضان شهر التزود بالتقوى

رمضان شهر دواء النفوس والأرواح ، شهر تربية الضمائر والتزود بالتقوى ، التي أخبر الله بأنها خير زاد فقال تعالى :﴿ وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ﴾البقرة 117 ، شهر نور وضياء وبركة ، شهر أمن وإيمان  ومغفرة ورضوان ، شهر هداية ورشاد وانفاق وعطاء وبرٍّ وإحسان ، شهر طاعةٍ وعبادة وصلوات وتسبيح ، شهر قيام وصيام واستغفار ودعاء ورجاء ، شهر تراحم وتعاطف ، وتزاور وتآلف ، شهر الصبر والجهاد ، وقراءة القرآن والتوبة والغفران ، إنه ربيع المؤمنين ، ومرتع الصالحين ، فمرحباً برمضان ضيفاً كريماً على المسلمين ، إنه أكرم الشهور ، لأنه نزل فيه القرآن قال تعالى :﴿ شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدىً للناس وبيناتٍ من الهدى والفرقان ﴾ البقرة 185 ، ألا ليت المسلمين يستقبلونه كما يجب ، أو يعاملونه كما ينبغي ، ليتهم يعلمون أن الله يتجلى فيه على عباده بفضله وكرمه فيعملوا الصالحات ويتوبوا عن المنكرات . إنه شهر تبنى فيه الضمائر ، وتربى فيه العزائم .  ألا ليت المسلمين ، يرجعون فيه عن غيهم وضلالهم ، ويبتعدون عن كل منكر وقبيح ، وليت العصاة فيه يطرقون باب التوبة والإنابة  ويسألون الله الصفح والغفران  ويتحببون إليه بالطاعة والعبادة ، ويتوددون إليه بكل برٍّ وإحسان ، ويتفانون في طلب رحمته ورضاه  ليتهم يُحيون فيه ما مات من كتاب الله وسنة نبيه  ويتذكرون ما نسوه من دينه وشريعته .

 ها نحن بانتظار شهر رمضان ، شهر البركات وتكفير السيئات ، الشقي من حُرم فيه رحمة الله  عن سلمان الفارسي قال " خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر يوم من شعبان ، وأول يوم من رمضان فقال: ( أيها الناس قد أظلكم شهر عظيم مبارك ، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر جعل الله صيام نهاره فريضة ، وقيام ليله تطوعاً من تقرَّب فيه بخصلةٍ من الخير ، كان كمن أدى فريضة في غيره ، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه ، وهو شهر الصبر والصبر ثوابه الجنة ، و شهر المواساة  وشهر يزاد في رزق المؤمن فيه ، من فطر فيه صائماً كان ذلك كفارة لذنوبه ، وعتقاً لرقبته من النار ، وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيئا ، فقالوا يا رسول الله ؟ ليس كلنا يجد ما يفطر به الصائم ، فقال عليه السلام يعطي الله هذا الأجر ، من فطر صائماً على تمرة أو شربة ماء أو مزقة لبن ، وهو شهر أوله رحمة وأوسطه مغفرة ، وآخره عتق من النار ، من خفف عن مملوكه فيه ، كان كفارة لذنوبه  فاستكثروا فيه من أربع خصال : خصلتين ترضون بهما ربكم ، وخصلتين لا غناء بكم عنهما : فأما الخصلتان اللتان ترضون بهما ربكم  فشهادة أن لا إله إلا الله وتستغفرونه ، وأما الخصلتان اللتان لا غناء بكم عنهما فتسألون الله الجنة ، وتستعيذون من النار ، ومن سقى فيه صائماً شربة ماء ، سقاه الله من حوضي شربة لا يظمأ بعدها حتى يدخل الجنة" رواه ابن خزيمة في صحيحه .

 ها هو رمضان يهل علينا بأجوائه العبقة بالإيمان  ففيه عبادة نحن في مسيس الحاجة إليها لتستريح فيها ضمائرنا ، ولتطمئن نفوسنا ولنقبل على تلاوة القرآن ، ونعطي التلاوة حقها ، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من تلاوة القرآن في رمضان قال تعالى: ﴿ الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوة أولئك يؤمنون به ﴾ البقرة 121 . فكأن من لم يعط القرآن حقه في الأداء ، لا يتمكن الإيمان وحلاوة القرآن من قلبه ، ويؤكد النبي صلى الله عليه وسلم  ، حقيقة إعطاء القرآن حقه في الأداء بقوله : (لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث)  رواه أبو داود . أما كيف نعيش مع القرآن ونعطه حقه ليعطينا حلاوته ؟ فذلك يكون بمراعاة أمورٍ منها  التعرف على معانيه وما يريده الله من عباده . قال تعالى : ﴿ أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ﴾ محمد24 وعلينا أن نقبل في شهر رمضان على الاستماع إلى المواعظ ، لأن النفوس إذا ما أصابتها القسوة والغفلة ، وابتعدت القلوب عن الله ، وتعلقت بالدنيا وما فيها ، واقترفت الذنوب والمعاصي  فإنها بحاجة إلى التذكير والوعظ ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يهتم بالموعظة ، وكان كثيراً ما يذكِّرُ أصحابه ويرقق قلوبهم .عن العرباض بن سارية قال :" وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة ذرفت منها العيون ، ووجلت منها القلوب فقلنا يا رسول الله كأنها موعظة مودِّع  فأوصنا " رواه أبو داود والترمذي .  وقد أخبر الله تعالى عن عباده المتقين أنهم بحاجة إلى تعاهد النفوس ، ورعايتها فقال : ﴿ والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ، ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يُصرُّوا على ما فعلوا وهم يعلمون ﴾ آل عمران 135 .  إذا كانت هكذا نفوس المتقين الذين بلغوا المنازل الرفيعة ، فكيف بمن هم دون ذلك بكثير ؟ كيف بنا اليوم ونحن نعيش عالماً مليئاً بالفساد والمنكرات ؟ ناهيك عن الاستغراق في فصول المباحات والوقوع في المشتبهات .

وإذا كان الرعيل الأول يتعاهدهم النبي صلى الله عليه وسلم بالوعظ والتذكير ويتخولهم بها ، فكيف بجيلنا نحن؟. عن أبي جعفر بن علي قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استهلَّ شهر رمضان استقبله بوجهه ثم يقول : اللهمَّ أهلَّه علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام ، والعافية المجللة ، ودفاع الأسقام ، والعون على الصلاة والصيام وتلاوة القرآن ، اللم سلِّمنا لرمضان وسلِّمه لنا  وتسلَّمْه منا ، حتى يخرج رمضانُ وقد غفرت لنا ورحِمْتَنا وعفوت عنا ) .                          

 

 

الاستمرار على الطاعة بعد رمضان

كان شهر رمضان ميداناً يتنافس فيه المتنافسون ويتسابق فيه المتسابقون، ويحسن فيه المحسنون، خسر من أدركه ولم يظفر من مغانمه بشيء ؛ خسر من حجبه الإهمال والكسل والتسويف وطول الأمل قال صلى الله عليه وسلم :( رغم أنف إمرءٍ دخل عليه رمضان وخرج ولم يغفر له ) فقد خسروا من عملوا الطاعات وتزودوا من الخيرات في رمضان ، حتى إذا انتهى  نقضوا ما أبرموا ، وعلي أعقابهم نكصوا ، واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير  ، فكانوا كالتي نقضت غزلها قال تعالى : ﴿ ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوةٍ أنكاثا ﴾ النحل92 . فقد شبه الله الذي يفعل الخير في رمضان ، ثم يعود إلى ما كان  عليه ، من الانحراف والفجور والعصيان بعد  رمضان ، بالمرأة التي كانت تزاول صناعة الصوف   فتعالجه حتى يصير خيطاً مستقيماً ، ثم تهجم عليه فتعيده صوفاً كما كان تُمضي يومها بدون نتيجة ، فبقاء المسلم ودوامه على العمل الصالح بعد رمضان علامة قبول له عند الله  وإن تركه للعمل الصالح بعد رمضان وسلوكه مسالك الشيطان دليل على الذلة والهوان ، والخسّة والدناءة والخذلان ، وكما قال الحسن البصري :" هانوا عليه فعصوه ولو عزوا عليه لعصمهم "  وإذا هان العبد على الله لم يكرمه أحد قال تعالى : ﴿ ومن يهن الله فما له من مكرم ﴾ الحج 18  ، ثم إن العلماء قالوا : من علامات القبول أن الله يتبع الحسنة بعدها بالحسنة ، فالحسنة تقول أختي أختي  والسيئة تقول أختي أختي والعياذ بالله ، فإذا قبل الله من العبد رمضان واستفاد من هذه المدرسة واستقام على طاعة الله عز وجل ، فإنه يكون في ركاب الذي استقاموا واستجابوا لله قال تعالى : ﴿ إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ﴾ الأحقاف 13. ثم ما الفائدة إذن من عبادة شهر كامل إن أتبعتها بعودة إلى السلوك الشائن ؟علماً بأن أحب الأعمال إلى الله ما دووم عليه وإن قل ، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( أيها الناس عليكم من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا ، وإن أحب الأعمال إلى الله ما دووم عليه وإن قل ) وكان آل محمد صلى الله عليه وسلم إذا عملوا عملاً ثبتوه أي داوموا عليه ، رواه مسلم . ولما سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أحب إلى الله قـال : ( أدومه وإن قل) .

كما ينبغي للمؤمن أن يعيش بين الرجاء والخوف قال: الحافظ بن رجب: لقد كان السلف يجتهدون في إتمام العمل وإكماله وإتقانه، ثم يجتهدون بعد ذلك في الدعاء بقبوله ويخافون من رده وإبطاله، قال علي رضي الله عنه: " كونوا لقبول العمل أشد اهتماماً منكم للعمل الم تسمعوا اللّه عز وجل يقول: ﴿ إنما يتقبل اللّه من المتقين ﴾ . فهل تحققت التقوى بصيامنا ؟ ، هنيئاًً لمن تحققت التقوى عنده  لأنه يكون من أكرم العباد عند الله ، قال تعالى: ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ الحجرات 13 ، كما يكون ممن عناهم الله بقوله : ﴿ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لهُ مَخْرَجاً ﴾ الطلاق2، يقول ابن عباس : " والله لو انطبقت السموات والأرضين لجعل الله للمتقين فتحات للنجاة ".

فكن يا أخي المسلم كما عهدك ربك ، في شهر رمضان ، تائباً من ذنبك ، راغباً في رحمة الله وثوابه ،خائفاً من نقمته وعذابه . وكن محافظاً على أداء الصلوات في أوقاتها ، حريصاً على فضيلة القيام والجماعة ، مقبلاً على مجالس العلم  مستعداً لقبول النصائح والعظات ، ولا تكن ممن يُقْبِلونَ في رمضانَ على الطاعةِ والبرِ  فإذا انسلخَ رمضانُ انسلخوا مِنْ كُلِ شيءٍ ، فبئسَ القومُ الذينَ لا يعرفونَ اللهَ إلا في رمضانَ  ، أينَ الذين تكاثروا في المساجدَ في رمضانَ  وازدحموا في ليلةِ سبعٍ وعشرينَ وختمِ القرآن ، هل زاغتْ عنهم الأبصارُ أم حلتْ بِهم قارعةٌ في الديار  إنها المأساةٌ الكُبرى والخسارةٌ العظمى أنْ يبنيَ الإنسانُ ثم يهدم ، وأَنْ يستبدلَ الذي هو أدنى بالذي هو خيرٌ ، فهل يليق بالمسلم أن يترك الصلاة ، وفضائل الأعمال بعد رمضان ، ليعود إلى المخالفة والعصيان ،  شأن من صام رمضان   صياماً صحيحاً ، وحافظ فيه على القيام   وأخلص فيه النية  وطّهر قلبه   وهذّب نفسه   وأنفق ماله في وجوه الخير والصدقة ، حتى إذا انتهى شهر رمضان  انقلب على  عقبيه ، وعاد إلى شهواته  وترك الصلاة ، وهجر المساجد  وترك الجمع والجماعات .

ومن الناس من لا ينتهي  رمضان ، حتى تقوم فيهم دولةُ البطون والفروج ، وتعاودهم لذةُ الطمع والجشع ، ويسارعون إلى كل منكر وقبيح  يقطعون الأرحام  ويبعدون عن كل واجب  وينامون عن كل جميل ومعروف

 كأنما رمضان وحده ، هو شهر المحاسبة والمراقبة  والطهارة والنزاهة ، والخوف من الله ، والتقرب إليه ، والسعي في طلب رحمته ومغفرته  والمسارعة إلى جنته ورضاه  وكأنه وحده سجن الرذائل  ومخبأ الشهوات ، ومعقل الشياطين  حتى إذا انتهى تحكمت الرذائل ، وسيطرت الشهوات  وتولى قيادة الناس الشيطانُ الرجيم ، وما علموا أن الاستجابة لله في رمضان ، تفرض عليهم أن يستجيبوا له في سائر الأيام ، فقد جاءت النصوص الشرعية تأمر بعبادة الله والاستقامة على شرعه في كل زمان ومكان، وفي كل وقت وآن، يقول الحسن البصري رحمه الله:" لا يكون لعمل المؤمن أجل دون الموت، وقرأ قوله سبحانه:﴿  وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾ الحجر99.  علينا وإن ودعنا رمضان ، أن لا نودع صالح الأعمال بعد رمضان، فلا ينبغي أن نجعل للطاعة وقتاً وللمعصية أوقاتاً ، فالإله الذي يُصام له ويُعبد في رمضان، هو الإله في جميع الأوقات والأزمان ، وإن من كفر النعمة وأمارات رد العمل: العودة إلى المعاصي بعد الطاعة   يقول كعب : " من صام رمضان وهو يحدث نفسه أنه إذا خرج رمضان عصى ربه؛ فصيامه عليه مردود  وباب التوفيق في وجهه مسدود " .

ما هكذا يريد اللهُ لعباده ، إنه يريدهم  عباداً صالحين ، منفقين متصدقين ، وأن يكونوا إخواناً متراحمين ، يقهرون نفوسهم ويحاربون أهواءهم . لأن المسلم الحق يظل في جدٍ واجتهاد ، وطاعةٍ وانقياد ، حتى يلقى الله سبحانه .

ها هو رمضان قد انتهى ، ونرجوا الله أن يكون كلٌّ منا قد أدى رسالته ، وحقق واجبه ، فلعله علَّم قاطع الرحم ، كيف يصل رحمه ،  والعاق لوالديه ، كيف يكون باراً بهم ، والمسيء لجاره كيف يكون محسناً إليه , والمذنب كيف يكون تائباً , لعلّ رمضان ، علَّم الناس فعل الخير واصطناع المعروف ، والصبر والتضحية وصدق العزيمة ، والصدق والأمانة ، والوفاء والإخلاص ، هذه بعض الآثار الحسنه ، التي يتركها رمضان في النفوس . فقد كان سلفنا الصالح ، يتألمون لفراق رمضان ، حتى أنهم كانوا يودعونه بالبكاء ولسانُ حاله

رمضان ولىّ فابك يا متعبد        شهر به حزب الهداية يسعـد                     صحّتْ به الأجسام من أسقامها   وابيّض فيه من القلوب الأسود

كانوا يحرصون على ما فازوا به من معرفة , وما نالوا من أجرٍ وجزاء , وما سُجِّلَ لهم فيه من حسنات في سجل الباقيات الصالحات .

ولكن للأسف ، من الناس من لا يعرف الله  ولا يعبده إلا في رمضان ، حتى إذا ما انقضت أيامه عاد إلى أحضان الذنوب والآثام ، وما علموا أن صاحب الفضل في رمضان ، هو صاحب الفضل عليه في سائر الأيام , التي على الإنسان ، أن يُقْلِعَ فيها عن الذنوب والمعاصي , والرذائل والنقائص  والقبائح والعيوب , حتى يلقى الله كما يجب عليه أن يكون . فيتمسك  بالفرائض والسنن   ويتحلى بالمحامد والمحاسن , ويتجمل بكل مكارم الأخلاق . وإذا كان هذا حال الإنسان ، فإن أيامه كلها رمضان .

إذا ما المرء صام عن الخطايا     فكل شهوره شهر الصيام

ها هي الأمة تودّع رمضان، لكنها لم تودِّع مآسيها الدامية وآلامها المبرحة، وها هي تمر اليوم بمحن عظيمة، وجراح عميقة، ترى جراحها في  أغلب البلاد الإسلامية  ، حروبٌ صليبية شرسة لتنحية الإسلام، وتجفيف منابعه من أعداء الإسلام، متجاوزين كل الحدود والأعراف قتلٌ وتشريدٌ وهدم واغتصاب : ﴿ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ﴾ البروج 8 . 

 

 

 

 الاعتكاف

حكمه : سنة حسنة لما روى البخاري ومسلم عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ( يعتكف العشر الأواخر من رمضان ) . وفي حديث عائشة ( لم يزل يعتكف حتى مات ) . وأجمع العلماء على أنه سنة   ولا يجب إلا بالنذر  ويستحب الإكثار منه ، ويتأكد استحبابه في العشر الأواخر من رمضان ، ولا يصح إلا بنية  ولا يجوز للمعتكف أن يخرج من المسجد .  

ولا يجوز للمرأة أن تعتكف بغير إذن زوجها   لأن استمتاعها ملك للزوج ، فلا يجوز إبطاله عليه بغير إذنه  

ولا يصح الاعتكاف من الرجل إلا في المسجد أما المرأة فقد أجاز أبو حنيفة اعتكافها في البيت .

والأفضل أن يعتكف بصوم . ويجوز الاعتكاف في جميع الأوقات ، والأفضل في العشر الأواخر من رمضان .

أما أقل الاعتكاف ففيه أربعة أوجه أصحها والذي قطع به الجمهور ، أنه يشترط اللبث في المسجد ، وأنه يجوز الكثير منه والقليل ، حتى ساعة أو لحظة ، ومنهم من قال لا يصح إلا يوماً أو ما يدنو من يوم وهو الأفضل  أما لو نذر اعتكاف ساعة لزمه وصح نذره والصحيح المشهور عند الشافعية أنه يصح كثيره وقليله ولو لحظة .     

 

في رمضان انتصر المسلمون في بدر

لقد ارتبط شهر رمضان بالجهاد ، فكما أن رمضان يعد النفس على الصبر والتحمل ، فإن الجهاد هو إعداد للنفس، وإعداد للجسد، بل إعداد للأمة كلها ، والتاريخ الإسلامي يؤكد هذا الارتباط ، لأن أكثر المعارك التي انتصر فيها المسلمون ، والتي غيرت مجرى التاريخ ، كانت في رمضان ، وغزوة بدر أول غزوة في هذا الشهر   فكانت رسمًا لسياسة الأمة وتخطيطًا لمستقبلها       قال تعالى : ﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ ﴾آل عمران 123. فبعد بدر أصبحت للمسلمين دولة معترف بها، وأصبحت لهم مكانة وقوة ، فقد غيَّرت مجرى التاريخ؛ لذلك سماها ربنا عز وجل يوم الفرقان، وربطها بشهر رمضان ، في بدر عرف المسلمون أن النصر من عند الله ، وليس بالعدد ولا العدة قال تعالى: ﴿ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ الأنفال10.  وإلا كيف يمكن للعدد القليل في كل المقاييس المادية أن يغلب العدد الكبير في بدر ؟! ليس له إلا تفسير واحد، ألا وهو أن الله عز وجل هو الذي نصر المؤمنين، نصر الضعفاء القلَّة الأذلة؛ كما ذكرت الآية ، انتصروا بأسلحة غير تقليدية  انتصروا بالمطر والنعاس، وبالرعب في قلوب الكافرين،انتصروا بالملائكة التي حاربت مع المؤمنين في بدر : ﴿ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ﴾ الأنفال10 ﴿ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى ﴾الأنفال17. 

فشهر رمضان شهر إعزاز الإسلام، وتمكين الدين ونصر المؤمنين، ولا يجوز للمسلمين أن يتجاهلوا هذه المعاني، ويظنون أنه شهر الأعمال الفنية الجديدة، والفوازير ، والدورات الرياضية والخيم الرمضانية، لأن ما يهم المسلمين في هذا الشهر   هو الإقتداء بتلك النماذج الفذة التي طابت نفوسهم بما كانوا يلقونه في سبيل الله أملاً في مغفرته ، وطمعاً في نصره ، وكيف كانوا في تضحياتهم وثباتهم واستبسالهم وتمسكهم بعقيدتهم إذ كانوا المثل الصادق الذي أثار إعجاب كل من قرأ سيرتهم ، والتي تعتبر من الدروس الشيقة التي تنير لنا سبيل السعادة والهداية .   ففي بدر ، التقى الظلام بالنور ، والكفر بالإيمان  والباطل بالحق ، لا بل التقت الجاهلية بالإسلام  فجاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا . فقد كانت بدر من المعارك الحاسمة في تاريخ الإسلام ، حيث انتصرت العقيدة السليمة ، على العقيدة الفاسدة  بل إن العقيدة وحدها ، كانت هي السلاح الأول والأخير للمنتصرين ، فقد كان المشركون أكثر عدداً وعدَّة ، مما يدل على أنه كان انتصار عقيدة  لا مراء في ذلك .  فكيف كان انتصار المسلمين ؟ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مثالاً في التضحية والفداء لأصحابه ، كان المسلمون يوم بدر كل ثلاثة على بعير ، فإذا جاء دور الرسول صلى الله عليه وسلم قال له صاحباه : "اركب حتى نمشي عنك " فيقول :  (ما أنتما بأقوى على المشي مني ، وما أنا بأغنى عن الأجر منكما ) . كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضرب بنفسه لأصحابه في الشجاعة والإقدام أروع الأمثال . قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه  : " لما كان يوم بدر وحضر البأس ، اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم وكان من أشدِّ الناس بأسا ، وما كان أحد أقرب إلى المشركين منه " 

وقد كره أن يكون أول النـزال من الأنصار  وأحب أن تكون الشوكة ببني عمه وقومه فقال عليه السلام : ( يا بني هاشم قوموا قاتلوا بحقكم الذي بعث الله به نبيكم ، إذ جاؤوكم بباطلهم ليطفئوا نور الله ) . لم يستأثر بالدعة والأمن ، ولم يتفاخر بنسبه ومنـزلته ، بل قاتل أمام المقاتلين من أصحابه   ولم يؤثر ذوي قرباه بالراحة والاطمئنان ، بل آثرهم بالنـزال والطعان ، فلما انتصر المسلمون كان نصيبه نصيب أحدهم من الغنائم . لقد كان أسوة حسنة لأصحابه بأعماله لا بأقواله ، وشتان بين الأعمال والأقوال ، فلا موعظة في كلام ،لم يمتلئ من نفس صاحبه ، ليكون عملا ولا يبقى كلاما , ذلك هو الرسول صلى الله عليه وسلم ، أما جنوده فكان أمرهم كله عجبا . في الطريق إلى بدر هتف متكلم المهاجرين : " والذي بعثك بالحق ، لو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك حتى تنتهي إليه " ، وهتف متكلم الأنصار : " فا مض يا نبي الله لما أردت ، فوالذي بعثك بالحق ، لو استعرضت هذا البحر فخضته لخضناه معك ، ما بقي منا رجل واحد " .

في هذه المعركة التقى الآباء بالأبناء ، والأخوة بالأخوة ، خالفت بينهم المبادئ ، ففصلت بينهم السيوف ، فهذا أبو بكر يلتقي بابنه  وكان ما يزال مع الكفار ، يقول أبن أبي بكر : " يا أبي رأيتك في المعركة ، فلويت وجهي عنك " فيقول أبو بكر : " والله لو رأيتك لقتلتك " لماذا ؟ لأن أمام أبي بكر عقيدة حق ، أعز عليه من ابنه .

إن ما حدث في معركة بدر ، رد على دعاة القومية ، الذين يزعمون زوراً وكذباً ، أن رابطة الدم واللغة ، أقوى من رابطة العقيدة والدين . فقد كان أول وقود اشتعلت به معركة بدر الفاصلة ، هو دم الأقربين ، الذي أسالته سيوف الأسرة الواحدة . فهل أسال حمزة وعبيده وعلي  أبناء هاشم بن عبد مناف ، دماء إخوانهم شيبه وعتبة والوليد ، أبناء عبد شمس ابن مناف .. فهل أسالوا تلك الدماء القريبة إليهم والغالية عليهم  على مذبح القومية والعنصرية ؟ أم أسالوها في سبيل العقيدة والدين ؟ إنه صراع المبادئ والعقائد   لا صراع القوميات والنعرات .

لقد رسم يوم بدر ، أروع نموذج حيٍ للثبات الصادق على العقيدة ، فقد آخى الإسلام في هذه المعركة بين الأبعدين ، وباعد الكفر بين الأشقاء والأقربين . فقد تسابق المسلمون إلى الشهادة   وكان كل واحد منهم يتمنى أن يموت قبل صاحبه  وكان كل واحد من المشركين ، يتمنى أن يموت صاحبه قبله ، وكان الشهيد يردد وهو يحتضر: "وعجلت إليك ربي لترضى " .

هكذا كان جنود رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤثرون على أنفسهم ، ولو كان بهم خصاصة ، ويؤثرون عقيدتهم على آبائهم وأبنائهم ، وإخوانهم وعشيرتهم ، بل يؤثرون عقيدتهم على أنفسهم  فيتسابقون إلى الشهادة ، فيقول أحدهم للآخر : " هنيئاً لك الشهادة " وتقول الأمهات والأخوات والزوجات حين يعلمن باستشهاد ذويهن : " الحمد لله الذي أكرمهم بالشهادة " .

لقد كانوا قادة وجنوداً ، يبنون للمستقبل  فيعتبرون العلم فريضة لا نافلة ، ويعتبرونه عبادة لا تجارة  وغاية لا وسيلة . كانوا يبنون ولا يهدمون ، ويعمِّرون ولا يخرِّبون ، ويفعلون ولا يقولون .

كان انتصار المسلمين في بدر ، إيذاناً بميلاد دولة الإسلام عملياً ، فقاد المسلمون بعدها العالم إلى الخير والصلاح ، والمدنية والنور قروناً طويلة .

كان انتصارهم بالإسلام ، ولن يكون هناك نصرٌ بغيره ، وتاريخ المسلمين خير دليل على ذلك . كانوا ضعفاء فأصبحوا بالإسلام أقوياء ، وكانوا أعداء فأصبحوا اخوة ، وكانوا مستعبدين فأصبحوا فاتحين ، ثم خلف من بعده خلف  ابتعدوا عن الدين ، فأصبحوا مستعمرين مستعبدين ، يستوردون المبادئ من الشرق والغرب مبهورين متخاذلين ، يسيرون على خطى الغرب في إشاعة الفحشاء والمنكر ، وإبعاد الدين عن الحياة ، بهدف إبعاد المسلمين عن الناحية المعنوية في حياتهم . زعم المسلمون هذه الأيام ، أنهم تحرروا من استعمار الأعداء ، لكنهم عملوا على ترسيخ فكرهم ، والعمل بقوانينهم نصاً وروحاً ، وادعوا بأنهم تخلصوا من الاستعمار  ثم استوردوا مبادئه وطبقوها كما استوردوا منه التحلل الخلقي   الذي ساهم في إفساد أبناء المسلمين .  إننا سدنا بالإسلام عقيدةً وعملاً وتضحيةً وفداء  ولن نسود بغيره أبدا ، وإن الإسلام مفخرة الدنيا ومعجزة العالم ، فيجب أن نهاجم به أعداء الإسلام ، ولا يقولنَّ قائلٌ بأن الإسلام ضعيف ولا حيلة له أمام ما نرى من قوة الأعداء ، لا يا مَنْ تقولوا ذلك ، لأن الإسلام أقوى منهم بالله ولأن الله يدافع عن الذين آمنوا . ومعركة بدر خير شاهد على ذلك ، فقد كانت قصة نصرٍ حاسم  قصةُ فرقان بين الحق والباطل ، قصةُ انتصار الحق على أعدائه المدججين بالسلاح  المزودين بكل زاد ، في مقابل قلة العدد ، وضعفٍ في الزاد والراحلة ، إنها قصة انتصار القلوب حين تتصل بالله ، بل قصة انتصار القلة المؤمنة ، التي انتصرت على نفسها ، وانتصرت على من حولها  وخاضت المعركة ، والكفة راجحة إلى جانب الباطل ، فقلبت بيقينها الميزان ، فإذا الحق راجح غالب . إن معركة بدر تقرر دستور النصر والهزيمة  وتكشف عن أسباب النصر والهزيمة ، إنها كتابٌ مفتوح تقرؤه الأجيال في كل زمان ومكان  إنها آية من آيات الله ، وسنةٌ من سننه الماضية في خلقه ، ما دامت السماوات والأرض ، كما تقرر أن العقيدة الصادقة ، هي مصدر القوة لكل أمه .            

فهل آن لنا نعتبر ونتذكر ﴿ إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد ﴾ .

 

  

 

 

صلاة التراويح

هي اسمٌ يراد به الدلالة على صلاة القيام في شهر رمضان ، وهي تخص هذا الشهر ، وتؤدى بعد الانتهاء من فريضة العشاء فوراً .  ويتحقق قيام الليل بأي عدد من الركعات . يقول ابن عباس : ( أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بصلاة الليل ورغب فيها حتى قال : عليكم بصلاة الليل ولو ركعة ) رواه الطبراني .

روى البخاري في كتاب صلاة التراويح عن عروة أن عائشة  أخبرته ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من جوف الليل ، فصلى في المسجد وصلى رجال بصلاته ، فأصبح الناس فتحدثوا   فاجتمع أكثر منهم فصلوا معه ، فأصبح الناس فتحدثوا ، فكثُر أهل المسجد من الليلة الثالثة   فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلّى  فصلّوا بصلاته ، فلما كانت الليلة الرابعة ، عجز المسجد عن أهله حتى خرج لصلاة الصبح   فلما قضى الفجر أقبل على الناس  فتشهد ثم قال : أما بعد : فإنه لم يخْفَ عليَّ مكانُكُم  ولكني خشيت أن تُفْرَض عليكم فتعجزوا عنها  فتوفي رسول الله  صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك ) .

لقد استمر الأمر على ذلك مدة خلافة أبي بكر  وصدراً من خلافة عمر ، ثم جمع عمر عليها  وجعل الناس يصلون خلف إمام واحد ، وكانوا يصلون جماعات جماعات ، فقال عمر : إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل .

وقد سئل أبو حنيفة عما فعله عمر فقال : التراويح سنة مؤكدة ، ولم يتخرجه عمر من تلقاء نفسه  ولم يأمر به إلا عن أصل لديه ، وبهذا يعلم أن الصحابة ، لما تفرقوا في أداء صلاة التراويح  جمعهم عمر في خلافته على صلاتها بالمسجد وراء الإمام ، ووافقه الصحابة على ذلك  وأدوها عشرين ركعة ، فصار ذلك مبدأ لهذه الصلاة ، ثم سار الصحابة على ذلك من بعده . وللمصلي أن يؤدي صلاة التراويح في بيته ثماني ركعات أو عشرين ركعة تبعاً لنشاطه ، ورب ثماني ركعات متقنات خاشعات ، أفضل من عشرين تؤدى في عجلة بلا خشوعٍ أو تدبر ، إذ العبرة بالكيف لا بالكم ، وخيرٌ للمسلمين أن يجعلوا للعبادة حظاً كبيراً في ليالي رمضان ، وأن يتخففوا من شواغلهم إذا أقبلوا على صلاتهم  فيعطوها حقها من الإتقان في الركوع والسجود والقراءة ، والخشوع في الصلاة لبها وروحها وبه تصفو أرواح المصلين قال تعالى : ﴿ قد أفلح المؤمنون . الذين هم في صلاتهم خاشعون ﴾ المؤمنون 1 .

 

 

 

 

 

 

ليلة القدر

يختلف الناس في تصوراتهم لاستقبال ليلة القدر  فمنهم من يستقبلها بقيام ليلها بعد أن صام نهارها   امتثالاً لأمر الله والتماساً لثوابه ، قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم: ( من قام ليلة القدر ، إيماناً واحتساباً  غفر له ما تقدم من ذنبه ) . واقل القيام كما قال به الشافعي : من شهد العشاء والفجر ليلة القدر فقد أخذ حظه منها ، ولعله قد أخذ ذلك من عموم الحديث الصحيح ( من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل ، ومن صلى الصبح في جماعة ، فكأنما صلى الليل كله ) رواه مسلم   ويكثر من الذكر والدعاء ، وقراءة القرآن .

ومن الناس من يتصورها تصور انتفاع عاجل  وتجارة رابحة ، ومطالب لا تخيب إذا صادفت ذلك النور المشرق ، أو وافقت ذلك الباب المفتوح ، وما أعتقد أن يكون صواباً ، أو أقرب إلى الصواب  أن ليلة القدر ظرف زمني لطلائع النور المعنوي من كتاب الله .

إنها لبلة مباركة ينتظرها المسلمون في العشر الأواخر من الشهر المبارك ، وهي كما وصفها الله خير من ألف شهر ، ونزل فيها القرآن جملة واحدة .

لقد حضنا النبي أن نتحرّاها في العشر الأواخر قال عليه السلام : ( التمسوها في العشر الأواخر من رمضان ) . كما حض على تحريها في الليالي المفردة فقال صلى الله عليه وسلم: ( من كان متحرِّياً فليتحرّاها ليلة سبعٍ وعشرين ، أو قال تحرّوها ليلة سبعٍ وعشرين ) .

 

عن عائشة ( رض ) أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم أنها إن وافقت لبلة القدر ما تقول فيها ؟ قال : قولي :  (اللهمَّ إنك عفوٌّ تحب العفو فاعف عني ) رواه أحمد والترمذي . ولعلَّ الحكمة في إخفاء ليلة القدر ، حتى يجتهد المسلمون في العبادة في ليالي شهر رمضان ، طمعاً في إدراكها ، فلنواصل الطاعة في هذا الشهر   ومن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً  ولا يشرك بعبادة ربه أحدا .  

 

 

 

 

 

الفتح المبين

لقد كان فتح مكة نصراً بغير حرب ، وكان ثمرة يانعة لحكمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد نظره وحسن قيادته ، وقد سماه القرآن الكريم ، فتحاً مبيناً قبل أن يكون ، وبشَّر به قبل عام من حدوثه  في وقت كان المسلمون في وضع يُخَيَّلُ أنهم في وضع مهين ، حين قصد المسلمون وعلى رأسهم رسول الله  صلى الله عليه وسلم إلى مكة لأداء العمرة   فصدهم المشركون عن المسجد الحرام ، وأبوا أن يأذنوا لهم بدخول مكة للاعتمار ، وانتهى الأمر إلى ما عرف بعد ذلك بصلح الحديبية ، الذي كان في وضعه الظاهر هواناً للمسلمين في نظر الصحابة ، حتى قال عمر : " علام نرضى الدنية في ديننا يا رسول الله " ، مع أن أحداثه كانت مقدمةً للفتح المبين .

وعندما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة من أعلاها  أمر قادة جيشه ألا يقاتلوا إلا من قاتلهم   ودخلت سائر الفرق من أنحاء مكة الأخرى .. وسكنت مكة واستسلم قادتها وسادتها ، وعلت كلمة الله في جنباتها ، ولم يمض نصف شهر على سيطرة المسلمين على مكة ، حتى اصطدمت قواتهم بعشرين ألفاً من قوات هوازن في حنين  الذين هُزموا ودخل سيدهم مالك بن عوف نفسه في الإسلام ، ثم دخلت ثقيف ، وبذلك انتهت المقاومة الوثنية في جميع مناطق الحجاز .

إننا يمكن أن نستخلص أرقى الدروس وأعظم العبر  من تصرفات الرسول وصحبه الكرام في فتح مكة  سواء في العدل والإنصاف ، أو الوفاء بالعهد    أو العفو عند المقدور ، حيث كان العفو والتسامح الطابع الوحيد لتصرف الرسول المنتصر  عندما قال لهم ما تظنون أني فاعل بكم ؟ قالوا أخ كريم وابن أخ كريم . قال : "اذهبوا فانتم الطلقاء" .

إن أولئك القادة والسادة من الأعداء في مكة  الذين شملهم العفو ، قد تحولوا طائعين مختارين إلى عمالقة تفانوا في خدمة الإسلام ، فكانوا من حماته وكبار بناة دولته ، كانوا من صانعي الانتصارات الحاسمة في تاريخ الإسلام .

لقد وقعت مكة في قبضة المسلمين ، سلماً دون قتال يذكر ، وكان فتحها مثيرا لسكان الجزيرة العربية ، لأنهم ما كانوا يتوقعون ، أن مكة ستقع بمثل تلك السهولة ، في قبضة قوات التوحيد .

وهنا يمكن أن نتساءل عن عوامل النصر ، الذي ما كان متوقعاً حتى عند المسلمين ، أن يتم بذلك الشمول وتلك السرعة ؟ إن العقيدة من أهم هذه العوامل ، لأن المسلم يؤمن بأن سعادته ، في الدنيا وفلاحه في الآخرة  لا سبيل إلى تحقيقه ، إلا بالوفاء لهذه العقيدة   لأن التهاون في نصرتها ، يعني التعاسة في الدنيا والآخرة ففي سبيل نصرة العقيدة ، قتل الابن أباه  كما أن اعتبار العقيدة والمبدأ فوق كل اعتبار  دفع أم حبيبة أن تمنع أباها أبو سفيان ، أن يجلس على فراش الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ طوت الفراش لئلا يجلس عليه ، فساءه ذلك ، وقال في مرارةٍ وألم : يا بنية ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني ؟ فقالت في لهجة المؤمن الصادق الذي يجعل اعتبار العقيدة والمبدأ فوق كل اعتبار : بل هو فراش رسول الله  صلى الله عليه وسلم وأنت رجلٌ مشرك نجس .          

أما عوامل النصر الأخرى في فتح مكة فهي المباغتة والتضليل ، وتهاون قريش في الاستعداد والتنظيم للمقاومة ، وتخلخل العقيدة الوثنية في نفوس أهل مكة ، وعدم تحسسهم لبذل الأرواح في سبيلها  والعامل الأخير بقاء قريش وحدها في ميدان معاداة المسلمين باستثناء قبائل هوازن .

وعلى العموم فقد كفى الله المؤمنين شرَّ القتال  لخيرٍ أراده الله بالمسلمين وقريش على السواء .

 

  بعض الأحكام المتعلقة بالصيام

الصوم ركنٌ من أركان الإسلام ، ولا يصح إلا بتعين النية التي تشترط لكل ليلة ، لحديث حفصة الذي رواه البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال : ( من لم يُبيِّت الصيام من الليل فلا صيام له ) . والنية لا تحتاج إلى تكلُّف، فمتى خطر بقلبه أنه صائم غداً فقد نوى .   

وينبغي للصائم أن ينـزه صومه عن الغيبة والنميمة والشتم ، فإن شوتم قال : إني صائم لما روى البخاري أن النبي عليه السلام قال : ( إذا كان أحدكم صائماً ، فلا يرفث ولا يجهل ، فإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل : إني صائم ) ويستحب تأخير السحور وتعجيل الفطر  لما روى البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تسحروا فإن في السحور بركة ) وقوله :  (لا يزال الناس بخير ما عجَّلوا الفطر   )

ويستحب أن يفطر على تمر ، وأن يوسِّع الرجل على عياله في هذا الشهر  وأن يُحسن إلى أرحامه وجيرانه ، ولا سيما في العشر الأواخر .

ومن السنة كثرة تلاوة القرآن والذكر والدعاء في رمضان . والعاجز عن الصيام عجزاً مستمراً ، لا يجب عليه الصوم ، ويجب عليه أن يطعم كل يوم مسكيناً . ولا يجب الصوم ولا الإطعام على الشيخ الكبير والعجوز ، إذا بلغا الهذيان وعدم التمييز ، ويؤمر الصبي المميز يصومه لسبع  ويُضربُ على تركه لعشر ، ولا يجب على الحائض والنفساء ، ويجب عليهما القضاء . ولا يلزم المريض الصوم ، ويلزمه القضاء إن كان يرجى شفاؤه ، وإن كان لا يرجى شفاؤه ، فلا صوم عليه وتلزمه الفدية ، ومقدارها مدٌّ من طعام لكل يوم  والمد يساوي 2,176 كغم ، ولا تلزم المعسر الفدية .

وللمسافر مسافةً تزيد على 81 كيلو متر أن يُفْطِرْ والصوم أفضل ، إذا لم يكن فيه مشقة . روى أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لصائمٍ في السفر :  (إن أفطرت فرخصة ، وإن صمت فهو أفضل) والأفضل الإفطار لمن يجهده الصوم ، ويعود عليه بالضرر . لقوله صلى الله عليه وسلم:  (ليس من البر الصيام في السفر ).أما مديم السفر أي أن سفره متواصلاً ، فلا يجوز له الفطر، لأنه يؤدي إلى إسقاط الواجب بالكلية  فيأخذ حكم أرباب الحرف الشاقة ، بوجوب الشروع في الصوم ، فإن طرأت المشقة أفطر .  ويطلب من أصحاب الأعذار ، أن لا يأكلوا عند من لا يعرف بعذرهم  خوفاً من التهمة . وللحامل والمرضع الإفطار ، ويلزمهما القضاء دون الكفارة . ومن أكل أو شرب أو جامع ظاناً غروب الشمس  أو عدم طلوع الفجر فبان خلافه يمسك وعليه القضاء ولا تلزمه الكفارة

الحقنة تفطِّر ، لأنها تؤدي وظيفة الطعام ووظيفة الاستدواء .  التقيؤ عمداً مفطِّرْ ، أما من غلبه  القيء فلا يفطِّره  إن لم يصل الجوف لحديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(من ذرعه القيء فليس عليه قضاء  ومن استقاء فليقض) رواه أبو داود    الراجح في القطرة في العين أو الأذن والكحل ومداواة الجروح الغائرة ، وشم الطيب ، والإبر غير المغذية ، وإدخال علاج لمريضٍ من الفرج أنها لا تُفَطِرْ ، لأنه ليس أكلاً ولا شرباً ولا في معناهما ولا يفسد الصوم بالاحتلام ، ويجوز للصائم أن ينـزل في الماء ، ويغطس فيه ، ويصبه على رأسه   سواء كان في حمام أو غيره ولا خلاف في ذلك . لما روي في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم.  (كان يُصْبِحُ جنبا وهو صائم ثم يغتسل ) .

وتكره القبلة على من حرَّكَتْ شهوته وهو صائم  ولا تكره لغيره وتركها أولى .

الأكل والشرب ناسياً لا يُفَطِّرْ . لحديث البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال : ( إذا نسي فأكل أو شرب فليتم صومه ، فإنما أطعمه الله وسقاه )

 

  

 

وداع رمضان

إنّ قلب المؤمن الصّائم ليتحسّر على توديع شهر  رمضان ، ورد عن عليّ بن أبي طالب أنّه كان يُنادي في آخر ليلة من شهر رمضان: يا ليت شعري من المقبول فنهنّئه، ومَن المحروم فنُعَزِّيه. وكان بعض السّلف يظهر عليه الحزن يوم الفطر فيُقال له: إنّه يوم فرح وسرور، فيقول: صدقتم لكنّي عبدٌ أمرني مولاي أن أعمل له عملاً، فلا أدري أيقبَلُه منّي أم لا؟! لذا كان العارفون يجتهدون في إتمام العمل وإكماله وإتقانه، ثمّ يهتمّون بعد ذلك بقَبوله، ويخافون من رَدِّه وهؤلاء الّذين قال فيهم تعالى: ﴿ يُوتُون مَا أَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ﴾المؤمنون60، وعن فُضالة بن عبيد قال: لأَن أكون أعلَم أنّ الله تقبّل منّي حبّة من خردل أحبَّ إليَّ من الدنيا وما فيها، لأنّ الله تعالى يقول: ﴿ إنّما يتقبّل اللهُ من المُتّقين ﴾ المائدة 38 . لقد كان بعض السّلف يدعون الله ستة أشهر أن يُبلّغهم شهر رمضان ثم يدعون الله ستة أشهر أن يتقبّله منهم وكما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده والحافظ أبو عيسى الترمذي في جامعه والحافظ ابن حبّان في صحيحه عن طريق أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم صعد المنبر فقال: آمين آمين آمين، قيل: يا رسول الله إنّك صعدت المنبر فقلت آمين آمين، فقال إنّ جبريل عليه السّلام أتاني فقال: مَن أدرك شهر رمضان فلم يُغفر له فدخل النّار ) وكما جاء في الحديث الّذي رواه ابن خُزيمة في صحيحه: ( شهر رمضان شهر أوّله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النّار ) . وإنّما يكون يوم الفطر من رمضان عيدًا لجميع الأمّة لأنّه تعتق فيه أهل الكبائر من الصّائمين من النّار، فيلتحق المذنبون بالأبرار . 

ها نحن نودعه كما استقبلناه بالأمس، والسؤال هنا هل صمناه حق الصيام ؟ وهل قمناه حق القيام ؟ وهل فعلنا فيه ما يستوجب المغفرة والرضوان ؟ وهل نحن من الذين رغمت أنوفهم أم من الذين سعدوا في رمضان ؟ أم نحن من الذي غرّهم طول الأمل ؟ 

يا من بدنياه اشتغل      وغره طول الأمل

الموت يأتي بغتة       والقبر صندوق العمل

أم ممن أحسنوا :

غدا توفي النفوس ما كسبت      ويحصد الزارعون ما زرعوا

إن أحسنوا أحسنوا لأنفسهم    وإن أساءوا فبئس ما صنعوا

يقول النبي صلى الله عليه وسلم : (رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ) الترمذي وأحمد . هنيئا لمن أكرمك يا رمضان ، ويا خسارة من فرط في إكرامك ، وارتحلت ولم يغفر له ، كان سلف الأمة إذا شارف رمضان على الانقضاء حزنوا وبكوا ، كيف لا ؟ وقد كان لهم أنساً ومغنما ، علموا ما في رمضان فتمنوا السنة كلها رمضان ، وكانوا يدعون الله ستة أشهر أن يقبله منهم ، لأنه شهر القبول والغفران فرمضان للمتقين روضة وأنسا ، وللغافلين قيدا وحبسا ، إنه نزهةً للأبرار وقيداً للأشرار ، وطوبى لمن حل فيه عقدة الإصرار ، ونزل في روضه التقوى   وختمه بالذكر والاستغفار ، لعله يمحو الذنوب والأوزار ، فاجتهدوا في باقيه ، وتلافوا تفريطكم ما أمكن تلافيه .

والى كل من عزم على هجران الطاعات بعد رمضان أقول : إن ربّ رمضان هو رب الشهور ، والعاقل من اتخذها مزرعة للآخرة ، إنها ساعات العد الأخير لرمضان ، الذي كان فرصةً لفعل الخير ، التي أضاعها الكثيرون ، لغفلتهم وتقصيرهم . أما الذين استقبلوه ولسان حالهم :

وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد    ذخراً يكون كصالح الأعْمال

فقد أقبلوا عليه بقلوب سليمة ، ونفوس طاهرة  وأرواح صافية ، وتقوى كاملة , ويقين تام بأن الله يتجلى في هذا الشهر على عباده ، ليطهرهم من الرذيلة ، ويضاعف لهم الحسنات ، ويمحو السيئات ، إنه فرصه لأن يتوب العاصون   ويهتدىَ الضالون ، ويتذكر الغافلون .

 لقد قارب رمضان على الانتهاء ، وفريق من الناس ، ساهون لاهون ، ما أدوا لله حقا  , ولا فعلوا فيه واجبا , تخاذلوا عن العبادة والطاعة   ولم يكن لرمضان عندهم خصوصية ، إلا الإسراف في النوم والسهر ، والمبالغة في الطعام والشراب والتطرف في الشهوات والملذات .

  كان رمضان عند السلف تزكية للنفوس  وتطهيراً للقلوب ، وتهذيباً للأخلاق  أما اليوم فقد جاء رمضان ، وهم على حالهم ، من خلاعة ومجون ، وتهتك واستهتار لحرمة هذا الشهر وآداب الدين ، يتخبطون في جهالتهم  ويسرحون ويمرحون في دنياهم ، حتى ماتت ضمائرهم   ومرضت نفوسهم ، وضعف وازع الدين عندهم ، فأصبح رمضان بالنسبة لهم ، جوعٌ وعطش  ونوم وسهر ، وإغراق في الترف والملذات ، مع أنه شهر الجهاد والقرآن ، والعطاء والبر والإحسان ، رمضان الطاعة والعبادة ، والصلاة والتسبيح  والمسارعة إلى الخيرات ، والذكر والدعاء  والقيام والاستغفار ، والتراحم والعطاء ، والتزاور التآلف ، ربيع  المؤمنين ، ومرتع الصالحين ، تُبنى فيه الضمائر ، وتُربى فيه العزائم والنفوس   ويُطلب من الناس أن يقلعوا عن أهوائهم وشهواتهم ، ويرجعوا عن غيّهم وضلالهم  ويبتعدوا عن كل منكر وقبيح ، ويمدوا أيديهم إلى الله ، يسألونه الصفح والغفران ، ويتقربوا فيه إلى الله بالصدق والإخلاص ، ويتحببوا إليه بالطاعة  ويتوددوا إليه بكل برٍّ وإحسان .

 ألا ليت الناس في رمضان ، يملأوا قلوبهم بمحبة الله  ويتفانوا في طلب رحمته ورضاه ، ليتهم يعملوا  على تطبيق منهج الله ، ليفوزوا بمغفرة الله ورضوانه .

أما الذين اتخذوا من رمضان موسماً للمآكل والمشارب   واللهو والسمر ، والطرب والمجون ، يحيون لياليه باستماع الأغاني المبتذلة ، ومشاهدة الرقص الخليع  يجعلون من شهر العبادة ، شهر مرح وطرب ، ثم يدَّعون  أنهم صائمون  وبواجبات هذا الشهر قائمون  والله يعلم انهم لكاذبون .

 إن الصوم فرض على الأمة ، التي فرض عليها الجهاد في سبيل الله ، من أجل تقرير منهج الله في الأرض ، وللقوامة على البشرية ، وللشهادة على الناس ، لأن في الصوم مجال تقرير الإرادة الجازمة واتصال الإنسان بربه ، اتصال طاعةٍ وانقياد    لأن غاية الصوم إعداد القلوب للتقوى ، حتى  تُؤدّى هذه الفريضة ، طاعة لله ، وحتى تحمي القلوب ، من إفساد الصوم بالمعصية . وليعلم المسلمون أن هذا الشهر ، شهر قبول التوبة والإنابة وإنها لفرصة لمن أقبلوا على الطاعة  ولزموا المساجد والجماعة ، ألا يعودوا  لما نُهوا عنه   حتى لا يكونوا ممن قال الله فيهم : ﴿ أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين ﴾ البقرة 16 ، صَعَدَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم  المنبر فقال ( قولوا آمين  فسُئلَ عن ذلك فقال : إن جبريل أتاني فقال  : من أدرك شهر رمضان   ولم يُغْفَرْ له فيه  فأبَعَدَهُ الله ، قل آمين . فقلت آمين .

ودعوا شهركم بالطاعة ولا تغفلوا عن تلك البضاعة فإنما الأعمال بخواتيمها لا تودعوها باللهو والغفلة فتختموا ملفكم بعمل غير مقبول بل أغلقوا دوسيه رمضان وملف الصيام بعمل مقبول حتى يتنزل الله لكم بالقبول التام والنور العام والجزاء الذي لا يعرف مداه إلا الله فإنه يطلع بنفسه على ملفات الصائمين ويحدد الأجر بنفسه على حسب تقوى المؤمنين ويقول سبحانه : (كُلٌ عَمَلِ ابنِ آدَم لَهُ إلاَّ الصيامَ فَإنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ ) هو الذي يضع لكل صائم جزاءه وهو الذي يحدد له مكافآته وهو الذي يتحفه بوسام من الأوسمة الإلهية على حسب تقواه وطاعته له اللهم تقبل منا الطاعات . 

 

 

 

 

دروس وخطب

نقدم بين يديكم مجموعة من الدروس والخطب والمواعظ 

واسال الله ان يتقبل منا جميعا