الانحرافات و البدع في رمضان
اقتضت حكمة الله ، أن يفرض الصوم على الأمة التي حملت أمانة إقامة شريعة الله في الأرض ، وأن يكون الإيمان بالله وحده ، أساس عقيدتها ومصدر منهجها ، و ضمانة سلوكها .
إنه شهر القيام والاعتكاف وليلة القدر كما وقعت فيه أهم الأحداث في تاريخنا ، وقد صامه أسلافنا ، فقهروا فيه كيان الباطل في بدر، وفتحوا مكة ، و استسلمت على أثرها ثقيف والطائف و عبروا الأندلس ، وركبوا قمم جبال البرانس وقهروا الصليبيين في حطين ، وهزموا جحافل التتار في عين جالوت , حتى أحس العالم بمقدرة هؤلاء الصائمين ، الذين انسابوا في أقطار الأرض يحملون النور و الهدى , فلم يمض عليهم سوى ثلاثة أرباع قرن من الزمان ، حتى تم لهم فتح ثلاثة أرباع العالم ، طهروها من الظلم و الكفر والاستبداد وملاؤها بالإيمان و الحق و العدل .
مما كان مثار الإعجاب و التقدير ، فقد كان رمضان في نظرهم ، يرتبط ارتباطا وثيقا بالجهاد وممارسة الشدائد ، ومجانبة الترف خلافاً لواقع مسلمي اليوم ، الذين تركوا الجهاد وهجروا العمل بكتاب الله ، حتى انتهى الأمر بهم إلى قراءة القرآن في المآتم ، لأرواح الأموات ، أو يستجدون به على أبواب المساجد ، أو يعلِّقونه تعاويذ وتمائم وأحسنهم حالا من يقرؤه لحصول البركات وتكثير الحسنات ، دون أن يكلف نفسه بشيءٍ من العمل بما فيه ، يشترون المصاحف و يهتمون بالمسابح ، ناسين أن العبرة ليست بالأقوال وإنما بالأفعال ، وأن على من يقرأ القرآن ، أن يلتزم بتعاليمه و أحكامه ، حتى لا يكون ممن يقرأ القرآن والقرآن يلعنه ، كمن يقرأ آيات الربا ويتعامل بالربا ، ويقرأ آيات الصدق و يكذب وآيات العدل ويظلم ، وآيات الحق وهو على الباطل ، الأمر الذي يجعلنا بحاجة إلى الصدق في صيامنا فننظر إلى شهر رمضان نظرة واعية تختلف عن النظرة التي يظنها الناس هذه الأيام على أنه شهر الأطعمة الشهية ، والمشارب اللذيذة والسهرات التافهة ، ولا ينبغي أن تفهم و سائل الإعلام في بلادنا ، أن رمضان شهر المسلسلات والفوازير هذه النظرة التي ضيعت القوة المؤثرة في الصيام حتى أصبحت هذه العبادة عند كثير من الناس ، لا تمثل إلا صوراً جوفاء ، خالية من الروح وأصبحت العقيدة عندهم ، مشوهة بالبدع و الخرافات ، التي اتخذها الناس لهم طريقا ومنهاجا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، وقد انعكست هذه الصورة على هذه العبادة النبيلة فأصابها ما أصابها من البدع ، التي صرفتها عن حقيقتها إلى مظاهر و احتفالات ، أبعد ما تكون عن حقيقة الصيام ، وأصبحت صورة هذا الشهر الكريم ، في أذهان كثير من الناس ، لا تمثل سوى مجموعة من الاحتفالات المتخمة بالأطعمة والأشربة ، والبرامج الهزيلة ، والسهر في أماكن الترفيه ، للاستزادة من ملذات الدنيا . .
إن طبيعة هذا الشهر ، لا تتحمل ذلك ولا تقره لأنه ليس كما يظنه البعض ، شهر استرخاء ونوم و تقصير في ممارسة واجبات الحياة ، بل إنه في الواقع حافزٌ على القوة ، ودافعٌ إلى الجهاد والعمل وإن الأمم في أعقاب المتاعب التي تصيبها تغِّيُر من سلوكها ، إذ يزهد الصغار والكبار ، عن كثير من المتع ، التي كانوا يألفونها ، وأنواع من المرح طالما ابتهجوا بها أيام الأمن والاستقرار .
لقد كانت هذه عادة عربية قديمة ، فقد كانوا إذا نال منهم عدو ، أو حل بهم مكروه ، هجروا تقاليد الترف ، وصدوا عن أسباب اللهو والمجون وما يسمح أحدهم لنفسه ، بسرور غامر أو ضحك عال ، إلا إذا نال ثأره ، أو استرد ما فقده ، أو أوقع بخصمه مثل ما نزل به ، فإذا تم له ذلك قال وهو مستريح
فساغ لي الشراب وكنت قبلاً أكـادُ أغص بالماء الفرات
وما زال هذا التقليد باقياً بين المسلمين . إذ يقول شاعرهم :
قوم إذ حاربوا شدوا مآزرهم عن النساء و لو باتت بأطهار
ففي ساعات الجد ، لا يكترثون بهذه التوافه ، لان أيام الجهاد ، تفرض عليهم الاقتصاد في مظاهر الفرح والتسلية. ما أحرانا مادامت هناك بلادٌ للمسلمين تُحتل ، وما دام جحد حقوقنا ظاهراً في أسلوب التبجح الذي نراه ونسمعه ، مما يحرمنا الراحة والهدوء أن نغِّير من أسلوبنا في هذا الشهر ، ولماذا التوسع في الإنفاق والبذل على المرفهات عند عشاق البعثرة والترفيه ، وهل آن الأوان لنراجع سلوكنا العام والخاص ؟ فَنَحُدَ من الإقبال على أماكن الدعة والهزل ، والسمر والغناء ونلتزم بالمقصود الحقيقي من فريضة الصيام وهي التدريب على ضبط النفس .
لقد علَّم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه ، على أن الاستسلام للشهوات المادية ، والحرص على الملذات ، سقوط بالهمة ، وخورٌ في العزيمة ، واسترخاء مع الشيطان فقال صلى الله عليه وسلم : ( إن القوم لما شبعت بطونُهم سمنت أبدانهم ، فضعفت قلوبهم ، وجمحت شهواتهم ) . وقال : ( إنما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم و فروجكم و مضلات الهوى ) وفي وصف عشاق الليونة والرخاوة ، والمظاهر الجوفاء قال : ( تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم تعس عبد القطيفة تعس عبد الخميصة) والقطيفة والخميصة ، أنواع من الأقمشة التي كان يحرص عليها طلاب الراحة . إن ولع الكثيرين من المسلمين هذه الأيام ، باللهو واللعب ، سيوردهم دار البوار ، ولا أدل على ذلك من موت القلوب ، وقبول الدنايا ، وعشق الدنيا ، وكراهية الموت .
إن عبادة الحياة ، و تكريس القوة لها ، علةٌ قديمة بين الناس ، وهي التي أرخصت القيم الرفيعة وألهبت الغرائز الوضيعة ، وصرفت القصد عن الله وفي مثلهم يقول الله سبحانه :﴿ فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله و هو أعلم بالمهتدين ﴾ النجم 29 ، إن العلة تكمن في انتهاب الملذات من غير شبع والبحث عنها دون اكتراث بحلٍ أو حرمة فقد ضاعفت المدنية الحديثة ، الفرص لعبادة الحياة والذي يدعوا للأسى ، أن المسلمين نافسوا الغرب في التهاوي على هذه المتع ، لأنهم لم يفقهوا سرّ الصيام ، وسرَّ الحياة العفيفة المبنية عليه وإلا لكان لهم موقف آخر ، إنهم لو أدركوا ، ما كانوا عليه وما صاروا إليه ، لكان لهم قبل الصيام صيام وقبل القيام سهر يطير معه المنام .
إن المسلمين كما نرى ، يستقبلون رمضان على أنه شهرٌ لمشاهدة مسلسلات ، أقلها جادّ وأكثرها هازل ، تعرضها الإذاعات المسموعة والمرئية وأغاني بعضها ديني والآخر لا دين له وفكاهاتٍ تخلق الأهواء الضاحكة ، و تسلي الناس التائهة .
أما البرامج الدينية ، فتقدم لنا مواعظ ، تقليدية ممجوجة ، لا يجد أكثر الناس رغبة في سماعها أو مشاهدتها. وكتابات إسلامية ، في موضوعات مختارة عن عمد ، لتخدير الفكر وتفتير الهمم وأحفالٌ باهتة ، جرى رسمها وإخراجها ، بحيث تنعدم فيها الروح ، ويضعف التأثير ، مما يطمئن أعداء الإسلام ، الذين لا يطلبون من أمة الإسلام أن تفعل بنفسها اكثر من ذلك . روي أن امرؤ القيس ، عندما تعرض لهزة قال هذا الشاعر الماجن ، يصف ما سيفعل :"اليوم خمر وغداً أمر " . لقد جعل لسكره حداً ، انه اليوم وحسب ، ومات وهو يناضل لاستعادة مجده ولكن لسان حال الناس هذه الأيام ، اليوم خمر وغداً خمر ، فمتى يكون الصحو على هذا الأمر . ونحن نتساءل ؟ ألا يستحق المسجد الأقصى وقفة تدبر واستعبار ، يتلاوم فيها المفرِّطون ثم يغضبون لله ، غضبةً تمحو العار وتدرك الثأر ولم لا نجعل من هذا الشهر ، بدايةً لتغير حياتنا ، لأن الصوم ليس امتناعا عن الأكل والشرب فحسب لكنه جهادٌ وعطاء بالمال والروح ، إخلاصٌ ومحبةٌ وتقوى ، وقوةٌ وإرادةٌ ، وعبادةٌ واستغفار .
يأتي رمضان ، وأخوه لنا في مناطق مختلفة من العالم ، تعصف بهم الفتن ، وتحيط بهم المؤامرات إلى جانب حملات الإبادة ، والقتل والتدمير والتشريد . حيث يموت آلاف المسلمين من نيران الأسلحة أو الأمراض التي تفتك بهم ، نتيجة عدم توفر العناية الصحيةِ الكافية ، ومن سوء التغذية وهم أحوج ما يكونون لمساعدتهم ، على مقاومة الظلم والهوان والاستبداد .
تلك هي رسالة الصوم ، بذلٌ وعطاء ، وجهاد وتعاطف ، وقهرٌ للنفس ، لا الجلوس في المتنزهات والمقاهي على الأرجيلة ولعب الورق ، والجلسات المختلطة ، والتي تسميها الأجهزة الإعلامية بالليالي الرمضانية ، ورمضان منها براء ، يقولون ذلك ، في تحدٍ سافر ، لحقيقة هذا الشهر ، التي تتمثل في التوبة ، والرجوع إلى الله ، وقراءة القرآن ، ومعرفة أحكام الصيام .
إنها مدرسة الصوم تعد المسلمين للانتصار لا للهزيمة ، للقوه لا للضعف ، للصمود والشجاعة لا للخوف والتردد ، فعلينا أن نغتنم هذه الفرصة ونصطلح مع الله ﴿ إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ﴾ .