الصلح في ضوء القرآن والسنة
الصلح هو : كلّ أمر يوفق به بين الناس ، ويتحقق من خلا له رفع النزاع ، أو وقف القتـال ، أو قطع الخصومات الواقعة أو المحتملة ، وفق الشروط التي جاءت في الكتاب والسنة . والصلح من أعمال البر العظيمة التي أمر الله بها ، وحث عليه النبي صلى الله عليه وسلم في سـنته ، وجعـل في تحقيقه خيرية مطلقة ، ووعد القائمين به في الناس بالأجر العظيم ، وحكم القيام بالصلح بين الناس من فروض الكفاية ، وحكم قبول الأطراف المتنازعة للـصلح يدور بين الأحكام التكليفية الخمسة ، فقد يكون واجباً ، وقد يكون مستحباً ، ومباحاً ، ومحرماً ، ومكروهاً . ينقسم الصلح في القرآن الكريم إلى قسمين : صلح بين المسلمين
والكافرين ، وصـلح بـين المؤمنين ، وهو على ثلاثة أنواع هي : صلح بين طائفتين من المؤمنين ، وبين فردين من المـؤمنين ،وبين فرد وطائفة من المؤمنين .
وللصلح بين المؤمنين شروط يلزم تحققها فيه ليكون معتبراً شرعاً ، وله أحكام خاصة أبرزها : قتال الفئة الرافضة للصلح ، وجواز الكذب لأجله ، وتـأخير الصلاة عن أول وقتها وجمعها ، وترك الأيمان والحنث في اليمين ، ودفع الزكاة للمصلح الغارم .لإنهاء الخصومات، ورد الحقوق ، وتأليف القلوب، واجتماع الكلمة ، وحقن الدماء ، والحاجة الماسة لموضوع الصلح ؛ لما نراه اليـوم في المجتمعـات المسلمة من كثرة الخلافات والنزاعات ، والعداوة والبغضاء والحقد والحسد بين أفراد وفئات وطوائف الأمة بما يـدعو إلى القلـق والـسعي الجـاد للـصلح والإصلاح ؛ بما يجمع الكلمة ، ويوحد الصف ، ويقطع النـزاعـات ، ويـبني جسور الوحدة والوئام ، ويحقق سعادة الفرد والجماعة ، ويبسط سيادة الأمـة المسلمة
ويشفي هذا الداء الذي عم بلاؤه ، وانتشر شره حتى وصل إلى الدعاة وطلبة العلم الشرعي ، وبقدر تفش ي الداء يصبح نشر علاجـه مطلبـاً عقليـاً وشرعياً وكم رأينا من دول غنية عريقة ، هدمت بسبب الخلافات العرقية ، أو المذهبية أو السياسية ، وجماعات تفرقت ، وجهود تبددت ، ودماء أزهقت ، وأعراض انتهكت ، وأسر تشتت ؛ وذلك في ظـل النـزاعـات المـستمرة ، والحروب المستعرة حتى أصبحت الأمة لقمة سائغة لأعدائها ممـا يـستدعي عملاً جاداً في إصلاح ذات البين ، وفق رؤية شرعية متكاملة ، تطفـئ نـار هـذه الحروب ، وتجمع شتات تلك القلوب . لذا لا بد من نشر ثقافة الصلح والوئام بين الناس ، وتكثير سواد المصلحين ، لأنه من خصال المروءة ، وهدي الأنبياء ، وشيم الصالحين ، ومحاربـة الاخـتلاف والتباغض والتقاطع بين المؤمنين ؛ التي هي مـن معـالم الجاهليـة ، وذلك بجعله من الأعمال الصالحة الحاضـرة في عقـول المـؤمنين ، فيبذلون له المال ويقطعون له الوقت ، ويخصصون لـه المؤسـسات العلميـة والخيرية التي تنشر فقهه وتوفر مقومات نجاحه ، بذلك تتحقق سلامة المجتمع من الانهيار، وحفظ قلوب العباد من المشاحنات ، إذ أن دور الصلح في فـض النزاعات لا يقل عن دور القضاء بل يزيد عليه أحياناً ، فالقضاء يعـتني بـرد الحقوق ، والصلح يعتني فيه برد القلوب وفي الصلح مزايا وفوائد لا تتـوفر في غيره ؛ ولذا أُثر عن عمر أنه قال :" ردوا الخصوم حتى يـصطلحوا ، فـإنَّ فصل القضاء يورث بينهم الضغائن "
وإذا كان الخلاف داء ونتيجة النزاع فشل ، فالصلح دواء ونتائجه رحمة وقوة .
وقد جاء الأمر بالصلح في القرآن الكريم مؤكداً للأفراد والجماعات عامة ، في كلِّ مـا يقـع بينهم من نزاع ، ومبيناً لهم أهمية الصلح والإصـلاح بـين النـاس ومـنزلته التي تتلخص في الجوانب الآتية : أولاً : أمر الله المتكرر بالصلح : أمر الله تعالى في كتابه العزيز المؤمنين بإصلاح ذات بينهم بـصورة دائمـة تحافظ عليهم كجماعة متآلفة ، متحابة ، متعاونة في أربعة مواضع ، ثلاثة منـها جاءت في سورة الحجرات و، واحدة في سورة الأنفال ، ولا شك أن الله تعـالى لا يأمر عباده إلا بما فيه صلاحهم ولو جاء الأمر في موضع واحد لكان كافياً ، فكيف إذا تكرر الأمر به والترغيب فيه ، قال تعالى: ﴿ فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينمكم ﴾ الأنفال١ :قال السعدي :" أي أصلحوا ما بيـنكم مـن التشاحن والتقاطع والتدابر بـالتوادد والتحـاب والتواصـل ،فبذلك تجتمـع كلمتكم ، ويزول ما يحصل ـ بسبب التقاطع ـ مـن التخاصـم والتـشاجر والتنازع ، ويدخل في إصلاح ذات البين تحسين الخلق لهم ، والعفو عن المسيئين منهم فإنه ـ بذلك ـ يزول كثير ممـا يكـون في القلـوب مـن البغـضاء والدابر فال تعالى : ﴿ وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فاصلحوا ىبينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله ، فإن فاءت فأصلوا بينها بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين ، إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون ﴾ الحجرات 9 .
قال السعدي :" هذا متضمن لنهي المؤمنين عن أن يبغي بعضهم على بعض ويقتل بعضهم بعضا ، وأنه إذا اقتتلت طائفتـان من المؤمنين فإن على غيرهم من المؤمنين أن يتلافوا هذا الشر الكبير بالإصـلاح بينهم والتوسط على أكمل وجه يقع به الصلح ، ويسلكوا الطرق الموصـلة إلى ذلك فإن صلحتا فبها ونعمت ، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقـاتلوا الـتي تبغي حتى تفيء إلى أمر االله أي ترجع إلى ما حد االله ورسوله من فعل الخير وترك الشر الذي من أعظمه الاقتتال
وقد حـث النبي صلى الله عليه وسلم في سنته المؤمنين على ما أمرهم الله به في كتابه كما جاء في حديث أَنسِ بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال ) بل رغب الله المؤمنين في الصلح قبل وقوع ما كان مخوفاً من حدوثه قـال تعــالى : ﴿ فمن خاف من موصٍ جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم ﴾ لبقرة : ١٨٢ ، (قال ابن جرير الطبري : " فخوف الجنف والإثم من الموصي إنما هو كائن قبل وقوع الجنف والإثم فأما بعد وجوده منه فلا وجه للخوف منه
ثانياً : تولي النبي صلى الله عليه وسلم لأمر الصلح بنفسه :
مما يدل على منـزلة الصلح وأهميته قيـام الـنبي بنفـسه في الـصلح والإصلاح بين الناس ، حتى يقتدي به الخلق في حيا تهم ، وقد بـوب الإمـام البخاري في صحيحه كتاب باب ما جاء في الإصلاح بين الناس إذا تفاسدوا وقول الله تعالى : ﴿ لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة او معروف أو إصلاح بين الناس ﴾ النساء 114 . وخروج الإمام إلى المواضع ليصلح بين الناس بأصحابه ، وأورد في ذلك أحاديث عدة منها حديث سعد بن سهل قال :( بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بني عمر بن عوف بقباء كان بينهم شيء فخرج يصلح بينهم في أناس من اصحابه ) وفي رواية قال : ( أن اهل قباء اقتتلوا حتى تراموا بينهم بالحجارة ، فأُخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال : اذهبوا بنا نصلح بينهم )
ثالثاً: مدح القرآن والسنة للمصلح بين الناس :
مما يؤكد فضل الصلح أن القرآن الكريم جعل من أعظم ما يتناجي به الناس إصلاح ذات البين قال تعالى : ﴿ لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ﴾ مدح النبِي المصلح بين الناس ،كما في حديث أبي هريرة عـن الـنبي صلى الله عليه وسلم قال:( ما عمل ابن آدم شيئاً أفضلَ من الصلاة ، وإصلاح ذات البين ، وخلـقٍ حسنٍ ) وقال عن الحسن بن علي : ( ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين ) وفي هذا حثٌ من النبي صلى الله عليه وسلم للصلحِ بين الناس وبشارة للحسن أنه سيصلح االله بـه بين الفئتين المختلفتين ، وقد وقع كما أخبر صلى الله عليه وسلم وتحققت به مـصالح عظيمـة للإسلام والمسلمين حتى سموا ذلك العام بعام الجماعة ، لما تحقق بذلك الـصلح من اجتماع كلمتهم وحقن دمائهم ، قال ابن حجر " وفي هذه القصة من الفوائد علم من أعلام النبوة ، ومنقبة للحسن بن علي فإنه ترك الملك لا لقلة ولا لذلـة
ولا لعلة ؛ بل لرغبته فيما عند الله لما رآه من حقن دماء المسلمين فراعـى أمـر الدين ومصلحة الأمة ، وفيه فضيلة الإصلاح بين الناس ولا سيما في حقن دماء المسلمين "
رابعاً : إطلاق الخيرية في الصلح :
مما يدل على فضل الصلح وأهميته أن جعل الله فيه خيرية مطلقـة في كـل نزاع يحدث قال تعالى : ﴿ وإن امراةٌ خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا صلحا والصلح خير ﴾النساء:١٢٨ ، وقـال ابـن جـزئ الكلبي قوله ﴿ والصلح خير ﴾ لفظ عام مطلق بمقتـضى أن الـصلح الحقيقي الذي تسكن إليه النفوس ويزول به الخلاف خـير علـى الإطـلاق ، ويندرج تحت هذا العموم أن صلح الزوجين خير من الفرقة "
سادساً : الوعد بالأجر العظيم لمن يصلح بين الناس :
ومما يدل على فضل الصلح بين الناس ما وعد االله به المصلحين من أجر عظيم قال تعالى ﴿ لا خير في كثير من نجواهم ... ﴾ النساء:١١٤ ، قال ابن جرير الطبري في قوله تعالى : ﴿ ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله ﴾ ومن يأمر بصدقة أو معروف من الأمر أو يصلح بين الناس ابتغاء مرضاة الله يعني طلـب رضـا الله ، بفعله ذلك ﴿ فسوف نعطيه اجرا عظيما ﴾ فسوف نعطيه جزاءً لما فعل
ذلك عظيماً ، والساعي في الإصلاح بين الناس أفضل مـن القانـت بالـصلاة والصيام والصدقة " وقد جاء عن ابي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة قالوا بلى قال ك صلاح ذات البين ، فإن فساد ذات البين هي الحالقة ) رواه الترمذي ، فيه فضل الصلح بما يجعل كل مسلم يسعى دائماً في الإصلاح بين الناس كعمل عظيم تنتفع به الأمة ويزداد به عبودية وقربة ، وقد جاء عن عبد االله بن عمـرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أفضل الصدقة إصلاح ذات البين ) ، وقد جـاء عن أبي أيوب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له :( ألا أدلُك على صدقة يحب الله موضعها ؟ قال :قلت : بلى بأبي أنت وأمي ! قال تصلح :بـين النـاسِ إذا تفاسـدوا ، وتقرب بينهم إذا تباعدوا ) ، وروى البيهقي كذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( يا أبا أيوب ألا أخبرك بما يعظم الله به الأجر ويمحو به الـذنوب ؟ تمـشي في إصلاح الناس إذا تباغضوا وتفاسدوا فإنها صدقةٌ يحب الله موضـعها ) فالإصلاح بين الناس من أعمال البر العظيمة التي حث عليها الـشرع الحنيـف ورتب عليها الأجر العظيم ، روى مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد أنه قـال : سمعت سعيد بن المسيب يقول : آلا أخبركم بخير مـن كـثير مـن الـصلاة والصدقة ؟ قالوا بلى : قال إصلاح ذات البين ، وإياكم والبغضة فإنها هي الحالقة ) موطأ مالك ، وقال الأوزاعي : " ما خطوة أحـب إلى الله مـن خطـوة في إصلاح ذات البين ، ومن أصلح بين اثنين كتب الله له براءة مـن النـار " وفضل الصلح على الصلاة والصدقة من حيث عموم النفع وتعديه ، ولما يحصل به من اجتماع الكلمة ، وسكون الفتنة ، والله أعلم .
سابعاً : الصلح يقي من مهلكات التنازع : قد جاء التأكيد على الصلح في القرآن الكريم من خلال الأدلة الكثيرة التي تبين عواقب نقيضه وهو الاختلاف و النزاع ، قـال تعـالى:﴿ ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ﴾ قال العلماء امر الله في هذه الآية بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ونهى عن الاخـتلاف والتنـازع ، وأخبر أن الاختلاف والتنازع يؤدي إلى الفشل وذهاب القوة ، وقوله في هـذه الآية ﴿ وتذهب ريحكم ﴾ أي قوتكم .
المطلب الثالث : حكم الصلح و قبوله :
أولاً : حكم الصلح بين الناس: القيام بالصلح بين الناس من فروض الكفاية التي أمر الله بها وحـث عليهـا بصورة عامة في قوله تعالى :﴿لا خير في كثير من نجواهم..﴾. وبصورة خاصة بين المؤمنون في قوله تعالى : ﴿ وإن طائفتان من المؤمنين ... ﴾ قال العلماء:" الحصر بإنما في قوله ﴿إنما المؤمنون إخوة ﴾ مع تخصيص المؤمنين بالـذكر يفيـد أن أمـر الإصلاح ووجوبه إنما هو عند وجود الأخوة في الإسـلام ، وفي تخصيص الاثنين بالذكر لإثبات وجوب الإصلاح فيما فوقهما بطريـق الأولى لتـضاعف الفتنة والفساد فيه "
ثانياً : حكم قبول الصلح : إن حكم قبول الصلح في الشريعة الإسلامية يدور مع الأحكام التكليفيـة الخمس ، فقد يكون قبول الصلح واجباً ورفضه محرماً خاصة إذا ترتبت عليـه مصلحة راجحة وذلك مثل القتال الذي يقع بين طائفتين من المؤمنين ، قال تعالى: ﴿ وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فاصلحوا ... ﴾
وذلك بقبول الصلح ، فإن قبلت بـه فقـد أمـر الله بقولـه:﴿ فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل ﴾ وقال : ﴿ فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم ﴾ الأنفال 1 ، وقد يكون محرماً إذا تضمن شرطاً باطلاً ، أو ترتبت عليه مفاسد بينة مثـل إجبار الزوجة على الاستمرار في الحياة الزوجية مع زوج لا تأمن معه على دينها ونفسها
وقد يكون الصلح مندوباً كالصلح في القتل العمد بالعفو أو قبول الديـة وكالصلح الذي يقع في الأموال ، وذلك لأن الشارع رغب فيه ، وحث عليه ومثل هذا الصلح " بطبيعته يتضمن تنازلاً عن بعض الحق في معظم الأحوال
والشخص لا يجبر على التنازل عن حقه ، وإنما يكون هذا عن طواعية واختيار، وعلى سبيل التسامح " وتحري العدل في الصلح ، فإن أصلح صلحا ظالما جائرا فإنه لم يفعل بذلك ما أمر الله به في الصلح ، قال ابن القيم : " وكثير من الظلمة المصلحين يصلح بين القادر الظالم والخصم الضعيف المظلوم بما يرضى به القادر صاحب الجاه ويكون له فيه الحظ ويكون الإغماض والحيف فيه على الضعيف ،ويظن أنه قد أصـلح ولا يمكِّـن المظلوم من أخذ حقه ، وهذا ظلم بل يمكِّن المظلوم من استيفاء حقه ثم يطلـب إليه برضاه أن يترك بعض حقه بغير محاباة لصاحب الجاه " .
ثانياً : أن لا يكون في الصلح تحريم حلال أو تحليل حرام :
من الشروط التي يجب توفرها في الصلح أن يلتزم بالجوانب الـشرعية ، وأن لا يكون هنالك تعدي لحدود االله ، وقد جاء عن أبي هريرة والجهني قالا إن رجلاً من الأعراب أتى النبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله أنشدك الله إلا قضيت بكتاب الله فقال : الخصم ... ) رواه البخاري ، قال ابن حجر :"وفيه أن الصلح الفاسد منتقض ، والمأخوذ عليه مستحق الرد " وقال :" إن كلَّ شرط وقع فيه رفع حد من حدود االله فهـو باطل ، وكل صلح وقع فيه فهو مر دود "
، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( الـصلْح جائز بين المسلمين إلا صلحاً حرّم حلالا أو أحل حراما ، والمسلمون على شروطهم إلا شرطا حرّم حلالا أو أحل حراما ) رواه البخاري .
ثالثاً : أن لا يكون المصالح عنه حق الله ، فكل ما جاء في موضوع الصلح وتحدث عنه الفقهاء هو فيما يتعلق بحقوق الآدميين لا غيره ، وهو الذي يصح فيه الـصلح ويندب إذا تم وفق ما جاء به الكتاب والسنة ، وإذا كان هنالك تداخل بين حق الله وحق العبد مثل القصاص يرجح الحق الغالب ، وهو حق العبد ، فيجوز فيـه الصلح ، وإذا كان حق الله هو الغالب ،كالقذف فلا يجوز فيه الصلح .
رابعاً : تراضي الأطراف علي صيغة الصلح :
اشترط العلماء في الصلح تراضي الأطراف على صيغته النهائية ، وذلك لأن الصلح إذا لم يتحقق معه الصلاح وإصلاح ذات الـبين ، وقطـع الخـصومة ، ووقف القتال ، ورفع النزاع فليس بصلح ، إذ علة مشروعيته تحقيق التـصالح
والاجتماع وإزالة التنازع والخصومات ، ولذلك تحدث الفقهـاء عـن أهميـة الإيجاب والقبول الدالين على توافق الإرادتين بين المتصالحين ،لأن التراضي أساس
لإنهاء الخصومة وقطع الـــنزاع ؛ ولذا قال الكاساني : " فـإذا وجـد الإيجـاب والقبول فقد تم الصلح " ولابد أن تكون هذه الإرادة بينهما اختيارية وعن قناعة ورضا إذ لا يصح الصلح بالإكراه ، وذلك لأن أمر الصلح هو أمر عفـو
وتسامح بين الجميع قال تعالى : ﴿ إن يريدا إصلاحا ..﴾
خامساً : توفر الأهلية والولاية في كلٍّ من المتصالحين :
" لا خلاف بين الفقهاء في أنه لا بد لصحة عقد الصلح أن يكون كل واحد
من طرفيه أهلاً للتعاقد " ، فلا بد من توفر الأهلية الكاملة بين المتـصالحين
سادساً : أن تكون بنود الصلح معلومة : بنود الصلح لابد أن تكون معلومة لجميع الأطراف ، ولا يصح ما يسمى اليوم بالبنود السرية التي تكون فقط بين بعض أطراف الصلح دون بعض بما يـزرع الشكوك ، ويفتح باب النـزاع مرة أخرى ، قال الشافعي :" أصل الصلح أنـه بمنزلة البيع فما جاز في البيع جاز في الصلح ، وما لم يجـز في البيـع لم يجـز في الصلح "
أما ما يتعلق بالصلح من أحكام خاصة : الكذب من أجل الصلح :
من الأحكام الخاصة في الشريعة الإسلامية الترخص في الكذب مـن أجـل الصلح ، وذلك لأن الساعي في الصلح يسعى في الخير والإصلاح لا في الـشر والفساد ، ولأن المصلح يريد أن تكون أحوال العباد مؤتلفة ومتفقة ، وهذا من أعظم ما يحبه الله ، فهو كذب لا يسقط به حق ، ولا يثبت به باطل ، ولذا فقد قال صلى الله عليه وسلم :( ليس الكذّاب الذي يصلح بين الناس ويقول خيرا وينمي خيرا )
لا يحنث في يمينه فنهاهم االله أن تكون هذه الأيمان مانعة لهم من الإصـلاح بـين
الناس وأفعال البر والتقوى ، وكذلك لما في ترك القسم مـن قبـول المـصلح
مقومات نجاح الصلح ومعوقاته
المطلب الأول : مقومات نجاح الصلح :
قوة الحجة وحضور البديهة :
لا بد أن يكون المصلح قوي الحجة ، يمتلك ناصية البيان ، عارفاً بأسـلوب الحوار ، حاضر البديهة ، متوقد الذهن ، يستطيع الجمع بـين الآراء المختلفـة، والأهواء المتنازعة ، ووجهات النظر المتباينة ويوفق بينها . ويكـون حكيمـاً في
مجلسه عارف اً ماذا يريد أن يحقق في كل مجلس ، وكيف يبدأ ، وكيف ينتـهي ، وأن يراعي الأحوال النفسية للمتصالحين ، وتأجيل النقاش فيه متى مـا رأى أن
حالتهما لا تسمح بذلك ويعرف كيف يؤثر على القلوب ولا يتأثر ، ويعرف الألفاظ التي يكون لها فعلها في العقول والأرواح ، مستحضراً لأدلة العفو مبيناً الصلح محاسن وفوائده قال تعالى: ﴿ فمن عفا وأصلح فأجره على الله ﴾
وذلك لأن الصلح لا يتم في الغالب إلا بعد حوار مفاوضات شاقة ،وقد جاء في صلح الحديبية ما يفيد الكثير في هذا
الصبر لتحقيق الصلح :
على المصلح أن يكون حريصاً على الصلح ، مبادراً إليه ، اًصابر على مشاقه ،متعاوناً مع إخوانه في سبيل تحقيقه ، وعدم فشل مساعيه ، ومن لمن تكن إرادته في الإصلاح قوية ونيته صادقة وصبره واسع فلن يتحقق له بسعيه ما يريد ، قال تعالى : ﴿ إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما ﴾ النساء : ٣٥ ، قال أبو السعود : " وفيه مزيد ترغيب للحكمين في الإصلاح ، وتحذير عـن المـساهلة كيلا ينسب اختلال الأمر إلى عدم إرادتهما وقيل :كلا الضميرين للحكمـين :أي إن قصد الإصلاح يوفق الله بينهما فتتفق كلمتهما ، ويحصل مقصودهما " فقد بين الله تعالى دور إرادة المصلح وحرصه الصادق في تحقيق الـصلح ، لأن
الصلح من الأعمال الشاقة التي قد تستغرق وقتاً طويلاً ، وجهداً كبيراً ، ومالاً كثيراً ، ومن لم يكن حريصاً على تحقيقه ، صبوراً على مشاقه ، واسع الصدر ، حسن الاستماع ، ذو حلم وأناة ، فإنه بعيد عن مناله ومقصده وتحقيق هدفـه . وقد رأينا الكثيرين ممن يقومون بالإصلاح ولكن من أعظم أسباب فشلهم قلـة صبرهم ، وضعف حرصهم ، وسوء تعجلهم ـ والله المستعان .
التحلي بالصفات التي تجعل الآخرين يثقون به :
من ذلك الأمانة في النقل ، وحفظ الأسرار التي يسمعها من الطرفين ، وصدق القول والن ية ، والتحلي بمكارم الصفات، والتخلي عن مساوي الأخلاق، فلا بد أن يكون المصلح براً تقياً موثوقاً به ، مسموع الكلمة ، صاحب فـضل علـى الناس ، لا يضن بنفسه وماله في الخير ، حليماً بشوشاً، فلا يـصلح أن يكـون الحكم من أهل الزوجين ممن هو قاطع اً لرحمه ، بخيلاً بماله ، سيء العشرة ، قليل المروءة مثلاً ، بل لا بد لمن أراد أن يتصد ى لهذا الشرف العظيم ، وينال ما فيـه من ثواب كبير ، أن يعد نفسه لذلك ، فإن الناس لا يثقون في من خبث فعله
وساء قوله ، وفسدت نيته ولا يقدرون نصحه إلا إذا وثقوا أنه لا يسعى إلا في إصلاح ذات البين وإزالة الفساد والخصومة، ودرء الفتنة، ليس له غرض آخر .