الصلح خير

الصلح خير

الترغيب في الصلح

لقد حرص الإسلام على وحدة المسلمين ، وأكد على أخوتهم ، وأمر بكل ما فيه تأليف قلوبهم ، ونهى عن كل أسباب العداوة والبغضاء ، أمر بالسعي وإصلاح ذات البين بين المتخاصمين وحث عليه ، وجعل درجته أفضل من درجة الصيام والصدقة والصلاة فقد قال صلى الله عليه وسلم : ( ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة ؟ قالوا : بلى يا رسول الله، قال:( إصلاح ذات البين) وقد دعا القرآن إلى سلوك سبيل الصلح قال تعالى: ﴿ وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ...  وأن تُصلِحوا وتتّقو ...فأصْلِحوا بَينهما ...فأصْلِحُوا بين أخويكم ... وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ﴾ .  هذه المجموعة من الآيات تتحدّث عن الصلح بين الناس   لفض المنازعات ، وحل المشاكل التي تحدث ، بدلاً من اللّجوء إلى القضاء ، إنّها دعوة إلى التعالي على الخلاف  ونسيان الخصومة ، وإحلال التفاهم والمحبّة بدلاً من التشاجر والشقاق ، فالصلح في منطق القرآن خير من الفرقة والخلاف وقطع العلاقة ، أو إنزال العقوبة والقصاص في الطرف الآخر ، لإنّه يريد أن يبني مجتمع الحبّ والتفاهم والمودّة والتسامح ، ولا يريد أن تكون العلاقة بين الناس قائمة على الخلاف والمواجهة والعقوبة والقطيعة والقصاص ، فدعا القرآن إلى التسامي عن صغائر القضايا والمشاكل قال تعالى : ﴿ فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)  الزخرف 89 . وقوله : ﴿ وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ ﴾ القصص 55. وقوله : ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضون ﴾ المؤمنون 3 ، وقوله : ﴿ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً [ الفرقان 72 . آياتٌ فيها دعوةٌ من رب غفور رحيم ، يريد الخير والصلاح للإنسان ، فدعاه إلى أن يعفو ويصفح ، ويلجأ إلى الصلح .. أورد السيوطي في الجامع الصغير حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه أبو هريرة: (من كظم غيظه ، وهو يقدر على إنفاذه ، ملأ الله قلبه أمناً وإيماناً)

انظروا إلى ثمار العفو التي نوه بها النبي صلى الله عليه وسلم إنها الأمن والإيمان ، الأمن مع الخَلْق ، والإيمان مع الحق .

وقد يتأثّر الإنسان بمواقف سلبية من أناس يحسن إليهم  يقابلون إحسانه بالإساءة ، فيحدث في نفسه رد فعل  فيرد على إساءتهم بالمثل ، فيقطع عنهم إحسانه ومعروفه  ويحرمهم من العون المادي أو الإسناد الأدبي الذي يقدِّمه لهم ، والقرآن يتسامى في منهجه التربوي على ردود الفعل تلك ، ويطالب الإنسان المسلم أن يتسامى إلى ما هو أرقى من ردّة الفعل ، التي يوقف فيها الإنسان عمل المعروف ، بسبب إساءة المسيئين ، جاء ذلك في قوله تعالى : ﴿ وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُو الفَضْـلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي القُرْبَى وَالمَسَاكِينَ وَالمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ النور22. وهكذا يثبِّت القرآن للإنسان منهجاً أخلاقياً يوقظ حسّه ووجدانه كلّما أسيء إليه ، ووقف بين قراري العفو والعقاب ، يخاطبه القرآن : إذاً اعفُ عن الآخرين واصفح ، لنقف أمام عظمة هذه الآية ، وما فيها من دلالات تربوية ، وقيم أخلاقية فريدة ذات دلالة تعبدية أخلاقية عظيمة ، وهي الربط بين العفو عن الناس وبين طلب العفو من الله سبحانه ، انّه تذكير للإنسان الذي يسيء ثمّ يستغفر ، ويرجو العفو والمغفرة من الله   إنّ القرآن يثير في نفسه الإحساس الأخلاقي فيقول له : كما انّك تريد العفو من الله ، فأعط العفو من نفسك للناس ، وكما أن الله يعفو عنك فاعف عن الناس ، ثم لِمَ تحبّ العفو من الله لنفسك ، ولا تمنحه من نفسك لغيرك ؟ وهنا سؤال : لماذا يعفو أناس وينتقم آخرون ؟  فإذا اتصل الإنسان بالله العفو الكريم ، فإنه يشتق منه بعضاً من هذا الخلق العظيم ، وإذا استقرت الرحمة في قلب الإنسان ، فإنها تفيض حتى على خصومه بالعفو والغفران ، فيصبح العفو أحب إليه من الانتقام .

وإذا علم الإنسان ، أن خصمه أخ له في الإنسانية وإذا انتقم منه خسره ، وإذا عفا عنه ربحه ، وإذا ما أيقن الإنسان أن العفو ، سلمٌ يرقى به إلى عزِّ الدنيا والآخرة ، آثر العفو على الانتقام ، لأن الانتقام ذلٍّ ومقت يلاحقانه حتى الممات ، ولأن يربح الإنسان أخاه بالعفو خير له من الدنيا وما فيها ، وعندئذ يرى في العفو غنماً ، وفي الانتقام غرماً .

وقد تحدّث القرآن الكريم عن العفو عن المسيء لتحقيق أهدافه في الحياة ، كما تحدّث عن الصفح  والصفح الجميل ، والإعراض عن الجاهلين فقال تعالى :    ﴿ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ّ﴾ وقد فهم النبي صلى الله عليه وسلم العفو بأن تعطي من حرمك ، وتصل من قطعك وتعفو عمن ظلمك .

والقرآن يريد أن يشيع روح المحبّة والتسامح ، لأنّ السعادة في المحبّة ، والشقاء في الحقد والكراهية ، فحيثما توجد المحبّة توجد السعادة ، والعقاب والقصاص، وإن كانا عدلاً لردع المجرمين والمنحرفين ، وإشاعة الأمن في المجتمع ، إلاّ أنهما لا يحققان المحبّة ، وكلاهما ضروري للحياة  ، العدل والتسامح ، ولذلك خاطب رسوله بقوله : ﴿ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ﴾ ليس صفح المتحامل الذي يضمر العداء ، ويخطط للكيد والانتقام ، بل دعوة الرّحمن إلى عباد الرّحمن ، الذين وصفهم  في قوله تعالى : ﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُـونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَماً ﴾ الفرقان 63 . لا كبرياء ولا كراهية ، بل تواضع وعفو عن الناس  ومقابلة الجاهلين المسيئين بالعفو والصفح  ، إنها دعوةٌ لبناء مجتمع العفو والتسامح ، مجتمع الصلح والإصلاح ، مجتمع الصفح الجميل   مجتمع الإعراض عن اللّغو ، مجتمع العدل والإحسان الذي نادى به القرآن  :   ﴿ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ ﴾ النحل90. فكما ثبت الله في هذه الآية مبدأي العدل والإحسان ، كأساس لبناء الحياة الإنسانية ، فقد نهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ، لحماية المجتمع من الفساد والظلم والجريمة والعدوان بقوله :     ﴿ وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنكَرِ وَالبَغْيِ ﴾ النحل90.  وقد ثبّت مبدأ الإحسان  وهو أن يحسن الإنسان إلى من أحسن إليه  كما في قوله تعالى : ﴿ هَلْ جَزَاءُ الإِحْسانِ إِلاَّ الإِحْسان ﴾ الرّحمن60 .وإلى من أساء إليه كما في قوله تعالى :   ﴿ وَالكَاظِمِينَ الغَيْظَ وَالعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ﴾ آل عمران 134. وإلى مَن لم يسئ ولم يحسن كما في قوله تعالى :﴿ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ ﴾ النحل90.  فالقرآن في كل موقع يدعو إلى الأخذ بالأحسن ، فها هو يدعونا أن نأخذ بأحسن ما يلقى إلينا من قول وموعظة وحديث ، وترك ما هو أقل حسناً ومصلحة قال تعالى : ﴿ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ﴾ الزّمر 17 . وفي موقع آخر نراه يدعـو إلى يدعو إلى الجدال بالتي هي أحسن بقوله : ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ النحل 125. ويركز القرآن الاهتمام بموضوع العفو عن المسيء والمعتدي لأن النفس البشرية تتأثّر بالإحسان وبالعفـو أكثر ممّا تتأثر بالعقاب والقصاص ، إلاّ فئة من مرضى القلوب ، الذين يقابلون الإحسان بالإساءة ، فأولئك ليس لهم من علاج إلاّ قوله تعالى : ﴿ وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ ﴾ البقرة 179 . وقوله : ﴿ وَلاَ تَأْخُذُكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ ﴾ النّور 2 . ومثل هؤلاء المسـيئين الذين يعفى عنهم ، ثمّ يعودون إلى الإساءة مستفيدين من العفو ، فانّ العقاب ضرورة تأديبية لهم ، وكف لهم عن ممارسة الجريمة والعدوان ، جاء ذلك في قوله تعالى : ﴿ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَام ﴾ المائدة 95. ويثني القرآن على الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس ويصفهم بأنّهم المحسنون ، فكظم الغيظ والعفو عن المسيء هو قمة الإحسان إليه ، وهو تعبير عن أعلى درجات التسامي عند من يعفو ويكظم الغيظ ويتنازل عن حقّه ، فان في هذه الطريقة أفضل الوسائل لحل المشاكل الاجتماعية ،  وترسيخ روابط المحبّة والاحترام ، وتطهير النفوس من الحقد والكراهية والتوتر وحالات القلق قال تعالى : ﴿ وَالكَاظِمِينَ الغَيْظَ وَالعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الُمحْسِنِينَ ﴾ آل عمران 134. لقد اقتضت سنة الله أن يقع الخطأ من الناس كما جاء في الحديث : ( كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون ) وإنا لنجد الخطأ في التعامل مع الخطائين ،فإذا أخطأ فلان ، انكبت عليه الناس ، لماذا ولماذا ؟؟ وكأنه معصوم من الخطأ  فما هي الطريقة المثلى في تصحيح الأخطاء ، جاء في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يرشد إلى علاج الأخطاء ، أيا كانت كبرت أو صغرت  فقد كان صلى الله عليه وسلم يعرض الصلح على المتخاصمين وقد باشر الصلح بنفسه ، حين تنازع أهل قباء فندب أصحابه وقال (اذهبوا بنا نصلح بينهم) وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول (ردوا الخصوم حتى يصطلحوا فإن فصل القضاء يحدث بين القوم الضغائن ) .

وكان السلف حريصون على هذا الخير ساعين فيه ، يقول الأوزاعي رحمه الله ( ما خطوة أحب إلى الله عز وجل من خطوة في إصلاح ذات البين ).

وينبغي أن يكون القصد من معالجة الأخطاء  وجه الله وليس التعالي والتشفي ، ولا السعي لنيل استحسان الناس ولفت أنظارهم إليه وإعجابهم به ، بل رد المخطئين إلى الشرع ، ومعالجة الأخطاء بالموعظة والتذكير بقدرة الله فعن أبي مسعود الأنصاري قال : كنت أضرب مملوكا لي فسمعت صوتا من خلفي يقول : اعلم أبا مسعود اعلم أبا مسعود ، فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : الله اقدر عليك منك عليه ، قال أبو مسعود : فما ضربت مملوكا بعد ذلك ) . إن هذا العمل الجليل كان وظيفة الأنبياء والعلماء و الصالحين ، ينبغي أن يكون هدفا ومقصدا لكل صالح مصلح ، محب للخير بين الناس ، لأنه يقطع النـزاع وينهي العداوة والبغضاء ويجلب المودة والتآلف بين القلوب .

إن الصلح بين المسلمين من الصدقات التي ينبغي أن يتقرب بها المؤمن ربه؛ شكراً له على أن عافاه في بدنه  كما في المتفق عليه أن النبي  قال : (كل سلامي من الناس عليه صدقة ، كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين اثنين صدقة) أي تصلح بينهما ، ومن أجل عظيم منافع الإصلاح بين الناس رخص النبي  في الكذب الذي يثمر الصلح فقال: ( ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرا ويقول خيرا ) ولم يرخص في شيء مما يقوله الناس- أي من الكذب- إلا في ثلاث  :  ( الحرب ، والإصلاح بين الناس ، وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها ) .

فاتقوا الله وأصلحوا بين إخوانكم عند الاختلاف   أصلحوا بينهم تحفظوا لهم دينهم ، فطوبى لمن كان مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر ، وطوبى لمن أصلح بين الناس ووفق بينهم ، وطوبى لمن استعمله الله في الخير .

فالكريم إذا قدر غفر ، وإذا رأى زلَّةً ستر ، فلا سؤدد مع الانتقام  وإن أولى الناس بالعفو أقدرهم عليه  وأقرب ما يكون العبد من غضب الله إذا غضب   وكفى بالمرء إثماً أن يغضب إذا قيل له اتـق الله ، ولا يُعرف الحليم إلا عند الغضب فقد قيل لخليفة عُرف بالحلم : إني آنف أن يكون في الأرض جهل لا يسعه حلمي ، وقيل لابن المبارك : اجمع لنا حسن الخلق في كلمة واحدة ، فقال : ترك الغضب ،  وقال الأحنف : إياكم ورأي الأوغاد فقيل له : وما رأي الأوغاد ؟ فقال : الذين يرون الصفح والعفو عاراً وحمقاً وقال بعضهم :

يستوجب العفو الفتى إذا اعترف  وتاب عما قد جناه واقترف

لقوله  :  قـل للذين كفروا     إن ينتهوا يُغفر لهم ما قد سلف

 

 

 

الدعوى إلى الصلح

لقد علمنا القرآن الكريم أن نزن الأمور بميزان العقل والحكمة ، وأن نسعى إلى تحقيق التآلف والإصلاح بالكلمة الطيبة ، فأوجب على المؤمنين أن يسارعوا إلى إصلاح ذات البين ، وأن يصلحوا بين المختصمين فقال تعالى : ﴿ إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون ﴾ وجاءت النصوص تحث على الصلح وترغب فيه لما فيه من حكم بالغة وما يحقق من مصالح وأهداف لعلّ من أهمها ضبط النفس وإيثار الدفع بالتي هي أحسن فقال تعالى : ﴿ ادفع بالتي هي أحسن ﴾ كما جاءت النصوص القرآنية تثني على الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس ، لأن كظم الغيظ والعفو عن المسيء من أفضل الوسائل لحل المشاكل وإحلال المحبة بين الناس فقال تعالى : ﴿ والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين ﴾ وقد أمر الله بما يعين على التقوى وهو الاجتماع والاعتصام بدين الله فقال تعالى : ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ﴾ كما نهى عن الفرقة والاختلاف فقال تعالى : ﴿ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ﴾ فقد أُمرنا باجتناب كل   ما يؤدي إلى التنافر والشقاق ، الذي يوجب العداوة والبغضاء  كما أُمرنا باجتناب الخلاف والتفرق  من خلال غرس أواصر المحبة والإخاء فيما بيننا ، لأن الخلاف والتفرق من الفتن التي حذر الله منها فقال تعالى : ﴿ وَٱتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً ﴾ .

 

 

الأمر بالإصلاح بين الناس

لقد أمر الإسلام بكل ما يؤلف القلوب   ونهى عن كل أسباب العداوة والبغضاء  وأمر بالسعي وإصلاح ذات البين بين المتخاصمين ، وجعل درجته أفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة قال صلى الله عليه وسلم  : ( ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة ؟ قالوا : بلى يا رسول الله، قال:( إصلاح ذات البين) ودعا القرآن إلى سلوك سبيل الصلح قال تعالى:] وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ...فأصْلِحُوا بين أخويكم [ تتحدث الآيات عن الصلح بين الناس لفض المنازعات ، وحل المشاكل التي تحدث ، بدلاً من اللّجوء إلى القضاء  وهي دعوة إلى التعالي على الخلاف  ونسيان الخصومة ، وإحلال التفاهم والمحبّة بدلاً من التشاجر والشقاق  فالصلح في منطق القرآن ، خير من الفرقة والخلاف  أو إنزال العقوبة والقصاص  ، لأن الإسلام يريد أن تكون العلاقة بين الناس مبنية على الحبّ والتفاهم والمودّة والتسامح ، ولا يريد لهذه العلاقة أن تكون قائمة على الخلاف والمواجهة والعقوبة والقطيعة والقصاص ، ولذلك جاءت الآيات القرآنية تدعو إلى الصفح والصلح قال تعالى : ] فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) الزخرف 89 . وقال صلى الله عليه وسلم   : (من كظم غيظه وهو يقدر على إنفاذه  ملأ الله قلبه أمناً وإيماناً) السيوطي في الجامع .  نعم قد يتأثّر الإنسان من إساءة البعض   فيرد على الإساءة بالمثل ، ولكن الله يريد منا أن نعفو ونصفح عن الآخرين قال تعالى : ] فاصفح عنهم وقل سلام[ ولقد أحسن القائل :

يستوجب العفو الفتى إذا اعترف  وتاب عما قد جناه واقترف

لقوله : قـل للذين كفروا  إن ينتهوا يُغفر لهم ما قد سلف

 وقد فهم النبي صلى الله عليه وسلم  العفو بأن تعطي من حرمك ، وتصل من قطعك وتعفو عمن ظلمك ، ويثني القرآن على الكاظمين الغيظ ، والعافين عن الناس ، ويصفهم بأنّهم المحسنون   فكظم الغيظ والعفو عن المسيء من أفضل الوسائل ، لحل المشاكل الاجتماعية قال تعالى :] وَالكَاظِمِينَ الغَيْظَ وَالعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الُمحْسِنِينَ [ آل عمران 134.

 وقد كان صلى الله عليه وسلم  يعرض الصلح على المتخاصمين ، وقد باشر الصلح بنفسه  حين تنازع أهل قباء ، فندب أصحابه وقال: (اذهبوا بنا نصلح بينهم) وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : "ردوا الخصوم حتى يصطلحوا ، فإن فصل القضاء يحدث بين القوم الضغائن " .

 

الدعوة إلى الصلح وذم الفرقة

قال تعالى : ﴿  وإما ينـزغنَّك من الشيطان نزغٌ فاستعذ بالله إنه سميع عليم ﴾ الأعراف200 على المسلم أن لا يحركه إلى الشر الغضب أو الشيطان الموسوس وقد جعل الله العفو بمثابة ثمن عظيم يأخذه صاحبه مقابل الإساءة المؤلمة التي يلقاها من غيره ، فهو جوهرةٌ ثمينةٌ جداً يضيفها إلى مكارم الأخلاق ، إضافةً إلى ذلك الثواب العظيم عند الله تعالى ، الذي لا يستطيع أن يملكه لو سلك مسلكاً آخر غير العفو   ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنه في التحلي بخلق الصفح ، وهو الإعراض عن مواجهة السيئة بمثلها ، فقد كان صلى الله عليه وسلم أجمل الناس صفحاً ، وفي تأديب الله لرسوله بهذا الأدب أنزل الله عليه قوله : ﴿ فاصفح الصفح الجميل ﴾ الحجر 15 . ومما أدب الله به رسوله صلى الله عليه وسلم أن يدفع بالتي هي أحسن وهو أدب على كل المؤمنين أن يتأدبوا به قال تعالى : ﴿  ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليٌ حميم ﴾ فصلت4 ، ومع ضبط النفس وإيثار الدفع بالتي هي أحسن ، تأتي وساوس الشيطان   فتحرك النفس إلى الانتقام ، وتوسوس بأن الشر لا يُدفع إلا بمثله ، وقد أبان الله الدواء الصارف لهذه الوساوس ، وذلك بالاستعاذة بالله من همزات الشياطين فقال تعالى : ﴿ وأما ينـزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم ﴾ فصلت 35 ، وقد طالبنا الإسلام أن نزن الأمور بميزان العقل والحكمة ، ونتخذ من الوسائل ما هو أقرب إلى تحقيق غاية الإصلاح ، والتآلف بين المسلمين   فأوصى بالعفو والصفح والمغفرة ، حتى يستحق الناس من الله الرحمة والغفران قال تعالى : ﴿ وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم ﴾ التغابن 64.  وأوجب على المؤمنين أن يصلحوا بين المختصمين فقال تعالى: ﴿ إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم ﴾ الحجرات 9 . كما حث الإسلام على نبذ الفرقة والخلاف ، ونهى عن كل ما يؤدي إلى إيقاع العداوة والبغضاء ، واتهام المؤمنين بالظنون والتجسس والغيبة ، وحذر من التحاسد والتباغض والتدابر والظلم والتحقير ، وقررّ أن كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه ، فلا يجوز للمسلم أن يؤذي أخاه ، لذلك جعل الإسلام المحبة بين الناس عنصراً من عناصر الإيمان ، لما ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا )  ،   أن الفرقة هي القاضية على الدين والدنيا قال تعالى  : ﴿ ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ﴾ الأنفال 46 لهذا على المسلمين أن يسارعوا إلى إصلاح ذات البين ، وتقوية الروابط الأخوية بالكلمة الطيبة التي تجمع ولا تفرق قـال تعالى :   ﴿ لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ﴾ النساء 114 .  

 

 

 

{

الصفح الجميل

جعل الله العفو بمثابة ثمن عظيم يأخذه صاحبه مقابل الإساءة المؤلمة التي يلقاها من غيره ، فهو جوهرة ثمينة جداً يضيفها إلى مكارم الأخلاق إضافةً إلى الثواب العظيم عند الله تعالى . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  ( إذا جمع الله الخلائق يوم القيامة ناد مناد : أين أهل الفصل ؟ فيقوم ناس فينطلقون سراعاً إلى الجنة فتتلقاهم الملائكة فيقولون لهم : إنا نراكم سراعاً إلى الجنة   فيقولون لهم : إنا أهل الفصل ، فيقولون لهم : ما كان فضلكم ؟ فيقولون : كنا أذا ظلمنا صبرنا  وإذا أُسيء إلينا عفونا   وإذا جُهل علينا حلمنا ، فيقال لهم ادخلوا الجنة أجر العاملين ) .  ولنا في رسول الله أسوة حسنة في التحلي بخلق الصفح وهو الإعراض عن مواجهة السيئة بمثلها  وقد أنزل الله في تأديب الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الأدب قوله : ﴿ فاصفح الصفح الجيل ﴾ الحج . ولقد أحسن القائل :

وقال نبينا فيما رواه      عن الرحمن في علم الغيوب

محالٌ أن ينال العفو لا    يمن به على أهـل الذنوب

وقد طالبنا الله أن ندفع بالتي هي أحسن فقال تعالى : ﴿ ولا تستوي الحسنه ولا السيئة  ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك و بينه عداوة كأنه وليّ حميم ﴾ .  ومع ضبط النفس وإيثار الدفع بالتي هي أحسن تأتي وساوس الشيطان ، فتحرك النفس إلى الانتقام، وتوسوس بأن الشرّ لا يُدفع إلا بمثله وقد أبان الله الدواء  الصارف لهذه الوساوس وذلك بالاستعاذة بالله من همزات الشيطان فقال تعالى : ﴿ وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم ﴾ فصلت 35 .لقد علمنا القرآن أن نزن الأمور بميزان العقل والحكمة ، وأن نسعى إلى تحقيق التآلف والإصلاح بالكلمة الطيبة  فأوجب على المؤمنين أن يسارعوا إلى إصلاح ذات البين ، وأن يصلحوا بين المختصمين فقال تعالى : ﴿ إنما المؤمنون إخوة فاصلحوا بين أخويكم ﴾ .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

استحباب العفو والصلح

قال الله تعالى مرغباً في الصلح والدعوة إليه : ﴿ إنما المؤمنون اخوة فاصلحوا بين أخويكم و اتقوا الله لعلكم ترحمون ﴾ الحجرات 1 . وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي أيوب: ( ألا أدلك على تجارة ؟ قال : بلى ، قال : صل بين الناس إذا تفا سدوا وقرِّب بينهم إذا تباعدوا  )  رواه الطبراني  وقد حث الإسلام على استحباب العفو ابتغاء أجر الله   قال تعالى : ﴿ فمن عفا واصلح فاجره على الله ﴾ . كما حرص على صيانة النفس من الحقد والغيظ ومن الضعف والذل ، وحرص على تعلّقها بالله ورضاه وأن يكون الصبر زادها الأصيل ، قال الله تعالى : ﴿ وَلَمَن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور ﴾ الشورى    وقد رغب في قبول اعتذار المعتذر واعتبر الصفح والمسامحة من المروءة والشهامة لما ورد في الخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا كانت القيامة وجثت الأمم بين يدي الله رب العالمين نودوا ليقم من كان أجرة على الله فلا يقوم إلا من عفا في الدنيا ) . ولقد أحسن القائل :

لولا التغاضي والتسامح ما مشى    في الأرض إنسان إلى إنسان

وقد قيل :" من عاشر إخوانه بالمسامحة دامت له مودتهم "

وكان رسول الله صلى الله علي وسلم يدرك أن بقاء هذه الأمة مرتبط بتآلف القلوب على الحب في الله ، فجاء النهي عن الاختلاف والتنازع صريحاً في قوله تعالى : ﴿ ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ﴾ .  وأخرج مسلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تختلفوا فتختلف قلوبكم  ) . ولكن هذا لا يعني أن لا يدافع الإنسان عن حقه أو يطالب به ، ولكنه الترغيب في الابتعاد عن المنازعة إذا كان الحق للغير ، وتجنب العناد والمكابرة والاستسلام للحق أهله .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

النهي عن التباغض والترغيب في الصلح

 

لقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم  المسلمين عن التباغض بين الإخوة وهو حرام لغير الله تعالى لأن المسلمين إخوة متحابون قال تعالى:﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾الحجرات10. فقد حرم الله على المؤمنين ما يوقع بينهم العداوة والبغضاء   فحرم الخمر والميسر قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ﴾ المائدة91  وحَرَّم المشي بالنميمة لما فيها من إيقاع العداوة والبغضاء  ورَخَّصَ في الكذب في الإصلاح بين الناس . ونهي عن التدابر وهو الهجران ، واعتبره  حراماً إذا كان من أجل الأمور الدنيوية   وهو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم  في البخاري ومسلم عن أبي أيوب ( لا يَحِلُّ لمسلم أن يَهْجُرَ أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيصد هذا ويصد هذا ، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام ) . أما إن كان الهجران في الله  أومن أجل أمر ديني ، فيجوز أكثر من ثلاثة أيام ، وقد نص عليه الإمام أحمد  ودليله قصة الثلاثة الذين خُلِّفوا في عزوة تبوك   وأمر النبي صلى الله عليه وسلم  بهجرانهم خمسين يوماً ، تأديباً لهم على تخلفهم ، وخوفاً عليهم من النفاق .

 

كما يجوز هجران أهل البدع المغلظة والدعاة إلى الأهواء والمبادئ الضالة . ويجوز هجران الوالد لولده ، والزوج لزوجته ، وما كان في معنى ذلك تأديباً ، وتجوز فيه الزيادة على الثلاثة أيام ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم  هجر نساءه شهراً.

 

وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم  بنشر التآخي بين المسلمين فقال صلى الله عليه وسلم  :( وكونوا عباد الله إخواناً ) أي اكتسبوا ما تصيرون به إخواناً من ترك التحاسد والتباغض والتدابر وتعاملوا فيما بينكم معاملة الإخوة ومعاشرتهم في المودة والرفق والشفقة والملاطفة والتعاون في الخير مع صفاء القلوب . ولا تنسوا أنكم عباد الله ، ومن صفة العبيد إطاعة أمر سيدهم ، بأن يكونوا كالإخوة متعاونين في إقامة دينه وإظهار شعائره  وهذا لا يتم بغير ائتلاف القلوب وتراص الصفوف قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ ، وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ﴾ الأنفال62،63 . ولابد في اكتساب الأخوة بأداء حقوق المسلم على المسلم، كالسلام عليه  وتشميته إذا عطس ، وعيادته إذا مرض   وتشييع جنازته ، وإجابة دعوته  والنصح له . ومما يزيد الأخوة محبة ومودة الهدية والمصافحة   ففي الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم  قال : ( تهادَوا فإن الهدية تذهب وَحَرَ الصدر ) أي غشه وحقده . وعلى المسلم نحو أخيه واجبات : منها تحريم ظلمه ، فلا يُدخل عليه ضرراً في نفسه أو دينه أو عرضه أو ماله بغير إذن شرعي ، لأن ذلك ظلم وقطيعة محرَّمة تنافي أخوة الإسلام . ومنها كتحريم خذلانه : والخذلان للمسلم محرم شديد التحريم ، لا سيما مع الاحتياج والاضطرار قال الله تعالى: ﴿ وَإِنْ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمْ النَّصْرُ ﴾ الأنفال 72 .  وروى أبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم   :

 

( ما من امرئ مسلم يخذل امرأ مسلماً في موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص من عرضه إلا خذله الله في موضع يحب نصرته ) . والخذلان المحرم يكون دنيوياً ، كأن يقدر على نصرة مظلوم ودفع ظالمه فلا يفعل. ويكون دينياً  كأن يقدر على نصحه عن غيه بنحو وعظ فلا يفعل . ومنها تحريم الكذب عليه أو تكذيبه : لأن من حق المسلم على المسلم أن يصدق معه إذا حدثه ، وأن يصدقه إذا سمع حديثه ، ومما يُخِلّ بالأمانة الإسلامية أن يخبره خلاف الواقع ، أو يحدثه بما يتنافى مع الحقيقة   وفي مسند الإمام أحمد عن النواس بن سمعان عن النبي صلى الله عليه وسلم  : (كَبُرَت خيانة أن تُحَدِّث أخاك حديثاً هو لك مُصَدِّقٌ وأنت به كاذب ) . ويحرم على المسلم أن يستصغر شأن أخيه المسلم وأن يضع من قدره ، لأن الله تعالى لما خلقه لم يحقره بل كرمه ورفعه وخاطبه وكلفه  فاحتقاره تجاوز لحد الربوبية في الكبرياء ، وهو ذنب عظيم . لأن الاحتقار ناشئ من الكبر . وللمسلم حرمة في دمه وماله وعرضه لقوله صلى الله عليه وسلم  : ( إن أموالكم ودماءكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ) . وهذه هي الحقوق الإنسانية العامة التي يقوم عليها بناء المجتمع المسلم الآمن ، وفي حديث أنس رضي الله عنه قال بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم  جالس إذ رأيناه يضحك حتى بدت ثناياه فقال عمر رضي الله عنه ما أ ضحكك يا رسول الله بأبي أنت وأمي فقال ( رجلان من أمتي جثيا بين يدي رب العزة تبارك وتعالى فقال أحدهما يا رب خذ لي مظلمتي من أخي فقال له عز وجل أعط أخاك مظلمته فقال يا رب لم يبق من حسناتي شيء فقال فليحمل من أوزاري قال: ففاضت عين رسول الله  صلى الله عليه وسلم  بالبكاء ثم قال : إن ذلك ليوم عظيم يحتاج الناس إلى من يتحمل عنهم من أوزارهم فقال الله عز وجل للطالب أرفع بصرك وأنظر في الجنان ، فرفع رأسه فقال يا رب أرى مدائن من فضة وقصور من ذهب مكللة باللؤلؤ ، لأي نبي هذا لأي صدّيق هذا لأي شهيد هذا ؟ قال : هذا لمن أعطى ثمنه قال : يا رب ومن يملك ثمنه ؟ قال : أنت تملكه  قال : ماذا يا رب ؟ قال : تعف عن أخيك قال : يا رب فإني قد عفوت عنه ، قال الله عز وجل خذ بيد أخيك فادخلا الجنة ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم فإن الله يصلح بين المؤمنين يوم القيامة ) ذكره ابن كثير في التفسير ومعنى قوله اتقوا الله أي بطاعته فراقبوه وأصلحوا الحال بترك المنازعة والمخالفة ، كثير من الناس يحقدون على بعضهم البعض  والحقد موضوع خطير جداً ، يتولد من الغضب، وهو يثمر الحسد ويؤدي إلى الكراهية الشديدة والبغض العنيف ، والرغبة في الانتقام وإنزال السوء بمن يكرهه الحاقد :  

 

الحقـد داء دفيـن ليـس يحملـه   إلا جـهـول ملـيء النفـس بالعـلل

 

مالي وللحقـد يشقينـي وأحملـه       إنـي إذاً لغبــي فـاقـد الحيـــل

 

سلامة الصدر أهنا لي وأرحـب لي   ومركب المجد أحلى لي مـن لزلل

 

فهذا التبرؤ أو هذا الشفاء من الحقد نعمة من الله سبحانه وتعالى، وليس أهنأ للمرء في الحقيقة ولا أطرد لهمومه ولا أقر لعينه من أن يعيش سليم القلب بريئاً من وساوس الضغينة وثوران الأحقاد ، ومستريحاً من نزعات الحقد الأعمى ،  روى البخاري في الأدب المفرد : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال : (لا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخوانا) والنهي للتحريم ، لا يجوز لك وحرام عليك أن تبغض أخاك المسلم . قال ابن رجب رحمه الله في شرح هذه اللفظة  : ﴿ لا تباغضوا ﴾ نهى المسلمين عن التباغض بينهم في غير الله تعالى بل على أهواء النفوس ، فإن المسلمين جعلهم الله إخوة ، والإخوة يتحابون بينهم ولا يتباغضون قال صلى الله عليه وسلم  : (والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم : أفشوا السلام بينكم) . وقد حرم الله على المؤمنين ما يوقع بينهم العداوة والبغضاء كما قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ﴾ المائدة 91 . وامتن على عباده بالتأليف بين قلوبهم كما قال تعالى: ﴿ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانا ﴾ آل عمران 103 . ولهذا المعنى حرم الله المشي بالنميمة لما فيها من إيقاع العداوة والبغضاء   ورخصت الشريعة في الكذب في الإصلاح بين الناس ، لدفع الحقد والبغضاء وإزالتها من القلوب قال تعالى: ﴿ لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ﴾ النساء 114.  ما أعظم أجر الإصلاح بين الناس ، روى مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال: (تفتح أبواب الجنة يوم الإثنين والخميس  فيغفر فيها لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً إلا رجل كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقال: أَنِظروا هذين حتى يصطلحا) . فسلامة الصدر! مسألة عظيمة فضلها كبير وقد بلغ رجل من الصحابة أن يكون مبشراً بالجنة وهو في الدنيا بسبب هذه الخصلة في هذه القصة العظيمة التي رواها الإمام أحمد وغيره رحمه الله وهو حديث صحيح ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (كنا جلوساً مع النبي صلى الله عليه وسلم  فقال: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة، فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وضوئه قد تعلق نعليه في يده الشمال، فلما كان الغد قال النبي صلى الله عليه وسلم  مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى، فلما كان اليوم الثالث قال النبي صلى الله عليه وسلم  مثل مقالته أيضاً، فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأولى، فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم  تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص فقال له: إني لاحيت أبي -أي: خاصمت أبي- فأقسمت ألا أدخل عليه ثلاثاً، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي فعلت، قال: نعم، قال أنس راوي الحديث: وكان عبد الله -أي ابن عمرو - يحدث أنه بات معه تلك الليالي الثلاث فلم يره يقوم من الليل شيئاً، غير أنه إذا تعارَّ -استيقظ أثناء الليل- وتقلب على فراشه ذكر الله عز وجل وكبر حتى يقوم لصلاة الفجر، قال عبد الله غير أني لم أسمعه يقول إلا خيراً فلما مضت الثلاث ليالي وكدت أن أحتقر عمله قلت: يا عبد الله! إني لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجر) ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم  يقول لنا ثلاث مرار: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة ، فكنت أنت في المرات الثلاث ، فأردت أن آوي إليك لكي أنظر ما عملك فأقتدي به   فلم أرك تعمل كثير عمل ) . فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  فقال الرجل: (ما هو إلا ما رأيت ، فلما وليت دعاني فقال : ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشاً ، ولا أحسد أحداً على خير أعطاه الله إياه ، فقال عبد الله بن عمرو بن العاص : هذه التي بلغت بك وهي التي لا نطيق).

 

كانوا يطهرون قلوبهم من كل حقد وحسد   ولا يجعلون له موضعاً في نفوسهم مهما حصل فكانوا يسامحون ويغفرون ، قال الذهبي رحمه الله في ترجمة أبي إسحاق الشيرازي قيل: إن أبا إسحاق نزع عمامته وكانت بعشرين ديناراً   وتوضأ في دجلة فجاء لص فأخذها ، وترك عمامة رديئة بدلاً منها ، فطلع الشيخ فلبسها وما شعر ، حتى سألوه وهو يدرس فقال بكل بساطة : لعل الذي أخذها محتاج . كانوا كذلك لأن الجنة لا يصلح أن يدخلها إلا من كان قلبه سليماً نظيفاً تماماً ، فإن الله لا يدخل أهل الجنة الجنة إلا بعد أن ينقوا ويهذبوا وتكون صدورهم سليمة  كما قال الله عز وجل: ﴿ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ﴾ الحجر 47 . وذكر الله هذا الدعاء على لسان المؤمنين :  ﴿ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا ﴾ الحشر 10. وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال مبيناً صفة أهل الجنة : ( أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والذين على إثرهم كأشد كوكب دري في السماء إضاءة ، قلوبهم على قلب رجل واحد لا اختلاف بينهم ولا تباغض ولا تحاسد) .

 

فنحن مطالبين ألا نغضب وأن نكظم الغيظ : ﴿ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ آل عمران134 . لكن لا يستطيع الإنسان في الحقيقة ألا يحزن ولا يغضب من أي تصرف مهما حصل من أي واحد ، لا يمكن بل إن الصحابة رضوان الله عليهم كان بعضهم يجد على أخيه في نفسه ، نتبين ذلك في قصة زواج حفصة ، لما تأيمت من زوجها بـالمدينة ، قال عمر بن الخطاب : أتيت عثمان بن عفان فعرضت عليه حفصة - طبعاً هذا من عادة المجتمع الأول في بساطته ونظافته وسعيهم للعفاف ، أن كان الرجل يعرض ابنته على من يراه مناسباً ، ليس عيباً أبداً وليس فيها شيء مطلقاً ، بخلاف حساسية الناس اليوم ، يقولون : عيب أن تعرض أختك أو ابنتك على أحد - قال: فعرضت عليه حفصة ، فقال : سأنظر في أمري ، يفكر ، فلبثت ليالي ثم لقيني فقال عثمان : قد بدا لي ألا أتزوج يومي هذا ، قال عمر : فلقيت أبا بكر الصديق فقلت إن شئت زوجتك حفصة بنت عمر ، فصمت أبو بكر   ولم يجبه بشيء   وعرضها على عثمان ، فقال : بدا لي ألا أتزوج اليوم  وانكسر وشكا حاله الى النبي صلى الله عليه وسلم  فقال يتزوج حفصة من هو خيرٌ من عثمان  ويتزوج عثمان من هو خيرُ من حفصة ) ثم خطبها فزوجه عمر وزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم  عثمان با بنته رقيّة بعد وفاة أختها ، ولما زوّجها عمر لقيه أبو بكر فاعتذر وقال : لا تجِدْ عليّ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم  كان قد ذكر حفصة ، فلم أكن لأفشي سرّه   ولو تركها لتزوجتها ) هل بقي في نفس عمر شيء ، بالطبع لا ، بسبب المصارحة.  فالصحابة كان يحصل بينهم مواقف ، ولكن سرعان ما يفيئون ويتغافرون .  فمن علاجات إزالة الأحقاد : الاعتذار والمعاتبة وهما علاجان مهمان. المعاتبة ممن أخطأ عليه يعاتب أخاه ، ويصارحه أولاً بأول ، وأن يعفو ويتغافل عما لا يعجبه ويتأسى بقله تعالى : ﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ فصلت 34 . لا أشك أنك تطلب الجنة ، ولا تنال الجنة بشيء أعظم من سلامة القلب قال تعـالى : ﴿ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ الشعراء 89 .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الدعوة إلى الصلح وذم الفرقة

قال تعالى :﴿ وإما ينـزغنَّك من الشيطان نزغٌ فاستعذ بالله إنه سميع عليم ، إن الذين اتقوا إذا مسهم طائفٌ من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون﴾ الأعراف200 . ،  النـزغ لا يكون إلا في الشرّ ، والمطلوب من المسلم أن لا يحركه إلى الشر أو يستخفه إلى فعله غضب أو شيطان موسوس ، وقد جعل الله العفو بمثابة ثمن عظيم يأخذه صاحبه مقابل الإساءة المؤلمة التي يلقاها من غيره   فهو جوهرةٌ ثمينةٌ جداً يضيفها إلى مكارم الأخلاق ، إضافةً إلى ذلك الثواب العظيم عند الله تعالى  الذي لا يستطيع أن يملكه لو سلك مسلكاً آخر غير العفو. ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوةٌ حسنه في التحلي بخلق الصفح وهو الإعراض عن مواجهة السيئة بمثلها ، فقد كان صلى الله عليه وسلم أجمل الناس صفحاً يتلقى من قومه الأذى فيعرض عن تعنيفهم ويعود إلى دعوتهم ونصحهم كأنما لم يلق منهم شيئا ، وفي تأديب الله لرسوله بهذا الأدب أنزل الله عليه قوله : ﴿ فاصفح الصفح الجميل ﴾ الحجر 15 . ومما أدب الله به رسوله صلى الله عليه وسلم أن يدفع بالتي هي احسن وهو موجه أيضاً لكل المؤمنين قال تعالى : ﴿ ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليٌ حميم ﴾ فصلت 4. ومع ضبط النفس وإيثار الدفع بالتي هي أحسن تأتي وساوس الشيطان ونزغاته فتحرك النفس إلى الانتقام ، وتوسوس بأن الشر لا يُدفع إلا بمثله وقد أبان الله الدواء الصارف لهذه الوساوس ، والنـزغات : وهو الاستعاذة بالله من همزات الشياطين فقال تعالى : ﴿ وأما ينـزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم ﴾ فصلت 35.

كما أوصى الإسلام بالعفو والصفح والمغفرة حتى يستحق الناس من الله الغفران والرحمة فقال تعالى : ﴿ وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم ﴾ التغابن 64. وقد علمنا الإسلام أن نزن المواقف بميزان العقل والحكمة ، ونتخذ من الوسائل ما هو أقرب إلى تحقيق غاية الإصلاح والتآلف بين المسلمين وأجب على المؤمنين أن يصلحوا بين الذين يختصمون منهم فقال تعالى : ﴿ إنما المؤمنون اخوة فأصلحوا بين أخويكم ﴾ الحجرات 9 . وقد أهتم الإسلام بوحدة جماعة المسلين وحرص على أن لا يدب الخلاف بينهم ولا تقع الفرقة بين صفوفهم فجاء النهي عن القبائح الاجتماعية التي من شأنها بذر بذور الفرقة والعداوة والبغضاء وهي : السخرية واللمز والتنابز بالألقاب واتهام المؤمنين بالظنون والتجسس والغيبة للمؤمنين والمتقين . كما حذر من التحاسد والتباغض والتدابر والظلم والتحقير ، وقررّ أن كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه ، فلا يجوز للمسلم أن يؤذي أخاه المسلم أو يعتدي عليه ، وقد جعل الإسلام المحبة بين الناس عنصراً من عناصر الإيمان أو ثمرة من ثمراته ، لما ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :

( والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا ، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم ؟ أفشوا السلام بينكم ) . وأبان الرسول صلى الله عليه وسلم أن من ثمرات حب الله ورسوله والحب في الله بين المؤمنين أن يكافئ الله المحبين بالحب فيحبهم الله ويظلهم يوم القيامة في ظله يوم لا ظل إلا ظله ويؤويهم إلى كنف محبته ، ففي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله تعالى يقول يوم القيامة : أين المتحابون بجلالي ؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي ) .  كما أن  الإسلام بطبيعته يجعل من المسلمين كتلة واحدة ويجمعهم على عقيدة واحدة وعبادة واحدة وشريعة واحدة وغاية واحدة  وأي صدعٍ في هذه الوحدة وأي هزةٍ في هذا الكيان يعتبر جريمة ، لأن الفرقة هي القاضية على الدين والدنيا قال تعالى : ﴿ ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ﴾ الانفال 46 . وقد أعلن الإسلام براءته من دعاة التفرقة فقال تعالى : ﴿ إن الذين فرٌَّقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء ﴾ الأنعام 159 . لهذا على المسلمين أن يسارعوا إلى إصلاح ذات البين  وتقوية الروابط الأخوية بالكلمة الطيبة التي تجمع الشتات وتوحد الكلمة وترأب الصدع فال تعالى : ﴿ لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ﴾ النساء 114 .   

 

 

 

                      

                                              

               

                

 

الصلح في ضوء القرآن والسنة

الصلح هو : كلّ أمر يوفق به بين الناس ، ويتحقق من خلا له رفع النزاع ، أو وقف القتـال ، أو قطع الخصومات الواقعة أو المحتملة ، وفق الشروط التي جاءت في الكتاب والسنة . والصلح من أعمال البر العظيمة التي أمر الله بها ، وحث عليه النبي صلى الله عليه وسلم في سـنته ، وجعـل في تحقيقه خيرية مطلقة ، ووعد القائمين به في الناس بالأجر العظيم ، وحكم القيام بالصلح بين الناس من فروض الكفاية ، وحكم قبول الأطراف المتنازعة للـصلح يدور بين الأحكام التكليفية الخمسة ، فقد يكون واجباً ، وقد يكون مستحباً ، ومباحاً ، ومحرماً ، ومكروهاً . ينقسم الصلح في القرآن الكريم إلى قسمين : صلح بين المسلمين

والكافرين ، وصـلح بـين المؤمنين ، وهو على ثلاثة أنواع هي : صلح بين طائفتين من المؤمنين ، وبين فردين من المـؤمنين ،وبين فرد وطائفة من المؤمنين .

 وللصلح بين المؤمنين شروط يلزم تحققها فيه ليكون معتبراً شرعاً ، وله أحكام خاصة أبرزها : قتال الفئة الرافضة للصلح ، وجواز الكذب لأجله ، وتـأخير الصلاة عن أول وقتها وجمعها ، وترك الأيمان والحنث في اليمين ، ودفع الزكاة للمصلح الغارم .لإنهاء الخصومات، ورد الحقوق ، وتأليف القلوب، واجتماع الكلمة ، وحقن الدماء ، والحاجة الماسة لموضوع الصلح ؛ لما نراه اليـوم في   المجتمعـات المسلمة من كثرة الخلافات والنزاعات ، والعداوة والبغضاء والحقد والحسد بين أفراد وفئات وطوائف الأمة بما يـدعو إلى القلـق والـسعي الجـاد للـصلح والإصلاح ؛ بما يجمع الكلمة ، ويوحد الصف ، ويقطع النـزاعـات ، ويـبني جسور الوحدة والوئام ،  ويحقق سعادة الفرد والجماعة ، ويبسط سيادة الأمـة المسلمة

ويشفي هذا الداء الذي عم بلاؤه ، وانتشر شره حتى وصل إلى الدعاة وطلبة العلم الشرعي ، وبقدر تفش ي الداء يصبح نشر علاجـه مطلبـاً عقليـاً وشرعياً  وكم رأينا من دول غنية عريقة ، هدمت بسبب الخلافات العرقية ، أو المذهبية   أو السياسية ، وجماعات تفرقت ، وجهود تبددت ، ودماء أزهقت ، وأعراض انتهكت ، وأسر تشتت ؛ وذلك في ظـل النـزاعـات المـستمرة ، والحروب المستعرة  حتى أصبحت الأمة لقمة سائغة لأعدائها ممـا يـستدعي عملاً جاداً في إصلاح ذات البين ، وفق رؤية شرعية متكاملة ، تطفـئ نـار هـذه الحروب ، وتجمع شتات تلك القلوب . لذا لا بد من نشر ثقافة الصلح والوئام بين الناس ، وتكثير سواد المصلحين ، لأنه من خصال المروءة ، وهدي الأنبياء ، وشيم الصالحين ، ومحاربـة الاخـتلاف والتباغض والتقاطع بين المؤمنين ؛ التي هي مـن معـالم الجاهليـة ، وذلك بجعله من الأعمال الصالحة الحاضـرة في عقـول المـؤمنين ، فيبذلون له المال  ويقطعون له الوقت ، ويخصصون لـه المؤسـسات العلميـة والخيرية التي تنشر فقهه وتوفر مقومات نجاحه ، بذلك تتحقق سلامة المجتمع من الانهيار، وحفظ قلوب العباد من المشاحنات ، إذ أن دور الصلح في فـض  النزاعات لا يقل عن دور القضاء بل يزيد عليه أحياناً ، فالقضاء يعـتني بـرد الحقوق ، والصلح يعتني فيه برد القلوب وفي الصلح مزايا وفوائد لا تتـوفر في غيره ؛ ولذا أُثر عن عمر أنه قال :" ردوا الخصوم حتى يـصطلحوا ، فـإنَّ  فصل القضاء يورث بينهم الضغائن "

وإذا كان الخلاف داء ونتيجة النزاع فشل ، فالصلح دواء ونتائجه رحمة وقوة .

 وقد جاء الأمر بالصلح في القرآن الكريم مؤكداً للأفراد والجماعات عامة ، في كلِّ مـا يقـع بينهم من نزاع ، ومبيناً لهم أهمية الصلح والإصـلاح بـين النـاس ومـنزلته  التي تتلخص في الجوانب الآتية : أولاً : أمر الله المتكرر بالصلح : أمر الله تعالى في كتابه العزيز المؤمنين بإصلاح ذات بينهم بـصورة دائمـة تحافظ عليهم كجماعة متآلفة ، متحابة ، متعاونة في أربعة مواضع ، ثلاثة منـها جاءت في سورة الحجرات و، واحدة في سورة الأنفال ، ولا شك أن الله تعـالى لا يأمر عباده إلا بما فيه صلاحهم ولو جاء الأمر في موضع واحد لكان كافياً ، فكيف إذا تكرر الأمر به والترغيب فيه ، قال تعالى: ﴿ فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينمكم ﴾ الأنفال١ :قال السعدي :" أي أصلحوا ما بيـنكم مـن التشاحن والتقاطع والتدابر بـالتوادد والتحـاب والتواصـل ،فبذلك تجتمـع كلمتكم ، ويزول ما يحصل ـ بسبب التقاطع ـ مـن التخاصـم والتـشاجر والتنازع ، ويدخل في إصلاح ذات البين تحسين الخلق لهم ، والعفو عن المسيئين منهم فإنه ـ بذلك ـ يزول كثير ممـا يكـون في القلـوب مـن البغـضاء والدابر فال تعالى : ﴿ وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فاصلحوا ىبينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله ، فإن فاءت فأصلوا بينها بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين ، إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون ﴾ الحجرات 9 .  

قال السعدي :" هذا متضمن لنهي المؤمنين عن أن يبغي بعضهم على بعض ويقتل بعضهم بعضا ، وأنه إذا اقتتلت طائفتـان من المؤمنين فإن على غيرهم من المؤمنين أن يتلافوا هذا الشر الكبير بالإصـلاح بينهم والتوسط على أكمل وجه يقع به الصلح ، ويسلكوا الطرق الموصـلة إلى ذلك فإن صلحتا فبها ونعمت ، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقـاتلوا الـتي تبغي حتى تفيء إلى أمر االله أي ترجع إلى ما حد االله ورسوله من فعل الخير وترك الشر الذي من أعظمه الاقتتال  

وقد حـث النبي صلى الله عليه وسلم  في سنته المؤمنين على ما أمرهم الله به في كتابه كما جاء في حديث أَنسِ بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال ) بل رغب الله المؤمنين في الصلح قبل وقوع ما كان مخوفاً من حدوثه قـال تعــالى : ﴿ فمن خاف من موصٍ جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم ﴾ لبقرة : ١٨٢ ، (قال ابن جرير الطبري : " فخوف الجنف والإثم من الموصي إنما هو كائن قبل وقوع الجنف والإثم فأما بعد وجوده منه فلا وجه للخوف منه  

ثانياً : تولي النبي صلى الله عليه وسلم لأمر الصلح بنفسه :

 مما يدل على منـزلة الصلح وأهميته قيـام الـنبي بنفـسه في الـصلح والإصلاح بين الناس ، حتى يقتدي به الخلق في حيا تهم ، وقد بـوب الإمـام البخاري في صحيحه كتاب  باب ما جاء في الإصلاح بين الناس إذا تفاسدوا وقول الله تعالى : ﴿ لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة او معروف أو إصلاح بين الناس ﴾ النساء 114 . وخروج الإمام إلى المواضع ليصلح بين الناس بأصحابه ، وأورد في ذلك أحاديث عدة منها حديث سعد بن سهل قال :( بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بني عمر بن عوف بقباء كان بينهم شيء فخرج يصلح بينهم في أناس من اصحابه ) وفي رواية قال : ( أن اهل قباء اقتتلوا حتى تراموا بينهم بالحجارة ، فأُخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال : اذهبوا بنا نصلح بينهم )   

 ثالثاً: مدح القرآن والسنة للمصلح بين الناس :

 مما يؤكد فضل الصلح أن القرآن الكريم جعل من أعظم ما يتناجي به الناس إصلاح ذات البين قال تعالى : ﴿ لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ﴾ مدح النبِي المصلح بين الناس ،كما في حديث أبي هريرة  عـن الـنبي صلى الله عليه وسلم قال:( ما عمل ابن آدم  شيئاً أفضلَ من الصلاة ، وإصلاح ذات البين ، وخلـقٍ حسنٍ ) وقال عن الحسن بن علي : ( ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين ) وفي هذا حثٌ  من النبي صلى الله عليه وسلم للصلحِ بين الناس وبشارة للحسن أنه سيصلح االله بـه بين الفئتين المختلفتين ، وقد وقع كما أخبر صلى الله عليه وسلم وتحققت به مـصالح عظيمـة للإسلام والمسلمين حتى سموا ذلك العام بعام الجماعة ، لما تحقق بذلك الـصلح من اجتماع كلمتهم وحقن دمائهم ، قال ابن حجر " وفي هذه القصة من الفوائد علم من أعلام النبوة ، ومنقبة للحسن بن علي فإنه ترك الملك لا لقلة ولا لذلـة

ولا لعلة ؛ بل لرغبته فيما عند الله لما رآه من حقن دماء المسلمين فراعـى أمـر الدين ومصلحة الأمة ، وفيه فضيلة الإصلاح بين الناس ولا سيما في حقن دماء المسلمين "

رابعاً : إطلاق الخيرية في الصلح :

 مما يدل على فضل الصلح وأهميته أن جعل الله فيه خيرية مطلقـة في كـل نزاع يحدث قال تعالى : ﴿ وإن امراةٌ خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا صلحا والصلح خير ﴾النساء:١٢٨ ، وقـال ابـن جـزئ الكلبي قوله ﴿ والصلح خير ﴾ لفظ عام مطلق بمقتـضى أن الـصلح الحقيقي الذي تسكن إليه النفوس ويزول به الخلاف خـير علـى الإطـلاق ، ويندرج تحت هذا العموم أن صلح الزوجين خير من الفرقة "

سادساً : الوعد بالأجر العظيم لمن يصلح بين الناس :

 ومما يدل على فضل الصلح بين الناس ما وعد االله به المصلحين من أجر عظيم قال تعالى ﴿ لا خير في كثير من نجواهم ... ﴾ النساء:١١٤ ، قال ابن جرير الطبري في قوله تعالى : ﴿ ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله ﴾ ومن يأمر بصدقة أو معروف من الأمر أو يصلح بين الناس ابتغاء مرضاة الله يعني طلـب رضـا الله ، بفعله ذلك ﴿ فسوف نعطيه اجرا عظيما ﴾ فسوف نعطيه جزاءً لما فعل 

 ذلك عظيماً ، والساعي في الإصلاح بين الناس أفضل مـن القانـت بالـصلاة والصيام والصدقة " وقد جاء عن ابي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة قالوا بلى قال ك صلاح ذات البين ، فإن فساد ذات البين هي الحالقة ) رواه الترمذي ، فيه فضل الصلح بما يجعل كل مسلم يسعى دائماً في الإصلاح بين الناس كعمل عظيم تنتفع به الأمة ويزداد به عبودية وقربة ، وقد جاء عن عبد االله بن عمـرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أفضل الصدقة إصلاح ذات البين ) ، وقد جـاء عن أبي أيوب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له :( ألا أدلُك  على صدقة يحب الله موضعها ؟ قال :قلت  : بلى بأبي أنت وأمي ! قال تصلح :بـين النـاسِ إذا تفاسـدوا ، وتقرب بينهم إذا تباعدوا ) ، وروى البيهقي كذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( يا أبا أيوب ألا أخبرك بما يعظم الله به الأجر   ويمحو به الـذنوب ؟ تمـشي في إصلاح الناس إذا تباغضوا وتفاسدوا فإنها صدقةٌ يحب الله موضـعها ) فالإصلاح بين الناس من أعمال البر العظيمة التي حث عليها الـشرع الحنيـف ورتب عليها الأجر العظيم ، روى مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد أنه قـال : سمعت سعيد بن المسيب يقول : آلا أخبركم بخير مـن كـثير مـن الـصلاة والصدقة ؟ قالوا بلى : قال إصلاح ذات البين ، وإياكم والبغضة فإنها هي الحالقة ) موطأ مالك ، وقال الأوزاعي : " ما خطوة أحـب إلى الله مـن خطـوة في إصلاح ذات البين ، ومن أصلح بين اثنين كتب الله له براءة مـن النـار " وفضل الصلح على الصلاة والصدقة من حيث عموم النفع وتعديه ، ولما يحصل به من اجتماع الكلمة ، وسكون الفتنة ، والله أعلم  .  

سابعاً : الصلح يقي من مهلكات التنازع :  قد جاء التأكيد على الصلح في القرآن الكريم من خلال الأدلة الكثيرة التي تبين عواقب نقيضه وهو الاختلاف و النزاع ، قـال تعـالى:﴿ ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ﴾  قال العلماء امر الله في هذه الآية بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ونهى عن الاخـتلاف والتنـازع ، وأخبر أن الاختلاف والتنازع يؤدي إلى الفشل وذهاب القوة ، وقوله في هـذه الآية ﴿ وتذهب ريحكم ﴾ أي قوتكم . 

 المطلب الثالث : حكم الصلح و قبوله :

أولاً : حكم الصلح بين الناس: القيام بالصلح بين الناس من فروض الكفاية التي أمر الله بها وحـث عليهـا بصورة عامة في قوله تعالى :﴿لا خير في كثير من نجواهم..﴾. وبصورة خاصة بين المؤمنون في قوله تعالى : ﴿ وإن طائفتان من المؤمنين ... ﴾ قال العلماء:" الحصر بإنما في قوله ﴿إنما المؤمنون إخوة ﴾   مع تخصيص المؤمنين بالـذكر يفيـد أن أمـر الإصلاح ووجوبه إنما هو عند وجود الأخوة في الإسـلام ، وفي تخصيص الاثنين بالذكر لإثبات وجوب الإصلاح فيما فوقهما بطريـق الأولى لتـضاعف الفتنة والفساد فيه "

 ثانياً : حكم قبول الصلح : إن حكم قبول الصلح في الشريعة الإسلامية يدور مع الأحكام التكليفيـة الخمس ، فقد يكون قبول الصلح واجباً ورفضه محرماً خاصة إذا ترتبت عليـه مصلحة راجحة وذلك مثل القتال الذي يقع بين طائفتين من المؤمنين ، قال تعالى: ﴿ وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فاصلحوا ... ﴾

 وذلك بقبول الصلح ، فإن قبلت بـه فقـد أمـر الله بقولـه:﴿ فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل ﴾ وقال : ﴿ فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم ﴾ الأنفال 1 ، وقد يكون محرماً إذا تضمن شرطاً باطلاً ، أو ترتبت عليه مفاسد بينة مثـل إجبار الزوجة على الاستمرار في الحياة الزوجية مع زوج لا تأمن معه على دينها ونفسها

 وقد يكون الصلح مندوباً كالصلح في القتل العمد بالعفو أو قبول الديـة  وكالصلح الذي يقع في الأموال ، وذلك لأن الشارع رغب فيه ، وحث عليه  ومثل هذا الصلح " بطبيعته يتضمن تنازلاً عن بعض الحق في معظم الأحوال 

والشخص لا يجبر على التنازل عن حقه ، وإنما يكون هذا عن طواعية واختيار، وعلى سبيل التسامح "  وتحري العدل في الصلح ، فإن أصلح صلحا ظالما جائرا فإنه لم يفعل بذلك ما أمر الله به في الصلح ، قال ابن القيم : " وكثير من الظلمة المصلحين يصلح بين القادر الظالم والخصم الضعيف المظلوم بما يرضى به القادر صاحب الجاه ويكون له فيه الحظ ويكون الإغماض والحيف فيه على الضعيف ،ويظن أنه قد أصـلح ولا يمكِّـن المظلوم من أخذ حقه ، وهذا ظلم بل يمكِّن المظلوم من استيفاء حقه ثم يطلـب إليه برضاه أن يترك بعض حقه بغير محاباة لصاحب الجاه " .

ثانياً : أن لا يكون في الصلح تحريم حلال أو تحليل حرام :

 من الشروط التي يجب توفرها في الصلح أن يلتزم بالجوانب الـشرعية ، وأن لا يكون هنالك تعدي لحدود االله ، وقد جاء عن أبي هريرة والجهني قالا إن رجلاً من الأعراب أتى النبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله أنشدك الله إلا قضيت بكتاب الله فقال : الخصم ... ) رواه البخاري ، قال ابن حجر :"وفيه أن الصلح الفاسد منتقض ، والمأخوذ عليه مستحق الرد " وقال :" إن كلَّ شرط وقع فيه رفع حد من حدود االله فهـو باطل ، وكل صلح وقع فيه فهو مر دود "

 ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( الـصلْح جائز بين المسلمين إلا صلحاً حرّم حلالا أو أحل حراما ، والمسلمون على شروطهم إلا شرطا حرّم حلالا أو أحل حراما ) رواه البخاري .  

 ثالثاً : أن لا يكون المصالح عنه حق الله ، فكل ما جاء في موضوع الصلح وتحدث عنه الفقهاء هو فيما يتعلق بحقوق الآدميين لا غيره ، وهو الذي يصح فيه الـصلح ويندب إذا تم وفق ما جاء به الكتاب والسنة ، وإذا كان هنالك تداخل بين حق الله وحق العبد مثل القصاص يرجح الحق الغالب ، وهو حق العبد ، فيجوز فيـه الصلح ، وإذا كان حق الله هو الغالب ،كالقذف فلا يجوز فيه الصلح .

رابعاً : تراضي الأطراف علي صيغة الصلح :

 اشترط العلماء في الصلح تراضي الأطراف على صيغته النهائية ، وذلك لأن الصلح إذا لم يتحقق معه الصلاح وإصلاح ذات الـبين ، وقطـع الخـصومة ، ووقف القتال ، ورفع النزاع فليس بصلح ، إذ علة مشروعيته تحقيق التـصالح

والاجتماع وإزالة التنازع والخصومات ، ولذلك تحدث الفقهـاء عـن أهميـة الإيجاب والقبول الدالين على توافق الإرادتين بين المتصالحين ،لأن التراضي أساس

 لإنهاء الخصومة وقطع الـــنزاع ؛ ولذا قال الكاساني : " فـإذا وجـد الإيجـاب والقبول فقد تم الصلح "  ولابد أن تكون هذه الإرادة بينهما اختيارية وعن قناعة ورضا إذ لا يصح الصلح بالإكراه ، وذلك لأن أمر الصلح هو أمر عفـو

 وتسامح بين الجميع قال تعالى : ﴿ إن يريدا إصلاحا ..﴾

 خامساً : توفر الأهلية والولاية في كلٍّ من المتصالحين :

" لا خلاف بين الفقهاء في أنه لا بد لصحة عقد الصلح أن يكون كل واحد

 من طرفيه أهلاً للتعاقد " ، فلا بد من توفر الأهلية الكاملة بين المتـصالحين  

سادساً : أن تكون بنود الصلح معلومة : بنود الصلح لابد أن تكون معلومة لجميع الأطراف ، ولا يصح ما يسمى اليوم بالبنود السرية التي تكون فقط بين بعض أطراف الصلح دون بعض بما يـزرع الشكوك ، ويفتح باب النـزاع مرة أخرى ، قال الشافعي :" أصل الصلح أنـه بمنزلة البيع فما جاز في البيع جاز في الصلح ، وما لم يجـز في البيـع لم يجـز في الصلح   "

  أما ما يتعلق بالصلح من أحكام خاصة :  الكذب من أجل الصلح :

 من الأحكام الخاصة في الشريعة الإسلامية الترخص في الكذب مـن أجـل الصلح ، وذلك لأن الساعي في الصلح يسعى في الخير والإصلاح لا في الـشر والفساد ، ولأن المصلح يريد أن تكون أحوال العباد مؤتلفة ومتفقة ، وهذا من أعظم ما يحبه الله ، فهو كذب لا يسقط به حق ، ولا يثبت به باطل ، ولذا فقد قال صلى الله عليه وسلم :( ليس الكذّاب الذي يصلح بين الناس ويقول خيرا وينمي خيرا )

 

لا يحنث في يمينه فنهاهم االله أن تكون هذه الأيمان مانعة لهم من الإصـلاح بـين

الناس وأفعال البر والتقوى ، وكذلك لما في ترك القسم مـن قبـول المـصلح

 مقومات نجاح الصلح ومعوقاته

المطلب الأول : مقومات نجاح الصلح :

 قوة الحجة وحضور البديهة :

 لا بد أن يكون المصلح قوي الحجة ، يمتلك ناصية البيان ، عارفاً بأسـلوب الحوار ، حاضر البديهة ، متوقد الذهن ، يستطيع الجمع بـين الآراء المختلفـة، والأهواء المتنازعة ، ووجهات النظر المتباينة ويوفق بينها . ويكـون حكيمـاً في

مجلسه عارف اً ماذا يريد أن يحقق في كل مجلس ، وكيف يبدأ ، وكيف ينتـهي ، وأن يراعي الأحوال النفسية للمتصالحين ، وتأجيل النقاش فيه متى مـا رأى أن

حالتهما لا تسمح بذلك  ويعرف كيف يؤثر على القلوب ولا يتأثر ، ويعرف الألفاظ التي يكون لها فعلها في العقول والأرواح ، مستحضراً لأدلة العفو مبيناً الصلح محاسن وفوائده قال تعالى: ﴿ فمن عفا وأصلح فأجره على الله ﴾

 وذلك لأن الصلح لا يتم في الغالب إلا بعد حوار مفاوضات شاقة ،وقد جاء في صلح الحديبية ما يفيد الكثير في هذا

الصبر لتحقيق الصلح :

 على المصلح أن يكون حريصاً على الصلح ، مبادراً إليه ، اًصابر على مشاقه ،متعاوناً مع إخوانه في سبيل تحقيقه ، وعدم فشل مساعيه ، ومن لمن تكن إرادته في الإصلاح قوية ونيته صادقة وصبره واسع فلن يتحقق له بسعيه ما يريد ، قال تعالى : ﴿ إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما ﴾ النساء : ٣٥ ، قال أبو السعود  : " وفيه مزيد ترغيب للحكمين في الإصلاح ، وتحذير عـن المـساهلة كيلا ينسب اختلال الأمر إلى عدم إرادتهما وقيل :كلا الضميرين للحكمـين :أي إن قصد الإصلاح يوفق الله بينهما فتتفق كلمتهما ، ويحصل مقصودهما " فقد بين الله تعالى دور إرادة المصلح وحرصه الصادق في تحقيق الـصلح ، لأن

الصلح من الأعمال الشاقة التي قد تستغرق وقتاً طويلاً ، وجهداً كبيراً ، ومالاً  كثيراً ، ومن لم يكن حريصاً على تحقيقه ، صبوراً على مشاقه ، واسع الصدر ، حسن الاستماع ، ذو حلم وأناة ، فإنه بعيد عن مناله ومقصده وتحقيق هدفـه . وقد رأينا الكثيرين ممن يقومون بالإصلاح ولكن من أعظم أسباب فشلهم قلـة صبرهم ، وضعف حرصهم ، وسوء تعجلهم ـ والله المستعان .

التحلي بالصفات التي تجعل الآخرين يثقون به :

 من ذلك الأمانة في النقل ، وحفظ الأسرار التي يسمعها من الطرفين ، وصدق القول والن ية ، والتحلي بمكارم الصفات، والتخلي عن مساوي الأخلاق، فلا بد أن يكون المصلح براً تقياً موثوقاً به ، مسموع الكلمة ، صاحب فـضل علـى الناس ، لا يضن بنفسه وماله في الخير ، حليماً بشوشاً، فلا يـصلح أن يكـون الحكم من أهل الزوجين ممن هو قاطع اً لرحمه ، بخيلاً بماله ، سيء العشرة ، قليل المروءة مثلاً ، بل لا بد لمن أراد أن يتصد ى لهذا الشرف العظيم ، وينال ما فيـه من ثواب كبير ، أن يعد نفسه لذلك ، فإن الناس لا يثقون في من خبث فعله

وساء قوله ، وفسدت نيته ولا يقدرون نصحه إلا إذا وثقوا أنه لا يسعى إلا في إصلاح ذات البين وإزالة الفساد والخصومة، ودرء الفتنة، ليس له غرض آخر .

 

 

دروس وخطب

نقدم بين يديكم مجموعة من الدروس والخطب والمواعظ 

واسال الله ان يتقبل منا جميعا