الحرم الإبراهيمي ينادي
قال تعالى :] إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصُمَّ الدعاء إذا ولَّو مدبرين [النمل 80 .
هل يمكن لعاقل أن يرجو خيراً من الأموات ؟ وهل نتوقع من عالم لا يسمع ولا يرى أن يقدم لنا شيئا ؟ً وإن كانوا يسمعون ويشاهدون فما أدري ماذا ينتظرون ؟ وحتى متى هم صامتون ؟ ولماذا لا يحركهم الجور الذي فشا والعدل الذي عفا . وطغيان اليهود الذي غلا وعتا ؟ وتجاوز كل الحدود وتجرأ على البلاد والعباد ، بل أمعن في الطغيان والعناد ، أما آن لهم أن يخرجوا عن صمتهم غضباً لله ؟ أما يحرِّك ضمائرهم سفك الدماء وانتهاك محارم الله والمقدسات ؟ أما آن لهذا الهوان أن ينتهي، وللضعف والذل أن ينقضي، وليلِ الليل الطويل أن ينجلي؟! أما آن للأمة تفيق من غفلتها ؟! أما آن لها أن تعمل على حماية مقدساتها ، أما علمت أن اليهود يستفيدوا من تفككها ففي غفلة سرقوها ، وقاموا بالاستيلاء على مسجدها الإبراهيمي ومسجد بلال ، لأنهم يعلمون أن ردة الفعل لا تتجاوز المسيرات والتنديدات ، فقد ارتكبوا من قبل جريمة التطهير العرقي بحق المقدسيين وبيوتهم وأحيائهم الإسلامية، وعملوا ويعملون على إغلاق القدس بجدار الفصل العنصري ، بهدف تحويلها إلى مدينة يهودية خالصة، ولا يوجد من يعمل على إنقاذها ، أما آن لنا أن نتحرر من رق العبودية والخضوع لليهود ومن والاهم
أما آن لنا أن نتحرر من سجن الشهوات وحب الذات
أما آن لنا نعمل على نصر الله لينصرنا قال تعالى : ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ[ محمد7 .
أما آن لنا نستجيب لقوله تعالى : ] قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ[ التوبة14 . وإنا والله لو استجبنا وتوكلنا على الله ، وانتهينا عن ذنوبنا ومعاصينا، لكان النصر والغلبة على الأعداء ، بالمستطاع من الإعداد حليفنا قال تعالى : ] وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ [ الأنفال60 .
أم إن النخوة والإحساس قد ماتا في داخلنا ، حتى أصبح العبث بمقدساتنا على مرأى منا ، ونراه بأعيننا ليل نهار على شاشات التلفاز وفي كل وسائل الإعلام ، دون أن نحرك ساكناً ، وهل تجمد أو تبلد الإحساس داخلنا ؟ حتى أصبح ما يدور حولنا ويمس عقيدتنا وهويتنا العربية والإسلامية لا يحرك مشاعرنا ، وكأننا فقدنا الوعي عما يدور حولنا ؟
وكما تعلمون ماذا حدث من قبل سلطات الاحتلال الصهيوني هو استيلائها على الحرم الإبراهيمي ومسجد بلال بن رباح باسم التراث الصهيوني ، رغم انه لا يمت بأي صلة لتراثهم ، وقد صادق نتنياهو على ضم هذين الأثرين الإسلاميين ، إلى قائمة التراث الصهيوني ، وأبلغ مجلس وزرائه بأن القائمة النهائية للتراث الصهيوني لم ننتهِ منها بعد ، وقد فسّر المقربون منه كلامه هذا ، بأنه يقصد بذلك ضم قبر النبي يوسف ، الذي طالب به مجلس المستوطنات والآثار الصهيوني من قبل ، وقد أكد نتنياهو للصحفيين والإعلاميين أن وجود كيانهم ، ليس مرتبطاً بالجيش فقط بل هناك شيء مهم لا يقل أهمية عن هذه الأسباب والأهداف ، وهي تعزيز وتأكيد وتثبيت شعوره القومي تجاه وطنه ، وللأسف فقد اعتمد في ذلك على ما حدث من قبل في منتصف التسعينات ، عندما تم تقسيم الحرم الإبراهيمي قسمين احدهما للمسلمين والآخر لليهود بعد المجزرة التي ارتكبت في عام 1994 وأسفرت عن استشهاد ما يقرب من 30 مصلياً فلسطينيا ، واليهود بهذا يحاولون تغيير الهوية الفلسطينية ، وطمس الحقائق ومحاولة تهويد فلسطين ، وليس المقدسات فقط ، على مرأى من امة المليار ونصف مليار مسلم ، إذ يعتبر اليهود هذه الإجراءات غاية الأهمية بالنسبة لهم ، لأنهم يبحثون عن تأصيل حقهم في أرض فلسطين ، وقد جاء الرد العربي والإسلامي بتصريح لا يرقى إلى حجم هذه الخطورة التي تهدد المقدسات بتصريح مفاده : " إن هذا القرار الصهيوني نعتبره توطئة للانقضاض على المسجد الأقصى المبارك " واليهود كعادتهم يراقبون ردة الفعل العربية ، فإذا ما اقتصرت على التنديد والاستنكار ، فإنهم يستمرون في مخططاتهم العدوانية على القدس ، وما حصل فقد صدرت عشرات البيانات عن أحزاب (وفصائل) فلسطينية ومؤسسات أهلية ودينية وحقوقية وشعبية وشخصيات ونواب، وهيئات متفرقة بالإضافة إلى بيانات رسمية ، من عدد من الدول العربية ومنظمات إسلامية عبَّرت جميعها عن سخطها تجاه القرار الصهيوني ورفضها المطلق لتزييف التراث الإسلامي وسرقته علانيةً وقد شهد محيط الحرم حضورًا إعلاميًّا كبيرًا من مختلف وسائل الإعلام المحلية والعربية والأجنبية؛ لتغطية ردود الأفعال على الجريمة الصهيونية، التي توافقت مع الذكرى السادسة عشرة لمجزرة الحرم الإبراهيمي ، ومن الجدير بالذكر ، أنَّ الحرم الإبراهيمي بُني قبل أربعة آلاف عام على يد سيدنا إبراهيم (عليه السلام)، وأحضر الحجارة الملك "هيرودوس" ملك الأدوميين العرب ، وأقام سورًا بطول ثمانين ذراعًا وعرض أربعين ذراعًا حول مقابر الأنبياء، وبنى 13 مدماكًا، ثم جاءت الملكة "هيلاني" سنة 324 ميلادية وأمرت بسقفه، لكنَّ الفرس هدموه ثم أعاد بناءه الرومان ، وفي عام 15 هـ حوَّل المسلمون -مع الفتوحات الإسلامية- البناء إلى مسجد؛ لأنه بُني مسجدًا أصلاً؛ بدليل أنه بني باتجاه القبلة قبل الإسلام، وطوال عهدَي الأمويين والعباسيين بقِيَ المسجد مسجدًا إسلاميًّا حتى الحروب الصليبية، حين حوَّله الصليبيون إلى كاتدرائية لمدة تسعين عامًا، ثم حرَّره صلاح الدين الأيوبي سنة 587هـ، وثبت عشر عائلات في الخليل لتشرف على سدانة الحرم وخدمته ، وبقِيَ المكان إسلاميًّا حتى عام 1967م، حين وضع الاحتلال عليه العلَم الصهيوني لكنه بقِيَ مسجدًا إسلاميًّا حتى عام 1994م حين وقعت مجزرة الحرم الإبراهيمي ، ومنذ ذلك الوقت توالت الاعتداءات على المسجد، وكثيراً ما يمنع رفع الأذان منه إن الاعتداء بضم الحرم الإبراهيمي وجامع بلال بن رباح في فلسطين ، إلى ما يسمى التراث اليهود بزعم باطل يجافي التاريخ الإسلامي والشرائع السماوية التي أكدت أن نبي الله إبراهيم الخليل عليه السلام أبو الأنبياء كان حنيفا مسلما كما نص القرآن الكريم على ذلك في قوله تعالى: ] ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلما [ وقوله سبحانه وتعالى على لسان نبي الله إبراهيم ] إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين [ .
والسؤال : إلى متى يتقاعس المسلمون أمام الغطرسة اليهودية التي تقتحم المقدسات ، وهل يدرك المسلمون هذه الأخطار الجسيمة، التي تتعرض لها مقدساتهم ليعملوا جاهدين على إنقاذها ، أم يظلوا على ما هم عليه ينشغلون بتوافه الأمور، ولا يبالوا بعظائمها :
مَنْ يَهُنْ يَسْهُلِ الْهَوَانُ عَلَيْهِ مَا لِجُرْحٍ بِمَيِّتٍ إِيْلاَمُ
وهل للمسلمين في نملة سليمان أسوة ؟ يقول محمد عبد الشافي القوصي: يحكى أنه عندما اجتاحت جحافل التتار عاصمة الخلافة (بغداد) واستباحت بلاد الشام, احتدم الجدل بين أكبر فقيهين في الأُمة حول (نملة سليمان) أهي ذكر أم أنثى ، يقول : سمعت هذه القصة قبل عقدين من الزمان, وانشغلت بالتنقيب عنها في بطون الكتب , ولما أعياني البحث, هرعتُ إلى شيخي, علّني أجد عنده جواباً شافياً عن فحواها..فنظر إليّ الشيخ نظرةً فاحصة مملوءة بالحسرة والقلق! قلت: أرجو ألاّ تغضب مني -يا شيخي الجليل- ولا تهزأ بسؤالي..فصاح بصوتٍ عالٍ: كيف أهزأُ -يا فتى- وأنت تسأل عن أمرٍ جلل! لقد سألت عن نملة عزيزة علينا, محببة إلينا... منـزلتها عندنا بمنـزلة الرأس من الجسد! حسبها شرفاً أنها استمتعتْ برؤية نبي الله سليمان بن داود عليه السلام في عزه ومجده وموكبه وخاطبته وحاورته ثم اعتذرتْ إليه بأدب دونه كل أدب لقد أدخلت الفرح والسرور والبهجة إلى قلبه فجعلته يتبسّم ضاحكاً من جمال منطقها, وروعة بيانها, وكريم طباعها, وحسن تصرفها ، ثم أقسم -الشيخ- بأغلظ الأيمان أن هذه النملة الصغيرة, لأعقل من كثير مما نرى من الآدميين ، الذين يؤذون الأنبياء ويهملون المقدسات بلْ ويسخرون من الذات الإلهية ] سخِر الله منهم ولعنهم في الدنيا والآخرة [ لقد أُوتيتْ النملة عقلاً راشداً, وقلباً نابضاً, فعرفتْ ما لها وما عليها, وأدركتْ ما يلزم وما لا يلزم, وفهمتْ كيف تتأدّب في حديثها مع نبيّ الله.. فلم تسفّه كلامه ولم تردّ قوله كما يفعل -دعاة العلمانية- في زماننا, ولم تتطاول عليه وعلى ما أُوحيَ إليه من ربه كما يحلو للماديين الظانين بالله ظن السوء, ولم تقذفه بالحجارة وتصدّ عن السبيل ، كما فعل السفهاء القدامى مع أنبيائهم, ولم تزعم أن التديّن سبب البلاء الذي حلّ بالبلاد والعباد كما يعتقد الجاهليون الجدد .
ما أحوجنا في هذا الزمان إلى مثل هذه النملة الحكيمة لتعلّم المثقفين والمتحضرين والمتفلسفين ، دروساً في أدب الحديث, وفن الحوار, والأخلاق العامة, وآداب الطريق, وتوقير أهل العلم والصالحين! وربما لا تصدّق -يا بُنيّ- أن هذه النملة ، مجرد نملة عاديةً, فلا يمكن أن نعتبرها مثقفة بالمعنى الأكاديمي, ولا أظن أنها من حملة الرسائل العلمية أو على دراية بالنظريات والفلسفات الغربية, ولا هي بحاجة إلى محاضرات في أكاذيب العلمنة ، إنها بفطرتها تعرف للدين قداسته, وللأنبياء حرمتهم, وللعلماء مكانتهم ، وتعرف أن لكل ذي قدر قدره, فلا ترجم بالغيب, ولا تخوض مع الخائضين, ولا تكذّب بيوم الدين, ولا تملأ الصحف الصفراء والحمراء ومواقع الانترنت بسخيف القول وحامض الفكر ، بل اكتفتْ بتوجيه الأمر إلى أتباعها بأن يدخلوا مساكنهم, ويلزموا حدود الأدب والسكينة ، كانت مهذّبة فلم تعرف فن المتاجرة بالشعارات, ولا وقت عندها لزعزعة النفوس وإثارة القلاقل , وصرف الناس عن قضاياهم المصيرية ، لأنها مشغولة بقضايا أهم, وأمور أبعد ، مشغولة بإصلاح وإعمار وادي النمل, وبناء المساكن, وتنظيم العمل, واستثمار الطاقات المعطلة, وترشيد الإنفاق, وطرح حلول للبطالة والغلاء, ومحاصرة شبح الفقر والجهل والمرض, ورسم خطط مستقبلية لتوفير الغذاء والدواء والأمن ، ولم تكن تلك النملة تجيد أساليب النفاق والمداهنة والتسلّق والوصولية والانتهازية, لقد كانت تلتزم الصدق, وتؤدي الأمانة, وتهدي إلى الخير, وتحافظ على المال العام, وتتقن العمل, وتأخذ بالأسباب, وتتوكل على رب الأرباب ، فبلغت بذلك مبلغاً جليلاً من عزة النفس وسمو الخلق والعفة والطهارة والنـزاهة, فلم ترغب في تشتيت عقول قومها, وتوهين عزائمهم, وتضييع أوقاتهم, وتبديد أموالهم ، بل إنها كسائر جنود سليمان عليه السلام في عمل دؤوب ، يكفيها فخراً أن القرآن الكريم عطّر ذكرها, وأورد قصتها, في مقام الإجلال والإكبار والاعتبار, ليظل الصالحون يتعبدون بقراءتها إلى يوم الدين ، فما أجملها -يا بُنيّ- من نملة عاقلة ذكية نبّهت قومها, وأمرتهم بالطاعة والامتثال, ونصحتهم بالتي هي أحسن.. وما عليك إلا أن تفتح آذان قلبك, فتستمع وتتأمل معي قوة موعظتها, ودقة رسالتها, وجمال خطبتها, كلمة كلمة وحرفاً حرفا ً: ] يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم, لا يحطمنّكم سليمان وجنوده, وهم لا يشعرون [ ، وأخيراً, أخشى أن تُتهم النملة بالسلفية أو يُظن أنها من الإسلاميين المتشددين ، ثم مَنْ أنا -يا بُنيّ- حتى أسمح لنفسي بالحديث عن فقه تلك النملة.. وهي من هي! فما مثلي ومثلها في علمها وفطنتها إلا كمثل النملة ذاتها وسليمان! .
وحتى ننتصر فلننظر إلى أسلافنا بأي سلاح انتصروا! وبأي قلوبٍ خاضوا المعارك! ثم انظروا بعين البصيرة إلى أوضاعكم، وارقبوا أحوالكم، وقارنوا بين ماضيكم العريق وواقعكم الغريق ، ولن يتغير إلا بتغير الأحوال .