الموت الواعظ الصامت
إن الحياة في نظر الإسلام أهم من أن تنسى، ولكنها في الوقت نفسه أتفه من أن تكون غاية قال تعالى : ﴿ وَٱبْتَغِ فِيمَا ءاتَاكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلاْخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ ﴾ القصص 77 . وحيث تتوقف البسمات ، وتسكت القهقهات ، وينقطع الجدال والصرخات ، ويتوقف العناد والكبرياء ، ويصمت الأمل والجشع ، ويتوقف الإخلاص والرياء ، والعجب بالمنصب والجمال وبالعشيرة والمال ، والجاه والقوة ، والعقل والفتوة وحيث يتحول الوجه الفاتن ، واليد الظالمة واللسان الكذوب والعين الخائنة ، والقلب القاسي ، إلى جمجمة مفككة ، وعظام نخرة ، تعبث بها الديدان من كل جهة ، ويملؤها التراب من كل جانب ، ولا يبقى إلا العمل الذي قدمه صاحب القبر البوابة الأولى للدار الآخرة ، إنه الموت الذي قهر الله به العباد . فليست المشكلة في الموت ، فالموت باب وكل الناس داخله ولكن المشكلة في الذي يكون بعده أفي : ﴿ جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر ، أم في ضلال وسُعُرٍ يوم يُسْحبون في النار على وجوههم ذوقوا مسَّ سقر ﴾ القمر 47 ، 54 ولا عجب فإن العبد إذا كان على فراش الموت بُشر إما بجنة وإما بنار، لأن العبد يموت على ما عاش عليه ، وإنما الأعمال بخواتيمها . دُخل على رجل وهو يحتضر فإذا به من السرور في أمر عظيم ، فقيل له : ما هذا السرور ؟ قال : سبحان الله أخرج من بين الظالمين والحاقدين والحاسدين والمغتابين وأقدم على أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين ، فكيف لا أكون في سرور عظيم ؟ ، لأجل ذلك ، فالصالحون يشتاقون إلى لقاء ربهم ، ويعتبرون الموت جسراً يعبرون عليه إلى الآخرة ، نعم يفرحون بالموت ما دام يقربهم إلى ربهم .
الموت باب كل الناس داخله فليت شعري بعد الموت ما الدار
الدار جنة عدن إن عملت بما يرضي الإلـه وإن فرطت فالنار
هما مصيران ما للمرء غيرهما فانظر لنفسك مـاذا أنت تختـار
عجباً لذاكر الموت كيف يلهو ؟ ولخائف الفوت كيف يسهو ؟ ولمتيقن حلول البلى كيف يزهو ؟ وإذا ذُكرت له الآخرة كيف يلغو ؟ أما علم أهل الغفلة أن أعمارهم عليهم حجة ، وأن أيامهم تقودهم إلى شقوة ، أما علموا أن الآخرة لا ترجى بغير عمل ؟ بل كيف ترجى التوبة مع الغفلة والتقصير وطول الأمل؟ إذا علم أن من طال أمله ضعف عمله .
فالويل لأهل الغفلة إن أعطوا لم يشبعوا ، وان منعوا لم يقنعوا يأمرون بما لا يفعلون ، وينهون وهم لا ينتهون ، وهم للناس لوامون ولأنفسهم مداهنون : ﴿ ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾ الحجر:3 .
والناس في غفلة والموت يوقظهم وما يفيقون حتى ينفد العمر
يشـيعـون أهـاليـهم بجمعهم وينظرون إلى ما فيه قد قبروا
ويرجـعون إلى أحلام غفلـتهم كأنهم ما رأوا شيئا ولا نظروا
أينما ذهب الإنسان في هذه الدنيا فإنه قد يُسأل : ما اسمك ؟ ما صناعتك ؟ كم عمرك ؟ كيف حالك ؟ ماذا تملك ؟ ما مذهبك ؟ ما دينك ؟ ما رأيك ؟ أما في القبر ، فلا غير السؤال الملائكي الذي ليس له إلا إجابة واحدة من الإنسان ، فإما عملا يحيل قبره إلى روضة من رياض الجنة ، وإما عملا يحيل القبر إلى حفرة من حفر النار . قال عمر بن عبد العزيز لأبي حازم عظني فقال : " اضطجع ، ثم اجعل الموت عند رأسك ثم انظر ما تحب أن يكون فيك تلك الساعة فجدّ فيه الآن ، وما تكره أن يكون فيك فدعه الآن " فوالله لو اضطجعنا ، وأقمنا الموت عند رؤوسنا ، لتركنا الكثير من فضول أعمالنا وأقوالنا ولظهر الاجتهاد في العمل ، والإخلاص في النيات ، ولتضاءلت الحياة استعداداً للممات .
تفكر في مشيبك والمآب ودفنك بعد عزك في التراب
إذا وافيت قبراً أنت فيه تقيم به إلى يوم الحساب
وفي أوصال جسمك حين تبقى مقطعة ممزقة الإهاب فطلق هذه الدنيا ثلاثـاً وبادر قبل موتك بالمتاب
ويبين الله سبحانه أن الموت لن ينجو منه أحد كائناً من كان ولو بذل من أسباب الحماية ، وسبل الوقاية ما بذل : ﴿ أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ﴾النساء 78
يا نفس توبي فإن الموت قد حانا واعصي الهوى فالهوى ما زال فتانا
في كل يوم لنا ميت نشـيعه نرى بمـصرعه آثـار موتـانا
ما بالنا نتعامى عن مصائرنا ننسى بغفلتنا مـن ليس ينسانا
يا راكضا في ميادين الهوى مرحاً ورافلاً في ثياب الـغي نشوانا
مضى الزمان وولى العمر في لعب يكفيك ما قد مضى قد كان ما كانا
فيا أخي من هرب من شيء فإنه يتركه وراءه ، إلا القبر فما يهرب أحد منه إلا وجده أمامه هو أبدا ينتظر غير متململ وأنت أبدا متقدم إليه ، غير متراجع ، روى المزني ، قال : دخلت على الشافعي في علته التي مات فيها ، فقلت : كيف أصبحت ؟ فقال : أصبحت من الدنيا راحلاً ، ولإخواني مفارقاً ، ولكأس المنية شارباً ، ولسوء عملي ملاقياً ، وعلى الله تعالى وارداً ، فلا أدري أروحي تصير إلى الجنة فأهنيها ، أو إلى النار فأعزيها ، ثم بكى ، وأنشأ يقول :
ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي جعلت الرجا مني لعفوك سلما
تعـاظمني ذنبي فلما قـرنته بعفوك ربي كان عفوك أعظما
وما زلتَ ذا عفو عن الذنب لم تزل تجود وتعفو منة وتكْرما
فاتقوا الله عباد الله ، واعلموا أن الدنيا، دار بلاء وابتلاء وامتحان واختبار، لذلك قدر الله فيها الموت والحياة فقال تعالى : ﴿ الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا ﴾ الملك الموت والحياة أمران مألوفان ، ومن الملك والقدرة كان خلق الموت والحياة وكان الابتلاء بهما ولو لم يكن هناك موت لما كان للحياة أية قيمة ، وهو أعظم تحدٍّ تحدى الله به الناس أجمعين : ﴿ قل فادرؤوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين ﴾ أين الملك ؟ أين الجاه ؟ أين الأكاسرة ؟ أين القياصرة ؟ أين الزعماء ؟ أين من غرتهم ، الزائل فهي دار البلاء والفناء وفرحوا بمتاعها الزائل . ولقد أحسن القائل :
نبكي على الدنيا وما من معشر جمعتهم الدنـيا فلم يتفرقوا أين الأكاسرة الجبابرة الأولى كنـزوا الكنوز فما بقين وما بقوا
من كل من ضاق الفضاء بجيشه حتى ثوى فـحواه لحـدٌ ضيق
أتى على الكـل أمر لا مرد له حتى قضوا فكأن القـوم ما كانوا وما صاروا ، ومن تأمل في الموت علم أنه كأس تدار على من أقام أو سار ، يخرج به العباد من الدنيا إلى جنة أو نار وهو لا يفرق بين كبير وصغير ولا غني ولا فقير ولا عبد ولا أمير ، خرج هارون الرشيد يوماً في رحلة صيد فمرّ برجل يقال له بُهلول ، فقال هارون : عظني يا بُهلول ، قال : يا أمير المؤمنين !! أين آباؤك وأجدادك ؟ من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبيك ؟ قال هارون : ماتوا ، قال : فأين قصورهم ؟ قال : تلك قصورهم ، قال : وأين قبورهم ؟ قال : هذه قبورهم ، فقال بهلول : تلك قصورهم ، وهذه قبورهم ، فما نفعتهم قصورهم في قبورهم ؟ قال : صدقت ، فقال زدني يا بهلول ، قال : أما قصورك في الدنيا فواسعة ، فليت قبرك بعد الموت يتسع فبكى هارون وقال : زدني ، فقال : يا أمير المؤمنين ، هب أنك ملكت كنوز كسرى ، وعُمرت السنين فكان ماذا ؟ أليس القـبر غـاية كـل حيٍ وتُسأل بعده عن كل هذا ؟ قال : بلى ، ثم رجع هارون ، وانطرح على فراشه مريضاً ، ولم تمضِ عليه أيام حتى نزل به الموت ، فلما حضرته الوفاة وعاين السكرات ، صاح بقواده وحجابه : اجمعوا جيوشي فجاءوا بهم بسيوفهم ودروعهم ، كلهم تحت قيادته وأمره فلما رآهم بكى ثم قال : يا من لا يزول ملكه ، ارحم من قد زال ملكه ثم لم يزل يبكي حتى مات .
وروي أن ذي القرنين أوصى وهو على سرير الموت ، أن يوضع في تابوت يثقب ثقبين ، يُخرج منهما يداه ، ليعلم الناس أنه غادر الدنيا ويداه فارغتان . ومن وصايا عيسى عليه السلام : " من ذا الذي يبني على موج البحر دارا ، تلكم الدنـيا فـلا تتخذوها قرارا " .
و سئل سلمة بن دينار : كيف القدوم غدا على الله عز زجل ؟ قال : أما المحسن فكالغائب يقدم على أهله وأما المسيء فكالهارب يعود إلى سيده : ﴿ قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب و الشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون ﴾ الجمعة8 . كم هو جميل أن نجعل دنيانا مطية لآخرتنا ، يروى أن عمر بن عبد العزيز قال : "ألا إن الدنيا بقاؤها قليل ، وغنيها فقير ، وحيها يموت ، أين الذين بنوا مدائنها وغرسوا أشجارها ماذا صنع التراب بأجسادهم ؟ لقد فارقوا الحدائق و ساروا بعد السعة إلى المدائق و توزعت الورثة ديارهم فيا ساكن القبر غدا ! ما الذي يغرك من الدنيا ؟ ألا ترى كل يوم ذاهبا إلى الله يتوسد التراب ويترك الأحباب ؟ فتزود لسفرك إلى الآخرة بالتقوى .
فيا اخوتي ! الاستراحة التي نجلس إليها ونحن في طريقنا من بلد إلى آخر ، ينبغي أن نتعامل معها على أنها استراحة ، لا أن نلتفت إلى جمال المكان الذي نحن فيه فينسينا أننا على سفر ! ولا ننخدع بالشباب ولا بالمال ، فلا المال يبقى ولا الشباب يدوم ، فهذا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه يخاطب الدنيا فيقول : غري غيري يا دنيا فإني طلقتك ثلاثا لا رجعة بعدها آه من بعد السفر ووحشة الطريق وقلة الزاد .
وهذا الحسن البصري رحمه الله شرب يوما شربة ماء و بكى فقيل له : ما أبكاك أيها الإمام ؟ قال : تذكرت وأنا أرتوي من الماء قول الله عز و جل : ﴿ ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمها على الكافرين الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحياة الدنيا فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا وما كانوا بآياتنا يجحدون ﴾ الأعراف 51 . ويذكر أن هارون الرشيد طلب من احد العلماء أن يعظه فقال العالم : لو دامت الخلافة لغيرك ما وصلت إليك ! قال هارون : زدني أيها العالم . قال يا هارون : تلك قصورهم وتلك قبورهم ! قال هارون : زدني أيها العالم . قال : كفى بالموت واعظا ! فبكى هارون الرشيد حتى أخضلت لحيته ثم قال : أعليك دين فنقضيه عنك ؟ قال العالم الجليل :يقضيه عني من هو أقدر منك على قضائه . قال هارون : فخذ من مالي ما يكفيك رزقا لك ولعيالك . فتبسم العالم الجليل وقال : أتظن أن الله يرزقك و ينساني ؟!
ويروى أن الخليفة العباسي المهدي غضب على عبد الله بن مرزوق فحبسه وقال : أما تخاف أن أقتلك ؟ فضحك ابن مرزوق قائلا : ومتى كانت آجال الناس بغير يد رب العالمين ؟ يا مهدي ! إن كنت تملك موتا أو حياة فامنع الموت عن نفسك فلعلي أشهد موتك قبل إن تشهد موتي ! وقد حدث فعلا أن مات المهدي قبل عبد الله بن مرزوق ! وعندما يغادر احدنا الدنيا لن يصحبه إلى قبره إلا ماله وولده وعمله يعود المال و الولد و يبقى العمل .
اعلم يا أخي أن أشد الناس ندما يوم القيامة غني يرى ورثته يدخلون الجنة بماله ، وهو يدخل النار بنفس المال ؟ فإذا أصبحت فلا تحدث نفسك بالمساء وإذا أمسيت فلا تحدث نفسك بالصباح ، وخذ من حياتك لموتك ومن صحتك لسقمك . فإنك لا تدري ما اسمك غدا .
تزود من الدنيا فإنك لا تدري إذا جن ليل هل تعيش إلى الفجر
وإذا كان كل ابن آدم خطاء فخير الخطاءين التوابون قال صلى الله عليه وسلم : ( والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم الواحد أكثر من سبعين مرة ) . وذلك من تصور انه مقصر في حق الله عز وجل فكيف يجب أن يكون حال أمثالنا وكلنا ذنوب ؟
فيا أخي ؟
أمضيت عمرا بحب الزائل الفاني وعدت من جانب التقوى بحرمان
وما طلبت كمالا بعد نقصان إلى متى أنت لاه أيـها الجاني
فاذكروا الموت فمن أكثر ذكره ، أكرمه الله بثلاث: " تعجيل التوبة، وقناعة القلب ، ونشاط العبادة. ومن نسي الموت ابتلي بثلاث: تسويف التوبة، وترك الرضى بالكفاف ، والتكاسل في العبادة "فتذكر الموت يردع عن المعاصي، ويلين القلب القاسي ويمنع الركون إلى الدنيا ، ويهون مصائبها .
وفي النهاية تأمل يا أخي قول الشاعر :
ولدتك أمك يا ابن آدم باكياً والناس حـولك يضحكون سرورا
فاحفظ لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسرورا