الموت

الموت

ذكر الموت حياة ، ونسيانه غفلة  ، ناس يأتون وآخرون يرحلون ، أرحام تدفع وأرض تبلع ، والناس عنه غافلون ، شرب من كأسه العصاة والطائعون سمَّاه الله لعظيم أمره مصيبة ، قال تعالى :﴿ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ المَوْتِ ﴾  بعد الموت يُعرف المصير ، إما إلى نعيم دائم أو إلى عذاب مقيم ، إنما هي جنة أو نار ﴿ فَاعْتَبِرُواْ يَا أُولِي الأَبْصَارِ ﴾ وصدق من قال : لا تبت وأنت مسرور ، حتى تعلم عاقبة الأمور ، فكم من الموتى في قبورهم يتحسرون ، يسألون الرجعة فلا يقدرون ! ..أما قال الله :﴿ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ ﴾ إنها ساعة لا تشبهها ساعة  يتألم فيها أهل التقى ، فكيف بأهل الإضاعة ؟  

الموت المعنوي  والموت الحقيقي

ليس بالضرورة ، أن يلفظ العبد أنفاسه ، ويتوقف قلبه عن النبض ، وجسده عن الحركة    كي يقال عنه فارق الحياة ، فبيننا الكثير من الموتى يتحركون ويتحدثون ويأكلون ويشربون   ويضحكون لكنهم موتى ، نعرفهم من العلامات التي تدل على موت قلوبهم وفسادها ، من هذه العلامات : المعاصي  فقلوب أهل المعاصي مُعْرِضة عن كتاب الله وسنة رسوله ، فهي مظلمة بعيدة عن الحق ، لا يصل إليها شيء من نور الإيمان .

ومنها : إيثار الدنيا على الآخرة كما أخبر صلى الله عليه وسلم : ( تكون فتنة يموت فيها قلب الرجل كما يموت فيها بدنه يصبح مؤمنا ويمسي كافرا أو يمسي مؤمنا ويصبح كافرا يبيع دينه بعرض من الدنيا )  ومنها : حب الشهوات قال تعالى : ) ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله  ( ومنها : شدة الغفلة والرغبة في المعاصي وعدم إنكار المنكر ، فان كان القلب لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا نكس فجعل أعلاه أسفله .  

ومنها : ضيق الصدر والشعور بالقلق والضيق بالناس قال تعالى : ) ومن يرد أن يُضِلَّه يجعل صَدْرَهُ ضَيِّقا حَرَجاً كأنما يَصَّعَّدُ في السماء ، كذلك يجعل الله الرجسَ على الذين لا يؤمنون ( الأنعام 125 . ومنها : عدم التأثر بآيات القران  وعدم التأثر بالموعظة عامة وبالموت خاصة والتكاسل عن أعمال الخير  ) ولا يأتون الصلاة ألا وهم كسالى ولا ينفقون ألا وهم كارهون  (  وعندما يموت القلب يهون الذنب على فاعله ، فالذنب على الذنب يميت القلب ، ولذلك عندما قيل لسعيد بن المسبب : إن عبد الملك بن مروان قـال : " صرت لا أفرح بالحسنة أعملها ، ولا أحزن على السيئة أرتكبها "  قال سعيد : " الآن مات قلبه " ومن مات قلبه لا  يتأثر بالمواعظ ولا توقظه العبر ، الهوى إمامه ، والشهوة قائدة ، والغفلة مركبه ، الدنيا تُسخطه وترضيه ، والهوى يصمه ويعميه .  قلوب عرفت الله ولم تؤد حقه ، قرأت كتاب الله ولم تعمل به ، زعمت حب رسول الله وتركت سنته   قلوب تريد الجنة ولا تعمل من أجلها ، قلوب خربة لا تؤلمها جراحات المعاصي  ولا يوجعها جهل الحق .  

 قال بعض الصالحين :  " يا عجباً من الناس يبكون على من مات جسده ، ولا يبكون على من مات قلبه .. شتان بين من طغى وآثر الحياة الدنيا .. وبين من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى قال تعالى : ) فَلَمَّا زاغوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ( الصف 5 .

  ومن مات قلبه فإنه يشكو الكلل والملل والضجر ، ويشعر بالكآبة والمرارة ، ويلقي باللائمة على الزمن .. وعلى الظروف ولا يعلم أن للحواس والروح ملذات كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(إن الأرواح تكل كما تكل الأبدان). وتعب الأرواح يعود إلى الخصال الخبيثة : كالضغينة والحقد والحسد والنميمة والغيبة والغيرة ، والوصولية على أكتاف الآخرين ، والمصالح المادية التي تُضْرَب في سبيلها القيم والأخلاقيات ،  والجري وراء سراب الماديات والكماليات غير الضرورية يتعب الروح  ، وتصيد عيوب الخلق يثقل القلب ، والحرص على مراقبة الآخرين وإحصاء خيراتهم وثرواتهم يثير الحسد والغيرة ، لذا علينا أن نفهم إن لكل شيء حكمة غائبة ، حتى لا نتألم ولا نتضجر ولا نتحسر على ما يملك الآخرون ،  وقد اقتضت الحكمة الإلهية أن تلفت نظر الإنسان إلى لأن يهتم بما هو مُقْبِلٌ عليه أكثر من اهتمامه بما هو مُتَقَلِّب فيه.  ومن الأهمية بمكان ؛ وأنت تتقلب في حياتك التي تعيشها اليوم ؛ أن تتأمل في الموت الذي أنت مُقْبِلٌ إليه عما قريب. فمن هنا قَدَّم ذِكر الموت على الحياة في قوله تعالى : ) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ( الملك 1. فقد قَدَّم الاهتمام بالموت على الحياة ؛ مع العلم بأن الحياة مُقَدَّمَة على الموت بالنسبة للمرحلة الزمنية   ولكنَّ الإنسان يعيش في حياته هذه متعاملاً مع نقيض ما يقوله بيان الله عز وجل ؛ فيُعْرِض عما هو مُقْبِل إليه شاء أم أبى   ويضع كل هَمِّه وكل تَصَوُّراتِه في حياته الدنيوية التي سيرحل عنها . وعلى الرغم من أن النبي صلى الله عليه وسلم  لَفَتَ نظرنا إلى هذا الذي يوحي به بيان الله عز وجل فقال: (أكثروا من ذِكْرِ هادم اللذات ومُفَرِّق الجماعات، فإنه ما ذُكِر في كثير - أي من المعاصي - إلا قَلَّلَه، وما ذُكِر في قليل - أي من الطاعات - إلا كَثَّرَه). إلا أن الناس أو أكثرهم  مُعْرِضون عمّا هم مُقْبِلون إليه ، وهذا الإعراض هو الذي يجعل من الموت مصيبة ، فالذي يجعل من الموت مصيبة تتربَّص بحياة الإنسان ، ليس حقيقة الموت ذاته ؛ وإنما الذي يجعل الموت مصيبة حقيقةً ، إعراضُ الإنسان عن الموت ؛ وعدمُ تهَيُّئه له ،  ولما بعده .

وهذا هو الذي يجعل من الموت مصيبة ، والذي جعلها كذلك إنما هو الإنسان ذاته. ومن عجب أن بيان الله عز وجل يُؤكّد ويُكَرِّر هذه الحقيقة لنا بأساليب شتى في محكم تبيانه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم  يَلْفِت أنظارنا إلى هذا المعنى مُنَبِّهاً ومؤكِّداً ؛ ومع ذلك فإن من شأن أكثر الناس أن يُعْرِضوا عن الحديث عن الموت ، الذي يعلمون بأنه القَدَر الذي لا يمكن لأحد أن يَفِرَّ منه قال تعالى : ) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُم ( الجمعة 8 . فلماذا نُُعْرِض عن نهاية طريق كُتِب علينا أن نسير فيها ، ولماذا نجعل من الموت فداء لهذه الحياة الدنيا التي نتقلب فيها. وإني لأعْجَب لإنسان يجعل من الباقي فداءً للفاني. وأعْجَب لإنسان يجعل مما هو صائر إليه ومُنْتَهٍ إليه فداءً لطريق يَمُرُّ به ؛  ولئن كان الجنون فنوناً كما قيل ، فإن هذا لأسوأ فنون الجنون . فكم وكم يَقْرَع أسماعَنا بيان الله عز وجل القائل: ) قل متاع الدنيا قليل و الآخرة خير لمن اتقى ( النساء 77  هذه الحقيقة لا يجهلها أحد ؛ ومع ذلك فما أكثر مَنْ يُصِرُّ على أن يجعل من الباقي الذي لا مناص منه ولا مفر منه فداء للفاني ،  فتلك هي ظاهرة المصيبة في حياة الإنسان . إذن فليس الموت مصيبة  إنما المصيبة هذا الواقع الذي يمارسه الإنسان باختياره .

وإذا كان هذا هو الواقع ، فما الدواء الذي إن استعملناه هان علينا ذكر الموت قال تعالى : ) فمن يرد الله أن يهديه يشرح صَدْرَه للإسلام  ( الأنعام . أي يعّرِّفه طريق الحق ويوفقه للإيمان ، وإلى هذا أشار النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل  عنه قال : ( نورٌ يقذفه الله في قلب المؤمن ، فينشرح له وينفسح قالوا هل لذلك أمارة يُعْرَف بها ؟ قال : نعم ، الإنابة إلى دار الخلود  والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل نزول ) أخرجه البيهقي والحاكم . فالدواء إذن أن نستعد لما بعد الموت    أن نُصْلِح حالنا مع الله أن نَعمُر حياتنا التي نحن مُقْبِلون إليها  فإن نحن فعلنا ذلك وعَمَرْنا الطريق بيننا وبين الله عز وجل بالتوجه إليه والتزام النهج الذي أوصانا به ؛ فلن يكون غائبٌ أحبَّ إلينا من حاضر من الموت ؛ لأن الموت يصبح بوابة الوصول إلى الله ، الذي استَجَبْت لأمره وحقَّقْتَ ما أوصاك به   ففاض قلبك حباً له  وفاض قلبك اشتياقاً إليه .  ورحم الله سَلَمَة بن دينار أبا حازم يوم سأله سليمان بن عبد الملك وقد جاءه زائراً: يا أبا حازم ما لنا نكره الموت؟ قال: " لأنكم عَمَّرْتُم دنياكم وخَرَبْتُم آخرتكم ؛ فكرهتُم أن تنتقلوا من دار عَمَارٍ إلى دار خراب " . أي: إن من عَكَسَ الأمر فاهْتَمَّ بتعمير الدار التي هو مُقْبِل إليها ، وترك داره الدنيا التي يعيش فيها للضرورة ولقَدْر الحاجة ؛ فإن هذا الإنسان لن يكره الموت بشكل من الأشكال  .

لاحظوا أيها الإخوة أنني عندما أُوَفَّقُ لتعمير ما بيني وبين مولاي وخالقي بالانقياد لأمره، بالإكثار من ذكره، بحمده وشكره على نِعَمِه؛ لا بد أن يفيض قلبي حباً له ؛ ومن ثَمَّ لا بد أن يفيض قلبي اشتياقاً إليه . وإذا اهتاج القلبُ بالشوق إلى الله ذابت خطورة الموت ، بل يجد في الموت الذي هو مقبل إليه أَطْرَب ساعة يجتازها إلى الله سبحانه وتعالى. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال للسيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: ( مَنْ أَحَبَّ لقاء الله ؛ أَحَبَّ الله لقاءه ن ومن كَرِه لقاء الله؛ كَرِه الله لقاءه ). قالت عائشة : أكراهيةَ الموت؟! فكلنا نكره الموت يا رسول الله. قال: ( ليس ذاك ، ولكن المؤمن إذا بَشَّرَه الله برضوانه ومغفرته وجنته أحب لقاء الله ، فأحب الله لقاءه ، وإن الكافر إذا بُشِّرَ بسخط الله وعذابه كره لقاء الله   فكره الله لقاءه ) .

وقد فَصَّل لنا صلى الله عليه وسلم هذا الحديث الذي رواه الشيخان في مكان آخر وزاده تفصيلاً ؛ فأوضح لنا أن المؤمن إذا دنا منه الموت بَشَّره الله بما هو صائر إليه ، فليس شيءٌ أحبَّ إليه في تلك الساعة من أن يخرج من هذه الدنيا ويلقى مولاه وخالقه سبحانه وتعالى. أما الكافر فإذا دنا منه الموت أراه الله عز وجل مصيره فليس شيءٌ في الكون كله أكرهَ إليه من أن يترك هذه الدنيا وينتهي إلى مصير الشقاء الذي يتربص به. وصدق الله القائل: ) أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ   الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ ، لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الآخِرَةِ ( يونس 62 . أما البشرى في الحياة الدنيا؛ فهي ساعة الفِراق عندما يدنو الموت من واحد من هؤلاء الذين كتب الله سبحانه وتعالى لهم السعادة ، يُرِيْه  الله مَقَرَّه، ويُرِيْهِ مظاهر السعادة التي تنتظره   فالموت عندئذ يكون فرحةً ما مِثْلُها فرحة   

أيها الإخوة: دعونا نُقْبِل إلى الدار التي نحن على موعد معها لنَعْمُرَها، حتى إذا حان ميقات خروجنا من هذه الدار التي استُودِعْنا فيها ، انتقلنا إليها وهي تُرَحِّب بنا . تعالوا نقلعْ عن هذا الغلط القَتَّال؛ إذ يُعرِض أحدُنا عن داره التي هو صائر إليها ولا يبالي بها ولا يتذكرها ويتغافل عنها ويتناساها ، ويُمعِنُ تجميلاً وتزويقاً لهذه الدار التي هو تارك لها عما قريب إما  فإن نحن فعلنا ذلك تحوّل الموت من مصيبة إلى نعمة وأيِّ نعمة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الموت الواعظ الصامت

 

إن الحياة في نظر الإسلام أهم من أن تنسى، ولكنها في الوقت نفسه أتفه من أن تكون غاية قال تعالى : ﴿ وَٱبْتَغِ فِيمَا ءاتَاكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلاْخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ ﴾ القصص 77 .  وحيث تتوقف البسمات ، وتسكت القهقهات ، وينقطع الجدال والصرخات ،  ويتوقف العناد والكبرياء ، ويصمت الأمل والجشع ، ويتوقف الإخلاص والرياء ، والعجب بالمنصب والجمال  وبالعشيرة والمال ، والجاه والقوة ، والعقل والفتوة   وحيث  يتحول الوجه الفاتن ، واليد الظالمة   واللسان الكذوب  والعين الخائنة ، والقلب القاسي ، إلى جمجمة مفككة ، وعظام نخرة ، تعبث بها الديدان من كل جهة ، ويملؤها التراب من كل جانب ، ولا يبقى إلا العمل الذي قدمه صاحب القبر  البوابة الأولى للدار الآخرة ، إنه الموت الذي قهر الله به العباد .  فليست المشكلة في الموت ، فالموت باب وكل الناس داخله  ولكن المشكلة في الذي يكون بعده أفي : ﴿  جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر ، أم  في ضلال وسُعُرٍ  يوم يُسْحبون في النار على وجوههم ذوقوا مسَّ سقر ﴾ القمر 47 ، 54   ولا عجب فإن العبد إذا كان على فراش الموت بُشر إما بجنة وإما بنار، لأن العبد يموت على ما عاش عليه ، وإنما الأعمال بخواتيمها .  دُخل على رجل وهو يحتضر فإذا به من السرور في أمر عظيم ، فقيل له : ما هذا السرور ؟ قال : سبحان الله أخرج من بين الظالمين والحاقدين والحاسدين والمغتابين وأقدم على أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين ، فكيف لا أكون في سرور عظيم ؟ ، لأجل ذلك ،  فالصالحون يشتاقون إلى لقاء ربهم ، ويعتبرون الموت جسراً يعبرون عليه إلى الآخرة ، نعم يفرحون بالموت ما دام يقربهم إلى ربهم  .

 

الموت باب كل الناس داخله     فليت شعري بعد الموت ما الدار

 

الدار جنة عدن إن عملت بما     يرضي الإلـه وإن فرطت فالنار

 

هما مصيران ما للمرء غيرهما       فانظر لنفسك مـاذا أنت تختـار

 

عجباً لذاكر الموت كيف يلهو ؟ ولخائف الفوت كيف يسهو ؟ ولمتيقن حلول البلى كيف يزهو ؟ وإذا ذُكرت له الآخرة كيف يلغو ؟ أما علم أهل الغفلة أن أعمارهم عليهم حجة ، وأن أيامهم تقودهم إلى شقوة ، أما علموا أن الآخرة لا ترجى بغير عمل ؟ بل كيف ترجى التوبة مع الغفلة والتقصير وطول الأمل؟ إذا علم أن من طال أمله ضعف عمله .

 

فالويل لأهل الغفلة إن أعطوا لم يشبعوا ، وان منعوا لم يقنعوا   يأمرون بما لا يفعلون ، وينهون وهم لا ينتهون ، وهم للناس لوامون ولأنفسهم مداهنون : ﴿ ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾ الحجر:3 .

 

والناس في غفلة والموت يوقظهم   وما يفيقون حتى ينفد العمر

 

يشـيعـون أهـاليـهم بجمعهم       وينظرون إلى ما فيه قد قبروا

 

ويرجـعون إلى أحلام غفلـتهم     كأنهم ما رأوا شيئا ولا نظروا

 

أينما ذهب الإنسان في هذه الدنيا فإنه قد يُسأل : ما اسمك ؟ ما صناعتك ؟ كم عمرك ؟ كيف حالك ؟ ماذا تملك ؟ ما مذهبك ؟ ما دينك ؟ ما رأيك ؟ أما في القبر ، فلا غير السؤال الملائكي الذي ليس له إلا إجابة واحدة من الإنسان ، فإما عملا يحيل قبره إلى روضة من رياض الجنة ، وإما عملا يحيل القبر إلى حفرة من حفر النار . قال عمر بن عبد العزيز لأبي حازم عظني   فقال : " اضطجع ، ثم اجعل الموت عند رأسك   ثم انظر ما تحب أن يكون فيك تلك الساعة فجدّ فيه الآن ، وما تكره أن يكون فيك فدعه الآن " فوالله لو اضطجعنا ، وأقمنا الموت عند رؤوسنا ، لتركنا الكثير من فضول أعمالنا وأقوالنا  ولظهر الاجتهاد في العمل ، والإخلاص في النيات ، ولتضاءلت الحياة  استعداداً للممات .

 

تفكر في مشيبك والمآب      ودفنك بعد عزك في التراب

 

إذا وافيت قبراً أنت فيه       تقيم به إلى يوم الحساب

 

وفي أوصال جسمك حين     تبقى مقطعة ممزقة الإهاب                                            فطلق  هذه الدنيا ثلاثـاً       وبادر قبل موتك بالمتاب

 

ويبين الله سبحانه أن الموت لن ينجو منه أحد كائناً من كان  ولو بذل من أسباب الحماية ، وسبل الوقاية ما بذل : ﴿ أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ﴾النساء 78   

 

يا نفس توبي فإن الموت قد حانا     واعصي الهوى فالهوى ما زال فتانا

 

           في كل يوم لنا ميت نشـيعه            نرى بمـصرعه آثـار موتـانا

 

           ما بالنا نتعامى عن مصائرنا           ننسى بغفلتنا مـن ليس ينسانا

 

          يا راكضا في ميادين الهوى مرحاً       ورافلاً في ثياب الـغي نشوانا

 

مضى الزمان وولى العمر في لعب   يكفيك ما قد مضى قد كان ما كانا

 

فيا أخي من هرب من شيء فإنه يتركه وراءه ، إلا القبر فما يهرب أحد منه إلا وجده أمامه  هو أبدا ينتظر غير متململ  وأنت أبدا متقدم إليه ، غير متراجع ، روى المزني ، قال : دخلت على الشافعي في علته التي مات فيها ، فقلت : كيف أصبحت ؟  فقال : أصبحت من الدنيا راحلاً ، ولإخواني مفارقاً ، ولكأس المنية شارباً ، ولسوء عملي ملاقياً ، وعلى الله تعالى وارداً ، فلا أدري أروحي تصير إلى الجنة فأهنيها ، أو إلى النار فأعزيها ، ثم بكى ، وأنشأ يقول :

 

ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي     جعلت الرجا مني لعفوك سلما

 

تعـاظمني ذنبي فلما قـرنته      بعفوك ربي كان عفوك أعظما

 

وما زلتَ ذا عفو عن الذنب      لم تزل تجود وتعفو منة وتكْرما

 

فاتقوا الله عباد الله ، واعلموا أن الدنيا، دار بلاء وابتلاء وامتحان واختبار، لذلك قدر الله فيها الموت والحياة فقال تعالى : ﴿ الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا ﴾ الملك  الموت والحياة أمران مألوفان ، ومن الملك والقدرة كان خلق الموت والحياة وكان الابتلاء بهما  ولو لم يكن هناك موت لما كان للحياة أية قيمة ، وهو أعظم تحدٍّ تحدى الله به الناس أجمعين : ﴿ قل فادرؤوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين ﴾  أين الملك ؟ أين الجاه ؟ أين الأكاسرة ؟ أين القياصرة ؟ أين الزعماء ؟ أين من غرتهم ، الزائل فهي دار البلاء والفناء وفرحوا بمتاعها الزائل  . ولقد أحسن القائل :    

 

نبكي على الدنيا وما من معشر    جمعتهم  الدنـيا فلم يتفرقوا                                                   أين الأكاسرة الجبابرة الأولى     كنـزوا الكنوز فما بقين وما بقوا

 

من كل من ضاق الفضاء بجيشه     حتى ثوى فـحواه لحـدٌ ضيق

 

أتى على الكـل أمر لا مرد له حتى قضوا فكأن القـوم ما كانوا وما صاروا ، ومن تأمل في الموت علم أنه كأس تدار على من أقام أو سار ، يخرج به العباد من الدنيا إلى جنة أو نار    وهو لا يفرق بين كبير وصغير  ولا غني ولا فقير ولا عبد ولا أمير ، خرج هارون الرشيد يوماً في رحلة صيد فمرّ برجل يقال له بُهلول ، فقال هارون : عظني يا بُهلول ، قال : يا أمير المؤمنين !! أين آباؤك وأجدادك ؟ من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبيك ؟ قال هارون : ماتوا ، قال : فأين قصورهم ؟ قال : تلك قصورهم ، قال : وأين قبورهم ؟ قال : هذه قبورهم ، فقال بهلول : تلك قصورهم ، وهذه قبورهم ، فما نفعتهم قصورهم في قبورهم ؟ قال : صدقت ، فقال زدني يا بهلول ، قال : أما قصورك في الدنيا فواسعة ، فليت قبرك بعد الموت يتسع  فبكى هارون وقال : زدني ، فقال : يا أمير المؤمنين ، هب أنك ملكت كنوز كسرى ، وعُمرت السنين فكان ماذا ؟ أليس القـبر غـاية كـل حيٍ وتُسأل بعده عن كل هذا ؟  قال : بلى ، ثم رجع هارون ، وانطرح على فراشه مريضاً ، ولم تمضِ عليه أيام حتى نزل به الموت ،  فلما حضرته الوفاة وعاين السكرات ، صاح بقواده وحجابه : اجمعوا جيوشي  فجاءوا بهم بسيوفهم ودروعهم ، كلهم تحت قيادته وأمره  فلما رآهم  بكى ثم قال : يا من لا يزول ملكه ، ارحم من قد زال ملكه ثم لم يزل يبكي حتى مات .

 

وروي أن ذي القرنين أوصى وهو على سرير الموت ،  أن يوضع في تابوت يثقب ثقبين ، يُخرج منهما يداه ، ليعلم الناس أنه غادر الدنيا ويداه فارغتان . ومن وصايا عيسى عليه السلام : " من ذا الذي يبني على موج البحر دارا ، تلكم الدنـيا فـلا  تتخذوها قرارا  " . 

 

و سئل سلمة بن دينار : كيف القدوم غدا على الله عز زجل ؟  قال : أما المحسن فكالغائب يقدم على أهله وأما المسيء فكالهارب يعود إلى سيده : ﴿ قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب و الشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون ﴾ الجمعة8 .  كم هو جميل أن نجعل دنيانا مطية لآخرتنا ، يروى أن عمر بن عبد العزيز قال : "ألا إن الدنيا بقاؤها قليل ، وغنيها فقير ، وحيها يموت ، أين الذين بنوا مدائنها وغرسوا أشجارها ماذا صنع التراب بأجسادهم ؟ لقد فارقوا الحدائق و ساروا بعد السعة إلى المدائق و توزعت الورثة ديارهم فيا ساكن القبر غدا ! ما الذي يغرك من الدنيا ؟ ألا ترى كل يوم ذاهبا إلى الله يتوسد التراب ويترك الأحباب ؟ فتزود لسفرك إلى الآخرة بالتقوى .

 

فيا اخوتي ! الاستراحة التي نجلس إليها ونحن في طريقنا من بلد إلى آخر ، ينبغي أن نتعامل معها على أنها استراحة ، لا أن نلتفت إلى جمال المكان الذي نحن فيه فينسينا  أننا على سفر ! ولا ننخدع بالشباب ولا بالمال ، فلا المال يبقى ولا الشباب يدوم ،  فهذا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه يخاطب الدنيا فيقول : غري غيري يا دنيا فإني طلقتك ثلاثا لا رجعة بعدها آه من بعد السفر ووحشة الطريق وقلة الزاد .

 

وهذا الحسن البصري رحمه الله شرب يوما شربة ماء و بكى  فقيل له : ما أبكاك أيها الإمام ؟ قال : تذكرت وأنا أرتوي من الماء قول الله عز و جل : ﴿ ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمها على الكافرين الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحياة الدنيا فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا وما كانوا بآياتنا يجحدون ﴾ الأعراف 51 . ويذكر أن هارون الرشيد طلب من احد العلماء أن يعظه فقال العالم : لو دامت الخلافة لغيرك ما وصلت إليك ! قال هارون : زدني أيها العالم . قال يا هارون : تلك قصورهم وتلك قبورهم ! قال هارون : زدني أيها العالم . قال : كفى بالموت واعظا ! فبكى هارون الرشيد حتى أخضلت لحيته ثم قال : أعليك دين فنقضيه عنك ؟ قال العالم الجليل :يقضيه عني من هو أقدر منك على قضائه . قال هارون : فخذ من مالي ما يكفيك رزقا لك ولعيالك . فتبسم العالم الجليل وقال : أتظن أن الله يرزقك و ينساني ؟!

 

ويروى أن الخليفة العباسي المهدي غضب على عبد الله بن مرزوق فحبسه وقال : أما تخاف أن أقتلك ؟ فضحك ابن مرزوق قائلا : ومتى كانت آجال الناس بغير يد رب العالمين ؟ يا مهدي ! إن كنت تملك موتا أو حياة فامنع الموت عن نفسك فلعلي أشهد موتك قبل إن تشهد موتي ! وقد حدث فعلا أن مات المهدي قبل عبد الله بن مرزوق ! وعندما يغادر احدنا الدنيا لن يصحبه إلى قبره إلا ماله وولده وعمله يعود المال و الولد و يبقى العمل .

 

اعلم يا أخي أن أشد الناس ندما يوم القيامة غني يرى ورثته يدخلون الجنة بماله ، وهو يدخل النار بنفس المال ؟ فإذا أصبحت فلا تحدث نفسك بالمساء وإذا أمسيت فلا تحدث نفسك بالصباح ، وخذ من حياتك لموتك ومن صحتك لسقمك . فإنك لا تدري ما اسمك غدا .

 

تزود من الدنيا فإنك لا تدري   إذا جن ليل هل تعيش إلى الفجر

 

وإذا كان كل ابن آدم خطاء فخير الخطاءين التوابون قال صلى الله عليه وسلم : ( والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم الواحد أكثر من سبعين مرة ) . وذلك من تصور انه مقصر في حق الله عز وجل فكيف يجب أن يكون حال أمثالنا وكلنا ذنوب ؟

 

فيا أخي ؟

 

أمضيت عمرا بحب الزائل الفاني   وعدت من جانب التقوى بحرمان

 

وما طلبت كمالا بعد نقصان   إلى متى أنت لاه أيـها الجاني

 

فاذكروا الموت فمن أكثر ذكره ، أكرمه الله بثلاث: " تعجيل التوبة، وقناعة القلب ، ونشاط العبادة. ومن نسي الموت ابتلي بثلاث: تسويف التوبة، وترك الرضى بالكفاف ، والتكاسل في العبادة "فتذكر الموت يردع عن المعاصي، ويلين القلب القاسي  ويمنع الركون إلى الدنيا ، ويهون مصائبها .

 

وفي النهاية تأمل يا أخي قول الشاعر :

 

ولدتك أمك يا ابن آدم باكياً     والناس حـولك يضحكون سرورا

 

فاحفظ لنفسك أن تكون إذا     بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسرورا

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الموت حق

الحمد لله الذي كتب على عباده الموت والفناء ، وتفرَّد سبحانه بالحياة والبقاء   كتبه اللـه وسماه مصيبة قـال تعـالى : )  فأصابتكم مصيبة الموت ( المائدة 106 . بل هو من أعظم المصائب ولكنه خير كما قال أبو الدرداء : "ما من مؤمن إلا والموت خيرٌ له فمن لم يصدّقني فإن الله يقول:)وما عند الله خيرٌ للأبرار(   والموت حقٌ لا ريب فيه ويقينٌ لا شك فيه قال تعالى : ) وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد ( ق 19 . فمن يجادل في الموت وسكرته ؟ ومن يخاصم في القبر وضمته ؟ ومن يقدر على تأخير موته وتأجيل ساعته ؟ لا أحد لقـوله تعـالى : ) فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ( الأعراف 24 . ابن آدم لماذا تطغى وفي التراب ستلقى ؟ ولماذا التسويف والغفلة وإنت طريد الموت   الذي لا ينجو منه هاربه ، ولا يفوته طالبه ، ولا بد أنه مدركه قال تعالى : ) كل نفسٍ ذائقة الموت (  فمن أكبر المصائب أن يموت الإنسان ، أما عند المؤمنين فهو تحفة وعرس ، روى الطبراني أن رسول الله r  قال : ( تحفة المؤمن الموت ) . وإنما قال هذا لأن الدنيا سجن المؤمن إذ لا يزال فيها في عناء من مقاساة نفسه ورياضة شهواته ومدافعة شيطانه ، والموت إطلاقٌ له من هذا كله ، والإطلاق تحفةٌ في حقه    فاستعدوا للقاء الله بطاعته والتمسك بمنهجه ، وإني لأعجب ممن يُدْعون إلى الرجوع إلى الله فلا يجيبون وبالموت لا يعتبرون ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ولقد أحسن القائل :

عجبت لمن يتم له السرور    بدارٍ كل ما فيـها غرور

وكيف يلذُّ ساكنها بعيش    ويعلم أن مسكنه القبور

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الغفلة عن الموت

إن الحياة في نظر الإسلام أهم من أن تنسى، ولكنها أتفه من أن تكون غاية قال تعالى: ] وَٱبْتَغِ فِيمَا ءاتَاكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلاْخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنْيَا [ القصص 77 .

كَيْفَ نغْفَلُ عَنْ الموت ، وَمَلَكُ الْمَوْتِ لا يَغْفُلُ عنا ؟، وكَيْفَ نتَّكِلُ عَلَى طُولِ الأَمَلِ وَالأَجَلُ يَطْلُبُنا ، إن العبد منا إذا كان على فراش الموت بُشر إما بجنة وإما بنار لأن العبد يموت على ما عاش عليه ، وإنما الأعمال بخواتيمها    فالصالحون يشتاقون إلى لقاء ربهم   ويعتبرون الموت جسراً يعبرون عليه إلى الآخرة  نعم يفرحون بالموت ما دام يقربهم إلى ربهم  .

الموت باب كل الناس داخله     فليت شعري بعد الموت ما الدار

الدار جنة عدن إن عملت بما     يرضي الإلـه وإن فرطت فالنار

هما مصيران ما للمرء غيرهما     فانظر لنفسك مـاذا أنت تختـار

عجباً لذاكر الموت كيف يلهو ؟ ومن تيقن حلوله كيف يزهو ؟ وإذا ذُكرت له الآخرة كيف يلغو ؟ أما علم أهل الغفلة أن أعمارهم عليهم حجة ، وأن أيامهم تقودهم إلى شقوة ، أما علموا أن الآخرة لا ترجى بغير عمل ؟ بل كيف ترجى التوبة مع الغفلة والتقصير وطول الأمل؟ إذا علم أن من طال أمله ضعف عمله .

فالويل لأهل الغفلة إن أعطوا لم يشبعوا   وان منعوا لم يقنعوا يأمرون بما لا يفعلون   وينهون وهم لا ينتهون ، وهم للناس لوامون ولأنفسهم مداهنون : ]ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ ٱلاْمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [ الحجر3

والناس في غفلة والموت يوقظهم     وما يفيقون حتى ينفد العمر

يشـيعـون أهـاليـهم بجمعهم   وينظرون إلى ما فيه قد قبروا

ويرجـعون إلى أحلام غفلـتهم   كأنهم ما رأوا شيئا ولا نظروا

إن عمل الإنسان لا يخلو من أحد أمرين  فإما عملا يحيل القبر إلى روضة من رياض الجنة ، وإما عملا يحيل القبر إلى حفرة من حفر النار . قال عمر بن عبد العزيز لأبي حازم عظني فقال : " اضطجع ، ثم اجعل الموت عند رأسك ، ثم انظر ما تحب أن يكون فيك تلك الساعة ، فجدّ فيه الآن   وما تكره أن يكون فيك فدعه الآن ، فو الله لو اضطجعنا ، وأقمنا الموت عند رؤوسنا ، لتركنا الكثير من فضول أعمالنا وأقوالنا ، ولظهر الاجتهاد في العمل   والإخلاص في النيات ، ولتضاءلت الحياة  استعداداً للممات .

تفكر في مشيبك والمآب    ودفنك بعد عزك في التراب

إذا وافيت قبراً أنت فيه     تقيم به إلى يوم الحساب

فطلق هذه الدنيا ثلاثـاً    وبادر قبل موتك بالمتاب

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 المـوت كفارة

كتب الله الموت على المخلوقات ليحاسبوا على ما كلفهم به ، فمن أطاع أوامره واجتنب نواهيه كان من الفائزين ومن عصاه كان من الخاسرين . والموت كفارة لكل ما يلقاه المسلم في مرضه من آلام وأوجاع لما روي عن أنس أن رسول الله e قال : ( الموت كفارةٌ لكل مسلم ) . وجاء في الحديث القدسي عن رب العزّة : ( إني لا أخرج أحداً من الدنيا وأنا أريد أن أرحمه حتى أوفيه بكل خطيئة كان عملها سقماً في جسده ، ومصيبةً في أهله وولده  وضيقاً في معاشه ، وإقتاراً في رزقه  حتى أبلغ منه مثاقيل الذر ، فإن بقي عليه شيء ، شددت عليه الموت ، حتى يفضي إلي كيوم ولدته أمه ) . وهذا يدل  على أن البلاء في حقيقتة نعمة لا نقمة ، ومن عجلت عقوبته في الدنيا لا يعاقب في الآخرة لما روى الطبراني عن أبي هريرة أن رسول الله r قال : ( إن الله تعالى يبتلي عبده المؤمن بالسُقْمِ حتى يُكَفِّرَ عنه كلَّ ذنب )  فمن تطهر في الدنيا من البلايا والمصائب ولقي الله  أدخله الجنة .

أم من لا يحبه الله ، فإن الله يتوفاه وليس له ما يتقي به النار فقد جاء في الحديث القدسسي عن رب العزة : ( وعزتي وجلالي لا أخرج عبداً أريد أن أُعذبه  حتى أوفيه بكل حسنةٍ عملها ، بصحةٍ في جسده وسعة في رزقه ورغدٍ في عيشه  وأمنٍ في سربه ، حتى أبلغ منه مثاقيل الذر فإن بفي له شيء ، هونت عليه الموت حتى يفضي إليَّ وليس له حسنةٌ يتقي بها النار ) . فقد حرموا أجر أعمالهم  لعدم الإيمان ، والله لا يقبل العمل إلا من المؤمن قال تعالى : ] وقدمنا إلى ما عملوا من عملٍ فجعلناه هباءً منثورا [ الفرقان 23 . فتزودوا بالأعمال الصالحة وأعدوا أنفسكم للقاء الله إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون .

 

 

كفى بالموت واعظاً

  قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( كفى بالموت واعظاً) . الموت هو الواعظ الأكبر  والحقيقة المطلقة التي لا شك فيها ، ولو لم يكن هناك موت لما كان للحياة أي قيمة. سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أعقل الناس فقال: ) أكثرهم ذكراً للموت  ( .وقال علي بن أبي طالب :"كفى واعظاً بموتى حُملوا إلى قبورهم غير راكبين  وأنزلوا فيها غير نازلين ، وأودعوا حفراً غير راغبين ، أنسو بالدنيا فغرتهم، ووثقوا بها فصرعتهم " .

  ومن لا يتعظ بالموت فهو من الغافلين الذين قال الله فيهم: ﴿ ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخُذُهم وهم يخِصّمون فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون ﴾ . وقد يأتي المرض نذيرا للموت فلا ينـزجرون  ويأتيهم الشيب رسولاً منه فلا يعتبرون   ومن لا يتعظون بهذا ولا يعتبرون بذلك أيظنون أنهم في الدنيا خالدون ؟ قال تعالى : ﴿ ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون ﴾ يس 31 .  فكم هلك وكم أهلكنا من الأمم فهل عاد منهم أحد ؟ كيف وقد قضى الله أنهم إلى الدنيا لا يعودون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لو تعلون ما أعلم لبكيتم كثيراً ولضحكتم قليلا) وعن علي رضي الله عنه قال :" من اشتاق إلى الجنة سارع إلى الخيرات  ومن أشفق من النار انتهى عن الشهوات ومن تيقن بالموت انهدمت عليه اللذات ومن عرف الدنيا هانت عليه المصيبات " فاستعدوا  للقاء الله إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون .

 

 كفى بالموت مزهِّداً

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( كفى بالموت مزهِّداً في الدنيا ومرغِّباً في الآخرة ) .

الزهد : انصراف الرغبة عن الشيء إلى ما هو خير منه ، أو ترك راحة الدنيا طلباً لراحة الآخرة ، قيل للحسن البصري  ما سر زهدك في الدنيا يا إمام ؟ "فقال الحسن أربعة أشياء : علمت أن رزقي لا يأخذه غيري فاطمأن قلبي ، وعلمت أن عملي لا يقوم به غيري فاشتغلت بعملي ، وعلمت أن الله مطلع على فأحسست أن يراني على معصيته ، وعلمت أن الموت ينتظرني  فأعددت الزاد للقاء ربى " والزهد من أسباب محبة الله عزّ وجل لقوله r : ( ازهَد في الدنيَا يُحِبكَ اللهُ ) ، وإذا كان الموت مزهداً فلماذا لا يدفعنا إلى التفكر في الانتقال من سعة الدنيا إلى ضيق القبر   وقد هجرنا الأخ والصديق والقريب والبعيد ، ولماذا لا نعتبر بمن  صاروا تحت التراب ، وقد كانوا قبل ذلك مع الأهل والأحباب جاء في الحديث القدسي أن الله ينادي عبده بعد أن يوارى التراب : ( عبدي رجعوا وتركوك وفي التراب دفنوك ، ولو ظلوا معك ما نفعوك ، ولم يبق لك إلا أنا وأنا الحي الذي لا يموت ) . ورغم شدّة الموت وقسوته في هذه الحياة الدنيا  إلا أنه أهون مما ينتظره بعده ،  ولقد أحسن القائل :

ولو أنا إذا متنا تركنا     لكان الموت راحة كل حيٍ

ولكنا إذا متنا بعثنا      ونُسأل بعد ذا عن كل شيءٍ

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لو تعلمون ما انتم لاقون بعد الموت ما أكلتم طعاما على شهوة أبدا ، ولا شربتم شراباً على شهوة أبدا ، ولا دخلتم بيتاً تستظلون به ) أتدرون لماذا ؟ لشدته وقسوته   وبطشه وسطوته ، فألمه دونه كل إيلام  ومرارة الصبر أقل من مرارته ، فالعاقبة لا تحمد لمن لم يستعد له قبل حلوله، ويوفق للعمل الصالح قبل نزوله ، أما من استعد للموت وتزود بالتقوى ، وعمل الصالحات  فالعاقبة محمودة ، والشدَّة منتهيةٌ إن شاء الله لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( آخر شدَّة يلقاها المؤمن الموت ) . هذه الشدَّة التي لو علمت بها البهائم ما أكلتم منها سميناً قال صلى الله عليه وسلم : ( لو تعلم البهائم من الموت ما يعلم بنوا آدم ما أكلتم منها لحماً سمينا ) . ففي هذه الحكمة الوجيزة أبلغ موعظة للقلوب الغافلة، والنفوس اللاهية بحطام الدنيا عما ينتظرها في الآخرة ، لأن الإنسان إما أن يحاسب فهو معاقب ، وإما أن يعاتب  والعتاب أشدُّ من ضرب الرقاب .

والموت هو الواعظ الأكبر ، وهو الحقيقة المطلقة التي لا شك فيها ، لا يغني عنه مال ولا ولد ، ولو لم يكن هناك موت ، لما كان للحياة معنى أو قيمة ، ومن لا يتعظ بالموت فهو من الغافلين ، الذين قال الله فيهم:] ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخُذُهم وهم يخِصّمون فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون { . وقد يأتي المرض نذيرا للموت فلا ينـزجرون  ويأتيهم الشيب رسولاً منه فلا يعتبرون ، ومن لا يتعظون بهذا ولا يعتبرون بذلك ، أيظنون أنهم في الدنيا خالدون ؟  فكم هلك وكم أهلكنا من الأمم ، فهل عاد منهم أحد ؟ كيف وقد قضى الله أنهم إلى الدنيا لا يعودون   قال تعالى : } ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون { يس 31 .

وأعقل الناس من أكثر ذكر الموت، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن أعقل الناس قال : ( أكثرهم للموت ذكرا ) لأن في تذكره السبيل إلى الإصلاح ، والتزود بالتقوى قبل فوات الأوان ، مصداقاً لقول القائل :

تزود من التقوى فإنك لا تدري    إذا جن ليلٌ هل تعيش إلى الفجر

فكم من صحيحٍ مات من غير علّةٍ     وكم من عليلٍ عاش حيناً من الدهر

وكم من عروس زينوها لزوجها  وقد قبضت روحها ليلة القدر

 

 

 

 

 

 

 

خلق الموت والحياة

 قال تعالى : }  الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا {الملك 2 . 

 الموت والحياة أمران مألوفان ، ومن الملك والقدرة كان خلق الموت والحياة ، وكان الابتلاء بهما ليختبر الله عباده ، فينظر أيهم له أطوع وإلى طلب رضاه أسرع     والموت هو الواعظ الأكبر والحقيقة المطلقة التي لا شك فيها لا يغني عنه مال ولا ولد   ولو لم يكن هناك موتٌ لما كان للحياة قيمة ، لأن الإنسان مهما قوي سلطانه وكثر ماله وولده ، وعظم جاهه فلا بقاء له في هذه الدنيا التي يحتقرها الإسلام أشد الاحتقار ، عندما تكون الأمل الذي لا أمل معه وعندما يركض الناس في طلبها لا لشيء إلا للحصول عليها والاستكثار منها قال تعالى : } فلا تغرّنكم الحياة الدنيا ولا يغرنّكم بالله الغرور { . وقال صلى الله عليه وسلم : (  لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء ) . رواه الترمذي وصححه.   وأنشدوا :

لا تأسف على الدنيا وما فيها    فالموت لا شك يفنينا ويفنيها

 فعلى من ساء فعله فيها أن يسارع إلى ربه بالأعمال الصالحة لتكون زاده في الحياة الآخرة ، وأن يبادر إلى المغفرة بالتوبة قبل حلول الأجل وليحذر التسويف لأن الموت يأتي بغتة وقد ورد في الحديث ( هلك المسوقون ) ، والموت قدرٌ لا مفر من لقائه في موعده المحدد ، قال تعالى : } قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم { الجمعة 7 . هذه لفتة من اللفتات القرآنية تُقِرُّ حقيقةً ينساها الناس وهي تلاحقهم أينما كانوا ، وهي أن هذه الحياة هبة من الله ونعمة ، لا تحفظها الأسباب،ولا يبقيها الفرار من الموت قال تعالى : ] ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم[ البقرة  243 . فروا من الموت فأماتهم الله ليعلمهم أن الموت قدره وقضاؤه ، ثم أحياهم ليعلمهم أن الحياة هبة من الله ومنة منه وفضل ، أماتهم ليعلمهم أن الموت قدرٌ لا مفر من لقائه في موعده  لا يستقدم لحظة ولا يستأخر  وأن الفرار لا ينفع في دفعه ، وأن الناس سيلاقون حتفهم المكتوب وأن لا عاصم لهم من الله ، ولا مولى لهم من دون الله  يحميهم ويمنعهم من قدر الله ، وما ينجو من الموت من خافه ولا يُعْطى البقاء لمن أحبه ، لأن الحياة على هذه الدنيا محدودة بأجل ثم تأتي نهايتها حتماً فكل نفس ستموت وتفارق هذه الحياة ، ولكن الفارق بين نفس ونفس في المصير الأخير كما قال الله تعالى : } فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز { . فلماذا لا نعمل عمل أهل الموتى ، ولم لا نبصر ولا نتدبر إذا كان الموت نهاية كل حي والمرجع إلى الله ولماذا لا نحسب حساب هذا المذاق  أم أننا نستبعد النهاية والفراق ، التي هي قدر من البارئ الخلاّق ولقد أحسن القائل  

كل شيء سوف يلقى حتفه    في مقامٍ أو على ظهر سفر                                               

والمنـايا حـوله ترصُـدُه     ليس ينجيه من الموت الحذر                                              

 وروي عن الأمام الغزالي قوله : " جدير بمن الموت مصرعه والقبر مقرّهُ والقيامة موعده والجنة أو النار مورده ألا يكون له استعدادٌ إلا للموت ولا تدبرٌّ إلا فيه ولا تطلّعٌ إلا إليه " . وقال الشافعي وهو على فراش الموت : أصبحت من الدنيا راحلا   ولكأس المنية شاربا ، وعلى الله واردا   ولا أدري أروحي تصير إلى الجنة فأهنيها أم إلى النار فأعزيها ثم أنشد :

ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي   جعلت الرجا مني لعفوك سلما

تعاظمني ذنبي فلمـا قرنتـه    بعفوك ربي كان عفوك أعظم

 كم هو جميل أن نجعل دنيانا مطيةً لآخرتنا مصداقاً للقائل:

تزود من الدنيا فإنك لا تدري    إذا جن ليلٌ هل تعيش إلى الفجر

 ألا نرون كل يومٍ ذاهباً إلى الله يتوسد التراب ويترك الأحباب ؟ فاستعدوا  للقاء الله إن الله مع الذين اتقوا والذين هم  محسنون .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ثناء الناس على الميت

إذا ذَكَرَ الناس الميت بالخير غلب على الظن أنه من أهل الخير ، لأنه من الطبيعي أن الله إذا أحب عبداً ، أن يلقي على ألسنة المسلمين الثناء الحسن عليه ، وفي قلوبهم المحبة لـه ، وهذا من نعمة الله على عباده   الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح  وأحلوا الحلال ، وحرموا الحرام ، وفعلوا ما يرضي الله ، أن يجعل لهم محبةً ووداً في قلوب الناس ،  وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعلي بن أبي طالب : ( قل يا علي اللهم اجعل لي عندك عهداً واجعل لي في قلوب المؤمنين مودةً ) فنـزلت الآية : ] إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا [ مريم 96، ومن كان من الصالحين المتقين أحبه الله ، ومن نعمة الله أن جعل هذه المحبة بين المؤمنين ، فضلاً منه وتكرما ومودة ، بدون قرابة وبدون صداقة أو مصالح مشتركة ، لذا كان هرم بن حيّان يقول : " ما أقبل أحد بقلبه على الله تعالى إلا اقبل الله تعالى بقلوب أهل الإيمان إليه حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم " . وفي الحديث القدسي : ( إن الله إذا أحب عبداً نادى في السماء إنني أحببت فلاناً فأحبوه وينادي جبريل في الأرض : إن الله أحب فلاناً فأحبوه  ويضع له القبول في الأرض ) مسلم . فتودد الناس للعبد دليل على قبوله عند مولاه ، فهم شهداء الله في أرضه . قال صلى الله عليه وسلم : ( ما أقبل عبدٌ بقلبه إلى الله عز وجل إلا جعل الله قلوب المؤمنين تفِدُ إليه بالود والرحمة وكان الله إليه بكل خيرٍ أسرع ) الطبراني . وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدل على جواز ذكر المرء بما فيه من خيرٍ أو شرّ للحاجة ، ولا يكون ذلك من الغيبة روى البخاري عن ابن صهيبٍ قال : سمعت أنس بن مالك يقول : مُرَّ بجنازة فأثنوا عليها خيرا فقال النبي صلى الله عليه وسلم : وجبت  ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شرّاً فقال : وجبت ، فقال عمر بن الخطاب : ما وجبت ؟ قال: هذا أثنيتم عليه خيراً فوجبت له الجنة ، وهذا أثنيتم عليه شرّاً فوجبت له النار ، أنتم شهداء الله في الأرض ) هذا يدل على أن الذي أثنوا عليه خيراً رأوه منه ، وهذا يختص بالمتقين والمتقيات وقال النووي : المعنى أن الثناء بالخير لمن أثنى عليه أهل الفضل ، وكان ذلك مطابقاً للواقع ، فهو من أهل الجنة وإلا فلا ، فثناء الناس على الميت ، دليل رضا الله ومحبته ، ومن أحبه الله حببه إلى خلقه ، وهذا من بشرى الله العاجلة للميت ، فقد قيل للرسول  صلى الله عليه وسلم : أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير ويحمده الناس عليه ؟ قـال : ( تلك عاجل بشرى المؤمن ) مسلم .

  

 

 

 

 

 

  

 

   لا ينجو من الموت  أحد

جاء في القرآن ما يدل على أن الموت لن ينجو منه أحد كائناً من كان ، ولو بذل من أسباب الحماية ، وسبل الوقاية ما بذل قال تعالى :  ] أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [ النساء 78 .  

يا نفس توبي فإن الموت قد حانا     واعصي الهوى فالهوى ما زال فتانا

في كل يوم لنا ميت نشـيعه            نرى بمـصرعه آثـار موتـانا

ما بالنا نتعامى عن مصائرنا                ننسى بغفلتنا مـن ليس ينسانا

  يا راكضا في ميادين الهوى مرحاً       ورافلاً في ثياب الـغي نشوانا

   مضى الزمان وولى العمر في لعب يكفيك ما قد مضى قد كان ما كانا

 من الطبيعي أن من هرب من شيء فإنه يتركه وراءه ، إلا القبر فما يهرب منه أحد إلا وجده أمامه ، فالقبر ينتظرنا ، ونحن نتقدم إليه ، روى المزني قال : دخلت على الشافعي في علته التي مات فيها ، فقلت : كيف أصبحت ؟  فقال : أصبحت من الدنيا راحلاً ولإخواني مفارقاً ، ولكأس المنية شارباً ، ولسوء عملي ملاقياً ، وعلى الله تعالى وارداً ، فلا أدري أروحي تصير إلى الجنة فأهنيها ، أو إلى النار فأعزيها   ثم بكى ، وأنشأ يقول :

ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي     جعلت الرجا مني لعفوك سلما

تعـاظمني ذنبي فلما قـرنته      بعفوك ربي كان عفوك أعظما

وما زلتَ ذا عفو عن الذنب      لم تزل تجود وتعفو منة وتكْرما

 فاتقوا الله عباد الله ، واعلموا أن الدنيا، دار بلاء وفناء وابتلاء ، وامتحان واختبار لذلك قدر الله فيها الموت والحياة فقال تعالى : ] الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا [ الملك . الموت والحياة أمران مألوفان ، ومن الملك والقدرة كان خلق الموت والحياة وكان الابتلاء بهما ، ولو لم يكن هناك موت لما كان للحياة أية قيمة ، وهو أعظم تحدٍّ تحدى الله به الناس أجمعين ] قل فادرؤوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين [    أين الملك ؟ أين الجاه ؟ أين الأكاسرة ؟ أين القياصرة ؟ أين الزعماء ؟ أين من غرتهم من غرتهم الدنيا ، وفرحوا بمتاعها الزائل  .     

نبكي على الدنيا وما من معشر    جمعتهم  الدنيا فلم يتفرقوا                                                   أين الأكاسرة الجبابرة الأولى    كنـزوا الكنوز فما بقين وما بقوا

من كل من ضاق الفضاء بجيشه   حتى ثوى فـحواه لحـدٌ ضيق

 أتى على الكـل أمر الله الذي لا مرد له حتى قضوا فكأن القـوم ما كانوا وما صاروا ، ومن تأمل في الموت علم أنه كأس تدار على من قام أو سار ، يخرج به العباد من الدنيا إلى جنة أو نار ، وهو لا يفرق بين كبير وصغير ، ولا غني ولا فقير ولا عبد ولا أمير ، خرج هارون الرشيد يوماً في رحلة صيد ، فمرّ برجل يقال له بُهلول ، فقال هارون : عظني يا بُهلول  قال : يا أمير المؤمنين !! أين آباؤك وأجدادك ؟  قال هارون : ماتوا ، قال : فأين قصورهم ؟ قال : تلك قصورهم   قال : وأين قبورهم ؟ قال : هذه قبورهم   فقال بهلول : تلك قصورهم ، وهذه قبورهم ، فما نفعتهم قصورهم في قبورهم ؟ قال : صدقت ، فقال زدني يا بهلول   قال أما قصورك في الدنيا فواسعة ، فليت قبرك بعد الموت يتسع ، فبكى هارون وقال : زدني ، فقال : يا أمير المؤمنين   هب أنك ملكت كنوز الدنيا ، وعُمرت السنين ثم ماذا ؟ أليس القـبر غـاية كـل حيٍ وتُسأل بعده عن كل شيء ؟  قال : بلى ، ثم رجع هارون ، وانطرح على فراشه مريضاً ، ولم تمضِ عليه أيام حتى نزل به الموت ،  فلما حضرته الوفاة وعاين السكرات ، صاح بقواده وحجابه : اجمعوا جيوشي ، فجاءوا بهم بسيوفهم ودروعهم ،كلهم تحت قيادته وأمره ، فلما رآهم  بكى ثم قال : يا من لا يزول ملكه   ارحم من قد زال ملكه ، ثم لم يزل يبكي حتى مات . ومن وصايا عيسى عليه السلام : " من ذا الذي يبني على موج البحر دارا ، تلكم الدنـيا فـلا  تتخذوها قرارا  " وسئل سلمة بن دينار : كيف القدوم غدا على الله عز زجل ؟ قال : أما المحسن فكالغائب يقدم على أهله   وأما المسيء فكالهارب يعود إلى سيده .

] قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب و الشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون [ الجمعة8 .

 

قالوا عن الموت

كم هو جميل أن نجعل دنيانا مطية لآخرتنا ، يروى أن عمر بن عبد العزيز قال : "ألا إن الدنيا بقاؤها قليل وغنيها فقير وحيها يموت أين الذين بنوا مدائنها وغرسوا أشجارها ماذا صنع التراب بأجسادهم ؟ لقد فارقوا الحدائق و ساروا بعد السعة إلى الضيق و توزعت الورثة ديارهم فيا ساكن القبر غدا ! ما الذي يغرك من الدنيا ؟ ألا ترى كل يوم ذاهبا إلى الله يتوسد التراب و يترك الأحباب ؟ فتزود لسفرك إلى الآخرة بالتقوى

عباد الله : اعلموا أن الآمال تطوى، والأعمار تفنى، والأبدان تحت التراب تبلى والليل والنهار يقربان كل بعيد ، ويبليان كل جديد ، فاستعدوا للموت  بالإكثار من الطاعات  والمسارعة إلى القربات ، فقد كان الصالحون يتحسرون عند الممات ، على فراق الأعمال الصالحات  ويودون لو طالت بهم الحياة ، للتزود من رفع الدرجات ، وتكثير الحسنات ، ويخافون يوم الحسرات .

فيا من كثرت أوزاره وقلّ استغفاره ، وقد قرب من القبور وقوي عنده الفتور ، أين ندمك من الذنوب ؟ وأين حسرتك على العيوب ، اذكر من إذا أطعته أفادك ، وأصلح قلبك وفؤادك ، وإذا شكرته زادك ، أما تعلم أنه لا نوم أثقل من الغفلة ،  ولا رِقَّ أملك من الشهوة ، و لا مصيبة  تعدل موت القلب ، و لا نذير أبلغ من الشيب ، أما تعلم أن أعقل الناس المحسن الخائف ، وأن أحمق الناس المسيء الآمن ، وأن من زرع حصد ومن جد وجد ، فكيف تلهو وعمرك يقودك إلى أجلك ، وحياتك إلى موتك ، وأن كلامك عليك مكتوب ، وقولك عليك محسوب ، وأنت تعلم أنك للموت مطلوب ، فلماذا لا تتوب من الذنوب ، ولماذا لا تحاسب نفسك ، فإنها ما ملكت عبداً إلا ذل ، وما ملكها عبدٌ إلا عز ، الموت كلمة ترتج لها القلوب، وتقشعر منها الجلود، ما ذكر في قوم إلا ملكتهم الخشية، وأخذتهم العبرة، وأحسوا بالتفريط وشعروا بالتقصير، فندموا على ما مضى، وأنابوا إلى ربهم، فنسيان الموت ضلال مبين، وبلاء عظيم، ما نسيه أحد إلا طغى، وما غفل عنه امرؤٌ إلا غوى، ولا يمكن علاج ذلك ولا التخلص منه إلا أن يتذكر الإنسان قول الله وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَي أَرْضٍ تَمُوتُ﴾ لقمان:34. وقوله : (أكثروا من ذكر هادم اللذات: الموت) ، هو المصير المحتوم ، والقدر المُقدّر على الخلق ، والحقيقة التي لا يُجادل فيها مؤمن ولا كافر ، ولا يُماري فيها عاقل ، إننا لا نشك طرفة عين بأن الموت حق ، وأنه آتٍ لا محالة ، من فـرّ منه وقع فيه : ﴿ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ﴾ .  

وقول الله أصدق وأبلغ ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ﴾ وإنما العبرة بما بعد الموت : ﴿ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ﴾ ولقد قيل لسيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام : ﴿ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ﴾ وقيل لعامتهم : ﴿ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ ﴾ . هذه الحقيقة الحاضرة الغائبة ، نحن على يقين من هذه الحقيقة ، ولكن ماذا بعد هذه الحقيقة ؟ ما ذا قلنا ؟ ما ذا عملنا ؟ ما ذا قدّمنا ؟ كم تخطّفت يد المنون من صاحب ؟ وكم أخَذَتْ من حبيب ؟ وكم ذَهَبَتْ بعزيز ؟

بل كم أخَذَتْ – على حين غِـرّة – من ظالم يتبختر ، فإذا هو خبر بعد عين ؟ وكم قَصَمَتْ من جبار عنيد ؟ وكم تخّطتنا المنون إلى غيرنا وسيأتي اليوم الذي تتخطّى غيرنا إلينا : ﴿ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ﴾  الموت لا يُؤخِّره جُبن جبان ، ولا تُقدِّمـه شجاعة شُجاع

فإنك لو سألـتِ بقـاء يـوم   على الأجل الذي لك لن تُطاعي

الموت .. يأتي فجأة ، وينـزل بغتة ، لا يُفرّق بين صغير أو كبير ، بين مُعظّم أو مُحتقر  بين ساكن القصر أو ساكن بيت الشَّعر . إذا حانت ساعة الأجل بادَر ، يأتي على غير موعد سابق ، إن في الموت لعِبرة ، وإن في مروره لذكرى ، يمرّ بنا فيأخذ قريبا أو صاحبا وكأنه يُذكّرنا بأيامنا وبقدومنا على ربنا ، فنحزن ونتّعظ ، ولكن سرعان ما نلهو وننسى ، فما تلبث الأيام حتى تأتينا ذكرى ربما كانت أقوى ، ولكن بعض الرؤوس تبقى غير آبهة بالذّكرى ،  حتى يناديه المنادي ، ولا ينفعه النداء   (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) قد كنت تهرب من مواطن الموت ، وقد كنت تخشى مفاجأة القضاء ، وقد كنت تحيد عما يضرّ بك ، ولكن اليوم لا مفرّ ولا مَحيد . أما إنه كان غافلا والموت يرقُـبه: ﴿ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا ﴾ . قال ابن الجوزي رحمه الله: أيها القائم على سوق الشهوات في سوق الشبهات ، ناسيا سَوق الملمّات إلى ساقي الممات .  إلى كم مع الخطأ بالخطوات إلى الخطيئات ؟  ذلك اليوم هو يوم الفراق ، يوم التلاق ، يوم تبلغ الروح الحلقوم ، يوم لا تنفع الأموال الطائلة ولا العمارات الشاهقة ولا السيارات الفارهة.  أحذركم  من ذلكم النداء الأخير الذي يناديك فيه رب العزة والجلال إليه ، ويسترد الأمانة وهي النفس والروح التي خلقها فيك ، وذلك بقبض روحك ، ومفارقة أهلك وأحبابك . أحذركم الموت ، وملك الموت ، قال الله تبارك وتعالى : ﴿ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ الجمعة8.  إنني أهيب بكل غني وكل غنية وكل لاه في هذه الدنيا أن يرجع إلى ربه ويتوب ويقلع عن المعاصي والذنوب ، وينوب إلى ربه ويتوب، قبل أن ينقطع به النفس الأخير ، وتخرج منه آخر عملية زفير وشهيق في هذه الحياة الدنيا .

أين ملكك يا ابن آدم .   أين سلطانك وجبروتك .  بل أين أموالك التي كنت تجمعها في الدنيا من حلال وحرام وتلهو بها في المحرمات والآثام .  وأين جاهك وعزك!!

أين قوتك التي كنت تستعملها ضد الضعفاء!!

أين بطرك وتجبرك على غيرك من الناس الأبرياء!!!

لقد ذهب ذلك كله أدراج الرياح وها أنت الآن الآن --- تخيل معي نفسك يا عبد الله وأنت يا أمة الله الآن ، أن ملك الموت قد أتاك ، ويريد أن يقبض روحك فهل استعددت لتلك اللحظة أم تقول أمهلني حتى أفعل من الحسنات كذا وكذا .... كلا فإنه قد انتهى وقت حياتك ، وأزف رحيلك ،واقترب أجلك وحانت ساعة موتك ، فهيهات هيهات الرجوع إلى الدنيا ...وهيهات زيادة لحظة واحدة فقط لحياتك!!!!

ها أنت الآن في تلك اللحظة - تودع أهلك وزوجتك وأولادك من حولك ينظرون إليك ولا يملكون لك نفعا ، ولا يملكون لك شيئا ، قال تعالى في سورة الواقعة : ﴿ فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ معناه: فهلا تَرجعُون هذه النفس التي قد بلغت الحلقوم إلى مكانها الأول ، ومقرها في الجسد إن كنتم غير مدينين.

قال ابن عباس: يعني محاسبين. ورُوي عن مجاهد، وعِكْرِمَة، والحسن، وقتادة، والضحاك، والسُّدِّيّ، وأبي حَزْرَة، مثله.

وقال سعيد بن جُبَيْر، والحسن البَصْرِي: ﴿ فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ ﴾ غير مصدقين أنكم تُدانون وتبعثون وتجزون، فردوا هذه النفس.

فاللهم إنا نسألك حسن الخاتمة ونعوذ بك اللهم من سوء الخاتمة..

هذه ذكرى للمتذكرين وموعظة للعاصين ، وتنبيه للغافلين

فيا ليت قومي يعلمون ...ومن غفلتهم يفيقون ...!!!

مرض أعرابي فقيل له: إنك ستموت؟  قال: وإذا مت إلى أين أذهب؟  قالوا: إلى الله عز وجل.  قال: فما كراهتي أن اذهب إلى من لم أرى الخير إلامنه سبحانه .

لما حضرت محمد بن سيرين الوفاة بكى! فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: أبكي لتفريطي في الأيام الخالية، وقلة عملي للجنة العالية، وما ينجيني من النار الحامية.  ابن آدم لماذا تتجاهل حقيقة الموت وشدته، و القبر وظلمته، ويوم القيامة وكربته، والصراط وزلته، الحقيقة دائماً وأبداً، حقيقة أن الدنيا مدبرةٌ فانية: ﴿ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ﴾ غافر:39  وأن المرد إلى الله، وأن الحياة موقوتة، والآجال محدودة، والأنفاس معدودة، ثم تأتي النهاية الحتمية، ويحل هادم اللذات، ومفرق الجماعات، ثم بعد ذلك يكون الناس فريقين فإما إلى جنة عالية، قطوفها دانية، وإما إلى نار حامية، نعوذ بالله من غضبه وأليم عقابه، فكأس الموت تتذوقه كل النفوس، وجرعته يتحساها كل حيٍ في هذه الحياة، لا فرق بين إنسانٍ وآخر، إنما الشأن كل الشأن ما بعد هذه اللحظة الحاسمة، من المصير الذي يستحق أن يعمل من أجله العاملون.

فلو أنا إذا متنا تركنا   لكان الموت غاية كل حي

ولكنا إذا متنا بعثنا    ونسأل بعدها عن كل شيء

كل مسافر يرغب الوصل إلى دار مقامه لا بد له من زاد يحمله وراحلة توصله، وهاد يرشده طريق النجاة وسبيل السلامة وإن فقد واحدة من تلك الأمور تعثر في سيره وظل طريقه وأخطأ واحدة من تلك الأمور تعثر في سيره وظل طريقه وأخطأ في الوصول إلى غايته ومنتهاه، وكان في ذلك هلكته .

فكيف بنا معشر السائرين إلى الله، والراغبين في الوصول إلى دار المقامة ومنازل المكرمة، لابد لنا من زاد ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾ البقرة: من الآية197، ولا بد لنا من راحلة نستقلها ونركب عليها  ﴿ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ ﴾ هود: من الآية42، وهذه الراحلة هي سفينة النجاة التي دعا نوح عليه السلام في زمانه قومه لركوبها نجاة من الطوفان وهذه الراحلة في زماننا هي سفينة الإتباع للنبي صلى الله عليه وسلم وعدم الابتداع سفينة الاقتداء والمباعدة والمفارقة للصف الكافر.  ......منقول

 

 

 

 

العمل للدنيا والآخرة

 

لقد تكفل الله تعالى لمن آمن به وعمل صالحاً وجاهد في سبيله ، وسار إليه وسعى له  أن يزيده من فضله   ويبارك له في عمله ، ويجزيه خير الجزاء كما قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ 69 العنكبوت وقال تعالى:﴿ وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا ﴾ 19 الإسراء، أي مقبولاً ، وقد يكون عمل أهل الدنيا غير مضمون النتائج فليس بالضرورة كل من عمل لطلب شيء في  الدنيا يناله  فكم من إنسان سعى لكسب مال ، فما ازداد إلا فقراً، لاْن الله تعالى يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب كما قال تعالى : ﴿ كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا ﴾20 الإسراء   فهو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر بمقتضى حكمته وعلمه بما يصلح حال الناس قال تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾52 الزمر .

 

فأهل الدنيا لا ينالون بعملهم إلا الدنيا وما لهم في الآخرة من نصيب كما قال تعالى:﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ ﴾20 الشورى، وأما أهل الآخرة فإنهم ينالون بطاعتهم وعملهم الدنيا والآخرة ، كما قال تعالى: ﴿ مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾ 52 النساء .

 

سأل رجل الإمام على رضي الله عنه، أريد أن أعرف نفسي هل أنا من أهل الدنيا أم من أهل الآخرة؟ قال جواب هذا السؤال ليس عندي ، بل عندك. قال الرجل كيف ذلك؟ قال إذا دخل عليك رجلان   أحدهما اعتاد أن يأتي لك بهدية ، والآخر اعتاد أن يطلب منك حاجه أو معونة ، فأنظر إلى أي منهم تبش وترحب.. فإن رحبت بالذي يأتيك بهدية   فأنت من أهل الدنيا ، لأنك تحب من يعمر لك دنياك ، أما إن رحبت بمن اعتاد أن يطلب منك حاجه أو معونة ، فأنت من أهل الآخرة ، لأنك تحب من يعمر لك ما تحب ، والذي يأخذ يعمر لك آخرتك " . لقد نهانا الله أن نكون عبيداً للدنيا، وقد فهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ، فركبوها ولم تركبهم  وعَبَّدوها لله ولم تستعبدهم، وقاموا بالخلافة عن الله فيها بكل ما تقتضيه الخلافة عن الله من تعمير وإصلاح، وكانوا يبتغون وجه الله، ويرجون الدار الآخرة، فسبقوا أهل الدنيا في الدنيا، وأهل الآخرة في الآخرة، والدنيا ، فقد آمنوا بأن الدنيا ونعيمها ما هو بالنسبة للآخرة ، إلا لهو ولعب كما قال تعالى : ﴿ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ الأنعام 32. فمن أراد أن يعيش لهذه الدنيا وحدها ، فإن الله يعجل له خطة من الدنيا حين يشاء، ثم تنتظره في الآخرة جهنم عن استحقاق، مذموماً بما ارتكب، مدحوراً بما انتهى إليه من عذاب: ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا ﴾الإسراء 18. ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها فإنه يلقى التكريم في الآخرة، جزاء السعي الكريم في الدنيا: ﴿ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ﴾ الإسراء 19.  وأهل الدنيا والآخرة ، إنما ينالون من عطاء الله وعطاء الله لا يحظره أحد ولا يمنعه: ﴿ كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ﴾الإسراء20.  هناك من اغتر بزخرف الدنيا   فصحبوها صحبة البهائم، وتمتعوا بها تمتع السوائم  وغفلوا عن ربهم، ومعرفة شرعه والعمل به، فهؤلاء يتمتعون في الدنيا قليلاً، فإذا ماتوا فإلى جهنم وبئس المصير : ﴿ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ   مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ . وأما من يتناول من الدنيا ما يستعين به على ما خلق له، ويجعل الدنيا منزل عبور لا محل حبور  فيبذل جهده في معرفة ربه، وتنفيذ أوامره، وإحسان العمل الموصل للجنة، فهذا بأحسن المنازل عند الله  وهو حقيق منه بكل كرامة ونعيم وسرور كما قال سبحانه:  ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ ﴾ محمد 12.  فعالم اليوم يعتبرون أن الدين لله ، وأن الحياة للناس يفعلون فيها ما يشاؤون، وتؤدي البشرية هذه الضريبة الفادحة، ضريبة الشقاء والقلق، والحيرة والخواء؛ لأنها لا تهتدي إلى منهج الله الكامل الذي لا يفصل بين الدنيا والآخرة بل يجمع، ولا يقيم التناقض والتعارض بين الرخاء في الدنيا والرخاء في الآخرة   فنرى أمماً لا تؤمن ولا تتقي، ولا تقيم منهج الله في حياتها، وهي موفورة الخيرات، كثيرة الإنتاج، عظيمة الرخاء ، لكنه رخاء موقوت ، لأن اتخاذ منهج للآخرة من عند الله، واتخاذ منهج للدنيا من عند الناس، في حياة واحدة، ومجتمع واحد، فإن ذلك يؤدي إلى التصادم المؤدي إلى الهلاك والدمار والاضطراب ، فالرغبة في الآخرة لا تعني إهمال الدنيا وتركها بلا جهد لتحسينها وإصلاحها وتركها للطغاة والمفسدين ، فالدنيا مزرعة للآخرة والجهاد في الحياة الدنيا لإصلاح هذه الحياة، ورفع الشر والفساد عنها، ورد الاعتداء والظلم عن أهلها وتحقيق الخير والعدل للناس جميعاً، هو زاد الآخرة  والمسلم إنما يزاول هذه الحياة الدنيا وهو يعلم أنه أكبر منها وأعلى، ويستمتع بطيباتها أو يزهد فيها وهو يعلم أنها حلال في الدنيا، خالصة له يوم القيامة كما قال سبحانه: ﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ الأعراف 32.

 

ويجاهد المسلم لترقية هذه الحياة، وتسخير طاقاتها وقواها، وهو يعرف أن هذا واجب الخلافة حين استخلفه الله فيها ، ويكافح الشر والفساد والظلم محتملاً الأذى، وهو إنما يقدم لنفسه في الآخرة، إنه يعلم من دينه أن الدنيا مزرعة الآخرة، وأن ليس هناك طريق للآخرة لا يمر بالدنيا، وأن الدنيا صغيرة زهيدة مؤقتة، ولكنها من نعمة الله التي يجتاز منها إلى نعمة الله الكبرى في الآخرة. والله تبارك وتعالى كما اجتبى الرسل، وأرسلهم لهداية البشرية، كذلك هو سبحانه اجتبى هذه الأمة، وأعطاه﴿ كنتم خير أمة أخرجت للناس ﴾ا مهمة الإشراف على الحياة البشرية وقيادتها بدين الله  إنّ هذه الأمة بحاجة إلى وعي لرسالتها، ومعرفة لدورها القيادي، واحترام لقدراتها ومكانتها، فمتى ما عرف الإنسان المسلم أنّه مكلّف بمواصلة مسيرة الأنبياء، وحمل الدعوة الإسلامية إلى العالم أجمع، وهداية الإنسان، يكون قد اكتشف موقعه ودوره الإنساني في الحياة، والذي شخّصه القرآن الكريم، عندما وضع النصّ الآتي على لسان الرسول  صلى الله عليه وسلم : ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ يوسف 108.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

  الدنيا فانية والآخرة باقية

هذه الدنيا مهما طالت فهي إلى زوال ، فما من أول إلا وله آخر ، والليل مها طال فلا بد من طلوع الفجر  والعمر مهما طال فلا بد من دخول القبر وإن لنا موعداً آت لا محالة ، وسنوارى التراب حالنا حال من سبقنا ولقد صدق القائل :  

    أتيت القبور فناديتها    فأيـن المعـظَّم والمحتقر

    وأين المذِّل بسلطانه   وأين العظيم إذا ما افتخر

   تنادوا جميعاً فلا مخبرٌ    وماتوا جميعاً وأضحوا عبر

ألا ترون هذه القبور ؟ ألا تذكركم بالآخرة ؟ فكم وكم دُفنت أممٌ وانتهت ؟ السنا ننتظر هذا المصير ؟ وماذا ينتظرنا بعده ؟ هل هو النعيم المقيم أم العذاب الأليم ؟

ولو أنا إذا متنا تُركنا    لكان الموت راحة كل حي

ولكنا إذا متنا بعثنا       ونُسأل بعدها عن كل شيْ

قال رسول الله r : ( الدنيا عرَضٌ حاضر يأكلُ منه البَر والفاجر والآخرة وعدٌ صادق   يحكم فيها ملِكٌ عادل ، يحق الحق ويبطل الباطل ، فكونوا أبناء الآخرة ، ولا تكونوا أبناء الدنيا ، فإن كلَّ أم يتبعها ولدُها ) . هذه الحياة محدودةٌ فانية ، وان ورائَها حياةٌ أخرى ، وأن مصيرها إلى الزوال وأن الآخرة دار القرار ، وأن الحياة ليست هي الغاية والنهاية ، بل هي وسيلة الآخرة وسبيلها ومزرعتها ، فمن زرع في الدنيا خيراً حصد في الآخرة خيراً وكان من أهل النعيم المقيم ، الذي لا يحيط به الوصف   لأن وصفه لا يخطر على بال ، روى البخاري أن رسول الله  e قال فيما يرويه عن ربه  : ( أعددت لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأت ، ولا أذنٌ سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ) من صنوف الإنعام والتكريم ، أما أهل النار الذين يقاسون فيها العذاب الأليم ، الذي صوره الله في مشهد من مشاهد القيامة يتجلى فيه الهوان في مصيرٍ مفجع ، صوره الله لنا في قوله تعالى : } هذان خصمان اختصموا في ربهم   فالذين كفروا قُطِّعت لهم ثياب من نار يُصبُّ من فوق رؤسهم الحميم ، يصْهَرُ به ما في بطونهم والجلود  ولهم مقامعُ من حديد ، كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غمٍّ أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق { الحج 19 . هذا هو حال المؤمنين والكافرين فهل يعتبروا ويتعظوا من أرهب الموت قلوبهم وأفزع نفوسهم فحسبوا حسابه قبل نزوله ، واستعدوا له قبل حلوله .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ذكر الموت والاستعداد له

 الاستعداد للموت يكون بإخلاص العمل لله، والتجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والتوبة من المعاصي، والخروج من المظالم، وأداء الحقوق، وفعل الطاعات، واجتناب المحرمات، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [110]} [الكهف:110]. ويكون بالإكثار من ذكره   والتفكر فيه ، لأنه يقع بغتة وكما قيل : " سهمٌ بيد سواك لا تدري متى يغشاك " وقال لقمان لابنه : يا بني أمرٌ لا تدري متى يلقاك استعد له قبل أن يفجأك " . والعاقل من لزم ذكر الموت عملاً بقول رسول الله r عن أبي هريرة :( أكثروا ذكر هادم اللذات الموت ) .

 وما ألزم عبدٌ نفسه بذكر الموت إلا صغرت الدنيا في عينيه ، وهان عليه جميع ما فيها ، وضاعف أعماله وتزود بالتقوى استعداداً له  روي عن بعض السلف قوله : " كلنا قد أيقن بالموت وما نرى له مستعدا  وكلنا قد أيقن بالجنة وما نرى لها عاملا  وكلنا قد أيقن بالنار وما نرى لها خائفاً "  فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن الدنيا ليست لكم بدار ، وأن التقي من قدَّم توبته وغلب شهوته وثقوا أن ما بين أحدكم وبين الحنة أو النار إلا الموت أن ينـزل به ، عن يحي بن معاذ قال : " طوبى لمن ترك الدنيا قبل أن تتركه وبنى قبره قبل أن يدخله وأرضى ربه قبل أن يلقاه " .

جعلنا الله وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه . 

 

 

 النهي تمني الموت  

لا يجوز طلب الموت ولا يجوز تمنيه أيضاً، لقوله r : ( لا يتمنينَّ أحدكم الموت لضُرٍ نزل به، فإن كان لابد متمنياً فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي )متفق على صحته . قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله : " فتمني الموت يقع على وجوه ، منها : تمنيه لضر دنيوي ينـزل بالعبد  فينهى حينئذٍ عن تمني الموت ، ووجه الكراهية في هذه الحال أن المتمني للموت لضر نزل به إنما يتمناه تعجيلاً للاستراحة من ضره ، وهو لا يدري إلى ما يصير بعد الموت  فلعله يصير إلى ضرٍ أعظم من ضره ، فيكون كالمستجير من الرمضاء بالنار ، وفي الحديث عن النبي  r قال : (  إنما يستريح من غفر له ) . وروي أن بعض الأخيار من الأنبياء، والمرسلين، والصحابة ، والسلف الصالحين من هذه الأمة  تمنوا الموت وسألوه ، منهم يوسف عليه السلام حين قال : ] توفني مسلماً وألحقني بالصالحين  [ و ما حكاه الله على لسان سحرة فرعون:] قالوا ربنا أفرغ علينا صبراً وتوفنا مسلمين [  وما حكاه الله على لسان مريم عندما اتهمت بالفاحشة : ] يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً [ .  

 ويجوز تمني الموت عند حضور أسباب الشهادة ، ولمن وثق بعمله واشتاق لقاء ربه   

قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله: " وقد دل على جواز ذلك قول الله عز وجل: ] قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين [

 وفي مسند أحمد عن أبي أمامة قال: جَلَسْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ r فَذَكَّرَنَا وَرَقَّقَنَا، فَبَكَى سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فَأَكْثَرَ الْبُكَاء ،َ فَقَالَ:  يَا لَيْتَنِي مِتُّ . فَقَالَ النَّبِيُّ r : ( يَاسَعْدُ، أَعِنْدِي تَتَمَنَّى الْمَوْتَ ؟ فَرَدَّدَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍثُمَّ قَالَ : يَا سَعْدُ، إِنْ كُنْتَ خُلِقْتَ لِلْجَنَّةِ فَمَا طَالَ عُمْرُكَأَوْ حَسُنَ مِنْ عَمَلِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَك ) . وهذا إذا كان الضر دنيويًّا ، أما إذا كان فتنة في الدين فيجوز سؤال الموت ، كما قال الله تعالى ، إخبارًا عن السحرة لما هدَّدهم فرعون بالقتل قالوا : ] رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ [ الأعراف  126.

 

 

 

 

ذكر الموت حياة

الحمد لله الذي أوجد الكون من عدمٍ ودبره؛ وخلق الإنسان من نطفةٍ فقدره؛ ثم السبيل يسره؛ ثم أماته فأقبره؛ ثم إذا شاء أنشره وجعل الموت كَأسٌ بَينَ النَّاسِ تُدَارُ ،وتَسُوقُ إِلَيهِ يَدُ الأَقدَارِ  وَيَخرُجُ بِصَاحِبِهِ إِمَّا إِلى الجَنَّةِ وَإِمَّا إِلى النَّارِ، والموت هَادِمُ اللَّذَّاتِ ، وَمُفَرِّقُ الجَمَاعَاتِ وقَاطِعُ الأَسبَابِ ، وَمُغَيِّبُ الأَحبَابِ ، وَمُودِعُ الأَجسَامِ التُّرَابَ إِلى يَومِ الحَسَابِ ، ومن حكمته سبحانه أنه لم يجعل دار الدنيا للبقاء والاستمرار، وإنما جعلها دار ممر واعتبار ، فالرابح من صلح زرعه ، والخاسر من فسد ثمره ، فالدنيا ليست لحي سكنا ، لأنها سريعة الزوال وشيكة الارتحال، فقال الله لنبيه ﴿ وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون﴾ فالبقاء لله الواحد القهار ، قال تعالى : ﴿ يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار ﴾ نتحدّث عن الموت  وهناك قلوب لاهية ساهية غافلة ، نتحدث عنه  وفي كل يوم ، أناس تولد وأناس تموت ، ونحن غافلون عن هادم اللذات ، وقاطع الراحات  ومفرّق الأحباب ، وعظنا نبينا فقال : ( أكثروا من ذكر هادم اللذات ) لأن في ذكر الموت حياة ، وفي نسيانه غفلة ، ومن استحيا من الله ، لا يغفل عن الموت ، ولا عن الاستعداد له    قال صلى الله عليه وسلم : ( من استحيا من الله حقَّ الحياء فليحفظ الرأس وما وعى  وليحفظ البطن وما حوى  وليذكر الموت والبلى ، ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا )      فتوسدوا الموت إذا نمتم  واجعلوه نصب أعينكم إذا قمتم ،  فذكر الموت له أعظم الأثر في إيقاظ النفوس ، وانتشالها من غفلتها   لأنه من أعظم المواعظ ، وذكره يقطع على النفوس لذاتها ويطرد عن القلوب مسراتها ، ومن استعدَّ للموت جدَّ في العمل  وقصَّر الأمل ، وفي ذكره ، إيقاظ للقلوب من سباتها ، وزجر للنفوس عن التمادي في غيها وشهواتها ، فيزيد الصالح في صلاحه ، ويستيقظ الغافل قبل مماته ، إنه الحقيقة التي يسقط عندها جبروت المتجبرين ، وعناد الملحدين، وطغيان البغاة المتألهين   فقد شرب من كأسه العصاة والطائعون ، والأنبياء والمرسلون  قال الله : ﴿ وَ مَاْ جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الخُلْدَ أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الخَاْلِدُونَ ﴾ إنها الحقيقة التي لا مفرَّ منها طال الزمان أو قصر ﴿ قُلْ إِنَّ المَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ﴾ فكل باكٍ سيُبكى ، وكل ناعٍ سيُنعى  وكل مذكور سيُنسى ، وليس غير الله يبقى ، من علا فالله أعلى ومن عاش مات ، ومن مات فات ، وكل ما هو آتٍ آت ﴿ مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لآتٍ ﴾ يا ابن آدم أنت الذي ولدتك أمك باكياً.. والناس حولك يضحكون سروراً

فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا .. في يوم موتك ضاحكاً مسروراً

كفى بالموت واعظاً ، فهو من أعظم المصائب ، وأشدُّ النوائب  لذا سمَّاه الله مصيبة ، فقال سبحانه : ﴿ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ المَوْتِ ﴾ بل إنه المصيبة العظمى  والرزية الكبرى ، ولا نجاة منه إلا أن يكون العبد في دنياه لله طائعاً  وبشرعه عاملاً ، إنها الساعة التي تنكشف فيها الحقائق ، وتتقطع فيها العلائق ، ويتمنى الإنسان وليس له ما تمنى ، حينها ﴿ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى  يَقُولُ يَا لَيْتَني قَدَّمتُ لِحَيَاتِي﴾  يا سالكاً طريق الغافلين .. ويا راضياً بطريق الجاهلين

متى تُرى هذا القلب القاسي يلين .. متى تبيع الدنيا وتشتري الدين

أين الحبيب الذي كان وانتقل ؟! .أين كثير المال وطويل الأمل ؟!.أما خلا كلٌّ في لحده مع العمل !!.أين من تنعَّم في قصره ؟!. أليس في قبره نزل

انتبهوا قبل فوات الأوان ، فإنما هي جنة أو نار ﴿ فَاعْتَبِرُواْ يَا أُولِي الأَبْصَار ﴾ هناك من يذكر الموت ، ولكن بقلوب غافلة   فمن أراد حسن الختام فليزم الاستقامة ، وليعلم أنها أعظم الكرامة ، اما قال الله ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ﴾  قال الحسن :" اتق الله يا ابن آدم لا تجتمع عليك خصلتان سكرة الموت ، وحسرة الفوت والندامة  والذي نفسي بيده إنَّ غاية أمنية الموتى في قبورهم ، حياة ساعة   يستدركون فيها ما فاتهم ، بتوبة وعمل صالح " لقد أسمعت لو ناديت حيَّاً ، ولكن لا حياة لمن تنادي ، فليعلم المغتر بصحته  كم صحيح مات من غير علة .. وكم عليل عاش حيناً من الدهر 

ستبيت في القبر وحدك   وسيباشر التراب خدك   وستنهش الديدان لحمك   وستبقى رهين عملك فاعتبر بمن مات قبلك .

تزوَّد من الذي لا بدَّ منه .. فإنَّ الموت ميقات العباد

وتبّ مهما جنيت وأنت حيٌّ .. وكن متنبهاً قبل الرقاد

ستندم إذا رحلت بغير زادٍ .. وستشقى عندما يناديك المناد

أترضى أن تكون رفيق قومٍ .. لهم زادٌ وأنت بغير زاد

 عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجلٍ وهو يعظه : ( اغتنم خمساً قبل خمس : اغتنم شبابك قبل هرمك ، وصحتك قبل سقمك ، وغناك قبل فقرك  وفراغك قبل شغلك ، وحياتك قبل موتك ) وأنت في زمن الإمكان ، أصلح ما بقي ، يُغفر لك ما مضى وما بقي ، وإلا ستُأخذ بما مضى وما بقي ، فلا  نعرف قيمة الحياة  إلا إذا عاينا الموت، حينها ننادي فلا يستجاب لنا ، فاتقوا الله عباد الله  واعتبروا بمن مضى من القرون وانقضى  واخشوا مفاجأة القضا، وإن لكم في الموت لعبرة     

 

 

 

الغفلة وموت القلوب

 إن من أكبر المصائب أن يعيش الإنسان في هذه الدنيا ، غافلاً عما هو مكلفُ به   غافلاً عن ربه غافلاً عن ذكره غافلاً عن آخرته ، غافلاً عن نفسه ومحاسبتها ، لأن من غفل عن نفسه ضاقت أوقاته  واشتدت عليه حسراته . فلا بد من وقفةٍ صادقةٍ مع النفس في محاسبةٍ جادةٍ  ومساءلةٍ دقيقةٍ ، فوالله لتموتن كما تنامون ، ولتبعثنَّ كما تستيقظون  ولتجزون بما كنتم تعملون . فما الأعمار إلا أعوام ؟ وما الأعوام إلا أيام ؟ وما الأيام إلا أنفاس ؟ وإن عمراً ينقضي مع الأنفاس لسريع الزوال ، أفلا معتبر بما طوت الأيام من صحائف الماضين ؟ وقلَّبت الليالي من سجلات السابقين ؟ وما أذهبت المنايا من أماني المسرفين ؟ كل نفس من أنفاس العمر معدود ، وما عملت من أعمال مكتوبة  قـال تعـالى  :

] يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا [ آل عمران:30 .                             هذه يد المنون تتخطف الأرواح من أجسادها . تتخطفها وهي راقدة في منامها . تعاجلها وهي تمشي في طرقاتها   تقبضها وهي مكبة على أعمالها  تتخطفها وتعاجلها من غير إنذار أو إشعار . ] فَإِذَا جَآء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَـأخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ [النحل:61 . فكم من سليم معافى في صحته أصبح  بين أطباق الثرى قد حيل بينه وبين أصحابه وأحبابه وأقربائه ، وإذا كان الأمر كذلك فلماذا يأمنون الدنيا وهي غرارة ، ويثقون بها وهي مكارة ، ويركنون إليها وهي غدارة   فإذا ما جاء وعد الله فارقهم ما يحبون   ورأوا ما يكرهون ، وحيل بينهم وبين ما يشتهون ، ثم جاءهم ما كانوا يوعدون   فما أغنى عنهم ما كانوا به يتمتعون . ها هي الدنيا تُبكّي ضاحكاً ، وتضَحّك باكياً ، وتُخيف آمناً ، وتؤمِّن خائفاً  تتقلب بأهلها ، لا تُبقي أحداً على حال   العيش فيها مذموم ، والسرور فيها لا يدوم ، فلا يعرف حقيقتها إلا المحاسب لنفسه . فمن صفَّى صُفِّيَ له ، ومن كَدَّر كُدِّر عليه ، ومن أحسن في ليله كوفئ في نهاره ومن أحسن في نهاره كوفئ في ليله . ومن سرَّه أن تدوم عافيته فليتق الله ربَّه ، فالبر لا يبلى ، والإثم لا ينسى   والديان لا يموت ، وكما تدين تدان . وإذا رأيت في عيشك تكديراً ، فتذكّر نعمةً ما شُكرت ، أو زلة قد ارتكبت  فمن زرع حصد ، وليس للمرء إلا ما اكتسب ، وهو في القيامة مع من أحب.

يقول الفضيل بن عياض رحمه الله : " من عرف أنه عبدٌ لله وراجعٌ إليه فليعلم أنه موقوف . ومن علم أنه موقوف فليعلم أنه مسؤول ، ومن علم أنه مسؤول فليُعد لكل سؤال جواباً . قيل : يرحمك الله فما الحيلة ؟ قال : الأمر يسير . تحسن فيما بقي يغفر لك ما مضى . فإنك إن أسأت فيما بقي أُخذت بما مضى وما بقي " .

 هذه وقفة محاسبة مع النفس ، بل مع أعز شيء في النفس ، مع ما بصلاحه صلاح العبد كله ، وما بفساده فساد الحال كله . وقفةٌ مع ما هو أولى بالمحاسبة وأحرى بالوقفات الصادقة يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد  كله  وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهي القلب ) ويقول صلى الله عليه وسلم: ( لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه)  ويقول الحسن رحمه الله : " داوِ قلبك  فإن حاجة الله إلى العباد صلاح قلوبهم  ولن تحب الله حتى تحب طاعته " .

أيها المسلمون : من عرف قلبه عرف ربَّه ، وكم من جاهل بقلبه ونفسه ، والله يحول بين المرء وقلبه . يقول ابن مسعود رضي الله عنه : " هلك من لم يكن له قلبٌ يعرف المعروف وينكر المنكر " . لا بد من محاسبةٍ توقظ مشاعر الإقبال على الله في القلب واللسان والجوارح  . ومن لم يظفر بذلك فحياته كلها آلامٌ وهموم  وأفكارٌ وغموم ، لقد علَّق الله فلاحَ عبده على تزكية نفسه وقدم ذلك وقرره بأحد عشر قسماً متوال اقرؤوا وتأملوا قول الله : ] وَٱلشَّمْسِ وَضُحَـٰهَا وَٱلْقَمَرِ إِذَا تَلـٰهَا وَٱلنَّهَارِ إِذَا جَلَّـٰهَا وَٱلَّيْلِ إِذَا يَغْشَـٰهَا وَٱلسَّمَاء وَمَا بَنَـٰهَا وَٱلأَرْضِ وَمَا طَحَـٰهَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّـٰهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّـٰهَا [ الشمس1-10. ففي القلوب فاقةً وحاجةً لا يسدها إلا الإقبال على الله ومحبته والإنابة إليه ، ولا يلم شعثها إلا حفظ الجوارح ، واجتناب المحرمات ، واتقاء الشبهات ، وإن معرفة القلب من أعظم مطلوبات الدين ، ومن أظهر المعالم في طريق الصالحين . معرفة تستوجب اليقظة لخلجات القلب وخفقاته ، وحركاته ولفتاته ، والحذر من كل هاجس  والاحتياط من المزالق والهواجس  والتعلق الدائم بالله ؛ فهو مقلب القلوب والأبصار . عن  عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول  :( إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن عز وجل كقلب واحد يصرفه حيث يشاء ) رواه مسلم . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك) ولا ينفع عند الله إلا القلب السليم : ] يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [ الشعراء:88  

ومن دعاء رسول الله : ( وأسألك قلباً سليماً)   .والقلوب أربعة : قلب تقي نقي فيه سراج منير فذلك قلب المؤمن  وقلب أغلف مظلم ؛ فذلك قلب الكافر : ] وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ [ البقرة 88   وقلب مرتكس منكوس ؛ فذلك قلب المنافق ، عرف ثم أنكر ، وأبصر ثم عمي : ] فَمَا لَكُمْ فِى ٱلْمُنَـٰفِقِينَ فِئَتَيْنِ وَٱللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُواْ [ النساء:88. وقلبٌ تمده مادتان : مادة إيمان ، ومادة نفاق فهو لِما غلب عليه منهما وقد قال الله في أقوام : ] هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإيمَـٰنِ [ آل عمران 16 .وفي القلب قوتان : قوة العلم في إدراك الحق ومعرفته والتمييز بينه وبين الباطل . وقوة الإرادة والمحبة في طلب الحق ومحبته وإيثاره على الباطل . فمن لم يعرف الحق فهو ضال  ومن عرفه وآثر غيره عليه فهو مغضوب عليه .  ومن عرفه واتبعه فهو المنعم عليه السالك صراط ربه المستقيم . يقول ابن القيم رحمه الله : " وهذا موضع لا يفهمه إلا العقلاء من الناس  ولا يعمل بمقتضاه إلا أهل الهمم العالية والنفوس الأبية الزاكية " . ورجل الدنيا وواحدها هو الذي يخاف موت قلبه لا موت بدنه  وأكثر الخلق يخافون موت أبدانهم ، ولا يبالون بموت قلوبهم . وإذا كان الأمر كذلك فاعلموا أن صاحب القلب الحي يغدو ويروح  ويمسي ويصبح وفي أعماقه حسٌ ومحاسبة لدقات قلبه   وبصر عينه ، وسماع أذنيه  وحركة يديه   وسير قدميه  وإحساس بأن الليل يُدْبِر  والصبح يتنفس  والكون في أفلاكه يسبح بقدرة الله الحكيم ، قلب حي تتحقق به العبودية لله على وجهها وكمالها ، قلبٌ أحب الله وأحب في الله   يترقى في درجات الإيمان والإحسان فيعبد الله على الحضور والمراقبة ، يعبد الله كأنه يراه ، فيمتلئ قلبه محبةً ومعرفةً  وعظمةً ومهابةً وأُنساً وإجلالاً . ولا يزال حبه يقوى  وقربه يدنو حتى يمتلئ قلبه إيماناً وخشية ورجاء وطاعة  وخضوعاً وذلة جاء في الحديث القدسي : ( ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه) فكلما اقترب من ربه اقترب الله منه لما جاء في الحديث القدسي: ( من تقرب إليّ شبراً تقربتُ إليه ذراعاً) . فهو لا يزال رابحاً من ربه أفضل مما قدم ، كيف لا وهو يقول : ( من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي   ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه ) فمن بذل شيئاً لله عوضه الله خيراً منه وجازاه أفضل مما قدم ، إن أصحاب القلوب الحية صائمون قائمون خاشعون قانتون   شاكرون على النعماء  صابرون في البأساء ، لا تنبعث جوارحهم إلا بموافقة ما في قلوبهم ، تجردوا من الأثرة والغش والهوى . اجتمع لهم حسن المعرفة مع صدق الأدب ، هم المتحابون بجلال الله  يغضبون لحرمات الله ، أمناء إذا ائتمنوا   عادلون إذا حكموا   منجزون إذا وعدوا موفون إذا عاهدوا  جادون إذا عزموا ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير ) رواه مسلم .  قلوبٌ سليمة نقية خالية من الذنب  سالمة من العيب  تحرص على النصح والإخلاص والمتابعة والإحسان ، همتها في تصحيح العمل أكبر منها في كثرة العمل ] لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [ الملك .  قلوبٌ أوقفها القرآن فوقفت واستبانت لها السنة فالتزمت ] يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبّهِمْ رٰجِعُونَ [  المؤمنون 6   رجال مؤمنون ونساء مؤمنات   بواطنهم كظواهرهم   وسرائرهم كعلانيتهم ، إن عُرفوا تنكَّروا ، فهذه بعضٌ من حياة القلوب وهذه بعض آثارها . أما القلوب المريضة فلا تتأثر بمواعظ  ولا تستفزها النذر، ولا توقظها العبر عرفت الله ولم تؤد حقه وقرأت كتاب الله ولم تعمل به . وزعمت حب رسول الله وتركت سنته . وعرفت الجنة ولم تعمل لها  قلوبٌ تُسخطها الدنيا وترضيها   والهوى يصمها ويعميها لا تؤلمها جراحات المعاصي ، ولا يوجعها جهل الحق ، إنها عقوبة غفلة القلوب   وعقوبة المعصية بعد المعصية ، يقول بعض الصالحين : " يا عجباً من الناس يبكون على من مات جسده ، ولا يبكون على من مات قلبه " إن  القلوب تمرض وتموت إذا انحرفت عن الحق وقارفت الحرام   والذنوب تميت القلوب وتورث الذلة ، ومن الذنوب ما اعتبرت محاربة الله ورسوله يقول الحسن رحمه الله : " ابن آدم هل لك بمحاربة الله من طاقةٍ ؟ فإن من عصى الله فقد حاربه ، وكلما كان الذنب أقبح كان في محاربة الله أشد" ولهذا سمى الله أكلة الربا وقطاع الطرق محاربين لله ورسوله لعظم ظلمهم وسعيهم بالفساد في أرض الله . ألا فاتقوا الله يرحمكم الله  وأصلحوا فساد قلوبكم وتوبوا إلى ربكم إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون  .

 

 

القلوب الميتة والقلوب الحية

 

إن حياة القلوب مادة كل خير وسعادة   وموتها مادة كل شرٍّ وشقاء ، مصداقاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ألا وإن في الجسد مضغةً إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب ) . والقلوب ثلاثة  : قلب سليم : وهو الذي سلم من كل شهوة تخالف أمر الله ونهيه . وقلب ميت : وهو الذي لا يعرف ربه ولا يعبده ، وهو كالحجارة أو أشد قسوة لا يتأثر بالمواعظ ولا العبر ، سئل أحد التابعين لماذا ندعو فلا يستجاب لنا ، فقال : لأن قلوبكم ماتت بعشرة : " عرفتم الله ولم تؤدوا حقه ، وقرأتم كتاب الله ولم تعلموا به وادعيتم حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركتم أثرة وسنته ، وادعيتم حب الجنة ولم تعملوا لها وادعيتم خوف النار ولم تنتهوا عن المعاصي والذنوب ، وادعيتم أن الموت حق ولم تستعدوا له ، واشتغلتم بعيوب غيركم وتركتم عيوب أنفسكم ، وتدفنون موتاكم ولا تعتبرون " . وقال عبد الله ابن مسعود : " أتدرون من ميت القلب ، إنه الذي قيل فيه :

 

ليس من مات فاستراح بميت   إنما الميت ميت الأحياء

 

قالوا ومن هو ؟ قال : الذي لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً " .

 

أما القلب المريض : فهو الذي بين داعيين داع يدعوه إلى الله ورسوله وداع يدعوه إلى المعاصي والذنوب  .

 

رأيت الذنوب تميت القلوب    وقد يروض الذل إدمانها

 

وترك الذنوب حياة القلوب   وخيرٌ لنفسك عصيانها

 

وشفاء القلب المريض بالتوبة وأنفع الأغذية له غذاء الإيمان وأنفع الأدوية له دواء القرآن .  ومن علامات صحة القلب العمل للدنيا والآخرة لحديث عبد الله بن عمر ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل وعدّ نفسك من أهل القبور )  أسأل الله أن يثبت قلوبنا وأن ينور بصائرنا 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

عظة الموت

من خاف الوعيد قصر عليه البعيد  ومن طال أمله ضعف عمله ، وكل ما هو آت قريب إن ألله لم يخلقكم عبثا ولم يترككم سدا ، فتزودوا من دنياكم لما ينفعكم في أخراكم . ألا نعتبر بهذه الجنائز التي نشيعها إلى مثواها الأخير ، فسرعان ما يعود الناس بعد الدفن إلى نشوة الحياة وغفلة المعاش في هذه الدنيا ، إن أعطوا لم يشبعوا ، وان منعوا لم يقنعوا ، يأمرون بما لا يفعلون ، وينهون ولا ينتهون   وهم للناس لوامون ولأنفسهم مداهنون . ناسين أن الواثق في هذه الدنيا تفجعه  والمطمئن إليها تصرعه ، سلطانها دول لا يبقى على حال  وحلوها مر ، وعزيزها مغلوب ، والعمر فيها قصير ، والعظيم فيها يسير   وجودها إلى عدم ، وسرورها إلى حزن ، وكثرتها إلى قلة  وعافيتها إلى سقم  وغناها إلى فقر . دارها مكّارة   وأيامها غرّارة ، ولأصحابها بالسوء أمارة . الأحوال فيها إما نعم زائلة وإما بلايا نازلة وإما منايا قاضية . عمارتها خراب واجتماعها فراق  وكل ما فوق التراب تراب . أهل الغفلة فيها لا يشبعون مهما جمعوا  ولا يحسنون الزاد لما عليه أقدموا  يجمعون ولا ينتفعون ويبنون ما لا يسكنون . ويأملون ما لا يدركون :﴿ ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ ٱلاْمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾ الحجر3. طويل الأمل : يسيء في الاكتساب ويسوف في المتاب حتى يأتي أجله وينقطع عمله ويسلمه أهله ويصبح رهين عمله:﴿ أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَـٰهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ مَا أَغْنَىٰ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ ﴾ الشعراء 205 .  يا أهل الغفلة : لقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : (أكثروا من ذكر هادم اللذات) أحمد والترمذي بسند صحيح . كلام مختصر وجيز قد جمع التذكرة وأبلغ في الموعظة ؛ فمن ذكر الموت حق ذكره حاسب نفسه على عمله , لأن القلوب الغافلة  ، تحتاج إلى الإكثار من ذكر هادم اللذات ومفرق الجماعات قال صلى الله عليه وسلم : (فما ذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه ، ولا سعة إلا ضيقها) حسن أخرجه ابن حبان والهيثمي  وقد وقف النبي صلى الله عليه وسلم  على شفير قبر فبكى حتى بل الثرى ثم قال: (يا إخواني لمثل هذا فأعدوا) أخرجه أحمد وابن ماجه   وسأله عليه الصلاة والسلام رجل فقال : من أكيس الناس يا رسول الله ؟ قال: (أكثرهم ذكرا للموت وأشدهم استعدادا له ، أولئك هم الأكياس ذهبوا بشرف الدنيا وكرامة الآخرة) أخرجه ابن ماجه وصححه الحاكم ، وقال عليه السلام : (الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت) أخرجه أحمد . يقول الحسن رحمه الله: " إن الموت قد فضح الدنيا فلم يدع لذي لبٍّ بها فرحا ". ويقول يونس بن عبيد : " ما ترك ذكر الموت لنا قرة عين في أهل ولا مال " .ويقول مطرِّفٌ : " إن هذا الموت قد أفسد على أهل النعيم نعيمهم ، فالتمسوا نعيما لا موت فيه " . لقد أمِنَ أهل الجنة الموت فطاب لهم عيشهم وأمنوا الأسقام فهنيئا لهم طول مقامهم . فاذكروا الموت والسكرات  وحشرجة الروح والزفرات ، فإن من أكثر ذكر الموت أكرمه الله بثلاث : تعجيل التوبة   وقناعة القلب ، ونشاط العبادة . ومن نسي الموت ابتلي بثلاث : تسويف التوبة ، وترك الرضى بالكفاف  والتكاسل في العبادة . كفى بالموت للقلوب مقطعا ، وللعيون مبكيا ، وللذات هادما . وللجماعات مفرقا . وللأماني قاطعا . بوقوعه يستبدل الأموات بظهر الأرض بطنا وبالسعة ضيقا ، وبالأهل غربة  وبالنور ظلمة ، اللحود مساكنهم ، والتراب أكفانهم ، لا يجيبون داعيا  ولا يسمعون مناديا . كانوا أطول أعمارا وأكثر آثارا ، فما أغناهم ذلك عن لقاء الله فأصبحت بيوتهم قبورا  وما جمعوا بورا  وصارت أموالهم للوارثين ، وأزواجهم لقوم آخرين . حلَّ بهم ريب المنون  وجاءهم ما كانوا يوعدون : ﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَـٰكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ ﴾ المؤمنون 115. وإن تذكّره يردع عن المعاصي، ويلين القلب القاسي، ويمنع الركون إلى الدنيا  ويهون المصائب . فتذكروه لتسلموا من حسرة الفوت . يقول الحسن رحمه الله : " اتق الله يا بن آدم ، لا يجتمع عليك خصلتان : سكرة الموت وحسرة الفوت " . فاحذر السكرة والحسرة  لأن الموت يحل وأنت على غرة ، فأين الخائف من قلة الزاد ؟ وأين من استعان على دنياه بالعفة والسداد وكفاه في دنياه القليل من الزاد ، وأين  من تذكر الموت والبلى فحفظ الرأس وما وعى والبطن وما حوى ، وأين من أراد الآخرة فترك زينة الحياة الدنيا وآثر ما يبقى على ما يفنى . ألا فاتقوا الله يرحمكم الله ، فإنكم عند ربكم موقفون  وعلى أعمالكم محاسبون وعلى تفريطكم نادمون . توبوا إلى الله قبل أن تموتوا ولا تكونوا ممن يرجون الآخرة بغير عمل ويؤخرون التوبة لطول الأمل . واعتبروا بمن صار تحت التراب وانقطع عن الأهل والأحباب  وصار إلى جوار رب الأرباب  

 

 

 

 

   الإقبال على الله

الحمد لله الذي قهر عباده بالموت ، وأسأله أن يجعل خير أعمالنا خواتيمها ، وخير أيامنا يوم لقائه ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من أحب لقاء الله أحب الله لقائه )  

" سأل عبد الملك بن مروان أبا حازم ، كيف يكون إقبالنا على الله ؟ فقال أبو حازم : يختلف باختلاف العبيد ، فالطائع لمولاه القائم على حدوده يكون إقباله إقبال الطفل على أمه بعد طول غياب بشوق ولهف ، أما المفرِّط في جنب الله العاصي لمولاه ، يكون قدومه كقدوم العبد الآبق على سيده ، يُجَرُّ إليه بالسلاسل " . خطب رسول الله e فقال : ( أيها الناس إن لكم نهايةً فانتهوا إلى نهايتكم ، وإن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم ، وإن المؤمن بين مخافتين : اجلٌ قد مضى لا يدري ما الله صانعٌ فيه    وأجلٌ قد بقي لا يدري ما الله قاضٍ فيه   فليتزود العبد من نفسه لنفسه ، ومن دنياه لآخرته ، ومن الحياة قبل الموت ، فإن الدنيا خُلقت لكم وأنتم خلقتم للآخرة ، فوالذي نفس محمدٍ بيده ما بعد الموت من مستعتب   ولا بعد الدنيا من دار ، إلا الجنة أو النار ) . إن المرتحل أو المسافر من بلد إلى بلد بقصد التجارة أو الزيارة ، لا يخرج قبل أن يهيئ الزاد اللازم للسفر ، مخافة أن تنقطع به الأسباب ، فما بالكم برحلةٍ لا أوبة بعدها ، وسفرٍ لا رجوع منه إنها رحلةٌ بحاجة إلى زاد ، فإن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر فتزودوا لها بالأعمال الصالحة وخير الزاد للقادمين على الله التقوى لقوله تعالى : )  وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ( . ومن وصايا الرسول  صلى الله عليه وسلم لأبي ذر : ( يا أبا ذر أحكم السفينة فإن البحر عميق ، وأكثر من الزاد فإن السفر طويل ، وخفف الحمل فإن العقبة كئود ، وأخلص العمل فإن الناقد بصير). فاتقوا الله أيها الأخوة ، وأعدوا أنفسكم للقاء الله إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون .   

 

 

حال أكثر الناس في الدنيا

إذا ما تأملت حال أكثر الناس ، وجدتهم ينظرون في حقهم على الله ، ولا ينظرون في حق الله عليهم ، ومن هنا انقطعوا عن الله ، فلا تكن يا أخي ممن يرجو الآخرة بغير عمل  ويؤخر التوبة لطول الأمل  ويقول في الدنيا بقول الزاهدين ، ويعمل فيها بعمل الراغبين إن أُعطي من الدنيا لم يشبع ، وإن مُنِع منها لم يقنع ، ينهى الناس وينسى نفسه ، يحب الصالحين ولا يعمل أعمالهم ، ويبغض المسيئين وهو منهم ، يكره الموت لكثرة ذنوبه ، إن سقم ظل نادما ، وإن صح أمن لاهيا   يعجب من نفسه إذا عوفي ، ويقنط إذا ابتلي ، تغلبه نفسه على ما يظن ، ولا يغلبها على ما يستيقن ، ولا يقنع من الرزق بما قُسم له ، ولا يعمل من العمل بما فرض عليه ، إن استغنى بطر ، وإن افتقر قنِط وحزن ، يطلب الزيادة ولا يشكر ، ويتكلف من الناس ما لا يُؤمر   ويُضِّع من عمره ما هو أكثر ، ويبالغ إذا سأل ، ويُقصِّر إذا عمل ، يخشى الموت ولا يبادر إلى التوبة ، ألهته دنياه وغفل عن ذكر الله ، هذا هو حال أكثر الناس  نسوا أنفسهم وضيَّعوها ، وباعوها بثمن بخس ، اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين . وهذا ما يدعو للعجب ، ممن يسعى لهوان نفسه ويزعم أنه لها مكرم ، وكفى به جهلاً أن يكون مع عدوه لنفسه يبلغ منها بفعله ما لا يبلغه منها عدوه مصداقاً لفول القائل :

ما يبلغ الأعداء من جاهلٍ  ما يبلغ الجاهل من نفسه

وإذا أراد الله بعبدٍ خيراً زهد في الدنيا الفانية ، ورغب في الآخرة الباقية  والعاقل هو الذي يعمل مجداً لآخرته  ولا ينسيه نصيبه من الدنيا حظه منها عاملاً بقوله تعالى : ﴿ وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنسى نصيبك من الدنيا ﴾ .  

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 فضل ذكر الموت  

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أكثروا ذكر هاذم اللذات يعني الموت  فإنه ما كان في كثيرٍ إلا قلله ، ولا قليلٍ إلا جزَّأه ) رواه الطبراني . الإكثار من ذكر الموت سنة مؤكدة ، وقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم  الموت بالهاذم لأنه مفرِّق ومشتت اللذات ، وذِكْره أزجر عن المعصية وأدعى إلى الطاعة ، والرسول صلى الله عليه وسلم يأمر أن يتذكر المسلمون الموت دائماً ، لأن ذكره يقلل من الطمع والتكالب على الدنيا وزينتها والركون إليها والإقبال عليها  والتزود بالأعمال الصالحة ابتغاء مرضاة الله وثوابه . ومن عوامل صلاح الأمة التقليل من الاهتمام بالدنيا والقناعة وعدم الانهماك في جمع المال وحسن الاعتماد على الله   لأن المقتنع في معاش الدنيا يمكنه التوسع في عمل الآخرة ، والمتوسع في متاع الدنيا لا يمكنه التوسّع في عمل الآخرة ، قال الشافعي : " من ادعى أنه جمع بين حب الدنيا وحب خالقها في قلبه فقد كذب "   فالعاقل من تجنَّب الإفراط والتفريط في تناولها ، قال بعض العارفين : " من جرَّعته الدنيا حلاوتها جرَّعته الآخرة مرارتها بتجافيه عنها " ، ولقد أحسن من قال :

إذا امتحن الدنيا لبيبٌ تكشّفت   له عن عدوٍّ في ثياب صديق

 ومن عوامل فناء الأمة الشحّ والتقصير في حقوق الله ، وجمع المال والغفلة عن ذكر الله  وكثرة الرجاء بتشييد القصور وإنشاء المصانع والمتاجر جرياً وراء زيادة الأرباح   والغفلة عن ذكر الموت والاستعداد للآخرة بصالح الأعمال وغرس الباقيات الصالحات   وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن نجاة الأمة يكون باليقين والزهد ، وهلاك آخرها بالبخل والأمل فقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن أبي الدنيا والأصبهاني : ( نجا أول هذه الأمة باليقين والزهد ، ويهلك آخر هذه الأمة بالبخل والأمل ) .

لقد عم البخل وفشا الجهل وزاد الشحّ وتعلّقت الآمال في كيت وكيت فتأخرنا واستعبدنا الأعداء ، فلا حول ولا قوة إلا بالله . ولكن هذا لا يعني عدم الجد في الدنيا والعمل والسعي لطلب الرزق والربح   فهي مزرعة الآخرة فمن أخذ منها مراعياً للقوانين الشرعية أعانته على آخرته ، وقد قيل : " لا تركن إلى الدنيا فإنها لا تبقي على أحد ولا تتركها فإن الآخرة لا تنال إلا بها " . إنه التحذير من طول الأمل في الدنيا الذي يؤدي إلى الغفلة عن حقوق الله والتقصير في الطاعة الموصلة إلى رضاه والجنة ، وعدم فعل المعصية المؤدية إلى غضبه والنار ، لأن الطاعة والمعصية قد تكون في أيسر الأشياء ، فلا يزهد المرء في قليلِ من الخير أن يأتيه ، ولا في قليل من الشرّ أن يتجنبه ، لأن الإنسان لا يعلم الحسنة التي يرحمه الله بها ولا السيئة التي يسخط عليه بها ، روى البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( الجنة اقرب إلى أحدكم من شراك نعله ) . فالأعمال الصالحة وحدها لها اتصال بكم كاتصال شراك النعل بكم يسيرة سهلة الإتيان ، فاجتهدوا للعمل الصالح الموصل لذلك قبل وقوع الفتن وانتشار الفساد وتأثير الطغاة روى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( بادروا بالأعمال فتناً كقطعٍ الليل المظلم يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافرا  ويمسي مؤمناً ويصبح كافرا يبيع دينه بعَرَضٍ من الدنيا ) . يحث النبي صلى الله عليه وسلم على المبادرة إلى تطبيق منهج الله والعمل بشريعته ، قبل أن ينتشر الجهل ويزداد الظلم ويكثر الطغاة ويسود العصاة ويقل الصالحون ، وعندها يعم الفساد والضلال وتشغل الدنيا أهلها بزخارفها فتظلم القلوب من الإيمان ، فلا تجد رادعاً يزجرها أو نفساً مطمئنة تقتدي بها قال تعالى : ) من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثوابُ الدنيا والآخرة وكان الله سميعاً بصيرا ( النساء 134 . فالثواب جزاء على عمل ، فمن أراد ثواب الدنيا فلا بد أن يعمل  ومن لطف الله ورحمته أن جعل ثواب الدنيا جائزة لمن يعمل ، والدنيا طريقٌ وسبيل ، فكل عملٍ يفعله المسلم ابتغاء مرضاة الله ، يعطيه عليه ثواباً في الدنيا والآخرة  والعمل يكون بالجوارح ومن الجوارح اللسان ، وقد فرّق الله بين الفعل والعمل في قوله تعالى : ) يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ( الصف . فالقول يقابل الفعل ، والكل عمل  وهناك نوعٌ آخر من الأعمال لا هو قولٌ ولا فعل وهو النية القلبية ، وعمل القلوب لا يسمع ولا يُرى ، ولذلك جاء في الحديث القدسي عن رب العزّة ( الإخلاص سرٌّ من أسراري استودعته قلب من أحببت من عبادي ) وهذا يدل على أن نية القلوب خاصّة بالله تعالى وقـوله تعـالى :  )  وكان الله سميعاً بصيرا ( أي أنه سميع للقول وبصيرٌ بالفعل .       

 الموت أكبر واعط

إن أكبر واعظٍ لنا في هذه الحياة الدنيا هو الموت ، الذي قدّره الله على خلقه وكتبه على عباده ولكنه يفقد موعظته بيننا يوماً بعد يوم ، مع أنه مصيرٌ لا بد منه ، وهو نهاية المطاف في الحياة الدنيا فما من احدٍ مهما امتد اجله وطال عمره ، إلا والموت نازلٌ به وخاضع لسلطانه قال تعـالى : ] كل نفسٍ ذائقة الموت [ وقال الشاعر :    

فلا منحى من الموت  وإن الموت لاقيك

ولا تجزع من الموت    إذا حـل بواديك

وهو أقوى موعظة كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : (كفى بالموت واعظا ) . وفي تذَكّره السبيل إلى الإصلاح  والتزود بالتقوى قبل فوات الأوان مصداقاً لقول القائل :

تزود من التقوى فإنك لا تدري    إذا جن ليلٌ هل تعيش إلى الفجر

فكم من صحيحٍ مات من غير علّةٍ     وكم من عليلٍ عاش حيناً من الدهر

وكم من عروس زينوها لزوجها    وقد قبضت روحها ليلة القدر

هذا هو الموت الذي لا يقرع بابا  ولا يهاب حجابا ولا يقبل بديلا ، ولا يأخذ كفيلا ، ولا يرحم صغيرا ، ولا يوقّـر كبيرا ، عن أبي ذر قال : قلت يا رسول الله ؟ فما كانت صحف موسى ؟ قال : كانت عبراً كلها

( عجبت لمن أيقن بالموت ثم هو يفرح ، عجبت لمن أيقن بالنار ثم هو يضحك ،عجبت لمن أيقن بالقدر ثم هو ينصب  ، عجبت لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها ثم اطمئن إليها ، وعجبت لمن أيقن بالحساب غداً ثم لا يعمل ).

وعن عبدالله بن عمر قال : أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي وقـال : ( كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل )  وإن بعد الموت أهوالاً جساما يجب الاستعداد لها ، والعمل لها قبل فوات الأوان . فاستعدوا للقاء الله إن الله مع الذين اتقوا والذين هم  محسنون .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

هذه الدنيا فانية

إن هذه الحياة إلى انتهاء ، ولا ملجأ فيها من الله إلا إليه . والحساب والجزاء لا بد منهما في الحياة الآخرة ، حياة الحق والعدل ، والقبر أول منـزلة من منازل الآخرة  وهو بيت الوحشة والظلمة ، بيت الدود والتراب   ينادي الله على عبده بعد أن يوارى فيه :"عبدي رجعوا وتركوك ، وفي التراب دفنوك ، ولو ظلموا معك ما نفعوك ، ولم يبق لك إلا أنا ، وأن الحيّ الذي لا يموت".

يا من بدنياه انشغل     وغرَّة طـول الأمـل

المــوت يأتي بغتةً     والقبر صندوق العمل

إن الموت يفرِّق بين الأحبة ولا نستطيع له دفعا ولا عنه مهربا فاذكر الله يا أخي وتب إلى الله فقد أعد مغفرته للتائبين ورحمته للمتقين .

يا نفس توبي فإن الموت قدحانا  واعصي الهوى فالهوى مازال فتانا

في كل يوم لنـا ميتٌ نشيّعه       نحي بمـصرعه آثـار مـوتـانا

يا نفس مالي وللأموال أجمعها    خـلفي وأخرج من دنياي عريانا

 والموت لا يعرف أحداً ولا يحابي أحدا فإذا انتهي الأجــل حان الرحيل

كلُّ ابن أنثى وإن طالت سلامته  يوماً على آلة حدباء محمول

وليس للمرء في مثل هذا المصاب إلا الصبر وإياكم والجزع لأنه لا يرفع مكروها ولا يعيد مفقودا وإن أفضل ما يُعطاه العبد في هذه الدنيا الشكر عند الرخاء والصبر عند البلاء والرضا بالقضاء :

إذا ما أتاك الدهر يوماً بنكبةٍ  فافرغ لها صبراً ووسِّع لها صدرا

فإن تكاليف الزمان عجيبةٌ   فيوماً ترى يسراً ويوماً ترى عسرا

فاتقوا الله وأعدوا أنفسكم للقاء الله ، إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون .

 

 

 

 

لا فرار من الموت

قال تعالى : } قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم { الجمعة 7 . 

 هذه لفتة من اللفتات القرآنية تُقِرُّ حقيقةً ينساها الناس وهي تلاحقهم أينما كانوا  وهي أن هذه الحياة هبة من الله ونعمة ، لا تحفظها الأسباب،ولا يبقيها الفرار من الموت قال تعالى : ] ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم[ البقرة  243 . فروا من الموت فأماتهم الله ليعلمهم أن الموت قدره وقضاؤه ، ثم أحياهم ليعلمهم أن الحياة هبة من الله ومنة منه وفضل ، ومن القصص القديمة التي تروى في عدم قدرة الإنسان على الفرار من الموت قصة وزير سليمان ، الذي كان جالسًا عنده يوما في وقت الضحى "فدخل عليه رجل يسلم عليه وجعل هذا الرجل يحادث سليمان ويحد النظر للوزير ففزع الوزير منه فلما خرج الرجل قام الوزير وسأل سليمان يا نبي الله من هذا الرجل الذي خرج من عندك قد و الله أفزعني منظره ، فقال سليمان : هذا ملك الموت يتصور بصورة رجل ويدخل إلي ففزع الوزير وبكى وقال يا نبي الله أسألك بالله أن تأمر الريح وتأخذني إلى مكان بعيد فأمر سليمان الريح فحملته إلى الهند، فلما كان من الغد دخل ملك الموت على سليمان كعادته ليسلم عليه كما كان يفعل فقال له سليمان قد أفزعت صاحبي بالأمس فلماذا كنت تحد إليه النظر فقال يا نبي الله إني دخلت عليك في الضحى وقد أمرني الله بأن أقبض روحه بعد الظهر في الهند فتعجبت أنه عندك ومع هذا ذهبت إلى الهند كما أمرني الله لأقبض روحه فوجدته هناك". فالموت قدرٌ لا مفر من لقائه في موعده  لا يستقدم لحظة ولا يستأخر  وأن الفرار لا ينفع في دفعه ، وأن الناس سيلاقون حتفهم المكتوب وأن لا عاصم لهم من الله ، ولا مولى لهم من دون الله  يحميهم ويمنعهم من قدر الله ، وما ينجو من الموت من خافه ولا يُعْطى البقاء لمن أحبه ، لأن الحياة على هذه الدنيا محدودة بأجل ثم تأتي نهايتها حتماً فكل نفس ستموت وتفارق هذه الحياة ، ولكن الفارق بين نفس ونفس في المصير الأخير كما قال الله تعالى : } فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز { . فلماذا لا نعمل عمل أهل الموتى ، ولم لا نبصر ولا نتدبر إذا كان الموت نهاية كل حي والمرجع إلى الله ولماذا لا نحسب حساب هذا المذاق  أم أننا نستبعد النهاية والفراق ، التي هي قدر من البارئ الخلاّق ولقد أحسن القائل 

كل شيء سوف يلقى حتفه    في مقامٍ أو على ظهر سفر

والمنـايا حـوله ترصُـدُه     ليس ينجيه من الموت الحذر

 ألا ترون الأموات وقد فجع بهم الأحباب وسكنوا التراب ، وظَعَنوا فليس لهم إياب قال تعالى : ] كلا إنها كلمةٌ هو قائلها ومن ورائهم برزخٌ إلى يوم يبعثون [ فالأيام تطوي والأعمار تفنى والأجسام تبلى   والليل والنهار يتراكضان يقربان كل بعيد ويخلفان كل جديد قال الشاعر :

والمرء يفرح بالأيام يقطعها   وكل يومٍ مضى يدني من الأجل

 

 

المصير المحتوم

 علمنا رسول الله  صلى الله عليه وسلم أن نقول كلما زرنا المقابر : السلام عليكم دار قوم مؤمنين أنتم السابقون ونحن اللاحقون ، هذه الكلمات التي نقولها، كتحية لأمواتنا   إيماناً منا بهذا المصير المحتوم علينا جميعاً   كمرحلة انتقال من الحياة الدنيا ومرحلة انتظار ليوم البعث والنشور ،والناس يوم البعث ، فريقان لا ثالث لهما ، شقي وسعيد ، فريق في الجنة ، وفريق في النار  فريق استراح ، وفريق استراح منه العباد والبلاد ، ومضى إلى جهنم وبئس المهاد   وهم جميعا قد فارقوا الأحبةَ والجيران  وهجروا الأصحاب والخلان ، وقد ارتُهنوا بأعمالِهم ، فصاروا فقراء إلى ما قدموا  أغنياء عما تركوا .

جمعوا فما أكلوا الذي جمعوا    وبنوا مساكنَهم وما سكنوا

ومن خاف الوعيد قرب عليه البعيد , ومن طال أمله ضعف عمله ، وكل ما هو آت قريب ، واعلموا أن الله لم يخلقكم عبثا  ولم يترككم سدا فتزودوا من دنياكم لآخرتكم ، قبل حلول الأجل ، وفقدان الأمل ، وإن خير الزاد للقادمين على الله التقوى ، وما عملوا من الطاعات ، وما قدّموا من برٍّ وصدقات وقد أحسن القائل :

قد مضى العمر وفات  يا أسير الغفلات

فاغنم العمر وبادر     بالتقى قبل الممات

واطلب الغفران ممن   تُرجى منه الهبات

جاء رجلٌ إلى الإمام علي ، وقال له يا أمير المؤمنين ! اشتريت داراً وأريد أن تكتب لي عقد شرائها بيدك ، فكتب له بعدما حمد الله وأثنى عليه أما بعد ، فقد اشترى ميت من ميت داراً ، في بلد المذنبين وسكة الغافلين لها أربعة حدود الأول : ينتهي إلى الموت   والثاني : ينتهي إلى القبر والثالث : ينتهي إلى الحساب ، والرابع : ينتهي إما إلى الجنة أو إلى النار فبكى الرجل وقال : يا أمير المؤمنين ! اشهد أني قد تصدقت بداري على أبناء السبيل ، فقال الإمام علي : 

النفس تبكي على الدنيا وقد علمت      إن السلامة فيها ترك ما فيها

لا دار للمرء بعد الموت يسكنها        إلا الذي كان قبل الموت بانيها

فاِن بناها بخير طاب مسكنه        وان بناها بشر خاب بانيها

أين الملوك التي كانت مسلطنة         حتى سقاها بكأس الموت ساقيها

أموالنا لذوي الميراث نجمع ها       وديارنا لخراب الدهر نبنيها

كم من مدائن في الآفاق قد بنيت         أمست خرابا وأفنى الموت أهاليها

إن المكارم أخلاق مطهّرة         الدين أولها والعقل ثانيها

والعلم ثالثها والحلم رابعها                والجود خامسها والفضل سادسها

والبر سابعها والشكر ثامنها         والصبر تاسعها واللين باقيها

والنفس تعلم أنّي لا أصادقها        ولست أرشد إلا حين أعصيها

والنفس تعلم أنّي لا أصادقها        ولست أرشد إلا حين أعصيها

لا تركنن  إلى الدنيا و ما فيها       فالموت لا شك يفنينا و يفنيها

وأعمل لدار غدا رضوان خازنها     والجار أحمد والرحمن ناشيها

قصورها ذهب والمسك طينتها       والزعفران حشيش نابت فيها

أنهارها من لبن مصفى وعسل      والخمر يجري رحيقا في مجاريها

والطير تجري على الأغصان      عاكفة تسبّح الله جهرا في مغانيها

فمن يشتري الدار في الفردوس          يعمّرها بركعة في ظلام الليل يحييها

 

 

الموت نهاية كل حي

 

بين الحين والحين نشِّيع غادياً ورائحاً إلى لله وكما شيعناه سنُشَّعُ يوماً .

 

ألا وكما شيعت يوماً جنازة    فأنت كما  شيّعتهم ستُشيَّعُ

 

رأيتك في الدنيا على ثقةٍ بها    وإنك في الدنيا لأنت المرَوَّعُ

 

نشيِّعُه وقد قضى نحبه وخلع الأسباب  وفارق الأحباب ، وسكن التراب وواجه الحساب  فانتهى أجلُه وأملُه ، فيتبعَه أهلُه ومالُه وعملُه  فيرجع أهلُه وماله ، ويبقي  مرتهنٌ بعمله ، فإن كان محسناً فالله يقول : ﴿ وما عند الله خيرٌ وأبقى للذين آمنوا﴾   وإن كان مسيئاً فالله يقول : ﴿ ولا يحسبنَّ الدين كفروا إنما نُملي لهم خيراً لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ﴾ وحصنوا إيمانكم بالأمانة فإنه لا إيمان لمن لا أمانة له ، ولا دين لمن لا عهد له ، وسارعوا إلى المغفرة بالتوبة والى الرحمة بالتقوى ، فقد أوجب الله رحمته للمتقين ومغفرته للتائبين فقال تعالى : ﴿ وإني لغفّارٌ لمن تاب وآمن وعمل صالحاً تم اهتدى ﴾ طه 82 . وما أحسن ما قيل :

 

يا رب إن عظمت ذنوبي كثرةً  فلقد علمت بأن عفوك أعظمُ

 

إن كان لا يرجوك إلا محسنٌ        فبمن يلـوذ ويستجير  المجرمُ

 

أدعوك ربي كما أمرت تضرُّعاً   فإذا رددت يدي فمن ذا يرحمُ

 

ما لي إليك وسيلةٌ إلا الرجـا    وجميـلُ عفـوك ثمَّ أني مسلمُ

 

إن الناس في هذه الحياة لا يفكرون في الآخرة   ولا في يوم الحساب ، وكأنهم سيخلدون فيها   يحسبون لكل شيء حسابه ، ولكنهم لا يدخلون الموت في حساباتهم ، ونسوا أنه أمرٌ حتمٌ لا مفر منه يصل الينا أينما كنا قال تعالى :﴿ أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروجٍ مشيدة ﴾ النساء 78. والموت حكم الله وقضاؤه على عباده  يحكم عَدْلاً ويقول فَصْلاً ، إذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون ، ولكــن الناس لا يتعظون ، وعن الموت غافلون  وهم يعلمون أنهم لابد راحلون  وما علموا أن الموت سبيل الماضين ومورد الخلائق أجمعين ، ولو جعل الله الخلود لأحد من خلقه لكان ذلك لأنبيائه  وصفوة خلقه محمد صلى الله عليه وسلم  كيف وقد نعاه إلى نفسه وخاطبه بقوله : ﴿ إنك ميتٌ وإنهم ميتون ﴾ .

 

عزائي نبي الله من كلِّ ميتٍ   وحسبي ثواب الله من كلِّ هالك

 

إذا ما لقيت الله عني راضياً   فإن سرور النـفس فيما  هنالك

 

فاتقوا الله ولا تغُرَنَّكُمُ الحياة الدنيا ، ولا تفرحوا بمتاعها الزائل فهي دار بلاء وفناء . 

 

نبكي على الدنيا وما من معشر  جمعتهم الدتنيا فلم يتفرقوا

 

أين الأكاسرة البابرة الأولى كن زوا الكنوز فما بقين وما بقوا

 

من كل من ضاق الفضاء بجيشه   حتى ثوى فحواه لحدٌ ضيق

 

لكن القلوب قست وتحجرت ولم تتعظ بالموت الذي لا واعظ مثله ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (كفى بالموت واعظاً) . وحتى تلين هذه القلوب القاسيةُ  أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإكثار من ذكر الموت فقال : ( اكثروا ذكر الموت فما من عبد أكثر ذكره  إلا أحيا الله قلبه وهون عليه الموت) . وإن أفضل المؤمنين أكثرهم استعداداً للموت عن ابن عمر قال: (كنت جالساً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء رجلٌ من الأنصار ، فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أي المؤمنين أكيس ؟ قال صلى الله عليه وسلم : أكثرهم للموت ذكرا وأحسنهم لما بعده استعدادا أولئك الأكياس) .وقال صلى الله عليه وسلم : (عش ما شئت فإنك ميت وأحبب من شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك مجزيٌ به) . 

 

 

 

 الخوف من الموت

  إن الموت هو امتداد لحياة الإنسان وبداية لعالم آخر هو غاية الحياة  وكمال نظامها ، ونهاية لمرحلة معينة من حياة الإنسان ، وبداية لمرحلة أخرى ، ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الإيمان بالحياة بعد الموت مرتبط بعقيدة المعاد ، التي هي إحدى أصول العقيدة الإسلامية ، يخرج منكرها عن الإسلام   

 والموت نهاية الحياة الدنيا بكل آمالها وطموحاتها ، ولذا يثير حالة من الرعب لدى الإنسان ، خوفا من أن يفقد كل ما يملكه ، سئل الإمام الحسن  يا ابن رسول الله ! ما بالنا نكره الموت ، ولا نحبه ؟ قال الحسن: " إنكم أخربتم آخرتكم وعمّرتم دنياكم ، فأنتم تكرهون النقلة من العمران إلى الخراب"   

وإن سبب الخوف من الموت ،  يرجع إلى أمر غريزي أودعه الله في الإنسان وسائر المخلوقات ، والذي يؤدي إلى النفور والفرار من الموت ، لأجل المحافظة على الحياة وحمايتها من المخاطر التي تحيط بها ، كما أن مدارك الإنسان محدودة  فرغم الآيات والأحاديث الكثيرة جداً ، والتي تتحدث عن فترة ما بعد الموت ، إلا أنه يلفها الغموض وعدم الوضوح بسبب ضيق أفق الإنسان واختلاف المقاييس وبالتالي فإن صعوبة رسم صورة جلية في مخيلة الإنسان لما يرتقبه ، يثير الخوف لديه . لقد أخبرت الآيات القرآنية عن مرحلة الاحتضار، وتلك الساعات الحرجة من حياة الإنسان  عندما تأتي سكرة الموت ، وعندما تبدأ الروح بالانسحاب من أطراف الجسد ، حتى تبلغ  التراقي  ثم تصل إلى الحلقوم  حتى تخرج خروجا كاملا من البدن إلى العالم الآخر ، لتنال ما تستحق من عقاب أو ثواب  وهو ما يثير الخوف والقلق  وإذا ابتعد الإنسان عن الله تعالى زاد   تمسكه بالحياة الدنيا  وكان خوفه من الموت أكبر ، ومن طلب الدنيا طلبته الآخرة  وبما أن الموت  يفسد على الإنسان دنياه لذا ينبغي أن يستعد لليوم الآخر .

 وقد صورت  الآيات والأحاديث  ما يحدث بعد الموت.. لأجل الحث على التأهب التام لتلك المرحلة وهي التي تعين على تهوين مسألة الموت ، وتحويله من حالة سلبية في الحياة إلى حالة إيجابية  وعلاج حالة الخوف منه ، وذلك بالإيمان بأن الموت انتقال من دار إلى دار كما قال صلى الله عليه وسلم : (خلقتم للأبد ، وإنما تنقلون من دار إلى دار) وأن هذه الدار ستكون للمؤمن المتقي خير دار صنعها بنفسه   بعيدة عن الظلم والعدوان ، وكل أنواع الشرور كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما الموت إلا قنطرة تعبر بكم من البؤس والضراء ، إلى الجنان الواسعة والنعيم الدائم.. فأيكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر ، وهو لأعدائكم كمن ينتقل من قصر إلى سجن وعذاب ) ويكون بالرضا بقضاء الله وقدره ، حيث جعل الله الموت والفناء نهاية المسيرة ، وهذا ما لا مهرب منه قال تعالى : ] كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة [ وأن البقاء لله حده  والزوال أمر لا بد منه  فقد  جاء جبرائيل إلى النبي  صلى الله عليه وسلم فقال : ( يا محمد!.. عش ما شئت، فإنّك ميّت!.. وأحبب مَنْ شئت ، فإنّك مفارقه!.. واعمل ما شئت، فإنّك ملاقيه ) ولن ينفعنا الفرار من الموت ] قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم [ وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الموت طالب حثيث لا يفوته المقيم ولا يعجزه الهارب ) فعلينا أن ندرك أن الاعتراض على أمر الله سبحانه ومشيئته ، يعرضنا لسخطه عز وجل قال صلى الله عليه وسلم : (ألا إن في الله عز وجل عزاء من كل مصيبة   وخلفا من كل هالك ودركا لما فات فبالله عز وجل فثقوا!.. وإياه فارجوا فإن المصاب من حرم الثواب) .

وعلى الإنسان الاعتقاد بأن في خلق الموت مصلحة وفائدة للإنسان قال تعالى : ] الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور [ ففي خلق الموت حث على حسن العمل  وحتى تهون علينا مصائب الدنيا قال تعـالى : ] لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم [  إن الله تعالى هو أرحم الراحمين ى قد اختار لنا الرجوع إليه بعد رحلة الحياة قال تعالى : ] كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون [  وهو سبحانه الذي سيتناول هذه الأنفس وافية تامة  ويحيطها برعايته قال تعالى : ] الله يتوفى الأنفس حين موتها [. وليعلم المسلم أن الروح لا تفنى  وأن فترة انفصالها عن الجسد فترة مؤقتة ، حتى يأذن الله تعالى وينفخ في الصور قال تعالى : ] فإذا هم قيام ينظرون [ وأن أرواح المؤمنين تلتقي وتتعارف في وادي السلام ، بعد أن تتحرر من الآلام الدنيوية.. وأن الموتى يشعرون بمن حولهم كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم : (يفرحون بالهدية والزيارة، كما كانوا يفرحون بها في دار الدنيا) وهذا ما يؤكد وجوب استمرار التواصل حتى بعد رحيل الإنسان ، وذلك بالدعاء والزيارة وغيرها من أعمال البر . وقد جاءت الأحاديث تحث على الموت للحث على العمل لما بعده كما جاء في الوصايا :

   "يابني!.. أكثر من ذكر الموت حتى يأتيك ، وقد أخذت منه حذرك ، وشددت له أزرك " قال صلى الله عليه وسلم :   ( بادروا الموت وغمراته، وامهدوا له قبل حلوله!.. وأعدوا له قبل نزوله!.. فإن الغاية القيامة ) كان نبي الله (يعقوب) عليه السلام مؤاخياً لملك الموت ، وكان من عادة المَلَك زيارته بين الحين والحين  وذات يومٍ قال نبي الله يعقوب عليه السلام: - يا ملك الموت أزائراً جئت أم قابضاً روحي؟ فقال المَلَك: جئت زائراً قال يعقوب عليه السلام : لي عندك رجاء فقال المَلَك: أخبرني به ما هو؟. قال يعقوب عليه السلام: أن تُخبرني إذا دنا أجلي وأردت أن تقبض روحي فقال المَلَك : نعم سوف أُرسل لك نُذُراً من رسولين أو ثلاثة ، ومرت الأيام والشهور وانقطعت الزيارة بينهما ، فلما انقضى أجل يعقوب عليه السلام أتى إليه ملَك الموت فقال له نبي الله :  زائراً جئت أم قابضاً؟. أجاب المَلَك بحزن :  جئت قابضاً قال يعقوب عليه السلام : أولست كنت أخبرتني أنك سترسل لي رسولين أو ثلاثة قبل زيارتك هذه ، قال ملَك الموت : قد فعلت أرسلت لك ثلاثة رسل : بياض شعرك بعد سواده وضعف بدنك بعد قوّته . وانحناء ظهرك بعد استقامته. هذه رسلي يا نبي الله لأولاد آدم قبل زيارتي لهم  .  

إن علينا في الحياة الدنيا أن نكون متوازنين في تفاعلنا مع الأفراح والأحزان  قال صلى الله عليه وسلم : ( ما نلت من دنياك، فلا تكثر به فرحا ، وما فاتك منها، فلا تأس عليه جزعا، وليكن همك فيما بعد الموت ) . وعلى المسلم الإيمان بأن الموت والحياة عمليتان متداخلتان ومتعاقبتان ، وأن من يميتنا قادر على إحيائنا قال تعالى : ] فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير [ الروم 50 . 

وأن الموت يأتي للإنسان في وقته ، بعد أن يستوعب الإنسان مقدماته غالبا قال تعالى : ] وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا [ . وعلى المسلم أن يدرك الفرق بين الموت والنوم ليدرك حقيقة الموت ، فقد ورد في تفاسير القرآن : أن النفس التي بها العقل والتمييز  تقبض عند النوم ، وتبقى الروح التي بها التنفس والحركة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ما من أحد ينام إلا عرجت نفسه إلى السماء  وبقيت روحه في بدنه ) ولعل في هذا الموت اليومي أكبر عبرة لنا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (كفى بالموت واعظا ) . وقد دلت النصوص على أن الغاية الحقيقية من الموت هي : الاختبار والابتلاء قال تعالى : ] ليبلوكم أيكم أحسن عملا [ وقال : ] كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون [ . فمن علم أن هناك نهاية لا مفر منها، وهناك حسابا وجزاء على الأعمال   فإن عليه أن يستعد لذلك  ويعمل بجد لآخرته ، ولايغتر بالدنيا  ولا يركن إليها، فهي زائلة لامحالة قال تعالى : ]وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور [ . وليعلم أن البلاء له في الدنيا أفضل من الحساب في الآخرة   وأنه مقياس لدرجة إيمانه قال صلى الله عليه وسلم : (أشد الناس بلاء أهل الخير والصلاح، بعد الأنبياء والرسل) .

 وفي تربية النفس وتدريبها على حب الله والشوق إلى لقائه ما يخفف الخوف من الموت ، من خلال كثرة ذكر الله والتقرب إليه بالأعمال الصالحة  وإخلاص النية وصدق العمل.. ولعله لا يوجد أبلغ مما جاء في الخبر الذي يؤصل في النفس  حالة الشوق إلى الله ، والفرح بلقائه فقد كان يدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول : ( اللهم!.. فاجعل نفسي مطمئنة بقدرك ، راضية بقضائك ، مولعة بذكرك ودعائك ، محبة لصفوة أوليائك ، محبوبة في أرضك وسمائك ، صابرة على نزول بلائك ، شاكرة لفواضل نعمائك ذاكرة لسوابغ آلائك ، مشتاقة إلى فرحة لقائك ، متزودة التقوى ليوم جزائك ، مستنة بسنن أوليائك ، مفارقة لأخلاق أعدائك ، مشغولة عن الدنيا بحمدك وثنائك ) . ومما يهون من مصيبة الموت التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم  والأئمة الأطهار وكافة الأنبياء والصالحين ، وأنهم قد صاروا جميعا إلى نفس النهاية التي نصير إليها  مع عظم منزلتهم عند الله   وكذلك ذكر مصائبهم مما يؤدي إلى تهوين مصيبة الموت.. قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم : (من عظمت مصيبته، فليذكر مصيبته بي، فأنها ستهون عليه). وليكن ذكر الموت حافزا لنا للعمل الدائم والمسابقة بالخيرات قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من ارتقب الموت، سارع إلى الخيرات ) وعلينا أن نسعى دائما لإعمار الأرض  وتحقيق خلافة الإنسان فيها على أفضل صورة قال صلى الله عليه وسلم :  ( اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا!.. واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا!)، ولا يكون ذلك باليأس والقنوط وترقب الموت ، بل بمراقبة أعمالنا ، وتهذيب نفوسنا ، واتباع الهدى   ورفض الشرك والضلال ، وتربية أولادنا تربية طيبة ، ليكونوا خير معين يضاعف حسناتنا عند انقطاعنا عن الدنيا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا مات المؤمن انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له )  .

 إن مسألة الشعور بخطر الموت والخوف منه ، هي من أكبر مسببات القلق والخوف في الحياة إلا أن إدراك حقيقة الموت ، تقلل من ذلك القلق والشعور بعدمية معنى الحياة ، فالموت ما هو إلا محطة من المحطات العديدة في حياتنا ، ولا يمثل النهاية الأبدية مطلقا ، وإنه من رحمة الله تعالى بالمؤمنين خاصة  ليجدوا ثمرة أتعابهم وجهودهم الخيرة  ،وبذا يتحقق في نفس الإنسان الرضا والطمأنينة  ويحل محل الحزن والقلق ، لذا علينا أن نجهد أنفسنا لنكون حقا من المؤمنين الفائزين في الدنيا والآخرة قال تعالى : ] ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون [ .

اجتماع سَكْرة الموت مع حَسْرَة الفوت

الحمد لله الذي كتب الموت على كل حي ، ولم يستثن منهم أحب خلقه وعباده إليه ، بل أذاقه رسله وأنبياءه ، بل وأصفى أصفيائه وأحب أحبائه محمداً صلى الله عليه وسلم فقال تعالى : ﴿ إنك ميت وإنهم ميتون ﴾ وقال : ﴿ وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن متَّ فهم الخالدون. كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون ﴾ ، وقال صلى الله عليه وسلم فيما عن ربه : ( وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن ، يكره الموت وأكره مساءته ، ولابد منه ) .  جاء في تفسير قوله تعالى :﴿ والتفت الساق بالساق ﴾ ، كما قال الحافظ ابن رجب الحنبلي :  "أن المراد بذلك اجتماع سكرة الموت مع حسرة الفوت" فلا يسأل عن سوء حاله ، ولا رداءة مآله . فالسعيد من طاب للموت وطاب له الموت ، فجعل يشتاق إلى لقاء ربه لاستعداده لذلك وتوقعه لما هنالك ، والشقي من اجتمعت عليه الحسرتان ، وتطابقت عليه الشدتان ، واستبان له الخسران ، وواجه مغبة التسويف والمماطلة والنسيان .  أن للموت سكرات وأي سكرات؟! قال تعالى: ﴿ وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد ﴾ ، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن للموت سكرات ) ألسنا أبناء الموتى ، وأن الله نعى إلينا نبينا صلى الله عليه وسلم  ونعانا إلى أنفسنا ، فما منا من أحد إلا وهو يحمل أصل شهادة وفاته ، وما يستخرج له من شهادة بعد وفاته ، إن هي إلا صورة من تلك الشهادة المقوقعة بقول الله : ﴿ إنك ميت وإنهم ميتون ﴾ وقوله : ﴿ كل نفس ذائقة الموت ﴾ وهو توقيع بخراب الدنيا . إن أرواحنا عارية في أجسادنا ، ولابد لصاحب العارية من ردها وقبضها . لهذا علينا أن نكثر من ذكر هادم الذات ، ومفرق الجماعات وميتم البنين والبنات ، ومؤيم الأزواج والزوجات ، ومنغص العيشات ، وعلينا أن نستعد له بتجديد التوبات ، والحرص على الطاعات ، والبعد عن المحرمات ، والاستعداد للممات ، والحذر من اجتماع الحسرات ، والانغماس في الشهوات ، واغتنام الفرص ، والاستفادة من الأوقات . قال الفضيل بن عياض رحمه الله لرجل : كم أتى عليك ؟ قال : ستون سنة ؛ قال له : أنت منذ ستين سنة تسير إلى ربك  يوشك أن تبلغ؛ فقال الرجل : إنا لله وإنا إليه راجعون ؛ فقال الفضيل : من علم أنه لله عبد ، وأنه إليه راجع ، فليعلم أنه موقوف ، وأنه مسئول ، فليعد للمسألة جواباً ؛ فقال الرجل : ما الحيلة ؟ قال : يسيرة ؛ قال : ما هي ؟ قال : تحسن فيما بقي يغفر لك ما مضى ، فإنك إن أسأتَ فيما بقي أخذتَ بما مضى وبقي .  فلا تأمن يا أخي مكر الله ، ولا تأمن الموت ، ولا تظنن أنك في أمان منه ، فقد يموت الصغير ، ويعمر الشيخ الكبير ، ويهلك الصحيح ، ويصحُّ المريض ؛ فكم من صغيرة دفنتَ، وشاب وشابة واريتَ ؟ وكم من عروس قبرتَ ؟ وشيخ عجوز عاصرتَ ؟   ولله در القائل :              

تفتُّ فـؤادك الأيــامُ فتـا   وتنحتُ جسمك الساعات نحتاً

وتدعوك المنونُ دعاء صدق  ألا يـا صاح أنتَ  أريد أنتَ

ولا تقل الصبا فيه امتهـال    وفكر كم صغيـراً قد دفنتَ

وكانت آخر خطبة خطبها عمر بن عبد العزيز رحمه الله، قال فيها: " إنكم لم تُخلقوا عبثاً، ولن تتركوا سدى ، وإن لكم معاداً ينزل الله فيه للفصل بين عباده ، فقد خاب وخسر من خرج من رحمة الله التي وسعت كل شيء ، وحرم جنة عرضها السموات والأرض ، ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين، وسيرثها بعدكم الباقون ، كذلك حتى ترد إلى خير الوارثين ، وفي كل يوم تشيعون غادياً ورائحاً إلى الله، قد قضى نحبه ، وانقضى أجله، فتودعونه ، وتدعونه في صدع من الأرض، غير موسد ولا ممهد، قد خلع الأسباب ، وفارق الأحباب، وسكن التراب ، وواجه الحساب ، غنياً عما خلف، فقيراً عما أسلف ، فاتقوا الله عباد الله قبل نزول الموت ، وانقضاء مواقيته ، وإني لأقول لكم هذه المقالة ، وما أعلم عند أحد من الذنوب أكثر مما أعلم عندي ، ولكن أستغفر الله وأتوب إليه ؛ ثم رفع طرف ردائه ، وبكى حتى شهق ، ثم نزل ، فما عاد إلى المنبر بعدها حتى مات رحمة الله عليه " .  فالحذر الحذر أخي الكريم من الغفلة وطول الأمل ، وحب الدنيا ، وكراهية الموت ، فهذه أدواء مضلة ، وأمراض مذلة ، وأماني مخلة .  فالعاقل من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني ، واعلم أن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل ، واحرص أن لا يكون يقينك بوعد الله وبالمغيبات شبيهاً بالشك ، سيما الموت .  قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: "لم أر يقيناً أشبه بالشك كيقين الناس بالموت ، موقنون أنه حق ، ولكن لا يعملون له " .  فمن كد وجد ، ومن زرع حصد ، ومن اجتهد نجح ، ومن عمل أفلح . واعلم أن دوام الحال من المحال ، فاليوم في الدور وغداً في القبور ، واتق ليلة فجرها يوم القيامة ، واعمل لدار السلامة ، ولا تعجز فتكون في دار الندامة ، وكفى بالقرآن مذكراً ، وبالرسول صلى الله عليه وسلم مبشراً ومنذراً ، وبالموت واعظاً وبالدهر مفرقاً . 

 

 

 

مسألة الخوف من الموت

  إن الموت هو امتداد لحياة الإنسان وبداية لعالم آخر هو غاية الحياة  وكمال نظامها ، ونهاية لمرحلة معينة من حياة الإنسان ، وبداية لمرحلة أخرى   ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الإيمان بالحياة بعد الموت   مرتبط بعقيدة المعاد ، التي هي إحدى أصول العقيدة الإسلامية ، يخرج منكرها عن الإسلام  .

 والموت نهاية الحياة الدنيا بكل آمالها وطموحاتها ، ولذا يثير حالة من الرعب لدى الإنسان ، خوفا من أن يفقد كل ما يملكه ، سئل الإمام الحسن  يا ابن رسول الله ! ما بالنا نكره الموت ، ولا نحبه ؟ قال الحسن : " إنكم أخربتم آخرتكم وعمّرتم دنياكم ، فأنتم تكرهون النقلة من العمران إلى الخراب" . 

وإن سبب الخوف من الموت ،  يرجع إلى أمر غريزي أودعه الله في الإنسان وسائر المخلوقات ، والذي يؤدي إلى النفور والفرار من الموت ، لأجل المحافظة على الحياة وحمايتها من المخاطر التي تحيط بها ، كما أن مدارك الإنسان محدودة  فرغم الآيات والأحاديث الكثيرة جداً ، والتي تتحدث عن فترة ما بعد الموت   إلا أنه يلفها الغموض وعدم الوضوح بسبب ضيق أفق الإنسان واختلاف المقاييس وبالتالي فإن صعوبة رسم صورة جلية في مخيلة الإنسان لما يرتقبه ، يثير الخوف لديه . لقد أخبرت الآيات القرآنية عن مرحلة الاحتضار، وتلك الساعات الحرجة من حياة الإنسان ، عندما تأتي سكرة الموت ، وعندما تبدأ الروح بالانسحاب من أطراف الجسد ، حتى تبلغ  التراقي  ثم تصل إلى الحلقوم ، حتى تخرج خروجا كاملا من البدن إلى العالم الآخر ، لتنال ما تستحق من عقاب أو ثواب  وهو ما يثير الخوف والقلق ، وإذا ابتعد الإنسان عن الله تعالى زاد تمسكه بالحياة الدنيا ، وكان خوفه من الموت أكبر ، ومن طلب الدنيا طلبته الآخرة  وبما أن الموت  يفسد على الإنسان دنياه لذا ينبغي أن يستعد لليوم الآخر .  وقد صورت  الآيات والأحاديث  ما يحدث بعد الموت.. لأجل الحث على التأهب التام لتلك المرحلة وهي التي تعين على تهوين مسألة الموت ، وتحويله من حالة سلبية في الحياة إلى حالة إيجابية  وعلاج حالة الخوف منه ، وذلك بالإيمان بأن الموت انتقال من دار إلى دار كما قال صلى الله عليه وسلم : (خلقتم للأبد  وإنما تنقلون من دار إلى دار) وأن هذه الدار ستكون للمؤمن المتقي خير دار صنعها بنفسه   بعيدة عن الظلم والعدوان ، وكل أنواع الشرور كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما الموت إلا قنطرة تعبر بكم من البؤس والضراء   إلى الجنان الواسعة والنعيم الدائم.. فأيكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر  وهو لأعدائكم كمن ينتقل من قصر إلى سجن وعذاب ) ويكون بالرضا بقضاء الله وقدره ، حيث جعل الله الموت والفناء نهاية المسيرة ، وهذا ما لا مهرب منه قال تعالى : ﴿ كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة ﴾ وأن البقاء لله حده  والزوال أمر لا بد منه  فقد  جاء جبرائيل إلى النبي  صلى الله عليه وسلم فقال : ( يا محمد!.. عش ما شئت، فإنّك ميّت!.. وأحبب مَنْ شئت ، فإنّك مفارقه!.. واعمل ما شئت، فإنّك ملاقيه ) ولن ينفعنا الفرار من الموت : ﴿ قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ﴾ وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الموت طالب حثيث لا يفوته المقيم ولا يعجزه الهارب ) فعلينا أن ندرك أن الاعتراض على أمر الله سبحانه ومشيئته ، يعرضنا لسخطه عز وجل قال صلى الله عليه وسلم : (ألا إن في الله عز وجل عزاء من كل مصيبة   وخلفا من كل هالك ودركا لما فات فبالله عز وجل فثقوا!.. وإياه فارجوا فإن المصاب من حرم الثواب) .

وعلى الإنسان الاعتقاد بأن في خلق الموت مصلحة وفائدة للإنسان قال تعالى : ﴿ الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور ﴾ ففي خلق الموت حث على حسن العمل  وحتى تهون علينا مصائب الدنيا قال تعـالى : ﴿ لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم ﴾  إن الله تعالى هو أرحم الراحمين ى قد اختار لنا الرجوع إليه بعد رحلة الحياة قال تعالى : ﴿ كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون ﴾  وهو سبحانه الذي سيتناول هذه الأنفس وافية تامة  ويحيطها برعايته قال تعالى : ﴿ الله يتوفى الأنفس حين موتها ﴾ وليعلم المسلم أن الروح لا تفنى  وأن فترة انفصالها عن الجسد فترة مؤقتة ، حتى يأذن الله تعالى وينفخ في الصور قال تعالى : ﴿ فإذا هم قيام ينظرون ﴾ وأن أرواح المؤمنين تلتقي وتتعارف في وادي السلام ، بعد أن تتحرر من الآلام الدنيوية.. وأن الموتى يشعرون بمن حولهم كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم : (يفرحون بالهدية والزيارة، كما كانوا يفرحون بها في دار الدنيا) وهذا ما يؤكد وجوب استمرار التواصل حتى بعد رحيل الإنسان ، وذلك بالدعاء والزيارة وغيرها من أعمال البر . وقد جاءت الأحاديث تحث على الموت للحث على العمل لما بعده كما جاء في الوصايا : "يابني!.. أكثر من ذكر الموت حتى يأتيك ، وقد أخذت منه حذرك ، وشددت له أزرك " قال صلى الله عليه وسلم :   ( بادروا الموت وغمراته، وامهدوا له قبل حلوله!.. وأعدوا له قبل نزوله!.. فإن الغاية القيامة ) كان نبي الله (يعقوب) عليه السلام مؤاخياً لملك الموت ، وكان من عادة المَلَك زيارته بين الحين والحين  وذات يومٍ قال نبي الله يعقوب عليه السلام: - يا ملك الموت أزائراً جئت أم قابضاً روحي؟ فقال المَلَك: جئت زائراً قال يعقوب عليه السلام : لي عندك رجاء فقال المَلَك: أخبرني به ما هو؟. قال يعقوب عليه السلام: أن تُخبرني إذا دنا أجلي وأردت أن تقبض روحي فقال المَلَك : نعم سوف أُرسل لك نُذُراً من رسولين أو ثلاثة ، ومرت الأيام والشهور وانقطعت الزيارة بينهما ، فلما انقضى أجل يعقوب عليه السلام أتى إليه ملَك الموت فقال له نبي الله :  زائراً جئت أم قابضاً؟. أجاب المَلَك بحزن :  جئت قابضاً قال يعقوب عليه السلام : أولست كنت أخبرتني أنك سترسل لي رسولين أو ثلاثة قبل زيارتك هذه ، قال ملَك الموت : قد فعلت أرسلت لك ثلاثة رسل : بياض شعرك بعد سواده وضعف بدنك بعد قوّته . وانحناء ظهرك بعد استقامته. هذه رسلي يا نبي الله لأولاد آدم قبل زيارتي لهم  .  

إن علينا في الحياة الدنيا أن نكون متوازنين في تفاعلنا مع الأفراح والأحزان  قال صلى الله عليه وسلم : ( ما نلت من دنياك، فلا تكثر به فرحا ، وما فاتك منها، فلا تأس عليه جزعا، وليكن همك فيما بعد الموت ) . وعلى المسلم الإيمان بأن الموت والحياة عمليتان متداخلتان ومتعاقبتان ، وأن من يميتنا قادر على إحيائنا قال تعالى : ﴿ فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير ﴾ الروم 50 . 

والموت يأتي للإنسان في وقته ، بعد أن يستوعب الإنسان مقدماته غالبا قال تعالى : ﴿ وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ﴾ . وعلى المسلم أن يدرك الفرق بين الموت والنوم ليدرك حقيقة الموت ، فقد ورد في تفاسير القرآن : أن النفس التي بها العقل والتمييز  تقبض عند النوم ، وتبقى الروح التي بها التنفس والحركة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ما من أحد ينام إلا عرجت نفسه إلى السماء  وبقيت روحه في بدنه ) ولعل في هذا الموت اليومي أكبر عبرة لنا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (كفى بالموت واعظا ) . وقد دلت النصوص على أن الغاية الحقيقية من الموت هي : الاختبار والابتلاء قال تعالى : ﴿ ليبلوكم أيكم أحسن عملا ﴾ وقال : ﴿ كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون  ﴾ . فمن علم أن هناك نهاية لا مفر منها، وهناك حسابا وجزاء على الأعمال   فإن عليه أن يستعد لذلك  ويعمل بجد لآخرته ، ولا يغتر بالدنيا  ولا يركن إليها، فهي زائلة لامحالة قال تعالى : ﴿ وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ﴾ . وليعلم أن البلاء له في الدنيا أفضل من الحساب في الآخرة   وأنه مقياس لدرجة إيمانه قال صلى الله عليه وسلم : (أشد الناس بلاء أهل الخير والصلاح، بعد الأنبياء والرسل) .

 وفي تربية النفس وتدريبها على حب الله والشوق إلى لقائه ما يخفف الخوف من الموت ، من خلال كثرة ذكر الله والتقرب إليه بالأعمال الصالحة  وإخلاص النية وصدق العمل.. ولعله لا يوجد أبلغ مما جاء في الخبر الذي يؤصل في النفس  حالة الشوق إلى الله ، والفرح بلقائه فقد كان يدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول : ( اللهم!.. فاجعل نفسي مطمئنة بقدرك ، راضية بقضائك   مولعة بذكرك ودعائك ، محبة لصفوة أوليائك ، محبوبة في أرضك وسمائك ، صابرة على نزول بلائك ، شاكرة لفواضل نعمائك ذاكرة لسوابغ آلائك ، مشتاقة إلى فرحة لقائك ، متزودة التقوى ليوم جزائك ، مستنة بسنن أوليائك ، مفارقة لأخلاق أعدائك ، مشغولة عن الدنيا بحمدك وثنائك ) . ومما يهون من مصيبة الموت التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم  والأئمة الأطهار وكافة الأنبياء والصالحين ، وأنهم قد صاروا جميعا إلى نفس النهاية التي نصير إليها  مع عظم منزلتهم عند الله   وكذلك ذكر مصائبهم مما يؤدي إلى تهوين مصيبة الموت.. قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم : (من عظمت مصيبته، فليذكر مصيبته بي، فإنها ستهون عليه). وليكن ذكر الموت حافزا لنا للعمل الدائم والمسابقة بالخيرات قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من ارتقب الموت، سارع إلى الخيرات ) وعلينا أن نسعى دائما لإعمار الأرض  وتحقيق خلافة الإنسان فيها على أفضل صورة قال صلى الله عليه وسلم :  ( اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا!.. واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا!)، ولا يكون ذلك باليأس والقنوط وترقب الموت ، بل بمراقبة أعمالنا ، وتهذيب نفوسنا ، واتباع الهدى   ورفض الشرك والضلال ، وتربية أولادنا تربية طيبة ، ليكونوا خير معين يضاعف حسناتنا عند انقطاعنا عن الدنيا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا مات المؤمن انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له )  .

 إن مسألة الشعور بخطر الموت والخوف منه ، هي من أكبر مسببات القلق والخوف في الحياة إلا أن إدراك حقيقة الموت ، تقلل من ذلك القلق والشعور بعدمية معنى الحياة ، فالموت ما هو إلا محطة من المحطات العديدة في حياتنا ، ولا يمثل النهاية الأبدية مطلقا ، وإنه من رحمة الله تعالى بالمؤمنين خاصة  ليجدوا ثمرة أتعابهم وجهودهم الخيرة  ،وبذا يتحقق في نفس الإنسان الرضا والطمأنينة  ويحل محل الحزن والقلق ، لذا علينا أن نجهد أنفسنا لنكون حقا من المؤمنين الفائزين في الدنيا والآخرة قال تعالى : ﴿ ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون  ﴾ .

ما هو المــوت

الانتهاء ، الحزن ، المصيبة ، الرعب ، الكارثة ، الخسارة ، اليأس ، الوحدة  الخوف  الوحشة ، القبر ... كل تلك المعاني وغيرها تقفز الى الذهن عند ذكر الموت .  فما هو الموت ؟  هو بوابة حتمية ، ينتقل الإنسان عبرها من عالم الدنيا الى عالم البرزخ   فكما أن الموت نهاية للحياة الدنيا ، فهو بداية للحياة البرزخية .. وكل انسان كان ميتا في عالم العدم ( الغيب ) ، ثم انتقل إلى عالم الرحم بكلمة كن ، ثم انتقل إلى الحياة الدنيا بالولادة ، وسينتقل إلى عالم البرزخ بالموت ، ثم ينتقل إلى عالم الآخرة بالبعث . إن من جعل الحياة الدنيا أكبر همه ومبلغ علمه سيتبادر إلى ذهنه كل المعان المفزعة عن الموت وأما من آمن وعمل صالحا فسينقله الموت إلى عالم النعيم الأبدي .

الموت له رهبة لأنه ينهي حياة اعتدنا عليها حتى صار من الصعب فراقها ، فهو ينقلنا إلى عالم نجهل هل سنكون فيه سعداء أم أشقياء ، والموت رهيب لأنه يبين حسن الخاتمة من سوئها ، وهو رهيب لأنه يعني الوقوف أمام الله وعدم إتاحة أي فرصة لإصلاح ما أفسدنا  ومن أعظم ما اتفق عليه البشر قاطبة هو الموت ، فهو حقيقة واقعة في كل لحظة   ومن مات لا يرجع الى الدنيا ورغم معرفتنا بحقيقة وقوع الموت فإن الغفلة تستولي علينا بسبب مغريات الدنيا ووساوس الغرور .

وفي الموت رحمة ، فلو لم يمت الناس لازدحم هذا الكوكب وضاق بأهله ، ثم تصور ظالما كالنمرود وفرعون كم يعيثان في الأرض فسادا لو بقيا خالدين  وتصور كم سيتعب المستضعفون وذوو الإمراض المزمنة . إن بعض الوعاظ والقصاصين يستغل رهبة الموت ، فيصوره للناس بكل رعب لدرجة القنوط   علما بأن الموت في الإسلام ما هو الا ولادة لعالم آخر أرقى وأبقى ، إن الموت وسكراته ، والقبر وملائكته يجعلها الله لتكريم المؤمن ولإهانة الكافر ، فكن مؤمنا يعمل ما يستطيع من الصالحات ويتجنب الكبائر او يتوب منها ويداوم على الدعاء بحسن الخاتمة ليكون قبره روضة من رياض الجنة وليس حفرة من حفر النار  

ومن العجائب ان الموت كما هو نهاية لهذه الحياة فهو في نفس الوقت محرض على إعمارها وازدهارها ، وذلك أن المؤمن اذا تيقن بقصر حياته وانها قد تنتهي في أي لحظة ، فإنه سيبادر الى العمل الصالح والنافع في الدنيا والآخرة وسيجتهد في الإعراض عن السفاسف والآثام قبل أن يباغته الموت ، لتحقيق الأهداف النبيلة والنظيفة والمشروعة ولا ينشغل للدنيا فقط أو للآخرة فقط بل خذ من هذه لهذه . إن الإنسان إذا ترك آثارا طيبة في حياته فإن ذكراه ستبقى بعد مماته ، فكم من عظماء لا تزال سيرتهم تذكر بكل فخر ، والإنسان الذي لم يقدم ما ينفع الناس فهو ميت ولو عاش فوق المائة من السنين ، وقد وصف القرآن الكريم أقواما بأنهم كالموتى ، لأنهم لا يفقهون ولا يؤمنون وبالتالي فلا نفع فيهم ، وقد قال شاعر :

ليس من مات فاستراح بميت    إنما الميت ميت الأحياء

 

 

 

لزوم ذكر الموت والاستعداد له

 إن ساعات الأعمار محدودة ، يجب الاستعداد فيها للموت ، بالإكثار من ذكره مع الإكثار من التفكر فيه والاستعداد له ، وهو محتمل أن يقع عليه بغتة كما قيل : " سهمٌ بيد سواك لا تدري متى يغشاك " وقال لقمان لابنه : يا بني أمرٌ لا تدري متى يلقاك استعد له قبل أن يفجأك " . عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( أكثروا ذكر هادم اللذات الموت ) ولذكر الموت منافع منها الزهد في الدنيا ، والقناعة منها باليسير ، والرغبة في الآخرة والتزود لها بالأعمال الصالحة ، والابتعاد عن المعاصي ،  والواجب على العاقل لزوم ذكر الموت وترك الاغترار بالدنيا ، لأنه كأس يدار به على الخلق ، ولا بد لكل منهم أن يشربها ويذوق طعمها ، فكم من جبار وطاغية قصمه الله ، وكم من أمّةٍ أبادها الموت ، فهو طالب حثيث لا يعجزه المقيم ، ولا يفلت منه الهارب ، ولِهوان الدنيا عند الله لم يترك فيها لذي لبٍ فرحا وما ألزم عبدٌ نفسه بذكر الموت إلا صغرت الدنيا في عينيه ، وهان عليه جميع ما فيها . واعلم يا أخي المسلم أن خطر الموت عظيم وما غفل الناس عنه إلا لقلة ذكرهم له . فتصور يا أخي لو رأيت قرب ما بقي من أجلك ، لزهدت في طول أملك ، ولرغبت في الزيادة من عملك ، وإذا أنست بالدنيا وشهواتها ثقل على قلبك مفارقتها . روي عن بعض السلف قوله : " كلنا قد أيقن بالموت وما نرى له مستعدا  وكلنا قد أيقن بالجنة وما نرى لها عاملا ، وكلنا قد أيقن بالنار وما نرى لها خائفاً " . وقال آخر : عجبت للخلائق كيف ذُهلوا عن أمر حق تراه عيونهم ، وتشهد عليه معاقد قلوبُهم إيماناً وتصديقاً بما جاء به المرسلون ، ثم ها هم في غفلة عنه سكارى يلعبون . فاتقوا الله عباد الله ما استطعتم  وكونوا قوماً صيح بهم فانتبهوا ، وعلموا أن الدنيا ليست لهم بدار فاستبدلوا واستعدوا للموت ،  فالتقي عند ربه من ناصح نفسه  وقدَّم توبته  وغلب شهوته ، فإن أجله مستور عنه وأمله خادعٌ له   والشيطان موكلٌ به يمنيه التوبة ليُسوِّفها ويزين له المعصية ليرتكبها ، حتى تهجم منيته عليه  أغفل ما يكون عنها ، وإن ما بين أحدكم وبين الحنة أو النار إلا الموت أن ينـزل به ، فعن يحي بن معاذ : طوبى لمن ترك الدنيا قبل أن تتركه ، وبنى قبره قبل أن يدخله وأرضى ربه قبل أن يلقاه . جعلنا الله وإياكم ممن لا تبطره النعمة ولا تقصّر به عن طاعة الله ، ولا يحلُّ به بعد الموت حسرة ، إنه سميع الدعاء . 

 

 

لا بد لهذه الحياة من نهاية

 إن هذه الحياة إلى انتهاء ، ولا ملجأ فيها من الله إلا إليه . والحساب والجزاء لا بد منهما في الحياة الآخرة ، حياة الحق والعدل ، والقبر أول منـزلة من منازل الآخرة  وهو بيت الوحشة والظلمة ، بيت الدود والتراب   ينادي الله على عبده بعد أن يوارى فيه :"عبدي رجعوا وتركوك ، وفي التراب دفنوك ، ولو ظلموا معك ما نفعوك ، ولم يبق لك إلا أنا ، وأن الحيّ الذي لا يموت".

يا من بدنياه انشغل     وغرَّة طـول الأمـل

المــوت يأتي بغتةً     والقبر صندوق العمل

إن الموت يفرِّق بين الأحبة ولا نستطيع له دفعا ولا عنه مهربا فاذكر الله يا أخي وتب إلى الله فقد أعد مغفرته للتائبين ورحمته للمتقين .

يا نفس توبي فإن الموت قدحانا     واعصي الهوى فالهوى مازال فتانا

في كل يوم لنـا ميتٌ نشيّعه                 نحي بمـصرعه آثـار مـوتـانا

يا نفس مالي وللأموال أجمعها       خـلفي وأخرج من دنياي عريانا

والموت لا يعرف أحداً ولا يحابي أحدا فإذا انتهي الأجــل حان الرحيل :

كلُّ ابن أنثى وإن طالت سلامته     يوماً على آلة حدباء محمول

وليس للمرء في مثل هذا المصاب إلا الصبر وإياكم و الجزع لأنه لا يرفع مكروها ولا يعيد مفقودا وإن أفضل ما يُعطاه العبد في هذه الدنيا الشكر عند الرخاء والصبر عند البلاء والرضا بالقضاء  

إذا ما أتاك الدهر يوماً بنكبةٍ       فافرغ لها صبراً ووسِّع لها صدرا

فإن تكاليف الزمان عجيبةٌ       فيوماً ترى يسراً ويوماً ترى عسرا

فاتقوا الله وأعدوا أنفسكم للقاء الله ، إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون .

 

 كيفية تغسيل الميت وتكفينه ودفنه

يراعي في غسله الأمور الآتية :

- 1 -
يسن عند تغسيل الميت أنيستر عورته ثم يجرده من ثيابه
و يستره عن عيون الناس ، لأنه قد يكون على حال مكروهة

 

[أنظرصورة 1]

 


ثم يرفع رأسه إلى قُربجلوسه
و يعصر بطنه برفقليخرج الأذى منه
و يُكثر صبالماء حينئذ ليذهب ما يخرج من الأذى

[أنظرصورة 2]


- 2 -

ثم يلف الغاسل على يده خرقة أو ( قفازاً ) فينجّي بهما الميت ( أي يغسل فرجيه ) دون أن يرى عورته أو يمسها ، إذاكان للميت سبع سنين فأكثر

[أنظرصورة 3]



ثم يسمي ويوضئه كوضوء الصلاة ،لقوله صلى الله عليه وسلم لغسالات ابنته زينب : (( ابدأن بميامنها ومواضع الوضوءمنها)) ولكن لا يُدخل الماء في أنفه ولا فمه ،بل يُدخل الغاسل أصبعيه ملفوفاً بهماخرقة مبلولة بين شفتي الميت فيمس ح أسنانه ، وفي منخريه فينظفهما ، ثم يستحب أنيغسل برغوة السدر رأسه ولحيته

 

[أنظرصورة 4 و 5]

 

وباقي السدر لجسده .



- 3 -

ثم يغسل جانبه الأيمن من جهةالأمام
[كما في صورة 6]

ومن جهةالخلف
[كما في صورة 7]

وهكذا يفعل بجانبه الأيسر ،للحديث السابق :
( ابدأنبميامنها )
ثم يعيد ذلك مرةثانية وثالثة
لقوله صلىالله عليه وسلم في الحديث الذي سيتم ذكره لاحقاً ضمن الأحكام :
( اغسلنها ثلاثاً )
وفي كل مرة يمر الغاسل بيده على بطن الميت
فاذا خرج منه أذىنظفه


 

- 4 -

للغاسل أن يزيد في الغسلات علىثلاث مرات
حتى ولو جاوزالسبع ، إذا احتاج لذلك

- 5 -

يسن أن يجعل في الغسلة الأخيرة ( كافوراً )
لقوله صلى اللهعليه وسلم في الحديث
(اجعلن في الغسلة الأخيرة كافوراً )
وهو طيب معروف بارد تطرد رائحته الحشرات

[أنظرصورة 8]

 


- 6 -

يستحب أن يُغسل الميت بماءبارد
إلا إذا احتاج الغاسلللماء الحار بسب كثرة الأوساخ على جسد الميت
و له أن يستعمل الصابون لإزالة الوسخ
و لكن لا يفركه بشدة لكيلا يتشطب جلده
و له أنينظف أسنانه بعود تخليل السنان

- 7 -

يستحب قص شارب الميت وتقليمأظافره إذا طالت طولاً غير عادي
أما شعر الإبط والعانة فانه لا يقصشعرهما

- 8 -

لا يستحب تسريح شعر الميت لأنهسيتساقط و يتقطع
أماالمرأة فيظفر شعرها ثلاث ظفائر ويُسدل وراءظهرها

- 9 -

يستحب أن يُنَشف الميت بعدغسله




- 10 -

 

إذا خرج من الميت أذى ( بول أو غائط أو دم )
بعد سبع غسلات فأنه يُحْشىفرجه بقطن
ثم يُغسل المحلالمتنجس ، ثم يُوَضأ الميت

 

أما إذا خرج الأذى بعد تكفينه
فانه لا يُعاد غسله ، لأنفيه مشقة





- 11 -

 

إذا مات المحْرم بالحج أوالعمرة فأنه يُغْسل بماء وسدر كما سنود ذلك فيالأحكام

 

و لكن لا يُطيب و لا يُغَطىرأسه إن كان ذكراً
لقولهصلى الله عليه وسلم في الذي مات مُحْرماً بالحج
( لا تحنطوه )أي لاتُطيبوه ، وقال :
( لاتُخَمروا رأسه فانه يُبْعث يوم القيامة ملبياً )





- 12 -

 

شهيد المعركة لا يُغسل ، لأنهصلى الله عليه وسلم
( أمر بقتلى أحُد أن يُدْفنوا في ثيابهم و ألا يُغَسلوا )





- 13 -

 

بدل يدفن الشهيد في ثيابه التيمات فيها بعد نزع السلاح والجلود عنه
و لا يُصلى عليه لأنه صلى الله عليه وسلم لم يصل على شهداءأحد





- 14 -

 

السَّقط إذا بلغ 4 أشهر يُغسلوي ُصلى عليه و يُسَمى
لقوله صلى الله عليه وسلم
( إن أحدكم يكون في بطن مه 40 يوماً نطفة ، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يُرْسل له المَلَك فينفخ فيه الروح )
أي بعد 4 أشهر ، أماقبلها فهو قطعة لحم يُدْفن في أي مكان بلا غسل و لاصلاة




- 15 -

 

من تعذر غسله إما لعدم وجودالماء ، أو لتمزقه ، أو لاحتراقه
فانه يُيَمم ، أي يضرب أحد الحاضرين بيده التراب و يمسح بهما وجهالميت و كفيه





- 16 -

 

ينبغي على الغاسل ستر ما يراهفي جسد الميت إن لم يكن حَسَناً
كظُلمة في وجه الميت ، أو آثار بشعة في جسده ، ونحو ذلك،
لقوله صلى الله عليه وسلم :
( من غَسَّل مسلماً فكتم عليه ، غفر الله له أربعين مرة)

 

ذكر الموت والزهد في الدنيا

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أكثروا ذكر هاذم اللذات يعني الموت  فإنه ما كان في كثيرٍ إلا قلله ، ولا قليلٍ إلا جزَّأه ) رواه الطبراني . 

الإكثار من ذكر الموت سنة مؤكدة ، وقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم  الموت بالهاذم لأنه مفرِّق ومشتت اللذات ، وذِكْره أزجر عن المعصية وأدعى إلى الطاعة ، والرسول صلى الله عليه وسلم يأمر أن يتذكر المسلمون الموت دائماً ، لأن ذكره يقلل من الطمع والتكالب على الدنيا وزينتها والركون إليها والإقبال عليها  والتزود بالأعمال الصالحة ابتغاء مرضاة الله وثوابه . ومن عوامل صلاح الأمة التقليل من الاهتمام بالدنيا والقناعة وعدم الانهماك في جمع المال وحسن الاعتماد على الله   لأن المقتنع في معاش الدنيا يمكنه التوسع في عمل الآخرة ، والمتوسع في متاع الدنيا لا يمكنه التوسّع في عمل الآخرة ، قال الشافعي : " من ادعى أنه جمع بين حب الدنيا وحب خالقها في قلبه فقد كذب "   فالعاقل من تجنَّب الإفراط والتفريط في تناولها ، قال بعض العارفين : " من جرَّعته الدنيا حلاوتها جرَّعته الآخرة مرارتها بتجافيه عنها " ، ولقد أحسن من قال :

إذا امتحن الدنيا لبيبٌ تكشّفت   له عن عدوٍّ في ثياب صديق

 ومن عوامل فناء الأمة الشحّ والتقصير في حقوق الله ، وجمع المال والغفلة عن ذكر الله ، وكثرة الرجاء بتشييد القصور وإنشاء المصانع والمتاجر جرياً وراء زيادة الأرباح ، والغفلة عن ذكر الموت والاستعداد للآخرة بصالح الأعمال وغرس الباقيات الصالحات ، وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن نجاة الأمة يكون باليقين والزهد ، وهلاك آخرها بالبخل والأمل فقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن أبي الدنيا والأصبهاني : ( نجا أول هذه الأمة باليقين والزهد ، ويهلك آخر هذه الأمة بالبخل والأمل ) .

لقد عم البخل وفشا الجهل وزاد الشحّ وتعلّقت الآمال في كيت وكيت فتأخرنا واستعبدنا الأعداء ، فلا حول ولا قوة إلا بالله . ولكن هذا لا يعني عدم الجد في الدنيا والعمل والسعي لطلب الرزق والربح  فهي مزرعة الآخرة فمن أخذ منها مراعياً للقوانين الشرعية أعانته على آخرته ، وقد قيل : " لا تركن إلى الدنيا فإنها لا تبقي على أحد ولا تتركها فإن الآخرة لا تنال إلا بها " . إنه التحذير من طول الأمل في الدنيا الذي يؤدي إلى الغفلة عن حقوق الله والتقصير في الطاعة الموصلة إلى رضاه والجنة ، وعدم فعل المعصية المؤدية إلى غضبه والنار ، لأن الطاعة والمعصية قد تكون في أيسر الأشياء ، فلا يزهد المرء في قليلِ من الخير أن يأتيه ، ولا في قليل من الشرّ أن يتجنبه ، لأن الإنسان لا يعلم الحسنة التي يرحمه الله بها ولا السيئة التي يسخط عليه بها ، روى البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( الجنة اقرب إلى أحدكم من شراك نعله ) . فالأعمال الصالحة وحدها لها اتصال بكم كاتصال شراك النعل بكم يسيرة سهلة الإتيان ، فاجتهدوا للعمل الصالح الموصل لذلك قبل وقوع الفتن وانتشار الفساد وتأثير الطغاة روى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( بادروا بالأعمال فتناً كقطعٍ الليل المظلم يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافرا  ويمسي مؤمناً ويصبح كافرا يبيع دينه بعَرَضٍ من الدنيا ) . يحث النبي صلى الله عليه وسلم على المبادرة إلى تطبيق منهج الله والعمل بشريعته ، قبل أن ينتشر الجهل ويزداد الظلم ويكثر الطغاة ويسود العصاة ويقل الصالحون ، وعندها يعم الفساد والضلال وتشغل الدنيا أهلها بزخارفها فتظلم القلوب من الإيمان ، فلا تجد رادعاً يزجرها أو نفساً مطمئنة تقتدي بها قال تعالى : ﴿ من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثوابُ الدنيا والآخرة وكان الله سميعاً بصيرا ﴾ النساء 134 . فالثواب جزاء على عمل ، فمن أراد ثواب الدنيا فلا بد أن يعمل  ومن لطف الله ورحمته أن جعل ثواب الدنيا جائزة لمن يعمل ، والدنيا طريقٌ وسبيل ، فكل عملٍ يفعله المسلم ابتغاء مرضاة الله ، يعطيه عليه ثواباً في الدنيا والآخرة  والعمل يكون بالجوارح ومن الجوارح اللسان ، وقد فرّق الله بين الفعل والعمل في قوله تعالى : ﴿  يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون  ﴾ الصف . فالقول يقابل الفعل  والكل عمل  وهناك نوعٌ آخر من الأعمال لا هو قولٌ ولا فعل وهو النية القلبية ، وعمل القلوب لا يسمع ولا يُرى ، ولذلك جاء في الحديث القدسي عن رب العزّة ( الإخلاص سرٌّ من أسراري استودعته قلب من أحببت من عبادي ) وهذا يدل على أن نية القلوب خاصّة بالله تعالى وقـوله تعـالى : ﴿  وكان الله سميعاً بصيرا ﴾ أي أنه سميع للقول وبصيرٌ بالفعل .        

 

ذكر الموت حياة ونسيانه غفلة

الحمد لله الذي أوجد الكون من عدمٍ ودبره؛ وخلق الإنسان من نطفةٍ فقدره؛ ثم السبيل يسره؛ ثم أماته فأقبره؛ ثم إذا شاء أنشره وجعل الموت كَأسٌ بَينَ النَّاسِ تُدَارُ ،وتَسُوقُ إِلَيهِ يَدُ الأَقدَارِ  وَيَخرُجُ بِصَاحِبِهِ إِمَّا إِلى الجَنَّةِ وَإِمَّا إِلى النَّارِ، والموت هَادِمُ اللَّذَّاتِ ، وَمُفَرِّقُ الجَمَاعَاتِ وقَاطِعُ الأَسبَابِ ، وَمُغَيِّبُ الأَحبَابِ ، وَمُودِعُ الأَجسَامِ التُّرَابَ إِلى يَومِ الحَسَابِ ، ومن حكمته سبحانه أنه لم يجعل دار الدنيا للبقاء والاستمرار، وإنما جعلها دار ممر واعتبار ، فالرابح من صلح زرعه ، والخاسر من فسد ثمره ، فالدنيا ليست لحي سكنا ، لأنها سريعة الزوال وشيكة الارتحال، فقال الله لنبيه ﴿ وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون﴾ فالبقاء لله الواحد القهار ، قال تعالى : ﴿ يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار ﴾ نتحدّث عن الموت  وهناك قلوب لاهية ساهية غافلة ، نتحدث عنه  وفي كل يوم ، أناس تولد وأناس تموت ، ونحن غافلون عن هادم اللذات ، وقاطع الراحات  ومفرّق الأحباب ، وعظنا نبينا فقال : ( أكثروا من ذكر هادم اللذات ) لأن في ذكر الموت حياة ، وفي نسيانه غفلة ، ابن آدم لماذا تتجاهل حقيقة الموت وشدته، و القبر وظلمته، ويوم القيامة وكربته والصراط وزلته  ، فمن استحيا من الله ، لا يغفل عن الموت ، ولا عن الاستعداد له  ،  قال صلى الله عليه وسلم : ( من استحيا من الله حقَّ الحياء فليحفظ الرأس وما وعى ، وليحفظ البطن وما حوى ، وليذكر الموت والبلى ، ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا )   فتوسدوا الموت إذا نمتم ، واجعلوه نصب أعينكم إذا قمتم ،  وتذكروه ، ففي ذكره أعظم الأثر في إيقاظ النفوس ، وانتشالها من غفلتها ، لأنه من أعظم المواعظ ، فذكره يقطع على النفوس لذاتها ، ويطرد عن القلوب مسراتها ، ومن استعدَّ للموت جدَّ في العمل ،  وقصَّر الأمل ، وفي ذكره  إيقاظ للقلوب من سباتها ، وزجر للنفوس عن التمادي في غيها وشهواتها ، فيزيد الصالح في صلاحه ، ويستيقظ الغافل قبل مماته إنه الحقيقة التي يسقط عندها جبروت المتجبرين ، وعناد الملحدين، وطغيان البغاة المتألهين ، فقد شرب من كأسه العصاة والطائعون ، والأنبياء والمرسلون  قال الله : ﴿ وَ مَاْ جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الخُلْدَ أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الخَاْلِدُونَ ﴾ إنها الحقيقة التي لا مفرَّ منها طال الزمان أو قصر ﴿ قُلْ إِنَّ المَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ﴾ فكل باكٍ سيُبكى ، وكل ناعٍ سيُنعى، وكل مذكور سيُنسى ، وليس غير الله يبقى ، من علا فالله أعلى  ومن عاش مات ، ومن مات فات ، وكل ما هو آتٍ آت ﴿ مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لآتٍ ﴾ :

يا ابن آدم أنت الذي ولدتك أمك باكياً.. والناس حولك يضحكون سروراً

فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا ..       في يوم موتك ضاحكاً مسروراً

كفى بالموت واعظاً ، فهو من أعظم المصائب ، وأشدُّ النوائب  لذا سمَّاه الله مصيبة ، فقال سبحانه : ﴿ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ المَوْتِ ﴾ بل إنه المصيبة العظمى  والرزية الكبرى ، ولا نجاة منه إلا أن يكون العبد في دنياه لله طائعاً  وبشرعه عاملاً ، إنها الساعة التي تنكشف فيها الحقائق ، وتتقطع فيها العلائق  ويتمنى الإنسان وليس له ما تمنى ، حينها ﴿ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى  يَقُولُ يَا لَيْتَني قَدَّمتُ لِحَيَاتِي﴾ 

يا سالكاً طريق الغافلين ..      ويا راضياً بطريق الجاهلين

متى تُرى هذا القلب القاسي يلين .. متى تبيع الدنيا وتشتري الدين

أين الحبيب الذي كان وانتقل ؟! .أين كثير المال وطويل الأمل ؟!.أما خلا كلٌّ في لحده مع العمل !!.أين من تنعَّم في قصره ؟!. أليس في قبره نزل ، انتبهوا قبل فوات الأوان ، فإنما هي جنة أو نار ﴿ فَاعْتَبِرُواْ يَا أُولِي الأَبْصَار ﴾ هناك من يذكر الموت  ولكن بقلوب غافلة ، فمن أراد حسن الختام فليزم الاستقامة  وليعلم أنها أعظم الكرامة ، اما قال الله ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ﴾  قال الحسن :" اتق الله يا ابن آدم لا تجتمع عليك خصلتان سكرة الموت ، وحسرة الفوت والندامة  والذي نفسي بيده إنَّ غاية أمنية الموتى في قبورهم ، حياة ساعة   يستدركون فيها ما فاتهم ، بتوبة وعمل صالح " لقد أسمعت لو ناديت حيَّاً ، ولكن لا حياة لمن تنادي ، فليعلم المغتر بصحته  كم صحيح مات من غير علة .. وكم عليل عاش حيناً من الدهر  ، ستبيت في القبر وحدك ، وسيباشر التراب خدك   وستنهش الديدان لحمك   وستبقى رهين عملك فاعتبر بمن مات قبلك .

تزوَّد من الذي لا بدَّ منه .. فإنَّ الموت ميقات العباد

وتبّ مهما جنيت وأنت حيٌّ .. وكن متنبهاً قبل الرقاد

ستندم إذا رحلت بغير زادٍ .. وستشقى عندما يناديك المناد

أترضى أن تكون رفيق قومٍ .. لهم زادٌ وأنت بغير زاد

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجلٍ وهو يعظه : ( اغتنم خمساً قبل خمس : اغتنم شبابك قبل هرمك ، وصحتك قبل سقمك ، وغناك قبل فقرك  وفراغك قبل شغلك ، وحياتك قبل موتك ) وأنت في زمن الإمكان ، أصلح ما بقي ، يُغفر لك ما مضى وما بقي ، وإلا ستُأخذ بما مضى وما بقي ، فلا نعرف قيمة الحياة  إلا إذا عاينا الموت، حينها ننادي فلا يستجاب لنا ، فاتقوا الله عباد الله  واعتبروا بمن مضى من القرون وانقضى  واخشوا مفاجأة القضا، وإن لكم في الموت لعبرة    

أين من كان حولكم ...... من ذوي البأس والخطر

 سبقونا إلى الرحيل.......      وإنا على الأثر

 الموتُ كأسُ يدار، يخرجُ بصاحبه إلى الجنةِ أو إلى النار ، ما زالَ لأهلِ اللذاتِ مكدرا ولأصحابِ العقولِ محيرا، ولأرباب القلوبِ عن الرغبةِ فيما سوى اللهِ زاجرا. ولو كان الأمرُ سينتهي بالموت لكان هيناً سهلاً، لكنَه مع شدتِه وهولِه أهونُ مما يليه، كيفَ وورائُه قبرٌ وحساب، وسؤالٌ وجواب، ومن بعدهِ يومٌ تدهشُ فيه الألبابُ فيعدمُ الجواب.

 

 

 

عظة الموت وسكراته

 أعظك يا أخي إذا نزل بك هادم اللذات ، وأنت تنظر إلى هذه الدنيا آخر النظرات ، أعظكم بالموت وسكراته...أعظكم بالقبر وظلماته...أعظكم بالموت لأنه من ابلغ المواعظ ، فماذا أعددت يا أخي لذلك اليوم ، أفق يا أخي من سكرتك قبل حسرتك وتذكر نزول حفرتك وهجران أقاربك , متى ترى القلب القاسي يلين ؟ متى تبيع الدنيا وتشتري الدين ؟ قال تعالى: ﴿ فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الحلقوم وانتم حينئذ تنظرون ﴾ الواقعة/83 . يا غافلا عن العمل وغرك طول الأمل ، فالموت يأتي فجأة والقبر صندوق العمل ، نصحنا نبينا ووعظنا وابلغ فقال : ( أكثروا من ذكر هادم اللذات ) إن في ذكر الموت أعظم المواعظ, قيل لبعض الزهاد: ما أبلغ العظات ؟ قال النظر إلى محلة الأموات, يا اخوتي من استعد للموت جد في العمل وقصر الامل, نرى أناساً يأتون وآخرون يرحلون, ونرى أرحاماً تدفع وأرض تبلع ونحن غافلون ، يموت الصالحون والطالحون ويموت المتقون والمذنبون ، ويموت الأبطال المجاهدون والجبناء القاعدون ، ويموت الشرفاء الذين يعيشون للآخرة ، ويموت الحريصون الذين يعيشون لمتاع الحياة, ويموت أصحاب الهمم العالية ، ويموت التائهون الذين لا يعيشون إلا من اجل شهوات الفروج والبطون, قال الله تعالى :﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ﴾ الرحمن/26 ، وقال:﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ﴾ إنها الحقيقة التي نهرب منها , إنها الحقيقة التي يسقط عندها جبروت المتجبرين وعناد الملحدين , وطغيان البغاة المتألهين , إنها الحقيقة التي شرب من كأسها العصاة والطائعون ، وشرب من كأسها الأنبياء والمرسلون , قال الله تعالى: ﴿ وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ ﴾ الأنبياء/34 . الكل سيموت إلا ذو العزة والجبروت, قال جل في شأنه ُقال تعالى: ﴿ كل شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ﴾ , إنها الحقيقة التي لا مفر منها ولا مهرب طال الزمان أو قصر, قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ الجمعة/8 .    

 

 أعظم المصائب واشد النوائب

إنه الموت ، سماه الله مصيبة لعظيم أمره , فقال سبحانه: ﴿ فإذا انتم ضربتم في الأرض فإصابتكم مصيبة الموت ﴾ ، انه المصيبة العظمى والرزية الكبرى, ولا نجاة منه إلا أن يكون العبد في دنياه لله طائعا وبشرعة عاملا, إنها الساعة التي تنكشف فيها الحقائق وتتقطع فيها العلائق ، ويتمنى الإنسان وليت له ما تمنى ، حينها يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى ، يقول يا ليتني قدمت لحياتي  إنها الساعة التي يعرف فيها مصيره ، إما إلى نعيم دائم أو إلى عذاب مقيم ، فدارنا أمامنا وحياتنا الحقيقية هي بعد موتنا أين الأكاسرة ؟ أين الجبابرة والعصاة ؟ اخذ أموالهم سواهم وركنوا إلى الدنيا الدنية وتبوؤوا رتبا سنيه حتى إذا فرحوا بها سرعتهم أيد المنية,  وكان أبو الدر داء يقول: " إذا ذكر الموت فعد نفسك واحد منهم, فما قيمة الحياة إذا لم تكن في طاعة الله والاستعداد للقائه " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(خيركم من طال عمره وحسن عمله وشركم من طال عمره وساء عمله )  

 

  

 

 

دروس وخطب

نقدم بين يديكم مجموعة من الدروس والخطب والمواعظ 

واسال الله ان يتقبل منا جميعا